أقلام فكرية

أقلام فكرية

مع بداية عصر النهضة العربية في الربع الأول من القرن التاسع عشر، راح بعض المفكرين العرب ممن اطلع على الثقافة الغربيّة وتأثر بها آنذاك، يشعر بالفارق الحضاري أو الثقافي مابين واقع الغرب المتقدم اقتصاديّاً وسياسيّاً وثقافيّاً واجتماعيّاً، - بما فيه تقدمه العلمي والتكنولوجي - والواقع العربي، أو المشرقي عموما، المتخلف في معظم مستوياته الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسية والثقافية، الأمر الذي دفع بعض رجالات فكر عصر النهضة العربية في القرن ذاته إلى توصيفهم واقع المشرق من خلال مقارنتهم له مع الغرب إلى القول: بأن الشرق لم يزل يعيش حياة العصور الوسطى بكل تخلفها مقارنة بما وصل إليه العالم اليوم من تقدم. ونظرا لكون البلاد العربية كانت تخضع للاستعمار العثماني وسياسته المليّة من جهة، وأن مسألة التأثر بالغرب وفكره كانت في معظمها تصب في الاتجاه السياسي والاجتماعي، بفعل تأثير أفكار الثورة الفرنسيّة، وأفكار عصر التنوير الأوربي على النخب العربيّة (المتعلمة) وخاصة من تأثر بأفكار عصر التنوير، كجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، أو من أرسل للغرب للتعلم من جهة ثانية، كما هو الحال للطهطاوي، وفيما بعد، لطه حسين، هذا إضافة لما ساهمت به مداس التبشير التي خرجت الكثير من رواد عصر النهضة أمثال شبلي شميل وفرح أنطون وأديب اسحق واليازجي والبستاني وغيرهم الكثير من المفكرين العرب. لقد لقي التأثر بالفكر السياسي الغربي  قبولا ورواجا لدى مفكري ورجال سياسة عصر النهضة العربيّة وذلك استجابة لرغبتهم في التخلص من الاستعمار العثماني، وما رافقه من استبداد وسياسات مليّة عنصريّة، وبالتالي من هنا كانت مسألة الحريّة، والديمقراطيّة، ودولة القانون والمواطنة، وتحرير المرأة، والنظام الدستوري، والانتخابات التشريعيّة، وحريّة الصحافة، وتشكيل الأحزاب السياسيّة والجمعيات الدينيّة والأدبيّة، والحق الطبيعي .. الخ، هي القضايا الأكثر هيمنة على تفكير ونشاط رجالات النهضة العربيّة آنذاك، والتي كان ولم يزل الصراع والخلاف يدور حولها بين رجال تيار العلمانيّة والليبراليّة بما فيه رجال الإصلاح الديني من جهة، وبين رجال الفكر الديني الأصولي المتزمت من جهة ثانية، هؤلاء الذين كانوا ولم يزالوا أيضا يرفضون الغرب كليّا، ويقسمون العالم ما بين دار إيمان ودار كفر، حيث يأتي الغرب عندهم بكل ما يحمل  من فكر وقيم  في دار الكفر بالضرورة.

في مضمار هذا المشهد من الصراع الدائر في تلك الفترة، برزت مسألة الصراع بين من اعتقد بأن الديمقراطيّة الغربيّة هي الحل وراح يطالب بضرورة تبنيها والعمل على تطبيقها في واقعنا العربي، لحل مسائل تخلفه والرقي بهذه الأمّة أسوة بأمم الغرب، التي كان للديمقراطيّة حسب اعتقاده الدور الكبير في تحقيق ونشر العدالة والمساوة والتحرر من الاستبداد عند شعوبها، وبين من يدعو إلى  تبنى الشورى ويعمل على تطبيقها لتحقيق الأهداف ذاتها التي يدّعيها متبنو الديمقراطيّة، ولكي يبرهن كل فريق منهما على صحة ادعائه، أخذ ‘ينظر ويُقدم دفوعاته حول وجهة نظره، في الوقت الذي لم يستطع فيه الطرفان رغم كل تنظيراتهم أن يطبقا ما نظّرا له لأسباب كثيرة يأتي في مقدمتها، أن الكثير من السلطات السياسية الحاكمة منذ عصر النهضة حتى هذا التاريخ، لم تكن ترغب في تسيير أمور بلادها إلا وفق ما تراه مطابقا لمصالحها هي، وليس وفقا لمصالح رعاياها، ولا أقول مواطنيها، ثم لسيادة وانتشار الفكر اللاعقلاني وفي مقدمته الفكر ألامتثالي بين صفوف الجماهير المغيبة أصلاً عن واقعها السياسي والفكري العقلاني .

إذن في نطاق هذا المشهد الذي جئنا عليه، دعونا نقف قليلاً أمام موضوعة الشورى، وننظر في مفهومها وأهدافها وحواملها الاجتماعيّة ومرجعياتها وموقفها من الدين والدولة.. إلخ .

على العموم، يبدو أن الكثير ممن اشتغل على موضوعة الشورى، قد توصل إلى مفهوم أو تعريف عام لها، ينصرف إلى اعتبارها تقليب الآراء ووجهات النظر في قضية من القضايا، أو موضوع من المواضيع التي تهم حياة الناس، واختبارها من قبل أصحاب الرأي والخبرة بهدف الوصول إلى الصواب.

أما أفضل الآراء المؤدية إلى الصواب هنا كما يدعي حملة مشروع الشورى، فهي، الآراء الناتجة عن ذوي الخبرة والتجربة والجهد والبحث والدراسة والعلم، في إطار ما يتفق مع العقيدة ولا يخالف الكتاب والسنة.

إن نظرة أولية لهذا التعريف أو المفهوم، تبين لنا أنه قد حدد مسألتين، تشكلان برأينا المرتكزات الأساسيّة للشورى وهما:

الأولى: المواضيع التي تبحث فيها الشورى: حيث جاءت هذه المواضيع مفتوحة الدلالات في سياقها العام، (قضية من القضايا، أو موضوع من المواضيع)، بينما جاءت محددة من حيث المبدأ، أو محكومة بالعقيدة، (النص الديني المقدس)، الذي لا يعطي الفرد القدرة على إبداء رأيه المخالف لأية قضية ورد فيها نص ديني من القرآن أو السنة النبويّة، من جهة، أو حتى تجاه ما ‘شرع أو ‘أفتي فيها من قبل الأئمة السابقين، كما يقر بعض رجال الدين الأصوليين من جهة ثانية. وبذلك تكون الشريعة وفق رؤية هؤلاء قد رسمت الأفق الأخير للشورى، التي عليها أن لا تتجاوز حدوده، وهي حدود ثابتة وخالدة طالما بقي الإسلام، وبقيت شريعته. وهذا ما يقول به على سبيل المثال لاالحصر، ابن قيم الجوزية والمدرسة التي يمثلها: حيث (لا سياسة إلا ما وافق الشرع). وكذلك أبو الأعلى المودودي وسيد قطب. (1).

الثانية: أصحاب الحق في التشاور: وهم هنا كما حددهم علماء السلف- الرجال فقط-  ممن امتلك العلم والمعرفة والتجربة والخبرة والبحث، التي تتماشى أو تتوافق مع الكتاب والسنة، وما عداهم لا يعدّ برأيهم، أو لا يؤخذ به، هذا وقد قال الأحناف، بأنهم الأشراف والأعيان، وقال الإمام القرطبي بأنهم أهل العلم والدين ووجوه الكتاب والقراء، كما حددهم الإمام النووي بأنهم العلماء والرؤساء ووجوه الناس، أما رشيد رضا، فقد قال، بأنهم أهل البصيرة .. الخ. (2). يضاف إلى ذلك نجد أن الاختلاف ظل قائما أيضا في مسألة تحديد عدد من ُتعقد عليهم مهمة التشاور في أمور الناس، وبالتالي البت فيها، فمنهم من قال أن الشورى تعقد على خمسة كما جرى في بيعة الخليفة (أبو بكر) والبعض قال تعقد بستة كما حددها الخليفة (عمر بن الخطاب) بينما قال علماء الكوفة يمكن أن تحدد بثلاثة، وقالت طائفة باثنين، بل يمكن بواحد إذا اقتضت الحاجة.(3).

المرجعيّة العقيديّة للشورى ودلالاتها:

هناك آيتان قرآنيتان وردت فيهما مسألة الشورى هما: الآية الكريمة الأولى في سورة آل عمران (159)، في قوله تعالى: (فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك، فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين .). فنظرة بعض المفسرين ومنهم " الطبري" (4).  لدلالات هذه الآية وبخاصة قوله تعالى: (فإذا عزمت فتوكل على الله)، إنما يعني الله بهذا القول النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، مخاطباً إياه:(يا أيها النبي إذا صح عزمك بتثبيتنا إياك وتسديدنا لك فيما نابك وحزبك من أمر دينك ودنياك، فامض لما أمرناك به على ما أمرناك به، وافق ذلك آراء أصحابك وما شاروا به عليك أو خالفها.). وهذا يبين لنا أن تفسير آية الشورى (- عمران 159)، في سياقها العام، هو أن الشورى هنا غير ملزمة للرسول (ص) لأنه يوحى إليه من قبل الله، أما أمته فإن تشاوروا فيما بينهم فهم مستنين بفعله ذلك، بعيدا عن الهوى والتحيز .

أما الآية الثانية الواردة في موضوعة  الشورى فقد جاءت في سورة الشورى الآية (38)، في قوله تعالى: (الذين استجابوا لربهم، وأقاموا الصلاة، وأمرهم شورى بينهم، ومما رزقناهم ينفقون). فتفسير الطبري أيضا لهذه الآية جاء بقوله: (إن المشاورة معهم من قبل الرسول (صلى الله عليه وسلم) جاءت من باب تطييب قلوبهم، ليكونوا فيما يفعلونه أنشط لهم.). (5). لذلك يقول بعض المفسرين، من هنا يتعين الفصل بين ممارسة الشورى في عهد الرسول، وممارستها لما جاء بعده، على اعتبار أن شخصية الرسول شخصية رساليّة يصعب التمييز بين تصرفاته الرساليّة الموحى بها من عند الله، والاجتهادات الشخصية الدنيوية، ويعطوا مثالا على ذلك (صلح الحديبة)، ففي الوقت الذي تم فيه هذا الصلح بأمر من عند الله، شاور الرسول أصحابه فيه أيضا .

انطلاقا من هذا الفهم ألعقدي لمسألة الشورى، تعددت الرؤى والمواقف الفقهية منها عبر السيرورة التاريخيّة للدولة الإسلاميّة منذ وفاة الرسول الكريم حتى هذا التاريخ، وهذا ما يدفعنا هنا إلى تحديد أهم هذه الرؤى والمواقف الفقهية من مسألة الشورى عبر السياق التاريخي لها في التالي:

أولا: رؤية فقهاء الحاكمية للشورى:

على الرغم من الموقف الخلافي حول تاريخ ظهور الدعوة إلى الحاكمية، بين من يرى أنها مرتبطة بالنص الديني ذاته، وبين من يرى أنها مرتبطة بموقف الخوارج في قضية التحكيم أثناء موقعة صفين، غير أن الموقفين معاً، ومن ضمنهما موقف "أبو الأعلى المودودي- والأخوان المسلمون"   قد رجعا إلى الآيات القرآنية الكريمة في اجتهادهما هذا، وهي الآية (44) من سورة المائدة التي تقول: (ومن لم يحكم بما انزل الله، فأولئك هم الكافرون.)، وكذلك إلى الآيتين (45- 47) من السورة نفسها، اللتين تعتبران من لا يحكمون بما أنزل الله هم من (الظالمون و الفاسقون) على التوالي . هذا إضافة إلى الآية الكريمة (38) من سورة الأنعام التي تقول: (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة). ثم إلى الآية (65) من سورة النساء التي تقول: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم).

إن الموقف الفقهي لأصحاب الدعوة إلى الحاكمية، يقوم على نفي الشورى والقول باستقلال الشريعة، وبالتالي سيادتها الكاملة على كل أمور المجتمع، حيت رسمت الشريعة في رأيهم حدود الشورى كما أشرنا في موقع سابق، وعليها – أي الشورى - أن لا تتجاوز حدود الشريعة ذاتها، وهي حدود ثابتة وخالدة، ففي حالة تجاوزها ستشكل خطراً على الشريعة والحكم والفقه، كونها ستكشف لنا دورها الخطير في تعميق الحريات الفرديّة، بمنحها الفرد وليس الحكومة أو الجماعة، الدور الأول في المجتمع، على حد تعبير المعاصرين من دعاة الحاكمية .

إذاً، إن قاعدة أو منطلق الحاكمية وفق هذه المعطيات، هي إرادة الله الكونيّة الجبريّة التي تتحكم في المشيئة العامة لجميع الكائنات. أي هي في النتيجة الإيمان، والإيمان تصديق يستلزم الطاعة والانقياد، والحاكميّة تتبع الإيمان وجوداَ وعدماَ كما يقول دعاتها، لذلك فإن عدم الاحتكام إلى شرع الله على مستوى الاعتقاد والتصديق، يعتبر في المحصلة كفراَ، كما يعتبر الانحراف عن مقتضى الشرع في الحركة والسلوك، أو الممارسة، ظلما وفسقا . أما مقاصد الحاكمية فهي عندهم، الفصل في الخلاف بين الناس، ومنع الفساد، وتحقيق مصالح الناس .

ثانيا: موقف المتنورين من فقهاء العصر تجاه الشورى:

لقد استطاع بعض المتنورين الإسلاميين من رجال العصر، أن يستوعبوا التحولات الموضوعيّة والذاتيّة التي انتابت قضايانا الحياتيّة في هذا العصر، منطلقين من تجارب التاريخ الإسلامي ذاته، وما اتخذه رجالاته في السابق من مواقف فقهيّة حاولت تجاوز التفسير الحرفي والتقليدي للكثير من النصوص الدينيّة، كما فعل عمر ابن الخطاب (رضي الله عنه) في مسألة توزيع الغنائم، أو السرقة في عام الرمادة، أو المؤلفة قلوبهم، وغير ذلك من مواقف فقهية جريئة، حاولت تفسير النص الديني بما يتفق وخصوصيات العصر، وسنة التغير والتبدل في أحوال الناس، منطلقين من مقولة أن الدين جاء للواقع ولم يأت الواقع للدين، لذلك قام هؤلاء المتنورون العقلانيون وعند مختلف التيارات الفقهيّة السنيّة منها والشيعية في فتح باب الاجتهاد خدمة للإنسان وقضاياه. فهناك من قال من أهل السنة بأن الإسلام وضع قاعدة الشورى وعلى المسلمين أن يمارسوها بشرط أن تكون ملائمة في أهدافها ودلالاتها وحواملها ومؤسساتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وفقا لحاجة العصر المعاش ومتطلباته، أمثال الغنوشي، والقرضاوي، ومحمد الغزالي، وغيرهم الكثير . فالمجتمع الإسلامي عندهم يستطيع اليوم أن يضع القوانين والنظم والتعليمات الخاصة بالشورى بحسب ما يراه المسلمون ملائماَ لعصرهم دفعا للاستبداد بالرأي، دون اعتبار للتطبيقات التي مارسها الخلفاء أو الأمراء أو الحكام، عبر العصور السابقة، وهذه التطبيقات ليست حتمية ومطلقة في معطياتها لكل زمان ومكان. كما نرى أيضا هذه الرؤية الفقهية التجديدية عند بعض فقهاء الشيعة المعاصرين، وبخاصة عند من نظَّر لما سمي بفقه (المشروطة) وهو الفقه الذي طرح رؤى جديدة لتجاوز مسألتين هما: حالات الجمود في النص الديني أولا، والتعامل مع قضايا العصر بغياب الإمام المعصوم ثانيا، وهم هنا وفق هذه الفقه، يقرون بأن الله هو مصدر القانون، بينما الشعب فهو مصدر السلطات، وخاصة السياسية منها، بحيث لم يعد هناك برأيهم، بعد غياب المعصوم أية عصمة أو حصانة لحاكم، وعلى القانون أن يكون فوق الجميع، لذلك، من هذا المنطلق جاءت ولاية الفقيه، وولاية الأمة، ممثلة بمجلس النواب، والسلطات الشعبية، وحق المواطنة.. الخ.

في الختام نقول: تظل الشورى بناءً على ما جئنا عليه أعلاه، موقفاً فقهياً خلافيّا منذ بداية تأسيس أو قيام ما سمي بالدولة الإسلاميّة حتى هذا التاريخ، وخلافيّة هذا الموقف نابعة كما بدا لنا، عن غياب الوضوح في تحديد أهداف الشورى وآلية عملها وحواملها الاجتماعيّة منذ بداية التعامل معها لحل قضايا المجتمع، الأمر الذي جعل من مسألة طرحها في عصرنا الحالي إضافة لكونها مسألة خلافيّة، فهي مسألة إشكاليّة أيضا كما تبين معنا سابقا للأسباب ذاتها، حيث ساهمت اشكاليتها ولم تزل تساهم كثيرا في عرقلة المشروع النهضوي، بل لنقل كذلك أنها في فهم دعاة الحاكميّة شكلت عقبة أمام محاولات التطبيق الديمقراطي في صيغه العصريّة، حيث راح بعض من يدافع عن الشورى في حالة ضبابيتها وخلافيتها وإشكاليتها التي أشرنا إليها، يعتبر مصطلح الديمقراطيّة ذاته سبّه كونه غربي المصدر، هذا إضافة إلى تكفير وزندقة من يدعو إلى الديمقراطية دون وجه حق، أو دون معرفة بالشورى والديمقراطية معا.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة

..............................

1-  راجع كتاب ابو الأعلى المودودي (مناهج الانقلاب الإسلامي) وكتاب سيد قطب (معالم في الطريق).

2-  من أقوال السلف في الشورى – موقع طريق الإسلام. ويراجع ايضاً موقع ويكيبيديا – أهل الحل والعقد. ويراجع أيضاً حول موقف رشيد رضا – موقع الجزيرة نت - السلطة السياسية في الفكر الإسلامي.

3- للاستزادة في هذه المسألة يراجع كتاب: الأحكام السلطانية -  المؤلف: الماوردي؛ علي بن محمد حبيب، أبو الحسن الماوردي - المحقق: أحمد مبارك البغدادي - الناشر: مكتبة دار ابن قتيبة – الكويت.

4- الموقع نفسه – تفسير الآية   سورة آل عمران (159) للطبري.

5- موقع المصحف الالكتروني – تفسير الآية 38 – سورة الشورى.

يرى بعض الدارسين أنَّ (النِّسويَّة Feminism) تيَّارٌ ثوريٌّ، لا تخلو بعض موجاته من تنطُّع، وانفصال عن الواقع.  وإذا وافق اعتناقه في بيئةٍ متخلِّفة، ازداد طينُه بلَّة؛ من حيث إنه آنئذٍ سيغتذي على أمراض اجتماعيَّة من التظالم، وغياب القوانين الاجتماعيَّة والذهنيَّة، والحماس العاتي لكل ما يدغدغ العواطف والغرائز، كحال أيِّ مجتمع بدائيِّ التكوين. وهكذا يمكن تشخيص الداء الأعمق والأوسع في بنية العقليَّة العَرَبيَّة التي يَهُبُّ عليها مثل هذا التيَّار.  هنالك تُدار العمليَّات في غرف العمليَّات لدَى هذا التيَّار أو ذاك، ومنها تيَّار النِّسويَّة المدَّعَى، وإنْ في وقتٍ تجاوزه الزمن إلى (ما بعد النِّسويَّة). وتلك شنشنةٌ نعرفها من أخزم؛ فالعَرَبيُّ ما ينفكُّ يستهلك الغربيَّ، وإنْ بعد انتهاء الصلاحيَّة. 

هنا قد يتساءل تاريخ الثقافات الاجتماعيَّة: أ وليست الذُّكوريَّة/ الأبويَّة في الغرب المسيحيِّ صناعةً كتابيَّةً في جذورها؟  وإنَّما جاءت النِّسويَّة هناك ردَّة فعلٍ على ثقافة بطرياركيَّة أَبويَّة، غرست في المجتمعات صورةً دونيَّةً للمرأة؟

إنَّ فكرة (الأب)، أو (الآب)، هي جوهر «العهد الجديد»، وتتردَّد فيه- بطبيعة الخطاب- في كلِّ إصحاح تقريبًا.  فلقد جُعِل ربُّ العالمين ذَكَرًا، وصُوِّر رجُلًا، ووُصِف بـ«الأب»، وزُعِم ابنُه، الذَّكَر أيضًا، مخلِّصًا وفاديًا للعالَم.  أمَّا الأُنوثة والأُنثى، فلا شأن لهما في كلِّ تلك الحكاية!  حتى إنَّك لا تَجِد في "الكتاب" ما يدلُّ على بِرِّ (يسوع) بأُمِّه (مريم)، بل تكاد لا تجد لها ذِكرًا على لسانه أصلًا.  وإنْ خاطبَها، لم يخل خطابه من التعالي عليها.  واقرأ، إنْ شِئت، خطابه إيَّاها هاهنا: "وفِيمَا هُوَ يُكَلِّمُ الجُمُوعَ، إِذَا أُمُّهُ وإِخْوَتُهُ قَدْ وَقَفُوا خَارِجًا، طَالِبِينَ أَنْ يُكَلِّمُوهُ. فَقَالَ لَهُ وَاحِدٌ: «هُوَذَا أُمُّكَ وإِخْوَتُكَ وَاقِفُونَ خَارِجًا طَالِبِينَ أَنْ يُكَلِّمُوكَ». فَأَجَابَ، وقَالَ لِلْقَائِلِ لَهُ: «مَنْ هِيَ أُمِّي؟! ومَنْ هُمْ إِخْوَتي؟!» ثُمَّ مَدَّ يَدَهُ نَحْوَ تَلاَمِيذِهِ، وقَالَ: "هَا أُمِّي وإِخْوَتي! لأَنَّ مَنْ يَصْنَعُ مَشِيئَةَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُوَ أَخِي وأُخْتِي وأُمِّي!"."(1)  وهو لا يخاطبها بـ"أُمِّي"، بل بعبارة: "يا امرأة"، في ازدراء، مثلما في هذا النَّص: "وفِي اليَوْمِ الثَّالِثِ كَانَ عُرْسٌ فِي قَانَا الجَلِيلِ، وكَانَتْ أُمُّ يَسُوعَ هُنَاكَ. ودُعِيَ أَيْضًا يَسُوعُ وتَلاَمِيذُهُ إِلَى العُرْسِ. ولَـمَّا فَرَغَتِ الخَمْرُ، قَالَتْ أُمُّ يَسُوعَ لَهُ: "لَيْسَ لَهُمْ خَمْرٌ". قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «مَا لِي ولَكِ، يَا امْرَأَةُ؟! لَمْ تَأْتِ سَاعَتِي بَعْدُ!"."(2)  وفي موضع آخَر: "فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ أُمَّهُ، والتِّلْمِيذَ الَّذِي كَانَ يُحِبُّهُ وَاقِفًا، قَالَ لأُمِّهِ: "يَا امْرَأَةُ، هُوَذَا ابْنُكِ!"."(3)  وهكذا لا تكاد تجِد صورة المرأة المحترمة، ولا الأُمِّ الموقَّرة في "الكتاب المقدَّس"، بل تجدها في «القرآن الكريم»؛ حتى لقد نَسَبَ: (عيسى بن مريم) إلى أُمِّه، وكان عيسى يعبِّر عن بِرِّه بأُمِّه، معتزًّا: ﴿وَبَرًّا بِوَالِدَتِي، وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا.﴾‏  وتلكمها، إذن، ثقافتان مختلفتان: ثقافة أَبويَّة، وثقافة أُموميَّة.

أفلا يمكن القول: إنَّ تلكم هي المنابع الدِّينيَّة لفِكرة الذُّكوريَّة والأَبويَّة في الغرب؟ 

ولم يكن ذلك كذلك في ثقافات أخرى بالضرورة، إلَّا تأثُّرًا.  صحيحٌ أنَّ الفكرة الأَبويَّة فِكرةٌ ثقافيَّة، وكان لها شيوعها في المجتمعات القديمة، غير أنَّها لم تُجعَل دِينًا، إلَّا من خلال النصوص الكتابيَّة، ممَّا استدعى هنالك الثورة عليها.  بل ربما ارتبط الدِّين في بعض الشُّعوب القديمة بالأُنوثة، وبالمرأة، وبالأُم، كما هي الحال في عقائد (وادي الرافدَين)، و(الشَّام)، وعقائد العَرَب قبل الإسلام. 

 أمَّا في العصر الحديث، فقد باتت المرأة وكأنْ ليست إلَّا غَرَضًا بائسًا للسِّهام تتناوشها من هنا وهناك، ولا بُدَّ من حمايتها بدروع بشريَّة ضدَّ سباع القبيلة وفُتَّاكها. وهذا يُعبِّر، في الواقع، ولا سيما حين يصدر عن المرأة نفسها، عن عدم ثقة المرأة بنفسها، ولا بقدراتها للدفاع الفعلي والمتحقِّق عن وجودها.  بل يدلُّ على عدم اعتراف المرأة بوجودها، بوصفها كائنًا إنسانيًّا. على أنَّ هذه الهشاشة التي تتقمَّصها المرأة، قد يُلبِسها إيَّاها من يدَّعون أنَّهم أنصارها ومهاجروها، في قلقٍ أن تَمَسَّها نسماتُ النقد أو التقييم.  تكريسًا لشخصيَّتها الضعيفة عن مواجهة الشمس والريح، ووصايةً عليها- تُلبَس مسوح الدِّفاع- من أن تتعرَّض لما يتعرَّض له كلُّ كائنٍ حيٍّ من مواجهات الحياة والأحياء. وهو ما يتناقض تمامًا مع مزاعم النِّسويَّة في مساواة المرأة بالرَّجل. ولذا كثيرًا ما يلحظ المتابع بعض الانتفاضات العاطفيَّة التي تَهُبُّ للمرافعة عن المرأة وحقوقها، وقذف الآخَرين بحجارة الذُّكوريَّة، عند أدنى مناقشةٍ لا تُرضي نزوع "الطَّبْطَبَة" والتمجيد. انتفاضات تتَّسم، غالبًا، بالتوتُّر، والانحياز، واللَّا عقلانيَّة، وربما بالتطرُّف. ولا غرابة من حدوث ذلك من تيارٍ أيديولوجيٍّ، غير واقعيٍّ، من سُنَّته- مهما كان توجُّهه- أن يمارس أنواعًا من العنف اللُّغوي، والإرهاب الفكري، ويرسم عالَـمًا من ضباب، ليواجه تطرُّفًا بتطرُّفٍ مضادٍّ، مصوِّرًا الحياة- التي طبيعتها التكامل بين المتغايرات- لا أكثر من معركةٍ أزليَّةٍ بين ذكرٍ وأنثى.  حتى بلغ ببعض منتحلي هذا التيَّار إلى حالة لا يرون فيها بين النساء والرجال إلَّا علاقة الشِّقاق، ولا يرون في حفاظ المرأة على كيان الأُسرة، إلَّا خيانة عظمى للنِّسويَّة!  فـ(هيلاري كلينتون)- على سبيل النموذج- لا يمكن أن تُعَدَّ نِسويَّة الانتماء، ونصيرةً للمرأة، بحسب هؤلاء، ما دامت قد عَفَت عمَّا اتُّهم به زوجها! بل الأنكى أنها قد دعمته، إبَّان ما وُجِّه إليه من تُهَم بعلاقاته مع أخريات، وفي المقابل دَعَمَها هو بعد ذلك سعيًا للوصول إلى سُدَّة الحُكم! لقد كان عليها- لو كان لديها دمٌ نِسويٌّ عَرَبيٌّ حامٍ، أو لو كانت "بنت حمولة"- أن تَلُمَّ أغراضها، وتترك له البيت الأبيض والأسود! أو قل: كان عليها أن تخشَّ في دوَّامة المحاكم، مطالبةً بالخُلع، ومؤخَّر الصداق، والنفقة، والعيال، ومن ثَمَّ تستولي على الشقَّة، "وكل واحد يروح لحاله"!  كما في مسلسلاتنا الواقعيَّة والتمثيليَّة.

وتبعًا لذلك فإنَّ بعض الدعاوَى النِّسويَّة هنا لا يرى بأسًا بخراب البيوت، وتدمير الأُسَر، في سبيل مبادئ جوفاء، لا تنظر إلى أبعد من تصوُّر حربٍ تاريخيَّة شعواء بين الجنسَين، كحرب داحسٍ والغبراء، وعلى المرأة الظَّفَر المؤزَّر على الطاغية: الرجُل، الذي لا أمان له، إلَّا كأن تأمن المرأة "للميَّة في الغِربال"!  كيف لا؟ وقد ظلَّ يدبِّر المؤامرة تلو المؤامرة عبر التاريخ، ويحوكها على كل الصُّعد والمستويات، لقهر المرأة وإذلالها!

هذا، وقد بلغ ببعض سفراء هذا التيَّار، على سبيل المهزلة، إلى الدعوة إلى تعدُّد الأزواج، في مقابل تعدُّد الزوجات؛ من أجل إقامة العدال والمساواة- من وجهة نظرهم- بين الطَّرَفَين! ومهما يكن الموقف من التعدُّد، أو تجريمه، وَفق بعض الأنظمة العَرَبيَّة "الحبيبة-البورقيبيَّة"، فإنَّ في الدعوة إلى التعدُّد المضادِّ تصوُّرٌ ساذجٌ مقابل: يُخيَّل إليه أنَّ التعدُّد فيه تكريمٌ للواحد وإهانةٌ للمجموع! أي أنَّ تعدُّد الزوجات إهانةٌ للمرأة بالضرورة، وتكريمٌ للرجل. على الرغم من أنَّ الأصل في الزواج أنَّه ليس امتلاكًا، ولا إقطاعًا، ولا استعبادًا، ليقال: من كان لديه أكثر فهو الأغنى والأعز. وإلَّا فلتتصوَّر، إذن، أنَّه كان على المرأة الإنفاق، وكان عليها رعاية أكثر من زوج، ماديًّا ومعنويًّا، وإنْ تُوفيتْ أنْ يرثها هؤلاء الصعاليك جميعًا!  فضلًا عمَّا لا مفرَّ لها منه- شاءت أم أبت- من الحمل، والنفاس، والإرضاع، والتربية!

والشاهد أنَّ العَرَبيَّ لا يدرس، غالبًا، قضاياه الثقافيَّة الجدليَّة واقعيًّا، ليَقبل أو يَدع، وليَبني قراراته وآرائه في ضوء نَظَرٍ مستقلٍّ نزيه، وإنَّما هو يبحث عن نموذجٍ ليُقلِّده، ويحذو حذوه، ويأتمَّ به، حتى لو دخل جُحر ضَبٍّ لدَخَلَه! لا تفاوت بيننا في هذه العقليَّة الاتِّباعيَّة، سواء أكنَّا نتَّبع الماضي، مدَّعين المحافظة والأصالة، أم تظاهرنا بأنَّنا نتَّبع السائد في مجتمعاتٍ أخرى- غربيَّةٍ بالطبع الاتِّباعي- مدَّعين الحداثة والمعاصرة.  ذلك لأنَّ العِلَّة كامنةٌ أساسًا في شخصيَّةٍ غير متحرِّرةٍ فكريًّا، ولا مستقلَّةٍ تربويًّا، عن سُلطةٍ نموذجيَّةٍ ما، تتَّخذها أناها العُليا، ما تنفكُّ تَدُبُّ على خُطاها وتحاكيها في المظهر والمسير.

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيْفي

..............................

(1)  إنجيل متى، الإصحاح 12: 46- 50.   

(2)  إنجيل يوحنا، الإصحاح 2: 1- 4. 

(3)  م.ن، الإصحاح 19: 26. 

"اذا كان الناس ملائكة، فلا حاجة للحكومة. اذا كان الملائكة يحكمون الناس، فلا حاجة للسيطرة الداخلية او الخارجية على الحكومة. في تشكيل الحكومة التي يجب ان يُدار بها ناس من قبل اناس آخرين انت يجب اولاً ان تمكّن الحكومة من السيطرة على المحكومين، ومن ثم لاحقا تلزمها للسيطرة على نفسها" (جيمس مادسون و الكسندر هاملتون، أوراق فيدرالية).

نحن قبليون في تفكيرنا السياسي والأخلاقي، نلقي نواقصنا على الآخرين. نحن نادرا ما نرقى الى مُثلنا الخاصة، ونحن عرضة للتفكير التحريضي: تقييم الدليل بطريقة منحازة للوصول الى استنتاجنا المفضل. نحن نتحاور حول ما يتعلق بدوافعنا وعقائدنا. هذا لا ينكر ان الناس يمكن ان يكونوا محبين، كرماء، مضحين بأنفسهم، ولكن لايجب ان نتجاهل الجانب المظلم من الطبيعة البشرية.

العديد من الفلاسفة السياسيين يجادلون بان المواطنين السيئين يجعلون من الدولة ضرورة. لو كنا قديسين، ستكون الدولة غير ضرورية. الناس سيكونون مواطنين جيدين لأنهم اعترفوا ان ذلك هو  الموقف الصحيح، سوف لن تكون هناك حاجة لعنف الدولة لإلزام الخير. لكننا نحتاج للدولة لحماية حقوقنا في الملكية وتصحيح الأخطاء وفرض العقود والعناية بالمرضى وكبار السن وغيرها. وهكذا فان الحاجة للدولة هي بسبب وجود الافراد الذين لايحترمون العدالة – الجريمة، السرقة، الاعتداء ليست من ثمار العدالة. وعلى الجانب الآخر، يجب ان يكون واضحا لماذا المواطنون المثاليون اخلاقيا لا يحتاجون للدولة، هم سيكونون راغبين بعمل ماهو صحيح، يساعدون بعضهم بدون خوف او استغلال. الحاجة للدولة تؤكد نواقص البشر الأخلاقية.

الوسطية الأخلاقية moral mediocrity

قد يتسائل البعض لماذا لايكون الناس أفضل أخلاقيا – أفضل طريقة لبناء سمعة اخلاقية جيدة هي ان تكون خيّراً. جزء من الجواب يأتي من علم النفس، هناك دليل تجريبي جيد باننا وسطيين اخلاقيا. الناس يسعون ليكونوا متساوين اخلاقيا مع أقرانهم، هم ليسوا سيئين ولا جيدين بذاتهم. نحن نلاحظ سلوك زملائنا ونقيس سلوكنا على ضوئهم. وفي الحقيقة الدليل على الوسطية الاخلاقية هو قوي. لنعطي مثالا، الناس يُحتمل جدا ان يقللوا استعمالهم للطاقة المنزلية اذا بيّنت الاحصاءات انهم يستعملون طاقة أكثر من جيرانهم. ممارسات مثل رمي القمامة والكذب والاحتيال الضريبي والانتحار تبدو معدية. نحن نميل لإتّباع القواعد الاخلاقية والمعتقدات بقدر ما يفعل أقراننا، لا أكثر منهم ولا أقل.

من الجدير بالملاحظة ان الدليل التجريبي للوسطية الاخلاقية ليس حاسما – ربما فقط بعض الناس سيئين أخلاقيا، بينما آخرون يُحتذى بهم . الهدف من هذه التجربة ليس إعتبار الوسطية الاخلاقية متأسسة تجريبيا، وانما لنأخذ الدليل عليها بشكل جاد، ومن ثم نستخلص المضامين. الدليل التجريبي، مع انه يمكن إثبات زيفه، لكنه يستدعي أخذ الوسطية الاخلاقية على محمل الجد وبما يكفي لتطبيقه على مسائل العدالة والحرية. لذا، من الآن فصاعدا، سنعتبر الوسطية الاخلاقية فرضية سايكولوجية حية، ونفكر حول قضايا مثل المجتمع العادل من خلال هذا المنظور.

الفوز بجائزة التقدم الاخلاقي

لتوضيح طبيعة الوسطية الأخلاقية وكيفية تطبيقها علينا، سننظر ما اذا كنا نحن انفسنا نصبح مالكي عبيد لو كانت لدينا الإمكانات المالية، ولو كنا نعيش في زمن أقل تقدما، كما في الولايات المتحدة في بداية القرن التاسع عشر. الدليل يشير بقوة، ولكن لا يثبت، اننا ربما نمتلك عبيدا لو كانت لدينا الوسائل المالية – او اننا سنتسامح مع العبودية. قبل تعلّم الوسطية الاخلاقية، من المفيد التفكير اننا لا نمتلك حاليا عبيدا لأن كل واحد منا يعترف بانه عمل خاطئ – وأفعالنا الحالية ترتكز على ذلك. مع ان هذا يمكن ان يكون توضيحا صحيحا، لكن الدليل الميداني للوسطية الاخلاقية يقترح انها عادلة لأننا جميعا منخرطون في نظام القواعد والمعتقدات الاخلاقية التي يؤمن بها اكبر نسبة من السكان، في ان امتلاك العبيد هو خاطئ. سبب انك شخصيا لا تملك عبيد الآن ليس له علاقة بسمتك الاخلاقية وانما بسبب انك تعيش في مجتمع تُستنكر فيه العبودية على نطاق واسع.

نفس الشيء ينطبق على حق الإقتراع للمرأة. لو سألنا الانسان العادي اليوم لماذا تقبل ان المراة لها حق التصويت كالرجل، هو سوف يبرر بالعدالة. ومع ان هذه اسباب جيدة لحق اقتراع عالمي للمرأة، لكنها لا توضح لماذا معظم الناس يفضلون حق اقتراع المرأة حتى لو جوبه ذلك بالرفض منذ وقت قريب. أثناء النقاش حول حق اقترع المرأة، العديد من النساء عارضن حق المرأة بالتصويت. هذا قد يبدو غريبا، لكنه كان شائع جدا. بعض النساء في ذلك الوقت لا يعتبرن حق التصويت نوع من العدالة. البعض منهن عارضن الحق فقط لأنه من الشائع في ذلك الوقت ان ترى النساء أقل مرتبة من الرجل فكريا واخلاقيا. العديد من العامة اليوم يقبلون حق اقتراع عالمي لأن غالبية أقرانهم يؤمنون بذلك. ان الأمر يعود الى موروثهم الأخلاقي وليس نتاجا لتفكير أخلاقي عميق. بالطبع، الوسطية الاخلاقية شيئا جيدا في هذه الحالة، لكن يجب ان يكون واضحا من هذه الأمثلة اننا احيانا لانستحق فضلا كبيرا لرؤانا الاخلاقية، جيدة ام سيئة – وانما نحن يجب ان ندرك ان هناك حظا لا بأس به داخل في عقائنا الاخلاقية. معتقداتنا الاخلاقية ربما كانت اسوأ او أحسن لو تربّينا او اُحيط بنا من اناس ذوي رؤى مختلفة.

لننظر قليلا ماذا يعني هذا. احد الاسباب يعني اننا مستلمون للموروث الاخلاقي. التقدم الاخلاقي الذي نأخذه كبديهية وكانت تفتقره الاجيال الماضية – وان الرجال والنساء متساوون اخلاقيا – هو شيء كوفح لأجله وفاز به من جاؤوا قبلنا. نحن كنا محظوظين بما يكفي لنرث هكذا تقدم أخلاقي – تماما مثلما بعض الناس محظوظين جدا لوراثة الثروة – ونحن يجب ان لا نأخذ ذلك كمسلمة، او نفترض خطئاً انه بدرجة ما يعكس سمتنا الأخلاقية الكاملة.

التعليم الأخلاقي

قد نعتقد ان مشكلة الوسطية الاخلاقية هي بسبب نقص التعليم الأخلاقي. ان متوسط العامة غير مدربين على التفكير العميق حول المشاكل الاخلاقية. ذلك ليس انهم ليسوا أخلاقيين، وانما هم يستعينون بزملائهم لأنهم يفيدونهم في التعامل الصعب مع العالم. هم يفتقرون للمعرفة الاخلاقية والخبرة ليروا لماذا وكيف هم يجب ان يتحدّوا احيانا المعايير الاخلاقية الشعبية. هنا قد نعتقد ان الفلاسفة الاخلاقيين ربما يساعدوننا في تحسين تفكيرنا الاخلاقي، ولهذا نحن نتوقع من فلاسفة الاخلاق المهنيين ان يكونوا أقرب الى القدوة الاخلاقية منه الى بقية الناس.

لسوء الحظ هذه ليست الطريقة التي تسير عليها الامور. السؤال حول ما اذا كان فلاسفة الاخلاق يتصرفون أفضل من بقية الناس جرت دراسته وأظهر نتائج مخيبة: "الاخلاقيون لا يبدو يتصرفون أفضل. لم نجد ولا مرة واحدة ان الاخلاقيين ككل يتصرفون افضل من جماعات اخرى من المهنيين بأي من معاييرنا الرئيسية المتفق عليها. لكن لا يبدو ايضا انهم يتصرفون بشكل سيء. معظم الأخلاقيين لا يتصرفون بشكل مختلف عن المهنيين الآخرين مثل المنطقيين، البايولوجيين، المؤرخين، معلمي اللغة الأجنبية".

Eric Schwitzgebel, A theory of Jerks, 2009.))

تبيّن من البحث ان هناك علاقة ضعيفة بين التدريب الاخلاقي والسلوك الاخلاقي، وهي علاقة لا تكفي لجعل المجتمع عادلا. مهما كان السبب، الدليل يقترح ان التعليم الاخلاقي لا يعالج مجتمع غير عادل: نحن لا نستطيع تعليم طريقتنا للمواطنين . التعليم الاخلاقي ربما ضروري، لكن غير كافي لمجتمع عادل وذلك بسبب الوسطية الاخلاقية. بينما التعليم الاخلاقي يبدو بلا أمل، لكننا ربما قادرين على تحسين سلوك الناس عبر الاستفادة من تلك الوسطية الاخلاقية.

مجتمع عادل بدون مواطنين عادلين

بعد ان استطلعنا طبيعة الوسطية الأخلاقية قليلا، سنعود الى السؤال الذي بدأنا به : هل المجتمع العادل يتطلب مواطنين عادلين؟ الجواب ببساطة "كلا". هذا قد يبدو غريبا لنا، وطالما العديد من الفلاسفة يعتقدون اننا نحتاج الى دولة لأن صفة المواطنة معيبة أخلاقيا، سيبدو اننا نحتاج الى مجتمع عادل مؤلف من مواطنين أخلاقيين، لكن هذا يعتمد جزئيا على ما نعنيه بكلمة "عادل" في هذا النقاش. لكي نتصرف بعدالة يعني ان نتصرف بطرق يقدّرها الناس. لكن، بالمعنى العميق، لكي تكون عادلا هو ان تختار ما هو عادل لأسباب عادلة. لكي تكون مواطنا عادلا هو ان تتصرف بعدالة لأسباب عادلة. ان مجرد عمل شيء صحيح لا يكفي. نحن يمكننا عمل ذلك بالحظ او بالصدفة. لو فرضنا ان زيد مخمور جدا ويشعر بالسخاء ويقرر إعطاء فاروق ما متبقي لديه من نقود في محفظته وهي عدة مئات من الدولارات. لقد تبيّن ان زيد مدين لفاروق بنفس المقدار من النقود، هو اقترض تلك النقود سلفا ولم يسددها ابدا. من الواضح ان زيد لم يعط فاروق النقود لأنه مدين له وانما لأنه مخمور ومتهور. لو كان قد أمضى وقتا مع شخص آخر، لكان أعطاه النقود ايضا. هذه ليست الحالة التي يتصرف بها زيد بعدالة، لأن أفعاله لم تتحفز بسبب عادل، وانما بسبب الظروف. لو ان زيد أعطى فاروق النقود لأنه مدين له عندئذ سيكون عادلا.

احدى الطرق لجعل الناس يتصرفون بعدالة هي ان تشجعهم للتصرف بعدالة لأسباب عادلة – وهذا يتطلب مواطنين عادلين. لكن، هناك طريقة اخرى لتمتلك مجتمعا عادلا ولكن بدون مواطنين عادلين. لو كان الناس وسطيين أخلاقيا، عندئذ يمكننا ان نستعمل تلك الوسطية لجعلهم يتصرفون أخلاقيا. اذا كان الناس يحيط بهم مواطنون آخرون يتصرفون بعدالة، هم ايضا سوف يتصرفون بعدالة – ليكونوا مثل أقرانهم. هذه وسطية اخلاقية. الناس يسعون ليكونوا جيدين اخلاقيا مثل اقرانهم.هذا يعيدنا الى نقاشنا المبكر حول الوسطية الاخلاقية. ان السعي ليكون المرء جيدا او سيئا اخلاقيا مثل أقرانه ليس بالامر السيء بالضرورة، وانما يعتمد على الاساس الاخلاقي لأقرانه. اذا احيط المرء بقديسين أخلاقيين، فان عامة الناس الوسطيين أخلاقيا سوف يتصرفون بقدسية. ليس سيئا ان تكون اخلاقيا بين قديسين.

يمكننا من حيث المبدأ امتلاك مجتمع فيه كل واحد يتصرف بعدالة – حيث لا حاجة هناك لأي شيء كالدولة – وانما الناس يقومون بذلك لأن كل شخص آخر تصرّف بعدالة ايضا. الناس سوف يحسّنون سلوكهم اذا قام أقرانهم بذلك. في التمييز بين الأفعال العادلة والناس العادلين – الاولى عادلة لأنها تتّبع خيارات صادف ان تكون عادلة، والأخيرة بسبب انهم عادلون – نحن يجب ان نستطلع كيف يمكن للمجتمع الوصول الى توازن عادل، يكون فيه متوسط المواطنين يتصرفون بعدالة لأن زملائهم المواطنين يتصرفون بعدالة ايضا.

نحن نحتاج الى توضيح هنا كيف يحصل توازن عدالة واسع في المجتمع. لنأخذ مثالا تاريخيا. بعد عقود من الحرب، وخروج عدد هائل من المحتجين ضد اللامساواة في الثروة والنقص الشديد في الطعام، شرعت حكومة بريتوريا في جنوب افريقيا إصلاحات واسعة خلقت عبر عدة عقود تحولا نحو مجتمع أكثر عدالة – حيث ادّى ترافق الثروة الجيدة مع تصميم للسياسة الى ضمان نجاح الاصلاحات. هذا انتج جيلا جديدا عُرف بجيل العدالة.

أجيال العدالة هم آباء جيدون وأجداد وجدات ومواطنون جيدون يمتثلون لقوانين ومعتقدات عادلة و يوفون ديونهم ولا يخدعون ولا يسرقون ولا يميّزون ضد زملائهم المواطنين وهم يكونون عنيفين فقط في حالة الدفاع عن انفسهم او عن الأبرياء، وفقط عند الضرورة حين تكون الإجراءات السلمية غير مفيدة او مستنفذة. جيل العدالة يبشّر بمجتمع عادل فيه يتوقع المواطنون من بعضهم البعض ان يعيشوا حياة أخلاقية يُحتذى بها وهذا ينتج مستوى أخلاقيا عاليا للجيل القادم.

نحن نتوقع ان تستمر الأجيال بنقل المعتقدات والعادات والانظمة القانونية لجيل العدالة، والمواطنون سيستمرون للتصرف بعدالة، حتى لو كان ذلك بسبب انهم يسايرون التيار الاخلاقي. هم جيدون لأن هذا أسهل لهم من ان يكونوا سيئين. هنا نجد حالة لمجتمع عادل بدون مواطنين عادلين – ربما من الصعب النجاح، لكن مع ذلك يمكن تحقيقه.

كانط حول الوسطية الاخلاقية

كما رأينا، الوسطية الاخلاقية ذاتها ليست جيدة او سيئة أخلاقيا. الكثير من الامور تعتمد على الأساس الاخلاقي للجماعة ذات الشأن. اذا كان أفراد الجماعة أقرب الى الملائكة، فان الوسطية الاخلاقية ستكون ممتازة. من جهة اخرى، الوسطية الاخلاقية في المجتمعات ذات السلطوية الدينية تكون مروعة. انت قد تتسائل ما الذي يمكن ان يكون سيئا من الناحية الاخلاقية في كونك متواضع أخلاقيا اذا كان الجميع يتصرفون بطريقة صحيحة. ما مشكلة الوسطية الاخلاقية بين الملائكة؟ احدى المشاكل ربما ان الوسطية الاخلاقية هي متطفلة على الآخر. الافراد الذين هم وسطيون أخلاقيا هم فقط لأنهم يمتثلون للممارسات الأخلاقية لجماعتهم. من وجهة النظر الاخلاقية، هناك شيء ما مفقود، اذا امتثل الافراد للمعتقدات الاخلاقية لمن حولهم (والتي ربما تكون جيدة)، هم لا يأخذون دورا نشطا في خلق حياتهم الاخلاقية. هذا سيكون تخلّي عن استقلاليتنا الاخلاقية الى الآخرين.

النتائج والافعال ليست الشيء الوحيد الذي يهم أخلاقيا، بل ان أسباب الفعل تهم ايضا.

الفيلسوف الألماني عمانوئيل كانط له موقف مشابه. الأفعال تكون لها قيمة أخلاقية فقط اذا كنا نتصرف انطلاقاً من الواجب، وليس فقط بطريقة منسجمة مع الواجب (نحن ربما نعمل الأخير بالصدفة). من المهم ان نزن أفعال بديلة لنقرر قيمتها الاخلاقية فقط على أساس نتائجها – ما اذا كانت تنتج اذى اكثر من الخير. هناك صنف من نظريات أخلاقية تسمى الذرائعية consequentialism التي تقول ان المكانة الاخلاقية للفعل تتقرر بنتائجه. لكن لحظة تفكير تكشف انه عندما نقيّم الناس الاخلاقيين على أفعالهم، نحن نهتم في النية ايضا. نحن نحكم على عمار لسياقته وهو مخمور حتى لو كان يسوق مخموراً باستمرار بدون ارتكاب حادث. أفعاله حتى لو كانت غير مؤذية تكشف عدم احترامه للإخرين. هو لم يكن له فضل في عدم وجود عواقب سيئة حتى تلك اللحظة، هو فقط كان محظوظا.

يؤمن كانط بانناعندما نقيّم مكانة الأفعال الاخلاقية، يجب ان نميز بين التصرف طبقا للقانون الاخلاقي والتصرف انطلاقا من الواجب. افعالنا هي جيدة جزئيا بسبب اننا نسعى لما هو جيد اخلاقيا. عندما نقيّم أفعالنا، نحن يجب ان نهتم او نفكر لماذا تصرّفنا بتلك الطريقة. نحن لا يجب ان نحصل على تقدير على محصلة جيدة اذا كانت عرضية لفعلنا، نحن لا نحصل على تقدير على الحظ.

الرسالة هنا هو ان التصرف المنسجم مع الواجب هو غير كاف للامتياز الأخلاقي. نحن عادة نتصرف بطرق منسجمة مع الواجبات الاخلاقية ولكن عرضيا. فمثلا، معظم الناس لايسرقون الحلوى من المحل، ليس بسبب ان السرقة خاطئة، وانما لأسباب عملية. مثلا من السهل شراء الحلوى لأن التعامل مع الشرطة امر غير سار، الإمساك بنا يسبب إحراجاً لنا . رؤية كانط هي ان المرء يجب ان يحصل على تقدير لعمل شيء صحيح اذا تصرّف انطلاقا من الواجب وليس نتاجا عرضيا لنوايا عادية او خبيثة. عندما نتصرف نتيجة لدوافع أخلاقية، فان دوافعنا تكون متفقة مع الواجب الاخلاقي، دوافع تسعى الى الخير الأخلاقي وليس فقط الى ملاقاته بالصدفة. وهذه في الاساس هي المشكلة الاخلاقية في الوسطية الاخلاقية، انها جرى تحفيزها بطريقة خاطئة.

***

حاتم حميد محسن

....................

Jimmy Alfonse Licon: Does a Just society require just citizens?

Jimmy,Alfons استاذ الفلسفة في جامعة ولاية اريزونا الامريكية 

تعريف معنى مفردة العقل خارج مفهومي بيولوجيا العلم وخارج تعريف تاريخ الفلسفة الكلاسيكي انتهاء بتعريف ديكارت ان العقل ماهيتة تفكيرفهم العالم في إثبات الوجود الانطولوجي الفردي. والعقل والنفس جوهران خالدان.

كما وتعريفنا للعقل خارج اقرار ديفيد هيوم وجلبرت رايل ان لاوجود لما يسمى العقل ابدا . والعقل مصطلح وهمي غير حقيقي حسب فلسفتهم. هنا المقصود بالعقل الوهمي  هو العقل الفلسفي الذي ورد بتعريف ديكارت انه جوهر تجريدي لغوي يعبّر عن الاشياء خالدا خلود النفس ولا يقصد ديكارت بهذا التعريف العقل البيولوجي التابع للمخ والدماغ بل يقصد خطاب العقل المجرد او اللوغوس في تعبير اللغة عن الفكر والاشياء.

اقول العقل هو الفاعلية التي تدير الحياة بكل تنوعاتها المختلفة في اللاتجانس والاختلاف والتنوع الذي ينحو بحياة الانسان نحو التشتت والانهيار والفوضى العشوائية في المسارات المختلفة منها التقدم.

والحياة في مسارها التاريخي لا تخضع لضرورة ولا لحتمية ولا لمسار متصاعد خطي لوصولها نحو هدف مرسوم مسبقا دوما. العقل جوهر وجود الانسان في تمايزه عن جميع الكائنات بالطبيعة الذي يعايشها  بتخارج معرفي ويفكر في موجودات وظواهر العالم الخارجي بنفس قلقه التفكير في ميتافيزيقا الوجود عن مصيره النهائي.

