أقلام فكرية

حاتم حميد محسن: تأثيرالمفاهيم الأرسطية الثلاثة على ابن سينا؟

يُعد ابن سينا فيلسوفا أصليا كتب في وقت كان فيه الإتزان مطلوبا جدا لتحقيق التوازن بين متطلبات العقل والايمان بالطريقة المقنعه له. وبنفس المقدار، هو كان واعياً بفضل أسلافه عليه من الفلاسفة. في هذا المقال سنوضح بعض المفاهيم التي استعارها ابن سينا من ارسطو.سنتطرق الى اول مفهوم يستطلع التركيب الاساسي للروح والذي اشتقه ابن سينا من ارسطو باعتباره ملائما للتصور الديني للكائن البشري كمخلوق وكانسان حر ايضا. المفهوم الثاني هو "الذكاء النظري" وتأثيرات الرؤية التي يكيّفها ابن سينا من ارسطو حول "مرتبة الإدراك". وفي المفهوم الثالث ننظر في نظرية ابن سينا في اكتساب الذكاء والذي ايضا له جذوره في العديد من المفاهيم الأرسطية.

من هو ابن سينا؟

هو فيلسوف فارسي وسياسي وشاعر. كتب في وقت كانت مجموعة صغيرة من الفلاسفة تتحدى المؤسسة الدينية عبر العالم الاسلامي، وحاولت التوفيق بين عناصر معينة من الاسلام و مفاهيم مشتقة من الفلسفة اليونانية. عاش ابن سينا في وقت من الاضطراب السياسي الشديد، عندما كانت بلاد فارس تواجه تحديا كبيرا من جانب الترك وتتعرض للاضمحلال التدريجي. وبالنتيجة، كانت حياته غير مستقرة. تعرّض للسجن أكثر من مرة و اُجبر على الفرار من مدينته بسبب تقلّب الظروف السياسية. دخل السياسة في عدة مناسبات وخلق الكثير من الأعداء له. في عمله هو ايضا واجه معارضة عميقة من كل من معاصريه ومن الفلاسفة اللاحقين. غير انه اليوم يُعد أعظم فيلسوف ذو ميراث فلسفي ثري وكان له تأثيرا كبيرا على الفلاسفة الاوربيين.

هيكل الروح وحرية الانسان

تعريف ابن سينا للروح يتبع ارسطو في تقسيم الروح او النفس الى ثلاثة أجزاء. اولا، العنصر النباتي من الروح وظيفته النمو والتوالد والتغذية وهو موجود لدى النبات والحيوان والانسان.

ثانيا، الجزء الحيواني ووظيفته ادراك الاشياء الجزئية والتحرك بارادة.

ثالثا، النفس الانسانية وتتبنى الافعال او الخيارات العقلية والاستنتاج من الافكار، وبهذا فهي تدرك الكليات وتمارس الاختيار الفردي.

السمتان المعرّفتان لحياة الانسان، وهما الشيء الوحيد الذي يفصلنا عن الحيوان - غير الانسان هما القدرة على التفكير وادراك المفاهيم الكلية. غير ان هاتين السمتين ربما تبدوان متناقضتين مع بعضهما عندما تواجهان تعقيدية شديدة لدرجة لا يمكن لأي من الاستراتيجيات العقلية لدينا ان تجعلها ممكنة الفهم بحيث نستطيع من خلالهما فهم أي شيء كلي.

النفس الانسانية مشروطة بقوانين العالم المادي لكن وظيفتها تتجاوز مشروطيتها. نحن يمكننا ان نلاحظ كيف تبدو نظرية ارسطو للروح جذابة من وجهة النظر الدينية، بمقدار ما تحفظ كل من دور الكائن الانساني كموضوع للخلق، و طبيعة لم نصنعها لأنفسنا وانما صنعها الله لنا، ودور الكائن الانساني كشخصية حرة.

هذا التجاوز لطبيعتنا المشروطة سلفا يبدو يسمح بإمكانية الحرية الانسانية. الملكتان الاثنان للروح الحيوانية هما "الدافع" و "الادراك". الدافع motive بدوره يقسم الى "فعّال" و "حافز". الدافع المنتج للحافز يثير ملكة الشهية، التي يمكن تقسيمها الى رغبة وغضب. عندما يكون الدافع نشطا، فهو القوة اوالحركة.

ملكة الادراك هي ايضا عرضة للقسمة، تفكير داخلي وتفكير خارجي. ابن سينا يرفض النظرية الافلاطونية للبصر كما جاءت في تيماوس:

"العيون كانت أول الأعضاء المصممة من جانب الله، لإيصال الضوء. وهو يفسر سبب ربطها بالرأس. هما يعطيان مظهرا خادعا بان النار لم تكن للإحراق وانما لتوفير ضوء لطيف ملائم دائما. الآن النارالخالصة التي في داخلنا ذات صلة قوية مع تلك النار، هما صُنعا ليتدفقا من خلال العيون".

