أقلام فكرية

سامي عبد العال: أنماط المثقفين (2)

لم يكن تحرُر المثقفُ ممكناً قبل أنْ (ينادي هو) بتحرير نفسه، وقبل أنْ يقاوم كلَّ ألوان القهر التي يواجهها. فبدت حريتُه مهمةً بقدر زيادة الوعي الناقد لديه. أي عندما أُدرجت حريةُ المثقف على طاولة النقاش، وعندما أصبح وجودُه موضِّعَ تساؤل وإجابةٍ، موضِّع شكٍ ونقدٍ من ناحيةٍ. ومن ناحيةٍ أخرى، حدثَ التحررُ فعلياً نتيجة تطورات تاريخية مهمة، إذ تمت المطالبة اجتماعياً وسياسياً بتحديد دور المثقف في الفضاء العام. وهذه الحالة مثلت ولادةٍ عسيرة للمثقفين مقارنةً بوجودِ من كان يحمل لواء الفكر سلفاً. فلم يكُن دورٌ كهذا مطرُوحاً بصورة مستقلةٍ داخل المجتمع، لكن المثقفين شعروا بأهمية الاستقلال والاختلاف فيما بعد. ثمَّ تواصل النقاش تباعاً كضرورةٍ فرضتها حركةُ الواقع، وانكشاف جوانبه التي فاجأت بنية المجتمعات البشرية في الصميم.

تبلورت النقطة السابقة بعدما غدت للمثقف مكانةٌ لا غنى عنها، وأخذ الناسُ ينظرون إليه بوصفه ذا شأنٍ فيما بينهم. والأمرُ بمثابة ظهور(وعي آخر للمثقف) خارج ما يحيطه من محددات مكبلةٍ لحركته. وإذا كان المثقفون يطلقون وعوداً إزاء وجودهم في الفضاء العام، فهي وعود تسير بنمو هذا الخط، وهذا مرتبط بظروف المجتمعات بالطبع، لأنَّ التاريخ أعمق من محاولات تغييره من نقطةٍ ما على أقطار الحياة العامة.

المسألة مع توالي العصور أنَّ المثقف كان خاضعاً لألعاب الحياة المشتركة التي تتجاذب خيوط أفكاره وكيانه لمصلحة القوى الغالبة، ولم تخلو المسألة من رغبته أن يظل هامشياً لمتون القوى بعناوين مختلفة. حتى أنَّ مثقفاً- مع إلتزاماته- قد لا يعي جذور المسألة بحكم كونّه غارقاً داخل التاريخ من نقطةٍ بعينها. فالواقع هو الحجيم بالفعل والانهماك في مساراته حجاب غليظ أمام الرؤية، وربما يشعر المثقفُ بوصوله إلى ذروة ما يتمناه دون إدراكٍ أنه يناقض ما ينبغي أنْ يكون، وأنَّ المعايير ليست مختلطة بتراب الحياة، بل هناك آفاق أخرى عليه أنْ يجترحها.

حقاً ثمة بُعدٌ ليس معروفاً ويصعب التحكم فيه، وهو (مراوغة الثقافة) التي لا تنتظر المثقفين ولا تسمح بتحجيم وجودها الرمزي. إنَّ الثقافة ككل أعمق من اختزالها في أعمال الإنسان الفاعل كمثقف أو كمفكر، ولا يمكن لسلطةٍ مهما بلغتْ أنْ تحكم قبضة السيطرة عليها. الثقافة هي قدرتنا كأناس على أن نتجاوز أوضاعنا التاريخية بكل إشكاليتها. صحيح لا يضيعُ شيءٌ ولا يسقط أيُّ شيء من غربال الثقافة، لكن الأخيرةَ تعصف بكل منْ يقف أمامها، ولا تغيبُ كثيراً دون العودة لتغيير قواعد اللعبة وكشف المحجوب والمخفي.