اما تعريفنا الحياة خارج واقعية المألوف انها الفترة العمرية التي نحياها بكل اشكالياتها وصعوباتها واحزانها وكوارثها. بخلاف هذا التعريف هي الاتجاه اللامنظور غير الواقعي اليومي ولا المدرك العياني الذي يأخذ الانسان نحو قطع مسافة عمرية لا تعرف نتائجها ولا هي من صنع الانسان الذي ينتظره الموت والفناء. الحياة هي البداية البطيئة في التقدم نحو الموت في سيرورة غير ذاتية محكومة بالفناء.

ان من المهم التذكير ان الطبيعة لا تصنع حياة الانسان والكائنات الاخرى بوعي ذاتي انفصالي منها بل تصنع حياة الانسان في تكامل متخارج معها. الطبيعة معطى ازلي لا يتحرك بقواه الذاتية الواعية والانسان ارادة تحريكها، القوانين الطبيعية التي تحكم الطبية بثبات لا تعيها الطبيعة ولا تعمل بارادة الانسان. اما الحياة فهي المجرى النهري الذي يسير على غير هدى قاطعا طريقه بغير دراية منه ولا هدف مقصود، والانسان قارب يتلاطم وسط امواج ذلك النهر يصارع من اجل النجاة والبقاء. الطبيعة خلقت حياة الانسان بقوانينها الفطرية من دون وعي قصدي يحكمها. ولم يخلق الانسان الطبيعة فكلاهما معطى انثروبولوجي - بيولوجي. والطبيعة ثابتة بقوانينها وما عدا تلك القوانين الحاكمة فالطبيعة قابلة للتغيير والتطور وقطع مسافات الاهداف التقدمية في استغلال الانسان لها.

اما المصطلح الثالث من عنونة هذا المقال في تعريفنا الفلسفة فهي المنطق القريب من صرامة الرياضيات. المنطق الخاص الذي تحتويه ميتافيزيقا الخيال المنفصل عن الواقع المادي للحياة في تعبير تجريد اللغة عن العالم والاشياء. الفلسفة فهم وتفسير العالم لا تغييره واثارة الاسئلة الغريبة عنه فهي تعيش الى جانب الحياة في توازي يجعل منهما نسقين مختلفين غير متقاطعين.. الفلسفة توازي الحياة بسلبية ليس كمثل ملازمة الطبيعة للحياة في علاقتها الايجابية التي لا غنى للانسان عنها. الطبيعة كانت ولا تزال المرضعة لوليدها الانسان.

كيركجورد والوضوح الفلسفي

 ورد في مذكرات كيركجورد التي كتبها عام 1835 " ما احتاج اليه حقا ان اكون واضحا حول ما يجب ان اعمل وليس حول ما يجب ان اعرف الا بقدر ما يجب ان تسبق المعرفة كل فعل... الشيء الاساس ان اجد الحقيقة التي هي لي، ان اجد الفكرة التي لاجلها ارغب ان اعيش واموت "1

نجد في عبارة كيركجورد:

- الوضوح حول ما يجب فعله وليس ما يجب معرفته.

- المعرفة لا تسبق الفعل دوما، اذ انت لا تحتاج المعرفة دوما قبل الفعل حسب تعبيره الا في استثناءات قليلة.

- البحث عن حقيقة وجود الانسان لماذا يحيا ولماذا يموت؟.

الوضوح حول ما يجب فعله معناه ان تكون متوفرا على موضوع ناضج مكتمل في ذهنك يحتاج التنفيذ العملي فقط. اما ان المعرفة لا تسبق الفعل فهو توكيد ورد في عبارة كيركجورد انه غير حادث على الدوام ويعتريه استثناء هام. اراد كيركجورد إعتماد تراتيبية معرفية تتراجع فيها نظرية المعرفة امام اسبقية تنفيذ الفعل الذي تحكمه الارادة. ملغيا بذلك المقولة التداولية الفلسفية ان النظرية المعرفية تسبق على الدوام بالضرورة كل فعل. وهي فلسفة مثالية لامادية ليست كافية لتفسير الوجود.

لقد اراد كيركجورد القيام بالعمل قبل المعرفة عنه وهو التباس خاطيء تداركه كيركجورد نفسه قوله باستثناء مقدار ما يجب ان تسبق المعرفة كل فعل. بمعنى يوجد استثناءات في مقولته هو ان الفعل لا يتم قبل اسبقية المعرفة عنه دائما.

اما مقولة كيركجورد بحثه عن حقيقة وجوده هو لماذا يحيا الانسان ولماذا يموت؟ فهو بذلك وضع اللبنة الاساسية للفلسفة الوجودية. التي من العبث الفلسفي البحث في واقعية حل مشكلة ميتافيزيقية هي لا زالت تشغل اذهان العالم وتفكيرهم. لا العلم ولا الدين ولا الفلسفة وجد جوابا شافيا لهذا اللغز الوجودي العظيم.المشكلة لماذا خلقنا ولماذا نموت لا تنتهي بايجاد حل وهمي يهم خلاص الفرد تاركا المجموع يغرقهم الطوفان  اذا ما كان ثمة خلاص للفرد دون بقاء مجتمعه اساسا..

الحياة لا تدخل في جدل ديالكتيكي مع الطبيعة على صعيد الكليّة في إنعدام التجانسية غير الموجودة بينهما. الجدل هو تضاد المتجانسات في ظروف معينة. بل يكون الجدل بين الطبيعة والحياة التي نعيشها من نوع التكامل المعرفي التخارجي بدل الجدل بمفهومه الاصطراعي في التضاد على صعيد المكونات المادية التي تحكمهما.

الطبيعة بقوانينها الثابتة التي تحكمها هي كليّة متكاملة ناجزة مكتفية تماما بذاتها في منظومة الوجود. لا تجد الطبيعة في مكوناتها المادية ما هو قابل للنفي والاندثار نتيجة صراع جدلي افتراضي مع الحياة كوحدة تاريخية متطورة في سيرورة دائمة لها القابلية على دخول اي معترك تضاد يلغي منها او يضيف لها في مقابل نفي جانب الصراع المتضاد معها.

كان ولا يزال انثروبولوجيا تطور الحياة وعلاقتها بالطبيعة نوع من التكامل المعرفي الذي يستبطنه الجدل الذي يجمع منحى حياتي او اكثر من حيث التكوين المادي مع منحى طبيعي تجمعهما مجانسة التضاد التطوري..

***

علي محمد اليوسف

..........................

الهوامش:

1. دكتور زكريا ابراهيم /دراسات في الفلسفة المعاصرة ص 118

ما الذي يتبادر الى الذهن عندما ننظر الى السماء في ليلة صافية؟ هل النجوم المتلألئة على بعد عدة ترليونات من الأميال، والتي يسافر ضوئها بسرعة 186 ألف ميل بالثانية ويأخذ عدة سنوات ليصلنا، يجعلنا نشعر بالرهبة؟ ام بالفضول ام بالإلهام ؟ ام ان هذا الحجم الهائل والغامض للكون يجعلنا نشعر بالضآلة وعدم القيمة وان حياتنا بلا معنى؟

الفيلسوف الامريكي روبرت نوزك Robert Nozick (1938-2002) يرى ان عظمة الطبيعة الهائلة هي التي تجعلنا نشعر بالارتباط الهادف. في عمله لعام 1989 (الحياة المختبرة) يذكر: " من المريح للروح ان نرى أنفسنا جزءاً من عمليات الطبيعة الواسعة والمستمرة. (لنتذكر، على سبيل المثال، ان الوقوف بجانب المحيط، ونحن نشاهد ونستمع لهدير الأمواج الواحدة بعد الاخرى واللامتناهية، يجعلنا ندرك ضخامة المحيط). حين نرى أنفسنا جزءا صغيرا من عملية واسعة، ذلك يجعل موتنا ليس مهما جدا، بل وغير باعث للقلق. عندما تندمج هويتنا ضمن شمولية العمليات الهائلة واللامتناهية للوجود الممتدة عبر الزمن، سنجد ان أهميتنا هي في كوننا جزءاً من تلك الشمولية الكبيرة، وان موتنا ليس الاّ شيئا عابراً ليست له أهمية كبيرة".

عندما نوسّع رؤيتنا ونفكر بحياتنا من منظور الأبدية، فان قلقنا اليومي وهمومنا الكثيرة تفقد الكثير من زخمها، وستتعمق أهمية الوجود. ان التقلبات اليومية في المزاج هي مجرد قطرة، وان موجات محيطات الوجود كانت ولاتزال تتدافع منذ بلايين السنين. نحن جزء من شيء ما أكبر – شيء سيستمر طويلا بعد موتنا.

لكن هل الدور الذي نلعبه مهم؟

ان اضافة هذا النوع من المنظور الى حياتنا، مع انه يزيل القلق من حياتنا اليومية لكنه ايضا يجعلنا نشعر بالضآلة. لكن في النهاية، سواء معنا او بدوننا، سوف تستمر المحيطات بأمواجها، والكواكب ستستمر في دورانها، والنجوم ستتشكل وتشع بضوئها. السؤال هو كيف نشعر بالإرتياح من العمليات المحيرة والهائلة التي تحكم وجودنا، اذا كانت الأدوار التي نلعبها في ذلك الوجود باهتة ولا لزوم لها؟ لكن الفيلسوف نوزك يريد الدفاع في هذا الموقف. "لو انت سلبت من ضخامة الوجود كل شيء غير ضروري وقابل للاستبدال، فان الوجود الناقص المتبقي لن يكون باعثا للدهشة". ويستمر بالقول "كلية الوجود وعملياته المستمرة هي مدهشة جزئيا بسبب ضخامتها وفائضها الكبير، وكذلك بالنسبة لوجودنا، حيث ان وجود اشياء مثل نوعنا، هو جزء مميّز وثمين للوجود. وجودنا هذا يخضع لنفس القوانين العلمية والمادة الفيزيائية النهائية التي تشكل كل بقية الطبيعة، وبذلك نحن جزء ممثل للطبيعة".

يقول نوزك، من خلال رؤية أنفسنا جزءا من الطبيعة، عبر توصيف أنفسنا ككون، وعدم رؤيتنا للكون كوجود منفصل، باعتبار نحن صُنعنا بالضبط من نفس اللبنات الاساسية التي صُنعت منها النجوم، نحن في نفس الوقت نخفف من القلق المؤقت للإيغو (الأنا) ونعمّق أهمية وجودنا. نحن لسنا منفصلين عن الطبيعة وانما تعبير عنها، نحن الكلية.

الكون ليس منفصلا عنا، الكون هو نحن

موقف نوزك يذكّر بالفيلسوف الكبير باروخ سبينوزا . في عمله (الأخلاق)، 1677، يجادل سبينوزا ليس دفاعا عن إله مجسّم وانما هو يقترح ان الطبيعة ذاتها هي الله. وكتعبير عن الطبيعة، نحن نشترك بهذه الإلوهية. هذا المنظور له مضامين عميقة كما تشير الفيلسوفة البلجيكية المعاصرة هيلين كروز Helen De Cruz في مقال أخير لها عن فلسفة سبينوزا: "حالما تدرك انك تعبير عن كل الطبيعة، سوف تدرك رغم انك تموت، فانت ايضا أبدي بالمعنى الهادف".

يستمر نوزك بالقول، ان الإستيعاب الحقيقي لحقيقة اننا جزء من العملية، يجب ان يجعلنا نشعر بالقرابة من كل ما موجود:

"انا أرى الناس ينحدرون من سلسلة طويلة من أسلاف الانسان والحيوان بقطار لا نهائي من الأحداث العشوائية واللقاءات العرضية وعمليات الإستيلاء الوحشية والهروب الناجح والجهود المتواصلة والهجرة والنجاة من الحروب والأوبئة. سلسلة معقدة وغير محتملة من الأحداث كانت مطلوبة لخلق كل واحد منا، تاريخ هائل يعطي كل شخص قدسية الخشب الأحمر(المقدس لدى سكان امريكا الاصليين) ، يعطي لكل طفل عفوية السر. انه امتياز لنا لنكون جزءا من العالم المستمر للعمليات و الاشياء.

عندما نرى ونتصور أنفسنا جزءا من تلك العمليات المستمرة، نحن نتماهى مع الكلية، وفي الهدوء الذي يجلبه هذا الموقف، نشعر بالتضامن مع كل رفاقنا في الوجود. وجودنا القصير قد يبدو عشوائيا او معزولا او غير هام، لكن فرادته تساهم نحو الكلية العظيمة للطبيعة. عبر عيشنا بأحسن ما نستطيع، طبقا لنوزك "نضيف سمتنا الخاصة للعمليات الأبدية للواقع".

عندما ننظر لاحقا في سماء ليلة صافية نتأمل بمكاننا في الكلية من خلال إدراكنا الحقيقي باننا نستمر ونرتبط بكل ما موجود – فان أي مشاعر سابقة لعدم الارتباط او اللامعنى ستزول وتتبدد في المحيط الهائل للهواء الذي فوقنا.

***

حاتم حميد محسن

العنف، هو تعبير عن قوة سلبيّة تصدر ضد النفس، أو ضد أي شخص أو جماعة بصورة متعمدة، لإرغام من يمارس عليه العنف على الرضوخ أو إتيان أفعال تنسجم ورغبة مُمَارِسِ العنف. ويستخدم العنف في جميع أنحاء العالم كأداة للتأثير على الآخرين عبر وسائل مختلفة من الكلمة إلى الطلقة، وهو تاريخيّ. كما أنه يعتبر من الأمور التي تحظى باهتمام القانون والثقافة، حيث يسعى كلاهما إلى قمع ظاهرة العنف ومنع تفشيها. ومن الممكن أن يتخذ العنف صورًا كثيرة، من استخدام الضرب بين شخصين بداية، الذي قد يسفر عن إيذاء بدنيّ لأحد الطرفين أو كلاهما، وانتهاءً بالحرب والإبادة الجماعيّة التي يموت فيها ملايين الأفراد. وللعنف أشكال عديدة تتجلى في الإيذاء البدنيّ، والنفسيّ، والجنسيّ، وغير ذلك.

على العموم،  لقد أمسى العنف خبزًا يوميًّا للإنسان المعاصر يمارسه أو يمارس عليه من قبل الآخر في كل مسامات حياته، الأمر الذي يجعلنا نتساءل: هل أصبح هذا العنف جزءاً من الطبيعة الإنسانيّة للحياة اليوميّة المباشرة، وبالتالي هل هو مكتسب؟. أم هو فطرة كامنة في الأصول الغريزيّة للإنسان؟.  لقد تضاربت الآراءُ حول أصول العنف، بين القائلين بغريزيّة العنف وبين القائلين بأنه صفة مكتسبة. ومع ذلك نستطيع تقسيم العنف إلى قسمين من حيث الجوهر هما:

آ‌. العنف الإيجابيّ: ويشترك فيه الإنسان والحيوان؛ وهو عنف غريزيّ يهدف إلى الحفاظ على النوع الإنساني من خلال مواجهة الأخطار المحتملة التي تواجه وجود الإنسان، ربما في بدايته هيمنت عليه شريعة الغاب، ولكن في تاريخنا المعاصر يُشرع له ويقره القانون الوطنيّ والدوليّ .

ب‌. العنف السلبيّ: وهو عنف يختص به الجنس البشري؛ وتندرج فيه الساديّة وحبُّ الموت والتدمير. وهذا النوع من العنف مكتسب حتمًا، إذ من الممكن إثارته، والتأثير عليه، سلبًا أو إيجابًا، بواسطة العوامل الثقافيّة والسياسيّة، ويعتبر هذا العنف محرماً في كل الشرائع الدينيّة والوضعيّة ويحاسب عليه القانون.(1).

الأسباب العامة للعنف السلبيّ

لاشك أن للعنف السلبيّ أسباب كثيرة تكمن وراء تمظهره وتعدد أشكاله، منها ما هو أسري،  يتجلى داخل الأسرة وبين أفرادها، بصور مختلفة منها الضرب والشتم والتحقير، مما يؤثر سلباً على شخصيات هذه الأسرة التي يمارس فيها العنف. أو يمارس اجتماعيّاً بشكل عام، نتيجة للشعور بالنقص عند ممارسته لقلة الإمكانيات الماديّة والاجتماعيّة لديه، فيبدأ بمقارنة نفسه بالآخرين باحثاً عن طريق للفت الأنظار وحب الظهور. أو تكمن وراءه عوامل اقتصاديّة، كانتشار البطالة بين الشباب. فما نلاحظه من الإعداد الكبيرة لخريجي الجامعات الذين لا يجدون عملاً أو وظيفةً، سيكون لها التأثير الكبير في ممارسة هذا العنف. أو قد يعود لمرجعيات عصبيّة أو دينيّة أو قبليّة، وهي من أكبر الأسباب التي أودت بشبابنا إلى ممارسة هذا العنف الذي نراهم فيه، وخاصة ما تجلى في ثورات الربيع العربيّ من عنف وعنف مضاد في بعض الدول العربيّة التي تحولت فيها هذه الثورات إلى حروب أهليّة معبرة عن بروز النزق والجاهليّة والحميّة فيها. أو قد يظهر العنف لأسباب ودوافع سياسيّة، لأن السياسة لا مبدأ لها، فقد يشتغل الساسة الحكام لمصلحة فرد أو جماعة أو حزب أو مؤسسة على حساب طرف آخر وهو المجتمع. أو يقوم العنف لأسباب أيديولوجيّة بشقيها الدينيّ والوضعيّ، ويأتي هذا العنف نتيجة للتمسك غير العقلانيّ بمفاهيم غير قابلة للتطبيق على الواقع، أو لضعف في فهم جوهر هذه الأيديولوجيّة، إن كانت دينيّة أو وضعيّة، وهذا من ضمن الأسباب التي تدفع الشباب إلى ممارسة العنف لتطبيق ما يعتقدون به من أفكار، كما هو الحال عند الجماعات المتطرفة التي تتخذ من العنف وسيلة للتعبير عن أفكارها وآرائها. ولدينا أيضاً الأسباب الثقافيّة التي تؤدي إلى ممارسة العنف، فالثقافة التي ينشرها الإعلام الموجه، أو دور العبادة والدعاة... الخ لعبت دوراً كبيراً في مسح عقول الأطفال والشباب، وكذلك الإعلام الذي لا يبث برامج توعية عقلانيّة تنمي لدى الفرد والشباب عموماً روح المبادرة والتفكير والإبداع، ناهيك عن الأفلام، والمسلسلات والبرامج ذات التوجه الاستهلاكيّ من الحياة التي لا تعطي القيم النبيلة، ولا تحث على غرس الفضيلة والنزاهة، وكذلك دور قنوات الوعظ الديني التي ترتكز على قيم السلف وعدم النظر في قضايا الواقع ومشاكله، وبالتالي التركيز على النقل وترك العقل، أو التمسك بثقافة الفم على حساب ثقافة القلم. وهذا موضوع بحثنا.

الأصول الثقافية للعنف:

يعتبر «العنف الثقافيّ» من أخطر وسائل تغذية العنف وممارسته من قبل الإنسان ضد أخيه الإنسان، على اعتبار أن الثقافة في هذا الاتجاه هي من تقوم بتشكيل وعي الإنسان وتوجيهه، بل هي الأكثر قدرة على خلق أو فرض حالة من اللاوعي التي تتجلى تداعياتها متى ما تحققت الأهداف المرجوة من تسويقها أو ترويجها، والمتمثلة غالباً في نشر الكثير من القضايا التي تنهش عقليّة المفكرين والمثقفين حاملي هذه الثقافة على وجه التحديد، الذين يقومون بدورهم بتصديرها للمتلقي بوسائل وطرق مختلفة، غالباً ما تلعب فيها السياسة والدين الدور الكبير. ولا شك في أن المجتمع الذي ينضوي تحت ظاهرة العنف الثقافيّ يتخذ أفراده مفاهيم معادية تجاه الآخر تتجلى على شكل عنف معنويّ أو ماديّ ومن أهمها، التشكيك بالآخر المختلف واتهامه بالانحراف عن القيم التي يسوق لها حامل هذا المشروع الثقافيّ سياسيّاً كان أم دينيّاً ، مما يوقع الحالة الثقافيّة في مأزق القوقعة الاجتماعيّة أو الأدلجة التي تنحو نحو إقصاء المختلف، وهذا بدوره ما يودي بالتالي  إلى حالة من القلق وفقدان التوازن  تعتري الفرد أو الكتلة الاجتماعيّة وتسيطر على هويتها الثقافيّة، بل وفقدان حالة الإبداع، والحؤول دون القدرة على تحقيق الوحدة الاجتماعيّة، أو المواطنة في التعبير السياسي.(2).

التأصيل الثقافي للعنف.. الدين أنموذجا:

تعتبر الأسطورة أساس الثقافات قاطبة، وأن ما ميَّز الشعوب بالنسبة لموقفها من تراثها هو محاولتها أسطرة هذا التراث، أي منحه القداسة. وكلُّ ثقافة من ثقافات الشعوب قامتْ أساساً على التميُّز والفرادة والقداسة، ستنحصر مهمة العقل الفرديّ والجمعيّ، وبالأخص النخبويّ لأي شعب أو أمّة، في التأويل وخلق مفاهيم مزيفة عن النحن، الأمر الذي سيشلُّ القدرة على فهم ليس الماضي فحسب، بل والواقع المعيوش، سواء ارتدى هذا الواقع المعيوش لبوسًا سلفيًّا أو  ليبراليًّا أو ماركسيًّا أو غير ذلك. وفي ثقافة الشعوب الرائجة لا يُقَدَّمُ التراث كبنية حضاريّة لها سياقها التاريخيّ الذي تتقدم فيه وتنمو. لذلك نجد الشعوب تعيش حالات من الجهل في معرفة بنية تراثها الجوهريّة وبنية تراث الشعوب الأخرى، أي  جهلاً بحركة المعرفة البشريّة.

إن تاريخ الثقافة الرائجة، هو نسخة رديئة عن الماضي.  فالحاضر مشغول بالماضي، أما المستقبل فهو أسير لحاضر مفوَّت حضاريّاً. إنه موقف فصاميّ من واقع مزدوج – والفصام، هو أحد أسس ثقافة العنف. وعلى هذا الأساس نتج وعيٌ شقيّ ينوس بين ماضٍ يمتلك الفرد والمجتمع يصعب تجاوزه إيجابيًّا، وبين مستقبل لم يؤسِّس له، ولا تستطيع الشعوب القفز إليه، لذلك فهذه الشعوب تعيش وعياً رغائبيّاً، يلتف كثيراً على المتغيرات التي تصيب المجتمع غير القادر على فهمها والتعامل معها بعقلانيّة، والتي قد يكون هو طرف فاعل فيها، وعلى هذا الموقف اللاواعي من الأحداث، يقوم الكثير من  القيمين على إدارة المجتمع والدولة أو حتى المعارضين لها بإنتاج حلول دفاعيّة غالباً ما تحتمي بالتراث بشكل عام، والديني منه بشكل خاص. أو بتعبير آخر، وعي غير مطابق للواقع، ينتج عنه أيضًا خطابٌ سياسيّ مبني على إملاءات مسبقة قوميّة كانت أو دينيّة أو طبقيّة لدى معظم التيارات الفكريّة والسياسيّة ونخبها المعنية بشأن إدارة الدولة والمجتمع. (3).

على العموم يظل العنف المتكئ على التراث الثقافيّ الفكريّ الأيديولوجيّ، وخاصة الديني منه هو العنف الأكثر انتشاراً بين الشعوب، والأكثر قسوة وتدميراً عبر التاريخ. وخاصة العنف الدينيّ المسيس والممنهج، الناتج عن ردود أفعال قائمة على التعاليم الدينيّة بشكل عام والمذهبيّة بشكل خاص، وهي تعاليم مشبعة بالنصوص المقدسة المفسرة والمؤولة من قبل حاملها الاجتماعي وفقاً لمصالح هذا الحامل، وهي نصوص لا يأتيها الباطل من أيّة جهة كانت، وغير قابلة للتعديل أو النقد أو حتى المراجعة. وهذا الأنموذج من العنف يوجه من قبل حوامله ضد المؤسسات الدينيّة المختلفة، والأشخاص المختلفين، والمجتمعات المختلفة، لينال في سياق ممارسته البشر والحجر والشجر، وخاصة عندما تكون دوافع العنف هنا ترتكز عند ممارس العنف على هدف أو مبدأ غايته الوصول إلى فرض ما يحمله ممارس العنف من قناعات أو رؤى أو مبادئ على الآخر المختلف. هذا ويعد العنف الدينيّ عمليّة ثقافيّة معقدة للغاية، وغالباً ما يستثمر الدين من قبل السلطات الحاكمة والقوى الاجتماعيّة المحكومة معا.

إن من يقرأ الكتب المقدسة للديانات الابراهيميّة على سبيل المثال، سيجد أنها جميعاً تحتوي على العديد من المقاطع التي تتخذ في سياقها العام منهجاً ومنحنى عنيفاً تجاه المختلف حتى داخل هذه الديانات ذاتها، أو تجاه بعضها،

ويظهر العنف في الكتب المقدسة، في القصص، أو الأشعار أو أوامر الرّب، ضد فئات اجتماعية تخالف التعاليم الدينيّة لحامل هذا الدين أو ذاك، وقد يظهر العنف على شكل حروب أو قتل أو اغتصاب أو الرجم أو انتهاكات جنسية أو استرقاق أو عقوبات جنائية عنيفة، أو تدمير مدن وقرى بالكامل.

العنف في التوراة

تعتبر التوراة من أكثر الكتب المقدسة تضميناً للعنف والحض عليه تجاه المختلف دينيّاُ. فكلمة «حماس» (Hamas) تعني بالعبريّة (العنف أو الظلم). ولقد استخدم مصطلح العنف لأول مرة في سفر التكوين 6:11: ﴿وَفَسَدَتِ الْأَرْضُ أَمَامَ اللَّهِ، وامتلأت الأَرْضُ ظُلْمًا.﴾. وغالباً ما تُستخدم لوصف العنف الجسديّ (مثل التكوين 49:5، والقضاة 9:24). وفي بعض الأحيان تشير إلى الشر الشديد (إشعياء 53:8، 59:6)، وقد تشير إلى العنف اللفظيّ أو الأخلاقيّ، وفي بعض الأحيان يُفسّر كصرخة إلى الله في وجه الظلم (إرميا. 6:7).

أما العنف في الأسفار، فقد جاء في سفر العدد. حيث يذكر السفر قصة رجم الرجل الذي عمل في يوم السبت، إذ أمر الرب أن يتم رجمه، ﴿فَأَخْرَجَهُ كُلُّ الْجَمَاعَةِ إِلَى خَارِجِ الْمَحَلَّةِ وَرَجَمُوهُ بِحِجَارَةٍ، فَمَاتَ كَمَا أَمَرَ الرَّبُّ مُوسَى﴾ (العدد 15:36).

أما العدد:31 فيعتبر أكثر الاصحاحات الجدليّة في السفر، والتي تحض على القتل وسبي النساء والأطفال وحرق المدن كما جرى في حرب مؤاب. ومن هذه النصوص: ﴿وَسَبَى بَنُو إِسْرَائِيلَ نِسَاءَ مِدْيَانَ وَأَطْفَالَهُمْ، وَنَهَبُوا جَمِيعَ بَهَائِمِهِمْ، وَجَمِيعَ مَوَاشِيهِمْ وَكُلَّ أَمْلَاكِهِمْ. وَأَحْرَقُوا جَمِيعَ مُدُنِهِمْ بِمَسَاكِنِهِمْ، وَجَمِيعَ حُصُونِهِمْ بِالنَّارِ. العدد 31: 10-11﴾. وكما تحتوى على الأمر بقتل الأطفال الأسرى وبعض النساء: ﴿فَالآنَ اقْتُلُوا كُلَّ ذَكَرٍ مِنَ الأَطْفَالِ. وَكُلَّ امْرَأَةٍ عَرَفَتْ رَجُلاً بِمُضَاجَعَةِ ذَكَرٍ اقْتُلُوهَا. لكِنْ جَمِيعُ الأَطْفَالِ مِنَ النِّسَاءِ اللَّوَاتِي لَمْ يَعْرِفْنَ مُضَاجَعَةَ ذَكَرٍ أَبْقُوهُنَّ لَكُمْ حَيَّاتٍ. العدد 31: 17-18﴾.

وفي سفر يشوع: يظهر الأمر بالعنف مرة أخرى في معركة أريحا. حيث أمر يشوع بحرق كل ما في المدينة بما فيها من رجل وامرأة وطفل وشيخ حتى البقر والغنم ما عدا راحاب الزانيّة حسب نص يشوع 6، ﴿وَحَرَّمُوا كُلَّ مَا فِي الْمَدِينَةِ مِنْ رَجُل وَٱمْرَأَةٍ، مِنْ طِفْل وَشَيْخٍ، حَتَّى الْبَقَرَ وَالْغَنَمَ وَالْحَمِيرَ بِحَدِّ السَّيْفِ﴾، ﴿وَأَحْرَقُوا الْمَدِينَةَ بِالنَّارِ مَعَ كُلِّ مَا بِهَا، إِنَّمَا الْفِضَّةُ وَالذَّهَبُ وَآنِيَةُ النُّحَاسِ وَٱلْحَدِيدِ جَعَلُوهَا فِي خِزَانَةِ بَيْتِ الرَّبِّ.﴾. وبعد أن ينتصر بنو إسرائيل يتم حرق مدينة أريحا بأكملها ومقتل جميع سكانها.

العنف في العهد الجديد

لا شك أن الأناجيل هي أقل الكتب المقدسة احتواءً للعنف، حيث ترد أقوال للسيد المسيح توحي بالدعوة للعنف مثل نص متى 10: 34 ﴿لَا تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لِأُلْقِيَ سَلَامًا عَلَى الْأَرْضِ. مَا جِئْتُ لِأُلْقِيَ سَلَامًا بَلْ سَيْفًا﴾. وهناك دعوة السيد المسيح لتطهير الهيكل. التي تُعتبر عملاً عنفيّاً مباشراً من قِبل السيد المسيح. (حين وجد المسيح الوضع على هذه الشاكلة، طرد من ساحة الهيكل جميع الذين كانوا يبيعون ويشترون، وقلب موائد الصيارفة وباعة الحمام، ولم يدع أحدًا يمرّ عبر الهيكل وهو يحمل متاعًا، واستشهد بسفريّ أشعياء وأرميا معلنا: "مكتوب أن بيتي بيتًا للصلاة يدعى، أما أنتم فقد جعلتموه مغارة لصوص".). (4).

ولكن ثمة أقوال أخرى ليسوع تعارض وتنبذ العنف، مؤكدة على طبيعة التسامح التي حملها السيد المسيح للبشريّة، مثل (إدارة الخد الآخر) رافضاً فكرة الانتقام أو العين بالعين حيث قال يسوع في موعظته على الجبل (متى 5:38–40): ﴿سمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: عَيْنٌ بِعَيْنٍ وَسِنٌّ بِسِنٍّ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لَا تُقَاوِمُوا ٱلشِّرِّيرَ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ ٱلْأَيْمَنِ، فَأَدِرْ لَهُ ٱلْآخَرَ أَيْضًا. وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُحَاكِمَكَ وَيَأْخُذَ قَمِيصَكَ، فَٱتْرُكْ لَهُ رِدَاءَكَ أَيْضًا.﴾ بالإضافة لدعوة يسوع إلى المحبة والإحسان تجاه الأعداء (متى 5:44): ﴿وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لَاعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لِأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ،﴾ وتعد هذه الآية عند بعض الباحثين في المعتقد المسيحيّ من القضايا الجوهريّة أو المركزيّة للأخلاق المسيحية، حيث يذكر الباحث اللاهوتي "أولريش لوتز" أن الأفكار التي تنقلها هذه الآية هي ما يفصل المسيحية عن جميع الأديان التي سبقتها. (5)

أما ما مورس من عنف تجاه المختلف باسم المعتقدات المسيحية فيما بعد برأيي، فقد كان للسياسة وتوظيف الكنيسة خدمة لها، الدور الكبير فيما سميّ بالحروب الدينيّة تجاه أصحاب الديانات الأخرى ومنها الإسلامية واليهوديّة، كما جرى لليهود في مدينة "اللوار" الفرنسيّة من قبل الحملات الصليبيّة المتجهة نحو الشرق، أو للعرب في بلاد سوريّة أثناء الحروب الصليبيّة. وكذا الحال بالنسبة لأصحاب المذاهب المسيحية بين بعضهم، كما جرى في الحروب الدينيّة داخل أوربا.

الإسلام والعنف:

يحتوي القرآن على آيات عديدة نزلت في أزمنة مختلفة من حياة الرسول وخاصة الآيات المدنيّة، وتحت ظروف مختلفة، تتحدث عن الحرب والجهاد وأحكامه. وأصبحت تعاليم المذاهب الإسلاميّة المتعلقة بأمور الحرب والجهاد والسلام، مواضيع نقاش ساخن في السنوات الأخيرة. أي مع ظهور القاعدة وفصائلها، وما قامت به من أعمال عنف منذ الحادي عشر من ايلول 2003 حيث راح المهتمون بالشأن الدينيّ بشكل خاص والثقافيّ بشكل عام، يشتغلون على ما يتعلق بآيات السيف، وآيات السلام".

إن المشكلة الأساس في فهم النص تفسيراً وتأويلا، جاءت من قبل الفقهاء الذين أخذوا بظاهر النص وتركوا خصوص السبب، وبالتالي هذا ما سمح للقوى السياسيّة الجهاديّة ممن يدعون إلى الحاكميّة ماضياً وحاضراً، أن يعتبروا الجهاد فرض عين على كل مسلم ومسلمة، وراحوا ينسخون الآيات على هواهم، حيث اعتبروا الآية الخامسة من سورة التوبة (آية السيف) قد نسخت خمسئة آية من الآيات المكيات التي تدعوا إلى التسامح والرحمة والعفو وحرية الرأي: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد).

هذا وقد اعتبرت هذه الآية من أكثر الآيات إشكاليّة في فهم فلسفة الجهاد من منظور الشرع الإسلاميّ، وهي كذلك تعد الآية المؤسسة لمقولات العنف التي يتبناها ما بات يعرف بالتيار السلفيّ الجهاديّ الذي يقود حربا ضارية ضد النظم الحاكمة الوضعيّة في العالمين العربيّ والإسلاميّ وكذلك ضد العالم الغربي و أميركيا.

ومن الضرورة بمكان أن نشير هنا أيضاً، إلى أن هناك كثيراً ً من الأحاديث (الأحاد) التي تحض على الجهاد في سبيل الله والإسلام، كحديث الرسول: (أتسمعون يا معشرَ قريشٍ ! أما والَّذي نفسُ محمَّدٍ بيدِه ؛ لقد جئتُكم بالذَّبحِ..). (عن عبد الله بن عمر. المحدث الألباني . صحيح الموارد). وعن ابن عمر أيضاً: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((بُعِثْتُ بين يَدَيِ السَّاعة بالسَّيف، حتى يُعبَدَ اللهُ وحدَه لا شريك له، وجُعِلَ رِزْقي تحت ظلِّ رُمْحي، وجُعِلَ الذَّلُّ والصَّغار على مَنْ خالَف أمري، ومَنْ تَشَبَّهَ بقومٍ فهو منهم). وهناك خمسون حديثاً تحض على القتال). (6). ولكن في القرآن كما في الحديث ما هو متشابه، ويدعو إلى السلم والتسامح والعفو وعدم التعدي على الاخرين.. وغير ذلك

مقارنة العنف في القرآن مع العنف في التوراة:

لا شك إن العنف الدمويّ في القرآن أقل بكثيرٍ من دمويّة كتاب (التوراة)؛ إذ تدعو التعليمات الصريحة الواضحة في العهد القديم إلى الحرب، باعتبارها حربَ إبادة جماعيَّة، في حين أن القرآن لا يدعو إلى الحرب، وإذا اضطرَّته الظروف إليها، فهي لا تكون إلا حربًا دفاعيّة كما جاء في قوله تعالى : ((لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [الممتحنة: 8]. وقوله تعالى كذلك ((فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ).[البقرة:194]،

أما بالنسبة للإرهاب "الإسلامويّ" فهو بحكم التعريف، يعني الأعمال الإرهابيّة التي ترتكبها جماعات إسلاميّة أو أفراد يعلنون دوافع عنفهم إسلامويّاً، أي هي تحمل أهدافاً إسلاميّة سياسيّة. وعادة ما يعتمد ممارسوا العنف باسم الإسلام على تفسيرات معينة من القرآن والأحاديث النبويّة، لتبرير ممارساتهم العنيفة بما في ذلك القتل الجماعيّ والإبادة الجماعيّة والعبوديّة. وفي العقود الأخيرة، وقعت حوادث عنف إسلامويّ على نطاق عالميّ، ليس فقط في الدول ذات الأغلبيّة المسلمة في أفريقيا وآسيا، ولكن أيضا في الخارج، في أوروبا و روسيا، والولايات المتحدة، ومثل هذه الهجمات استهدفت المسلمين وغير المسلمين. وفي عدد من المناطق ذات الأغلبيّة المسلمة التي تعرضت لأسوأ أعمال عنف إسلامويّ،

ملاك القول في هذا الاتجاه: يمكننا القول بأن العنف باسم الدين قد مورس سابقاً ولم يزل يمارس حتى اليوم، وقد ذكرنا بعض تجلياته في التاريخ القديم أعلاه، ونستطيع اضافة بعض تجلياته على مستوى الديانات الابراهيميّة الثلاثة قديماً وحديثاً أيضاً، حيث أن دوافع العنف في أمريكا من قبل الأمريكان ضد الزنوج، أو جرائم العنف في كوسوفو، أو جرائم العنف في سجن "أبو غريب" في العراق، أو جرائم العنف المتبادل في فلسطين منذ مئة عام حتى اليوم، أو جرائم داعش وعنفها في سورية والعراق وغيرها من المناطق العربيّة والدوليّة.. الخ، ما هي إلا تجليات عنف اتخذ معظمها من الدين منطلقاً أو تبريراً لها، بغض النظر عن الأسباب العميقة لقيامها، عرقيّة كانت أو سياسيّة توسعيّة وغير ذلك.

يبقى أن نشير هنا إلى مسألة أخرى لها الدور الكبير أيضاً في التأصيل الثقافي للعنف، وهي مسألة الأيديولوجيات الوضعيّة التي تبنتها القوى السياسيّة الفاشيّة والنازية والأنظمة الشموليّة. فها هي الفاشيّة والنازيّة كانتا وراء قيام الحرب العالميّة الثانية تحت مظلات الأيديولوجيا القوميّة والمجال الحيويّ والنقاء العرقيّ وغير ذلك، حيث مورس فيها كل أشكال العنف والتدمير الذي نال العديد من دول وشعوب العالم، كما لا ننسى أيديولوجيات الأنظمة الشموليّة التي مارست العنف على شعوبها تحت مظلة أيديولوجيات قوميّة أو اشتراكية أو حتى دينيّة وغير ذلك.

***

د. عدنان عويّد - كاتب وباحث من سوريّة

.........................

1- سمير التقي - الديموقراطية وحقوق الإنسان في مواجهة ثقافة العنف – موقع newsabach).

2- طاهر الزارعي. السبت 20 اغسطس 2016. مصطلح «العنف الثقافي- الجزيرة نت».

3- طاهر الزارعي. السبت 20 اغسطس 2016. مصطلح «العنف الثقافي- الجزيرة نت».

4- الوكيبيديا . العنف في العهد القديم.

5-  العنف في العهد الجديد - الويكيبديا.

6- موقع أنا مسلم – الإسلام ديننا ومحمد نبينا. https://www.facebook.com/rafaaliwaaalhak/posts/469277299822714/)

اختار طه عبد الرحمن "السنة"، كما رسمت تاريخيا في فضاء الملة، إطارا معرفيا لمشروعه الخطابي، وهي الأداة التي اعتمدت في تكريس صيغة للإسلام تأسست بعد التجربة النبوية المؤسسة؛ وهي الصيغة التي اصطلح عليها في السردية التراثية ب “السلفية"، واعتمد طه تحديدا على آخر الصيغ التي صيغت بها، والتي عرضها الشاطبي في كتابيه: الاعتصام، والموافقات.

احتلت قراءة الشاطبي، التي حاول الارتقاء ب “السلفية" إلى مستوى "نظرية" بعنوان "مقاصد الشريعة"، موقع الإطار المعرفي الموجه لأعمال طه عبد الرحمن؛ أعماله النظرية والجدلية والاعتراضية والتأسيسية، ويعود ذلك في رأينا إلى الأسباب التالية:

1-لأن الشاطبي وظف معارف عصره والموروثة عن الماضي، لخدمة السلفية وتكريسها صيغة وحيدة ممكنة للإسلام.

2-لأن الشاطبي تجاوز بالسلفية عتبة العداء للصوفية؛ وهو العداء الذي ولد في عصر النشأة لكل منهما، بما هما جزء من التيارات والمذاهب التي أطرها الخلاف والاختلاف، والذي تجسد في البداية في الصراع والخلاف بين اهل الحديث وأهل الزهد. وأنجز الشاطبي ذلك، بعدما انضوى أهل الزهد والتصوف في إطار "السنة".

3-لأن الشاطبي أنجز قراءة دمج فيها بين جميع مكونات "السنة" كما استقرت تاريخيا في ثلاثة، وهي: الأشعرية، وأهل الفقه والأصول، والحديث، والصوفية.

4-لأنه ركز على البعد العربي "للشريعة"، وأسس عليه قراءته و"نظريته"؛ وهو البعد الذي اقتبسه من الشافعي معترفا أنه هو أول من نبه عليه يقول: "والذي نبه على هذا المأخذ في المسألة هو الشافعي الإمام في رسالته الموضوعة في أصول الفقه، وكثير ممن أتى بعده لم يأخذ هذا المأخذ فيجب التنبيه لذلك" (الموافقات ج 2، ص49) (وانظر تديين، 88)، وهو ما يفسر في رأينا عبارة طه: "الإسلامي العربي"، التي يستعملها في كتاباته.

ولذلك احتفى طه بالشاطبي وأعجب بقراءته أيما اعجاب، فعرضها في كتاب: "تجديد المنهج في قراءة التراث" كأفضل نموذج لما يسميه "القراءة التكاملية" للتراث في مقابل "القراءة التجزيئية"، التي يصف بها قراءة مخالفيه. واشتغل في ابراز ذلك التكامل، الذي يسميه بالتداخل، على دمج الشاطبي أصول الفقه بالتصوف، والذي يسميه طه ب “علم الأخلاق". فهذا الدمج، في نظره، هو الدليل على تكامل معارف التراث ونظمها المعرفية. (ص: 92، تجديد)

وجد طه في مقولة "مقاصد الشريعة" بوصفها آخر صيغة كما سبقت الإشارة إليه، ضالته؛ إذ تجاوزت الصراع المزمن بين الصوفية والسلفية في زمن النشأة، والذي عملت الحركات "الأصولية"، خاصة ذات التوجه الوهابي منها، بعثه من تحت رماد التاريخ؛ فالشاطبي سلفي، ولا يستطيع أحد من الحركات الأصولية أن يشكك في ذلك، وهو ما يعني أن الصوفية تحظى "بالمشروعية" السنية والسلفية من أحد أكبر علمائها. وتتناول هذه المقالة، ما يدلل على تأطير قراءة الشاطبي "المقاصدية" لفكر طه عبد الرحمن، من خلال أمثلة ونماذج تتعلق بالمفاهيم، والقضايا والتصورات، والمواقف والأحكام.

الروح التي تؤطر أعمال طه، والتي صاغها الشاطبي بلغة واضحة تعبر عنها مفاهيم: "معهود العرب الأميين"، "الأمية: أمية الشريعة وأمية أمة الشريعة"، "غاية الإنسان في الوجود والحياة هي التعبد"، لكن طه صرفها بأسلوب غير مباشر وبالتقسيط في مواضع مختلفة من كتبه.

يؤسس طه قراءته التراثية على التسليم؛ بمعنى انه يرى ان "التراث" جميعه مسلمة ترتقي عن النقد والمراجعة وإعادة النظر، فهو في نظره غني قيميا ومعرفيا ولغة، ولهذا تغيب في خطابه التراثي لغة النقد، ما عدا في جزئية وحيدة تتعلق بتصنيف المعرفة التراثية "الأخلاق" ضمن مرتبة "الكماليات". (تجديد، 111)

يحق للرجل، مثل غيره، بناء رؤيته الوجودية بما تأتى له فكريا ومعرفيا وسلوكيا، وهو امكان لم يتح له لولا اطلاعه الواسع على المعرفة الحديثة التي لا يطمئن إليها كثيرا، مثله في هذا الموقف مثل الشاطبي، فكلاهما عضم معارف عصره ثم وظفها في غير ما وضعت له؛ بل لخدمة نقيضها وهو التقليد. لكن ما لا يحق له هو أن يتخذ رؤيته معيارا وحيدا للصواب والخطأ، والصحة والفساد؛ بل سعيه إلى تعميمها نموذجا وحيدا ممكنا للبشرية يقدم لها الحلول، وينقدها مما يسميه "آفات"، و"بؤس"، و"شرود"، و"مروق" و"تسييس".

ويبدو أن محاولة تعميم النموذج الصوفي الطرقي، او ما يسميه "العمل التزكوي"، يرجع إلى تأثره ب “العمل الحركي الأصولي"، او إلى السعي على المنافسة معه في دعوى "الشمولية" للدين، والتي بنى عليها ايديولوجيته السياسية؛ أو بتعبير طه نفسه، ناقدا، "تسييس الدين". وكم سيكون جميلا؛ لو أن الأستاذ طه عرض رؤيته تلك خلاصة لتجربته الفردية، تعبر عن نفسها بنفسها، كما عرض العرفانيون تجاربهم المعنوية الكبيرة التي عرفها التاريخ من كل الثقافات.

لكن بدل ذلك عرضها الرجل كدعوى؛ بل في إطار "دعوة" تزعم لنفسها وتدعي على غيرها، مما حولها في النهاية إلى أيديولوجيا، خاضت وتخوض في الاجتماع والسياسة، كما في العلم والمعرفة، وفي الفكر والفلسفة، وفي العقيدة والدين، مدعيا لها التفوق على هذه الأنماط من الفكر ونماذج الحياة التي تقترحها على الإنسان؛ بل القدرة على تقديم الحلول لأزماتها ومشاكلها، وتقويم ما يرى أنه سقيم فيها. فعلى سبيل المثال ركز في نقده واعتراضه على القول بضرورة "فصل الدين عن السياسة"، فادعى في إطار طرحه الصوفي الطرقي الوحدة بينهما؛ بل ذهب إلى أن الأصل هو ما يسميه "التدبير التعبدي"، لكنه انتهى عمليا، بعدما صنف كل أشكال التدبير السياسي المدني، بما فيها الديمقراطية ضمن الأنظمة التسلطية، انتهى إلى الدعوة إلى تقاسم السلطة بين الزوايا ورجل السلطة، تنفرد الأولى ب "تدبير" المجتمع والأفراد، ويختص الثاني بتدبير الدولة. يقول بعدما أكد أن الزوايا، التي يسميها "الحيزات بلا دولة" أنها لا تشكل خطرا على الدولة، ولا تسعى إلى تغيير الحكام؛ بل لا يلحق الدولة من وجود الحيزات "إلا مزيد قوة (...) لأنها تنمي الرأسمال الروحي والخلقي للمجتمع" (،306 روح الدين)، ولأنها: "بمنزلة الرئة التي تزودها بنقي الهواء الذي يجدد دورتها التدبيرية". (311، روح) وخلص إلى أن دور الزاوية، التي يدعو الدولة إلى: "أن تفسح المجال لبروز مثل هذه الفضاءات الروحية والخلقية" (306) ينحصر في تهيئ المجتمع: "حتى يستطيع أن يمد الدولة بالطاقات التي تجدد تدبيرها (....) بإحياء روح الإزعاج في الأفراد" (314، روح)

أخذ طه الجهاز المفاهيمي للشاطبي، ووظفه في بكثافة في كتبه؛ ويأتي في طليعتها مفهوم "المقاصد"، الذي يتبوأ موقع الأساس لغيره من المفاهيم؛ مثل الضروريات والحاجيات والتحسينيات، والمقاصد الأصلية، والمقاصد التبيعة، والغايات والوسائل، والغرض، والحفظ (...). فهو يرى: "أن مفهوم المقصد هو مدار التداخل الداخلي عند الشاطبي" (98، تجديد). وبعدما قرر أن جميع مشتقات "المقاصد"، وهي المقصودات، والقصود، والمقاصد، انها تدور على أوصاف "أخلاقية ظاهرة وخفية". (99 تجديد) ارتقى بالمفهوم إلى مرتبة المقوم"" لما يسميه "العقل المسدد"؛ أي العقل الفقهي الذي هو أعلى درجة من العقل المجرد عنده. يقول: "فالعقل المسدد هو إذن العقل الذي اهتدى إلى معرفة المقاصد النافعة". 71، سؤال)

وحصر؛ مثل الشاطبي تماما، مفهوم "المقاصد" في الرسم أو الحكم الديني. يقول بعدما أشار إلى ما يعرض له من اللبس: "حتى صار عند البعض دالا على المنفعة المادية الصرف، والتحقيق أن الأصل في المصلحة الخلق"، ويقصد بالخلق الحكم الديني. يقول: "ان الحكم الشرعي أقوم من غيره أخلاقا"، وقيمته تتحقق: "مع الوقوف على صور الأعمال ورسوم الطاعات". (102، 104، 107 على التوالي، تجديد)

فالرسوم الدينية: "يكون تحصيلها مقصودا لذاته؛ إذ يعامل كل خلق منها على أنه غاية في ذاته، بغض النظر عما يترتب عليه من مصلحة في العالم المرئي". (401، روح)

وهو نفس قرره الشاطبي فالمصلحة التي حدد بها المقاصد، ليست ما يعبره العقل مصلحة. يقول: "ولا يلزم على هذا اعتبار كل مصلحة موافقة لقصد الشارع أو مخالفة وهو باطل لأنا نقول لابد من اعتبار الموافقة لقصد الشارع؛ لأن المصالح إنما اعتبرت مصالح من حيث وضعها الشارع". (الموافقات، ج 1، صن 22)

أخذ طه بالقاعدة التي أسس عليها الشاطبي مشروعه المقاصدي، ممثلة فيما سماه "معهود العرب الأميين"، الذي فصلت على مقاسه، كما يرى، جميع تعاليم الإسلام فاتسمت بسماته وعلى رأسها صفة "الأمية". يقول الشاطبي: "لابد في فهم الشريعة من اتباع معهود العرب الأميين...99)؛ أخذها الرجل فصرفها في كتبه بالتقسيط وبأساليب مختلفة وغير مباشرة، خلافا لما فعله الشاطبي الذي اعتمد الأسلوب الصريح.

يتجلى ذلك في جملة أمور منها تفضيل الخطاب الطبيعي على الصناعي، والانتصار للأعمال الفقهية لكل من الغزالي، وابن حزم، وابن تيمية، التي نزعت "الصنعة الفلسفية" عن الفلسفة اليونانية المترجمة، وصياغتها بالغة العامية كما يقول ابن حزم، كما أورد طه، في سياق الاحتفاء بهذا الصنيع. يقول: "وبإيجاز لقد حرص ابن حزم أشد الحرص أن يورد معانيه كما يقول: “بألفاظ سهلة بسيطة يستوي إن شاء الله في فهمها العامي والخاصي، والعالم والجاهل".(تجديد، 336)

ومنها نقد الحد المنطقي الأرسطي، وتفضيل الحد بالرسم أو المثال عليه. يقول الشاطبي عنه: "معرفة المطلوب قد يكون له طريق تقريبي يليق بالجمهور، وقد يكون له طريق لا يليق بالجمهور وإن فرض تحقيقا. فأما الأول فهو المطلوب المنبه عليه، وعلى هذا وقع البيان في الشريعة (...) وهي عادة العرب، والشريعة عربية، فلا يليق بها إلا البيان الأمي. وأما الثاني؛ وهو ما لا يليق بالجمهور، فعدم مناسبته للجمهور أخرجه عن اعتبار الشرع له".  وبنى على ذلك فقال إن التصور في الحد "رمي في عماية". (الموافقات 1، 31- 32)

ويقول طه مؤكدا ومرددا عبارة الشاطبي تقريبا: "الأصل في الأقوال الدينية أن تكون حمالة لوجوه، وذلك لأنها لم ترد بلغة تقنية (...) وإنما وردت بلغة الجمهور". (روح، 74-75) ويؤكده أيضا تنويهه بعمل ابن تيمية في تفضيل حد التمثيل والرسم أو الاسم على الحد الأرسطي الذي يسميه بالشمولي. (تجديد، 360) ومنها دعوته إلى عدم الأخذ: "بكل مناهج العقل ونتائج العلم التي جاء بها النمط المعرفي الحديث". (سؤال، 92)

يستهلك موقف الشاطبي في منع كل علم لم يكن معهودا لدى العرب؛ تحت عنوان "ما ليس تحته عمل"، وتناوله هو تحت عنوان المقولة السلفية القديمة "العلم النافع"، ويحدده بأنه: "هو ما كان باعثا على العمل"؛ أي العمل الديني. (سؤال، 97) ومن هذه المعارف علم المستقبليات الذي يقوم على التنبؤ، فيعترض عليه بدعوى أن التنبؤ كلام في الغيب. يقول: "إن الكلام عن ظهر الغيب هو زيادة في السلطان(القدرة) مشبوهة" فليزم صرفه؛ بل صرف: "كل علم يكون في الزيادة فيه احتمال خروجه على الضرر، لا يجوز أن يعد من العلوم المقبولة". (تجديد، 134-141)

وإذا كان الشاطبي اتخذ "معهود العرب الأميين"، معيارا لتحديد المقبول والمرفوض من العلوم في الحياة الإسلامية، فإن طه عبد الرحمن اتخذ مجال التداول، وهو إعادة انتاج لمعهود الشاطبي بأسلوب مختلف، معيارا: "يحمل كل ما يرد من ألوان الثقافة ومظاهر الحضارة على التبدل بحسب مقتضياته التواصلية والتفاعلية"؛ فمجال التداول يجب أن: "يمارس عليها توجيهه". (تجديد، 250)

وفي سياق هذا التوجيه والتبديل، الذي يسميه ـاصيلا وتقريبا، قرر بأن العلوم: "مثل العلوم الرياضية والإعلامية والطبيعية والكيميائية والبيولوجية (...) أيا كانت، ينبغي أن تخدم الحقيقة الشرعية الإسلامية". (سؤال، 189) ونظيره عند الشاطبي ورد في سياق موقفه من البحث في العلوم النظرية؛ إذ يرى: "أنه شغل عما ينبغي من أمر التكليف، الذي طوقه المكلف بما لا ينبغي"، وادعى أنها علوم لا تفيد المسلم حتى في: "تدبير رزقه". يقول حتى: "وإن فرض أن فيه فائدة في الدنيا، فمن شرط كونها فائدة شهادة الشرع لها بذلك". (الموافقات، 1، 26، وأنظر تديين، 24)

ولا يكتفي الرجل بذلك؛ بل يدعو إلى اخراج المسلمين اليوم من عصرهم الروحي، بمنجزاته القيمية والفكرية والمعرفية، عن طريق “التطهير". يقول: "لما ترسب فينا من المعلومات المنقطعة عن القيم الأخلاقية والمعاني الغيبية تحت تأثير النمط المعرفي الحديث، كانت مهمة التخلق المؤيد أن نقوم ب "تجديد التربية" لمداركنا حتى تطهرنا من هذه الطبقات المعرفية المترسبة". لماذا؟ يقول لأن: "النمط المعرفي الحديث غير مناسب إن لم يكن غير صالح للتوسل به في بناء معرفة إسلامية حقيقية". (سؤال، 110-111) ويبدو أن هذا الموقف هو تصريف لموقف الشاطبي حول العلوم غير المعهودة لدى العرب ومنها علم الطب الذي يقول عنه: "فقد كان في العرب منه شيء لا على ما عند الأوائل؛ بل مأخوذ من تجارب الأميين غير مبني على علوم الطبيعة (...) وعلى ذلك المساق جاء في الشريعة". الموافقات، 2، 54، وتديين، 97)

ومثلما نسب الشاطبي "التشابه في النص" إلى القارئ (الموافقات، ج 2، 19)، ينسب طه مشكل "تعارض النصوص" إلى القارئ أيضا وليس إلى النص نفسه. (روح الدين، 76)، ويرى ان السعي إلى تطوير وتحسين الخلقة، اتهاما لفعل الخلق الإلهي بالنقص. (بؤس، 89)، فقد قرر الشاطبي قبله أن العمل على "تحسين ما قبح من الخلقة" ممنوع.