في الحقيقة، قبل ارسطو، جميع الفلاسفة مالوا للتعامل مع الأحاسيس بطريقة سلبية، لأن أعضاء الحس تغيرت بفعل أشياء خارجية. نظر ارسطو لها باعتبارها "ادراك الإمكانية"، التي رفضها ابن سينا، مستعيداً تصورا أكثر تقليدية للحس: "كل المحسوسات تنقل صورها الى أعضاء الحس وتنطبع فيها، و من ثم تُدرك عبر الملكة الحسية". بعض الحواس الداخلية تدرك شكل الاشياء المحسوسة بينما اخرى تدرك معناها او هدفها.

الذكاء النظري

الذكاء النظري هو ملكة يمكن بواسطتها تجريد أشكال كلية من ماديتها، هذا يتصل باطروحة ارسطو النقدية بان الكليات لا توجد في عالمها الخاص بها وانما يمكن اشتقاقها من العالم المادي،العالم كما ندركه. الذكاء النظري يزيل أي أثر للاصول المادية لهذه الأشكال، فهي منفصلة كليا عن اصولها المادية.

هنا ايضا نحن نعترف بشيء حول هيكل الفكر الأرسطي، كونه يرتبط ليس بأي نظرية معينة وانما بنظرة للعالم،او بروح ابستمية. تصوراتنا هي اداة بواسطتها يصبح التفكير المجرد ممكنا، ولكن بهذا العمل وبمقدار ايجاد استنتاجات حول الكليات، فان تلك الكليات ذاتها لا تحمل أي شبه او علامة لإصولها المادية.

هذا يضعنا في موقف غريب فيما يتعلق بالتصور او أي نوع من الفهم المباشر والقريب. نحن نعرف ان فهم الحقيقة المجردة لايمكن تصوره اساسا بدونها، لكن مع ذلك نحن بنفس المقدار واعون بان مثل هذه الحقائق هي منفصلة كليا عن التجربة.

وبمقدار ما تكون التجربة لها هيكلها الخاص – تكرار، مقابلة، شدة او نقص الاحساس هذه ليس لها علاقة بأي نوع من الحقيقة المجردة. هذا نوع من التوق للحقائق التي هي منفصلة تماما عن التجربة، ومع هذا نحن نعرف ان التجربة لايمكن ان تُنكر تماما او تُتجاهل، هي في لب العديد من خصوصيات الكثير من الفلسفة التي تضع نفسها كجزء من تقليد ينطلق من الفكر اليوناني، سواء رغبنا بتسميتها فلسفة "غربية"او اسم آخر أكثر دقة.

السبب في ذلك هو انها تشجع اتجاه لتجربة غير كلية non-holistic. المسألة هي ليست ايجاد انسجام للتجربة ضمن كليتها وانما لنضعها للاستعمال في خدمة الحقيقة المجردة. بالنسبة للآخر، الجسم يُرى من منظور فلسفي – كنوع من السجن وربما اكثر بالنسبة لافلاطون. بالنسبة لافلاطون، عالم الاشياء المادية هو ببساطة وهمي ونحن يجب ان نضعه جانبا لفهم الكليات. من وجهة نظر ارسطو التي يأخذ بها ابن سينا، الجسم او على الاقل، آلاته الإدراكية – هي عصية على الفهم لو اردنا معرفة مفاهيم كلية، مع ذلك ما نستطيع تعلّمه من الجسم في ذاته هو مضلل تماما.

اكتساب الذكاء:

المفهوم الأخير الذي يجب التطرق اليه يتعلق بالعملية التي بواسطتها يُكتسب الذكاء النظري المشار اليه آنفا. ما يأخذه ابن سينا من ارسطو هو نظرة تيلولوجية او تقدمية للتطور الانساني. الروح الانسانية او "العقلانية" لها ملكتان داخليتان – ملكة عملية، وملكة نظرية. الذكاء النظري يؤدي وظائفه على مراحل. اولا، نحن لدينا مرحلة "الإمكانية المادية" التي يمكن العثور عليها لدى الاطفال الرضع. ثانيا، الإمكانية "النسبية" عندما يتم تطوير اداة لإستقبال الواقع. ثالثا، هناك المرحلة التي تصبح فيها الإمكانية المادية الأصلية متقنة و مثالية.

يصف ابن سينا علاقة الواقع النظري بالمادي المجرد بطريقة من التصنيف الذي هو غير ارسطي. هذه العلاقة تبدأ في مرحلة الإمكانية المادية، تشكل نوعا من الذكاء (العقل) الذي يحوزه كل انسان. بعدها تتقدم نحو اكتساب الفهم (العقل المستفاد)، بواسطته يمكن اكتساب الأشكال من العالم الخارجي.

The collector, March 26,2023

***

حاتم حميد محسن

في المثقف اليوم