المثقف - الخدمي:

يعود هذا الصنف من المثقفين إلى حاملي شعارات الثقافة في بلاط الملوك والسلاطين والآن في مؤسسات الأنظمة الحاكمة وأروقة السلطة والمنتديات العمومية واستديوهات التلفاز الرسمية ومواقع المؤسسات والمنتديات ومراكز الإعلام والإعلان ومراكز دعم واتخاذ القرارات وتقديم الخدمات اللوجستية. إنه المثقف الخادم على الأصالة لا غير، يدرك مكانته من جهة كونه تحت سقف الحاجة باستمرار، أو هكذا يحاول أصحاب السلطة وضعه في تلك المساحة دون تردد!!

ورغم جذور المسألة في مجتمعاتنا العربية منذ استعمال الشعراء والكتاب والوراقين داخل دواووين الحكام واعتبارهم من العتاد الرمزي إزاء الآخرين، إلاَّ أن(الخدمة service) مفهوم معاصر وما بعد حداثي بإمتياز. الخدمة تُبلور إمكانية البعض لأنْ يضع قدراته ومهاراته تحت طوع الاستعمال من غيره الأعلى شأناً. الخدمة تطور طبيعي لتعقد وسائل التطور والتعبير عن الأهداف في السياسة والإقتصاد جنباً إلى جنبٍ. ثم جرى الأمر مع تعقد بناء المجتمعات المعاصرة وقيام أحوالها على السرعة والترفيه وانتشار اقتصاديات الوساطة وألعاب السوق السوداء، حتى باتت الخدمة إحدى مفردات الحياة اليومية التلقائية.

الخدمة serviceاقتصاد سياسي مُركب يعكسُ عدةَ مستوياتٍ ثقافية، بل غدت الخدمة ضرورة من ضروريات التطور الحضاري الراهن، وخلعت دلالتها على جوانب كثيرةٍ من أفعالنا ومعطياتنا القيمية والفكرية. وفي فضاء الثقافة، ستكون الخدمة محل استفهام، لأنَّ الثقافة خطيرة على الصعيد الرمزي، ولها قوتها في الاحتكام إلى إنسانيتنا الحرة والمقاومة لألوان العسف والاستغفال. تمثل الخدمةُ أكثر التحولات في تأثير الثقافة في المجتمعات وعلى وعي الأفراد.

1- تعبر الخدمات الثقافية عن تحول المهام والمسئوليات إلى نشاطٍ بديل. فنتيجة تسطيح الأشياء والقيم، غدت الأعمال مجردَ خدمات داخل أمعاء المجتمعات المعاصرة. وأغرب التحولات أنْ تصبح الثقافة - التي هي عميقة بالضرورة - لوناً من التعويم للأعماق، واستهلاك القدرات والطاقات الإنسانية.

2- تكشف الخدمات علاقة السلطة بما دونها من فاعلين ومساعدين ووسطاء وجماعات مصالح. في الخدمة تكون قوة الإستعمال هي الغالبة، ولاسيما أنَّ السلطة تحاول إبقاء تأثيرها نافذاً من خلال جعل القيم والجوانب الرمزية مجرد وسائل تتهافت على مآربها الخاصة. وفي الوقت نفسه تعد الخدمة وسيطاً يعكس: كيف يتم استعمال المثقف؟ وأية أساليب هي الفاعلة في عملية ترويضه وإخضاعه المتواصلين؟!

3- هناك خلط واضح بين المعرفة والإقتصاد حيث تسليعُ الثقافة، وهي نزعة طاغية على امتداد منتجات العصر من القيم والتقاليد حتى التكنولوجيات الصغيرة، وانتشار فكرة البيع والشراء لكل ما يمت للإنسان بصلة، وتحويل الروحانيات والفكر إلى خدمات مدفُوعة الأجر. وتلك العملية تطرح" تسعيرة " للمنتجات الثقافية بما فيها وظيفة المثقفين في المجال العمومي. والرسائل الناتجة عن ذلك تصل من فورها لكل مثقفٍ، فيشعر بكونه داخل سوق كبير لا مجرد فاعل وإبداعي. ومن ثمَّ، يترك نفسه لموجات وبورصة الأسواق من وقت لآخر.

