أقلام فكرية

حاتم حميد محسن: الفن كطريقة اخرى للتفكير؟

تُعتبر العلوم اليوم معقلا للحقيقة والمعرفة، حيث تكشف التكنلوجيا يوميا للناس حقيقة العلم، اما الدين فهو يحاول ان يضع دائما الرؤى العلمية في خط واحد مع العقائد، والسياسيون يُتوقع منهم ان ينظروا ويلتزموا بالدليل العلمي. لا يهم كم هي صرامة وقساوة العلم، هو فشل في تحفيز واثارة التغيير الاجتماعيي المطلوب، ولنا في التغيير المناخي مثال واضح على ذلك. كذلك، بعض الفلاسفة المؤثرين جدا يساوون بين العلم والتكنلوجيا من جهة وعدم الإكتراث من جهة اخرى. فهل هم على صواب؟ واذا كانوا كذلك، هل يمكن للفن ان يقدم لنا الترياق؟

المنظّرة السياسية حنة ارندت لخصت المشكلة بأفضل صورة في كتابها (ظروف الانسان، 1958) عندما كتبت:

"السبب لماذا يصبح من الحكمة عدم الوثوق في النصائح السياسية للعلماء هو ليس افتقارهم الى "السمعة" – في كونهم لم يرفضوا تطوير سلاح نووي – او سذاجتهم في انهم لم يفهموا بانهم آخر من يتم استشارتهم حول استعمال السلاح النووي حالما يتم تطويره – وانما بالضبط بسبب حقيقة انهم يتحركون في عالم فقد فيه الكلام قوته" (ص4).

هذا المقطع يقترح شيئين هامين:

1- هي تسلط الضوء على حدود العلم او على الأقل العلماء. تماما مثل علماء الذرة في الاربعينات من القرن الماضي حينما كانوا غير قادرين على السيطرة على الكيفية التي يُستخدم بها نتاج عملهم، كذلك العلماء المعاصرون غير قادرين على الحث والدفع نحو التغيير الاجتماعي الضروري في القضايا الملحّة مثل تقلبات المناخ والحرب.

2- ارندت تركز على الفرق بين المعرفة والفكر. المعرفة العلمية، الانتصار الكبير للطريقة العلمية، التي جرى التعبير عنها بالمعادلات الرياضية والبيانات ليس من السهل الوصول اليها من جانب اولئك الذين ليست لديهم مهارات رياضية وهي بهذا تختلف عن الكلام والنقاش. حتى عندما نصبح مسحورين بتقدم العلوم والتكنلوجيا، مع ذلك نحن غير قادرين على التفكير وراء الأداة التي أمامنا. ارندت ليست الفيلسوفة الوحيدة تتحدث عن "عدم اكتراثنا" في العلاقة بالعلم. غريمها السابق مارتن هايدجر كتب بكثافة حول التكنلوجيا والمجتمع. في رسالته (خطاب حول التفكير، 1959) هو ادّعى اننا نعيش في زمن طائش: "اللااكتراث هو زائر اسطوري يأتي ويذهب الى كل مكان في عالم اليوم. اننا اليوم نتلقّى كل شيء بأسرع وأرخص طريقة، فقط لننساه بعد حين".

نحن نلجأ للعلم لعلاج السرطان، تحسين المحاصيل الزراعية، استغلال الطاقة، تصميم القنابل، وفهم قوانين الفيزياء – لذا لماذا يربط البعض من كبار مفكرينا بين العلم والتكنلوجيا من جهة وعدم الإكتراث من جهة اخرى؟ واذا كانوا على صواب ماذا يمكننا ان نعمل تجاه ذلك؟

حدود العلم

في كتابه (العلم المرح، 1882) ادّعى نيتشة ان "الاله قد مات، وسيبقى ميتا، ونحن قتلناه" (ص120). لكننا، يجب ان نتذكر ان نيتشة هنا يرثي موت الاله ولا يحتفل به. الاله كان مرة ركيزة للحقيقة والأخلاق، وطالما نحن نتّبع كلمة الله، سنكون مرتاحين في معرفة اننا في المسار الصحيح. ولكن منذ القرن الثامن عشر فصاعدا بدأت تتحطم القاعدة المستقرة التي وفّرتها لنا الأديان التوحيدية. الناس في الغرب تُركوا في حيرة، اذا لم يلتفتوا الى الله، اين يتجهون للحصول على المعرفة والدليل الأخلاقي؟

العديد من الناس سيقولون ان العلم اوكلت له مسؤولية ذلك. لذا، نحن يجب ان نفهم حدود العلم. فمثلا، ليس لدى العلم ما يقوله حول الأخلاق، وهو يعلّمنا القليل حول السياسة. لذا اذا كنا مهتمين فقط بما يندرج ضمن "الطريقة العلمية"، نحن بالضرورة نضيّق الأسئلة التي نسألها والأجوبة التي نبحث عنها، وبالنهاية سوف نفشل في المهمة الأساسية للانسانية في البقاء. في الحقيقة، نحن لسنا في علاقة أفضل الان مما كان قبل الثورة العلمية، نحن فقط اكثر قوة في ما نستطيع عمله.