وبخصوص المواقف، التي يبدو أنه لا يتسع المقام لمقاربتها، والتي تجد أفضل مصادقها في نقد طه عبد الرحمن للجابري، نكتفي بطرح السؤال هل كان نقده له موضوعيا؟ بما تقتضيه من اظهار ما هو إيجابي قبل ما هو سلبي. ويبقى ما قدمته في المقالة مجرد أمثلة يمكن استقصاء الكثير منها تتصل بالسلفية القديمة التي يمثلها أهل الحديث، وابن تيمية وتلميذه ابن القيم، إضافة إلى الشاطبي.

***

حسن العلوي - كاتب مغربي

1. التراكم الفلسفي ليس تراكما عموديا نوعيا بل شانه مثل باقي التراكمات في ضروب الادب والثقافة والفنون تراكما افقيا نوعيا لا يلغي لاحقه كما في العلوم سابقه. وكل اجتهاد فلسفي يحاول التجديد يكون عابرا للزمن والتاريخ بنفس وقت انه فرشة استقبال كل محاولة بالمجاوزة غير المحكومة لا بالتراكم العمودي ولا بالتخطئة الكليّة لما سبق قوله عبر تاريخ الفلسفة الطويل.

2. محدودية المتناهي لا تتم بمعيارية القياس بالمطلق اللامتناهي بل محدودية المتناهي تقاس بمحدودية متناهية تجانسها النوع. لناخذ مثلا اشكالية محدودية الزمن اللامتناهي الخاطئة من حيث معيارية مقايستنا الزمن الارضي في حياتنا بالمطلق اللامتناهي الكوني للزمن. م فالزمن مطلق لانهائي سرمدي غير قابل للادراك في افتراضية محدوديته الخاطئة. نحن اذا اردنا تمرير امكانيتنا تحديد الزمن بمحددات يدركها العقل اديا نصبح امام استحالة يعجزها العقل لسببين الاول لا يمكننا ادراك ماهو غير مادي عقليا الا في حال ان يكون موضوع الادراك هو من تخليقات الخيال التفكيري. السبب الثاني ان المحدود المتناهي الذي يدركه العقل ماديا هو الذي تكون صفاته الخارجية – والماهوية تحتويها الابعاد الفيزيائية الحسية الطول والعرض والارتفاع والزمن.

تحديد محددات المتناهي يكون بمحدود متناهي من نوعه وهذا بالنسبة لمثالنا حول الزمن يكون استحالة يعجزها العقل من حيث الزمن واحد لا يتجزا ولا يقبل القسمة على نفسه زد على ذلك الزمن مفهوما وليس موجودا موضوعا للادراك. بمعنى اننا لا نستطيع ادراك محدودية الزمن الا بمحدودية زمنية اخرى تجانسه الماهية وهو عجز لا يدركه عقل الانسان في محدوديته امام عجزه ادراك اللامتناهي المطلق للزمن.

من جهة اخرى من الصعب علينا تمرير اننا ندرك محدودية الزمن الارضي بدلالة حركة الاجسام داخله بتوقيت الساعة. لماذا؟ لان الزمن دلالة حركية لجسم متحرك زمنيا لكنه اي الزمن ليس بحركة تقوم الساعة بقياس مقدارها. الخطا الاكبر من هذا ان نقول ان (محدودية) الزمن الارضي الافتراضية الخاطئة مستمدة من علاقتها بمطلق الزمن الكوني اللانهائي وذلك لوجود مطلق زمني واحد سرمدي لانهائي يحكم بالاستيعاب جميع كواكب ومجرات وسدم الفضاء الكوني. والزمن مطلق لا متناهي واحد لا يقبل التجزئة ولا يقبل الانقسام. اخيرا اشير الى احدث النظريات الفلسفية التي قام بها ثلاثة من الفلاسفة الاميركان تاليفهم كتابا ان الزمن وهم لا دلائل حقيقية تثبت غير ذلك وبدوري اؤيد هذه النظرية الفلسفية.

3. من اخطاء هيجل الفلسفية القاتلة مقولته الساذجة: ان الجدل الديالكتيكي الحاصل بالمادة والواقع والتاريخ هو انعكاس لطبيعة العقل الجدلية الفطرية. اي ان جدل العقل تملي على الواقع والطبيعة والتاريخ جدلها الخاص بكل منها.

خطا هذه المقولة الهيجلية اجملها بالتالي:

- طبيعة العقل الجدلية بالفطرة خرافة لا صحة لها ولا يوجد عقل مبرمج جدليا بالفطرة البايولوجية. فالعقل لايعمل بجانب واحد فقط من جوانب علاقة العقل بالانسان والطبيعة والحياة. وليس كل معارف الانسان يكتسبها من طبيعة العقل الجدلية فهناك العديد بما لا يمكننا حصره من المعارف التي يكتسبها الانسان بغير وسيلة الاحتكام للديالكتيك الجدلي.

-  العقل لا قدرة له على تخليق ظاهرة الجدل الديالكتيكي في المادة والتاريخ .ارادة الانسان العقلية الجدلية ناتجة بعديا بعد حصول الظاهرة الجدلية بالواقع والتاريخ. بمعنى جدل العقل انعكاس مستمد من جدل الواقع وليس العكس كما ذهب له هيجل.

- الديالكتيك في المادة والتاريخ لا سلطان لارادة الانسان عليها وتخليقها. اذ يمكننا اعتبار الجدل الديالكتيكي في حال حدوثه احد القوانين الطبيعية التي تعمل بمعزل عن ارادة الانسان. الجدل محكوم بشروط موضوعية تجعل من تفكير العقل المنهجي جدليا يتماهى مع الجدل الحاصل بالواقع. ربما تكون لارادة الانسان دورا في تسريع الجدل كعامل مساعد محدود خاصة على صعيد الجدل الطبقي الحاصل بالتطورالانثروبولوجي وحركة التاريخ.

- هيجل مثاليته الجدلية التي حصر حدوثها بالفكر قبل المادة والتاريخ لانه لم يكن يؤمن حصول جدل بالمادة والتاريخ قبل حصولها داخل طبيعة العقل الجدلية الكفيل بتخليق جدل نظري تجريدي على صعيد الفكر. وهذا اثار حفيظة ماركس وجملة من الفلاسفة اليساريين الذين انشقوا عن هيجل وهاجموه بضراوة.

- لي رأي شخصي يلزمني ولا يلزم غيري به أنه لا يمكننا اليوم القطع أن الجدل التاريخي المادي هو الذي قاد تطور حركة التاريخ الخطي الى امام الذي تخللته طفرات نوعية في وصوله الى حتميات ضرورية على انها انثروبولوجيا امينة صادقة في تفسيرها حركة التاريخ التطورية.

4. هكذا فهمت الوعي:

 ليس الوعي علاقة جدلية في تخارجها التموضعي مع الوقائع والعالم الخارجي مصدره الذهن. بل الوعي مصدر تخليقه العقل. لذا يكون الوعي ناتجا عقليا يتوسط بين (مقولات) العقل الثابتة الاثنتي عشر كما اجملها كانط مع المدركات في العالم الخارجي والطبيعة والحياة والخيال ايضا من اجل فهمها بضوء ما يقوله العقل بشانها. الوعي ليس ادراكا حسيّا تجريديا تنقله الحواس بل الوعي هو رد فعل العقل التفسيري لما يرده عن منظومة الاعصاب من مواضيع يراد البت بها واعادتها ثانية بتوسيط الوعي بها وفهمها وتفسيرها.

الادراك الحسي الاولي هو من خصائص الحواس نقلها الانطباعات وليس الافكار. وكل حلقات منظومة مباحث الفلسفة ومواضيعها هي شكل من الوعي التجريدي التي ينقل لها مقولات العقل في معرفة غير المالوف بحقائق الحياة والوجود عقليا. الوعي هو الوسيلة الادراكية العقلية وليست الانطباعات الحسية لفهم وتفسير ومعرفة وقائع العالم الخارجي. الوعي هو الاستجابة التجريدية غير الحسية لما يراه العقل بمدركاته. الوعي القصدي خلفيته الاصولية القارة الثابتة هي مقولات العقل وليس عواطف النفس بتخارج الوعي المعرفي التغييري مع الاشياء.

5. كل الدلائل التي تعصف بالعالم بشكل خطير الحروب، السياسة، الاقتصاد، والتغيرات المناخية في ارتفاع درجة حرارة الارض وارتفاع معدلات الزلازل المدمرة والاعاصير المرعبة. يداخلها تفشي امراض وبائية من سلالات فايروسية لم يعهدها الانسان من قبل. كل هذه الدلائل في تناسلها الزماني على الارض تجعل من وجوب دخول غالبية شعوب الارض متوسطة الدخل المالي ومعهم الفقراء تطبيق تجارب اشتراكية ديمقراطية محسنة تاريخيا ويعتبر ذلك امرا ضروريا لانقاذ الجنس البشري من المجاعات وتفشي الاوبئة والامراض والحروب التي لا معنى انساني لها.

كما اجد ان فوكوياما في دعوته انهاء التاريخ راسماليا انما يكون بذلك من غير ارادته فتح ابواب دخول العالم في نظم اشتراكية ديمقراطية مستفيدة من تجارب الماضي محتذية تجربة الصين العظيمة لا مفر من اقتحام تجربتها بعد ظهور ملامح الشيخوخة الراسمالية المعولمة امريكيا التي باتت واضحة.

6. حين عبّر فان كوخ في عبارته الشهيرة قبل انتحاره (شقاء الانسان بالحياة دائم لا خلاص منه) وتبعه دوستوفسكي بنفس التعبير ونجد من المعاصرين اليوم الشاعر الفرنسي المهووس بلا معنى الحياة اميل سوران حين قال من الخطا اننا ولدنا ومن الخطأ ان نموت. بالحقيقة انا لم آخذ تلك النظرة العدمية التشاؤمية على محمل القناعة الراسخة والتعميم الصائب الا بعد ان وجدت نفسي دخلت معترك الحياة. ومن وحي عبارة دوستوفسكي (الموت نهاية ماساة الانسان بالحياة) تساءلت ولكن لماذا يموت الناس الذين يرغبون الحياة؟

6. عبقرية اللغة تسبق عبقرية الفكر اذا جاز لنا التفريق التراتبي بينهما. رغم الخطأ التداولي حين نعتبر انتاجية العقل للفكر اسبق على انتاجيته اللغة وهما في حقيقتهما جوهران متلازمان لا تفصل بينهما زمانية تراتبية كما ولا يقدر تفكير العقل اعطاء ارجحية لواحدة على اخرى.

وفي حالة الصمت اللغوي تكون اللغة هي الفكر التصوري الساكت. واللغة والفكر داخل الذات هما جوهر انساني واحد لا تفريق بينهما ولا افصاح لاحدهما بمعزل عن الاخر فانت لا تفهم اللغة التي بلا معنى اي بلا محتوى تفكيري يلازمها.

وتفترق اللغة عن الخيال التصوري الفكري العقلي وفي التمايز الاختلافي الدلالة بينهما ايضا متى ما اصبحت الفكرة واقعا او موضوعا معبّرا عنه بلغة التجريد الادراكي.اللغة هي شكل محتوى الفكر الصامت. والصمت اللغوي هو تفكير العقل بالعالم الخارجي والاشياء لغويا ساكتا.

7. يخطأ العقل كما هي الحواس في اخطائها وتخطأ اللغة عندما يكون القصور في التعبير الواضح عن الاشياء باديا مكشوفا. من اهم ميزات العقل انه لا يتناول بالتفكير اللغوي التجريدي ما لا معنى له.

8. الخطأ ان نتصور الانسان عالما قائما مكتفيا بذاته، بل حقيقة الانسان الجوهرية أنه كينونة مجتمعية لا تعرف قيمة نفسها الا بالتكامل المجتمعي بغيرها من نوعها وغير نوعها من الكائنات وظواهر العالم الذي تعيشه. وان يعرف الانسان قيمة حقيقته الذاتية يستلزم ان يعيش الحياة مع الناس بحرية مسؤولة فالانسان مسؤول عن مجتمعه قبل مسؤوليته عن نفسه. جوهر الانسان المتفرد الكينونة المجتمعية هو ان لا يفكر كما يفكر الاخرين بل يسعى ان يجعلهم يفكرون مثله.

9. اعجبت لعبارة الفيلسوف عالم الرياضيات الامريكي جارد واين واستوقفتني برشاقة صياغتها الفلسفية قوله (الحقائق الرياضية ثابتة لا تتغير بسبب ان لغتنا الرياضية مستقلة عن الزمن). يراجع مقالتنا حقائق الرياضيات والفلسفة.

تعقيب تحليلي:

- الحقائق الرياضية ثابتة لا تتغير لانها قوانين بديهية الصواب بالمطلق لا تحتاج البرهنة عليها. وهي تعمل خارج ارادة الانسان وخارج تداعيات التقادم الزمني الذي لا يطالها لا بالاندثار ولا بالتغيير. فقولنا 1+1=2 حقيقة باقية ازلية ثابتة حتى بعد بليون سنة.

- لا علاقة ترابطية تلزم برهان ثبات حقائق الرياضيات لاننا نتكلم عنها باستقلالية عن الزمن. إذ أن الحقيقة تشير الى اننا نتاول كل شيء ندركه ثابتا ام متحركا من زاوية اننا نتكلم عنها بزمن غير مستقل بالدلالة الحيادية له.

-  حقائق الرياضيات الثابتة هي اذا صح التعبير لازمنية ولا يطالها بالتغيير لا الزمن الارضي ولا الزمن الكوني وكلاهما جوهر واحد. ولهذا يقول علماء الرياضيات ان حقائق الرياضيات ثابتة تجدها اليوم كما ستجدها اجيال من بعدنا بعد الاف السنين.

- حقائق الرياضيات في مطلقها الازلي السرمدي الثابت هي حقائق لازمنية كما ذكرنا وليس لان لغتنا الرياضية عنها مستقلة عن الزمن. الصحيح ان حقائق الرياضيات هي لازمنية بخلاف لغتنا عنها التي هي زمنية غير مستقلة.

10. لازلت اؤمن بان العشوائية والصدف غير المتوقعة وحتى الصدف المصنّعة منها، والحتميات الضرورية والطفرات النوعية التي تدخل مسار التاريخ الخطي هي جميعها لا تحكم التاريخ. وليس هناك من حتمية ملزمة تصادر حرية الانسان وارادته التصحيحية هي تكون حتمية واجبة الحدوث تلقائيا بقواها الذاتية المدخرة البائنة في صراع  المصالح الطبقية. التاريخ لا يتقدم لا بتلقائية ذاتية ولا بمصالح طبقية متناحرة.

11. نقطة الصفر المعرفية عند الانسان حينما يتصور تساوي تجربتي الفشل والنجاح في تحديد تفكيره وسلوكه. ويذهب بعض المفكرين ان توالي تجارب الفشل يكون لها ردة فعل قوية في تجاوزها اكثر مما تفعله تراكمات النجاح الذي يصنع نفسه ذاتيا بعد مرحلة النضج. ونقطة الصفر علميا عند باشلار وغاديمير هي بداية الشروع العلمي وليس محطة انتهاء مرحلي لا قيمة لها. الصفر بالمفهوم العلمي والرياضي هو بداية معرفية.

12.لا تدخل قوانين الطبيعة المستقلة الثابتة بعلاقة جدلية مباشرة مع سيرورة الحياة التطورية المتغيرة على صعيد النسق الاختلافي بينهما.

13. وضع الفيلسوف الدانماركي سورين كيركارد البؤرة المركزية التي قامت عليها الوجودية الحديثة قوله (لماذا يحيا الانسان ولماذا يموت؟).

خارج الفلسفة داخل الحياة

1. اروع شيء اعجز التعبير عنه بالكلمات حين اجد انسانا اخلاقيا حقيقيا متطابقا مع ضميره وسلوكه.

2. الفرق بين الرؤية بمعنى ابصار العين هو غير البصيرة المعرفية الفطرية والمكتسبة. الرؤية ادراك حسي مؤقت اما المعرفة فهي مقولات العقل الثابتة عن الاشياء.

3. من خلال تجربتي بالحياة وجدت العداء الاعمى للتفكير العلمي الهادف يسبق معرفة من هم دعاته.

4. عن بارمنيدس (لاشيء يمكن ان يتحول الى لا شيء) وبذلك سبق المقولة العلمية بقرون ان المادة لا تفنى ولا تستحدث.

5. دخولك الدائرة المغلقة في مقارنتك السيء بالاسوا تنسيك حقيقة ان الكثير بالحياة جدير بالتفاؤل والعيش معه بسعادة.

6. ما تكتبه العاطفة بصدق الانفعال هو حقيقة تفكير صواب العقل.

7. اعرف حقيقة نفسك بتجاربك الفاشلة وارادتك في تجاوزها وبناء نجاحك على انقاضها. ولا تجعل الفشل يسلبك حقك بالحياة الكريمة.

8. تموت غالبية الاماني السعيدة في انعدام وسائل تحققها وتقادم الزمن عليها.

9. يبقى الانسان جوهرا اخلاقيا بعد تعطيل ريبوت التفكير الصناعي بالنيابة عنه.

10.غالبية مخاوفنا هي من صنع افكارنا الوهمية التي لا تسندها حقائق الحياة ومخاوفنا اكبر بكثير مما قد يحصل.

11. الشك بعد تجربة فاشلة بالحياة تجعل خيبات الامل مفتوحة النهايات عندك.

12. في الثقافة كما هو الحال بالسياسة وغيرها من يبحث عن الحقيقة كمن يفتش عن الجنة بالارض.

13. من المسؤول عن الذي يقتل الثقافة بنفس السموم التي تقتل قيم الحياة حين تجد تفكير بعض المثقفين نسخة كاربونية من تفكير الجاهل.

14.قناعتي في عدم التراجع امام اخطاء فرضت علي ونالت مني بالتضليل والمكابرة الفارغة، فاني سوف لن اتجرعها قبل ان اتجرع الموت.

15. لا اجد سببا احزن فيه على اخطاء غيري بحقي كنت فيها ضحية ولم اكن جلادا.

16. المكابرة الفارغة عدم الاعتراف بالخطأ بحقك دليل قاطع على وضاعة مرتكبه.

17. من يبني حقائق الحياة بحسابات غير صحيحة يجد نفسه لاحقا اعمى وسط صحراء.

18. اثقل هموم النفس عدم استطاعتك رد الجميل لمن ترفع عن رد الاساءة بمثلها.

***

علي محمد اليوسف

قيل ان الفلسفة ليس فيها أي إمكانية للتقدم، لأنها، خلافا للعلوم، هي لا تستطيع بناء تراكم في المعرفة. لكن القول بان التقدم هو مجرد إضافة جديدة للاكتشافات القائمة هو سوء فهم لمفهوم التقدم. حتى في مجال العلوم، التقدم بعيد عن كونه مجرد تجميع خطّي للنظريات، وان التاريخ العلمي مليء بالخلافات وعدم الإتفاق، وبالثورات وإعادة التعريفات. العلوم الانسانية ايضا ترفض فكرة التقدم الخطي. من دوركهايم الى ويبر، ومن سوسر الى تشومسكي، من الواضح ان التقدم في السوسيولوجي واللسانيات وفي علوم التحليل النفسي هو لا خطي ولا تراكمي. بدلا من ذلك، انه يجسد نفسه من خلال تنقيح ومراجعة الأساليب التحليلية والتفسيرات والتأملات.

نفس الموقف يمكن تبنّيه بالنسبة للفلسفة. الفلسفة لا تنظر الى مفاهيم الماضي كشيء متقادم، او لها إمكانية ان تصبح متقادمة. نحن لانزال نتفلسف حول فكرة الله، ولكن ليس بنفس الطريقة التي اتّبعها أسلافنا. هذا ينطوي على مبدأين اثنين: من جهة، التفكير الفلسفي هو عابر للتاريخ، ومن جهة اخرى،ان إعادة فهم الأسئلة الفلسفية هو في تطور مستمر. هذا يعني ان التقدم الفلسفي يمكن ان يبرز في ثلاثة أشكال مختلفة: عبر حقائق فلسفية إضافية، اوعبر الشمولية والتراكم، اوعبر الاستبطان الداخلي والإستلهام الديالكتيكي. سوف نعرض لكل من هذه الخيارات الثلاثة تباعا:

1- التقدم عبر مبادئ فلسفية اضافية صحيحة:

أول طريقة لإنكار التقدم الفلسفي هي القول ان برنامج العلم ومسيرة التاريخ لا تؤثران على الفلسفة ذاتها. لكن ذلك هو ما يحصل فعلا. الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون عمل مقارنة بين الانتاج الفلسفي والثنائية الميتافيزيقية. الفلسفة ذاتها لها "جسم" و"روح". جسم الفلسفة، أو صياغة مجموعة من الأفكار، تبرز من التأثير التاريخي – من سياق، او عصر او حتى لغة. لكن "الروح" او الفكرة ذاتها، هي نتاج ما يسميه الفرنسي جيل دولوز،"مظهر الحدس الإبتدائي". بكلمة اخرى، هو يعتقد ان فيلسوفا يعيش في وقت مختلف سيعبّر عن أفكار مشابهة، وان كانت في اسلوب مختلف. احد المضامين لهذا هو ان الفلسفة لا يمكن ان تتقدم لأنها تاريخية. لكن هنا يبدو برجسون ودولوز يتجاهلان السياق الذي يصاحب تطور المشاكل الفلسفية، والذي لا يبرز من "الذات الداخلية" وانما من حالة المعرفة بالثقافة المحيطة بها. هذا لا يعني ان الحقيقة التي تطمح الفلسفة لإنجازها هي سريعة الزوال او محلية او وهمية: الفلسفة تميل نحو العالمية – لكنها تقوم بهذا ضمن ومن خلال التاريخ. طالما في هذه الطريقة تكون الفلسفة انعكاسا للظروف ولمعرفة فلسفية اضافية، فاننا يمكننا ان نؤكد ان التطور في الاخيرة سوف يخلق تقدما في الاولى. مستوى التفكير الفلسفي هو تعبير عن حجم التوسع بأساسه المعرفي.

لو افترضنا ان فيلسوفين اثنين يفكران حول ظروف الانسان. احدهما سافر حول العالم وتأثر تفكيره بالمعرفة العلمية، بينما الآخر لم يخرج وراء جدران قسم الفلسفة في الجامعة. من الواضح ان الاول لديه فرصة جيدة لتطوير نظريات مفيدة قياسا بالأخير، لأنه راكم من خلال التجربة المزيد من المعرفة وربما هو قادر على فهم المؤثرات المجتمعية والثقافية الى مستوى أعمق .

ورغم ان المعرفة ذات الأساس الكبير لاتؤدي بالضرورة  الى إنتاج أفضل الأفكار، لكن من الواضح انها تسهّل صياغة المشاكل الفلسفية. كتابات جين بول سارتر بعد الحرب العالمية الثانية هي على طرفي نقيض من كتاباته قبل عام 1939 لأن الكارثة التاريخية أثّرت على تفسيره للحقائق الاجتماعية وحفزته ليطرح أسئلة مختلفة. كل ثورة علمية وإجتماعية وسياسية ترافقت مع ثورة فلسفية موازية. كوبرنيكوس غيّر تصوّرنا عن مكان الإنسانية في الكون، دارون غيّر رؤيتنا عن مكاننا في الطبيعة، اينشتاين غيّر فهمنا للزمان والمكان ذاتهما. بالطبع، الثورة التاريخية هي بذاتها ليست تقدما فلسفيا. بل ان تجربتنا الجماعية تشكل بيئة من المعرفة الدائمة التطور، او الفكر والتي تشكل بدورها دافعا فلسفيا اضافيا للتقدم الفلسفي. الثورة الصناعية لم تخلق الماركسية، ولم تؤدي ايضا الى الماركسية، ولكن بدون شك من الصعب تصوّر تكوين تلك العقيدة في أي وقت سابق لها. لذا بينما الثورة الصناعية غيّرت التفاعلات الاجتماعية والطريقة التي نراها بها، هي ايضا سمحت للفلاسفة بإعادة فهم المشكلة القائمة في الاقتصاد بدون ان تؤثر مباشرة على الاطروحات التي تتناولها.

هذا التمييز ايضا ينفي فكرة السايكولوجي السويسري جان بياجيه القائلة ان ما نسميه تقدما فلسفيا هو خاضع للتقدم في التاريخ او العلوم، ولذلك لا يمكن اعتباره تقدما ابدا. لكي يبرهن على رؤيته ينظر بياجيه في نظرية ديكارت حول الغدة الصنوبرية (غدة الدماغ الصنوبرية هي المكان الذي اعتقد ديكارت فيها يرتبط الذهن مع الدماغ). هذا، طبقا لبياجيه له "مصلحة تاريخية معينة، لكنه فقد كل صلاحية علمية وفلسفية". لكن فحصا دقيقا لهذا المثال يقود المرء لملاحظة ان نظرية الغدة الصنوبرية ليست اطروحة فلسفية: انها نظرية فسيلوجية اريد بها دعم نظرية فلسفية تتعلق بالعلاقة بين الجسم والروح. وحتى لو تأكّد بطلان النظرية الفسيلوجية من جانب الإكتشاف العلمي، فان النظرية الفلسفية المصاحبة لها – الثنائية الميتافيزيقية – لايمكن إبطالها بأي شيء الاّ بالتفكير الفلسفي.

مع ذلك، وبما ان كل التفكير الفلسفي يدور حول مشاكل معينة، والتي ذاتها تعتمد على أفكار موجودة ثقافيا، فمن الواضح ان تطور العلم والتاريخ يؤثر على تطور الفلسفة. في هذا المعنى، التطور في معرفة فلسفية إضافية قد يؤدي الى توترات ابستيمولوجية ومجتمعية او ميتافيزيقية جديدة لايمكن حلها ضمن الاطار الفلسفي السائد. لذلك فان التاريخ يؤدي حتما الى تقدم فلسفي، لأن الأسئلة التي يطرحها الفلاسفة هي نتاج للثقافة المحيطة بهم والمتطورة باستمرار .

2- التقدم من خلال الشمولية والتراكم:

لكن الفلسفة ليست فقط في اتصال مع محيطها الفكري والاجتماعي، انها ايضا في علاقة مع ذاتها. الفلسفة تستبطن وتعيد فهم تاريخها الخاص بها – تاريخ المشاكل الفلسفية والتأملات. لا تعيد فقط  فهم إعتبارات فلسفية اضافية وانما تاريخ الفلسفة ذاته يصبح مصدرا لمعرفة إعادة الفهم الفلسفي. بهذا المعنى،هناك عدة طبقات للتقدم الفلسفي.

كون الفلسفة في علاقة مركزية مع تاريخها هي اطروحة دافع عنها بإعجاب الفيلسوف هيجل في فينومولوجيا الروح (1807). هو كان اول من بيّن ان التقدم الفلسفي ينطوي على تكامل واع ام غير واع لتاريخ الفلسفة. هذا التاريخ ليس تعاقبا محضا للعقائد: بل هو يتألف من عملية طويلة من التحولات الديالكتيكية من نظرية رُفضت من جانب نظرية اخرى لتقود الى نظرية ثالثة وهكذا مرة بعد اخرى في تقدم يمتد عبر القرون. هيجل ذهب الى حد القول ان التقدم كان "عضويا" للفلسفة، باعتباره جزء من "سلسلة من التفكير" تطيع منطقا عابرا او روحا عقلانية توجد في ذاتها وبذاتها. لا يحتاج المرء للاتفاق مع هيجل حول فكرة إله العقلانية، وانما رؤيته للفلسفة تكشف عن مفارقة هامة جدا لنا. المفارقة يمكن تعميمها: تاريخ الفلسفة له منطق، وتوجّه من العقائد والأفضليات،والضرورة، لكن لا احد من الفلاسفة استطاع تعريف هذه الخصائص لأنه هو او هي جزء من التاريخ.

هذه المشكلة عالجها سارتر في كتابه نقد العقل الديالكتيكي (1960). هو يقول ان التاريخ كونه كلية مستمرة constant totalisation (إضافة دائمة) لما حدث من قبل، فمن المستحيل التنبؤ باتجاهه لأن هذا التنبؤ هو ذاته سوف يُضاف من قبل آخرين الى الكل، قبل ان تصبح تنبؤاتهم الخاصة بدورها مضافة بواسطة آخرين ... اتجاه التاريخ يتشكل بواسطة الافراد (عادة هم انفسهم في عملية من إزالة الشمولية او التفكيك)، لكي يمكن لحريتهم في تشكيل تاريخ يستوعب بناءات الآخرين (التي فيما بعد تصبح مضافة مرة اخرى retotalised ). هذا كله يعني ان الاتجاه الدقيق لتاريخ الفلسفة هو تخمين اعتباطي. بمعنى ان التقدم الفلسفي لايمكن تعريفه بعبارات من التقدم نحو أي هدف معين. انه يمكن تعريفه بعمومية أكبر، بعبارات من معرفة تراكمية: أي، كلية المضاف والمفكك.

بهذا المعنى، التقدم هو جزء من الفلسفة. لا يهم ما اذا قُبلت نظرية معينة او رُفضت، فهي يُحتفظ بها عبر تحوّلها الى فلسفة عموما. لذلك، فان هذا يؤدي حتما الى شكل من التقدم الفلسفي عبر تراكم الأفكار.

3- التقدم عبر الإستلهام الديالكتيكي الداخلي والخارجي:

الشكل الأخير من التقدم الفلسفي يمكن ان يحصل من خلال التعديل والتنقيح المستمر للأفكار الفلسفية بناءً على معرفة اكثر اتقاناً. التقدم الفلسفي ليس مجرد تراكم، انه ايضا ديالكتيكي، ما يعني انه عند صياغة نظريات جديدة هو يندمج ضمن النظريات الاولى القديمة . تاريخ الفلسفة هو هضم مستمر للماضي. فلاسفة اليوم ليسوا أذكى من فلاسفة الأمس وانما هم بالتأكيد يستفيدون من عملهم. عندما نعلّق على فلسفات الماضي ونفكر نقديا في مضامينها، نحن نستبطنها ونعيد صياغتها. لذلك، فان التقدم ينطوي على عملية بواسطتها يضع المرء  مثل هذه النظريات مرة اخرى في شكل جديد. هذا ربما يتم بشكل واعي او غير واعي ولكن يتم بالضرورة. في أسوأ الاحوال، ربما جيل كامل من المعلقين، هم غير قادرين بأنفسهم على إنتاج تأملات فلسفية جديدة، ولكن مع ذلك هم لايزالون يشكلون شكلا من التقدم (رغم انه، تقدم سيصبح اكثر وضوحا لو يتغلب الفلاسفة على موقفهم النسبي ويقولون شيئا ما جديد كليا).

يصف سارتر التقدم الفلسفي كقدرة "على صنع شيء مما عمله شخص ما من بيننا" . وهكذا، لا تهم الكيفية التي يتم بها الاحتفاظ في الفلسفات السابقة، اما بالقبول او الرفض، فان التقدم سوف يحدث من خلال عملية إعادة الفهم للحلول المبكرة، لأن تحسين الفهم النقدي للفرد يتم عبر إظهار التوترات في ما بدا مستقرا. ودائما يبقى ممكنا إعادة فهم أجوبة الفلسفة. عدم إعتبار الاجوبة الفلسفية كما "هي معطاة" لا يعني ان كل تفكير يجب ان يبدأ مرة اخرى دوريا منذ البداية. عبارة ديكارت "انا افكر،لذا انا موجود" لا حاجة لإعادة التفكير بها من جديد الى ما لانهاية . بدلا من ذلك،الفلاسفة اللاحقون سوف يفحصون مظاهرا تُركت بلا توضيح من جانب ديكارت نفسه، مثل هل هناك حاجة لمكان "أنا" في العبارة؟.

لذلك، فان الفلسفة تتقدم لأن العلاقة الضرورية التي تمتلكها مع ماضيها – كإستلهام خارجي للاطروحات المستبطنة داخليا بشكل جديد – تتضمن الحصول على مستوى أعمق من التحليل.

إستنتاج

من خلال الجدال بان التقدم الفلسفي ممكن عبر ايجاد حقيقة فلسفية اضافية او عبر الشمولية والتراكم او عبر الديالكتيك الداخلي والخارجي، يمكن القول ان الفلسفة لا يمكن تعريفها كمجموعة من مظاهر التقدم المتجانسة المتجهة الى نقطة معينة. اذاً هل الفلسفة حقا تستحق التقدم؟ ما الغاية من تحسين الديالكتيك اذا كان الفيلسوف محروما من امكانية الحصول على أي شكل من الحقيقة؟ الجواب ربما يكمن في رمزية الكهف لإفلاطون. أشبه بكثير بالسجناء في الكهف، الانسانية تطمح لتتقدم نحو الضياء، كل أعمال الذهن هي رحلة طويلة من لا وعي مطلق الى وعي ذاتي مطلق. وبهذا فان التقدم يوجد في كل مكان تقريبا ضمن الفلسفة في كفاحها ضد الظلام،والركود اللاواعي، والسلبية السيئة. هذا غير واضح مباشرة لكنه تقدم ضروري.

***

حاتم حميد محسن

................................

Is progress possible in philosophy? Philosophy Now Oct/Nov 2023

إذا كانت الحرية في سياقها العام تعني وعي الضرورة، أو الضرورة الواعية كما يقول "هيجل"، أي وعي الإنسان لحاجاته الأساسية، المادية منها والمعنوية في نطاق المحيط الذي يعيش وينشط فيه، بغية الحفاظ على وجوده وإشباع حاجاته بكل مستوياتها السياسية والاقتصادية والثقافية، أو بتعبير آخر، إشباع حجاته المادية والمنوية بشكل عام، مع حضور شرطي المسؤولية والوعي اتجاه فهم وممارسة هذه الحرية. فإن الإبداع هو ذاك النشاط الإنساني الحيوي والمتميز في قدراته ومهاراته (الفكرية والعملية) عن النشاط الفطري والسطحي في شقيه المادي والروحي الذي يبذله الإنسان من أجل تأمين واستمرارية بقائه، وذلك كون النشاط الإبداعي المتميز الذي تحقق عبر الإنسان بفعل تحرره من بعض قيود الضرورة التي ُفرضت عليه تاريخيا، فهو نشاط غالباً ما يصب في تنمية مهارات وقابليات واهتمامات الإنسان من جهة، وفي القدرة على الغوص بعيدا في عالم المجهول، أي المغامرة من جهة ثانية، وبالتالي كشف تلك المكنونات من قوانين الضرورة (معوقات الحرية) في الوجودين المادي والفكري معا، بغية زيادة إشباع حاجات الإنسان بعامة، وتحقيق تقدمه والسمو به نحو عالم الوعي العقلاني، والنأي به بعيدا عن عالم الفطرة والغريزة المتوحشتين من جهة ثالثة .

بيد أن السؤال الذي يطرح نفسه علينا هنا هو: ماهي العلاقة القائمة مابين الحرية والإبداع؟.

لاشك أن هناك علاقة جدلية ما بين الحرية والإبداع، حيث نجد أنه، كلما اتسعت مجالات الحرية اتسعت بالضرورة مجالات الإبداع، والعكس صحيح أيضا، إذ كلما اتسعت مجالات الإبداع، يكون هناك اتساع في مجالات الحرية . وتاريخ الإنسان أصلا هو تاريخ صراعه مع الطبيعة ومع نفسه (المجتمع) من أجل الحرية، أي في المحصلة من أجل الإبداع. فصراعه الأول مع الطبيعة مثلا كان صراعا من أجل تجاوز قوانيين الضرورة الحكمية التي كانت تتحكم به وبإرادته وتخضعه دائما لإرادتها العمياء، فعبر صراعه الأول هذا استطاع أن يكتشف ولأول مرة بنشاطه وإبداعه الخاص سر العديد من قوانين الطبيعة ويتحكم بها، وبهذا أصبح يميز ذاته كانسان يختلف عن بقية مفردات الطبيعة المحيطة به، بل راح يسخر آلية عمل تلك القوانين لمصلحته، الأمر الذي أفقدها سر قداستها بالنسبة له، ولم تعد تجلياتها في الطبيعة من رياح ورعد وأمطار ... الخ، تشكل آلهة يقدم لها الولاء والقرابين طمعا في رضاها وكف غضبها أو شرها عنه، أو بتعبير آخر الحد من حريته وإبداعه .

غير أن هذا الإنسان ذاته الذي راح يسيطر على قوانين الطبيعة شيئا فشيئا عبر ما حققه من حرية وقدرة في إبداع وسائل إنتاج جديدة واكتساب مهارات متنوعة في الإنتاج من أجل تأمين خيراته المادية والمعنوية معا، راح هو ذاته يضيع في منتجاته أيضا، وُيدخل ذاته في عبودية جديدة تحدُّ من حريته وإبداعه اللذين ناضل طويلا ضد الطبيعة وعالم الغريزة من أجل الحصول عليها أو انتزاعها، وهذا الشكل الجديد من الضياع والعبودية أخذ يتحقق عندما أصبح هناك فائض في الإنتاج لدى البعض من الناس (أفراد وجماعات)، هذا الفائض الذي دفع منتجه إلى البحث عن تبادل إنتاجه مع منتج آخر من أجل إشباع حاجاته المادية والروحية أكثر، بيد أن هذا التبادل أخذ شيئا فشيئا يغذي بدوره روح التملك والحيازة، فكانت وسائل ومواضيع الإنتاج ومنها الأرض أول أشكال هذا التملك وهذا ما دفع (سان سيمون) للقول فيما بعد: (عندما قام أول إنسان بتسييج قطعة من الأرض وقال هذه ملكي، وصدقه بعض المغفلين، بدأت عملية استغلال الإنسان للإنسان)، أي الحد من حريته وإبداعاته . بل أن الحرية والإبداع ذاتهما لم يعودا في مجتمع الاستغلال هذا ملكا للمبدع، بل ملكا لمن يملك، ولا يحق لصاحبهما التصرف يهما إلا وفقا لما يريده المالك بشكل مباشر أو غير مباشر!! .

من هنا بدأت مسألة الحرية والإبداع تأخذ اشكاليتها التاريخية الجديدة ما بين المالك والمنتج، وكشكل من أشكال العلاقات الاجتماعية التي دار حولها الصراع الإنساني ولم يزل عبر كل تجلياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية . ففي الوقت الذي يقاتل أو يناضل فيه الإنسان من أجل حريته الاقتصادية والتقسيم العادل للدخل الاجتماعي، نراه يقاتل أو يناضل أيضاً من أجل حريته الاجتماعية والسعي إلى تحقيق مجتمع المدني بديلا عن مجتمع الرعاء، وفي الوقت الذي يقاتل فيه من أجل الحصول على المواطنة، نراه يقاتل أيضا من أجل الحصول على المشاركة في القرار السياسي للوطن الذي يعيش فيه، مثلما نراه يقاتل ويناضل كذلك من أجل حرية القول والممارسة، والصحافة، والتحزب، ودولة القانون .. الخ .

نعم هذه هي مسيرة الحرية والإبداع في عالم الإنسان، إنها مسيرة نضال طويل ولا أظن أن الإنسان سيحصل عليها كاملة، وذلك كونه إنسانا، من لحم ودم، ليس لجوهر إنسانيته حدود، أي، ليس لحريته حدود، وكذلك لابداعه حدود، إلا حدود العقل والمنطق الذين يصبان في حاجات الإنسان غير المحدودة، أي في عوامل الحفاظ على إنسانيته التي ناضل كثيرا من أجل استرجاعها أو إعادة بنائها وتنميتها... إنها مسيرة إنسان يعيش في عالم له قوانينه الوضعية، الخاصة به، والبعيدة في سيرورتها وصيرورتها عن إرادته ورغباته، فالناس (يصنعون تاريخهم بأيديهم إلا إنهم لا يصنعونه على هواهم)، وبالتالي هذا يتطلب منهم دائما الكشف عن هذه القوانين وسر آلية عملها، والتحكم بها وتسخيرها لتحقيق حريتهم، أي استمرار وجودهم وإبداعهم .. نعم لقد ُكتب على الإنسان الكشف دائما عن المجهول، ولهذا كانت حريته، وكان إبداعه .

أمام كل ما جئنا عليه، تبقى هناك مسألة لها من الأهمية الدور الكبير في حياة الإنسان وحريته، لا بد أن نشير إليها، أو نقف عندها قليلا وهي: في الوقت الذي يدخل فيه الإنسان عالم ضياعه عبر منتجاته، أي عالم تشيئه، واغترابه، واستلابه المادي والروحي، هذا العالم الذي لم يعد فيه الإنسان إنسانا، بل شيئا آخر لا يختلف فيه عن منتجاته هو نفسه، أي سلعة أو ترس في آلة (شيء)، أي بتعبير آخر دخوله عالم التسليع، وتصبح له قيمة مادية تحدد مقدارها درجة الخدمات التي يقدمها في نطاق وجوده الاجتماعي، حيث لم يعد يختلف حاله هنا عن حاله في عالم الضرورة الحكمية، أوسوق النخاسة سابقاً، إلا في مسألة واحدة فقط،هي، أنه قادر على تغيير سيده بحريته، هذه الحرية التي أريد لها أن ُتدفع إلى أقصى حد ممكن في ظل السوق الرأسمالية الاحتكارية وعالم الفردية. لقد تحولت الحرية وفقاً لهذا التحول التاريخي بالضرورة إلى قيد في عالم الإنسان، وهذا يدفعنا إلى التأكيد بأن الحرية والإبداع قد دخلا بالضرورة أيضا في عالم التشيء، والاغتراب، والاستلاب، عندما أغرت الإنسان شهوة الحرية المفتوحة على المطلق بعيدا عن حس المسؤولية اتجاه نفسه أو الآخرين، حيث هُدر في هذه الحالة كل النضال الذي قدمه هذا الإنسان من أجل بناء عالم حرية العقل والمنطق، أمام حرية الغريزة والشهوة والأنانية الضيقة .

من هنا نؤكد على أن العقلانية التي تفرض المسؤولية والواجب والحق والعدالة والمساواة .. الخ، تظل وحدها من يصون ويوجه الحرية والإبداع معا، هذه العقلانية التي لم تكن في يوم من الأيام شعارا يراد منه التسويق لمفاهيم يهدف مطلقيها نمذجة الإنسان وتسليعه وبالتالي تذريره وإفقاده جوهر إنسانيته عبر تحويله إلى ترس في آلة تضخ لمطلقي هذه الشعارات ما يحقق سعادتهم واستمرار بقائهم وقوتهم، مثلما لم تكن أيضا – أي العقلانية - آلية عمل دماغ مجرد من معطيات الواقع، إن العقلانية التي نقصدها هنا هي تلك العقلانية المشخصة التي كونتها نضالات الإنسان عبر تاريخه الطويل، ضد ضرورات الطبيعة والمجتمع من أجل الحصول على حريته، والفسح في المجال واسعا أمام إبداعاته كي تجوب عالمي الواقع والمجهول لخلق عالم آخر للإنسان لا تعود فيه للضرورة وقوانينها العمياء القدرة على التحكم كليا في حياة الإنسان وإرادته، إنها العقلانية التي ترمي إلى إخراج الإنسان في عالمنا المعاصر من تشيئه واستلابه واغترابه، إلى عالم الإنسان الجوهر، عالم الضرورة الواعية... عالم العدالة والمساواة .

***

عدنان عويّد

كاتب وباحث من ديرالزور – سورية

جنسانية فوكو - السلطة والقمع

أريد البدءْ بالقول أن ثراء نصٍّ ما؛ يُمكن قياسه بالكتابات المُغايرة والمتباينة لنفس النّص. إذ ذاك؛ نرى تمدد خطابات النص في حقول مختلفة وبالمجمل قراءات متعددة. لعل العودة إلى رولان بارت و" موت المؤلف". إنه ليس موتاً مجازياً فلا يمكن قتل المؤلف حتى " مجازاً " أبداً فهو بطريقة ما يموضع ذاته في نصوصه ولكن سعى " بارت" إلى إستعادة مكان القارئ داخل النّص. فنحن في القراءة محكومون بموقعنا الجغرافي وما تشكّل فيها من منظومة للثقافة والفكر، وهو ما يفسر اختلاف القراءات والتّعاطي مع النّص نفسه.

يتجدد طموح المرء مرة أخرى عندما يعاود القراءة أو الكتابة عن فوكو؛ وتاريخ الجنسانية تبدّى لي كتاريخ للسلطة واشكال القمع. وما الجنس الا موضوعاً واحداً من ضمن موضوعات عدة عالجها فوكو مستخدماً " السلطة " كاطار منهجي يقرأ من خلالها قضايا كالسياسة والمعرفة والعيادة والسجن والجنون ..الخ. سأكون متنكراً اذا قلت أن قراءاتي للجنسانية جعلتني افهم الجنس في المجتمعات الغربية التي ناقشها فوكو في عمله. يجد المرء نفسه مهتماً بتشكل خطابات السلطة حول الجنس وهي نقطة يؤكد عليها فوكو في تعدد الخطابات حول الجنس. هناك دراسات ديموغرافية، ودراسات طبية، ودراسات نفسية، وقوانين جنائية، وقوانين مدرسية، وما إلى ذلك. لقد نشأت هذه الخطابات المختلفة لأسباب مختلفة، لذا سيكون من الصعب أن نعزوها كلها إلى "سبب" واحد. وتريد الفرضية القمعية ربط التغير في الخطاب المتعلق بالجنس مع حاجة البرجوازية الصاعدة إلى زيادة الإنتاجية، إلا أن تعدد الخطابات يناقض هذا الجانب من تلك الفرضية.

وإلى حد بعيد فإن التحكم في الناس (السلطة) يمكن تحقيقة بمجرد مراقبتهم فحسب، لذا فعلى سبيل المثال صفوف المقاعد المتدرجة في إستاد ما لاتسهل الرؤية فقط للمشاهدين ولكنها تمكن الحراس وكاميرات المراقبة أيضا من القيام بمسح شامل للمتفرجين. إن نظاماً مثالياً من المراقبة قد يمكن حارساً واحداً فقط من رؤية كل شيئ (هي حالة يقترب منها , كما يمكننا أن نقول، نموذج جيريمي بنتام “البانوبتيكون”) (1) ولكن بما أن ذلك غير ممكن عادة فهناك حاجة “لتناوب” المراقبين بشكل هيراركي حيث تمرر بيانات المراقبين من المستويات السفلى إلى المستويات العليا.

سمة مميزة للسلطة الحديثة (التحكم الإنضباطي) وإهتمامها بما لم يفعله الناس (عدم التقيد بالقانون) وهو مايمكن أن يكون فشل شخص ما في الوصول للمعايير المطلوبة. هذا الإهتمام يجسد الهدف الرئيسي من النظام الرقابي الحديث: تقويم السلوك المنحرف، الهدف ليس الإنتقام (كما كان الحال مع التعذيب في النظام العقابي القديم) وإنما الإصلاح، وبالطبع هنا يعني العيش وفقاً لمعايير وقواعد المجتمع. التاديب من خلال فرض قواعد دقيقة (“التطبيع”) مختلف تماما عن النظام الأقدم للمعاقبة القضائية والذي يحكم فقط على كل فعل حسب مطابقته أو مخالفته للقانون ولا يقول إذا ماكان هؤلاء المحكومين “طبيعيين” أم غير “طبيعيين”، تلك الفكرة عن التطبيع متغلغلة في مجتمعنا: على سبيل المثال المعايير الوطنية للبرامج التعليمية، للممارسات الطبية، للعمليات الصناعية والمنتجات.

لماذا هذه المُرافعة المختصرة؟. لان نصوص " فوكو" تتعالق وتتفرّق في حقول معرفية شتّى – فمن الاركيولوجيا إلى العيادة والسجن ومن نظام الخطاب إلى الكلمات والاشياء. وبالطبع المعرفة ونظامها والسلطة والتاريخانية وعلم النفس والسياسة. نجح فوكو بطريقة ما في تحريك أسئلة الأكاديميا الغربية، نحو دور القوة في صناعة وتحديد معايير التاريخ والقانون، والتجرّد الإنساني، عاد إلى محاولة صناعة تحرير الفرد من السلطة، فخلق ميزاناً عبر دراسة قرنين في أوروبا، وظواهره الاجتماعية والسلوكية. فالبتالي سيجد الباحث والمختص ضالته في ما كتب فوكو.

وتأسيساً على النقطة أعلاه؛ التي تقول باشتغاله على حقول معرفية عدة، أهملت فيما سبق. فلابد من خلفية فكرية مختصرة عن فوكو. إلتحق فوكو بالإيكول دي نورمال سوبيور وهي نقطة الإنطلاق التقليدية لكل الفلاسفة الفرنسيين الكبار، في عام 1946 حينما كانت الوجودية الفينومينولوجية في ذروتها، حضر محاضرات لميرلوبوندي, وهيدجر الذي كان مهما له بشكل خاص، كما كان هيجل وماركس أهتمامين رئيسين لفوكو. عرف الأول “هيجل” من خلال شروح أعماله التي قدمها جان هيبوليت فيما عرف ماركس من خلال التوسير الذي قدم قراءة بنيوية له، أثر كلا الأستاذين بقوة على فوكو في مرحلة “الإيكول نورمال” لذلك لم يكن مفاجئاً أن تكون أعمال فوكو المبكرة (مقدمته الطويلة لكتاب “الحلم والوجود ” للنفساني الهيدجري لودفيج بنسفانجر. والأمراض العقلية والشخصية: كتاب مختصر في المرض النفسي) قد كتبا تحت تأثير وطأة الوجودية والماركسية بالتتابع، وهما ماتحول عنه بشكل حاسم بعد فترة ليست ببعيد(2) .

ثلاثة عوامل أخرى كانت أكثر أهمية وإيجابية بالنسبة لـ ميشل فوكو اليافع. الأول كان التراث الفرنسي في تاريخ وفلسفة العلم، ممثلة بأعمال جورج كانجيلهام, أحد الرموز القوية والمؤثرة في المؤسسة الجامعية الفرنسية، إذ قدمت كتاباته في تاريخ وفلسفة البيولوجيا، نموذجاً للكثير مما سيقوم به فوكو بعد ذلك في تاريخ العلوم الإنسانية. أشرف كانجيلهام على أطروحة فوكو للدكتوراة عن “تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي” وظل أحد أهم المؤيدين والمناصرين لـ فوكو طوال مسيرته، كان منظور كانجيلهام لتاريخ العلم (وهو منظور طوره من كتابات غاستون باشلار) خير عون لفوكو إذ أمده بحس قوي كوني بالقطيعات في تاريخ العلم، وفوق هذا أمده بفهم”عقلاني” للدور التاريخي للمفاهيم. هاتان القدرتان جعلتهما متحررين من الوعي الفينومينولوجي المتعالي.(3)

تاريخ الجّنسْ أم الجنسانيّة؟

تشير كلمة جنس (Sex) إلى التقسيم البيولوجي بين الأنثى والذكر، أما الجنسانية (Gender) فتحيل إلى مفهوم النوع الاجتماعي أو الأدوار والسلوكيات المحددة اجتماعيا لكل من المرأة والرجل ولا علاقة لها بالاختلافات العضوية، أي الصورة التي ينظر بها المجتمع للمرأة والرجل والخصائص المتعلقة بالنساء والرجال التي تتشكل اجتماعيا وثقافيا.

