أقلام فكرية

نوال طه ياسين: ما بعد الانسانية.. دراسة في جينالوجيا المفهوم وأبعاده الحيوية

في الواقع كان بالإمكان أن يكون العنوان أقل وقعًا على المتلقي فيما لو كان الحديث حول النزعة الانسانية من دون ربطها بفكرة الما بعد، لأنه غالبا في نظام تفكيرنا نكون أقرب الى المفاهيم المألوفة أو التي بالإمكان اختبارها والتحقق منها، ولذلك تمثلت البداية بتفكيك المفاهيم التي يتألف منها العنوان ومن ثم تحليلها .

وفي البدء ما المقصود بالجينيالوجيا Genealogy ؟ تعني الكلمة من الناحية الاشتقاقية العلم الذي يهتم باشتقاق نسب وأصل الأشخاص أو الأفكار أو الظواهر والوقوف عند الأصل، وهذا يعني ان استعمالها تعدى البحث في أصل الأشياء ولذلك دخلت الكلمة الى الكثير من حقول المعرفة .

وضمن الدراسات الثقافية للمفهوم معاني مرتبطة بفوكو، الذي روج الجينيالوجيا من أجل فحص القوة والاستمرارية التاريخية للخطابات لأنه يصغي إلى تاريخ النتاجات الثقافية، ليكشف عما وراءها من صراع بين قوى فاعلة وأخرى منفعلة.

ومن الجدير بالذكر أن الجينيالوجيا "هو تعبير استعمله نيتشه في كتابه عن أصل الأخلاق (1887) لكن بدأ تداوله منذ السبعينيات، نتيجة لأعمال ميشيل فوكو في كتاب تاريخ الجنسانية(1976)، الذي أظهره كشكل من أشكال النقد التاريخي، وصممه لقلب المعايير من خلال الكشف عن أصولها، وهاجم به الأشكال الحديثة لهيمنة السياسة الحيوية .

أما الما بعد فهي انكار للحد لان هدفها يتمثل بتجاوز الحدود وهذا يعني ان لدينا نقطة تحول بين عالمين الأول يدرك بان الاشياء لا توجد الا من خلال حدودها أما الثاني عالم ينظر الى الحدود على انها عقبات وعلينا اسقاطها حتى وان كانت متعلقة بحدود البشر، والعبارة المرادفة (لما بعد) ما هو اكثر - ما هو افضل - وبالتالي رفع ما بعد الانسانيين شعارهم "عقول أفضل، أجساد أفضل، من أجل حياة أفضل" .

فعلى أثر التطور البايولوجي والتكنولوجي، بات الهدف أن يكون هنالك مساع حميدة لتعزيز الطبيعة البشرية، فالوعود التي يلقيها خطاب الما بعد انساني في المجال العام مثل اختفاء الامراض ونهاية الموت والتحسين الجيني والمعرفي الهدف منها هو انتزاع الاعتراف من الناس لما يقتضيه التدخل البيوتكنولوجي وعلم الوراثة، الالكترونيك، الكيمياء، التقنية العالية، والنانو تكنولوجيا) لتحسين المسار الطبيعي للوجود البشري، وهو المشروع الذي طرحته حركة ما بعد الانسانية Posthumanism، فحولوا فكرة الانتخاب من الطبيعي إلى الاصطناعي . من خلال تشجيع تطوير تكنولوجيات تحسين قدرات الإنسان، ولتحديد جينالوجيا هذا المفهوم اتضح ان هناك مسارين يتمثل الاول بظهور الفكرة اما المسار الثاني فتمثل بظهور المفهوم .

أولا- الاطار الفكري: حدد بوستروم في مقالته المعنونة "تاريخ فكر ما بعد الإنسانية"، أن الأطر الفلسفية والثقافية لأطروحة ما بعد الانسانية، تعود إلى حوالي أحد عشر ألف عام، وتتمثل في الرغبة باكتساب قدرات جديدة، إذ تبدأ مع الأساطير السومرية المتمثلة بأسئلة الخلود، فكل الانتصارات والمحن لملايين الشعوب التي سارت على الأرض منذ حضارة بلاد ما بين النهرين ستكون مجرد آلام مخاض للوصول إلى نوع من الحياة لم تبدأ بعد . فضلاً عن سعي مفكري العصور الوسطى للسيطرة على الطبيعة مروراً بـ "معرفة فرانسيس بيكون" التي ولدت الثورة العلمية أو الفلسفة النفعية لجون ستيوارت مل، فضلا عن الشعار الذي رفعته ميكافيللي (الغاية تبرر الوسيلة) الذي اعتمدته السياسة الپراغماتية فيما بعد .

