أقلام فكرية

نوال طه ياسين: المنعطف اللغوي وما وراء الأخلاق

إن الانعطافات التي شهدتها الدراسات الفكرية في القرن العشرين، كانت فلسفة اللغة ثمرة من ثمارها، إذ تمكنت من فرض هيمنتها على الأنساق المعرفية الأخرى، وفي هذا السياق المعرفي لم تكن الأخلاق بمعزل عن الإنعطافات اللغوية التي أحدثها فلاسفة اللغة حيث تركت بصماتها الواضحة على النظرية الأخلاقية، مخلفة وراءها أسئلة جوهرية تمخضت عنها تصورات نقدية للأخلاق شكلت ما يعرف بـ (ما وراء الأخلاق Metaethics-)، ولكن ماذا يعني هذا المفهوم؟ هل له فلسفة خاصة؟ وإن وجدت ما مفاهيمها؟ ما موضوعاتها؟ وما نظرياتها؟

إن (الما وراء) في ما وراء الأخلاق لا تعني تغير Changing أو تحول  Transformed، بل إنها تعني الوقوف وراء الأخلاق إنها بصورة عامة تفكك وتحلل البنى، سعياً للهبوط على أسس الإلزام الخفية. وهي تمثل منعطفاً أخلاقياً بوصفها جزء لا يتجزأ من الفلسفة اللغوية المعاصرة، واللغة تعبر عن هذا الجانب وتمثله فكرياً، على اعتبار أنه أي - ما وراء الأخلاق - تحليل للخطاب الأخلاقي بجوانبه الثلاث (التفكير، والكلام، والفعل)، وهناك عدد بالغ الكثرة من الفلاسفة الغربيين أسسوا لهذا التمييز بين الأخلاق المعيارية وماوراء الأخلاق، بوصفه نقطة إنطلاق لطرح أسئلة متنوعة، مما أسفر عن وضع نظريات منفصلة .

ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى أن اللغة والأخلاق في هذا الميدان ثنائيان يفترض أحدهما الآخر، إذ تمثل اللغة الأساس النظري، وتساهم في تشكيل وعي الانسان في ذاته أولاً وفي العالم ثانياً، أما الأخلاق، ففي بُعدها النظري بالتحديد مثّل اجابات متنوعة قدمها الإنسان العادي والفيلسوف عن السؤال الضارب في القدم في الفكر الأخلاقي (ما الخير؟).

وهذا ما يكشف عن نقطة تقاطع وانعطاف الفلسفة الأخلاقية المعيارية مع فلسفة ما وراء الأخلاق، بوساطة نقطة انعطاف وحيدة هي (اللغة)، وقد لقيت هذه الفلسفة حظها من الدراسة في العقود الأخيرة، فاستثمرت التحليل اللغوي لفهم نصوص الفلسفة الأخلاقية، لذلك بدا من العبث دراسة الأخلاق بموضوعاتها وبمناهجها المألوفة، وبعض فلاسفة اللغة المعنيين بالأخلاق منذ بداية القرن العشرين انعطفوا يتأملون مفاهيم تلك النظريات، وطرحوا تساؤلات مثلت الأسئلة المركزية في اللغة التحليلية التي يمكن تقديمها على شكل أسئلة، وهي :-

1- كيف تؤثر اللغة على التفكير والقول الأخلاقي، وما تداعيات ذلك على السلوك؟

2- ما تداعيات حضور المنعطف اللغوي التحليلي على الأخلاق؟ وبالإمكان تحديد المنعطف التحليلي بأنه مرتكز المنعطفات اللغوية وهذا أولاً، أما ثانياً فأنه ضم أكثر من تيار، ولاسيما أن هذا الحضور ولَّد منعطفاً أخلاقياً مثلته العديد من النظريات الفلسفية .

لم يستعن الفيلسوف الماورائي بوصفه تحليلياً بأدوات الفيلسوف المعياري بوصفه ميتافيزيقياً، إنما سعى الى تحليل التجربة الأخلاقية بوصفها تجربة خاصة ومستقلة بأنماط فريدة من نوعها، وأدواته في ذلك تحليل لغة التجربة في ضمن ممارستها اليومية، وإن لم يستغن عن تحليل الجملة الأخلاقية تركيبياً، وتحليل النصوص الفلسفية تداولياً بمقاربتها إلى الواقع التجريبي، لينسج بثبات لغة الحكم الأخلاقي بعد تحليلها، إذ أن اللغة والوعي بالتجربة الأخلاقية لا ينفكان عن بعضهما البعض، وأعلن فيه عن تهافت البناء الفلسفي الأخلاقي الكلاسيكي انطلاقاً من تحليل صارم للغة وليؤكد تغيير المعنى من خلال لعبتها، بدلاً من ثبات المعنى الذي سيطر على تاريخ الأخلاق، ذلك أن اللغة هي مجموعة اختلافات .

ومن الجدير بالذكر أن الإهتمام بهذا الجانب لم يكن يوماً حكراً على فلاسفة اللغة، ففي كل نظرية أخلاقية بنية خاصه مسؤولة عن تبني مفاهيم خاصه، فيها تحافظ على وحدتها الموضوعية، وبها تبلور مجموعة من الأحكام الأخلاقية، مثلاً نظرية الواجب من مفاهيمها (الالزام، وينبغي)، وقد صاحب هذان المفهومان أحكاماً أخلاقية، ومن خلال تحليل هذه المفاهيم يمكن الإستدلال بوساطتها على القيم الأخلاقية التي يسعى الفلاسفة أن يرسو دعائمها في الفكر .