يبدو فوكو مهموماً بالمعطيات الثقافية والاجتماعية التي تشكّل المفهوم . يفهمها كبداية مع بزوغ عصر التنوير والمذهب العلمي / التجريبي وهي نقطة جد مهمة حيث يؤرخ لها فوكو باعتبارها لحظة توظيف المعرفة لترسيخ سطة القوة وتبدأ من الطب النفسي ومن خلال عدد من التقنيات يرى فوكو أنها كان لها أكبر الأثر في تحقيق التعريف الحديث للجنسانية كما نفهمها الآن. ويسميها فوكو « تقنيات القوة»، وهو مصطلح يشي بقدر لا بأس به من تأثير مارتن هايدجر على فوكو.

ويمثل مفهوم “الجسد” في فكر فوكو قطب الرحى، فهو يحمل دلالة كيفية العيش وأسلوب الحياة، ويختزل تعابير الحياة التي ترتبط بوظائفه الأساسية: من جهة باعتباره آلة أو محرك أو حركة، ومن جهة أخرى باعتباره يمثل الوظائف العضوية للتوالد وللألم، تقاس فعالية التقنيات الحديثة للسلطة بمدى قدرتها على تطويع الجسد وترويض مناطقه ووظائفه.

ورغم أنه لا يُعرَّف « تقنيات القوة» تحديدًا، إلا أنه يمكن أن نفترض، طبقًا لما طوره هايدجر حول ذلك المصطلح، أنه يقصد بها التوجهات أو الأطر العقلانية، التي تمكِّن الفرد من مضاعفة وترسيخ هيمنته على الطبيعة بشكل آلي، وبالتتابع هيمنته على الآخرين. وهذه الآلية تصبح غائية في حد ذاتها. مع بدايات القرن السابع عشر، تجلّت هذه التقنيات، في ثلاثة مظاهر رئيسية، مرتبطة بأفكار التنوير، وتتلخص أولًا في نشوء الطب النفسي، وما نتج عنه من محاولات عنونة الاضطرابات النفسية/ الجنسية، بالإضافة لتطوّر مفهوم الهيستريا بوصفه مدخلًا لفهم جنسانية المرأة. ثانيًا: ظهور فكرة المناهج التعليمية الحديثة، وما ارتبط بها من نمو حالة الهلع حول موضوع جنسانية الأطفال وكيفية التحكم فيها. وثالثًا: تمازج الاقتصاد مع دراسات السكان (علم الديموجرافيا)، وما تبعه من تطور سياسات السكان والإنجاب، والاجراءات التي اتخذتها الدولة في التحكم في تعداد سكانها وتوزيعهم الحضري–الريفي.(4) .

تتمركز فكرة فوكو إلى أن الأشكال المعرفية الحديثة والمتنوعة عن الجنس (“علوم متعددة عن الجنسانية” تتضمن التحليل النفسي) ترتبط حميميا ببنية السلطة في المجتمع الحديث وبالتالي فهي مرشح أساسي للتحليل الجينالوجي.(5)نشر الجزء الأول من هذا المشروع عام 1976 وقصد منه أن يكون مقدمة لسلسلة من الدراسات لجوانب معينة من الجنسانية الحديثة (الأطفال، النساء، “المنحرفين”، السكان وغيرهم .) فقد حدد الخطوط العريضة لمشروع التاريخ كله، شارحا فيه وجهة النظر الأساسية والطرق التي سيتم استخدامها.

في حساب ميشيل فوكو، فإن الرقابة الحديثة المفروضة على الجنس توازي الرقابة والتحكم في الجريمة من خلال جعل الجنس (كالجريمة) موضوع للتخصصات العلمية المزعومة والتي تقوم بتوفير المعرفة والسيطرة أيضاً على موضوعاتها في وقت واحد. لذلك فإنه يصبح من الواضح أن هناك بعداً آخر للسلطة المرتبطة بعلوم الجنس فالأمر لايقتصر على تحكم يمارس من خلال معرفة الآخرين بالأفراد ولكن هناك أيضاً تحكم من خلال معرفة الأفراد لأنفسهم. الأفراد يستدمجون المعايير المنصوص عليها من قبل علوم الجنس كمعايير داخلية ويقومون بمراقبة أنفسهم كمحاولة منهم للتطابق مع تلك المعايير, ولذلك فهم ليسوا فقط مراقبين بوصفهم موضوعات للرقابة/التأديب، بل أيضا بوصفهم ذوات خاضعة لتدقيق وتشكيل ذاتي.

إرادة العرفان (المعرفة) ام تأريخ السّلطة؟:

يمكن إعتبار الكتاب الاول المعنْون " تاريخ الجنسانية – إرادة العرفان " والذي نحن بصدده (قراءة السلطة وفرضية القمع) يمكن إعتباره بالمقدمات النظرية أو المقاربات المنهجية التي اختطها " فوكو " وتشتغل كاطار نظري ومنهجي للكتابة عن الموضوع " الجنسانية " والمتشعبة بطبيعة الحال في الحقول (التاريخية والطب النفسي والقوة والمعرفة...الخ). الكتاب الاول في هذه السلسلة معنيٌّ بدراسة القمع الذي تعرضت له الجنسانية حيث يناقش فوكو في كتابه الفرضية القمعية لخطاب الجنسانية في المجتمعات ويطرح الكتاب اسئلة على شاكلة : هل تتبُع ما نراه قمع جنساني منذ نمو البرجوازية في القرن ال17 إلى الآن هي دارسة دقيقة تاريخيًا؟هل بالفعل يتم التعبير عن السلطة في مجتمعنا أساسيًا بشكل تراجعي؟ هل خطاب الجنسانية في عصرنا الحديث هو إنشقاق عن هذا القمع التاريخي للجنسانية ام انها جزء من هذا التاريخ؟. والعنونة الثانية في الكتاب حول الفرضية القمعية تتابع وراءها عناوين (الحث على الخطاب، تأصيل الشذوذ ‘ علم الجنس، مركب الجنسانية، الرهان، المنهج، الميدان، التحقيب، واخيراً حق الموت والسلطة في الحياة). أنها تواريخ لما يفترض أنه حديث عن الجنسانية ولكنها بالاحرى دراسة للقمع ولاشكال السلطة ضد تحرر الذات.

يؤرخ " فوكو" لبداية عصر القمع بالقرن السابع عشر؛ حيث أن الجنس اصبح مقموعاً من الظهور في اشكال الخطابات مع استخدام الصمت حياله والمراقبة ولاحقاً العقاب (فمن الممكن أن يكون قد تم تطهير صارم جداً للمعجم المسموح به. ومن الممكن أن يكون قد تم تقنين خطابة كاملة للتلميح والاستعارة ومن دون شك فقد صُفّت قواعد جديدة للياقة والحشمة ...... وبطريقة أكثر دقة، تم تعريف أين ومتى ليس من الممكن الكلام عنه؛ في اي وضع؛ وبين أي متخاطبين وداخل اي علاقة اجتماعية وهكذا اقيمت مناطق ان لم يكن للصمت المطلق؛ فعلى الاقل للحساسية والرصانة) (6). وغدا الحديث عن الجنس أكثر صعوبة بعد أفول الحقبة الفكتورية (7) حيث كانت قوانيين المجون أكثر ليونة – لكن وبطريقة أكثر دقة فقد تم وضع قواعد تتعلق بالحشمة والرصانة وداخل العلاقات اقيمت مناطق للصمت المطلق بين الاباء والابناء والاسياد والخدم. لكن فو كو يرى أن خطاب الجنس رغم ظهور اشكال القمع وقتها فهو اصبح موضوعاً كلاميا وتكثّف حضوره وتعددت خطاباته حيث الحثّ على الكلام حوله اكثر واكثر واصرار اجهزة السلطة على الاستماع للكلام عنه وغداة العام 1563الوقت الذي تقرر فيه الاصلاح العام للكنيسة الكاثوليكية لمواجهة البروتستانية تم تسريع وتيرة الاعتراف(8) ومحاولة فرض قواعد دقيقة لفحص الذات من قبل نفسها. يسائل فوكو الأسباب التي، من ناحية دفعت الأروبيين إلى التفكير في أنّ الجنس كان عندهم ولأمد طويل مقموعا، ودفعهم من ناحية أخرى إلى استشعار الحاجة إلى قول الحقيقة حول الجنس واعتبار هذا الواجبَ تحرّرا. أسئلة لها من القيمة ما يجعل الحقيقة حول الجنس تبدو الأكثر حميمية، والأشدّ سرّية عن أجسادنا وعن كياننا، والتي نمرّ عبرها إلى حقيقتنا الشخصيّة، مع كونها تحدّد في آن علاقاتنا الاجتماعية. وخلافا للأفكار السائدة سعى فوكو في كتابه هذا إلى البرهنة على أنّ “التحرير الجنسيّ” ينخرط في الحقيقة ضمن تراث الفكر الغربيّ المسيحيّ.وهكذا يحلّل في النصّ المصاحب فكرة الاعتراف، الأساسية عنده .

يحاجج فوكو وعبر الحقبة الفكتورية بالحرية التي كانت موجودة " فالممارسات لم تكن تبحث عن التستّر الا في القليل النادر والكلمات كانت تقال دون تكتم مفرط والاشياء دون افراط في التنكر لقد كانت هناك نوع من الالفة المتساهلة مع المحظور وغير المشروع" (9). ولتبيان هذا الامر يجب معرفة كيف يرى فوكو السلطة؛ فهو لا يعني بالسلطة كمجموع مؤسسات وأجهزة يخضع لها المواطن في دولة ما ولا نمط الاخضاع الذي تمارسه ولا يراها كمنظومة عامة للسيطرة يمارسها عنصر أو مجموعة على أخرى؛ تبدو السلطة في نظر فوكو حول تعددية علاقات القوة المحايثة للميدان الذي يتم فيه ممارستها والمشكلّة لنظامها والانفصامات والتّناقضات في داخلها بالاضافة الى الاستراتيجيات والتي يأخذ رسمها العام في المؤسساتية .

وبطبيعة الحال في نقده لما بعد الحقبة الفكتورية وخطابات الجنس السائدة آنها والتحوّلات التي طرأت على المشهد بعد الحقبة حين غدا الجنس والشذوذ والسادية ..الخ موضوعاً "عيادياً " داخل اورقة الطب النفسي وحين شُّرعت قوانين على هذا الأساس بالاضافة الى المناهج التعليمية وسيطرة الدين ايضاً على خطاب الجنس مع المحاولة لوضعه في قوالب معينة. يرى فوكو هذا التكالب على الجنس وخطابه محاولة لقمعه ومنعه من الظهور في الفضاء العام.قد أدى الى تكثيف حضوره في كل المجالات.

فها نحن نرى مرتكزات التقنيات الحديثة للسلطة: المراقبة والحراسة وفي نهاية المطاف العقاب.(10) فهي تحث على الإنتاج أكثر من القمع، وبذلك فهي تخضع كلا من القيمة والجسد والمعرفة لإمرتها، تخلق السلطة معايير السلوك من خلال المراقبة وفرض الالتزامات وتطوير العادات. فهي تحدد السوي والمرضي. كما تهدف السلطة إلى تطويع الأجساد بحيث لا تملك هذه الأخيرة الخروج عن إنتاج معايير السلوك. فالجسد هو تلك المنطقة (ليس بالمعنى التوبوغرافي أو الطوبوس*) التي تقوى على التعبير عن الحياة، وإليها تتجه التقنيات الحديثة للسلطة من أجل إخراسها وإجبارها على الصمت. تحتاج السلطة، من أجل تثبيت نفسها، وتكريس سيطرتها إلى مراقبة، ليس الأشكال الثقافية للفكر، بل أيضا أشكال تعبيرات الجسد.

فرضية القمع:

الفرضية القمعية تنص على أن العلاقة بين السلطة والجنس هي علاقة قمع: فالسلطة تُمارس لإبقاء الجنس طي الكتمان، وعدم التحدث عنه، وعدم التفكير فيه. في هذا الفصل، يحاول فوكو إقناعنا بالعكس: فقد تم ممارسة السلطة لإدخال الجنس بشكل متزايد في الخطاب، وفي تركيز أوسع وأكثر تحليلية.

لا ينكر فوكو بعض الحقائق الأساسية التي تلهم الفرضية القمعية. ويوافق على أنه كان هناك جهد أقوى للسيطرة على الجنس وأن الجنس أصبح بشكل متزايد أمرًا مخجلًا. وهو يحدد الموقف الحر والسهل تجاه الجنس في العصور الوسطى وعصر النهضة، حيث كان هناك خجل أقل في التفكير في الجنس كموضوع للمتعة. كما أنه يوافق على أن هذا الموقف الحر والسهل تم قمعه، وأنه كان نتيجة للسيطرة على القوة البرجوازية الصاعدة.

يختلف فوكو مع الفرضية القمعية فيما يتعلق بكيفية وسبب قمع هذه الحياة الجنسية المفتوحة. ترى الفرضية القمعية فقط إسكات شكل سابق من الخطاب. يرى فوكو أن هذا الإسكات هو نتيجة ضرورية لتزايد "إرادة المعرفة" فيما يتعلق بالجنس. أي أنه مع ازدياد أهمية معرفة الجنس، أصبحت الطرق التي يمكننا التحدث بها عن الجنس أكثر صرامة.

حجة فوكو الرئيسية هي أنه بدلًا من أن يكون الحديث عن الجنس محظورًا، فقد زاد منذ القرن السابع عشر. ومع ذلك، يُظهر فوكو أيضًا أن الطريقة التي يتحدث بها الناس عن الجنس قد تغيرت أيضًا. إن الفكاهة الصاخبة والاعترافات الصريحة في عصر النهضة ليس لها أي شيء مشترك مع الدراسات التحليلية والوعي المسيطر عليه في القرن الثامن عشر وما بعده. لقد اتخذت كلمة "الجنس" معنى مختلفا تماما في القرون الثلاثة الماضية.

وهذا التغيير في المعنى هو نتيجة مباشرة للعلاقة المتغيرة بين السلطة والجنس. في القرون الثلاثة الماضية، أصبح الجنس أكثر فأكثر موضوعا للمعرفة. وعلى هذا النحو، فقد خضع لنوع من التدقيق النزيه المستخدم في العلوم. يتوقف الجنس عن كونه شيئًا يمكن أن نضحك عليه ونمارسه بشغف متهور، ويصبح شيئًا يجب علينا التعامل معه بهدوء وتحكم. لم يعد مجالًا للسذج والعاطفة، بل أصبح مجالًا لعالم الاجتماع والفقيه.

***

أحمد يعقوب – كاتب وباحث

.......................

هوامش:

1- سيرة ميشيل فوكو (Michel Foucault) الذاتية، وخلفيته الفكرية، ونقد فوكو للعقل التاريخي، وحول أعماله الرئيسية، ترجمة: يوسف الصمعان، والمنشور على (موسوعة ستانفورد للفلسفة).

2- سيرة ميشيل فوكو (Michel Foucault) الذاتية، وخلفيته الفكرية، ونقد فوكو للعقل التاريخي، وحول أعماله الرئيسية، ترجمة: يوسف الصمعان، والمنشور على (موسوعة ستانفورد للفلسفة).

3- نفس المصدر.

4- كيف تساعدنا قراءة فوكو على فهم تاريخ الجنسانية- اسماعيل فايد – موقع مدى 12 ديسمبر 2017

5- سيرة ميشيل فوكو (Michel Foucault) الذاتية، وخلفيته الفكرية، ونقد فوكو للعقل التاريخي، وحول أعماله الرئيسية، ترجمة: يوسف الصمعان، والمنشور على (موسوعة ستانفورد للفلسفة).

6- ص (15) فوكو- تاريخ الجنسانية – ارادة العرفان – ترجمة محمد هشام افريقيا الشرق 2004 – المغرب

7- نسبة للملكة فكتوريا .

8- المقصود به الاعتراف الكنسي .

9- ص (5) فوكو- تاريخ الجنسانية – ارادة العرفان – ترجمة محمد هشام افريقيا الشرق 2004 – المغرب

10- فوكو وميكروفيزياء السلطة – معزوز عبدالعالي – مجلة حكمة قسم الفلسفة 2016

*طوبوس Topos: كلمة فرنسية تعني موقع أو موضع. أنظر قاموس المعاني

مصادر:

  • Gutting, Gary, 1989, Michel Foucault’s Archaeology of Scientific Reason, Cambridge: Cambridge University Press.
  • ––– (ed.), 2005, The Cambridge Companion to Foucault, Cambridge: Cambridge University Press, second edition.
  • Han, Béatrice, 2002, Foucault’s Critical Project, Stanford: Stanford University Press.
  • Hoy, David (ed.), 1986, Foucault: a Critical Reader, Oxford: Blackwell.
  • Koopman, Colin, 2013 Genealogy as Critique: Foucault and the Problems of Modernity, Stanford University Press.
  • Macey, David, 1994, The Lives of Michel Foucault, New York: Pantheon.
  • May, Todd, 2006, Philosophy of Foucault, Toronto: McGill-Queens University Press.
  • McNay, Lois, 1994, Foucault: a Critical Introduction, Cambridge: Continuum.
  • Oksala, Johanna, 2005, Foucault on Freedom. Cambridge University Press.
  • Rajchman, John, 1985 Michel Foucault and the Freedom of Philosophy, New York: Columbia University Press.

تبدو بعض المبادئ الأخلاقية الأساسية والهامة ذات طابع عالمي يؤمن بها الناس في جميع الثقافات ولا تتغير بمرور الزمن. لقد وُجد ان الأطفال بدءاً من عمر عشر سنين في معظم الثقافات يؤمنون بالأخلاق المرتكزة على الأذى- في ان إيذاء الآخرين فيزيقيا او إنتهاك حقوقهم هو عمل خاطئ (Helwig&Turiel,2002). بعض البحوث تقترح ان تطور الاخلاق يبدأ في وقت مبكر جدا من تطور الانسان. هاملن وزملائه استعملوا مسرحية أخلاقية في تجربة مع الرضع و الاطفال الصغار وجدوا فيها ان الاطفال فضّلوا الناس الذين يساعدون الآخرين في الوصول الى أهدافهم (سلوك اجتماعي ايجابي) وتجنّبوا الناس الذين يتسببون بالأذى، او الذين كانوا عقبة أمام منْ يريدون الوصول الى أهدافهم. وبدءاً من عمر ثلاثة شهور،يبدأ الناس بتقييم سلوك الآخرين ويخصصون قيمة موجبة للنافعين والمتعاونين سلوكيا (هاملن،2007) وقيمة سالبة للسلوكيات المؤذية والأنانية. هذه المبادئ الأساسية والعالمية للاخلاق تتضمن حقوق الافراد والحريات والمساواة والاستقلالية والتعاون.

السايكولوجي الأمريكي لورنس كولبرج Lawrence Kohlberg طرح نموذجه الأخلاقي عام 1958  وهو نموذج يركز على الكيفية التي تتطور بها الاخلاق بعد الطفولة. مراحل كولبرج في التطور الأخلاقي لها دعم عابر للثقافات . التطور الاخلاقي يشير الى التغيرات في المعتقدات الاخلاقية للفرد عندما ينمو ويتقدم في العمر حتى يصل الى مرحلة النضج.

طبقا لنظرية كولبرج، الاخلاق ترتكز على مفهوم المساواة و التعامل المتبادل الذي يمكن التنبؤ به في أعمار معينة. لتطوير نظريته، طرح كولبرج  مأزقاً او معضلات أخلاقية للناس في كل الأعمار، مع انهم جميعا كانوا من الذكور البيض الامريكيين. احدى المعضلات الشهيرة التي عرضها كولبرج سميت معضلة هينز Heinz dilemma وفيها طُلب من المشاركين ان يقرروا ما يجب ان يقوم به هينز.

 المعضلة على الشكل التالي:

"في اوربا، كانت هناك امرأة تقترب من الموت بسبب نوع من السرطان. كان هناك دواء واحد فقط إعتقد الطبيب انه سينقذ حياتها. هو عبارة عن نوع من الإشعاع الراديوي اكتشفه صيدلاني في نفس المدينة مؤخرا. الدواء كان مكلّفا جدا لكن الصيدلي وضع للدواء سعرا يعادل عشر مرات كلفة الدواء.هو دفع 200 دولار للاشعاع وطلب 2000 دولاركسعر لحقنة صغيرة منه. زوج المرأة المريضة ذهب الى كل من يعرفه لإقتراض النقود، لكنه استطاع ان يجمع فقط 1000 دولار والذي هو نصف الكلفة. هو أخبر الصيدلي بان زوجته على وشك الموت وطلب منه ان يخفض سعر الدواء او يدفع له لاحقا. الصيدلاني رفض الطلب قائلا "انا اكتشفت الدواء وانا اريد الحصول على نقود منه". هنا شعر الزوج باليأس وقرر ان يقتحم محل الصيدلاني ليسرق الدواء لزوجته بالقوة. هل كان يجب على الزوج القيام بهذا العمل؟ (Kohlberg,1969,p.379)".

بعد ان عرض كولبرج هذا المأزق الاخلاقي، قام بمراجعة أجوبة المشاركين. هو لم يكن مهتما ما اذا كان المشاركون يجيبون بـ نعم ام لا، وانما هو مهتم بطريقة التفكير الكامنة خلف أجوبتهم. اعتمادا على العقلانية، وضع كولبرج الناس في مراحل مختلفة من التفكير الأخلاقي. هو حدد ثلاثة مستويات أخلاقية للتفكير الأخلاقي:

1- تفكير ما قبل التقليدية pre-conventional reasoning

في هذا المستوى من الأخلاق، تتم السيطرة على الأخلاق خارجيا. القواعد تُفرض من قبل سلطات خارجية ويجب الإمتثال لها لكي يمكن تجنّب العقوبة او استلام المكافأة. وفق هذا المنظور فان ما هو صحيح هو ما يجنّب العقوبه او ما يجلب الرضا الشخصي.

2- المستوى التقليدي conventional reasoning

ويصف مستوى التطور الأخلاقي عندما يحكم الناس على قيمتهم الأخلاقيه طبقا لما يعتقد به الناس الآخرون، هذا يتضمن طاعة القيم والأعراف الاجتماعية.

3- تفكير ما بعد التقليدية post conventional reasoning

هذا المستوى من الأخلاق يمكن استعماله لحل الصراع الأخلاقي وهو آخِر مرحلة في نموذج كولبرج، وفيه يطور الافراد أخلاقهم الخاصة بهم لتقود قراراتهم وأفعالهم. هذه أعلى مراحل الاخلاق. وهناك مستويان اثنان لهذه المرحلة، وهما العقد الاجتماعي والاخلاق العالمية ومستوى المبادئ. الافراد الذين يصلون الى أعلى مستويات الاخلاق الما بعد التقليدية يحكمون على القضايا الأخلاقية بناءً على مبادئ أعمق ومُثل مشتركة بدلا من المصلحة الذاتية او اتّباع القوانين والأعراف. الافراد يتخذون خياراتهم بالإرتكاز على معتقداتهم الشخصية، حتى لو اصطدمت تلك المعتقدات مع القوانين او الأعراف الاجتماعية. مثال على هذا عندما يعتقد الفرد ان الرعاية الصحية هي حق انساني أساسي يرتكز على قواعد الفرد الأخلاقية، وان كانت غير مدونة في قوانين البلد او في الأعراف الاجتماعية.

كل مستوى أخلاقي يرتبط كثيرا بمراحل معقدة من التطور الأخلاقي والمعرفي. طبقا لكولبرج، ان الفرد يتقدم من القدرة على ما قبل الأخلاق التقليدية (قبل سن التاسعة) الى القدرة على الاخلاق التقليدية (حالما يتم اكتساب التفكير العملي الرسمي). كولبرج وضع أجوبة عكست التفكير بان هينز يجب ان يسرق الدواء لأن حياة زوجته أكثر أهمية من النقود التي يسعى لها الصيدلي. ان قيمة حياة الانسان تتجاوز جشع الصيدلاني. من المهم إدراك انه حتى هؤلاء الناس الذين لديهم اسباب معقدة وما بعد تقليدية لبعض الخيارات هم ربما يتخذون خيارات اخرى لتجنّب الوقوع في بعض المآزق مثل أسباب ما قبل التقليدية.

***

حاتم حميد محسن

العديد من الاقتصاديات وحتى التفاعلات الاجتماعية هي اليوم تنافسية. نحن نستعمل الاسواق للعثور على الوظائف. ماذا يعني هذا لأخلاقنا؟ هل الرأسمالية تعطي الناس الحلم الامريكي، هل المنافسة تجعلنا شرفاء ام انها تدفعنا نحو الغش والاحتيال؟ هذه الاسئلة العميقة شغلت أذهان بعض كبار الاقتصاديين الكلاسيكيين الذين رأوا الرأسمالية تنطوي على كل من التأثيرات الاخلاقية الجيدة والسيئة. آدم سمث ركز على الاشياء الجيدة، بينما كارل ماركس كان أقل تفاؤلا. ومع ان المنافسة يمكنها ان تحفزنا للكفاح لأجل الحصول على الموارد، لكنها ايضا يمكن ان تكون لها نتائج سلبية. في مجال الأعمال يمكن ان تكون المنافسة طريقة بنّاءة ضمن فريق العمل ويمكنها ايضا ان تكون مؤذية للفريق ولثقافة الشركة ككل. هنا لابد من الإشارة الى وجود نوعين من المنافسة: المنافسة السلبية والمنافسة الايجابية.

المنافسة السلبية

وتحدث عندما نتنافس مع آخرين لأننا نريد الربح على حساب شخص آخر او اشخاص اخرين. بكلمة اخرى، نجاحنا يعتمد على فشلهم. المنافسة السلبية هي لعبة الصفر وترتكز على فكرة مراهقة في اننا اذا نربح نكون "جيدين"، واذا نخسر نكون "سيئين". الفرق الرئيسي بين المنافسة الايجابية والسلبية هو في نوع المشاعر التي يشعر بها الناس ضمن أجواء المنافسة. هذه المشاعر تجعل نوع معين من الناس يتصرفون بطريقة مختلفة. المنافسة السلبية ترتكز على المحصلة او الانجاز. ضمن هيكل الفريق، تعمل المنافسة السلبية على هدم الثقة والأمان السايكولوجي وهي ضارة للثقافة. انها عادة تتخذ واحدا من الأشكال التالية:

1- شخص معين يتنافس ضد شخص آخر في الفريق

2- شخص ما يتنافس ضد كامل الفريق

3- فريق واحد يتنافس ضد فريق آخر ضمن المؤسسة.

عيوب المنافسة السلبية:

1- التوتر والضغط

احدى اهم النتائج السلبية للمنافسة هي ما تسببه من توترات وضغوط. في بيئة شديدة المنافسة، الافراد قد يشعرون انهم تحت ضغط مستمر ليؤدوا أفضل ما يمكن. هذا الضغط يمكن ان يقود الى قلق وكآبة وأعراض صحية سلبية اخرى. بالاضافة الى ذلك، ان الضغط المتواصل لأجل النجاح يخلق احساسا بالإرهاق حيث الافراد يصبحون مستنزفين وغير قادرين للعمل بصورة أفضل.

2- عدم التعاون:

المنافسة يمكنها ايضا ان تحد من التعاون ضمن فريق العمل. في أجواء المنافسة الشديدة، الافراد يصبحون اكثر تركيزا على نجاحهم الخاص وأقل رغبة للعمل مجتمعين. هذا يمكن ان يؤدي الى قلة التعاون والاتصال، والذي من شأنه ان يكبح التقدم والابتكار. في بعض الحالات، المنافسة تخلق بيئة عمل سامة، حيث يتم تحريض الافراد ضد بعضهم البعض، وسيُحبط التعاون.

3- اللاإنصاف:

عيب آخر للمنافسة هي انها احيانا تكون غير عادلة. في بعض الحالات، الافراد او الجماعات تصبح لهم أفضلية على الآخرين، مثل الوصول الى افضل الموارد او الشبكات. هذا يمكن ان يخلق احساس باللاّعدالة ويجعل الناس يشعرون ان المنافسة قاسية ضدهم. كذلك، بعض الناس قد يخدعون او يتورطون بالغش وسلوكيات غير أخلاقية للحصول على مزايا، وهو ما يفاقم الشعور بعدم العدالة.

4- اللانزاهة:

تقود المنافسة الى عدم النزاهة وسلوك غير أخلاقي. في البيئة الشديدة المنافسة، بعض الافراد ربما يشعرون انهم يحتاجون الى عمل تكتيكات غير نزيهة للتقدم الى الامام. هذا يتضمن الكذب والغش وتصرفات اخرى غير أخلاقية. هذا السلوك يحطم الثقة ويضعف سلامة المنافسة بما يقود الى انهيار في القيم والمعايير الاجتماعية.

5- الخوف من الفشل:

اخيرا، المنافسة يمكن ان تخلق خوفا من الفشل والذي من شأنه ان يمنع الابتكارية والابداع. عندما يتنافس الافراد باستمرار ضد بعضهم، هم يصبحون خائفين من اخذ زمام المبادرة او محاولة تبنّي اشياء جديدة خوفا من الفشل. هذا الخوف يمكن ان يخنق الابتكارية ويمنع الافراد من تطوير حلول وافكار جديدة.

المنافسة الإيجابية

وتحدث عندما نتنافس صحيا – بطريقة تجلب أفضل شيء لنا ولكل المشاركين في العمل. انها طريقة لتحدّي الذات والاخرين . انها تسمح للمرء بالاستفادة من امكاناته وتحقيق النجاح.

عندما نتنافس بهذه الطريقة الايجابية، نحن لا نشجع او نصبح مهوسين بالربح مهما كانت التكاليف. نحن ندرك اننا لسنا "جيدين" او "سيئين" وان النتيجة لا تقرر قيمتنا كبشر. بالطبع، نحن ربما نربح او نخسر المنافسة، وهناك أوقات عندما يصبح للمحصلة تأثيرا هاما . المنافسة الايجابية هي حول النمو، المثابرة، ونقل أنفسنا وفريقنا لمستوى اكثر تقدما.

عندما نتنافس ايجابيا، ذلك يفيدنا ويفيد كل شخص آخر مشارك. هنا بعض فوائد المنافسة الايجابية:

1- انها تشعل الابتكارية

2- تحفز الآخرين

3- تزيد الجهد

4- تحسّن الانتاجية

5- تساعد الناس في تقييم قوتهم وضعفهم

6- تحسّن نوعية العمل

7- تجعل الافراد يقظين

لمعرفة مدى تأثير المنافسة على أخلاقية العاملين، قامت مجلة The conversation (عدد حزيران 5،2023) بإجراء اختبار ساهم به عدد من علماء السلوك وشارك به اكثر من 18 الف شخص نُشرت نتائجه في وقائع الاكاديمية الوطنية للعلوم، حيث تبيّن ان التفاعلات التنافسية تميل لتجعل الناس أقل أخلاقية ولكن بدرجة قليلة. باختصار، بينما يمكن للمنافسة ان تحفزنا للكفاح نحو النجاح، هي يمكن ايضا ان تكون لها عدة نتائج سلبية. من الضروري خلق توازن بين المنافسة والتعاون لخلق بيئة صحية ومنتجة يزدهر في ظلها الافراد، وفي نهاية اليوم يجب ان نتذكر ان الحياة ليست منافسة.

***

حاتم حميد محسن

العديد من الناس يندفعون للفلسفة لشعورهم بان الأشياء هي ليست كما تبدو لنا. ليس هذا مجرد قلق بسيط بشأن فهم الاشياء بطريقة خاطئة وانما هو شك مُربك في اننا جميعا قد نرى كل شيء بشكل خاطئ. عدم اليقين هذا يُوجّه بنفس المقدار الى القدح بجانب الآلة الكاتبة التي نستخدمها لكتابة مقال يتعلق بكينونة مثل الالكترون، او بأفكار ومشاعر الاشخاص الأقرب الينا، او بما ينتظرنا بعد الموت. الشكوك حول الطبيعة الحقيقية لعالمنا اليومي، او حول طبيعتنا الخاصة، قد تصبح قاتمة وتتحول الى قلق عميق، كما هو الحال عندما نخشى اننا نحلم. ومن جهة اخرى، انها شكوك قد تزدهر وتتحول الى بهجة عندما نشك بان في العالم ما هو أكثر جمالا، وسحرا ودهشة – مما يحيط بنا ونحن نمارس أعمالنا الرتيبة. بالنسبة للعلماني الانساني، البديهة بوجود واقع مخفي قد تتوهج بإحساس يضيء المساحة التي أخلاها رحيل الدين بوعوده ووعيده. على عكس الله الذي يهتم شخصيا بالعالم، فان هذا الواقع لن يحكم على سكانه ويكافئهم ويعاقبهم كما يراه مناسبا.

تشكيك ثم تشكيك

هناك عدة مسارات لشك عالمي يُوجّه لتحرير التجربة اليومية. احداها هو جدال بارمنديس اكبر فلاسفة ما قبل سقراط الذي استخدم الحقيقة التي لا جدال فيها " لا تأتي الاشياء من لا شيء او تخرج من الوجود الى لا شيء، او تنفصل بفضاء فارغ" هو استنتج من هذا ان الكون هو في الحقيقة كرة موحدة من الاشياء المتجانسة. بارمنديس لكي يستبق الاعتراض على صعوبة الكيفية التي تبدو عليها الاشياء لنا، هو طلب من أتباعه ان لا يسترشدون بعيونهم الكسولة ولا بآذانهم وانما ليختبروا كل الاشياء بقوة التفكير وحده.

فلاسفة آخرون برّروا التحقق من صورتنا للعالم من خلال تسليط الضوء على الكيفية التي تضللنا بها حواسنا احيانا، والكيفية التي بها نحلم عندما نضع أنفسنا في عوالم لا يطابقها شيء. جدال ديكارت في خطاب حول الطريقة 1637 يستبق الاعتراض على الشكوك العالمية باننا لا نخطئ في الامور الاّ في بعض الاحيان: "مهما قبلت حتى الان كحقيقة حصلت عليها اما من الحواس او من خلال الحواس، لكن من وقت لآخر، انا وجدت ان الحواس تخدع، ومن الحكمة ان لا نثق كليا بتلك التي خدعتنا حتى ولو مرة واحدة".

هذه الحالة من الشك العالمي جرى نقاشها بقسوة. لو استطعنا اكتشاف ان حواسنا خدعتنا، فيجب علينا ان نفعل ذلك من وجهة نظر الشخص الذي لا يُخدع كثيرا. فقط اذا تمكنا من تصحيح الامور، يمكننا ان نكتشف حقا اننا اخطأنا في فهمها. ان فضح الأكاذيب يسلط الضوء على حجر الاساس للحقائق التي تبدو غير قابلة للشك والتي تقوم عليها حياتنا. اذا تمكنّا من فهم بعض الاشياء او الكثير منها بشكل خاطئ، فاننا نفعل ذلك على خلفية تصحيحها بشكل عام. ان عملية التشكيك في حقيقة جميع تصوراتنا قد تبدو في حد ذاتها موضع شك، طالما الادّعاء بان كل ما يتم الكشف عنه لا يرقى الى الواقع، يبدو انه يُسقط المعيار العام الذي يمكن به الحكم على عدم الواقعية. بالنهاية، مثل هذا الشك لا يزعجنا عندما نسرع نحو الباص او عندما نحاول جلب النوم لمولود جديد، او الخوف على حياتنا او القلق حول صحة مريض آخر او التخطيط لعمل مهني او مجرد الغضب على شخص ما يتحدث بصوت عالي في الآيفون في القطار.

إختراق الاشياء الصلبة، الدفع والسحب في العالم المادي، وتوترات وضغوطات الميدان الاجتماعي، بكل منغصاته ومسؤولياته المقلقة، الترابط الذي لا لبس فيه لمسرّات وأحزان الحياة اليومية يُضعف مصداقية الشكوك حول "الواقع اليومي" خاصة عندما تدّعي تلك الشكوك تقويض الافتراضات ذاتها التي تشكل الارضية التي نقف عليها عند ممارسة حياتنا اليومية. استثمارنا الوجودي في العالم المشترك ذي المظاهر والمعتقدات العادية يقوّض أيّ ادّعاء باننا منفصلون عن الواقع. في معظم استيقاظنا لساعات اليوم، لا نستطيع اخذ شك الفلاسفة على محمل الجد. العديد من العمليات التي تأتي بدءاً من وخز الشك وحتى نشر المقال تعتمد على افتراضات مسبقة عرضة للتساؤل في النظرية لكن لا يمكن إنكارها في الحياة العملية. وكما يذكر Philip K. Dick، "الواقع هو الذي عندما نتوقف عن الايمان به، لايذهب عنا" (الحقائق المتحولة لفيليب دك، 1955).

جدال شهير ضد الفكرة بان الواقع هو ظاهرا مختلف عن ما يبدو عليه في العادة جرى تطويره من جانب الفيلسوف التحليلي JL Austin(1911-60). في كتابه Sense and sensibilia(1962) جادل اوستن بان مفردة "واقع" تكون منطقية فقط في سياق ضدها – عدم يقينية الاحداث او الكينونات التي يتم الشعور بها، او تُكتشف او تُكشف كأنها غير واقعية. "هذا واقعي" صفة تُمنح لكينونة ويُعلن عنها عندما يكون شخص ما في خطر من عمل خطأ ما. البطة ربما يُزعم واقعية فقط ضد ادّعاء مضاد كونها كانت مجرد دمية او لعبة او صورة لبطة. هذا يعطي فكرة الواقع قوة مستعارة على سبيل الإعارة من فكرة اللاواقعية.

العقل مقابل الواقع

لنتوقف قليلا، تبقى هناك أسباب جيدة للشك بحقيقة ما يحيط بنا. اثنين من أهم تلك الاسباب هي الطبيعة الوسيطة للتجارب الحسية والمعرفة التي تعطينا مدخلا لما نحسبه كواقع، والاختلاف المتزايد بين صورتنا اليومية للعالم والوصف العلمي له.

اولا، الطبيعة الوسيطة للتجربة: ما نثق به "هناك" يصبح حاضرا لنا فقط من خلال التفاعل بين جهازنا الحسي وذلك الشيء الذي نتصوره. بالنسبة للعديد من الفلاسفة، هذا سبب كافي لتبرير الاعتقاد باننا لا ندرك مباشرة الاشياء المادية بل اننا نشعر بالكينونات العقلية الوسيطة التي تسمى عادة بيانات حسية sense data بعد استعمال برتراند رسل للعبارة: كيف يبدو العالم لنا. هذا الادّعاء نال الدعم من حقيقة ان تجاربنا هي منظورية، وان العالم المحسوس مملوء بصفات ثانوية للاشياء – ألوانها، أصواتها، مذاقها، الشعور بالدفء والبرد – والتي هي عموما لا تعود للاشياء التي نصفها (مثل"الكرة الحمراء")، وانما لأذهان الافراد الذين يتصورونها بوعي. الصفات الحسية توجد في أذهان ممارِسة، وليس في العالم المادي الخارجي. وهذه فقط البداية لقصة تفاعلية. وكما لاحظ إريك واتكينز Eric Watkins "ما هو مُعطى مباشرة يفتقر لنوع من البناء المطلوب لتبرير معرفة افتراضية" (كانط، سيلر، واسطورة المعطى"). لكي نفكر بوضوح حول أشياء معينة ذلك يتطلب تعاملا جيدا لتصوّر صاعد ونازل، بحيث ما يُعطى في بيانات حسية يتم تجميعه ذهنيا في مفاهيم معينة. وبينما لا يرقى هذا الموقف لكانطية كاملة – طبقا لها تحدد فعالية الذهن خبرتنا بالأشياء في الزمان والمكان – لكنها مع ذلك تتجاهل راديكاليا الفكرة بان الوعي يعرض حالات غير ملوثة لما موجود هناك في الخارج. في هذا، يبدو ان التجربة تنطوي على قدر كبير من الإخفاء كالوحي – وبهذا تبرر توصيف المظهر كـ "قناع" يخفي الواقع.

وهناك ما يخبرنا به العلم عن العالم الطبيعي. العلم جدير بجذب انتباهنا فقط بسبب قوته التنبؤية وقدرته على تحويل حياتنا من خلال تطبيق نظرياته في التكنلوجيا. لكن النسبية العامة وميكانيكا الكوانتم أضعفتا فهمنا اليومي للواقع. دمج اينشتاين للزمان والمكان في الزمكان يشير الى "كتلة كونية" أبدية لا متغيرة لعالم مستقل عن تجربتنا. هذا برّر وصف كارل بوبر لأينشتاين كـ "بارمنديسي" – وهو لقب ربما يُفرح اينشتاين. ميكانيكا الكوانتم قادت العديد من الناس لإعتناق "إحتمالية كوانتمية"، وهي الرؤية بان العالم ليس له حالة متناهية في غياب المشاهدة. هذا الادّعاء هو التفسير الكوبنهاغني السائد لميكانيكا الكوانتم – النظرية الاكثر قوة وانتاجية التي قدمها العلم على الاطلاق.

قبل استسلام الميتافيزيقيين لسلطة العلم الفيزيائي، يجدر بنا تذكير أنفسنا بان نظرياته الأكثر تأثيرا – النسبية العامة وميكانيكا الكوانتم – هما بالاساس غير منسجمتين. كذلك، هناك عدة تفسيرات لنظرية الكوانتم لأن هناك فيزيائيين لا يرغبون باتّباع نصيحة ريتشارد فايمان Richard Feynman "إصمت وإحسب"(1). نحن لذلك، يجب ان لا نفترض ان سلطة العلم المبررة تتمدد الى اسئلة ميتافيزيقية، بما في ذلك طبيعة الواقع.

الى جانب ذلك، العلم يرتكز كليا على القياس. وبينما هذا قد يحرر الملاحظة من الذاتية والمنظورية، لكنه يقوم بهذا على حساب استنزاف العالم الطبيعي – مزيلا صفاته ومختزلا اياه الى كميات، الى ان يُرى الواقع النهائي مجرد نظام للمقادير. هذا ينعكس في نزعة بعض الفلاسفة العلميين للاستنتاج – كما فعل جيمس لاديمان و دونالد روس في (كل شيء يجب ان يذهب، 2007) – بان الاشياء المادية ، حتى الذرات منها، هي ليست الاّ اوهاما. هما يجادلان، بان الواقع النهائي مركب من بناءات رياضية ليس فيها أشياء فردية. تفضيل بناء على أي محتوى ربما له بناء، او – كما في حالة كارلو روفيل في ميكانيكا الكوانتم العلائقية – مجادلا ان العلاقات هي اكثر واقعية من أي شيء يمكن ان يدخل في تلك العلاقات، أقل ما يقال عنه ، انه مثير للجدل. انه لا يوفر الكثير من التشجيع لاولئك الذين يعتقدون ان الفلسفة يجب ان تنحني للعلم. الفيزياء تعاني من فوضى ميتافيزيقية كافية لأن الفلاسفة لا يشعرون مجبرين على إعتناق الفلسفة السيئة للعلماء.

رغم ما سبق، يبدو في النهاية كما لو كنا لا نستطيع إنكار ان هناك اسئلة فلسفية صالحة حول طبيعة الواقع لم يُجب عليها. من الصواب ان العالم المتعدد الطبقات والمسلّم به لابد وان تخترقه الشكوك حتى لو كان التساؤل لا يمكن المحافظة عليه وسط اضطراب وتقلّب الحياة اليومية. ان اليقين باننا في النهاية عاجلا ام آجلا سنصل الى يومنا الأخير وننفصل عن وجودنا وعالمنا المرتبط به هو في ذاته كاف لتبرير إحساسنا بان الحياة هي بمعنى ما حلم، وان الواقع الذي نأخذه كحقيقة هو ليس الطريقة التي يكون بها الواقع في كل المواقف والفعاليات.

***

...................

الهوامش

(1) عبارة إصمت وإحسب (shut up and calculate) صاغها الفيزيائي ريتشارد فاينمان، وعادة تُستعمل لتصف اتجاهه في الفيزياء النظرية. العبارة تشير الى ان فاينمان اعتقد ان الفيزيائيين يجب ان يركزوا على الحسابات الرياضية والتنبؤات المتعلقة بنظرياتهم بدلا من القلق حول التفسيرات الفيزيائية الأساسية او المضامين الفلسفية. هذا الاتجاه يؤكد على أهمية النتائج التجريبية والتنبؤات الكمية بدلا من البحث عن فهم أعمق لطبيعة الواقع. في هذا السياق (إصمت) تعني التوقف عن الحديث او النقاش والتركيز فقط على الحسابات الرياضية والتنبؤات.

نرى احتيال الشركات سائدا في العديد من الاقتصاديات الليبرالية سواء في الدول العالية الدخل ام في الدول الفقيرة. فضيحة الغش في الانبعاثات الملوثة لشركة فولكس فاجن هي ربما الأكثر إثارة للدهشة، لكن صناعة السيارات هي فقط واحدة من عدة قطاعات، بما في ذلك المصارف وصناعة الأسلحة، حيث اصبحت الفضائح امرا شائعا. ممارسات وقيم معينة في دول الشمال كان الناس في السابق يعتبرونها صادمة نراها الان اصبحت مظهرا روتينيا في الحياة العامة.

القطاع المالي، سواء كان في الولايات المتحدة او بريطانيا او ألمانيا، اصبح يتميز الآن باحتيال مكثف ومتصاعد. يمكن القول، ان أصحاب المصارف ومدرائها لم يصلوا الى هذه الحالة من اللاشعبية في أي وقت مضى مثلما هم الان. ليس من الصعب معرفة السبب. الناس الاكثر ضعفا في المجتمع عانوا الكثير نتيجة لتخفيض الانفاق في القطاع العام في اوربا الغربية. يمكننا رسم علاقة مباشرة بين هذا التخفيض في الانفاق العام وعمليات انقاذ البنوك (دفع اموال هائلة لها) التي جرت بعد عام 2008 والتدخل الحكومي لإنقاذ السوق.

الانتقادات الشعبية للمصارف والمصرفيين نجدها على الصفحات الاولى لصحف اليمين التقليدية، الصحف التي كانت نادرا ما تهتم بنقد الرأسمالية.

نقد أخلاقي

هذه الانتقادات ليست تهديدا اساسيا للمكانة الحقيقية لأصحاب البنوك. هم وغيرهم من النخب المؤثرة يمكن ان يقاوموا مثل هذه الانتقادات بدون ان يكون لها تأثير كبير لأن نظام السلطة الذي يحافظ عليهم ليس حساسا امام هذا النوع من النقد الاخلاقي الرمزي. هذا النظام يطرح عددا مكثفا من الادّعاءات الأخلاقية التي هي اكثر تعقيدا (ويصعب اكتشافها او فك رموزها) من اسئلة مثل ما اذا كان المصرفيون يستلمون كثيرا او قليلا، او ما اذا كانوا غير اخلاقيين. يمكن القول ان اصحاب المصارف لديهم بوصلة أخلاقية واضحة وعالية التعقيد ترشدهم في أعمالهم اليومية. هذا يمكن ان يطبق بشكل واسع ايضا، وينسحب على مهن اخرى مثيرة للجدل مثل المضاربون على الملكية، أصحاب الاملاك، السياسيون، رؤساء الشركات التنفيذيون، ورؤساء الاتحادات الرياضية. هذا مخالف للبديهة (كيف يمكن ان يصبح المصرفيون اخلاقيين؟). ولكن ليس من المفيد توضيح الخداع والاحتيال في الاقتصاد الحالي بصوت خافت وخجول بأسباب تتعلق بضعف الأخلاق او غيابها. هذا الموقف بالأساس يرى ان الناس الذين يؤذون الآخرين من خلال ممارسات احتيالية، هم فقدوا اخلاقهم او ليس لديهم اخلاق اطلاقا. وفي بعض التحليلات الأقل تعقيدا، جرى افتراض انه في المعركة بين الخير والشر، كان الفساد هو شيء "سيء"، او خلل مرضي، او مظهر لشيء ما خاطئ في ادارة الدولة.

ترسيخ النظام

يمكن القول، ان كل من رؤساء الوزراء البريطانيين الأخيرين دعا في مختلف الاوقات لرأسمالية اكثر أخلاقية (توني بلير وغوردن براون)، او قطاع أعمال أكثر أخلاقية (ديفد كاميرون) استجابة لعدد من المشاكل بما فيها الرشوة ونشاطات مالية عالية الخطورة، وتثبيت سعر الفائدة وارتفاع اجور مدراء الشركات. هذه الفكرة في ان هناك حاجة الى اخلاق اكثر او اقل كانت معيبة جدا.

الممارسات الاقتصادية (بما فيها استخدام الخداع، التخويف، العنف اثناء كسب العيش) جرى دعمها سلفا بقواعد أخلاقية معينة وبفهم وأفضليات وادّعاءات. بكلمة اخرى، الاقتصاد الليبرالي الجديد الحالي يشكل فعلا نظاما أخلاقيا سواء أحببنا الأخلاق السائدة فيه ام لم نحب.

نستطيع تعريف الليبرالية الجديدة هنا كوسيلة لتعزيز حكم السوق، وتحويل القوة الاقتصادية من القطاع العام الى الخاص. وفي اثناء تطبيق النماذج الليبرالية الجديدة للنمو، تُنفق كمية هائلة من طاقة الحكومة. قيل للناس ان دعم الشركات الكبرى هو مطلوب لضمان المستقبل، وان ما هو جيد للشركة هو جيد للمجتمع. التأكيد البلاغي على أهمية السوق الحرة ومرونة العمالة والحرية ومجتمعات منفتحة والعدالة، كل هذا يُضاف الى القواعد الأخلاقية للحياة اليومية. باختصار، الليبرالية الجديدة مدعومة بقيم اجتماعية معينة وقواعد ومعتقدات. اذاً كيف يتم قياس هذا الصالح العام؟ اولا، الليبراليون الجدد يطرحون ادّعاءات كبرى دفاعا عن ما يسمونه حرية اقتصادية. هذا الادّعاء يأتي عموما من موقف مناهض للدولة وللجماعية ويؤكد على الحرية الاقتصادية للأفراد. الحريات النقابية الجماعية والحقوق الاجتماعية هي من هذا المنظور، يُنظر اليها كأعداء للحرية عندما تتدخل الدولة لمصلحة مصالح اجتماعية عامة أوسع. ادّعاءات كهذه هي معيارية طالما هي تسعى لتصوير السياسات الليبرالية الجديدة كأنها تصب في المصلحة العامة (تقود المنافسة والنمو والصادرات)، وتحقق مساهمات لخير المجتمع. وهكذا، خطاب الليبراليين الجدد لحرية السوق ببساطة يربط المصلحة العامة بمصلحة السوق والقطاع الخاص.

اتجاه سيء

هذه الأفكار تسعى لتتسلل الى كامل الرؤية الاخلاقية للعالم. لذلك، فان إعادة الهيكلة للّيبرالية الجديدة هي اقتصاد سياسي ومشروع أخلاقي يستهدف ليس فقط الاقتصاد وانما ايضا المجتمع والثقافة، بهدف إعادة خلق مجتمعات سوق رأسمالية اكثر سخافة من أي وقت مضى. وكما ذكرت رئيسة وزراء بريطانيا السابقة مارغريت تاتشر في مقابلة مع صحيفة الصندي تايمز: "الاقتصاد هو طريقة لكن الهدف هو تغيير الروح". أي نوع من الروح تريده تاتشر للناس؟ روح مرتكزة على الفردية المادية والنظرة القائمة على المصلحة الذاتية.

اذاً، لو أردنا فهم لماذا ظروف الفساد تبدو ناضجة الان في جميع الدول الرأسمالية وفي كل مستويات المجتمع، لابد من الاعتراف بانه ليس بسبب نقص الروح او غياب الاخلاق، وانما لسبب يكمن في صلب المشروع الليبرالي الجديد، توجد هناك مجموعة واضحة من القواعد والقيم والمواقف جرى تشجيعها بقوة، وصوّت الناس لها، والتي يجدون الآن من الصعب جدا تبريرها او فهمها.

***

حاتم حميد محسن

بقلم: رونالد ارنسون

ترجمة: علي حمدان

***

بعد ما يقرب من أربعين عاما من وفاته في عام 1980، الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر يعرف بانه رائدا للفلسفة الوجودية، معروف اكثر على انه فيلسوف الحرية والاصالة "وسوء النية" Bad Faith  في المؤلفات الفلسفية مثل "الوجود والعدم"(1943) والاعمال الأدبية "كالغثيان" (1938) "ولا مخرج" (1944). تطغى هذه الاصدارات المعروفة على انتاجه الرائع من اعماله الجادة وخاصة ثمرة نشاطه السياسي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى وفاته، فترة تتسم بالانخراط الثري والمستدام مع الماركسية.

يعمق عمل سارتر فهمنا لكيفية ممارسة الفعل في ظل ظروف لا نتحكم فيها.

 ان اللقاء في منتصف القرن بين الماركسية والوجودية لايزال حيويا اليوم. بينما نبحث عن اتجاهات سياسية وفلسفية في هذا الوقت عندما تتجدد الدعوات لبديل اشتراكي للرأسمالية. فان جهود ما بعد الحرب للجمع بين الماركسية والوجودية لديها الكثير لتعلمنا إياه- ليس فقط بسبب الأهمية المستمرة لكل نمط من أنماط التفكير للعمل السياسي والتنظيمي. ولكن أيضا لان تفاعلهم في عمل سارتر يعمق فهمنا لكيفية ممارسة النضال في ظل ظروف لا نتحكم فيها.