4- تحكُّم سياسات الفكر في الانتاج الفكري والثقافي داخل المجتمع. لم تعد السياسةُ ذلك الفن المعبر عن الممكن، لكنها أضحت الخميرة التي تدس تأثيرها في كل ما يمت للمجتمعات ومجالاتها بصلةٍ. والسياسة بالنسبة للمثقف المعاصر هي الأكسير الذي سيحل مشاكله وخوفه من الجماهير والانتشار دون مجهود والحلم القديم بكونه سيدخل المجال العام مكللاً بالمهابة والغلبة.

5- طغيان قيم الاستسهال والتفاهة والتشبث بالرواج والتداول. وهذا الطغيان لا يأتي عارياً، لكنه تشكل من مادة الخدمات، ومن قدرتها على التسلل إلى تفاصيل حياتنا المعاصرة. حتى أنه يمكننا تلخيص إيقاع العصر بكونه عصر الخدمات التي تعبر عن جوهر التداول والرواج. وغدا كل شيء – بما فيه الثقافة - مادةً إعلانيةً، مادة قابلة للتوليف والتغيير والتحول بلا أدنى أصالةٍ.

6- السرعة والعجلة في انجاز الأشياء دون انتظار الجودة. الخدمات هي لغة السرعة التي تنادي بتلبية الطلب والحاجة. ولذلك تتميز الخدمات- بما فيها الخدمات الثقافية- بالسرعة العجولة، لأنها نوع من تصنيع وسائط للأحداث تكون علامة عليها وتتمكن من التعامل معها في الحال. والخدمات الثقافية تُلخص الطرق السريعة وغير الناضجة في معالجة القضايا الجوهرية. ولاسيما أن الثقافة غدت مهمةً في هذا المجال، لأن الاحداث سريعة التواتر، وبدا المثقف خادماً لأصحاب القرار، وظل بإمكانه توصيل ما يريدون إلى الجماهير الغفيرة واعتبارهم رعاياً لا مواطنين.

7- توظيف المهارات والقدرات الناعمة للمصالح والمنافع. فالحياة المعاصرة توظّف كل ما هو رمزي في خدمة النواحي المادية، إنها عملية التشيؤ التي يخضع لها المثقف في صورة خدمة قابلة للبيع والشراء. وعليه فقد أصبح المثقف سلعةً متاحةً للسياسيين والاقتصاديين ودهاقنة السلطة، بل وهو نفسه أصبح أكبر إنتهازياً جرياً وراء الفرص. وكأنه يقبل تحويله إلى خدمة تحت الطلب كما قلت.

يأخذ المثقف الخدمي طريقه إلى هذا الإستعمال نتيجة المُناخ السائد، وإزداد ذلك الوضع مع وجود مظاهر العولمة واعتبار الخدمات المغلفة بالمغريات والمصالح طاغيةً في حركة الحياة اليومية. لأنَّ ثقافة الاستهلاك أشبعت كل تجليات العولمة، بل كانت ثقافة مختلطة بالأفعال والمظاهر العامة. ولاسيما أن الخدمة الثقافية تُطرح كأي سلعةٍ في الطريق العام، وعادة ما يُنظر رجالُ السياسة إلى المثقف القابل للاستعمال من هذه الزاوية ويصبح قيدَ التوظيف. واللون الثقافي الذي يقدمه مثل كتابة مقالات أو مواد إعلامية لتدعيم تيار بعينه أو كتابة فكرة تؤيد سياسات مكبلة للشعوب أو ترويج لسياسات مستبدة عفى عليها الزمن.