حتى لو قبلنا ان العلم لا يستطيع الإجابة على مأزقنا الوجودي، فلابد من معالجة حقيقة ان كل من هايدجر واردنت يساويان العلم والتكنلوجيا مع اللااكتراث thoughtlessness. الحجة الشائعة المضادة للدين تقول ان العلم يتحرك الى الامام ويبحث باستمرار عن التطور، بينما الدين دوغمائي. لكن، رغم ان التفكير الثابت قد لايقودنا الى مكان، فان ركوب موجة العلم والتكنلوجيا لا تترك لنا وقتا للتأمل. سرعة التقدم لا تترك لنا وقتا للتفكير. وكما قال هايدجر "نحن نسينا التأمل".

دروس من الفن

في ضوء انحسار الاله او "موت الله"، ومحدودية العلم في ما ينجز، الى أين نلجأ؟ ما الذي يرشدنا في العودة الى المسار الصحيح؟

بعض الفلاسفة المعاصرين، مثل غونتر فيغال، وسانتياغو زابالا، وجينفير مكماهون اقترحوا ان الفن يقدم المسار الضروري للخلاص، طالما الفن هو ميدان للتدخل والتفسير.

وبعيدا عن مجرد لوحات جميلة او ألحان جذابة كتعبير عن اهتمام هامشي في مشاكلنا المعاصرة، يوفر الفن المشاركة. الفن لايجب ان يكون "مقبولا": جميل او جذاب او غير ذلك. الفن يمكن ان يكون مقبولا ويمكن ان يكون قبيحا، غريبا، غير مألوف. بدلا من ذلك، فان السمة المعرّفة للفن هي انه يُفهم بالحواس، وانه يتحدّانا لفهم العالم بشكل مختلف. عندما ننشغل بالفن، نحن نخرج من الفقاعة التي خلقتها حولنا تجاربنا الاخرى ووسائل التواصل الاجتماعي، نحن نضع توقعاتنا القبلية جانبا، ونحاول حقا فهم العمل الفني الذي أمامنا. عمل الفن ليس ابدا ما نريد ان يكون عليه – انه مستقل عن المعنى الذي نخطط له. لكي نفهم العمل الفني، يجب ان نحاول تلقّي ما يحاول قوله. وهكذا في التأمل الجمالي، مهما تستمر تلك اللحظة طويلا، نحن نتحفز بالتفكير.

تقدير الفن هو ليس طريقة للتفكير نساويها بسهولة مع "التفكير"، خاصة في ضوء المدى الذي نكون مشروطين فيه بالوسائل التكنلوجية للفكر. التأمل الجمالي هو ليس حل لغز او مشكلة، انه ليس تطبيق الصيغة الملائمة او النظرية للوصول الى النتيجة المرغوبة. بل، هو كونه محاصر او اُخذ عنوة من قبل ذلك الذي أمامنا، ويسمح لتلك التجربة لتغيّرنا بطريقة معينة. تأمل الفن ليس طريقة للتفكير تحاول السيطرة على موضوعه. انه طريقة في التفكير حينما يتحدث احد او يشارك في التجربة. انه طريقة في التفكير يصل فيها المرء وفي نفس الوقت الى فهم للموضوع ولذاته. من خلال الفن الجيد نحن نتعلم كيف يمكن ان يُفهم العالم بطريقة تختلف عن فهمنا له من قبل. الانخراط في الفن يضيء طرقا جديدة او مختلفة للتفكير والعمل ولهذا فهو يوسّع آفاقنا. وفي كل انشغال يجعلنا اكثر ارتياحا مع هذه الطريقة التشاركية للتفكير. في هذه الطريقة، يقدم الفن دروسا بطريقة من التفكير متميزة عن الطريقة العلمية. بالطبع، التفكير الذي وُصف هنا يجب ان لايستبدل التفكير العلمي. انه يجب ان يكمّله. لكننا فقط عندما نميز طرقا متميزة من التفكير وفهم كيف تتلائم مع بعضها وماذا تستطيع ان تقدم، سنصل الى توازن معرفي معين. وبالنظر الى الوضع الحالي للعالم، من الواضح نحن فقدنا هذا التوازن. في الحقيقة، يبقى التساؤل قائما في ما اذا كان هذا التوازن قد تحقق في أي وقت مضى. لكن الكفاح نحو التوازن في الفكر هو مهمة مستمرة.

المهمة الملحّة للفن المعاصر هي انه يعلّمنا الإنخراط في العالم بطرق حيوية نسيها العديد منا او تجاهلها. مهما كان شغفك – موسيقى او رقص او نحت او شعر او بناء معماري – إعمل لنفسك وللعالم خدمة وخذ درسا او درسين في التفكير من الفن.

***

حاتم حميد محسن

في المثقف اليوم