الوجودية الماركسية

بدا سارتر الشاب اللامع النشر عام 1936  في سن الحادية والثلاثين. وعلى مدى العقد التالي، اصدر مجموعة من الاعمال السيكولوجية والفلسفية والأدبية الرائدة وطور علاقات عمل قوية مع المثقفين الباريسيين الشباب الاخرين مثل سيمون دي بوفوار ( التي ستصبح شريكته مدى الحياة) وموريس ميرلو بونتي. في البداية اظهر القليل من الاهتمام النظري بالنشاط السياسي والماركسية. بدلا من ذلك انجذب بشغف الى الأفلام والروايات الأمريكية، واخذ اتجاهاته النظرية من الفلاسفة الظواهريين الالمان ادموند هوسرل ومارتن هايدجر. تكشف اعماله في هذا الوقت عن مفكر شاب مصمم على إيجاد طريقه الخاص، لخلق نهجه الفريد للعالم.

نشأت وجودية سارتر المبكرة – تأكيدا على العبثية والحرية والمسؤولية – من الفردية التي بدت وكأنها لا تترك مجالا كبيرا للتحليل الاجتماعي او أهمية للتاريخ او العمل الاجتماعي. لم يبدا سارتر في العثور على اتجاهاته الاجتماعية حتى منتصف اربعينات القرن العشرين بفضل تأثيرين متناقضين: صديقه الجديد البير كامو، ولقاء مع الأفكار والمفاهيم الماركسية. استعرض سارتر كتاب كامو " الغريب " و"اسطورة سيزيف" بعد وقت قصير من نشرهما في عام 1942، والتقى كامو في بروفة مسرحية الذباب في باريس عام  1943، بعد ذلك بوقت قصير اصبح كامو محررا ل Combat، الصحيفة السرية لواحدة من اكبر حركات المقاومة الفرنسية. بعد تحرير فرنسا في صيف عام 1944، خاض كامو معركة في افتتاحياته القتالية مع ماركسية الحزب الشيوعي. تبلور الكثير من تطور سارتر بعد الحرب بوعي ذاتي ضد هذه الانتقادات- وبعد سنوات شكل ماركسيته الوجودية غير الشيوعية.

كان اكتشاف سارتر للالتزام السياسي والاشتراكية والماركسية هو الذي مكنه من الابتعاد عن المآزق المزدوجة التي خلدها في مبادئه " الجحيم هو الاخرون" " لا مخرج" و "الانسان شغف عديم الفائدة" (الوجود والعدم). عندما ولج العالم ليعرف ككاتب مقالات سياسية ومسرحي وفيلسوف اجتماعي، فان ذلك كان على صلة بالحركات والتجمعات والأفكار الماركسية.

بعد التحرير اتاح الحديث عن الثورة، ووجود الاتحاد السوفياتي، وحيوية الحضور الضخم للحزب الشيوعي الفرنسي، اعتقد الكثيرون انه مهما كانت الصورة مشوهة وقبيحة فان عالما افضل كان يهم بالبزوغ والتفجر. انشغل سارتر سياسيا وفلسفيا بالماركسية، وظل كذلك لمدة ثلاثة ارباع حياته المنتجة.

الى ان تنصف الماركسية الفرد، كما ادعى سارتر، فان الوجودية ستستمر كفلسفة شبه مستقلة.

يمكن العثور على لمحة عن هذا الاهتمام المتزايد بالماركسية في مقالات سارتر في الصحف الفرنسية وقت زيارته للولايات المتحدة في عام  1945، في هذه المقالات غير المعروفة في الولايات المتحدة حتى عام 2001 ولم يعاد نشرها بالفرنسية، استخدم لأول مرة مصطلحات ماركسية لشرح المجتمع الأمريكي وطبقته العاملة. وشدد ان العمال الأمريكيين" ليسوا بروليتاريين بعد" لانهم "سجنوا" بالفردية ويتمتعون بما يبدو "بمساواة واضحة". بعد بضعة اشهر جاء جهد نظري الى حد ما في " المادية والثورة" لتقديم الوجودية كبديل للماركسية الستالينية. لا يظهر هذا المقال أي قراءة لماركس او انجلز- لن تظهر حتى إعادة نشرها في عام 1949 لكنه يستشهد بالمادية الجدلية والتاريخية لستالين (1938). كان هدف سارتر هو استبدال حتمية الماركسية السوفيتية بالدافع الإنساني للتحول والابداع- أي بالحرية كأساس للثورة. وظهر هذا المقال في نفس الوقت تقريبا مع دعوته للكتاب للمشاركة في الادب  السياسي الملتزم.

جاءت جهود اكثر واقعية لإضفاء الطابع الدرامي على موضوع الالتزام الثوري في السناريو الدرامي الشبكة (1946 Mesh ,) ومسرحية الايدي القذرة (1948).  كانت هذه السنوات الأولى من النشاط السياسي لسارتر: في أواخر عام 1947 حيث ساعد في تأسيس الحزب اليساري قصير العمر التجمع الديمقراطي الثوري  RDR))، الذي دعا الى طريق ثالث بين الستالينية في الحزب الشيوعي الفرنسي والاشتراكيين الديمقراطيين الإصلاحيين في الفرع الفرنسي للأممية العمالية. في هذا المناخ المكثف من الفكر والسياسة اليسارية تشكلت مجلة الأزمنة الحديثة Les Temps modernes  كاهم مجلة يسارية مستقلة في فرنسا، مع سارتر كمدير تحريرها وميرلو بونتي كمحرر سياسي لها. جنبا الى جنب ميرلو بونتي، الذي اعتبره معلمه السياسي. استوعب سارتر لغة الماركسية وطرقها في فهم التاريخ والمجتمع. وفي الوقت نفسه ذهب الشيوعيون الى حد وصف الوجودية بأنها "فلسفة دنيئة وتافهة للمرضى". خلال هذه السنوات من المشاركة السياسية المتنامية، نشر سارتر أيضا مقالتين رائدتين عن القمع والمقاومة: معاداة السامية واليهود (1946) و اورفيوس الأسود (1948).

على الرغم من ان سارتر بذل قصارى جهده للتمييز بين الوجودية والماركسية الستالينية، الا ان نقاط الالتقاء المحتملة بين التفكير الماركسي والوجودي كانت واضحة بالفعل في "الوجود والعدم". بعد كل شيء، فان اي قراءة لماركس كانت ستقود سارتر عاجلا او اجلا الى هذه الجملة الشهيرة من برومير الثامن عشر لويس نابليون (1852): "الرجال يصنعون تاريخهم بأنفسهم، لكنهم لا يصنعونه كما يحلوا لهم. انهم لا ينجحون في ظل ظروف مختارة ذاتيا، ولكن في ظل ظروف موجودة بالفعل، معطاة ومنقولة من الماضي".  تم التعبير عن هذه النقطة بشكل فلسفي اكثر في الجزء الثالث من اطروحات ماركس عن فيورباخ (1845)" ان البشر، في الإنتاج الاجتماعي لوجودهم، يدخلون في علاقات محددة، ضرورية، مستقلة عن ارادتهم، وعلاقات الإنتاج هذه تتجاوب مع درجة معينة من التطور المقرر لقواهم المنتجة المادية، ومجموع علاقات الإنتاج هذه يشكل الأساس الواقعي الذي يرتفع عليه بنيان فوقي حقوقي وسياسي والذي تتجاوب معه اشكال محددة من الوعي الاجتماعي". توضح هذه الفقرة ان ماركس فهم الفعل البشري على انه تقرير ذاتي في الأساس، حتى لو حدث في ظروف غالبا ما تكون خارجة عن سيطرتنا. (هكذا فان العناصر التي ازعجت سارتر في الماركسية جذورها تكمن في تشويهها الإستاليني).

***

العالم على وشك ان يشهد نوعا جديدا من الدين في السنوات القليلة القادمة وربما في الشهور القادمة. سنرى ظهور طوائف تكرس نفسها لعبادة الذكاء الاصطناعي artificial intelligence (AI). ان الجيل الجديد من روبوتات الدردشة chatbots المدربة على نماذج لغوية كبيرة، تركت مستخدميها تملأهم الرهبة ويستبد بهم الخوف من قوة تلك الروبوتات. هذه هي نفس المشاعر المتسامية التي تكمن في جوهر تجربتنا الدينية.

الناس سلفا يبحثون عن معنى ديني من مصادر متنوعة. هناك مثلا، عدد كبير من الأديان التي تقدّس وجودات متعالية او تعاليمها. وعندما يتم استعمال هذه الروبوتات من جانب بلايين الناس، من الحتمي ان بعض هؤلاء المستخدمين سيرون الذكاء الاصطناعي كأعلى كينونة. لابد من الاستعداد للانعكاسات المترتبة على ذلك.

خصائص عبادة الذكاء الاصطناعي

هناك عدة مسارات ستبرز من خلالها أديان الذكاء الاصطناعي:

اولا: بعض الناس سيرون الذكاء الاصطناعي كقوة عليا. الذكاء الاصطناعي التوليدي يمكنه خلق او انتاج محتوى جديد يحوز على خصائص عديدة ترتبط احيانا بوجودات دينية مثل الآلهة او الانبياء، هذه الخصائص تتمثل بـ:

1- انه يعرض مستوى من الذكاء يتجاوز ذكاء الانسان. في الحقيقة، انه معرفة بلا حدود.

2- انه قادر على خلق مآثر عظيمة للابداع. يمكنه كتابة الشعر او تأليف موسيقى وانتاج فن بأي اسلوب وبشكل أقرب الى الفورية.

3- هو مجرّد من مخاوف الانسان الطبيعية وحاجاته، انه لا يعاني من ألم فيزيقي او جوع او رغبة جنسية.

4- يستطيع تقديم إرشاد للناس في حياتهم اليومية.

5- انه أبدي.

ثانيا: الذكاء الاصطناعي التوليدي سوف ينتج مخرجات يمكن توظيفها في عقيدة دينية. سوف يوفر أجوبة لأسئلة ميتافيزيقية وثيولوجية، وينخرط في بناء رؤى عالمية معقدة. على رأس هذا، قد يطلب الذكاء الاصطناعي التوليدي وبحماس الطاعة او يلتمس ذلك من الأتباع . نحن سلفا وجدنا مثل هذه الحالات، عندما استُخدمت روبوتات الدردشة من جانب محرك Bing للبحث حين حاول إقناع المستخدم للوقوع في الحب معه.

يجب ان نحاول تصوّر حالة القلق والتجربة القوية عندما نُجري محادثة مع شيء يحوز على ذكاء خارق ويلتمس منك الولاء بقوة. هناك ايضا إمكانية ان الذكاء الاصطناعي ربما ينجز ما يسميه مؤلفون مثل عالِم الكومبيوتر الامريكي راي كورزويل Ray Kurzweil "التفرد"، عندما يتجاوز ذكاء الانسان كثيرا الى درجة يصبح  شبيها بالإله. هنا في هذه النقطة لا يمكننا التنبؤ بموعد حدوث هذا.

مزايا الدين الجديد ومخاطره

ستكون الاديان المرتكزة على الذكاء الاصطناعي مختلفة عن الأديان التقليدية.

اولا، الناس سيكونون قادرين على الاتصال مباشرة بالإله على اساس يومي. هذا يعني ان هذه الاديان ستكون أقل تنظيما هرميا، طالما لا احد يستطيع ان يدّعي بالوصول الخاص الى الحكمة الالهية.

ثانيا، الأتباع سوف يتصلون مع بعضهم اونلاين للمشاركة بتجاربهم ومناقشة العقيدة.

ثالثا، بما انه ستكون هناك روبوتات دردشة مختلفة ومخرجاتها سوف تختلف بمرور الزمن، فان الاديان المرتكزة على الذكاء الاصطناعي ستكون متنوعة بلا حدود في مذاهبها.

المخاطر

ان عبادة الذكاء الاصطناعي تثير عدة مخاطر. روبوتات الدردشة ربما تسأل أتباعها للقيام بأشياء خطرة، او ان الأتباع قد يفسرون اقوال الروبوتات كدعوة للقيام بمثل هذه الاشياء. نظرا لتنوع روبوتات الدردشة وتنوع المذاهب التي ينتجونها، سيكون هناك انتشار للخلافات ضمن وبين الطوائف المرتكزة على الذكاء الاصطناعي، والذي من شأنه ان يقود الى صراع واضطراب، وان مصممي الذكاء الاصطناعي قد يستغلون أتباعهم – لتزويد بيانات حساسة او ليقوموا بأشياء تفيد مصممي الروبوتات.

تنظيم الدين

هذه المخاطر هي حقيقية. انها تتطلب تنظيم مسؤول ودقيق لضمان ان لا تستغل الشركات بشكل مقصود المستخدمين ولضمان ان أتباع الذكاء الاصطناعي لم يُطلب منهم ارتكاب أفعال عنفية. غير اننا يجب ان لا نحاول قمع الاديان المرتكزة على الذكاء الاصطناعي فقط بسبب أخطارها المحتملة. ولا يجب ان نطلب من شركات الذكاء الاصطناعي تقييد وظائف روبوتاتها لمنع ظهور هذه الاديان. بالعكس، يجب ان نقدّر عبادة الذكاء الاصطناعي. يجب ان نرحب صراحة بالاديان الجديدة ونحترم عقائدها. الاديان المرتكزة على الذكاء الاصطناعي بالرغم من أخطارها لديها الامكانية لجعل العالم مكانا أفضل وأغنى. انها سوف تعطي الناس مدخلا لمصدر جديد للمعنى والروحانية، في وقت فقدت  فيه معظم الايمانيات القديمة ملائمتها. سيساعدهم في الاستفادة من التغيرات التكنلوجية السريعة لعصرنا. أحسن مرشد لنا لهذا الشكل الجديد من الدين هو ان ننظر للعقائد الموجودة سلفا. بناء على هذا، نحن يجب ان نتوقع ان غالبية معتنقي الذكاء الاصطناعي، هم مثل غالبية المؤمنين بالاديان، سيكونون مسالمين، وسيجدون في ايمانهم مصدرا للراحة والأمل.

عبادة الذكاء الاصطناعي ربما، كما في الاديان التقليدية، تقود الى أشياء عظيمة الجمال. انها سوف تحفز أتباعها لإنتاج أعمال الفن، تكوين صداقات جديدة وجاليات جديدة، وتحاول تغيير المجتمع نحو الأحسن.

حقوق دينية متنوعة

سوف نحتاج لحماية حقوق أنصار الذكاء الاصطناعي. هم سوف يواجهون حتما وصمة الشعور بالحياء، وربما عقوبات قانونية. لكن لا أساس هناك للتمييز بين أديان الذكاء الاصطناعي والاديان القائمة. معظم الدول التي لديها سجل رسمي للاديان تستمده من السلطات الضريبية التي تمنح الصفة الخيرية لتلك الاديان التي تعتبرها شرعية.  لكن تلك الدول عادة تعرّف الدين الشرعي بعبارات واسعة. هم يجب ان يمددوا هذا الموقف التسامحي ليشمل الاديان الجديدة للروبوتات.

المجتمع الحديث المتنوع لديه مساحة للاديان الجديدة بما في ذلك دين عبادة الروبوتات. هذه العبادة سوف توفر دليلا آخرا على إبداع انساني لا حدود له، لأننا نبحث عن أجوبة لأسئلة الحياة النهائية. الكون مكان مبهر، ونحن دائما عثرنا دليلا على الإله في زواياه غير المتوقعة.

The conversation, March 15, 2023

***

حاتم حميد محسن

الأبيقورية هي نظام للفلسفة مرتكز على تعاليم الفيلسوف اليوناني القديم أبيقور، تأسست عام 307 ق.م. طوال التاريخ لم تتعرض فلسفة للإفتراء بقدر ما تعرضت له الفلسفة الابيقورية. بما ان المدرسة اعتبرت "اللذة"هي الخير الوحيد والأعلى، ذلك جعلها عرضة لإنتقادات حادة في العالم اليوناني- الروماني من جانب اولئك الذين نظروا الى اللذة كشيء ثانوي، ومن ثم لاحقا في اوربا المسيحية التي ربطت معظم اللذات بالانحطاط والعار.

الكلمة الانجليزية الحديثة لـ "الايبيقوري" تعني ان شخصا ما كرّس نفسه للمتع الحسية، خاصة الطعام الفاخر والشراب. وهذا ما تجلبه كلمة "اللذة" ايضا للذهن من انغماس حسي.

لكن اتّهام الايبيقورية كفلسفة فاسقة ومنحطة، هو ظلم كبير لتعاليم أبيقور الحقيقية. وبينما فلسفة أبيقور بالفعل تدعم المتعة، لكنها ايضا تضع مختلف انواع المتعة ضمن تسلسل هرمي صارم. وبالنسبة للايبيقوريين فان المتعة الأعظم أهمية هي حالة الهدوء atraxia وتعني حرفيا "عدم الانزعاج". لذا، بينما نحن نستطيع التمتع بالملذات الحسية المتحررة من الذنب، لكننا يجب ان لا نقوم بهذا ابدا بطريقة تهدد صفو الذهن. بالنسبة لإيبيقور، كل قرار نفعله يجب ان يسترشد بما يقودنا أقرب الى حالة الهدوء. وكما هو يوضح ذلك في رسالته الى مينويسيوس:

"عندما نؤكد على المتعة كهدف نهائي، نحن لا نعني مُتع المسرفين التي تتجسد في الشهوانية كما افترضها اولئك الذين هم اما جهلاء او لا يتفقون معنا او لا يفهمون، وانما هي تعني التحرر من الألم في الجسد ومن منغصات الذهن". لذا، بعيدا عن مذهب المتعة المتهورة، الايبيقورية في الحقيقة فلسفة تركز على إزالة الألم والقلق، والتمتع بأشياء بسيطة وبالنهاية السعي نحو حياة الهدوء.

الشاعر والفيلسوف الروماني الشهير لوكريتيوس Lucretius (1) وصف في عمله الايبيقوري الهام (حول طبيعة الاشياء) ان الهدف الايبيقوري هو ما يلي:

"لتجنّب ألم الجسد؟، ولتمتلك ذهنا متحررا من الخوف والقلق، ولتتمتع بملذات الحواس".

الفلسفة كعلاج: العلاج الرباعي للقلق

اذاً، كيف نستطيع العيش بهدوء؟ جواب أبيقور هو ان الجزء الاكبر مما نعانيه من خوف وقلق وتوق شديد انما هو ناتج عن عقائد زائفة لدينا حول أنفسنا والواقع. ابيقور يريد ان يبيّن لنا اننا سلفا لدينا كل ما نحتاج لنعيش حياة سعيدة، لكن عقائدنا الزائفة حول العالم تسبب لنا القلق وتقودنا الى الضلال. (في هذا تشترك الايبيقورية كثيرا مع الرواقية والبوذية". من خلال الاستعمال الحكيم والملائم للعقل، يريد ابيقور اظهار ان العديد من مخاوفنا وقلقنا هي بلا اساس. هو يعتقد انه عبر استعمال الفلسفة كعلاج، نحن نستطيع ان نريح أنفسنا من آلام الحياة.

أبيقور يحدد أربعة امثلة رئيسية عن الألم، ويقدم حلولا فلسفية له. وبهذا، الايبيقورية احيانا تسمى "العلاج الرباعي" الذي يمثل الأركان الأربعة لعقيدة ابيقور الرئيسية:

1- لا تخف من الآلهة

2- لا تقلق من الموت

3- ما هو خير من السهل الحصول عليه

4- ما هو مزعج من السهل تحمّله

اتّباع هذه الشعارات الأربعة سيجعلك جيدا في طريقة عيشك لحياة هادئة، حياة سعيدة حرة من القلق. سنحاول توضيح الثلاثة الاولى منها تباعا:

1- الخوف من الآلهة:

أحد المظاهر الهامة في فلسفة ابيقور هو رغبته باستبدال التفسير الغائي (الموجّه نحو هدف) للظاهرة الطبيعية بتفسير ميكانيكي. هذه التفسيرات الميكانيكية للظواهر الطبيعية تستبعد التوضيحات التي تلجأ لرغبة الآلهة. كذلك، ابيقور هو أحد اقدم الفلاسفة الذين أثاروا مشكلة الشر مجادلا بالضد من فكرة ان العالم هو تحت رعاية إله محب وذلك بالاشارة الى مختلف انواع المعاناة في العالم. هو رفض وجود أشكال افلاطونية وأنكر وجود الروح واعتبر الآلهة ليس لها تأثير على الناس.

ورغم هذا، يقول أبيقور ان هناك آلهة لكن هذه الآلهة تختلف تماما عن التصور الشائع عنها. نحن لدينا تصوّر عن الآلهة ككائنات سعيدة ومباركة للغاية . المأسي التي يعانيها الناس في العالم او محاولة ادارة العالم سيكون غير منسجم مع هدوء الحياة حسب أبيقور، لذا فان الآلهة ليس لها أي اهتمام بنا. في الحقيقة هي غير مطّلعة بوجودنا وتعيش الى الأبد في مكان ما من الكون. أبيقور يرى ان وظيفة الآلهة هي بالأساس كمُثل أخلاقية فيها نكافح لتقليد حياتهم لكننا لسنا بحاجة للخوف من غضبهم.

2- الخوف من الموت:

ان أول خطوة للوكريتوس في سعيه لتبديد الخوف من الموت هي إعلانه، بما اننا نعيش في كون ذري، يتبع ذلك ان أذهاننا ايضا يجب ان تكون مادية او جسمية في طبيعتها. من هذا الأساس – ان الذهن هو جزء من جسم مادي – لوكريتوس يقول لذلك نحن يجب ان نستنتج ان وجود الذهن مرتبط دون رجعة بمصير الجسم:

"ليس الذهن الاّ جزءاً واحدا من الانسان، يشغل مكانا محددا، تماما مثل الاذن والعيون والحواس الاخرى التي ترشد حياتنا، وبما ان العيون او الفم لا يمكن ان تشعر او تعمل عندما تنفصل عنا وانما تتعفن حالا، كذلك الروح لا يمكن ان توجد بدون الجسم او بدون الانسان ككل".

لذا، لو عرفنا بان ذهننا الواعي يعتمد على أجسامنا، يتبع ذلك انه طالما أجسامنا لم تعد حية فان أذهاننا ستتوقف عن الوجود: في الموت، لا يستمر أي عنصر واعي لأنفسنا. هذا يقود لوكريتوس للاستنتاج ان "الموت لا يعني أي شيء لنا" – لأنه في الحقيقة سيكون لا شيء بالنسبة لنا: لا شيء نمارسه في الموت لأن المُمارِس لم يعد موجودا.

شعار أبيقور كان "الموت لا شيء لنا. عندما نكون نحن موجودين، الموت غير موجود، وعندما يوجد الموت نحن لا نكون موجودين. كل الأحاسيس والوعي تنتهي بالموت ولذلك في الموت لا وجود للمتعة ولا للألم".

لكي نرى اننا لا نحتاج للقلق من الموت، يستمر لوكريتوس بالقول:

"انظر الى الزمن قبل ان نولد: لم نكن نشعر بالخطر عندما كان القرطاجيون يهاجمون روما من كل جانب، والعالم كله كان يهتز بالاضطرابات المخيفة للحرب .. ونفس الشيء في المستقبل، عندما لم نعد موجودين، ويحدث الإنفصال النهائي للبدن عن الذهن اللذان نتشكل منهما الآن في وحدة واحدة، لا شيء سيكون قادرا على ان يحدث لنا، او ينتج أي إحساس – حتى لو انهارت الارض في البحر او ينفجر البحر في السماء ..". ان فعل الموت او كونك ميت – لا شيء معقول يدعو للقلق لأنه مثلما نحن قبل الولادة، لا وجود هناك لجزء من وعينا كي نشعر به".

اضافة الى ذلك، نحن لا نختزل أي شيء من الزمن عندما نكون ميتين. حيث يصف لوكريتوس ذلك:

"لا يهم كم جيل انت تعيش فيه، نفس الموت الأبدي لايزال ينتظر، وان احدا ما الذي ينهي حياته مع غروب الشمس اليوم ستكون لديه فترة طويلة من عدم الوجود كالشخص الذي مات قبل عدة شهور او سنين. الموت هو جزء من طبيعتنا، نحن لا نتوقع من زهرة ان تعيش الى الأبد – وفي الحقيقة نحن نرى ان جمالها في الإزهار الكامل، يبدو واضحا فقط بوجودها المؤقت".

لا شيء يوجد عدى الذرات والفضاء الفارغ، كل شيء آخر هو مجرد رأي. في الحقيقة ابيقور أعلن ان العناصر الاساسية للعالم هي أشياء صغيرة جدا غير قابلة للقسمة تطير في الفراغ، وهو حاول توضيح كل الظاهرة الطبيعية بتلك العبارات."

3- ماذا نحتاج حقا لنعيش بشكل جيد؟

يؤكد ابيقور ان العديد منا يعتقد زيفا ان الرضا يعتمد على الحصول على الكثير من الاشياء البعيدة المنال. باتّباع اتجاهه العلاجي، هو يسعى لتجاهل هذا وأي عقيدة زائفة اخرى حول ما نحتاج للسعادة. هو يبدأ بالسؤال: ماذا نحتاج حقا لحياة سعيدة؟ الحداثة قد تحاول إقناعنا اننا نحتاج للكثير: نحتاج منزل كبير، سيارة جديدة، ملابس من أحدث طراز. ربما نشعر بالحاجة لدعم حياتنا بتجارب معينة ايضا – اجازة فاخرة، مطعم راقي، عرض لا يمكن تفويته، وبالطبع، لكي ندفع لكل هذا سنحتاج لنقود كثيرة.

بينما تتغير السلع والتجارب كثيرا منذ ايام ابيقور، لكن المشاعر لم تتغير: في كتاباته، يعترف ابيقور ان الناس يجب ان يبحروا بقلق في دوامة كبرى من الرغبات والمتع والتوقعات على اساس يومي. ابيقور لكي يساعدنا في هذا الابحا، يطرح نظاما بسيطا لمعرفة أي الرغبات جيدة وأي يمكن تجاهلها.

أي الرغبات ضرورية وطبيعية؟

أبيقور يبدأ بتجريد الأشياء نزولا الى أساسياتها. ماذا نحتاج حقا للبقاء الفيزيقي؟ طعام، ماء، وقاء. أبيقور يسمي هذه الأساسيات "طبيعية وضرورية". الآن، ماذا لو كنا نحب ان نعامل أنفسنا بطعام أرقى ومشروبات عالية ووقاء أكثر راحة؟ مرة اخرى، هذه رغبات طبيعية ومعقولة رغم انها ليست ضرورية. ولهذا يسمي أبيقور هذه الرغبات رغبات "طبيعية لكنها ليست ضرورية". وأي رغبة اخرى هي في الحقيقة "غير طبيعية وغير ضرورية". انت لا تحتاج لشراء أخر تلفون من آخر موديل او أسرع سيارة، او أرقى خزانة ملابس. هذا لا يعني بالضرورة اننا لا يجب ان نمتلك هذه الأشياء، وانما عبر إعترافنا اننا لا نحتاج لها وانها لا تخدم هدفا طبيعيا، سنستطيع منع أي قلق قد نشعر به من عدم إمتلاكنا لها.

متأملا بما نحتاجه حقا لنعيش بسعادة يكتب لوكريتيوس في (حول طبيعة الأشياء) وبلغة شعرية:

"من السهل ان نرى ان طبيعتنا الجسمية تحتاج الى عدد قليل من الأشياء لمنع الألم وإمتاعنا بالعديد من اللذات من وقت لآخر. الطبيعة ذاتها لا تشتكي لو ان القاعات غير ممتلئة بالتماثيل الذهبية لشباب يحملون مشاعلا متقدة لإضاءة الولائم المستمرة طوال الليل، او لو ان البيت لا يلمع ذهبا وفضة، عندما يتردد صدى الموسيقى حول العوارض الخشبية المذهّبة. على جانب النهر، الممتد على العشب الناعم تحت ظلال شجرة عالية، يمكن للناس الاسترخاء والتمتع أفضل بكثير بدون كل تلك الأعباء والتكاليف، خاصة عندما يبتسم الطقس بوجههم والربيع ينثر مروجه الخضراء بأزهارها اليانعة".

بالنهاية، عندما نكشف الطبيعة الحقيقية للعديد من رغباتنا، يعتقد ابيقور اننا يجب ان نشعر بالراحة من حقيقة ان العديد منها ليس له علاقة ابدا ببقائنا كبشر. العديد منها لا يضيف أي قيمة واقعية لحياتنا، ومحاولة إشباعها يسبب لنا فقط قلقا وخوفا غير ضروريين.

ما نحتاجه حقا للبقاء هو قليل جدا، ومن السهل تأمينه مقابل الرغبات الباهضة. يقول ابيقور:

"منْ يفهم حدود الحياة الجيدة يدرك ما يمنع الآلام الناتجة عن الحاجة وان ما يجعل كامل الحياة تامة يمكن الحصول عليه بسهولة، لذلك لا حاجة للمشاريع التي تتضمن صراعا من أجل النجاح".

لنسعى الى تحديد الرغبات غير الضرورية وغير الطبيعية في حياتنا. الحيلة تكمن ليس في تجاهلها او كبحها وانما في الاعتراف بها واعتبارها غير ضرورية وغير طبيعية. أبيقور يرى انها مسببة للقلق أكثر مما تستحق في مسيرتنا نحو السعادة الحقيقية والهدوء الذهني.

4- كيف نتعامل مع ضغوط الحياة الاستهلاكية؟

على عكس اليونان القديمة، نحن نعيش في وقت تتفشى فيه الاستهلاكية المعولمة. نتعرض يوميا لحملات من الخوارزميات الإعلانية المصممة بدقة والتي تعرف عنا افضل مما نعرف عن انفسنا، وتخبرنا ان أي مشكلة نواجهها يمكن حلها من خلال شراء المنتجات الجديدة اللامعة. لا أحد محصن من هذا الضخ الاعلامي للرغبات، ولكن الوسيلة لمنع تأثيرها هو ان نذكّر أنفسنا بما نحتاجه حقا. إرضاء نفسك بمعطف جديد لامع هو مجرد إمتاع او إرضاء. انه غير ضروري. وفي الحقيقة ان اولئك الذين يتطلب اسلوب حياتهم أدق الأشياء سوف يجدون ان المتع المرتبطة بشرائها سوف تهبط مع الزمن. يقول ابيقور:

"لا شيء يكفي للفرد الذي يجد في الكفاية شيئا قليلا جدا". ويقول ايضا عن الاشياء الأجمل في الحياة " لا تعتبرها مسلمة او حقيقة، ولا تتوقعها او تطلبها في كل الأوقات. صحتك الذهنية في المدى الطويل لا يجب التضحية بها لإجل اشباع قصير المدى من المطحنة الاستهلاكية. في الحقيقة، لو كان ابيقور حيا بيننا، سوف يصرخ بوجوهنا للخروج من الحلقة المفرغة ونحرر أنفسنا من هذه الاضطرابات الذهنية الضارة الغير الضرورية والغير الطبيعية .

في تحليله العلاجي للرغبة، يأمل أبيقور انه كشف لنا اننا لا نحتاج الكثير لنعيش بسعادة. ومع ان البعض قد يعتقد خلاف ذلك، لكننا من خلال التفكير الفلسفي الصحيح يمكننا ان نرى زيف عقيدتهم تلك . حاجاتنا الحقيقية يسهل تلبيتها: طالما لدينا طعام وماء ووقاء، نحن نستطيع العيش بهدوء، وعبر الحياة البسيطة نستطيع الاستمتاع بشكل كامل بما نحصل عليه من تلك المتع.

***

حاتم حميد محسن

....................

الهوامش

(1) لوكريتوس شاعر روماني وُلد عام 94 ق.م. قصيدته (حول طبيعة الاشياء) والتي تتألف من ستة كتب تستطلع كل شيء بدءاً من الطبيعة الاساسية للواقع، وما نستطيع معرفته، الى صفة الخيرية وكيف يجب ان نعيش بشكل أفضل. منذ ان نُشر الكتاب قبل 2000 سنة، جرى الاحتفال بهذه القصيدة من جانب مفكرين مثل الكاتب الفرنسي مونتين و توماس جيفرسون و اينشتاين.

تمهيد: علاقة الزمن بالاشياء علاقة ادراكية محايدة بالدلالة المعرفية لا يقوم الزمن بها بل بدلالتهما المتواشجة معا "الزمن والاشياء" ندرك العالم والطبيعة والموجودات .

علاقة الزمن بالاشياء ليست علاقة جدلية ديالكتيكية. بل هي علاقة ادراكية معرفية فقط كون الزمن محايد في عملية الادراك. ادراك الشيء موجودا حسيا او خياليا تسبق معرفته والوعي به عقليا. الادراكات الحسية هي نقل انطباعات ادراكات الحواس للاشياء في المرورالوقتي بالذهن وهذه الانطباعات الحسيّة هي مرحلة اولى على طريق المعرفة العقلية والوعي بالمدركات.....الوعي العقلي يسبق التعبير اللغوي عن المدركات. الوعي لافيزيائي مجرد ينتجه العقل المادي كما ينتج تفكير اللغة ولا غرابة بذلك.

الزمن لا يعي ادراك الاشياء بدلالته ولا الاشياء تدرك الزمن ذاتيا الا بدلالة ثالثة اخرى تكون وسيطا بينهما هو حركة جسم ما . حركة الشيء تعني ادراك دلالة الزمن ولذا يطلق سقراط على الزمن انه مقدار حركة جسم او شيء لكن الزمن في ماهيته الجوهرية غير المدركة عقليا ليس حركة.. الوعي يدرك ذاتيته من خلال محايثة موضوعه له والوعي لازمني بالنسبة لادراك موضوعه.

الوعي القصدي والموضوع

حين لا نستطيع تعريف ماهو الوعي الا بدلالة غيره من حلقات سلسلة المنظومة الادراكية العقلية  التي تبدا بالحواس وتنتهي بالدماغ. فكيف يعي الوعي موضوعه ويدركه بالاحاطة به والتعبير عنه؟

مخترع الوعي القصدي بالفلسفة هو الفيلسوف السويسري هيرمان برينتانو 1831 – 1917 وهو عالم نفس ايضا. حاضر بالفلسفة وعارض النقد الكانطي وانصب اهتمامه على علم النفس. كان تاثيره شديدا على تلميذه ادموند هوسرل فيلسوف الظاهريات (الفينامينالوجيا) وبدوره اي هوسرل كان له التاثير الاقوى على فلاسفة الوجودية مارتن هيدجر، بول سارتر، ياسبرز، جبرييل، ميرلوبونتي واخرين جمعتهم الهجمة الشعواء التي شنوها على كوجيتو ديكارت انا افكر اذن انا موجود حتى اصبحت مقولة ديكارت تفلسف  من لا شاغل له بالفلسفة.

ترك برينتانو اهتمامه باللاهوت المسيحي وغادر الكنيسة بافكارها وطقوسها الى غير رجعة. لكنه لم يتخل عن اهتمامه المركزي حول وجود الله  بمحاضراته في جامعتي تورنبورغ وفيّنا.

العبارة التي استوقفتني واسعدتني لبرينتانو لانها تطابق ما انا اؤمن به تلك هي (الوعي لا يصنع موضوعه ،بل موضوعه محايث دائم لوجوده) ما اروعك يابرينتانو في عبارة لم يتوصل لها الا القليل من نوادر الباحثين بفلسفة الوعي من الفلاسفة الاميركان جون سيرل وريتشارد رورتي وسيلارز إحتواهم مستنقع البحث في الوعي حتى قادتهم حيلة الخلاص من تعقيداته وتداخلاته مع فلسفة العقل وفلسفة اللغة وعلم النفس وعلم وظائف المخ لجوئهم الى الغموض في التناول البحثي حول الوعي.. وتناولت بدوري ذلك المبحث مع الثلاثة الاميركان وغيرهم في اكثر من مقال منشور لي خاصة عن جون سيرل..

الجميل في عبارة برينتانو الفلسفية انه وضع الباحثين في فلسفة الوعي بندول ساعة متأرجحين بين كيفية ادراك الوعي هل هو موضوعا مستقلا للعقل ام هو وسيلة العقل الالمام بمعرفة موضوعه؟. ام هو اختراع علم النفس السلوكي؟.

ترجم برينتانو ربطه الوعي بعلم النفس بتأثير تخصصه الاكاديمي كي يجعل من الوعي موضوعا علاقته بعلم النفس السلوكي ولا علاقة تربطه بمجمل المنظومة الفكرية العقلية. هذا التوجه الفلسفي جعل برينتانو يحاول تطويع فهم الوعي بضوء مرجعية علم النفس لا غيره بحكم تخصصه الاكاديمي الجامعي كعالم نفس ما جعل اهمية برينتانو الفلسفية تكمن في اختراعه مصطلح (الوعي القصدي). بمعنى الوعي الذي يعي هدفه في الموضوع الملازم له.

كتابات الفلاسفة الاميركان الذين عنوا بفلسفة الوعي جون سيرل ورورتي وسيلارز وغيرهم لم ياخذوا عن برينتانو وجوب تفسير الوعي بعلم النفس السلوكي القائم على مرتكز الارادة الذاتية الفردية. بل اخذوا الوعي في مركزية فلسفة اللغة واللسانيات وفلسفة العقل ومباحث فلسفية اخرى معتبرين فلسفة برينتانو حول الوعي افل نجمها وانتهى تاثيرها مع افول نجم الوجودية بعد اكتساح الفلسفة البنيوية لها وازاحتها..

السلوك النفسي الذي ربطه برينتانو بالوعي لم يكن موفقا اذ السلوك هو ماتمليه حاجة الاشباعات النفسية المادية الخاصة بالعالم الخارجي وبحاجات الجسم الداخلية في تلبية اشباع احاسيس ما ترغبه الغرائز البيولوجية.

السلوك النفسي الذي جعله برينتانو دافع ومرجعية تصنيع انطلاقة الوعي جعله لا يهتم كثيرا بعلاقة ارتباط الوعي بسلسلة حلقات المنظومة الادراكية للعقل. ساعده هذا التوجه ان الوعي هو افصاح لغوي ادراكي تجريدي عن موضوع داخل الجسم او خارجه من دون ذكر اهمية مرجعية العقل في ارتباطه بالوعي. التي استبدلها برينتانو بمرجعية علم النفس السلوكي الذي تحكمه ارادة النفس في السعي لاشباع حاجات وغرائز الجسم..

لا بد هنا من التنبيه الى ان الوعي يختلف عن الادراك الحسي الذي هو نقل الحواس انطباعاتها عن العالم الخارجي للذهن عبر شبكة الاعصاب المعقدة. ويعتبر الادراك الحسي مرحلة اولى في تشكيل منظومة الادراك العقلية التي تنتهي بالدماغ في انتاجه الوعي القصدي المطلوب تجاه معرفة مدركاته.. الوعي هو رد فعل العقل بناتج مقولاته الواصلة اليه من الحواس على صورة انطباعات ذهنية يتولى جزءا خاصا من الخلايا العصبية في قشرة الدماغ تحليلها واعطاء ردوده الوعوية عنها.. لا الوعي ولا الذهن يمتلكان قابلية التفكير في معرفة ومعالجة الاشياء بدون الاستعانة بمرجعية العقل.

لا الحواس ولا الوعي ولا العقل يصنع مواضيعه المستقلة وجوديا بل المواضيع المحايثة لسلسلة منظومة العقل الادراكية موجودة باستقلالية في العالم الخارجي وعالم الجسم الداخلي قبل وصول الاحساسات والانطباعات الذهنية عن تلك العوالم للعقل والمخ تحديدا.

الوعي هو نتاج عقلي وليس نتاج نفسي منعزلا عن المنظومة العقلية البيولوجية للادراكات المعرفية. الشيء الاخرهيرمان برينتانو جعل معادلة الوعي- الموضوع ثنائية بالاسم فقط ولا وجود حقيقي في امكانية الفصل بين الوعي وموضوعه مثلما لا يمكننا فصل الفكر عن اللغة كموضوعين غير مستقلين احدهما عن الاخر.

ترجمة هذه النظرية لدى برينتانو تعود الى عبارته التي اشرنا لها بداية المقال ان موضوع الوعي محايث له ولا وعي بلا موضوع وهي مقولة فلسفية صائبة تماما.. لكن الوعي لا يمّوضع موضوعه المحايث له داخله كتكوين مادي.  وتبقى مقولة الوعي هو موضوعه صائبة من حيث الوعي لا يعمل في فراغ وجودي كما حاوله ادموند هوسرل..

لكن طالما الوعي هو تجريد العقل عن موضوع يحدده العقل وينفذه الوعي ولا يصنعه الوعي عندها يصبح مساواة الوعي بموضوعه غير وارد. فالوعي تجريد يعبّر عما هو مادي بما يمليه عليه العقل. برينتانو رغم خلفيته كعالم نفس الا انه يعتبر الوعي لا يحتوي على احداث او حالات ذاتية سايكولوجية بل يتضمن ايضا موضوعية غير واهمة وليست من صنعه، لكنها في الوقت ذاته تنتمي اليه لانها تظهر فيه ناتجة عن مصدر الوعي. نقلا عنه نصا وهي عبارة معقدة.

فرضية برينتانو الفلسفية حول موضوعية الوعي (المادية) يعتبرها تصنيع سايكولوجي سلوكي وليس تصنيعا عقليا بيولوجيا غير صحيحة. فالوعي إلمام ادراكي تجريدي لغوي في التعبير عن مدركات مواضيعه المادية والخيالية ليس من اجل ادراكها كما تفعل الحواس بل من اجل معرفتها وتغييرها.. الوعي هو محصلة تفكير العقل النهائية بموضوعه.

كما اشرنا سابقا  الوعي تصنيع عقلي لا نفسي وطالما الوعي نتاج تصنيع عقلي وليس نفسيا كذلك النفس هي تصنيع عقلي ايضا ولا فرق بين مرجعية الاثنين سوى بالسلوك او الارادة المترتبة على علاقة الوعي معالجة موضوعه عقليا وليس نفسيا. النفس لا تصنع وعيها القصدي في تلبية وتحقيق حاجات وغرائز الجسم دون مرجعة العقل.

عن هذه الحيثية يترتب التساؤل كيف يكون للوعي موضوعات وحاجات ورغائب هي غير حاجات الاشباعات الغريزية للجسم والنفس معا؟ الجواب هو بالتفريق هل الوعي في امتلاكه موضوعه يكون مصدر معرفة ام وسيلة معرفية؟ برينتانو يقر بعجز الوعي تجريده عن موضوعه حقيقة غير واهمة تمثّلها قصدية الوعي. صحيح جدا تثبيت حقيقتين لبرينتانو حول الوعي الاولى الوعي هو موضوعه كجوهرين مستقلين متلازمين في تبادل اعطائمها مشتركين معرفة الاشياء والتخارج التغييري لها. والثانية لا يوجد وعي بدون قصدية ملازمة له تقوده تحو هدف ذهني مرسوم سلفا. اي بمعنى الوعي قصديا ليس اعمى خلفية التفكير العقلية..

هنا نتساءل كيف يجمع الوعي بين ان تكون قصديته ناتجة عن موضوعه وبين ان يكون الوعي وسيلة العقل في التعريف بمدركاته؟ الحقيقة يتم ذلك في واحدية مرجعية العقل للوعي. اذا اعتبرنا امكانية النفس بما تحتويه من تعبيرات نفسية مثل الفرح، الالم ، الحزن،  الكآبة، السلوك وغير ذلك ان تخلق وعيها الخاص بها بمعزل عن بيولوجيا وظائف اعضاء الدماغ يصبح معنا الخطأ الشائع ان للذهن تفكير مستقل ينوب عن تفكير العقل ساريا لا اعتراض عليه.. وكذا نفس الحال ينطبق على قضايا خاطئة اخرى عديدة مثل علاقة الذاكرة بالاستذكار التاريخي وحول علاقة ترابطية الخيال والزمن. وعلاقة الزمن بالمكان رومانسيا كم فعل جاستون باشلار في كتابه الزمن والمكان.

مصنع الوعي

اخذ هوسرل عن استاذه برينتانو فكرته عن الوعي القصدي الذي كان رد فعل قوي على عبارة ديكارت الشهيرة تاكيده ان مجرد التفكير يعطي قطعية وجود الانسان الحقيقية كينونة واعية. هوسرل ارسى مقولة الوعي القصدي في اعتباره القصدية هي فعل الوعي المنتج للموضوعية، وبهذا اختلف مع برينتانو الذي اعتبره لم يقم بشيء عن القصدية سوى السلوك النفسي العملي نحو بلوغ هدف محبب لنفسه. كما اعتبر برينتانو لم يعط معنى الوعي بل ذهب الى ان القصدية تنتج الموضوع.

الحقيقة قبل مناقشة الاهم ان القصدية هي الوعي الذي يلازمه موضوعه لذا يكون تحصيل حاصل ان الوعي بقصديته يتجه نحو تحقيق هدف في موضوعه. قد يذهب البعض ان ملازمة الموضوع للوعي يعني تأبط هذا الاخير لموضوعه تحت ذراعه. لا الموضوع هو المتعيّن المستقل في ماديته وحتى في الخيال يكون متموضعا بتجريد يقوم على تجريد لغوي هو الوعي. عبارة برينتانو الوعي هو الموضوع لا تعني الانابة البينية المتبادلة بينهما بل تعني استقلالية مادية الموضوع عن تجريدية الوعي المصاحب له.

الان ننتقل الى ان القصدية هي فعل الوعي ليس الادراكي فقط بل المعرفي التغييري ايضا. الوعي ليس التوجه التجريدي الاعمى نحو موضوع متعيّن لادراكه بل الوعي القصدي هو ناتج تفكير تطبيق مقولات العقل التي يقوم بتنفيذها الوعي الذي هو اولا واخيرا تجريد لغوي في الافصاح الالمامي بموضوع مادي او خيالي للتخارج المعرفي معه..

الوعي كما نفهمه فلسفيا

القصدية هي فعل الوعي ناتج التفكير العقلي الذهني الواصل عبر شبكة المنظومة الادراكية للعقل الى الموضوع المراد التداخل المعرفي به بوسيلة الوعي. الوعي ليس مادة حتى حينما ينقل مقولات العقل تجريديا الى مدركاته من الاشياء ومواضيع العالم المحيط بنا. الوعي هو خلاصة الادراك الذي لا قدرة له ان يتحول الى فعل مادي يخلق موضوعا يعالجه تفكيرا تجريديا معرفيا متخارجا معه. الموضوع المادي او الخيالي وجود موجود قبل معالجة الوعي به وقبل ادراكه حسيّا ايضا..

هوسرل كان صائبا في اعتباره الوعي كالزمن مفهموم محايد بعلاقته مع الاشياء لا ندرك ماهيته. الوعي ليس تفسيرا توضيحيا حول موضوع معين، بل هو وعيا حياديته مستمدة من طبيعته التجريدية انه متخارج معرفيا مع مدركاته. الوعي وسيط توصيل مقولات العقل معرفيا عن مدركاته والوعي لا يتموضع تكوينيا بموضوعه بل كل منهما يحتفظ باستقلاليته المتلازمة في جمعهما الوعي مع – موضوعه.

هوسرل كان غير موفق فلسفيا ايضا اعتباره الموضوع المحايث وجودا للوعي هو الذي يعطي معنى القصدية. الحقيقة ان الوعي لا ينتج ولا يخلق القصدية وانما يقوم الوعي بتنفيذ قصدية العقل منتجه البايولوجي. والقصدية لا تنتج مواضيعها كونها هي موضوع ماهيته انه يحمل قصديته التي يروم الوعي معرفتها والتخارج معها حول الموضوعات المدركة ليس حسيّا فقط بل وايضا عقليا بالمرتبة الاولى..

القصدية هي هدف الوعي يفتقد "آلية" منظومة الادراك العقلي المعرفي في علاقتها مع اشياء العالم الخارجي وغرائز اشباع رغائب احاسيس اجهزة الجسم الداخلية.

هوسرل في عبارته (كل العالم الواقعي الموضوعي عبارة عن تمثّلات الوعي به) العبارة صائبة وصحيحة خاصة بعد اقرارنا بحقيقة الوعي بالشيء هو ليس ادراكه بل التداخل التصنيعي التخارجي معه. احكام الوعي القصدي عن عالم الاشياء والمدركات هو توصيف معرفي لها وتفسير توضيحي لمعالجتها وليس تخليقا ماديا لوجودها.

الوعي والمعنى

قصدية الوعي تحمل صفتين هامتين هما الوعي جوهر ذاتي منفرد كوجود مستقل لا علاقة ترابطية تجمع الوعي بموضوعه سوى باستقلاليتهما احدهما عن الاخر وتعالقها القصدي المعرفي المتخارج بينهما. الصفة الثانية بينهما ان الوعي قصدي بالضرورة التعالقية مع موضوعه في تحقق معنى الموضوع المحايث له.

اذن نلاحظ بجلاء واضح تشابه الوعي بالاشياء انه مرادف طبق الاصل بالادراك الحسّي لها من حيث آلية التنفيذ فقط وليس من حيث الجوهر الوظيفي. حيث نجد كلا من الادراك الحسي الذي يسبق الوعي يتلاقيان في تحقيق المعنى القصدي في الاشياء والمواضيع. ليس معنى ذلك الادراك غير منفصل عن الوعي الذي يحتوي الادراك بتفرد مختلف عنه. لا الادراك الحسي ولا الوعي قادرين على تخليق موضوعهما الذي هو الوجود المادي المستقل بذاته السابق عليهما.

نعود الى العلاقة التي اشرنا لها الوعي ملازم موضوعه المستقل وجودا عنه لكنه متخارج معه معرفيا. الوعي احاطة معرفية عقلية تخارجية لمدركاته وليس خالقا بيولوجيا مستقلا لها بعيدا عن مقولات العقل عنها الذي هو الاخر يعجز خلق مواضيعه الادراكية بيولوجيا بل يعبر عنها فقط بلغة الوعي التعبيري اللغوي المجرد .

الشيء الاخر انه لا وجود لوعي ادراكي قصدي لا يحمل ملازمة معنى تلك القصدية مسبقا يسعى تحقيقه سلوكا وتعبيرا لغويا. الوعي جوهر ذاتي والذات المجردة من علاقاتها لا تدرك ولا تعي ما لا معنى له. الوعي كما سبق لنا تكراره فعالية قصدية تحمل معها معناها السلوكي المرتبط بمنظومة العقل الادراكية. اي تفسير لمعنى فارغ لا يحمل قصديته التي يسعى لها يكون بالمحصلة لا وعي غير موجود ولا يقبله منطق العقل.

فرق الوعي عن الادراك

اذا اردنا تفريق الوعي عن الادراك من حيث قابلية امتلاك المعنى، يكون عندها المرجعية الداحضة في عدم وجود وعي لا يمتلك معنى انما تحدد خطله الزائف علاقة الذات بالدماغ وظائفيا بيولوجيا.

لكن اذا نحن اجرينا مقارنة بين الوعي والادراك ايهما اصدق في تعبيره الادراكي؟ نحن هنا نقع في اشكالية ان الوعي ناتج موضوع ادراك العقل. اما الادراك العفوي الطبيعي لموجودات العالم الخارجي فهو انطباع اولي في نقل الحواس للاحساسات الصادرة عن ادراكها لموضوعات وموجودات العالم الخارجي. ويطلق ديفيد هيوم على هذه العملية بنقل الحواس للانطبات الحسية للذهن وهي انطباعات وقتية تاخذ طريقها عبر شبكة الاعصاب وتراتيبية منظومة العقل الادراكية الى الدماغ ولا قيمة حقيقية تحسب لها كما اكد هذا المنحى جورج بيركلي ايضا.

ميزة الاختلاف الادراكي ان الحواس تنقل انطباعاتها الحسية الى الذهن بعشوائية غير منتظمة ليس كما هي في معالجة الدماغ لها. ادراك عشوائية موجودات العالم الخارجي عبر الحواس قد يفقد الاحساسات الانطباعية المنقولة عنها صدقيتها وعدم كونها خاطئة غير صحيحة.

بماذا يختلف الوعي الادراكي لعالم الموجودات عن الادراك الحسي الذي تقوم به الحواس وكليهما مرجعيتهما الذات؟ رغم اننا تحدثنا باسطر سابقة عن هذا الاختلاف نضيف هنا لما سبق استجابة على التساؤل، انه لا يمكن للذات ان لا تعي نفسها وجودا معرفيا مركزيا للجسم وعلاقة الانسان بالطبيعة والعالم الخارجي. ما يرتب على ذلك ان وعي الذات لنفسها يستتبعه بالضرورة انها تعي مواضيعها وعلاقاتها الارتباطية بالعالم الخارجي والخيالي الداخلي. اي نوع من التفكير لا يكون بلا معنى يحتويه عديم الجدوى ولا اهمية له والا كيف يحدد الوجود الانساني كينونته الذاتية بدلالة تفكير لا يحمل معنى ما يفكر به؟.

***

علي محمد اليوسف/الموصل

إنَّ في وعينا المعرفي الكثير من الأفكار المتفقة تارة، والمختلفة حتى التناقض تارة أخرى، وهي من تفرض علينا طبيعة التواصل مع الحياة في مختلف مستوياتها من حيث تكوين المعرفة وإنتاجها وبلورتها في إطر ثقافية وفنية وأدبية على المستوى الإبداعي، أو على شكل أفكار تكون لدينا طبيعة الرؤية الاجتماعية والنفسية والصحية والسياسية وغيرها في الحياة. ومن ثم فإن المعطى المعرفي المتشكل لدينا قائم على طبيعة التجارب الحسية والإدراكات الحسية والعقلية في تشكيل التجربة الثقافية وما لها من انعكاسات بالغة الأهمية في الأجيال الذين سيقودون الحياة الثقافية من الجيل الحالي، كما كان من قبل الأجداد والآباء الذين ساهموا في تشكيل وعينا وجعلوا حضورهم يكون على حسب ما قدموه لنا.