المثقف الحركي:

وهو المثقف الذي يُوجد في الواقع ناشطاً لصالح مرجعيةٍ ما أو سلطة بعينها. ويتصف بقدرته على المشاركة في مسار الأحداث وصناعة المناسبات الثقافية والمنتديات والمؤتمرات العامة، وكأنه يرى واقعاً جديراً بالتدعيم. هو مثقف مُسيّس بالمعنى الخاص لكلمة سياسة والتي تعني استراتيجية " صناعة الفرص " ورسم خرائط الأحداث. ولعلَّ هذا الصنف هو التطور الطبيعي لدلالة الخدمة، فلن نعرف: ما إذا كان المثقف ملتزماً أم لا، لكن ما نعرفه بالضبط أنه ينخرط في عمليات الصراع ويضع كل ما يملك من أفكار ومعرفة قيد التوظيف والعمل بعيد المدى.

النموذج الواضح لهذا المثقف هو برنارد هنري ليفي Bernard-Henri Lévy، حيث كان فاعلاً في أحداث الربيع العربي خدمةً للقوى الدولية والإقليمية التي تريد تغيير الأنظمة السياسية. ولم يكن الأمر كذلك فقط، بل كان ليفي مشبعاً بأبعاد أيديولوجية وصراعية كفلت له التحرك على مساحة شائكة من السياسة بين دول الشرق (ليبيا وتونس ومصر والجزائر والسودان وسوريا) وأوروبا فرنسا وانجلترا. وكل ذلك - فيما كان يقول - لمساعدة الشعوب العربية على التحرر، بينما هو يتحرك على خريطة سياسية لاهوتية متمثلة في إعادة الدور اليهودي المسيَّس إلى الواجهة.  حيث كان مرشحاً بارزاً عام 2011 لرئاسة إسرائيل بكل هذا الميراث المتأخر.

في جميع حالات الصراع، حرص برنارد ليفي على التواجد بين أنظمة الثوار وأصحاب المعارضة كما كانوا يسمون آنذاك، ولم يكتف بهذا، إنما توغل داخل صفوف معارضي الأنظمة بالمثل، وكذلك ذهب إلى جبهات الصراع، وقد كتب مقالات وشهادات وحضر لقاءات وحوارات من واقع الحروب الربيعية، كي يستحث أوروبا والغرب على التدخل واستصدار قرارات دولية ضد أنظمة الحكم. وكان دائم التجوال الحربي وسط المعارك والاشتباكات في أعماق المدن والضواحي العربية التي شهدت حراكاً. مما أثار أسئلة مريبة آنذاك حول: ماهية تحركاته وكيف يجد الطرق ممهدة لدخول الدول والقفز من مطار إلى آخر ومن جبهة عسكرية إلى غيرها ومن حراك سياسي إلى سواه؟!!

كان برنارد ليفي يقف على ساقين: ساق لاهوتية قديمة ترجع إلى ثقافته الدينية الضاربة في التاريخ اليهودي، وإيمانه الخاص بحسم الصراع التاريخي مع العرب المسلمين. وكذلك كانت تدفعه ذكريات أجداده اليهود بين طيّات الرمال العربية والوجوه القديمة لهم التي تماهت مع وجوه الآلاف من الأجيال اللاحقة، وبات حين كان يسير على الرمال الليبية كأنه يسير على آثار أسلافه السابقين، وكأنّه يُقرّب المسافة التاريخية للعودة إلى الوراء، وكأن هناك " مملكة غابرة " يميط عنها اللثام رويداً رويداً بسواعد العرب المعاصرين، ذلك وسط ضجيج العالم والقوى التي تتصارع على الخريطة السياسية لدول الربيع العربي.