ثانيا - الاطار المفاهيمي: عندما عكف بعضهم على جذور هذا المصطلح وجدوا هناك نصوصا تأسيسية لهذا المفهوم وارجعوا استعماله لجون كوترو مؤسس مركز دراسات المشكلات البشرية والذي نظم مجموعة من الندوات في الاعوام 1936-1939 وفي قلب هذه الندوات ناقش مسالة ما بعد الانسانية وعرضها كفكرة شبه دينية واراد تأسيس ما اطلق عليه دين الحقيقة . لكن فيما بعد تغيرت هذه الرؤية في ما عرف بالإنسان الجديد الذي عرضه الدوس هكسلي صاحب كتاب عالم جديد شجاع في محاضرة عام 1951 . اذ تخيل عالم ما بعد انساني.

لكن من هم أبرز رواد هذه الحركة؟ قبل سنوات بالإمكان القول انهم باحثون امركيون من وادي السليكون كانوا مؤهلين للقيام بأبحاث حول الحوسبة وعلم الوراثة والاعصاب، اما اليوم فيمكن القول انهم باحثون من جميع انحاء العالم في الدول المتقدمة وأبرزهم: الفيلسوف نيك بوستروم Nick Bostrom وعالم الاجتماع والأخلاقيات البيولوجية جيمس هيوز .James Hughes المخترع ورجل الأعمال راي كورزويل Ray Kurzweil منظر تقنية النانو ك إريك دريكسلر K.Eric Drexler والقائمة تطول .

وهناك جانب اخر في ما بعد الانسانية هو نزع الصفة السياسية فإنكارهم للسياسة يقع في قلب اختصاصهم اذ تم نزعها من قبل الاخلاق او حقوق الانسان واليوم يتم نزعها عن طريق التكنولوجيا وربما في فكرتهم هذه حققوا حلم سان سيمون في استبدال حكم الدولة المتمثل بالسلطة - بإدراره الدولة، وربما هذا المقصد الأخير يتضح من خلال كتاب فوكو المراقبة والمعاقبة فمفهوم السلطة لديه قد تحول من سلطة تمارس المعاقبة تعاقب بحكم الاعدام مثلا الى سلطة مراقبة تسعى الى الاحياء عن طريق سلطة المراقبة، ففي عنوان (حق الموت والسلطة على الحياة) أشار فوكو الى أن السلطة المركزية تفككت وتوزعت بين الأطراف أي التي ظهرت في مجموعة متنوعة من المواقع بما في ذلك المدارس والسجون والمستشفيات والمصحات ،...الخ وأنتجت خطابات التأديب والسلطة الحيوية ما أسماه فوكو "أجسادًا سهلة الانقياد "يمكن إخضاعها واستخدامها وتحويلها وتحسينها، وهنا تتبع الجينالوجيا هذه الخطابات والممارسات تاريخيًا في ظروف تاريخية وثقافية محددة.

فالبشر يتواصلون مع المؤسسات وتكون قادرة على مراقبتهم وضبطهم وتحويلهم من بشر بعقول وثقافات وعادات مختلفة الى مجرد أجساد وبذلك أصبح مفهوم السلطة سائل في كل مكان بتعبير باومان. وحينما تسعى السلطة الى الاحياء فإنها تحتاج الى ستراتيجية ومن هنا جاء مفهوم السياسات الحيوية (Biopolitics) والمقصود بها بالنسبة لفوكو، الممارسات وصلاحيات شبكات السلطة التي تدير تخصصات الجسد والسكان. إنها منطقة لقاء بين السلطة ومجالات الحياة. الذي يتحقق في عصر الرأسمالية.

وهنا يجب أن نقف في محاكمة أخلاقية لمثل هذه السياسات اذ انتقدت في الأدبيات الفلسفية وأولهم فوكو ياما في كتابه نهاية الانسان وعواقب الثورة البيوتكنولوجية اذ قال "أن هدف الطب علاج المريض لا أن تتم إحالة الأصحاء إلى آلهة"، فضلا عن جورجيو أغامبين الذي وجد أن السياسة بهذا الشكل هي سياسة موت لان الفرد هنا يفقد هويته والهدف من عملية الاخضاع هو استغلال الأفراد لان رأس المال الوحيد الذي تمتلكه السلطة هو رأس المال البشري .

ومن جانب آخر هناك قضية مهمة تتمثل باننا ندرك ان التقدم العلمي اذا تجاوز حدا معينا يبدأ في تهديد البشرية، ولكن في الوقت نفسه ما يجعل من الصعب مقاومة هذه النزعة هو ان التكنولوجيا تمنح القوة، اذن المسالة باتت لا تتعلق باعتناق هذه الحركة ام لا، بل تتعلق بالقوة التي تمنحها التكنولوجيا أي نحن مطالبين بالحصول على مستوى معين منها حتى لا يتم ابادتنا .

***

أ.د. نوال طه ياسين (جامعة البصرة) 

في المثقف اليوم