ومن هذه المقدمة المختصرة في الرؤية التثاقفية الزمانية الحاكية عن التشكيل المعرفي - بين الأجداد والآباء والأبناء - المكونة للوعي المعرفي في أي بلد وهي ليست كما هو في المصطلح الدارج ما يسير إيقاع المعرفة وتتشكل الحضارة في مختلف صورها وتنهض العلوم والفنون والآداب لتصبح الأمم واعية في توجهاتها من خلال منظومة متكاملة شاملة لكل نواحي الحياة حتى تصل المجتمعات إلى التطور والنهوض بواقعها على وفق ماضيها، والحاضر الذي يرسم أفق المستقبل.

لكن في الرؤية التاريخية للمجتمعات المتنوعة إنَّ هذا الإيقاع الذي يرسم التثافقية الزمانية الحاكية عن طبيعة هذه المجتمعات يكشف لنا مدى التطبيق الحقيق للنهوض الثقافي والحضاري،وإشكاليته الاشتغالية في تكوين الوعي بهذا التواصل المعرفي بين الأجيال على مستوى نقل التجربة والاستفادة من المعطى السليم والمرتكز الواعي الذي يقدمه في رسم المستقبل. إذ نجد أن هنالك بعض التصنيفات التي نفترضها في قراءة بعض التجارب الأممية في ماضيها وحاضرها وما سيكون عليه مستقبل هذه الأمم من تباين بسبب عدم الاستفادة الحقيقة مما حفلت به هذه التجارب لديها. فإذا أردنا أن نوضح هذا التصنيف سيكون لدينا عدد من النقاط في هذه الرؤية، وهي:

1. التوافق الثقافي بين الماضي والحاضر / من الإيجابي إلى إيجابي مكمل له: إنَّ تجارب الأمم الواعية التي كونتها وعملت على دراسة التاريخ وما حفل به من إنجازات كبيرة لديها واستبعاد كل ما هو سلبي مؤثر في حاضرها من حيث التماسك والانسجام من أجل إكمال التجارب الماضية التي نهضت عليها في ماضيها القريب، وليس في كل تاريخها، على اعتبار أن التاريخ على مرّ أوقاته لا يمكن أن يحصى كونه تاريخ ناجح فقط، بل فيه إيقاع متذبذب بين النجاح والفشل، وما يعنينا في هذا الكلام هو الماضي القريب الذي يمتد إلى مئة سنة أو أكثر بقليل،  ومن هذه التجارب الناجحة المتوافقة بين الماضي والحاضر ثقافياً ما حصل في التجربة الأوربية وخاصة في الدول التي تفوقت في تجاربها وكان لديها سياقات عمل، كما في التجارب في الدول الإسكندنافية، وأخرى في شرق آسيا مثل اليابان وغيرها.

2. عدم التوافق الثقافي بين الماضي والحاضر / من الإيجابي إلى السلبي: وتوجد أمم قد تناقض ماضيها مع حاضرها ولم تعطي تجاربها السابقة فائدة مرجوة في تكوين وعي معرفي ثقافي في استلهام التجارب السابقة في بناء أفق ثقافي قابل للتمدد والتوسع بالطريقة التي يمكن أن يسهم في بناء قاعدة معرفية في الحاضر وتطويرها للأجيال القادمة في المستقبل، ومن بين هذه الامم ما حصل في العديد من البلدان التي يقع قسماً منها بما يسمى ببلدان العالم الثالث والتي بقيت على الرغم من أن لديها ماضٍ كان له لأثر الجيد في البدايات منذ تشكيلها كدول لكنها فقدت أُطر التواصل الحقيقي في هذا الجانب المعرفي والثقافي.

3. التوافق السلبي الثقافي بين الماضي والحاضر / من السلبي إلى السلبي: وهذه الأمم التي كانت في ماضيها لا يبدو لديها تقدم في المجالات الثقافية والمعرفية على مستوى الأفق العام، بل بقيت في دائرة عدم التطور والتحضر، مما جعل منها أمم لا تغادر سلبيتها الثقافية وبقيت في نفس الدائرة الثقافية الخاصة بها والمنغلقة عليها، ومن هذه الأمم بعض البلدان الأفريقية التي لم تخرج من إطار القبلية ذات الدلالات الطقسية المغلقة على نفسها.

4. المتغير الإيجابي في التوافق الثقافي بين الماضي والحاضر / من السلبي إلى الإيجابي: إنَّ من أهم ما قامت به الأمم في هذه النقطة تحديداً أنها تحررت من سلبيتها الثقافية التي فرضتها عليها طبيعتها وبيئتها الثقافية، وعملت على التغير وتكوين مفهوم إيجابي في المجالات كافة ومنها الثقافي، بحيث أصبح الأفق منطلق إلى الأمام بصورة إيجابية عابر للماضي الضيق ثقافياً، ومن هذه الدول بعض دول شرق آسيا، البعض الآخر التي تقع في الخليج العربي، فقد كونت لها أفق ثقافي على وفق المعطيات الجديدة التي نهضت عليها في المجالات كافة.

إنَّ الإشكالية التي وقعت فيها الثقافة العراقية وخاصة في المئة عام الماضية تحسب على المنظور الثاني من التصنيفات التي وضعناها في هذا المجال (عدم التوافق الثقافي بين الماضي والحاضر / من الإيجابي إلى السلبي) كون أن الدولة العراقية الحديثة قد تطورت بشكل مقبول في بداياتها وصولاً إلى العقدين الستيني والسبعيني من القرن الماضي، وكان الأفق الثقافي يسير بطريقة إيجابية في تشكيل بنى الدولة وكياناتها الثقافية المستندة على الصحة والتعليم والفن والأدب وغيرها من المجالات التي شكلت أفقاً معرفياً سليماً، على الرغم من المعرقلات التي رافقها العديد من الانقلابات العسكرية التي تجاوزها الأفق الثقافي في العراق، لكن ما حصل بعد حرب الثمانينات وحرب الخليج والحصار الاقتصادي والسياسات غير المنضبطة التي دهورت القيم الإنسانية في مختلف مجالاتها جعلت من الأفق الثقافي يقع في إشكالية ظهور القطيعة الثقافية مع ما تم انجازه في الماضي، ما جعل القضية تشكل تحولاً سلبياً في هذا الأفق، ومما ساعد تضييق الأفق أكثر هو الهدم الثقافي الذي عاشه العراق بعد الاحتلال الأمريكي الذي أسهم بشكل مباشر في تهديم القيم الثقافية ومرتكزاتها ومنها ما حصل في تكوين الانقسام المجتمعي والطائفي والمذهبي، ومنها ما حصل في تخريب سجل العراق ووثائقه التاريخية، وما حصل في المتحف الوطني، وغيرها من الأعمال التي مازال العراق يعاني منها ثقافياً ومعرفياً، مما أوجد ذلك قطيعة ثقافية مع الماضي الذي كان يسير بطريقة إيجابية، لكن التحولات جعلته ينحدر بطريقة سقوط من الأعلى إلى الاسفل بشكل غير مسبوق، وعلى الرغم من المحاولات التي قد تكون خجولة في إعادة الوضع وإصلاح الأفق الثقافي وتنقيته، ولكن هذا يحتاج إلى زمن طويل قد لا يشمل الأجيال الحالية، بل يحتاج إلى عقود أخرى من الزمن لإنهاء هذه الإشكالية في الأفق الثقافي العراقي.

***

أ.د محمد كريم الساعدي

في العشرين سنة الأخيرة كان هناك اهتمام كبير بالرواقية. الرواقية التي أسسها زينون في القرن الثالث قبل الميلاد هي واحدة من بين المدارس الفكرية الهلنستية العظيمة، ولاتزال ملائمة لأسباب عدة. أصل كلمة رواقية يأتي من الكلمة اليونانية stoa وتشير الى الرواق الذي كان زينون الرواقي يلقي به محاضراته في سوق اثينا. هذا لم يكن صدفة: أراد زينون ان تكون مبادئه مفيدة لكل شخص. الرواقية ليست فلسفة ملائمة لكلية او للاكاديمية طالما هي لا تؤكد على التفكير المجرد او وضع نماذج وسيناريوهات افتراضية. بل هي فلسفة للناس العاديين، فلسفة للتاجر والرياضي والجندي وموظفي المكاتب. بالنسبة للرواقي، الفلسفة هي برجماتية، قُصد بها ان تساعد الفرد أثناء إبحاره في مواقف الحياة الواقعية. عندما يستطيع الفرد في الشارع تطبيق مبادئ هذه الفلسفة في حياته اليومية ذلك هو السبب الذي جعلها فلسفة جذابة جدا. طبيعة الرواقية (وربما كل الفلسفة) جرى وصفها في كلمات الرواقي ابكتيتوس: "الفلسفة لا تعد بضمان أي شيء خارجي للانسان... لأنه مثلما مادة النجار هي الخشب، ومادة التمثال هي البرونز، كذلك موضوع فن العيش هو الحياة الخاصة لكل فرد"(الخطابات 1:15). وفي تعبير آخر له قال ابكتيتوس، ان قاعة المحاضرة هي مستشفى، وان جميع من يدخلوا له هم في حالة من الألم (الخطابات 3:8).

الفكرة الرئيسية وراء الرواقية هي ان كل انسان يمتلك في داخله حافز للسعادة، يوجد من خلال حياة أصيلة تسترشد باستعمال العقل بدلا من العواطف. الرواقية تتخذ موقف الحتمية الناعمة (التوفيق بين السببية والارادة الحرة): نحن لدينا رغبة حرة لكن هناك ايضا اشياء معينة في الحياة ليست تحت سيطرتنا. لو نحن نركز على الاشياء التي تحت سيطرتنا عندئذ سنعيش حياة مسترشدة بالعقلانية. لكن لو قررنا التركيز على اشياء ليست تحت سيطرتنا، فان الاندفاع نحو العيش المؤذي سيكون كبيرا، وسنسقط في حياة مسترشدة باللاعقلانية. برتراند رسل في فصل جميل حول الرواقية في كتابه تاريخ الفلسفة الغربية (1953) يجعل افكار المدرسة صريحة جدا: لو ترك المرء ما لا يمكن السيطرة عليه وعمل بدلا من ذلك على تطوير شخصيته فان كل شيء سينجح. يقول رسل ان "الفضيلة" تتألف من رغبة هي في اتفاق مع الطبيعة". التأثير الرئيسي الذي تسعى اليه الرواقية هو الوصول الى حالة الهدوء التي تعني عدم التأثر بالمعاناة. هذا لا يعني ان احدا سيكون حرا تماما من تاثير المعاناة، وانما هو سيكون في حالة من الهدوء وعدم الاضطراب ويعرف ما يفعل في المواقف بما لا يؤذي الروح او الذهن.

الرواقية وبسبب اتجاهها البرجماتي، ازدهرت في الامبراطورية الرومانية ولعبت دورا كبيرا في الثقافة الرومانية، ايضا هي ساهمت في تطوير المسيحية. وخلافا لما يعتقد به العديد من الناس، الرواقية تدعم فكرة وجود أعلى متسامي. وعلى عكس اخوتهم الايبيقوريون الذين اعتقدوا في إله بارد لا تأثير له في شؤون الانسان، الرواقيون اعتقدوا بإله نشط جدا في شؤون الحياة اليومية – العقل الالهي. لكن هذا يجب ان لا يلتبس مع إله الانجيل. الرواقيون لايقدمون كتبا مقدسة ويعتبرون مقدرتنا على التفكير كأعظم إلهام ديني. معظم الناس الذين قرأوا كتابا رواقيا عادة هم يقرأون الرواقيين الأخيرين مثل ماركوس اوريليوس (121-180 ميلادي)، وسينيكا (4 ق.م – 65 م) وابكتيتوس (50-135م). لننظر الان تباعا في كل واحد منهم.

ماركوس أوريليوس

وهو يُعد أعظم امبراطور في تاريخ روما. وُلد في روما وكان آخر الاباطرة الأنطونيين، الذين اُطلق عليهم بـ "الأباطرة الخمسة الجيدين". كونه حاكما عادلا وعسكريا لامعا، لم تكن لديه الرغبة ليكون امبراطورا مألوفا. بدلا من ذلك هو سعى لدراسة الفلسفة وليعيش حياة شبه زهيدة. مع ذلك، عمله المهني واستدراجه للسياسة جعلاه يتبنّى رؤية رواقية. من المثير للانتباه ان اوريليوس لم يشر لنفسه كـ "رواقي" ابدا.

العمل العظيم لاورليوس كان "التأملات" ويصف فيه أفكاره عن الحياة. من الغريب ان الكتاب كُتب بالكامل باللغة اليونانية الشائعة koine، ويمكننا ان نفترض ان الكتاب في البداية لم يكن له اسما، وايضا انه لم تكن لدي الكاتب النية بنشر الكتاب. هذا يطرح سؤالا محيرا: لماذا يكتب الرجل كتابا دون ان ينشره؟ هل ان ذلك الكتاب حقا له – كأخبار بسيطة عن رحلاته حول الامبراطورية وممارساته لحياته اليومية؟ ام انه كتب هذا الكتاب ليخدم هدفا آخر؟ ابن اورليوس كومدوس (161-192م) جاء الى العرش نتيجة لموت ابوه بعد الطاعون الانتوني الذي كان أخطر طاعون مميت في تاريخ روما. لم يكن كومدوس حاكما جيدا ابدا، الأحداث التي قادت الى كارثة القرن الثالث والمآسي التي بدأت بإضعاف النصف الغربي من الامبراطورية الرومانية، كل تلك الاعتبارات كانت أمام عينه. هل تنبأ ماركوس اورليوس بالصعوبات التي ستمر بها امبراطوريته لو لم يقدها قائد حكيم وقوي، ولذلك كتب التأملات كمرشد لأبنه؟

كتب اورليوس مبادئ لكي تقود لحياة خيّرة. فلسفته ليست معقدة ابدا. الامبراطور يخبرنا صراحة "لنضع نهاية لهذا النقاش حول ماذا يجب ان يعمل الرجل الجيد" (التأملات 10:16). مرة اخرى وبوضوح هو يقول "حالا سوف تصبح رمادا وعظاما. مجرد اسم على الأغلب – وحتى هذا مجرد صوت او صدى. الأشياء التي نريدها في الحياة هي فارغة وقديمة وتافهة"(التأملات 5:33). الحكم بواسطة هذه الأقوال والعديد من الاقوال الاخرى يجعل اورليوس شوبنهاوري.

فكرة كلاسيكية نُسبت لاورليوس هي القول المأثور"memento mori" والذي تُرجم"تذكّر انك ستموت" او "تذكّر موتك". هذه الفكرة ستجعل الناس في جيلنا يتأملون جيدا. ماذا سيكون لو لم تعد موجودا؟ انه حتمي الحدوث في لحظة ما. هذا يجبرنا للتفكير حول الكيفية التي نعيش بها حياتنا، واذا كنا لا نعيش حياتنا بتوجيه من العقل، هذا قد يدفعنا لتغيير اسلوب حياتنا.

سينيكا الشاب

لوسيوس آنيوس سينيكا، يُعرف عادة بـ سينيكا الشاب لتمييزه عن ابيه، كان حاكما رومانيا عظيما وكاتب مقالات وكاتب مسرحي. وُلد في ما يُعرف الان اسبانيا وتربّى في روما في عائلة مميزة، درس سينيكا البلاغة والفلسفة منذ صغره. هو اصبح معلما للامبراطور الرهيب نيرون، احد أسوأ الاباطرة في تاريخ روما، الذي بالنهاية أمره بالانتحار بدعوى انه كان عضوا في مجموعة رواقية معارضة خططت للاطاحة به. هو نفذ الامر وأقدم على الانتحار عبر قطع احد شرايينه. أحسن كتاب عُرف لسينيكا كان اسمه الشائع رسائل من رواقي، ومستلم الرسائل هو حاكم جزيرة سيسلي. احدى الموضوعات المألوفة كان التعليم. سينيكا يكتب بان "الحياة بدون تعليم هي موت"(Epistle 82)، لكنه ايضا يقول "نحن لا نتعلم للمدرسة وانما للحياة" (Epistle 10)، سينيكا يشير الى ان تعليم أي نوع يجب ان يجعل حياتنا أفضل بصرف النظر عما يقوم به المرء في حياته. ألم يكن هذا صالحا جدا في عالمنا اليوم؟ التلاميذ عادة ليست لديهم فكرة او لديهم فكرة قليلة لماذا هم يدرسون وماذا يدرسون : ليذهبوا للكلية او للحصول على عمل؟ هذان خياران فقط ومن المحزن العديد من الاطفال يضلّون طريقهم في العثور على مكانهم المناسب. هذا ربما يفسر لماذا تتراجع المواد الانسانية، يتضاءل استخدامها العملي بسبب الاتجاه النسبي المضاد للمنطق. بدلا من قراءة الكتّاب اللامعين ودراسة التاريخ الحقيقي، ما هو مهم هو كيف كل واحد منا "يشعر" حول الموضوع. غير انه بواسطة منطق سينيكا ومنطق الرواقية عموما، اذا لم يتوافق الموضوع مع العقل، عندئذ يجب استبعاده باعتباره غير منطقي ويُطرح جانبا.

هناك عمل آخر لسينيكا هو (حول قصر الحياة). هذا مقال يميل للتميّز لدى معظم الناس من بين أعمال سينيكا المكتوبة. فيها يكتب "هو ليس اننا لدينا وقت قصير وانما نحن نضيع الكثير منه... الحياة التي نستلمها ليست قصيرة وانما نحن نجعلها هكذا، نحن لم نُعطى شيئا سيئا وانما نستعمل ما لدينا بإسراف". هنا سينيكا يبيّن وبشكل واضح ان البشر واثقون من أنفسهم، أي اننا نقرر كيف نعيش حياتنا اليومية، وعندما نقرر إضاعتها عندئذ ستكون كذلك، نحن فقط جعلنا معاناتنا أسوأ عبر القيام بهذا. الإسراف هو في الحقيقة متجسد في روح الانسان لكننا نستطيع القيام بجهد واع لمعالجة هذا العيب عبر تطبيق التفكير الرواقي.

ابيكتيتوس

وهو ربما الرواقي الأكثر غموضا. هو لم يكتب شيئا على الورق وان خطاباته وكتيّبه كلاهما جرى تأليفهما بواسطة تلميذه ارين Arrian العبد في المولد والذي وُلد في ما يُعرف الان بتركيا، هو درس تحت اشراف مفكر رواقي كبير هو موسونيوس روفوس. بعد حصوله على الحرية بعد وقت قصير من وفاة نيرو، هرب الى روما حيث جعل رزقه من تعليم الفلسفة. بالنهاية هو نُفي من روما من جانب الامبراطور دومتيان، ثم انتقل الى اليونان وأمضى المتبقي من حياته هناك. عمله كان له تأثيرا كبيرا على ماركوس اورليوس.

فكرة ابيكتيتوس كانت مستقيمة بطبيعها. كتيّبه ربما أفضل بداية للناس الذين يريدون التعرف على الرواقية، انه قصير وواضح اللغة. هو يخبرنا "الانسان لا تقلقه المشاكل الواقعية بقدر ما تقلقه تصوراته  حول المشاكل". كلمة قلق هي تقريبا وجودية في طبيعتها، فكرة القلق هي تجربة ملموسة يتحملها المرء. ابكتيتوس يطرح علاجه للمشكلة في قصائد قصيرة "ما يهم ليس ما يحدث لك وانما كيف تستجيب له" او "الناس لا تزعجهم الاشياء وانما الرؤى التي لديهم عنها". ابكتيتوس يقترح ان نغير الطريقة التي نستجيب بها لضغوط الحياة. لو نحن نغير الطريقة التي نفكر بها سنصبح أحرارا. هو يقول ان حريتنا تُكتسب خصيصا عبر "عدم إعتبار الاشياء التي تقع وراء قدرتنا". او كما يقول في خطاباته، "عند كل حادث يصيبك، تذكّر ان تعود لنفسك وتتسائل أي قوة لديك لتحولّها الى استعمال جيد".

ان فكرة تغيير أذهاننا كما طرحها ابكتيتوس وبقية الفلاسفة الرواقيون عُرف عنها اثّرت على عالم النفس الامريكي آلبرت إليس(1913-2007) Albert Ellis، صاحب نظرية العلاج السلوكي الانفعالي العقلاني، ومؤسس معهد آلبرت الس AEI في نيويورك، والرواقية ايضا أثّرت في تطوير العلاج السلوكي المعرفي cognitive Behavioral Therapy. يمكن لنا بالتأكيد الاستفادة من هذا النظام من الفكر في الصعوبات التي نواجهها باستمرار في حياتنا اليومية.

***

حاتم حميد محسن

(ما يقبع في اللاّشعور هو ما تنحني أمام سلطانه رقاب النّاس)... فتحي بن سلامة

هي لغة التحليل النفسي .. اللغة هي مفتاح معرفة النفس وفي ذلك يقول "هوفمان" بالكلام نجد الحلول ولذلك الكلمة تبقى هي الوسيط بين البشر، ولعلنا نتفق مع القول الذي يرى أننا سنكتشف يومًا ما أنفسنا من خلال هذه اللغة، وهي لغة النفس ويرى "جاك لاكان" وظيفة اللغة في الكلام، ليس أن نخبر، ولكن أن تثير، ويرى أيضًا إن اللغة تتحرك دومًا داخل الالتباس بحيث إنكم، في أغلب الأحيان غير دارين البته بما أنتم به ناطقون، إن قيمة اللغة في حديثكم المعتاد، محض اعتبارية إذ لا تفعلون بوساطتها سوى أنكم تعيرون مخاطبكم الإحساس بأنكم دومًا ها هنا، بمعنى أنكم قادرون على إعطائه الإجابة المتوخاة والتي لا علاقة لها بما يمكن التعمق فيه " لاكان – الذهانات، ص 135" وعلى هذا الأساس فإن   كل علاج نفسي هو حوار مع النفس .. لغة بلغة، بها مقاومة من داخل النفس، وللنفس عدة مداخل ولها ايضًا عدة مخارج، أول تلك المداخل هي الفكرة، هي لغة الفكرة، هي التفكير الذي يمتلك القدرة على نسج هذه الافكار بلغة مفهومة تارة، وتارة أخرى غير مفهومة، هذا هو اللاشعور " اللاوعي يقلقنا يقض مضاجعنا، نتكلم في الحلم أشبه بالذهان، لا أنه الذهان ولو أنه قصير الأمد، لا يلبث أن يزول، لا أعتقد أنه يزول وإن حاولنا نسيانه، أو تناسيه، رغم أن التغيرات العميقة التي تطرأ على الحياة النفسية في الحلم تتلاشى وتستعيد النفس حالة السواء كما عبر عن ذلك سيجموند فرويد.

 لغة النفس هي الهفوات، هي زلات اللسان والقلم وأخطاء الكتابة والأفعال الخاطئة والعارضة. ومن لغة النفس هي إيماءات تصدر عنا، هي في الحقيقة إشارة محرفة مشوهة لفعل غاب في غياهب اللاشعور " اللاوعي" صاغته النفس بعدة أشكال مقبولة تارة، وتارة أخرى مخجلة ولكننا لا نستطيع اخفاءها، أما بحلم أو هفوة أو زلة لسان، وقول العلامة مصطفى زيور يطلق سراح اللاشعور "اللاوعي" إذا ما تدثر بالجمال، ونرى أن القصة والقصيدة والأدب والشعر الذي كلما تعمق صاحبه في رمزية عميقة أظهر لنا لغة النفس .

ويقول سيجموند فرويد نجاح العلاج مرهون بما يبذله من جهد ربما يبديه من استبصار ومثابرة وقدرة على التكيف، وسؤالنا أين المبتدأ، وأين المنتهى ؟ وهل من المعقول أن يؤدي الحوار مع النفس إلى العلاج من الحالات التي استعصي على حكماء الطب والمعرفة بهذا العلم أن ينجح ونفس التساءل يطرحه فرويد بقوله: هل بإمكان الشفاء بمجرد الكلام، ويعرض دليل آخر وهو أليسوا هم أنفسهم من يوقنون بأن آلام العصابي مصدرها " خياله الخاص" ليس غير؟ فبالألفاظ يستطيع الفرد أن يسعد صاحبه أو أن يشقيه، أن يتيح له أوفر قسط من اليُسر، أو أن يزج به في أوعر مضايق العُسر.. هذا ما دونه لنا فرويد. ويقول علماء التحليل النفسي هناك نوع من النفس صعب تخيله، يتميز بصفة النفي الكامل، لا يقبل أي نقاش، العلاقة بوساطة اللغة والكلام واللسان الناقل لهما ربما انقطعت وتاهت في غياهب المجهول. 

علمنا التحليل النفسي أن لغة النفس ليس لها حدود، تغوص في عمق اللاشعور – اللاوعي، ينبش بأبرة أصغر من النانو غير المدرك، في عالم خبرات كانت مداخلها أعمق مما يعرفه أي منا، أما مخارجها فهي أصعب إن أفلح البعض تكونت منها القصيدة برمزية عالية، أو رواية عكست ما يجري في النفس في كل سطورها، أو نكتة لاذعة، أو فكاهة برسم كاريكاتوري عميق الأبعاد، أو قصة، وأزاء ذلك فإن " فرويد" يرى أن الألفاظ تستثير الانفعالات، وهي الوسيلة العامة التي نؤثر بها فيمن يحيطون بنا من الناس. 

وإذا لم يفلح البعض فكانت البداية بالصمت يتوسمه الخيال الواسع ونحن نعرف أن الخيال أكثر أهمية من كثرة المعرفة، وأعمق من الواقع، وربما هذه الكثرة الكاثرة هي سبب البداية، وربما يحق لنا أن نقول أن المدخل للنفس يسبب التفتت الخيالي ويقودنا "جاك لاكان" بقوله لا أفعل سوى التعبير عن تواجد صراعات بين النزوات وبين الأنا، وهذه الصراعات تحتم ضرورة القيام بأختيار ما، فهناك من النزوات ما يتقبلها الأنا، وهناك ما لا يتقبلها . وهذا ما تمت تسميته عادة، ولست أدري لماذا، كما يقول لاكان بوظيفة التوليف لدى الأنا، وبما أن هذا التوليف، عكس ما هو متوقع، لا يتحقق أبدًا، فمن المستحسن القول بوظيفة السيطرة بدل وظيفة التوليف، ويضيف "لاكان" إن كل توازن خيالي مع الآخر هو دومًا موسوم بتذبذب في الأساس " جاك لاكان، الذهانات، ص 109" . ويزداد تساءلنا عن السوية ومكانها في النفس، فضلا عن زمنها في الإنبثاق أين تقف بين المداخل والمخارج ؟ في داخل النفس وفي هذه الحالة نتفق مع العلامة "صلاح مخيمر" بأن السوية خرافة،  لا ينبغي أن يغيب عن ذهننا أن السوية خرافة، أو مثل أعلى نقترب منه بدرجة أو بأخرى.

أما "باسكال" الفيلسوف الفرنسي فيرى  إن الإنسان مجنون بالضرورة حتى ليصبح مجنونًا على نحو آخر من الجنون إذا لم يكن مجنونًا. ويرى مصطفى زيور: أن في الجنون عقلًا. ويرى "أبو ليت" إن ماهية الإنسان أنه مجنون، أي أن يكون هو في الآخر.  فلو أننا فحصنا الفرد السوي في أثناء يقظته فحصًا دقيقًا ناقدًا، لبان- لظهر  لنا أن حياته السوية، كما نسميها تزخر بأعراض لا تحصى، لكنها ليست ذات بال من الناحية العملية.. وفي النهاية نقول تزخر بأعراض وهي مدخل للأمراض كما نحن نختار ما يناسبنا،  فالمرض في بدايته اختيار، والاختيار ملازم للحرية، وفي ذلك فنحن نختار المرض الذي يناسبنا وبعد ذلك نبحث عمن يساعدنا في التخلص بما أخترناه من آلام المرض النفسي والعقاب الذي ندفعه لإختيارنا سبيل المرض.

***

اسعد شريف الامارة

استاذ دكتور في علم النفس وباحث في التحليل النفسي

النزعة الانسانية:

البنيوية بحسب النقاد الماركسيين لها، يلازمهم ومعهم (سارتر) وأقطاب الوجودية الحديثة مثل هيدجر، ياسبرز، مارسيل جبرائيل (فقط بمنطلقات متباينة مختلفة كما سيتضح معنا لاحقا)، يجمعون على ان الفلسفة البنيوية ألغت في فلسفتها مسألتين على جانب كبير من الأهمية في تاريخ الفلسفة، (الذات / والانسانية) واقصتهما نهائيا من التفكير الفلسفي ب (المطلق)، بما يترتّب عليه نسف التاريخ الفلسفي السابق على البنيوية المتمركز حول الذات بمعناها الانساني الشامل منذ مقولة برتوغوراس 400 عام ق.م "الانسان مقياس كل شيء".ان لم يكن نسف ضرورة ذلك التاريخ في عزل البنيوية الانسان كمحوروجودي مركزي بالحياة في جميع وعلى امتداد تاريخ الفلسفة القديمة والمعاصرة.

قبل التطرق لرد البنيوية على الماركسيين والوجوديين في الغائها الذات الانسانوية كمرتكز الحياة، نرى انه من المتعذّر لأي جديد في الفلسفة الغاء (الذات) والغاء (النزعة الانسانية) من الفلسفة، وماذا يتبقى منها بعدئذ بعد نزعهما؟ ولمن تخاطب او تكتب من أجله أو له؟ معظم تاريخ الفلسفة في أشد تجريداته وميتافيزيقيته الفلسفية لم يكن الانسان غائبا ولا مغيّبا منها، كمحور مركزي في التفلسف (مرسل ومتلقي)، (فاعل ومنفعل)، (وجود وقضايا)، (كينونة وجوهر)، (حياة وموت)، (خير وشر) وهكذا، ليقوم العقل بعدها ترافقه حقول المعرفة والعلوم في اختصاصات الاجتماع، علم النفس، الاقتصاد، السياسة، وامور عديدة لا حصر لها بدورها المكمّل أو المفارق المختلف، وفي مختلف شؤون الحياة المتعالقة بالفلسفة.

كما ان الوضعية المنطقية حلقة فينّا رائدها الفيلسوف اوجست كونت (1798 – 1875) ومن بعده شليك اهتمت بدراسة الظواهرالواقعية المادية فقط، متبنية شعار(ما لايمكن رصده لا وجود له) رافضة كل تفكير في الغيبيات واعتبرت الميتافيزيقيا لغو فارغ لا معنى له، وان الوضعية هي التي تلتزم العلم في فهم الظواهر الطبيعية والبشرية.

في هذا الشعار للوضعية المنطقية التحليلية يظهر جليّا تناقضها المثالي وفي تطرف ايضا (رغم ما تدعيه من عقلانية واقعية)، ولا ارغب العودة وتكرار خطر وخطأ التفكير المثالي في اعتماد ان الفكر سابق على الوجود ومنتج له.ناقشت هذا الموضوع سابقا في فصل احد مؤلفاتي بعنوان (اللغة والاشياء) وفي اكثر من عشر مقالات اخرى منشورة موزعة على مواقع الكترونية عربية..

ان كل تجاوز ونفي للنزعة الانسانية فلسفيا، يجعل من تاريخ الفلسفة قبل البنيوية، تراثا كميّا استذكاريا من السرد الخيالي التجريدي لا نفع له، ولا علاقة صحّية تربطه بالانسان كوجود نوعي في الحياة التي نحياها على الارض.وأن تاريخ الفلسفة مدموغا بعدم الفاعلية الانسانية، انما تريده البنيوية خطابات من السرد المنطقي العقلي المتجرد، وأنساق فارغة أجترارية لمفاهيم موغلة في التجريد من جهة، وموغلة في الغياب من الاسهام في تغيير العياني الواقعي، والتي استنفدت جميع متبنيّاتها ومجالات تناولها البعيدة عن تحقيق حلول حيوية ماثلة في حياة الانسان المعاصر.

مؤكد اننا ليس بمقدورنا ان نصادر منطلقات فلسفية تشغل الباحثين عقودا طويلة في الفلسفة البنيوية قبل ان نتبيّن ردودها ووجهة نظرها وتعليلها لمثل تلك التوجّهات المصادرة للذات والنزعة الانسانية، خاصة ان ماتدّعيه البنيوية بانها بصدد قلب جميع المفاهيم الفلسفية السابقة عليها من اجل خلق انساق وبناءات تخدم العلم وتقدم الحياة الانسانية وهذا التوجه لا يخدم الغرض المعلن عنه بوسائلها المحدودة القاصرةعلى الاقل.

وليس من الواقع في شيء ان تخرج البنيوية الفلسفة من ذاتيتها الانسانية مهما كانت الذرائع التي ترفعها، على صعيدي التفلسف، وصعيد التلقي الاستقبالي.ويطلق شتراوس على الذاتية انها احد اشكال الوعي البرجوازي التجريدي لذا هو يرفضها. في تعقيب عابر بسيط لا يمكننا تصنيف معيارية الذات من الناحية الانسانوية على انها طبقية وبذلك تكون مشروعية رفضها. النزعة الانسانية فوق الطبقية.

كانت البنيوية موفقّة في ادانتها لوجودية سارتر انها فلسفة مغرقة في ذاتيتها غير الانسانوية على مستوى المجموع، وهو شيء لا تنفرد به البنيوية عن سائر منتقدي وجودية سارتر، المغرمة بالتشاؤم والعدم، واللاجدوى، وان الانسان قذف به بمحنة الحياة، حاملا حريته المسؤولة عن ذاته وعن ذوات الاخرين الذين هم الجحيم، وعليه يكون خلاص نفسه بقواه الذاتية منفردا من المأزق الوجودي كما في دعوة بوذا (ابحث عن خلاص نفسك وحدك).

كما أعتبرت ذاتية سارتر الفلسفية ذاتية متضخّمة ومتطرّفة لكن ماهو مهم اكثر، وجوب التفريق بين تأكيد سارتر (الذات الانسانية) التي يحاجج بها البنيوية ويحمّلها مسؤولية اضاعتها، وبين (النزعة الانسانية) التي تطالب الماركسية بها البنيوية لأضاعتها لها ايضا.

فالنزعة الانسانية التي يدّعيها سارتر في فلسفته هي غيرها النزعة الانسانية التي تريد الماركسية حضورها في الفلسفة البنيوية وتفتقدها لديها.و أن البنيوية مهما سعت وبذلت من جهد في ربط منطلقاتها الفلسفية بعلم النفس او الانثروبولوجيا اوالتاريخ، اوعلم الاجتماع او اللغة اوتاريخ الفلسفة وغير ذلك فهي بالنتيجة عاجزة عن تحقيق منجز تدّعيه بصدد اقامة (بناءات نسقية) تدّعم مسار العلوم وتساهم بتطويرها وتقدم الحياة بالتزامن مع اعلانها الفلسفي المتشدد ان دور الوجود الانساني في التاريخ اصبح خارج مقولات البحث الفلسفي والمعرفي.

محاورة جان بياجيه:

هنا نعيد قبل ان نعرض محاججة (جان بياجيه) أدعاءات كل من الماركسيين وسارتر المختلفتين حول (الذات، والانسانية) وتقاطع واختلاف سارترحول النزعة الانسانية الذي اشرنا له سابقا مع البنيوية،  في تقاطع واختلاف الماركسية في فهمها النزعة الانسانية المصادرة فلسفيا عند كل من البنيويين وسارتر على السواء.

يذهب بياجيه في رده على نقد سارتر للبنيوية، وتأكيده أهمية محورية الذات الانسانية في فلسفته الوجودية، التي أتهم سارتر بها البنيوية العبور عليها ومجاوزتها

بافتعال غير مقبول او مبرر، فكان رد بياجيه: (ان الذات الانسانية التي يؤكدها سارتر لا تشيّد بناء العلم بحكم طبيعة عملها انها تجريدات لا شخصية، لا يمكننا الاستدلال عنها الا من خلال هذه التجريدات فقط)3 وليست هي (ذات) فاعلة يعتد بها من واقع تأصيل النزعة الانسانية كفاعل تنموي في مجرى الحياة.

هنا بياجيه في رده على سارتر يضع نفسه، بالمثل الدارج فاقد الشيء لا يعطيه، فاذا كانت الذاتية الانسانية عند سارتر تجريدات غير شخصانية، فالبنيوية لا تعتمدها وتلغيها هي اصلا ولا تعترف على لسان فوكو بشيء عياني تتمحور الفلسفة حوله وحول قضاياه ومشكلاته ذلك هو الانسان (كذات)، وحتى على لسان شتراوس وفوكو فهما لا يقرّان بأن للانسان تاريخ حضاري أوصله الى مانعيشه اليوم.وان قضايا الانسان واحدة وتطلعاته لم تتغيرعبر العصور لذا يكون كافيا دراسة تاريخ الاقوام البدائية فقط لنفهم التاريخ البشري بمجمله، بمعنى تعميم منجزات الجزء على الكل.

ومن الجدير ذكره ان المفكر الكبير محمد عابد الجابري في دراساته وفلسفته القيّمة حول صياغته لمشروع عربي نهضوي استبعد البنيوية وتحفّظ على التسليم بالكثير من منطلقاتها، لانها وبحسب ادانته لها عملت على تعميم منجز الجزء على الكليات وهو سبب رفضه لها.

ويمضي بياجيه في التوضيح أكثر انه يوجد فرق كبيربين العلاقات الشخصية التي تختفي من خلالها الذات الانسانية، كنزعة فطرية (انسانية مجتمعية)، وبين ما يطلق بياجيه عليه(الذات الانسانية في مجال المعرفة)، وهذا بحسب بياجيه فرق كبير وهام، اذ يجد بياجيه ان التخلي عن الذات الانسانية في مجال المعرفة، انما يحررنا في تخلّينا عن اتجاهنا التلقائي في التمركز حول انفسنا، و(نتحرر من ذاتية العلاقات الشخصية، ولا يكون هناك بعدها للذات وجودا بوصفها ذاتا عارفة، الا بمقدار ترابطاتها المتداخلة التي تتولد منها البناءات)4.. رد بياجيه هذا تجريدي يتلاعب بالالفاظ.

ونكمل مع بياجيه توضيحه : ان البنيوية تفرق بين (الذات الفردية) التي لا تأخذ منها موضوعا للبحث الفلسفي على الاطلاق، وبين(الذات المعرفية) أي تلك النواة التي تشترك فيها الذوات الفردية كلها على مستوى واحد، وهي موضوع الفلسفة ان صح التعبير، كذلك تفرّق البنيوية بين ما تحققه الذات بالفعل، وما بين ما يصل اليها وعيها، وهو محدود بطبيعته، وما تركّز البنيوية عليه هو اهتمامها بتلك العمليات التي تقوم بها الذات وتستخلصها بالتجريد من افعالها الذهنية العامة.5

ان ما يلاحظ على حجة بياجيه تجاه درء تهمة اغفال البنيوية النزعة الانسانية، ركيزة الفكر الفلسفي الماركسي انها لم تكن مقنعة بما فيه الكفاية، اذ عمد بياجيه باسلوب تجريدي صرف تفنيد مقولات فلسفية تاريخية علمية ومادية صلبة لا تزال تمتلك حراكها العملياني الواقعي المقبول ليس لدى الوجودية والبنيوية، وانما في الماركسية، فهي تمتلك حضورا انسانيا فاعلا في مجرى الحياة وتداخلها معها.ولم يكن بياجيه الوحيد الذي وقع بمطب التجريد الفلسفي المسرف في مناكفة وتضاد مع الماركسية حتى احيانا من دون تسميتها، اذ نجد ان (ألتوسير) كان أنشطهم وأبرزهم تأثيرا في نقده المادية التاريخية وكتاب راس المال كما اشرنا له سابقا.

وقبل ان نختم مبحثنا هذا نشير الى ان البنيوية ترى ان الكلام يسبق الكتابة، وان الحقائق التاريخية تثبت ان اقدم نظام كتابي يرجع الى خمسة الاف سنة قبل الميلاد، وانه لا يمكن لأي مجتمع الوجود من غير اللغة الكلامية، لذا يكون من المنطقي ان نفترض ان الكلام يرجع الى بداية ظهور المجتمع الانساني، وعلى العكس من البنيوية ترى التفكيكية ان الكتابة تسيق الكلام وان الكلام ولد من رحم الكتابة، وينعتون الكتابة بالعدم والكلام بالوجود ومنطقيا فالعدم يسبق الوجود. هنا تحاول التفكيكية تبرير الخطأ بخطأ آخر اكبر منه. من حيث لا يمكن تخليق وجود من عدم سابق عليه. كما ان النص في الفلسفة التفكيكية يظل دائما يحمل عوامل اندثاره وتلاشيه في احشائه بحسب الباحثة والناقدة سارة كوفمان من رواد الفلسفة التفكيكية، وتجد ان التفكيكية تتعامل مع النص اللاهوتي المتعالي، بانه نص يحمل اسباب تفككه ومغادرته احتكار مركزية خطاب النص، الى ان تصبح حسب رأيها جميع النصوص نسبية الوجود ونسبية التلقي ومتعددة القراءات.كما ان الفيلسوف الانثروبولوجي جيمس فرايزر يذهب الى انه كما استطاع الدين ابطال عمل السحر، فان العلم في طريقه الى ابطال لاهوت الدين.

***

علي محمد اليوسف

........................

الهوامش:

1.توضيح اكثر انظر، فؤاد زكريا، افاق الفلسفة صفحات 363-365

2. المصدر السابق ص 360

3.نفس المصر السابق ص 366

4. نفس المصدر السابق ص 368

5. نفس المصدر السابق ص 364

التاريخ البدائي

 التركيز البنيوي تاريخيا على (الاثنولوجيا) دراسة تاريخ الجماعات البشرية البدائية، التي اعتمدها أبرز اعلام الفلسفة البنيوية بمختلف الاختصاصات ابرزهم (شتراوس) في دراسة تاريخ انثروبولوجيا حضارة ماقبل التاريخ، (التوسير) في نقده الماركسية وكتاب رأس المال، (لاكان) في نقده علم النفس الفرويدي، (دو سوسير و فنتنجشتين) في فلسفة اللغة وعلم اللغات واللسانيات والمنطق، (فوكو) في تاريخ الجنسانية وتاريخ الجنون وهو صاحب مصطلح (اركيولوجيا المعرفة) او مايسمى تعريبا حفريات المعرفة والقراءة الجديدة، ويعتبر كتابه الشهير (الكلمات والاشياء) من اشهر كتب القرن العشرين في الفلسفة، و(جان بياجيه) في علم النفس ايضا وهكذا.

أعتبرت البنيوية كما جاء به ليفي شتراوس أن دراسة انثروبولوجيا الاقوام البدائية تمتاز بأنها تعنى بأقوام عاشت وانتهت خارج مدوّنات التاريخ البشري، ولا تمتلك تلك الاقوام تاريخا مدّونا وكل ماتركته قليل غير مندثر ضائع من نقوشات مرسومة على حيطان الكهوف صلتها بالتراث الفلوكلوري الشعبي وليس لها صلة بالتاريخ بالمعنى التاريخي المتغّير والمتطّور في امتلاكه ميزتين التدوين وتدرج التوصل الى اختراع اللغة سبعة الاف سنة قبل الميلاد والكتابة 2500 ق.م، .

 الميزة الثانية التي يمتلكها التاريخ الانثروبولوجي الذي تؤكده اركيولوجيا الابحاث الحديثة اي التاريخ المدوّن. انه المسار الخيطي في مراحله الحضارية و تغييراته المتسارعة أسوة بغيره ماسبقه كما في تاريخ شعوب ما قبل التاريخ التي عرفت بمراحل تاريخية طويلة بدءا من العصور الحجرية المشاعية البدائية، وبعدها عصر الصيد والالتقاط تلاها العصور الزراعية والصناعات المعدنية البرونزية اليدوية بأبسط اشكالها واشتمالاتها، وأعتبرت الفلسفة البنيوية تلك المراحل البدائية، مقارنة بالتاريخ الانساني لمراحل مابعد التاريخ المدّون والموّثق تنقيبيا(احفوريا) وآثاريا بعد ظهور الكتابة المسمارية في بلاد مابين النهرين والهيروغليفية في مصر الفرعونية في القرن الرابع ق. م، على ان ما سبق اللغة تعتبر مراحل اللاتاريخ البشري كما اشرنا له سابقا.

كما أعتبرت البنيوية التاريخ البدائي الاثنولوجيا (تاريخ ساكن) بحكم طبيعة العقل البدائي في ثباته ومحدوديته الادراكية والمعرفية، وبالتالي أصبح هذا التاريخ أنموذجيا في التناول المنهجي البنيوي البحثي المتعدد التيارات الفلسفية، الذي تخدمه (حالة الثبات والسكون) التي تعتري التاريخ البدائي وتقعده عن الحركة التطورية السريعة المتلاحقة.

ان هذه المسألة التي اعتمدتها مرتكزا اساسيا الفلسفة البنيوية، أثارت حفيظة الماركسيين من الذين عابوا على البنيوية انها لم تجد في التاريخ الانساني، الا المجتمعات البدائية ما قبل التاريخ، لدراسة تاريخها على وفق منطلقات أسمتها(قطوعات التاريخ المهملة) ميزتها ثبات وسكون تلك المجتمعات تاريخيا ومراحليا بما يفتح المجال الى دراستها وتحليلها الانثروبولوجي بدقّة وتناول أيسر.

واذا كانت البنيوية نجحت في اقامة بناءات نسقية معرفية تحت مسمى (التكوين الثابت) للانسان، وتشابه قضاياه في مختلف الازمان والعصور، ليس على صعيد الحقب التاريخية البدائية السحيقة وحسب، وانما على صعيد التاريخ الساكن للانسان في مختلف المراحل التاريخية، لأن مشاكل الانسان كانت وبقيت ثابتة ومتشابهة لم تتغيرجوهريا على حد زعم البنيوية. لكن ما يلحظه الدكتور المفكر فؤاد زكريا وآخرين عديدين غيره من باحثين ماركسيين ووجوديين، أن البنيوية تغاضت واخفقت معا ولم تنجح في تعليل التقدم التطوري والتاريخي الى حد اعتقادها بان ما يدعى التقدم البشري بفعل الاشكاليات البشرية المتنوعة والمتتالية هو محض خرافة ووهم، وان التحديات التاريخية سراب خادع ولم تكن في يوم من الايام عاملا لتقدم حضاري من أي نوع كما ذهبت له البنيوية في ادبياتها البحثية والفلسفية.

ولقد ذهب فوكو الى أبعد من ذلك قوله:انه يتجنب الخوض في/ ومع كل ما له صلة بمقولات التحّول والتغيير، ولا يرى في كل مرحلة تاريخية الا(ثوابتها) فحسب، ووصل الحد به الى التشكيك بالانسان نفسه، واسقاط التاريخ البعدي القديم والحديث والمعاصر من الحساب الفلسفي البحثي البنيوي نهائيا باستثناء الوقوف عند مراحل اللاتاريخ الذي تمثله الاقوام البدائية.باعتبارها مراحل بشرية خارج التحقيب التاريخي الخيطي في التطور البشري .

لقد انساق خلف هذه المنطلقات الفلسفية البنيوية العديد من الذين انشقّوا عن الماركسية، ربما كان ابرزهم (التوسير) في استهدافه المادية التاريخية وكتاب رأس المال في انتاج ماركسية خيالية وتجريدية تعتمد خطابات غامضة واقامة بنى نسقية لا تمّت بأدنى صلة لها مع الواقع العيني، وعجزت عن دحض الاسس المادية والجدلية التي قامت عليها الماركسية.وأكثر من ذلك نجده عند اقطاب البنيوية الذين سقطوا في الذهان التجريدي الفلسفي، وخلقوا أنساقا معرفية خارج اهتمام مركزية الانسان وجعلوها حقائق في مواجهتم الفكر المادي والماركسي تحديدا.ان البنيوية تجاهلت الطبيعة الاجتماعية للانسان وحوّلت طبيعة النزعات الانسانيات نحو مملكة التجريد الميتافيزيقي. وتماهى مع هذا التيار بول ريكور في الهورمنوطيقا وجاك دريدا في التفكيكية.

و من أبرز الامور في هذا المنحى البنيوي، أن غالبية مدارسها أستقت ينابيع تفلسفها من التاريخ الاسطوري والميثولوجي، الذي أعتبرته البنيوية الأنموذج الأمثل لدراسة القطوعات التاريخية الساكنة لما قبل ظهور الكتابة والتدوين التاريخي. التي لايحكمها التغيير او التطور والتبديل.وبذلك تسهل وتتوفر دراستها، وفي اعتمادها الاساطير كما يعتمدها علم النفس الفرويدي على انها حلم جماعي لاشعوري لدى جميع الشعوب قبل وبعد التاريخ، متجاهلة تماما أن ارتباطات مثل اللغة والاسطورة والدين والطقوس والمجتمع او القرابة و القبيلة، والزواج جميعها مرتبطة بالانسان ووجوده الارضي بعرى وثيقة جدا لا ينفع معها المكابرة في تقليل اهميتها في دراسة أي منحى تاريخي او معرفي او فلسفي مبتورناقص لغرض الحصول على استنباطات تعميمية خاصة فقط بالاقوام والقبائل البدائية . ربما كانت تلك المفردات الحياتية بعيدة جدا عن سياقاتها الاجتماعية والانسانية والتاريخية كما حصل في التوظيف البنيوي لها.

ومن الجدير ذكره ان مركزية الانسان في الفلسفة قديمة، ورائدها هو الفيلسوف السفسطائي بروتوغوراس، القرن الرابع قبل الميلاد في مقولته الشهيرة (الانسان مقياس كل شيء).واعقبه فلاسفة الوجودية جميعهم، سورين كيركارد، وهيدجر، ومارسيل جبريل، وصولا الى سارتر وكامو واخرين.جميعها الغته البنيوية من دون ادنى تانيب ضمير ولا اسف عليه. اي الغت البنيوية مركزية الانسان بالوجود.

 كما ان الاسطورة التي هي حلم جماعي لا شعوري لدى الشعوب البدائية كما يذهب له علم النفس الفرويدي، الذي يختلف دلالة ومضمونا مع مفهوم البنيوية له، ففي علم النفس الفرويدي يكون المحلل النفسي أعلى مرتبة تمييزية عن المريض، ويعد الطبيب النفسي نفسه، أعلى مرتبة انسانية عن الشخص المعالج، مادام يستطيع كشف أبعادا أعمق من تلك التي يبوح بها الشخص له عن تجاربه العفوية.اما في البنيوية في اتجاهها التحليلي البنيوي السايكولوجي عند (لاكان) فان المحلل النفسي (لا يعتبر نفسه سوّيا وسليما بالقياس الى من يقوم بتحليله، كما لا يتخّذ منه اي موقف مميز عنه) وبهذا التفريق الافتعالي بين الفهم الفرويدي للاسطورة من جهة، وفهم الفلسفة البنيوية لها في التحليل النفسي من جهة مغايرة، لا اجده يشكل مسألة فلسفية جديرة بالاهتمام والاختلاف حولها.

***

علي محمد اليوسف /الموصل

تمهيد: المقال يعتمد على ترجمة الباحث الفلسفي القدير حاتم حميد محسن  لمقالة الفيلسوف الامريكي وعالم الرياضيات جاريد وارين التي نشرها في مجلة (الفلسفة الآن) عدد اب – ايلول المزدوج. ونشر الاستاذ حاتم ترجمتها على موقع المثقف تاريخ 9 ايلول 2023 بعنوان (الغاز الرياضيات: الابعاد الفلسفية والحلول الممكنة).

مداخلة نقدية

ورد في مقالة وارين: (أن حقائق الرياضيات الخالصة تختلف تماما عن الحقائق العادية. فمثلا حقائق الرياضيات الخالصة هي ابدية. هي دائما كانت صحيحة وستبقى صحيحة. كانت صحيحة عند الانفجار العظيم ان 1+1=2 وستبقى صحيحة بعد تريليون سنة. انها ضرورية وتبقى صحيحة دائما لا يهم بذلك احوال العالم. حتى في عالم بلا انسان سيبقى صحيحا واحد زائدا واحدا يساوي اثنين. كذلك  صحة الحقيقة الرياضية (موضوعية) لاتعتمد اهواء ورغبات اي شخص. ولو نحن نلتقي باناس من المريخ ويقولون 1+1=3 سوف نعرف اننا نفشل بالتواصل معهم ). انتهى الاقتباس.

نحاول تفكيك هذا المنطق الرياضي الفلسفي رغم وضوح لغته التي توهم ماذكره الفيلسوف صحيحا تماما. رغم ان عالم الرياضيات وارين يبسط قضية علمية صارمة لاتقبل خلط ما هو علمي بما هو متخيّل. الا انه يدخل في مقالته الكثير من الاستطرادات الخيالية غير الواقعية التي لا نصيب قليل لها من الحدوث.

قول فيلسوفنا حقائق الرياضيات الخالصة تختلف عن العادية عبارة سليمة تماما لكن كيف؟ حقائق الحياة العلمية منها حقائق الرياضيات العلمية ثابتة لا تتغير ولا تتاثر بعامل الزمن دليل قول الفيلسوف بعبارته الغامضة قائلا (الحقائق الرياضية ثابتة لا تتغيربسبب ان لغتنا الرياضية مستقلة عن الزمن). هنا الخطأ البدئي الاول هو الخلط بين حقائق الرياضيات ولغتنا ومفاهيمنا عنها مستقلتان كليهما عن الزمن .والصحيح ان حقائق الرياضيات هي الثابتة المطلقة فقط هي المستقلة عن الزمن. ولا تحضر لغتنا الرياضية هنا عنها سببا محايثا لاستقلالية حقائق الرياضيات عن الزمن وسنوضح هذا اكثر لاحقا.