ولم يكن برنارد ليفي حركياً ثم يتحول إلى شيء آخر، بل كان يكتب المقالات وينشر التعليقات والتحليلات وينقل الأخبار عن أحداث الربيع العربي كأنه يكتب عن وثائق لأجيال تاليةٍ، وكان همزة الوصل العالقة بين الشرق بكل موروثاته وأزماته والغرب بكل أطماعه وتواجده على أرض الشرق. حتى قيل إنَّ ليفي كان عراباً للثورات العربية الراهنة. والمهمة نفسها كانت لصيقة الصلة بمثقفي الحروب والاستخبارات الغربية، وليس أدل على ذلك من أن صراعات أمريكا كانت مصحوبةً بحروب ثقافيةٍ وإعلامية قتلت الثقافة العربية بحثاً ودراسةً. فصمويل هنتنجتون  Samuel Huntingtonأصدر كتاب" صدام الحضارات the clash of civilizations"، وهو كتاب يرسم خريطة سياسية لأمريكا بالخارج ويحدد الأوزان النسبية لأعداء الأمبراطورية الأمريكية التاريخيين. حيث رشّح- بعد تراجع الاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية - الإسلام والمسلمين كعتاد قديم وقادم للحروب في منطقة الشرق الأوسط.

واللافت للنظر أنَّ كتاباً كهذا الكتاب (صدام الحضارات) كان بالأصل- عام 1993 - مقالاً  في مجلة غير محايدة هي " فورين بوليسي foreign policy " التابعة شكلاً لمؤسسيها (صمويل هنتنجتون ووارن ديميان مانشيل)، لكنها في الحقيقة امتداد ثقافي لأنياب الخارجية الأمريكية. وقد شغلت أفكار هنتنجتون المحللين السياسيين ورجال الحروب ربطاً بالحالة الأمريكية، ولقد ركزوا فقط على ماذا ستفعل أمريكا تجاه العالم ومناطق ضغط القوى المؤثرة وخفضها.

غير أن هنتنجتون بهذا المعنى كان مثقفاً حركيّاً بإمتياز، هو ينقل ويُؤشر إلى ما سيحدث في أقاليم العالم، وكيفية ترتيب الأولويات بالنسبة لصراع أمريكا في المستقبل القريب. والمثقف في تلك الحالة مخطط استراتيجي بالدرجة الأولى، يدرك كون الثقافة تلعب دوراً خطيراً في تغليف وتأسيس أي صراع على الأرض. ولا يتوانى عن خلق حالة من العداء تجاه الأغيار بلغة اليهودية، وبات معروفاً أنَّ مثقفاً كهذا هو صاحب إسهام مسيّس، والغرب العسكري يحرص على هذا النمط مع وجود التعبئة السياسية وخلق الأعداء لاقتناص المصالح. وفي الحقيقة أنَّ أمريكا ضليعة في صناعة هؤلاء المثقفين الذين يسبقون حملاتها العسكرية تجاه الشرق، سواء تجاه العراق بداية القرن أو تجاه غيرها في شكل تدخل جراحي عسكري كما في سوريا وليبيا واليمن وبعض مناطق النزاع.

لم يكن برنارد لويس -على سبيل المثال- بعيداً عن تلك المهمة الثقافية، لقد كتب عن قضايا الشرق والإسلام والتجليات السياسية للدين ورأيه أن الاسلام لعب دوراً تاريخياً خطيراً في تماسك الكتل البشرية التي تغطي مساحات العالم الإسلامي، ولكنه كان يقصد تقديم فهم لتشكيل العقائد السياسية الدينية لحامل مفاتيح الصراع في البيت الأبيض. ودائماً يظهر صوت برنارد لويس مع اشتداد وتيرة التواجد الأمريكي على الرمال العربية، فهو يرى أنَّ للعرب حريةَ التمتع بالرمال المتحركة والعقائد المتحركة بالمثل، بينما سيكون لأمريكا حرية الاستيلاء على الثروات فوق الأرض وتحت الأرض. وبرنارد لويس يطلق جيوش المداد الذي يكتب به جنباً إلى جنب مع القوات الأمريكية التي تمرح بين دول الشرق والأوطان العربية. وهو صاحب مقولات تغليف التدخل الأمريكي بأبرز الصور بريقاً، مثل قوله" إنَّ نشر الديمقراطية أفضل وسيلة لمحاربة الإرهاب". وليس يدرك ذلك البعد الحركي في العبارة إلاَّ منْ عرفَ أنَّ الطريق إلى جهنم أمريكا معبد بالورود والأزهار والكلمات المعسولة.