ومما تجدر الاشارة اليه رغم أن فاتحة ممارسة ما وراء الأخلاق كانت منذ كتاب جورج مور مبادئ الأخلاق من حيث الموضوع، إلا أن آراء فتجنشتين اللغوية الواضحة في الرسالة المنطقية أو في تحقيقات فلسفية مثلت التأسيس المنهجي، وبذلك فتح ميدان ما وراء الأخلاق، سواءٌ أكان بإصراره على أن اللغة هي صورة للعالم، أم على وصف إستعمالها، إلا أنه لم ينتج خطاباً أخلاقياً بمقدار ما ساهم في تشكيل نقد للخطاب الأخلاقي التواصلي، لأن الفعل التواصلي هو مفتاح الأخلاق وهذا يعني من بين ما يعني أن الأخلاق تؤسس على الممارسة الكلامية، ذلك أن المعنى الحقيقي (الكامن) يقف وراء أساليب التواصل، وهو يعني أيضاً أن لغة الأخلاق مجموعة من الأنماط السلوكية المنبثة في المجتمع البشري، لأن اللغة عمل بل هي اتصال (نشط)، لكن لماذا هذا الاهتمام بلغة الأخلاق؟

إن التجربة الأخلاقية بوصفها فناً للعيش تتمظهر بالتنوع المشهود في الأفكار المعبر عنها في قوالب لغوية، وهذا ما يدعم وجود الإهتمام بلغتها، على العكس من لغة الأخلاق التي أنتجها افلاطون في جمهوريته، ففيها وصفاً لمجتمع شمولي، إذ اخترع لغة تتناسب مع ما كان يهدف اليه من إقامة مجتمع طبقي، وترسيم قوى النفس لإحكام السيطرة على عقول الأفراد وبالنتيجة على أفعالهم فأبد صورة الإنسان المثالي، وكلما تشدد الفلاسفة في رسم تلك الصورة زاد الكبت على الحرية الفردية، وهذا ما كان يعنيه لزلي ستيفنسون عندما أشار الى أن الطاغية يصرخ واجب، وحق ليثني الجمهور الغفير لإرادته هذا من جهة .

ومن جهة أخرى هناك الخطاب الأخلاقي الكوني الكانطي، الذي أسس على وحدة الطبيعة البشرية، ولم يؤسس على اختلاف اللغات بين الشعوب، واختلافها وهذا يعني إختلاف التفكير والممارسة، وهو بدوره ينعكس على المواقف الإنسانية المختلفة، والجماعات البشرية ترى في لغتها الأخلاقية تمثيلات لهويتها، وهذا ما أكده الفريد آير عندما قال أن ما ينطبق على اللغة الإنجليزية لا ينطبق على غيره من اللغات، إلا أن هذا القول في ضمنه قولاً آخر وهو أن كل لغة تمتلك حصيلاً من التعبيرات الأخلاقية، فالتنوع اللغوي هو الذي يعطي أشكالاً لا تُعد ولا تحصى للأفعال.

ان الرأي الأخير كان من نتائج تقسيم فلاسفة اللغة للغة ومعناها الى إنفعالية ووصفية، ويبدو أنهم لجأوا الى اللغة الإنفعالية لأن من الأفكار الملحه ليس هناك من لغة أخرى تناسبها. فهناك بون شاسع بين السمات المنطقية للغة وطاقاتها الإنفعالية ومخزونها التعبيري، ونظرية ما وراء الأخلاق هي نظرية في اللغة .

ورب سائل يسأل ما الهدف من ذلك كله؟ والجواب على ذلك إن الهدف من الجهد التحليلي الكشف عن الحقيقة المستترة وراء الأخلاق وهو جهد علاجي أولاً، أما ثانياً لإسدال الستار عن الأوهام التي عاشتها الإنسانية من خلال تمسكها ببنى فكرية غير واضحة. وتجدر الإشارة الى أن التعامل مع المفاهيم الأخلاقية على وفق زيفها ينتج وعياً زائفاً بها، وهذا ما جعل فلاسفة التحليل يعتقدون أن المفاهيم الأخلاقية غير قابلة للتحليل، ولهذا السبب أيضاً أعرض بعضهم عن القيام باعطاء تعريفاً للمفاهيم الأخلاقية، إلا أنهم لامسوا هذه القضية عن بعد عندما وضعوا معايير التواصل اللغوي، وما الأخلاق بالنسبة لهم إلا لغة؟

إن موقفهم اللغوي من الأخلاق كان محيرا، وتمثل في (لو لم يكن للمفاهيم الأخلاقية أية دلالة، فهذا يعني أنه فصل الفكر عن الواقع الأخلاقي)، مما يؤدي إلى غياب الأخلاق عن الواقع، وقد يعكس من جملة ما يعكس غياب الواقع عن الاهتمام، واذا أفلحوا في تجريد المفاهيم الأخلاقية من أي معنى تستعمل فيها اللغة التي تمنع مثول الصور الذهنية، فهذا لن يعط للأفراد امكانية فهم معنى ما يفعلونه، ومن ثمّ لن يستطيعوا تغييره، فالإنسان وإن كان له وعياً أخلاقياً إلا أن هذا الوعي لن يكتمل أن لم يكن مقروناً بفهمه للمعنى، إلا أن الواقع يثبت العكس فالإنسان وان كان له وعياً أخلاقياً إلا أن هذا الوعي ليس مقروناً بفهمه للمعنى، وهذا من نتائج فصل اللغة عن الواقع، فتكون المعاني اعتباطية وليست ذات صلة به. وفي الواقع لم يكن فلاسفة اللغة هم المذنبون في فصل اللغة عن الواقع الأخلاقي بل أن سبب غموض المفاهيم الأخلاقية يعود الى أن فلاسفة الأخلاق استعملوها دون وصلها بالمجال الحقيقي الذي تنتمي إليه .

***

أ. د. نوال طه ياسين - جامعة البصرة

في المثقف اليوم