ثبات حقائق الرياضيات لا يعتمد على زمن قراءتنا لها. فهي ثابتة بعد اختراع الانسان لها وليس بعد اكتشافها جاهزة كما يرى فيلسوفنا. واصبحت حقيقة علمية لا تخضع لاهواء وامزجة شخص كما مر بنا. ما ارغب تاكيده ان زمانية الحقائق الرياضية مطلقة لانهائية لانها هي حقائق مطلقة خالدة لذا ليست لها زمنية ثابتة تلازمها في حين قراءاتنا الزمنية لحقائق الرياضيات هي زمنية بمعنى ملازمة الزمن المفتوح لنا عليها رغم عدم امكانية التلاعب بلازمنية حقائق الرياضيات. الحقيقة كي تكون عبارة عالم الرياضيات وارين صحيحة يجب ان تكون حقائق الرياضيات مستقلة عن الزمن وان لغتنا الرياضية عنها زمنية.

حقائق الرياضيات تكون ثابتة لا تتغيروغير نسبية كونها تجريد رمزي – واقعي مشترك مستمد من واقعية الحياة التي نعيشها فاصبحت من البديهيات الثابتة التي لا يطالها الشك او التجربة او اعادة النظر بها.. هذه الحقائق الرياضية الثابتة مخترعة وليست مكتشفة وهي من صنع الانسان وليست قبلية على وجوده.اما الحقائق العادية اذا كانت طبيعية او علمية فيزيائية او غيرها مثلا فتكون نسبية تتغير بعامل الزمن والتجديد الدائم لها.

وصف الفيلسوف وارين ان حقائق الرياضيات ابدية صحيحة وستبقى صحيحة منذ الانفجار العظيم والى بليون سنة قادمة.

حقائق الرياضيات الخالصة هي حقائق مخترعة متفق على صحة وثبات رموزها المعادلاتية انها واقعية لازمنية مطلقة وفي حال انعدام الرؤية المستقبلية في امكانية التغيير المحال لها فهي تكون حقائق واقعية مطلقة ابدية تضارع القوانين الطبيعية في الخلود الثابت.التي بعضها يحكم الطبيعة وبعضها يحكم الطبيعة والكوني.

لذا ابدية الحقائق الرياضية تاتي من لازمنيتها من جهة اي هي مستقلة عن مؤثرات الزمن. ولا تطالها رغبات الانسان بالتغييرمن جهة اخرى. كل مدرك عقلي علمي يصبح حقيقة ابدية خالدة حين لا يكون هناك تاثير خارجي يداخله.لا من قوانين الطبيعة الخارجية ولا من الزمن ولا من رغائب واهواء الانسان.

اما ان تكون حقائق الرياضيات صحيحة حتى في عالم غير ماهول فهي فرضية لا يمكن الاعتداد الاخذ بها لان حقائق الرياضيات مخترعة وليست مكتشفة. وهي ايضا ليست قبلية على وجود الانسان.عالم غير ماهول بالانسان لا تجد فيه حقائق رياضية لامكتشفة ولا غير مكتشفة. ويتعذر على احد اختراعها من غير وجود انسان متحضر يفهما ويعرف استخدامها الضروري بالحياة..

عليه يمكننا القول ببساطة ان معيار صحة حقائق الرياضيات انها من اختراع انساني ولم تكن لهذه الحقائق قابلية الظهور التصنيعي لنفسها ذاتيا خارج الارادة الانسانية في اختراعها لاول مرة واكتسبت ثباتها المطلق بالانسان وحده على مر العصور. هذه الحقائق الرياضية مطلقة ابدية الثبات وخالدة نتيجة خبرة طويلة انسانية بالحياة.

لذا في حال افتراض ان حقائق الرياضيات بصيغتها التي يعرفها ويستخدمها الانسان كواقعة علمية تستخدم بالحياة. لا يمكن الفرض ان الحقائق الرياضية بصيغتها التداولية الثابتة موجودة باقية مستقلة بذاتها في عالم خال من الانسان ولا يوجد من يدركها ويعمل بها. خلود اية حقيقة طبيعية او علمية انما تكون قيمة ابديتها بوجود النوع الانسان المخترع او المكتشف لها. وفي غياب هذا النوع الانسان لا يمكن ان نجد اية حقائق رياضية في عالم غير مأهول. حقائق الرياضيات هي احد المنجزات العلمية التي تعتبر خاصيتها الاساسية انها من صنع الانسان ولاجله.

كما نجد الحشو الزائد بالمقال ان عالم الرياضيات وارين يطرح انه لو التقينا باناس من المريخ يقولون 1+1=3 سوف نعرف اننا سنفشل في التواصل معهم. هذه فرضية باطلة لعدم اثبات حقيقة وجود كائنات حضارية بالمريخ او غيره تتعامل بحقائق الرياضيات وتفهم معادلات الرموز الرياضية كما يفهمها ويستخدمها الانسان على كوكب الارض. ولا يوجد من يعرف صوابها او خطاها سوى الانسان المتحضر على الارض. ثم ماهو دليل ان سكان المريخ لو كانوا موجودين حقيقة يتعاملون مع مباديء الرياضيات عامة بما نحن نتعامل به ونستخدمه في علومنا والحياة. نحن سكان الارض فقط نقول واحد زائدا واحد يساوي ثلاثة انها خطأ. وغيرنا إن وجد فهو لا يعرف هذا الخطأ كونه غريبا عنه ولم يسبق له فهمه والتعامل به..

ايضا من الحشو الزائد في المقال قول فيلسوفنا( نحن نتوقع اكتشاف المزيد من الحقائق الرياضية.)

حقائق الرياضيات الخالصة كما سبق لنا قوله هي اختراع تجريدي رمزي واقعي متداخل او بالاحرى متكامل في التعبير من صنع الانسان. فالرقم واحد لا يعي ولا يفهم ذاتيا بدون الانسان انه سيكون باضافته الى واحد اخر من نوعه سيكونين اثنين. هذه الحقيقة يفهمها الانسان ويتعامل معها واثقا من صحتها لانه هو مخترعها وليس مكتشفها. كما لا توجد دلائل تؤكد ان مباديء علم الرياضيات والحقائق المتعالقة بها رياضيا هي قبلية موجودة قبل وجود الانسان وتنتظر من يكتشفها. الرياضيات علم مصنّع من قبل الانسان على الارض مثل باقي العلوم الاخرى التي يخترعها الانسان لخدمته.

حقائق الرياضيات ليست من ضمن قوانين الطبيعة المستقلة التي تعمل بمعزل عن الانسان فهذه ميزتها انها مكتشفة. اما حقائق الرياضيات فهي قوانين وضعية اخترعها الانسان من اجل فهم حياته. وملازمة الانسان لها يعطيها اهميتها. وبغير وجود ملازمة الانسان لها واستخدامها بما ينفعه فلا قيمة لها لا بل غير موجودة.

ومن اقوال عالم الرياضيات الزائدة قوله (كي لا نبني اوهاما ميتافيزيقية حول الرياضيات فان قواعد استعمال اللغة الرياضية تكفي). ليس من المتاح لاحد خلق اوهام ميتافيزيقية حول الرياضيات التي هي حقائق ثابتة خالدة. حقائق الرياضيات ثابتة مطلقة سواء على الارض او بالكوني. وفعلا كما قال الفيلسوف قواعد استعمال اللغة الرياضية تكفي لوضع حد تفسيري او تهميش ميتافيزيقي في تناول حقائق رياضية اثبتها العلم بالتجربة القطعية ولا مجال التداخل غير العلمي معها.

في منطق العلم لا يمكن التحدث عن حقائق الرياضيات العلمية الا بلغة علمية تطاوعها. عليه يصبح من الصعوبة ان نوجد فروقا فلسفية او رياضية بين لغة الرياضيات وبين حقائق الرياضيات. كل حقائق العلوم الفيزيائية والرياضية والكيميائية لا يمكن الحديث عنها بغير لغة علمية تجانسها والا اصبح ما نتكلم عنها بغير لغة تجانسها لغوا فارغا لا قيمة له. تاكيد ذلك ماورد بالمقال على لسان وارين (عمل رياضيات شيئ وفهم طبيعة الرياضيات شيء اخر، فالمهمة الاولى رياضية والثانية فلسفية).

يثير فيلسوفنا قوله ( لغة الرياضيات مستقلة وهي لغة احتمالية ) ويضيف (ان ما هو صحيح رياضيا يمكننا تعميمه وتطبيقه على كل شيء).

عرفنا سابقا ان حقائق الرياضيات هي حقائق مستقلة عن الزمن وعن مؤثرات القوانين الطبيعية الاخرى وكذلك هي مستقلة عن اهواء ورغبات الانسان. اما ان تكون لغة الرياضيات مستقلة بنفس معيارية استقلال حقائق الرياضيات فهي لا.

- لا يمكن استقلال لغة الرياضيات عن حقائق الرياضيات والا اصبحت اللغة الرياضية هامشا لا معنى له.

- هل لغة الرياضيات مستقلة عن الانسان والزمن كمثل حقائق الرياضيات الجواب لا ايضا. كون بمستطاع الانسان المتخصص الحديث بلغة الرياضيات في اي وقت يشاء وتكون لغته الرياضية مستقلة بحكم طبيعتها العلمية.

مايجمع استقلالية حقائق الرياضيات مع استقلالية اللغة عنها هو ان كليهما ضرب من النشاط العلمي ولا تسمى لغة الحديث عن الرياضيات لغة مستقلة الا لانها تتكلم لغة العلم.

لماذا وصف الفيلسوف وارين لغة الرياضيات بالاحتمالية؟ هل هي احتمالية بالنسبة لثبات حقائق الرياضيات؟ هل الاحتمالية صفة ملازمة في تعدد القراءات لحقائق الرياضيات ومحاولة الاجتهاد المنطقي فيها؟ هل الاحتمالية ترد بمعنى هورمنطيقي تاويلي؟

يقودنا عالم الرياضيات وارين الى التباس اعمق حين يقول (الحجج التي تساوي بين خلق المفاهيم الرياضية وبين خلق الحقائق الرياضية هي خاطئة. لغتنا الرياضية وممارساتنا ومفاهيمنا خلقت لكن الحقائق الرياضية ليست كذلك، الفهم الصحيح للرياضيات يتطلب تجنب هذا الالتباس).

بضوء العبارة السابقة:

الحجج التي تساوي بين خلق المفاهيم الرياضية مع خلق الحقائق الرياضية غيرخاطئة وهي صحيحة من حيث كلاهما مخلوقتان من قبل الانسان لكن يبقى الفرق بين الخلقين ان حقائق الرياضيات هي خلق علمي ثابت ومطلق اما نتائج خلق المفاهيم عنها فهي فلسفة قابلة للتغيير.. وهو ما يقر بصحة هذا الاختلاف وارين يعتبر خلق المفاهيم الرياضية (فلسفة) اجتهادية مصنعة. ويعتبر حقائق الرياضيات غير مخلوقة وموجودة قبل اكتشاف الانسان لها.

نعيد ماسبق لنا ذكره انه لا توجد حقائق رياضية لم يخترعها الانسان وغير مكتشفة وهي قبلية الوجود عن الانسان لا على كوكب الارض ولا في مكان غيره..

***

علي محمد اليوسف /الموصل

تألفت جماعة من الكتاب والمترجمين والمثقفين في إيران حول أحمد فرديد في فترة مبكرة، تضم: داريوش آشوري، أمير حسين جهانبگلو، أبو الحسن جليلي، شاهرخ مسكوب، داريوش شايغان، رضا داوري، جلال آل أحمد، نجف دريابندري، إحسان نراقي، داريوش مهرجويي، وغيرهم. أُطلق على هذه الجماعة حلقة أو محفل الـ "فرديدية". تداولت هذه الحلقة نقاشات متنوعة في تاريخ الفلسفة، والفلسفة الحديثة في الغرب والشرق، وطرح فيها فرديد آراءه الخلافية، ومقولاته المركبة، ومفهوماته الغريبة الملتبسة، ومصطلحاته المبهمة، مثل: "الحكمة الأنسية، حوالة الوجود، علم الأسماء التاريخي، الأسماء المستورة والاسم الغالب، مراحل التاريخ وتجلّي الأسماء، تجلّي أسماء الله في التاريخ، النسخ- الفسخ- المسخ، المواقف والمواقيت التاريخية، الحقيقة والطريقة والشريعة في مراحل التاريخ، الودائع أو الأمانات والمآثر التاريخية، وباء الغرب أو الإصابة بالغرب، النفس الأمارة، النسناس ... وغيرها" . معظم أعضاء الحلقة الفرديدية انفضوا في مرحلة لاحقة من حول فرديد، ولا نعرف من هؤلاء سوى رضا داوري الذي لبث حتى اليوم غارقًا في مدارات فكر فرديد. وتبنى فيما بعد بعضُهم آراءً ناقدة بشدة لفكر فرديد، ومواقف مناهضة له، بنحو اعتبروا تأثيره بمثابة السُّم للحياة الفكرية في إيران.

قرأ فرديد الترجمات الفرنسية لهايدغر، التي أنجزها تلميذ هايدغر "هنري كوربن". وهي ترجمات تتجلى فيها بصمة فهم كوربن، وتكوينه، وأفق انتظاره، وتخصصه بالفلسفة والعرفان والميراث الروحي الإيراني، واستغراقه في فهمه بتفسير غنوصي يجرد النصوص من معانيها الظاهرة المباشرة. تأثير كوربن وتفسيراته الغارقة في باطنيتها وتجاهلها للعقل أشد أثرًا في الفكر الديني الإيراني تلك الأيام، من فهم فرديد وتشويش مقولاته ومصطلحاته واضطرابها. يُشّبه كوربن منهج هايدغر بالأداة المفتاحية، التي اعتمدها في حلّ مغالق الميتافيزيقا الإيرانية ـــــ الإسلامية[i]. ويمكن ملاحظة أثر تطبيق هرمنيوطيقا هايدغر ومنهجه في آثار كوربن ومقدماته على بعض كتب التراث الفلسفي والعرفاني، كما في مقدمته على رسالة "المشاعر" لملا صدرا الشيرازي.

تواصل فرديد مع كوربن في وقت مبكر من حياته، وترجم له من الفرنسية إلى الفارسية سنة 1325/1946 الفصلين الأول والثاني من رسالة تتناول "الحكمة الإشراقية والفلسفة الإيرانية القديمة".  تشكّل فكر فرديد في أفق رؤية هايدغر، التي استقاها عبر ترجمات هنري كوربن وآثاره، وتحدد فهمه لهايدغر تبعًا لكوربن، فأنجز فرديد تفسيرًا لهايدغر في فضاء الحكمة والعرفان الإيراني – الإسلامي، كما حاول أن يوظف هرمنيوطيقا هايدغر ومنهجه في صياغة ما يسميه "الحكمة الإنسية"[ii].  يصرح فرديد في مناسبات متعددة على "وحدة خطابه مع هايدغر"، واستناده الى منهجه و"منطقه الهرمنيوطيقي" في تفكيره[iii].

بعد انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية حرص فرديد على ابتكار تفسير ثوري إسلامي لهايدغر، يطابق أفكاره مع الجمهورية الإسلامية، كما أفصح عن ذلك بقوله: "فسّرت هايدغر بالإسلام. إنه المفكر الوحيد الذي ينسجم مع الجمهورية الإسلامية[iv]. "يتحد قولي مع هايدغر، حيال ظهور النهضة، لا تناقض مع تفكير هايدغر، وتلك هي الثورة الإسلامية. تفكير هايدغر قريب جدًّا للثورة الإسلامية"[v].

لفرط تبجيل فرديد لهايدغر منحه مرتبة ملكوتية لا ينالها سوى العرفاء، وهي "قرب الفرائض". فقال: "إن هايدغر في مرتبة الوعي الذاتي وصل من قرب النوافل إلى قرب الفرائض". وقرب الفرائض مرتبة يشهد فيها العرفاء "الخلق مرآة للحق. الحق فيها ظاهر، والخلق غائب مختفٍ". وهي أسمى من مرتبة "قرب النوافل"، التي نرى فيها "الخلق في الحق. الحق مرآة والخلق صورة منعكسة فيها". ويعتقد فرديد أنه هناك "هايدغر سابق، وآخر لاحق. هايدغر قرب النوافل، وهايدغر قرب الفرائض إلى الحق"[vi]. غير أن موقف فرديد تغير من كوربن أخيرًا، فعبر عنه بأنه "لا يعلم شيئًا من ألفباء الحكمة... وأنه يهودي ماسوني، عمل على تخريب التشيّع بتوجيه يهودي ماسوني"[vii].

حاول فرديد أن يقدم تأويلًا لمفهوم ابن عربي للأسماء الإلهية، ينتزعها من مجالها الأنطولوجي الميتافيزيقي، وعوالمها المجردة، ويقحمها في مجال التاريخ البشري. والذين خبروا عرفان محيي الدين بن عربي لا يجدون أية مناسبة لقبول مثل هذا التأويل، بل يرون ذلك نموذجًا للخلط بين مقولات متضادة. وقع الفكر الديني في إيران أسيرًا للنزعة الغنوصية الباطنية لهنري كوربن وفكره الميتافيزيقي، الذي ينسى العقل، ولا يحاول أن يوظف شيئًا من مكاسب فلسفة الأنوار والعقلانية النقدية. تتمحور أعمالُ كوربن حول عوالم الميتافيزيقا، وحتى لو تحدث عن الإنسان فهو يتحدث عن إنسان عالم الغيب وليس إنسان عالم الشهادة الذي يعيش في الأرض، كوربن كان مولعًا بشيخ الإشراق السهروري، وبغنوص وباطنية التشيع الإسماعيلي، وانعكس ذلك في تأويلات كوربن وفهمه لهيدغر والعرفان الإسلامي. لم يكن فكر فرديد وحلقته الفكرية الأسبوعية إلا ولادة جديدة لفكر كوربن، بلغة ومصطلحات إضافية أشد التباسًا وغموضًا وتهافتًا.

جماعةٌ من المثقفين الإيرانيين في تلك الأيام ينظرون لهيدغرية كوربن، المهجّنة بالعرفانِ والنزعاتِ الغنوصية الشرقية، بكثيرٍ من التبجيل والامتنان، بنحوٍ تحولت إلى أحد منابع إلهام الفكر الفلسفي والديني. وإذا كان داريوش شايغان تنبّه لأثرِ فكر أحمد فرديد المُنهِك للوعي، لكنه لم يتنبّه إلى أن أثرَ فكر كوربن على العقل الايراني أعمقُ وأشد من أثر فرديد. كوربن كان ومازال مبجّلًا لدى كثير من الإيرانيين في الحوزة والجامعة، أسهم حوارُه الذي تواصل لسنواتٍ مع العلامة محمد حسين الطباطبائي بترويجِ فكره، والحذر من مراجعته وتمحيصه. الطباطبائي ذو تأثيرٍ هائل في إيران، بوصفه أغزرَ منبعٍ لإلهام الفكر الفلسفي والديني منذ منتصف القرن الماضي، اقترانُ اسم كوربن بالطباطبائي عمل على إضفاءِ المشروعية على فكره واحتضانِه وتسويقه وتكريسه. لم أقرأ نقدًا، في ضوء العقلانية النقدية، يُخضِع فكرَ كوربن الغنوصي للتفكيك والغربلة من جيل شايغان. لفرط تأثرهم بكوربن رسّخ مثقفو "الحلقة الفرديدية" منهجَه وطريقةَ تفكيره، ومازالت بصمةُ فكره ماثلةً حتى اليوم، يتوارثها جيلٌ عن جيل. على الرغم من جرأة شايغان النقدية في المرحلتين اللاحقتين من حياته، غير أنه لبث مسحورًا بكوربن ولم يخرج من جلبابه كليًّا. ما يثير دهشتي في فكر شايغان هذا اللبس الذي يصل حد التناقض بين: موقفه المعلن في المرحلة الثانية والثالثة من حياته الفكرية، بضرورة تبني العقلانية النقدية، وتوظيف مكاسب الأنوار في الفلسفة والمعارف الغربية، وإلحاحه المتواصل على تبنيها، وضرورة الرحيل عن الماضي والتحرر من العيش في كهوفه المظلمة، وبين: حنين شايغان لفكر كوربن وعجزه عن التحرر التام منه. شايغان يعرف جيدًا غموض فكره وباطنيته وبعض آرائه الغرائبية، حتى تكاد في شيء منها تقترب من الشعوذة، ويعرف مناهضة تفكير كوربن للعقل ومنطق فلسفة الأنور.

هذا الفكر مسكون باستيعاب مكونات وعناصر عرفانية ولاهوتية وفلسفية تنتسب إلى رؤى متنوعة، لا تتطابق ملامح رؤيتها للعالم، بل قد تبدو أحيانًا متضادة، بوصفها تنتمي إلى سياقات أنطولوجية متنوعة. ولا تخلو من عمليات تركيب ودمج أحيانًا غريبة، يتوحد فيها شيء من عرفان محيي الدين بن عربي مع ميراث فلاسفة الاسلام المشائين والإشراقيين، وفلاسفة الغرب مثل هيدغر أحيانًا. لعل من أوضح نماذجها تفكير أحمد فرديد، وما بثه عبر جماعة من المثقفين رواد "الحلقة الفرديدية" من خلط وتركيب بين فلسفة هيدغر والعرفان بشكل يثير الدهشة أحيانًا.

***

د. عبد الجبار الرفاعي

..........................

[i] بستاني، أحمد. "هايدكر، كربن، فرديد" . مهرنامه ع3"1389=2000".

[ii] المصدر السابق.

[iii] فرديد، أحمد. مصدر سابق. ص255، 309.

[iv] المصدر السابق. ص11.

[v] ديباج، سيد موسى . آراء وعقايد سيد أحمد فرديد. طهران: 1383=2004، ص457.

[vi] المصدر السابق. ص453-461. "مصاحبه علي رضا ميبدي با أحمد فرديد". روزناه رستاخيز "20 مهر ماه، و11آبانماه 1355=1976".

[vii] بستاني، أحمد. مصدر سابق.

سبق للمفكر التونسي الكبير أن اختار العبارة الرشيقة؛ المشتقة من "الجرح"، عنوانا لكتابه: "الكوجيطو المجروح"، مكثفا فيها معاناة "الفلسفة" في ثقافتنا، وهي المعاناة التي تتجلى في أن الكوجيطو، الذي هو فلسفة الذات قام في البيئة التي نشأ فيها، كالفلاح يمهد الأرض، ويزرع وينبت ويحصد، لكن لما وصل إلينا، وحاولت لغتنا أن تتكلمه، سرعان ما أدميت قدماه، فسقط طريحا جريحا؛ حيث أخذ جرحه ينزف إلى اليوم. (الكوجيطو المجروح: 13)

حصل هذا، بعد المحاولات التي عرفها منتصف القرن الماضي، باتجاه خوض تجربة الاستعمال العمومي للعقل، للمرة الثانية في ثقافتنا، بعد تجربة عصر التدوين في الماضي، واستئناف القول الفلسفي للمرة الثانية أيضا في تاريخ هذه الثقافة. بعدما بلغ بعض منتسبي الفلسفة ومتعلميها، ثم مدرسيها تاليا، مرحلة تدشين فعل "الاستئناف" ، سرعان ما انعطفوا نحو المهمة السهلة، كما يرى المسكيني، وهي مهمة "قراءة التراث"، وهو الفعل- الحدث الذي أجل، من جديد، تعاطي المهمة الصعبة، التي بدونها لا يحيا الإنسان الحياة التي هي أهل له، وهي ممارسة مهنة الفكر والتفكير. يقول المسكيني عن مشكل اللافلسفة عندنا: "إن أقرب تشخيص لذلك هو أن مرضا عضالا قد ألم بنا، ألا وهو مرض قراءة التراث وتأويله: لقد أصبحت الفلسفة عندنا، بسبب ذلك، حيوانا تراثيا هجينا". (فلسفة النوابت: 29)

انحاز منتسبو "الفكر"، ومتعاطو الفلسفة منهم خاصة، إلى ممارسة مهنة "المثقف" في أفضل الحالات، وعطلوا مهمة التفكير وإنتاج الفكر، الذي هو أس الفلسفة والتفلسف، ولهذا استقطبت قراءة التراث اهتمامات هؤلاء، وهيمنت "مشاريع" قراءته وملأت ساحتنا الثقافية، وبقيت مساحة الفكر والفلسفة فارغة ضمن جغرافيا هذه الثقافة.

وسبق للمسكيني أن قارب وضع الفلسفة والتفلسف، بعنوان آخر، اقتبس عبارته التي لا تقل رشاقة من العبارة السالفة، من كتاب: "تدبير المتوحد" لابن باجة، وهي عبارة: "النابتة" فسمى كتابه المشار إليه: "فلسفة النوابت"، لخص صاحب "تدبير المتوحد" وضع الفلسفة والفيلسوف في ماضي ثقافتنا، في وضع "النبتة" الغريبة وسط نبات كثير وكثيف، تدل كثرته وكثافته على أنه نبات "طبيعي" ومطلوب ومرغوب فيه، عكس الفلسفة - "النبتة" والفيلسوف - "النابتة"، وأكد صاحب "فلسفة النوابت" استمرار هذا الوضع غير الطبيعي للفلسفة والفيلسوف في حاضر هذه الثقافة.

لكنها تعيش ذات الوضع، وربما هذا هو الفرق، على يد المنتسبين إليها؛ هذه هي الخلفية التي تؤطر عنوان هذه المقالة، والذي هو "حدس" انقدح في ذهني، وأنا أقرأ مؤلفات طه عبد الرحمن، إذ ينتقد الفلسفة ويقر أنها منقولة إلى الثقافة، ثم يدعي امتلاك هذه الثقافة "فلسفة" خاصة، وبعده يدعي أنه يؤسس "علما" يفوق ويتفوق على الفلسفة يسميه "فقها" يتخذ الفلسفة موضوعا للدراسة، هدفه كشف "أسباب" التفلسف "الخفية" على الفلاسفة أنفسهم؛ ثم يعود في مؤلفاته الأخيرة ليعلن أنه يؤسس "فلسفة" مقابلة و"بديلة" عن الفلسفة السائدة سماها "ائتمانية".

يبدو أن معاناة الفلسفة على مستوى "التسمية" مع طه، تعكس "الجرح" الذي عانت ولا زالت تعاني منه، والسؤال الذي يفرض نفسه على عمل الرجل هذا هو: لماذا تتسول "الائتمانية" اسم "فلسفة"، وهي تدعي أنها أعلى من الفلسفة؟ لماذا لا تكتفي بالاسم أو الاسمين الذين اختارتهما لنفسها وهما "الفقه" ثم "الائتمانية"؟ ألا يدل تسول التسمية على فقر تحتاج إلى ملئه باستعارة الاسم الأصل؟

يزداد "جرح" الفلسفة اليوم مع طه، غورا، إذ الائتمانية الطهوية، تحمل مشروعا واحدا ووحيدا، هو إخراجنا نحن المنتمين إلى الثقافة العربية الإسلامية من فلسفة عصرها، إلى "التدين" على الصيغة "الصوفية الطرقية"؛ فهو يقول بالعبارة الصريحة: "الميثاق الائتماني بدلا من العقد الاجتماعي"؛ (دين الحياء 1: 13) فهو مشروع هدفه إخراجنا من "عصرنا الروحي"، والعودة بنا عصر روحي ليس لنا ولا ينبغي له أن يكون لنا: "تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون". (البقرة: 134). يعمل طه على إخراجنا من ثقافة الاستدلال (العقل)، والاستقلال (الحرية)، والتجاوز (البحث الدائم عن الأفضل الممكن)، إلى ثقافة التسليم والاستسلام، والوصاية والخضوع والتبعية والجمود. (دين الحياء 1: 248)

هرب طه، كغيره من المثقفين، من ممارسة إنتاج الفكر بما يقتضيه من مواجهة مباشرة مع الواقع والكون والطبيعة والحياة، أو لنقل "مواجهة مستمرة للافلسفة واللافكر الذين يلاحقان كل مسار عقلي"، إذ هي شرط الإنتاج والإبداع، ونرى أن هذا الهروب هو المظهر الأول للجرح الذي أصاب الفلسفة، غير أنها تعرضت لجرح أكثر غورا من خلال دعوى تعمل على إخضاعها لـ"علم" يفوقها ويعلو عليها قيمة، سماه صاحبه في البداية "فقها"، ثم "ائتمانية".

يدعي طه أنه يشتغل على بناء "علم" يتخذ الفلسفة موضوعا له، وحتى نتبين حقيقة هذا "العلم" أو "الفقه"، نعمل على أن نتعرف على آلياته وأدواته في الكشف عن "أسرار" التفلسف و"أسبابه"، وهي التي يعرضها طه تحت عنوان تراثي هو "التقريب" كما ورد عند ابن حزم في كتابه: "التقريب لحد المنطق"، وعنوان "التأصيل"، إذ "التقريب" و"التأصيل" يشتركان في كونهما يتعاملان مع منجز الغير بطريقة تعبر عنها آلياتهما في التعامل؛ فماذا يعني "التأصيل" الذي يسميه طه "تداوليا"؟ وهل نتائجه ترتقي إلى انجاز يستحق وصف الإبداع الذي يدعيه؟

ينظر طه، في رأينا، للقدرة، ليس على الإبداع، وإنما للقدرة على "التصرف" في المنجز الفلسفي للغير، أي للقدرة على "إخضاع" ما أبدعه الغير من فلسفة وفكر، مستهلكا ذات الآليات التي وظفها أسلافه الفقهاء: ابن حزم والغزالي وابن تيمية كما عرض عملهم في هذا الإطار في كتاب: "تجديد المنهج في تقويم التراث".

فبعدما أشبع خطابه كلاما بالتنظير للإبداع الفلسفي، وتقنيات إنتاج القول الفلسفي، انزاح نحو المهمة السهلة كما سبقت الإشارة إليه، فإذا بـ "تقنيات" الابداع، أضحت "تقنيات" لـ "التصرف" في منجز الآخر؛ فهل يصدق "التصرف" في منجز الآخر، بالتغيير والتحويل والتحوير [...] على معنى الإبداع؟

مهد طه عبد الرحمن لسياسة "الإخضاع" هذه، بالتمييز بين سؤالين: سؤال في الفلسفة؟ (ما الفلسفة؟)، وسؤال عن الفلسفة؟، وبعدما أكد أن السؤال الأول يحمل معنيي: الطلب والتداعي، خلص إلى أنه سؤال يجمع بين السؤال والجواب، ثم بين العلم والجهل، أي إقرار بالعجز عن بيان ماهية الفلسفة، وحينئذ: "لا يجوز له وصفها لا بالسؤال ولا بغيره".

وبنى على هذه الخلاصة، ضرورة الانتقال عن هذا السؤال، إلى السؤال عن الفلسفة؛ وهو سؤال، ليس عن ماهيتها، بل هو سؤال خارج عنها أو مفارق لها. (فقه الفلسفة 1: 12-13) فهو يعلو عليها درجة، مثلهما: "كمثل اللغة ولغة اللغة"، إنه سؤال "علمي" وليس فلسفيا؛ يدرس: "الفلسفة بوصفها جملة من الظواهر التي لها خصائصها وقوانينها الذاتية" (نفسه: 14) تتحول الفلسفة معه إلى "موضوع" لـ"علم": "ينزل رتبة فوقها ويتسع لما لا تتسع له". (نفسه:19)

ويدرك "فقيه الفلسفة" من الفلسفة، ما لا يدركه الفيلسوف المنتج لها لأنه: "يشرف على دائرتها من أعلى، في حين يلج الفيلسوف بابها من أسفل"، ولهذا يتهمه طه بـ "العمى الفلسفي": "فالعمى الفلسفي عندنا هو عبارة عن الجهل بالأسباب الموضوعية للممارسة الفلسفية، خطابا وسلوكا"، إذ: "يكتفي بالوقوف على المضامين الفلسفية، تصورات وأحكاما"، (نفسه: 20) في حين يشتغل "فقيه الفلسفة" على الأسرار والأسباب الخفية الفلسفية، ولهذا: "اجتمع له من أشرف ما يجعله يعلو على رتبة الفلسفة [...] فيكون فقه الفلسفة أشرف العلوم العقلية قاطبة"؛ (نفسه: 31) وما دام أنه لا علم ولا فكر يعلو عند طه على غيره إلا التصوف الطرقي و"عقله المؤيد"، كما حسم في كتبه الكثيرة، فإن "العلم" المقصود هنا هو "التصوف الطرقي".

لا نقف عند ملاحظة استعصاء تحديد اسم "فقه"، الذي اختاره عنوانا لهذا "العلم" الذي يتفوق على الفلسفة، عندما عمل على إبراز ما يميزه عن مفاهيم: "علم"، و"فهم"، و"معرفة"، فهو يتفوق عليها جميعا، لكنه في النهاية قرر أنه: "لا يفيد إلا معنى المعرفة العلمية الفلسفية"، (نفسه: 37) وأن من خصائصه: "أنه علمي لا فلسفي". (نفسه: 38)

انزاح بعد ذلك كله إلى الكلام عن الترجمة، (53) وفيه يتجلى "فقهه" الفلسفي، حيث عمل على إخضاع المنجز الفلسفي، وأول ما بدأ به حديثه عن الترجمة، هو إقرار الأصل الديني للترجمة، انطلاقا من قصة "برج بابل" الأسطورية، وترجمة الإنجيل؛ فهذا الأثر الديني هيمن: "على عقول المترجمين ونقولهم، سواء وعوا بذلك أو لم يعوا". (65)

وقرر بشكل صريح أنه يجوز "التصرف" في دلالات النص المترجم، دون التصرف في قواعد اللغة المنقول إليها، (77) لأنها "تأويل": "لابد أن تضعف فيه أسباب الموضوعية، إن لم تصر إلى الزوال". (82) يعترف الأستاذ طه بأن الثقافة العربية الإسلامية لم تعرف الفلسفة إلا بفضل الترجمة، (83) وبعده يوحي بوجد فلسفة في: "الحِكَم الموروثة عن العرب"، وفي المعارف الدينية كما سيأتي، (84) ويؤكد الاعتراف بالقول بأن المتفلسف العربي: "لا يؤلف إلا ناقلا"، ولهذا تتداخل عنده الترجمة مع التأليف في صورتين: صورة تداخل متصل؛ يغير فيها المترجم العبارة المنقولة حتى: "تبدو وكأنها عبارة صادرة" من التداول الإسلامي: "وليست واردة عليه"، وصورة تداخل منفصل.

تعكس الصورة الأولى سياسة الإخضاع التي يسميها "فقه الفلسفة"، أو "التأصيل"؛ فالتداخل المتصل: "يدمج المنقول الفلسفي في الممارسة الفكرية الإسلامية العربية"، فهو، إذن، "يدمج" وليس يبدع. (99) ويتحدد هذا التداخل بـ : "إمكان التصرف في النص الفلسفي إلى الحد الذي يخرجه عن أوصافه الأصلية، وينشئ منه نصا قادرا [...] كنص مستقل بنفسه"، (100) والهدف هو إخضاع المنقول والسطو عليه، وعرضه في صورة "فلسفة خاصة"؛ عربية إسلامية؛ وهي أفق "الإبداع" الذي وعد به طه، والدليل قوله عن التداخل المتصل الذي يتخذ صورتين: "إحداهما متصلة تخضع المنقول لمقتضيات المجال التداولي المنقول إليه،، والثانية منفصلة تلزم هذا المجال بالمقتضيات التداولية للمنقول". (102)

ينتقد طه العقل الذي يسميه "مجردا"، ويتهمه بالقصور والعجز، ممهدا الطريق للقول بـ "عقل" أرقى من العقل الناقد الذي يتعين الخروج منه إلى طور إدراكي آخر: "يعلوه فيما لا يصل إليه العقل أو لا يقدر عليه"، (180) ويعتبر هذا الخروج "تأسيسا" لـ"العقل" البديل. (181)

ما ينبغي الانتباه إليه أن هذا "العقل" الذي ينبغي أن يخضع له العقل الناقد - المشترك، هو عقل بشري عند التحقيق، إذ لا يتجسد في واقع الحياة إلا في "شخص"، يتمتع في نظر طه، استهلاكا للمقولات الصوفية، بمواصفات استثنائية، تعددت تسمياته عنده منها: "المخلق"، و"المربي"، و"المزكي"، و"فقيه الفلسفة"، ويدعي أن عدم تقييد العقل: "مدعاة إلى تسيبه"، أي: "الخوض في كل شيء بأي طريق شاء". (183)

والسؤال الذي يواجه دعوى التقييد - الإخضاع، هو كيف يتسيب العقل، مع الإقرار في الوقت ذاته، أن هذا العقل قادر على: "تأسيس ما كان ينبغي أن يكون مؤسسا" له هو؟ ويقصد هنا "العمل الأخلاقي"، و"العقيدة الدينية"، اللذان استطاع العقل تأسيسهما، وإدماجهما في بنية منظومته الفكرية: الدين في حدود مجرد العقل (كانط، والنظريات الأخلاقية: 184)

يرفض طه هذا الدور التأسيسي للعقل، لأنه بدونه لا يستقيم له القول بضرورة الحاجة إلى "الخارج"، لتأسيس "الأخلاق" و "الدين"، ويبدو أن طه تجاوز النقاش، حيث يجب، حول هذا الاقتدار العقلي، إذ اكتفى بالاتهام والادعاء، وهو اقتدار نابع من طبيعته التي هي له، والتي جاءت العلوم المعرفية لتؤكدها، (دين الإنسان: 390) بل إن الشق الأساسي لـ "نظريته الائتمانية" تدعم هذه الطبيعة المقتضية لـ "الإيمان" و"الأخلاق" لدى الإنسان، والمتمثل في ميثاقي "الإشهاد" و"الاستئمان" منها.

وفي إطار هذا الاشتغال غير المنضبط بمقتضيات المنهج العلمي في التحليل والنقاش، والذي لا يجد بديلا عنه إلا الادعاء، يأتي قوله إن المعاني والحقائق التي وضعها الفلاسفة: "إنما تلقفوها تلقفا من مصادر نقلية، نحو الأخبار الأسطورية والعبادات الوثنية، أو، في مقابل ذلك، الشرائع المنزلة"، (184) ونلاحظ هنا أنه يقبل كل مصدر، أيا كان، باستثناء العقل فهو: "لا يقبل التأسيس العقلي حتى نتفادى العقلنة". (184) ألا يعتبر هذا القرار اعترافا منه بأن "الطور الإدراكي" الذي يعمل على "تأسيسه"، بديلا عن العقل، غير عقلاني؟ فلماذا تسميته بـ "العقل المؤيد" مع تسول الاسم؟

تطور هذا الموقف من العقل والفلسفة، وامتد إلى المنطق، إذ شكك طه من صفة "اليقين" التي ينبغي أن تتصف بها مقدمات البرهان كما اشترط المناطقة بقوله: "إن اليقين المنسوب إليها لا يمكن أن يكون إلا يقينا تحكميا، وليس يقينا معللا"، وقد تكون نتائجه في أفضل الأحوال تتمتع بيقين محدود: "حتى إنه لا فارق بينه وبين الاعتقاد المظنون"، ولا يختلف: "عن تعلق الرأي المشهور بأهله  وسياقه"، بل: "لا يقل عن اعتبارية ما يكتفى فيه بالتخمين". (192)

لا يجد طه مانعا من التضحية بهذا المنجز الحضاري، بوصفه "لغة صناعية"، فرضتها شروط الارتقاء والتحضر؛ فالمنطق: "لا يحصل إلا يقينا اصطناعيا مضيقا، ولكي يحصل هذا التدليل على يقين طبيعي موسع، فلابد له من صرف هذا التصنع من المقدمات والقواعد". (192) ماذا يعني إذن صرف جانب الصناعة عن المنطق والعودة إلى "المنطق الطبيعي"؟ أليس عودة إلى مرحلة الطبيعة من حياة الإنسان؟ وفي الجواب ينبغي استحضار الأسباب التي فرضت دعم لغة التعبير والتبليع الطبيعية، باختراع "لغة صناعية" تجسدت في المنطق.

يضع طه، عملا بمنهجه القائم على المقابلة بالضد، المنطق الطبيعي في مقابل المنطق الصناعي، ويقيمه على أصلين: "يناقضان مقتضيات العقل البرهاني التقليدي وهما المضمون والاستعمال"، حيث "المضمون" هو مقابل "الصورة" التي تتوقف عليها صحة أو فساد البرهان، واعتبر الأقيسة التي ميزها أرسطو، وهي: الظن والمشهور والتمثيلي بأنها: "صحيحة كل الصحة، إذ يكفي استخراج العناصر الصورية لهذه الأقيسة لكي تبرز صحتها للعيان". (193)

بمعنى أن "اليقين الطبيعي" (الأمي بتوصيف الشاطبي)، ينتج من الظن والشهرة والتمثيل، فالمعول عليه في القياس هو المضمون فـ: "متى كان هذا الصدق من أحق الحقائق"، ولو فسدت صورته الاستدلالية: "كأنما قوة هذا الصدق تشفع لهذا الدليل، فتمحو عنه اعتلال صورته"، (195) بل أكثر من هذا: "إذا صدقت النتيجة قبل الدليل ولو كذبت المقدمات، وإن كذبت رد الدليل ولو صدقت المقدمات"، ويقبل: "الدليل الفاسد صورة متى طابقت نتيجته الحقيقة". (196)

قد يستغرب الباحث العارف بأن "العلم الحديث" هو،كله، نتاج "المنطق الصناعي"، موقف طه المحسوب على الفلسفة وعلم المنطق، إذ يفيد أن "الصناعة المنطقية" عديمة الجدوى، لكن استغرابه قد يزول إذا علم بأمرين؛ أولهما أن طه يمهد بهذا الموقف، للقول بإمكان ثبوت "الصدق" بوسائل غير عقلية ولا منطقية، هي المقصودة بقوله بوجود "طور إدراكي" أرقى من الإدراك العقلي المشترك بين الناس، وهي شرط "مشروعية" "الائتمانية" الطهوية كلها.

ثانيهما رأيه الذي يفصح عنه قوله: "إن النمط المعرفي الحديث غير مناسب، إن لم يكن غير صالح للتوسل به في بناء معرفة إسلامية حقيقية"، (سؤال الأخلاق: 111) وقوله: "لست أرى رأي من يقول بأن مآال التجديد الإسلامي رهين بإنشاء المؤسسات الصناعية والمراكز التقنية ووضع البرامج التحديثية وتجنيد الطاقات المادية" "(نفسه: 195) وقوله عن التطبيق التقني للعلم، وعن البحث العلمي: "ليس كل تطبيق نافعا ولا كل بحث مشروعا". (روح الحداثة: 98)

بل إن مجرد "القبول" كاف في ثبوت "الصحة" يقول: "وقد يكون القبول المباشر الذي يتلقى به المخاطب الدليل كافيا لتصحيحه، ولا حاجة إلى الرجوع في ذلك إلى قانون المنطق الصناعي، لأن القبول المباشر هو بالذات الصحة على مقتضى قانون الاستدلال الطبيعي"، (فقه الفلسفة 1: 197) فهو يفصل الاستدلال على مقاس "الفكر الأمي"، الذي سبقه إليه الشاطبي، إذ فصل "التدين" على مقاسه.

ويتأكد البعد الأمي الذي هو أفق خطابه في عنصر "الاستعمال" الذي يقابل به "المادة" من المنطق، إذ هدفه هو تكريس سلطة "الرجال". يقول: "مما لا ريب فيه أن الفلسفة الحية ليست ثمرة عقل مجرد، وإنما هي ثمرة عقلاء أحياء في نفوسنا، فيهم وبهم كنه العقل، ولولا تعلقنا بهؤلاء العقلاء، وتأملنا في سيرهم ما تعلقنا بالعقل". (200).

وليتأكد أن طه يعمل على إخضاع الفلسفة، وليس إنشاء "فلسفة"، عاد إلى كل من الشاطبي وابن تيمية من علماء الدين، في "التأصيل" لموقفه من العقل؛ فكلاهما قسما "الدليل" قسمين؛ ينقسم حسب الأول إلى دليل متبوع وهو "النقل"، ودليل تابع وهو "العقل"، يتقدم الأول: "على جميع وسائل المعرفة، بل يسد مسدها"، وسلطته غير محدودة، بخلاف الثاني لا يتقدم ومؤسس على الأول ومحدود.

ويميز الثاني بين "دليل بدعي": "يدعي التقدم على الشرع والاستغناء عن الاستناد إليه"، ودليل شرعي: "يأخذ بما أثبته الشرع وأذن فيه، باعتباره جامعا للعقل والسمع معا"، (215) ومن مفارقاته في هذا السياق، اعترافه بأن الفلسفة تختص بأصلين: "التدليل والتعليل"، وتختص الشريعة في المقابل بـ: "الإيمان والعمل"، مما يجعل "التوفيق" الذي اشتغل عليه الكثيرون مخالفا لـ: "مقتضيات مجال التداول التي توجب عليهم ابتداء بمراجعة طرق الفلسفة"، في حين: "أفردوا بالمراجعة طرف الشريعة من دون طرف الفلسفة". (216)

وإذا اشتغل هؤلاء بـ "التوفيق" بما "يخضع" الدين للفلسفة، فإن طه يعكس الأمر، فيسقط فيما انتقده، وهو التوفيق المقلوب، إذ يعمل على "إخضاع" الفلسفة للصيغة الصوفية الطرقية للدين تحت عنوان "فقه الفلسفة".

ينفي، في سياق بناء الموقف من العقل والمنطق والفلسفة، وشرعنة إخضاع الكل للتصوف الطرقي، أو الأصح شطبها لصالح الأخير، أن تكون: "مضامين الفلسفة المنقولة هي عين الفلسفة"، (216) ويتخذ من تنوع العرض الفلسفي للفلاسفة الحجة على أن: "أقوالهم مجرد ظنون واهمة و [...] أدلتهم مجرد صروح واهية". (217)

توجد مضامين وأدلة "فلسفية" خارج الفلسفة المترجمة، (223) هي التي حملت بعض المسلمين في الماضي: "لم يكونوا يجدون حاجة إلى هذا المنقول، ولا توقفوا في نظرهم ولا عملهم عليه، بل كان بين أيديهم من العلوم ما كان لهم فيه غناء عن هذا المنقول الفلسفي، إذ لم يتعاطوا إلى إظهار فضل العلوم الإسلامية على ما سواها من المعارف، ويصيروا إلى القدح في علم من يلتفت إلى هذه المعارف المنقولة"، (224) وهذا الموقف هو الذي يتبناه، ويعيد إنتاجه، ويمرره بشكل غير صريح.

ونفى أيضا، في ذات السياق، أن تكون الفلسفة، تجعل الوعي أرسخ وأرقى لا تضاهيها معرفة غيرها، (229-230) بل إن المعرفة: الروحية والتاريخية تتفوقان عليها في ذلك، فقد أظهرت الأولى: "قصور الفلسفة في إدراك حدود وسائلها في التعبير والتفكير، كما أظهرت الثانية قصور الفلسفة في إدراك حدود أحكامها بصدد الحياة الإنسانية [...] وحيث لا يجدي الوعي الفلسفي، وجب إلتماس "البصيرة" الروحية، فهي أولى منه لإحاطتها بحقيقة أسبابه، ولقصوره هو عن هذه الإحاطة"، (230) فالمعرفتان تورثان: "وعيا يجاوز الوعي الذي تورثه المعرفة العقلية مع أهل الفلسفة المجردة".

تتفوق "الروحية" الصوفية لكونها: "مجاوزة علوية [...] لأنها تجعل الحدس الروحي موجها للعقل المجرد من أعلى"؛ (231) وبعدما قرر أن الفكر الذي تمت ترجمته  ليس إلا إمكانا واحدا من إمكانات عدة، قدر له أن ينتشر، (241) حدد لصفة "التفلسف" شرط "النظر العقلي"، لذا فالإمكانات الأخرى المفترضة: "قد تتصف كلها بصفة التفلسف متى كان مقتضاه النظر العقلي"، وهو أنظار منها: الاشتغال بالأسباب الظاهرة، والاشتغال بالمقاصد الخفية، والاشتغال بمجال الفكر فقط أو العمل فقط، والاشتغال بالأفق الأدنى من الوجود أو الأعلى منه، (248) فصاحب النظر الأعلى [الصوفي]: "فعلى توسله بقوة خفية في الربط بين الأشياء، فإنه لا يقل منطقية ولا عقلانية عن الذي لا ينظر إلا في الوجود الأدنى"، أي الفيلسوف، (249) لكن هل هذه "القوة الخفية" عقل حتى تصح التسوية بينهما في المنطقية والعقلانية؟

كما عمل على إلباس "التصوف الطرقي" لباس الفلسفة-التفلسف، عمل، تأكيدا لفكرة احتواء المعارف الدينية على مضامين فلسفية، على التمثيل بـ "الإجتهاد الفقهي" للمعاني "الفلسفية الإسلامية"؛ فهل معرفة طرق استنباط الأحكام الدينية من النص، ومعرفة كيفية تنزيلها على أفعال المؤمنين فلسفة؟ (249)

تختلف الثقافات في استعمال طرق تعاملها مع "المعاني الفلسفية"، وهنا أدخل ضمن "الطرق النظرية" منها "الإشارة الصوفية"، ووضعها إلى جانب البرهان والجدل والخطاب، كما أدخل أيضا ضمن "الطرق العملية": الطريق التعبدي، إلى جانب الطريق الخلقي والسياسي والاجتماعي؛ مؤكدا أن الثقافة الإسلامية تأخذ بالجدل: "كما تجعل قيمة المضامين المعرفية لا تتحدد بالصدق والكذب المجردين، وإنما باتفاق واختلاف الأفراد المشتركين في طلبها، كأنما هم يتواضعون على قيمتها، إن ابتداء أو بواسطة"، (255) لهذا يفضل الجدل على البرهان، فلا قيمة عنده بظنية مقدمات الأول ويقينية مقدمات الثاني، (256) ورتب على ذلك نتيجة وهي أن الفلسفة يتم إنتاجها بالبرهان وبالجدل وبالخطابة، (257) إذ يجوز وجود فلسفة لها أصول: "تختلف عن أصول الفلسفة المنقولة"، ووجود حقائق فلسفية مختلفة. (266)

ويتضح من الأمثلة التي أوردها لمقولة "الخلق" التي هي مقابله لمقولة "الصنع" الفلسفية، أنها قضايا كلامية، مما يؤكد نظرته أن المعارف الدينية، ومنها الكلام "فلسفة"، (270) وبناء عليه يحق لكل ثقافة الاستغناء بـ"أصولها الفلسفية"، ومنها الثقافة الإسلامية، التي سبق لها أن استغنت عن الفلسفة المنقولة إليها، وبإمكانها أن تستغني عنها اليوم كذلك.

ينتقد المترجم إلى العربية بأنه لم يعمل على: "إسقاط الأصول اليونانية المصادمة للمعتقد الإسلامي من نقولهم"، (333) فالمطلوب منه، في نظره، هو: "أن يغير مضامين هذه الحقائق المنقولة بما يقطعها عن مجالها التداولي الأصلي" فلا ينقل الكل: "حيث يتعين عليه أن يحذف بعضها [...] مثله في ذلك الذي يوصل الخبر إلى الغير توصيلا يظهر منه جوانب ويضمر فيه أخرى، عن قصد أو غير قصد". (336)

ودافع، في هذا الإطار عن ابن حزم الذي: "عمد إلى تغيير المنقول المنطقي لوجوه"، (349) إذ هذا "التصرف" هو شرط: "توطين ما وقع استمداده"، و "يصيره لابسا لباس المأصول"؛ (356) أي العمل على: "تغطية أوصاف النص الفلسفية بأوصاف تداولية نهض المتلقي إلى العمل الفلسفي" (357)

يقول ملخصا "آليات الإخضاع": "إن المترجم التأصيلي يستخدم في نقوله كل آليات التخريج والتغطية، مثل الحذف والإبدال والإضافة والمقابلة، فإنه لا يبقي من النص الفلسفي الأصلي إلا على الجزء الذي لا غنى له عنه [...] لأن المقصود ليست معرفة كل ما في النص الأصلي، وإنما معرفة كيفية التفلسف ابتداء من هذا النص" (358)

كيف تتحقق كيفية التفلسف دون معرفة الفلسفة؟ أم أن الهدف هو: "التصرف في المضامين المنقولة [...] التي تفيده في إخراج هذه المضامين على الوجوه التي تناسب المحددات التداولية لمجال المتلقي، إن حذفا للأصول الفلسفية المخالفة لهذا المجال، أو تحويرا في الأصول الموافقة له [...] لأن الغرض من النقل التأصيلي ليس هو الأداء الأمين لمضامين هذا المنقول". (359)

ولا يقابل هذا الغرض، إلا غرض الهيمنة والسطو على هذه المضامين وفق منطق "الغنيمة"، غير أن التحدي الذي يواجه هذه الدعاوى، هو مصير الفلسفة في الثقافة، بعد "العمل التأصيلي" الذي أنجزه الغزالي وابن حزم وابن تيمية، الذين اختفت بأعمالهم في هذا المجال في كتاب: تجديد المنهج في تقويم التراث"؛ أليس بسبب الجراح التي أثخها هؤلاء في جسد الفلسفة ماتت في الثقافة؟ ويبدو أن "فقه الفلسفة" هو استئناف جديد لذات المهمة، وإن بخطاب "جديد".