وبالفعل تعدُّ أمريكا أكثر الدول فتحاً لجهنم السياسة، نتيجة الارتباط بين السياسة والحروب على خلفية المصالح والتمدُد الاستراتيجي لكيانها الاستعماري، وهذه العلاقة بين السياسة والصراع المسلّح هي التي استحضرت شخصيةَ المثقف الحركي. فلربما لا تدرك أنت ما إذا كان المثقف سياسياً أم رجل حرب، ما إذا كان يخاطب ضميراً إنسانياً أم يخاطب غرائز القوى المسلحة، ولكن المؤكد أنَّ هناك نتائج فعلية للتعبئة الثقافية وتمهيد الميدان لنشوب النزاعات والأحداث والقلاقل. مما يجعل العلاقة السابقة قائمةً على الأيديولوجيا بصورة ضمنية. فكل ثقافة حركية لون من الأيديولوجيا التي لها أشكال مختلفة من الممارسات.

ولذلك لا يبتعد مثقفو التنظيمات الاسلامية عن هذه النماذج، ربما هم مثقفون في أحد أقاليم العالم الاسلامي بالمنطق نفسه. والفكرة واحدة هي اعتبار المعتقد وطريقة التفكير درباً للممارسة، حتى ولو اقتضى شقه دهس كافة الطرق الأخرى، وتحشيد كافة الأنصار بأية وسائل ممكنة وبشكل عنيفٍ لا مفر منه. ولذلك رأى مثقفو التنظيمات مد الطرق إلى مآربهم على جثث الآخرين، ومن هنا نشأت أفكار التكفير والجهاد المسلح واستحلال رقاب المختلفين دينياً وعقائدياً.

ومن تلك الزاوية، تظهر العلاقة القوية بين أمريكا ككيان والجماعات الدينية كتنظيمات حركية، وهذا يفسر المسافة بين طرفي العلاقة السابقة ايجاباً وسلباً في الوقت عينه، لأنَّ أمريكا هي النموذج الأكبر والعملاق لهذه التننظيمات على الصعيد الكوكبي والعالمي، فهي امبراطورية حركية حتى النخاع، وتمثل ذروة الثقافة التي تمارس دورها بالمنطق النفعي ذاته. وبخاصة أن التنظيمات الدينية تسير بالوقود المؤدلج في كلِّ حارةٍ هنا أو هناك من حارات العالم الاسلامي، ولذلك لا يوجد تناقض إطلاقاً بين الحس الامبراطوري لأمريكا والحس الحركي لتلك التنظيمات الجهادية، وكثيراً ما كانت وما زالت تستعملها أمريكا لمصالح منتظرة وتفكيك الأقاليم التي تنتشر فيها.

إنَّ ذهنية منظري التنظيمات الإسلامية مؤسسةٌ على هذا الجانب، والعلة في ذلك هي عدم تقدير (المسافة الزمنية والثقافية) بين المرجعيات الثابتة والأحداث المتغيرة، فما كان من المنظرين إلاَّ اعتبار الأفكار وسائل لتغيير الواقع عنوةً، والجري وراء الأهداف والغايات بطريقة الممارسة اللاحقة لاسقاطها على هذا الواقع. فإذا كانوا يريدون تطبيق الشريعة كما يرددون عادة، فقد اعتبروها مطبقة سلفاً سواء بناء على نموذج جاهز في التاريخ أو في العقل، ثم يعتبرون الواقع سائراً بأثر رجعي إليه طوال الوقت. وهذا ما يجعل النبرة الثورية الراديكالية بمثابة الفأس التي تهوي على تنوع الواقع وتعقيده.

***

د. سامي عبد العال

في المثقف اليوم