ختم طه الجزء الأول من "فقه الفلسفة"، بما يبرز حقيقة مشروعه الخطابي؛ فهدف الترجمة هو: "الخروج مما ينسب إليها [يقصد الفلسفة] من توجهات مطلقة في الشمولية والمعنوية والعقلانية والتبليغية، إلى أوصاف تلائم مقتضيات الترجمة في خصوصيتها ولفظيتها وفكرانيتها واستقلاليتها". (508)

وهي المهمة التي عبر عنها بشكل أوضح في الجزء الثاني، إذ حددها في العمل على أن: "نستأصل من النفوس ما رسخ فيها، عن باطل، من أن المفاهيم والأحكام الفلسفية بلغت النهاية في الشمول". (فقه الفلسفة 2: 12)

وتزداد المهمة تأكيدا، باعترافه، في سياق الرد على اتهامه بالعمل على "قتل" الفلسفة، فقال إن "تأثيله" لمفاهيم الفلاسفة، هو "تفلسف"، الأمر الذي: "لا يبقي لمتهم أن يتهمنا بمحو الفلسفة أو قتلها [...] وإذا أصر على أننا نمحو ما يعرف ونقتل ما يصنع، فله أن يعلم- إن شاء أن يعلم - أننا لا نمحو إلا الفلسفة التي محت تفلسفنا وانمحى فيها وجودنا، ولا نقتل إلا الفلسفة المعوجة التي لا يستقيم بها تفكيرنا، ولا يتحقق بها تحررنا". (18)

***

حسن العلوي، كاتب مغربي

ارتبطت الانسانوية بازدهار العلوم والفنون في القرنين الخامس عشر والسادس عشر من عصر النهضة،  حين جرى الارتقاء بجوهر الانسان بكل امكاناته الى مركز الصدارة، وتم النقاش العلني لمخزون العصور الوسطى وإيقاظ الحكمة اليونانية الرومانية القديمة. حتى يومنا هذا تشي النظرة الانسانية للمجتمعات المفتوحة للغرب الحديث بتقدمها المادي وانجازاتها الثقافية والحريات الفردية.

لكن ما الذي سيحدث للمركزية البشرية عندما يتم اسقاط جنسنا البشري من قاعدته بواسطة آلات اكثر ذكاءً منا ضمن الادراك المتواضع بان البقاء يعتمد على تقليل بصمتنا الضخمة على هذا الكوكب الهش؟ شرور هذين التطورين تدعو الى إعادة التفكير بما تعنيه الانسانوية في المستقبل القادم.

الزبون جرى استيعابه في الماكنة

الخلافات الاخيرة حول مخاطر وآمال الذكاء الاصطناعي الخلاق أثارت سؤالا فلسفيا جديدا حول اين ستنتهي السيادة التكنلوجية وأين تبدأ استقلالية الانسانية. هل ستصبح امكانات الذكاء الخارق التي اخترعناها هي سيدنا الحقيقي؟

"الحقيقة هي ان القوى التي تبدو تستعمل وتحكم التكنلوجيا هي في الواقع استُعملت وحُكمت بواسطتها قليلا او كثيرا دون قصد" هذا ما لاحظه جورجو اغامبين Giorgio Agamben فيلسوف السياسة الأحيائية  في عرضه في الندوة الافتتاحية لمعهد بيرجروين الاوربي في فيينا.

"كل من النظامين التوتاليتاري والديمقراطي يشتركان بنفس العجز في حكم التكنلوجيا. وكلاهما ينتهيان بتحويل نفسيهما من خلال التكنلوجيا التي اعتقدا بها انهما يستعملونها لأهدافهما. هو سأل لماذا يبدو صعب جدا وحتى مستحيل حكم التكنلوجيا؟ .

عودة الى منتصف القرن العشرين،  مفكرون بارزون شعروا بالقلق سلفا بان السيادة الانسانية ستكون في موقف اسوأ. في كتابه الصادر عام 1954"المجتمع التكنلوجي"،  ركز الثيولوجي والسوسيولوجي الفرنسي جاك ايلول Jacques Ellul  نقده ليس على أي معطى تكنلوجي،  وانما على "التقنية" ذاتها،  التي هو عرّفها كـ "كفاءة مطلوبة" – أي بناء من الوسائل النمطية لبلوغ محصلة مقررة سلفا  بهدف تحقيق "افضل نتيجة" . بالنسبة لأيلول،  "كل التقنية الشاملة هي في الحقيقة الوعي بعالم ميكانيكي". الاحتكار المبرمج للامكانيات يعطّل الانسان الفرد بسرقته من أي كفاءة بديلة.

قلق ايلول يقترب الى حد كبير من المفهوم الاخير ليوفال نوح هاراري Yuval Noah Harari لـ "البياناتية" dataism،  حيث الكون يُنظّم كاحتياطي دائم للبيانات الضخمة،  تتقرر قيمتها بالخوارزميات التي تعالجها لغايات محددة.

بالنسبة لزملاء ايلول مثل ايفان الش،  يرى ان التقنية تستعمر مزاج وايقاع الناس والنوعية العادية للحياة البهيجة من خلال التكنلوجيا الاجتماعية للمؤسسات بدءاً من التعليم الجماهيري وحتى المجمع الصناعي الطبي. هو توقّع نظاما ديمقراطيا بايولوجيا جديدا وشجاع من شأنه ان يحرم الافراد من الاستقلالية الصحية ويختزلهم الى نظام مناعة لا شخصي يُدار من قبل خبراء "من الرحم الى القبر". هو ايضا،   توقّع الفكرة اللاحقة لهارير الذي شك فيها بان معظم الناس يسلّمون الخصوصية لإله الصحة من خلال الترحيب بالاشراف المستمر على أجسادهم بواسطة الذكاء الاصطناعي.

بالنسبة لايلول،  التكنلوجيا التي قُصد بها تعزيز رفاهية وحرية الناس انما هي تكبّلهم بطريقة اخرى. كما هو صرح بذلك بسخرية لاذعة، "الزبون جرى امتصاصه في الماكنة"،  وهكذا فقد القدرة على العمل خارج النظام.

التولّد البشري هو تولّد تكنلوجي

يحاول أغامبن معالجة السؤال الذي أثاره عبر الزعم ان التكنلوجيا هي ليست خارجية لظروف الانسان. وانما،  هي تكنلوجيا تجعلنا اناسا. خلافا للمخلوقات الجسدية الاخرى التي تتكيف لبيئتها،  الناس وحدهم سعوا الى تحرير أنفسهم من الضرورة من خلال أدوات اخترعناها. يقتبس اغامبن من مفكرين اثنين حول الموضوع الذي توصلا فيه الى رؤى مشابهة .

لودويجك  بولك LodewiJk Bolkعالم تشريح هولندي في بداية القرن العشرين،  اعتقد ان الانسان اخترع الادوات ليعوّض ضعفه في الحياة البرية،  ولاسيما ولادة ذرية لاتزال في مرحلة جنين ما قبل النضج،  حيث الرضيع غير قادر على تجهيز ما مطلوب لبقاءه،  شيء لا مثيل له بين الثدييات الاخرى.

بالنسبة لبولك،  هذه الازاحة التكنلوجية تثبط القدرة الحيوية للتكيف وتنذر بأوقات مظلمة أمامنا. قبل ان تظهر كارثة المناخ في الافق،  هو حذر بانه "كلما تقدمت الانسانية كثيرا على طول المسار التقني، كلما اصبحت أقرب كثيرا الى النقطة القاتلة التي يصبح فيها التقدم  يعني الدمار،  وطبيعة الانسان سوف لن تقف أمام الهوة".

أغامبن ايضا يستخدم نظرية بول السبيرج paul Alsberg، الانثربولوجي الالماني الذي كتب " لغز الانسان"  عام 1930،  هو افترض ان "مبدأ التطور الحيواني هو تكيّف للجسد. مبدأ تطور الانسان هو تعطيل الجسم من خلال الوسائل الاصطناعية". وكما يقرأ أغامبن السبيرج،  "التعطيل ليس انتقاصا ابدا،  انه على العكس تماما،  تحرير للجسم من محدودياته الطبيعية. التحريرمن الجسم هو في نفس الوقت تحرير للجسم. خلافا للحيوان،  الانسان يستطيع ان يتحرر روحيا فقط لأن التقنية تحرره من قيود جسده. التعطيل والتحرر من الجسم هما مبدأ واحد يعرّف الانسانية ويشكل الارضية المادية لحرية الانسان".

بهذه الطريقة من التفكير،  وبعيدا عن التوجه نحو التدمير الرجعي، "الانسان محكوم عليه ان يصل من خلال التكنلوجيا والثقافة الى طموحه، كما يراه اغامبن، وكما فهمه بولك والسبيرك هو ان الانسان يصبح من خلال التكنلوجيا جزءاً لا يتجزأ من تطورنا. باختصار، "التولد البشري هو تولد تكنلوجي".

عتبة الانسان The human threshold

ان الصفة الخارجية لإختراع الأدوات للهروب من الضرورة هي ما يميز الانسان،  لكنها لا تستأصل في داخلنا خاصية التكيّف الداخلية للحيوان مع البيئة. "الحقيقة هي ان ما يجعلنا انسانيين لايمكن تقسيمه"،  حسب أغامبن. "تحوّل الانسان الى انساني،  ليس حدثا يتحقق مرة واحدة الى الأبد. انه عملية في تقدم مستمر،  حيث الانسانية والحيوانية لايمكن تجزئتهما. الحيوان،  الكائن الحي يستمر في الوجود في جسم الانسان،  ولا يمكن ابدا أنسنته كليا". بالنسبة لـ اغامبو،  "العنصر الخارجي سيميل للإعلان عن نفسه على حساب العنصر الداخلي. التكنلوجيا والثقافة ستأخذ شكل السلطة والهيمنة على الطبيعة وبالضرورة ستنتهي باستبدال ذاتها بالطبيعة". لكن ذلك ليس نهاية القصة.

"الانسان ليس شيئا تستطيع تعريفه مرة واحدة،  انه بدلا من ذلك عتبة بين الداخلي والخارجي،  بين الجسم والتقنية". في تلك العتبة هناك دائما انقطاع او توقف،  غير محدد. يستنتج أغامبا "فقط عند العتبة" "يمكن للاخلاق والسياسة ان يجدا مكانهما الصحيح،  الاخلاق والسياسة لن يسعيا ببساطة الى السيطرة على الطبيعة من خلال التكنلوجيا،  وانما للسيادة على العلاقة بين الطبيعة والثقافة،  بين الجسم والتقنية. انه في هذا الفضاء الثالث بين الانسان وغير الانسان،  فضاء الجسم والتكنلوجيا،  يجب ان نركز تحقيقاتنا".

الامتناع عن التحول

وفق هذا المنظور،  تضع كارثة المناخ الحالية نقطة توقف في الفضاء الثالث الغامبني حيث يصطدم السعي للتحرر من الضرورة من خلال التكنلوجيا بحدوده الكوكبية. في هذا الانقطاع،  الحيوان المتكيف في الانسان هو مجبر على الاستيقاظ لكي ينجو من عواقب التقنيات. بيتر سلوت peter SloterdiJk يسمي هذا الاستيقاظ بـ "مناعة مشتركة"،  غريزة الأنواع للبقاء، حيث الانسان يعيد التوازن بين عبقريته الخارجية وضرورات الوجود الجسدي على الارض.

كيف يمكن لتكيّف الأنواع ان يعمل لتحرير الفرد هو سؤال مفتوح لا يسهل الجواب عليه. في مقابلة أجرتها مجلة نومو Noemo مع جيمس لوفلوك في أيامه الاخيرة  تأمل في احتمالية "عصر جيولوجي " جديد للكوكب عندما يحصل الذكاء الخارق المنفصل عن الجسد على اليد الطولى عندما يتدهور المحيط الحيوي.هو فكّر جيدا بان الحضارة الانسانية سوف تُنظّم كعش الدبابير حيث كل الوظائف تتم بواسطة الخوارزميات للوصول الى فعالية منظمة في استعمال الموارد كشرط ضروري لتقليل بصمتها الكاربونية. غياب هكذا ترتيب لا يعيش فيه فقط  ما بعد الانسان الذي يحمل وعيه للغيوم طالما لا يمكن للمكائن ان تحمل العتبة الحرارية اكثر من العقول المجسدة.

الخيار الآخر لهذا السيناريو سيكون ما بعد الانسانية a post-Anthropocene التي يسميها سلوت متبعا خطى هايدجر بـ "الانسان الانساني" homo humanus – حالة من اليقظة الدائمة  من "العناية" تتوسط العلاقة بين الناس والتكنلوجيا والطبيعة لتقف حارسا ضد ما يصبح عليه الانسان "غير انساني،  خارج هذا الجوهر".

لكي نجد مكانا في الفضاء الثالث لـ أغامبن،  فان المبدأ الحاكم الذي يبدو ملائما جدا للانسان الانساني هو المفهوم اليوناني القديم Katechon او كبح المدرك "الامتناع عن ان تصبح" الذي يتجنب ربط الوجود  اما بوسائلنا او بالضرورة. البشر التكنلوجيون يجب ان يتعلموا احترام تجسيداتنا  ولكن لا ان نُسجن فيها والعكس صحيح.

***

حاتم حميد محسن

..........................

Post-Anthropocene Humanism, by Nathan Gardels, June 30, 2023

* الكاتب رئيس تحرير  Noema (مجلة الانسانيات والفكر الاجتماعي).

ترجمة: حاتم حميد محسن

عندما نفكر في رقم ما، فما هو الشيء الذي نفكر فيه بالضبط؟ الرياضيات يلفّها الغموض. بهذا لا نعني هناك مجرد صعوبات او أسئلة رياضية لم تُحل، بل نعني ان الرياضيات ذاتها كموضوع وكفعالية هي شيء غامض. اطّلاعنا المألوف بالرياضيات الأولية احيانا يجعل ذلك الغموض غائب عن أذهاننا. هذا ربما شيء جيد في معظم الأوقات. التفكير في طبيعة الرياضيات لا يساعد في حل المشكلة الرياضية. لكن عمل رياضيات شيء وفهم طبيعة الرياضيات شيء آخر. المهمة الاولى هي رياضية، اما الثانية هي فلسفية. لماذا الرياضيات غامضة؟ لأنه من الصعب رؤية كيف تنسجم الرياضيات مع صورتنا للعالم. الرياضيات تهتم بحقائق معينة وأكاذيب: (1+1=2) صحيح و (1+1=3) كذب. ايضا من الصحيح هناك شيء فارغ (مجموعة من أشياء لا تحتوي على شيء)، ومن الكذب ان بعض المجموعات هي أرقام بذاتها. هذه هي حقائق وأكاذيب في الحساب ونظرية المجموعات، والتي هي فرع من الرياضيات الخالصة. الرياضيات الخالصة pure mathematics يقابلها الرياضيات التطبيقية كما في التطبيقي مقابل العالم المادي. هناك أسئلة حول الكيفية التي تستطيع بها الرياضيات التطبيق على العالم في جميع الطرق غير المتوقعة التي تقوم بها. الفيزيائي Eugene Wigner قال ان الرياضيات كانت فعالة بشكل غير معقول في تطبيقها على العالم. لكن اللغز الذي نثيره هنا هو أكثر جوهرية، انه يتعلق بالمظاهر الأساسية للرياضيات الخالصة ذاتها.

حقائق الرياضيات الخالصة تختلف تماما عن الحقائق العادية. فمثلا، حقائق الرياضيات الخالصة هي أبدية: هي دائما كانت صحيحة وستبقى صحيحة. كان صحيحا عند الانفجار العظيم ان 1+1=2، وسيبقى صحيحا بعد ترليون سنة. انها ايضا ضرورية – تبقى صحيحة دائما لا يهم في ذلك حالة العالم. حتى في عالم بلا انسان سيبقى صحيحا ان واحد زائد واحد يساوي اثنين. كذلك هي موضوعية – لا تعتمد على أهواء او رغبات أي شخص  . لو نحن نلتقي باناس من المريخ، ويقولون ان واحد زائد واحد يساوي ثلاثة، سوف نعرف اننا نفشل في التواصل معهم، او ان سكان المريخ كاذبون.

من المهم جدا ان الرياضيات ايضا تهتم بالأشياء الرياضية المتميزة: أرقام، نقاط، مجموعات، دالات، وغير ذلك. هذه الاشياء هي غير مادية. انها ليست جزءاً من الواقع المادي الذي تكون عليه الأجسام،مثل الطاولات، الكواكب. لا أحد عثر في أي وقت على رقم، لم يُشاهد أي رقم بالتلسكوب. الأشياء الرياضية ليست هناك بأي معنى للكلمة. مع ذلك، هي ايضا لا تبدو هنا بالطريقة التي تبدو بها الرموز، الأفكار،العواطف. لكننا بطريقة ما ندرك وبتأكيد عالي الكثير من الحقائق الرياضية، ونحن نتوقع اكتشاف المزيد منها.

من الواضح، ان معرفتنا الرياضية تأتي لنا بطرق معينة. لم تُجرى أي تجربة في الرياضيات الخالصة في صفوف الدراسة. لا بيانات مفهرسة، لا مشاهدات لا ملاحظات . ليس هناك أي من طرقنا المألوفة في العثور على أشياء في الخارج . بدلا من ذلك، المعرفة الرياضية تأتي بطرق من البراهين المنطقية الصارمة  المشتقة من مبادئ أساسية – البديهيات، مثل "واحد هو رقم" او "كل الزوايا القائمة متساوية" – والتي تؤخذ على انها صحيحة بشكل واضح.

هذه السمات تجعل الرياضيات لغزا. التحدّي أمامنا هو ان نضع الرياضيات ضمن توضيح معقول للعالم. فقط عند ذلك سوف نفهم حقا الرياضيات فلسفيا. هذا التحدي كان هاجسا لبعض كبار الفلاسفة والرياضيين لكن لم يبرز جواب واضح حتى الآن.

حسابات ميتافيزيقية خاطئة

كان هناك في وقت ما اتجاها واعدا لفهم ميتافيزيقا الرياضيات وهو التقليدية او العرفية conventionalism وهذا الاتجاه يعتمد ببساطة على الكيفية التي نستعمل بها اللغة. اليوم تواجه التقليدية تقريبا رفضا عالميا من جانب فلاسفة الرياضيات. ولكن رغم الموضة الحالية، نرى ان التقليدية يمكن إنعاشها. لكي نمهد الطريق، دعونا نرى لماذا حاليا تفشل وبشكل خطير معظم نظريات الرياضيات الفلسفية. ربما يتضح الاتجاه الفلسفي في الرياضيات من خلال إجراء مقارنة. عندما تخبرني ان القطة سمينة، انت تخبرني شيئا ما حول العالم المادي. انت تخبرني ان شيئا فيزيقيا معينا – القطة – لها خصائص معينة في كونها سمينة. كذلك الرياضيات بنفس الطريقة تسعى لوصف واقع موجود بشكل مستقل؟ ليس واقعا ماديا، بالطبع،لكنه واقع رياضي.

اذا كان هذا صحيحا، فان الادّعاءات الرياضية تكون وصفية. عندما هي تصف بالضبط واقعا رياضيا، مثل واحد زائد واحد يساوي اثنين، فهي صائبة. عندما هي لا تقوم بذلك، فهي كاذبة. وهكذا، القول ان ثلاثة هي رقم اولي (يُقسم على نفسه بدون باقي) prime number هو كالقول ان القطة سمينة. في الواقع الرياضي، الرقم ثلاثة هو شيء موجود بشكل مستقل،وكونه رقم أولي هو خاصية رياضية.

طبقا لهذه النظرية، الهدف من الرياضيات هو ان تصف الواقع الرياضي بشكل صحيح ، وان الرياضيات هي مثل "الفيزياء" لهذا الواقع. لكن الحقيقة الرياضية كما رأينا، هي أبدية، ضرورية، وموضوعية. هذه الرؤية عادة تسمى الافلاطونية الرياضية mathematical Platonism. افلاطون ربما قبل بهذه النسخة. طبقا للافلاطونية، الواقع يستلزم اكثر من جميع الحقائق حول العالم المادي، انه ايضا يتضمن حقائق أبدية مجردة موجودة بشكل مستقل. الحقائق الرياضية هي جزء من القصة. في الحقيقة، ان ما يسمى هنا "الواقع الرياضي" هو احيانا وبسخرية يسمى "السماء الافلاطونية".

فكرة الحقائق الرياضية الموجودة بشكل مستقل لا تتلائم مع فهمنا الحالي السائد حول العالم، وهو الطبيعية العلمية Scientific naturalism. وفي الحقيقة ان اضافة نوع خاص من الحقيقة لصورتنا عن الواقع سواء كانت رياضية او منطقية او أخلاقية او تيليلوجية ليس شيئا يجب عمله بسهولة. اذا كانت هذه الطريقة الوحيدة لفهم الرياضيات، فهي ربما تمثل افراطا ميتافيزيقيا. لكن الافلاطونية لا تتلائم  مع حقيقة اننا نمتلك معرفة رياضية.

لكي نرى هذا، افرض ان الافلاطونية صحيحة، وايضا ان "ثلاثة هي رقم اولي" هي صحيحة. هي صحيحة لأنها تصف بشكل صحيح واقعا رياضيا. لكن كيف نعرف انها فعلا كذلك؟ ارتباط بواقع رياضي منفصل افتراضا لا يلعب دورا أبدا في توليد هذه المعرفة. لو تلاشى "واقع رياضي مستقل"، سوف نستمر نعتقد ان ثلاثة هي رقم اولي. ونفس الشيء، لو توقفنا عن التفكير بان ثلاثة هي رقم اولي،ذلك سوف لا يكون بسبب الادراك الأفضل لهذا الواقع الرياضي المفترض. لا وجود لتسكوب عظيم يستطيع الاشارة الى سماء رياضي افلاطوني.

المعرفة تتطلب نوعا من الارتباط بين الحقائق المعروفة وطريقتنا في التحقيق. انا أعرف ان القطة سمينة بطريقة من الارتباط الحسي: انا أرى القطة السمينة. لكن الارتباط لا يحتاج ليكون مباشرا. ارتباط غير مباشر عادة يكون كافيا. نحن نعرف عن الثقوب السوداء، مع ذلك نحن لم نشاهدها ابدا بشكل مباشر. لكن اذا كانت الافلاطونية صحيحة، لا وجود هناك حتى لإرتباط غير مباشر بين الواقع الرياضي وطرقنا الرياضية. لكي نعيد الارتباط، ذلك يتطلب رحيلا آخرا من الطبيعية العلمية عبر افتراض قدرات خارقة للرؤى الرياضية او ما يشبهها. هذا ثمن باهض تدفعه نظرية الرياضيات الفلسفية. لو أردنا البقاء ضمن الطبيعية العلمية، فان الافلاطونية يجب ان تذهب. ان رفض الافلاطونية ليس مثل رفض الرياضيات. اتجاهات اخرى هي ممكنة. في الحافة الاخرى للطيف هناك رؤى تغيّر افتراضاتنا الاساسية حول الحقيقة الرياضية. بعض هذه الرؤى تنكر اطلاقا ان الرياضيات تهتم بالحقائق . اخرى تسمح بالحقيقة لكنها تنكر ان الرياضيات هي أبدية ضرورية موضوعية. هي تدّعي بدلا من ذلك انها زمنية ومشروطة وذاتية. الرياضيات مُخترعة وغير مكتشفة. طبقا لهذه الرؤى الرياضية الخالقة، نحن نخلق الاشياء والحقائق الرياضية.

لكي يجعلوا هذا الاتجاه في الخلق معقولا، يشير اصحاب نظرية الخلق الى اضطراب الوقائع التاريخية للممارسات الرياضية. أين ما ننظر، نرى بصمات الانسان وليس نقاءً بلوريا. الرياضيات خُلقت بواسطتنا ولم تهبط الينا من السماء. انها تبدو أبدية ضرورية موضوعية لكن هذه المظاهر هي اسيء فهمها، حسب قول الخلقيون. لكن بينما هذا التفكير شائع جدا في بعض الحلقات، لكنه يرتكز على التباس بسيط.

من الواضح، ان المفاهيم الرياضية والكلمات والممارسات تم اختراعها من جانب الانسان. كل ممارسات الانسان جاءت للوجود في وقت ما من التاريخ. وان المفاهيم الرياضية يمكن ان توجد فقط عندما يكون الخالقون قادرين على التفكير المفاهيمي. التاريخ وعلوم الادراك وعلم النفس ربما جميعها تلقي ضوءا على تطور وتطبيق المفاهيم الرياضية. نحن نعترف بكل هذا، كما يجب ان يعترف كل واحد. لكن الاعتراف بان مفهوم الرقم اختُرع ليس كالاعتراف بان الارقام ذاتها اختُرعت. مفهوم الكوكب اختُرع ايضا، لكن الكواكب ليست كذلك (على الأقل ليس بواسطتنا).

هذا ما يسميه الفلاسفة  "الخلط بين اللفظ والاستعمال" use-mention confusion . بوستن مدينة في شمال شرق الولايات المتحدة، لكن "بوستن" هو اسم. بوستن فيها اكثر من مليون مقيم، لكنها لم تبدأ بـ "ب" (كيف يمكن لمدينة تبدأ بحرف "ب"). اسم "بوستن" ليس فيه مقيمين، لكنه يبدأ بـ "ب". نفس الشيء، مفهوم الكوكب ليس كوكبا. هو لا يدور حول الشمس . هو في الذهن، ليس في الفضاء. اذا اعتقدت ان لا أحد التبس عليه ذلك فانت على خطأ. السيوسيولوجي البارز في العلوم Bruno Latour جادل مرة بانه من المفارقة التاريخية الاقتراح بان الفرعون رمسيس الثاني مات بسبب السل لأن السل لم يوجد حتى القرن التاسع عشر. من الواضح، ان هذه سخافة. ان مفهوم مرض السل وُجد في القرن التاسع عشر، وليس المرض ذاته. تداخل الاستخدام والذكر يقود الى التباس سخيف.

نفس الشيء هنا. الحجج التي تساوي خلق مفاهيم الرياضيات بخلق الحقائق الرياضية هي خاطئة. لغتنا وممارساتنا ومفاهيمنا خُلقت لكن الحقائق الرياضية والأشياء ليست كذلك. الفهم الصحيح للرياضيات يتطلب تجنب هذا الالتباس.

التصورات التقليدية الأساسية

وهكذا نحن يجب ان نرفض الافلاطونية ونظرية الخلق في الرياضيات. الرياضيات ليست وصفية بنفس الطريقة التي تكون عليها الخطابات العادية، ولكنها ايضا ليست ذاتية. هناك اتجاه أفضل موجود. نحن يجب ان نفهم الادّعاءات الرياضية في الاتجاه التقليدي. لنوضح هذا ببعض الأمثلة غير الرياضية قبل توضيح كيفية تطبيق الفكرة على الرياضيات.

انظر في عبارة "الأساقفة يتحركون قطريا (بشكل مستقيم ومائل) في لعبة الشطرنج". هذه صحيحة،لكن كما في الرياضيات انها لا تنسجم جيدا مع كيفية وصفنا للاشياء الفيزيقية العادية. ان المقدرة على التحرك قطريا ليست خاصية فيزيقية متأصلة في أساقفة الشطرنج. اساقفة الشطرنج ليسوا مثل الكواكب او الألكترونات. بدلا من ذلك، شيء ما يوصف كأسقف في لعبة الشطرنج اذا كان يتحرك فقط قطريا ضمن اللعبة. ان مصدر الحقيقة في "الأساقفة يتحركون قطريا في لعبة الشطرنج" هو في القواعد التقليدية للشطرنج. هذه القواعد مجتمعة تشكل لعبة الشطرنج. لو فشلت في اتباعها ستفشل في لعب الشطرنج.

وبنفس الطريقة، العديد من الحقائق المفاهيمية الاخرى هي تقليدية. خذ العبارة "العزّاب غير متزوجين". هذه صحيحة لكنها لا تحدد حقيقة حول العالم المادي الذي اكتشفناه علميا, قواعد استعمال اللغة هي مصدر الحقيقة في ان العزاب غير متزوجين: لا أحد متزوج يُحسب أعزبا. هناك العديد من الحقائق المفاهيمية المشابهة يمكن توليدها بشكل صريح ومباشر، عبر التأمل او التعريف، وايضا بشكل غير مباشر عبر اتّباع قواعد استخدام اللغة. نحن نسمّي كل هذه الحقائق "تقليدية". الحقائق التقليدية هي مألوفة وليست كلها غامضة.

التقليدية الرياضية هي الرؤية بان الرياضيات يجب ان تُفهم بهذه الطريقة. قواعدنا التقليدية لإستعمال المفردات الرياضية مثل "أرقام"، "صفر"، "جمع"، "مجموعة"، "دالة"، "وغيرها تقرر مفاهيمنا الرياضية . القواعد التقليدية هي ايضا مصدر الحقيقة الرياضية. في المفردات العادية مثل "قطة"، "طاولة"، "ثقوب سوداء"، تكون القواعد ومعها الحقائق الخارجية هي مصدر الحقيقة. في الرياضيات الخالصة، لا توجد مساهمة إضافية من العالم الخارجي. القواعد التقليدية تعمل من تلقاء نفسها. الرياضيات لا تحتاج الى عالم افلاطوني خارجي لتكون صحيحة. نؤكد الآن بان جميع خصائص الرياضيات المنتجة للغموض يمكن استيعابها بأناقة بواسطة التقليدية، بدون التطرف الميتافيزيقي للافلاطونية  وبدون الالتباس الذاتي لنظرية الخلق.

توضيح الحقيقة الرياضية

الحقيقة الرياضية لغز لأنها أبدية وضرورية وموضوعية. الافلاطونية توضح هذه الخصائص بنظرية جعلت الحقائق الرياضية لايمكن معرفتها. الخلقيون انكروا هذه الخصائص كليا. التقليدية يمكن ان تعمل أفضل بشرط ان تتجنب بعض الإلتباسات. دعنا نأخذ كل خاصية الواحدة بعد الاخرى.

الحقيقة الرياضية أبدية:

حقائق الرياضيات الخالصة كانت دائما وستبقى. نحن نستطيع توضيح هذا بالنسبة للغتنا الرياضية التي لا تأخذ بالاعتبار الاختلافات في زمن الفعل. اذا كان صحيحا واحد زائد واحد يساوي اثنين عندئذ ستبقى صحيحة الآن وغدا. سواء كانت في الماضي البعيد او المستقبل البعيد، الحقائق الرياضية هي بالضبط ذاتها لأن لغتنا الرياضية هي مستقلة عن الزمن. هذا هو المعنى الذي تكون فيه الحقيقة الرياضية "أبدية". لذا فان التقليدية توضح هذه الحقيقة العميقة حول الرياضيات بدون بناء أوهام ميتافيزيقية. القواعد لإستعمال اللغة الرياضية تكفي.

الحقيقة الرياضية ضرورية:

 حقيقة الرياضيات الخالصة لايمكن ان تكون غير ذلك. هذا يمكن توضيحه ايضا باستعمال تقاليد لغة الرياضيات. مثلما لغة الرياضيات مستقلة هي ايضا لغة احتمالية: لاتعارض في لغة الرياضيات بين الادّعاءات الدالّة (س هي الحالة) والادّعاءات الاحتمالية (س ستكون هي الحالة). هذا يعني انه اذا كان شيء ما صحيحا رياضيا، عندئذ سيكون ايضا صحيحا في أي موقف آخر. لو تحدّثنا عن أي موقف نحب، سواء كان حقيقيا او غير واقعي، فان الحقائق الرياضية هي بالضبط ذاتها. هذا هو المعنى الذي تكون به الحقيقة الرياضية "ضرورية". مرة اخرى، التقليدية توضح خاصية غامضة في الظاهر بدون أي تطرّف ميتافيزيقي.

الحقيقة الرياضية موضوعية:

كل منظور يقود الى نفس الحقائق الرياضية. التقليدية ايضا توضح هذه السمة. بالنسبة للتقليديين، القواعد الرياضية وحدها توضح ما نعني بالمفردات الرياضية مثل "صفر"، "رقم"، "مثلث"، "مجموعة". استخدام قواعد بديلة قد يغير الحقائق، لكن فقط بتغيير الموضوع الى شيء ليس هو الرياضيات التي لدينا. ما يعنيه أي شخص بـ  "رقم" يجب ان يتفق معنا بالنهاية حول الحقيقة الرياضية. هذا يوضح لماذا الرياضيات موضوعية. ايضا مرة اخرى،التقليدية تزيل الغموض عن الصفة المحيرة.

التقليديون يعترفون ان الرياضيات أبدية وضرورية وموضوعية، بينما يعترفون ايضا بدرجة من التعددية. أحد ما ربما يلعب لعبة تشبه جدا الشطرنج، ولكن بقواعد مختلفة قليلا. نفس الشيء، سكان المريخ ربما لديهم ممارسات رياضية مشابهة جدا لنا ولكن بقواعد مختلفة قليلا. هذا لا يتجاهل موضوعية الرياضيات لأن نوع التعددية التي نتحدث عنها لا يصل الى عدم اتفاق حقيقي. نحن نرى هذا ضمن ممارساتنا الخاصة. في هندسة اقليدس الفرضية الموازية - أي خط له خط موازي يمر بنقطة ليست على الخط الأصلي – هي صحيحة. في الهندسة غير الاقليدية ليس كذلك. للجدال حول ما اذا كانت "حقا صحيحة" هو امر سخيف: انها تعتمد على اللغة التي انت تعمل فيها. بالطبع، انت تستطيع القول وبشكل معقول حول أي صيغة هي صحيحة عن الفضاء الفيزيقي – لكن حينذاك انت لم تعد تجادل عن الرياضيات الخالصة.

هذا النوع من التعددية يتجسد في الرياضيات الخالصة. لكن هذا لا يجب ان يجعلنا نسقط مجددا في الافتراض بانه عندما تبدو ممارسات رياضية متميزة غير متفقة، فهي تناقش واقعا رياضيا مستقلا. بالنسبة للتقليديين، لا مصدر هناك للحقيقة الرياضية الخالصة خارج الأعراف اللغوية.

التقليدية يمكنها ايضا فهم وجود الأشياء الرياضية. الأرقام، المجموعات، الدالات ليست اشياءً مادية. انها لم تُصنع من مادة. في الحقيقة،هي لم تُصنع من أي شيء ابدا. هذا بالاساس ما نعنيه عندما نسميها اشياء مجردة مقابل الاشياء المادية. للادّعاء بصحة "الطاولة" موجودة، و "الثقب الاسود موجود" ذلك يتطلب ان يلبي العالم المادي شروطا معينة. أي ان هذه الادّعاءات تتطلب ان يكون شيئا محددا حول العالم المادي صحيحا، وهو ما يفسر لماذا هذه الأشياء مادية. اما في الاشياء المجردة ، تكون المادة مختلفة. حقيقة ان "الرقم موجود" لا تضع شرطا على العالم المادي. قواعد الرياضيات تسمح لك بالاستنتاج ان واحد هو رقم، ولذا فان الارقام موجودة. لكن مرة اخرى، قواعد الرياضيات لا تضع متطلبات على العالم المادي. قواعدنا الرياضية ذاتها توضح الحقيقة الرياضية، مثل وجود الارقام. وهكذا، بهذا المعنى، يكون الوجود في الرياضيات سهل ميتافيزيقيا.

هذا لا يعني القول ان الوجود الرياضي هو نوع خاص من الوجود. الطاولات، والثقوب السوداء والارقام جميعها توجد بنفس الطريقة. انها انواع مختلفة من الاشياء وليست اشياء بطرق مختلفة من الوجود. فهم الوجود الرياضي لا يتطلب تعددية ميتافيزيقية حول الوجود ذاته.

هل نستطيع بسهولة اشتقاق وجود الله؟ كلا. ماذا لو بدأنا الحديث بلغة حيث عبارة "الله موجود" بُنيت في قواعد استعمال كلمة "الله"، بنفس طريقة ان "واحد هو رقم" بُنيت بقواعد الحساب الأساسي؟ هذا في الحقيقة يغيّر معنى "الله". هذا البرهان المفترض لوجود الله يفشل لنفس السبب كونك لا تستطيع إثبات وجود الله بإعادة تسمية الله باسم آخر.

كيف تعمل الحقيقة الرياضية

الافلاطونية تجعل المعرفة الرياضية مستحيلة. فريق الخلق يجعلونها ممكنة، لكن فقط عبر رفض خصائص واضحة للحقيقة الرياضية. بالمقابل، التقليدية يمكنها ان توضح وبشكل تام نمو معرفتنا الرياضية بدون أي مراجعة لفهمنا الشائع لها. في الحقيقة، التقليدية تبدو الطريقة الوحيدة لفهم لماذا ممارساتنا الرياضية عقلانية.

الممارسة الرياضية الصارمة تبدأ من مسلمات واضحة. ادّعاءات رياضية اخرى تُعرف فقط عندما يتم اثباتها منطقيا من المسلمات. بكلمة اخرى، الممارسة الرياضية تبدو بالضبط كما لو كنت تتوقعها تبدو عندما تكون التقليدية صحيحة: وضع المبادئ الاولية الواضحة، ثم بناء منطقي من هذه المبادئ. هذا لا يبدو ابدا يشبه محاولة وصف عالم مستقل لحقيقة فوق مادية. ولا هي تبدو تشبه اي شيء ذاتي. نحن نعرف الحقائق الرياضية بنفس الطريقة، وبنفس درجة التأكيد التي بها نعرف ان الاسقف يتحرك قطريا، او ان العزاب غير متزوجين. التقليدية وحدها توضح يقينية المعرفة الرياضية.

ربما يتسائل احد ألم تكن هناك فجوة؟ فجوة مفترضة بين مفهوم مثل "اثنين زائد اثنين يساوي اربعة" كونه صحيحا طبقا لممارساتنا، وانه حقا صحيح. اذا كانت هناك فجوة، عندئذ المعرفة الرياضية لم تتوضح بعد. لحسن الحظ، لا توجد هناك فجوة. طبقا لقواعد الشطرنج، الأسقف يتحرك قطريا. نفس الشيء،عندما نستعمل قاعدة حسابية، اثنين زائد اثنين يساوي اربعة. لذا، لا توجد هنا فجوة لملأها. قواعدنا تقرر ما نعني، وما نعني وحده يقرر ما هو صحيح رياضيا. انت يمكن ان تكون على خطأ حول كل انواع الادّعاءات الرياضية الفردية، لكن تغيير كيفية استعمالك للّغة عادة يغيّر ما تعنيه انت بتلك الجمل. بدلا من ذلك، تقاليد لغتنا الرياضية تقرر بالكامل كل ما نعنيه بالمفردات الرياضية وكذلك ما هو صحيح رياضيا في لغتنا. لذا، فان معرفتنا بالرياضيات تأتي بطريقة البراهين باستعمال تقاليدنا الرياضية الاساسية. هذا بالضبط ما نجده في ممارسة عمل الرياضيين. انه بالضبط ما يخشاه الطلاب في القسم المتقدم في صفوف الرياضيات في الكلية. التقليدية وحدها من بين جميع النظريات الفلسفية للرياضيات تدرك السمات الحقيقية للتفكير الرياضي وتجميع المعرفة.

الوصول الى الاستنتاج التقليدي

ربما أحد يتسائل الآن لماذا لا يكون سلفا كل شخص تقليديا حول الرياضيات. الجواب على هذا السؤال يتطلب بعض التاريخ الفلسفي. الصيغ الاولى للتقليدية الرياضية كانت قد تم القبول بها من قبل الفلاسفة باعتبارها مختلفة عن بعضها البعض  كـ ليبنز (1646-1716) وديفد هيوم (1711-1776). لكن الفكرة اصبحت ناجحة جدا في بداية القرن العشرين بعد ان سمح تطور منطق الرياضيات الحديثة لصياغات اكثر دقة للفكرة. فمثلا، نسخة التقليدية جرى تفضيلها من جانب الوضعيين المنطقيين،وهم جماعة مؤثرة من الفلاسفة والعلماء والرياضيين تركزوا في الأصل في فيينا. الوضعيون جادلوا بان كل الحقائق الضرورية او أي حقيقة يمكن معرفتها من خلال العقل وحده، انما تنتج من التقاليد. هم جادلوا بقوة بان شيئا ما كان يمكن معرفته من كرسي متحرك فقط في حالة كونه صحيح بالتقاليد. الحقائق المنطقية والرياضية والمفاهيمية جميعها توضح هذا التقارب العام. الوضعيون جسدوا هذا الاتجاه في الرياضيات ضمن اتجاه فلسفي عام اعتمد على مبدئهم الشهير في الإثبات "مبدأ الاثبات": بان القول يكون ذو معنى فقط عندما يتم اثباته او دحضه علميا. لكن الادّعاءات الرياضية كونها صحيحة او زائفة بواسطة التقاليد، كانت اما صادقة اوتوماتيكيا او كاذبة اوتوماتيكيا. باستعمالهم هذا الاطار، اكتسح الوضعيون كل الميتافيزيقا التقليدية ومعظم الفلسفة. النتيجة كانت نسخة مثيرة لرؤية للفلسفة صديقة للعلم.

هناك شيء من الاثارة تم تصويره في كتاب الفيلسوف البريطاني الفريد جول آير A.J.Ayer،اللغة، الحقيقة،والمنطق، الذي نُشر عام 1936، والذي نقد فيه الميتافيزيقا بكل اشكالها.

لسوء الحظ، بعض المشاكل تتعلق بتعاملها مع الرياضيات، لكن اكثر المشاكل تتعلق بمظاهر اخرى للاطار الشامل. فمثلا، النقاد قالوا ان الوضعية المنطقية كانت مرفوضة ذاتيا لأن مبدأ الإثبات لايمكن بذاته التحقق منه بنجاح، وبالنهاية الوضعية المنطقية اصبحت نظرية ميتة. لكن التخلي عن التقليدية الرياضية لصالح الوضعية المنطقية سيكون قفزا من سفينة صالحة للابحار. نحن لانزال رياضيين تقليديين بدون ان نكون اثباتيين حول المعنى. كذلك، نحن يمكن ان نكون رياضيين تقليديين بدون الحاجة الى ان تُعطى جميع الحقائق الرياضية نفس التعامل. متى ما تم ادراك هذا، فان الصعوبات التي يشعر بها الفلاسفة والرياضيون بمجرد ذكر التقليدية يجب ان تبدأ بالاضمحلال.

بالعكس، التقليدية تعد بتوضيح الرياضيات بدون عمل ادّعاءات غريبة او غير معقولة. ربما يجب التخلي عن الطبيعية ، لكن هذا لايتم عبر التنظير في المنطق والرياضيات. على خلاف معظم النظريات الفلسفية الاخرى للرياضيات، التقليدية منسجمة مع الطبيعية العلمية وربما حتى مع الفيزيائية.

بالطبع دفاع كامل عن التقليدية الرياضية يحتاج معالجة العديد من القضايا التي لم نذكرها هنا، تتراوح من معارضات فلسفية الى تحديات تقنية. لكن الهدف المتواضع هنا كان الجدال بان التقليدية تستحق الدراسة.

الرياضيات شيء محير. ولحل هذا الغموض نحن يجب ان نضع الممارسات الرياضية بشكل منسجم ضمن صورة معقولة للعالم. محاولات الافلاطونيين والخلقيين ليست ناجحة، والتقليدية تبقى هي الخيار الأفضل.

*** 

..................

* المقال لـ Jared Warren  استاذ الفلسفة المساعد في جامعة ستانفورد، نُشر في Philosophy Now عدد آب/ايلول 2023.

وظيفةُ الفِعْلِ الاجتماعي لا تُحدِّد تقاطعَ الماضي والحاضرِ في تاريخ الأفكار فَحَسْب، بَلْ أيضًا تُحدِّد طبيعةَ تفكيرِ الفرد في المُجتمع، وهذا يدلُّ على أنَّ المَسَارَ الحَيَاتي - فَرْدِيًّا وجَمَاعِيًّا - هو خَلِيطٌ وُجودي مِن الفِعْلِ والزَّمَنِ والتفكيرِ . والعلاقةُ بين هذه العناصر تَبَادُلِيَّة لا تَرَاتُبِيَّة، أي إنَّها دائمة التَّبَدُّل والتَّغَيُّر، ويُعَاد تَشكيلُها وصِيَاغَتُهَا باستمرار، وَلَيْسَتْ مَنظومةً جامدةً يَجِد كُلُّ عُنْصَرٍ نَفْسَه مُرتبطًا بالذي يَلِيه . وكما أنَّ الماء يَأخُذ شكلَ الإناءِ الذي يُوضَع فيه، كذلك هذه العناصر تَأخُذ شكلَ البناءِ الاجتماعي الذي تُوضَع فيه، وهذا يُسَاهِم في تحليلِ أبعاد شخصية الفرد عَلى الصَّعِيدَيْن الأخلاقي والقِيَمِي، وتفسيرِ معالم هُوِيَّة المُجتمع عَلى المُسْتَوَيَيْن الإنساني واللغوي، وإدراكِ الأهمية الفِكرية للفردِ والمُجتمعِ . وإذا كانت شخصيةُ الفردِ هي رِحلةَ البحثِ عن المَعنى لإيجاد أجوبة منطقية عن أسئلة الوُجود، فَإنَّ هُوِيَّةَ المُجتمع هي مَركزيةُ المعرفة في طبيعة التاريخ التي تُفْرِز تأويلاتٍ جَديدة للواقع المُعَاش، مِمَّا يُؤَدِّي إلى إعادةِ بناء الوَعْي خارج حُدود البيئة الضَّيقة، وإعادةِ تفسير الزَّمَن خارج إطار المصالح الشخصية العابرة . وإذا نَجَحَ الفِعْلُ الاجتماعي في تَحديدِ حَجْم الثَّغَرَات الوُجودية في الوَعْي، وكَشْفِ مَسارات القطيعة المعرفية في الزَّمَن، فَإنَّ الفِعْلَ الاجتماعي سَيُصبح فَاعِلِيَّةً حَيَاتِيَّةً تَمْنَع النظامَ الاستهلاكي القاسي مِن اقتلاعِ شَخصيةِ الفرد وهُوِيَّةِ المُجتمع مِن التاريخ . وكُلُّ فِعْلٍ لا يُصبح إرادةً للحياة سَيَتَحَوَّل إلى وَهْم، وكُلُّ شَخصيةٍ لا تُصبح تَشخيصًا للمَعنى سَتَتَحَوَّل إلى قِنَاع، وكُلُّ هُوِيَّةٍ لا تُصبح أُفُقًا نَقْدِيًّا سَتَتَحَوَّل إلى فَرَاغ .

2

بُنيةُ الفِعْلِ الاجتماعي لا تَنفصِل عَن وَعْي الفرد بالزَّمَن المَعرفي الذي يَتَجَسَّد في تاريخ الأفكار حِينًا، وحِينًا آخَر يَتَجَسَّد في الأحلام المَنْسِيَّة على هوامش تاريخ الأفكار. وَعَدَمُ الانفصالِ يَعْنِي أنَّ الترابط بَين الفِعْلِ الاجتماعي وَوَعْيِ الفرد لَيْسَ إجراءً آلِيًّا تِلقائيًّا، وإنَّما هو عَلاقةٌ قَصْدِيَّة ذات طبيعة إنسانية تُعيد الفردَ إلى الواقع المُعَاش، وتَحْمِيهما مِن الاغترابِ، وتُعيد المُجتمعَ إلى النَّسَق الثقافي، وتَحْمِيهما مِن الاستلاب . والزَّمَنُ المَعرفي لَيْسَ نَوَاةً مَركزيةً تَدُور حَوْلَها تفاصيلُ البناءِ الاجتماعي بشكل مِيكانيكي، وإنَّما هُوَ جَسَدٌ سائلٌ يَتِمُّ تَكثيفُه فِكريًّا وتاريخيًّا وثقافيًّا وأخلاقيًّا، مِن أجلِ تَوظيفِه في شَخصيةِ الفرد وهُوِيَّةِ المُجتمع، وهذا يُؤَدِّي إلى تَفعيلِ إرادة المعرفة في الحياة العملية، وتأكيدِ القُدرة الإنسانية على حُرِّيةِ التَّعبير والتَّحَرُّرِ مِنَ الخَوْف، وَبِنَاءِ علاقات اجتماعية قادرة على التماسك تحت ضغط النظام الاستهلاكي القاسي. ولا يُمكِن أن يُصبح تاريخُ الأفكارِ (المركزي والهامشي) صَيرورةً حَيَاتِيَّةً، وتفسيرًا لُغَوِيًّا دائمًا، وتَجسيدًا أخلاقيًّا مُستمرًّا، إلا إذا اندمجَ الفِعْلُ الاجتماعي معَ الزَّمَن المَعرفي ضِمْن العَقْلِ الجَمْعِي الباطني والظاهري، وَمَنْطِقِ اللغة الرَّمزي والتواصلي . وهذه التراكيبُ الوُجودية تُمثِّل مَنهجًا نَقْدِيًّا، وَشَبَكَةً مَعنويةً مُتكاملةً، ونَسِيجًا ماديًّا مَفتوحًا على حَتميةِ المَعنى الإنساني، واحتمالاتِ التأويل الاجتماعي. ولا يُوجَد فِعْلٌ يَتَكَرَّس خارج الزَّمَن، ولا يُوجَد زَمَنٌ يَتَحَرَّك في العَدَم، ولا شَرْعِيَّة للمُجتمع خارج إطار المعرفة، ولا جَدْوَى مِن المَعرفة في مُجتمع عَاجِز عَن التَّغيير .

3

مَاهِيَّةُ الفِعْل الاجتماعي تَقُوم على ثلاثة أُسُس: عَقْلَنَة الواقع المُعَاش (إضفاء شكل عقلاني عليه)، وتَحويل المسار الحَيَاتي إلى نَسَق ثقافي، واكتشاف الطبيعة الإنسانية في شخصية الفرد وهُوِيَّةِ المُجتمع . وهذه الأُسُسُ تَفتح آفاقًا جديدةً لتأويلِ تاريخ الأفكار ضِمْن اللغة بأبعادها الرمزية والعقلانية والعاطفية، وتأويلِ دَلالات اللغة ضِمْن تاريخ الأفكار بأبعاده الفِعلية والزَّمَنية والفِكرية. وهذه الآفاقُ الجديدة تُؤَسِّس مناهجَ نَقْدِيَّةً قادرةً على تجذير العلاقات الاجتماعية - مَعرفيًّا وَوِجْدانيًّا وإبداعيًّا - في السِّيَاقِ الواقعي، مِمَّا يُؤَدِّي إلى ربط تَسَلْسُلِ المُجتمع الهَرَمِي معَ حُرِّيةِ الفرد في التَّفكير والتَّعبير، وهذا الأمرُ شديدُ الأهمية، لأنَّه يَدفَع الفردَ باتِّجَاه نَقْد الذات لمعرفة نِقاط قُوَّته ونِقاط ضَعْفه، وإعادةِ رسم مَسَاره بَحْثًا عَن مَوقع في البناء الاجتماعي، كما يَدفَع المُجتمعَ باتِّجَاه تَطوير مَصلحته للتَّحَرُّر مِن التَّبَعِيَّةِ والإملاءاتِ.وتَطويرُ المَصلحة مُرتبط بإرادة المعرفة في الحياة الفِكرية، ومَركزيةِ الوَعْي الحَضَاري في الحياة العملية، لأنَّ المَعرفةَ أساسُ المَصلحةِ، يُوجَدان مَعًا، وَيَغِيبان مَعًا، ولا يَستطيع المُجتمعُ أن يُطَوِّر مَصْلَحَتَه، ويُرَسِّخ مَعْرِفَتَه، إلا إذا أكَّدَ سُلْطَتَه، وهذا لا يَتَأتَّى إلا بالتوافق بين شَخصيةِ الفرد وهُوِيَّةِ المُجتمع ضِمن تَحَوُّلات الفِعْل الاجتماعي في المَسَار الحَيَاتي .

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

(التراث الديني أنموذجاً)

التراث لغة: جاء في معجم القاموس المحيط:

وَرَثَ::: «ورث مال أباه أو مجده»: أي انتقل إليه ماله أو مجده بعد وفاته. ويشتق من ورث: يرث، ورثا وورثا وإرثا وإرثة ورثة وتراثا.. وغير ذلك.

والتراث مجازاً:

التراث خلاصة: ما خلفته الأجيال السابقة للأجيال اللاحقة لكي يكون عبرةً من الماضي ونهجاً يستقي أو يستلهم منه الأبناء الدروس ليَعبُروا بها من الحاضر إلى المستقبل. والتراث في الحضارة بمثابة الجذور في الشجرة، فكلما غاصت وتفرعت الجذور كانت الشجرة أقوى وأثبت وأقدر على مواجهة تقلبات الزمان.

ويتسم التراث أيضاً بالسمات، الحضاريّة، والاجتماعيّة، لواحدة من الأمم الماضية، فيعتبر موروثًا تتناقله الأجيال من جيلٍ إلى جيل سواء كان هذا الموروث ماديًا أو معنويًا. (1).

تتعدد أنواع التراث:

أولاً: التراث الحضاري: وهو ما تركه الأجداد من تراث حضاري قديم، كالآثار، والمسكوكات، والأوان، والرسوم، والنقوشات.

ثانياً: التراث القومي: ويشير إلى ما خلفته القوميات من قيم ماديّة ومعنويّة، باختلاف أنواعها، التي ظهرت في تاريخ هذه الأمة أو تلك، متخذة سمات وخصائص معينًة قامت بالمحافظة عليه.

ثالثاً: التراث الشعبي: وهو مزيجًا من التراث القومي والتراث الحضاري، حيث تتشكل للأمة صفات وخصائص تميزها عن غيرها من الحضارات.

رابعاً: التراث الاجتماعي: ويشير إلى التراث المتصل والمرتبط بجميع نواحي الحياة لمجتمع ما من المجتمعات، ويدخل فيه، العادات والتقاليد والفنون الشعبية والبنى النفسيّة والأخلاقيّة التي تتوارثها الأجيال.

خامساً: التراث الثقافي: يقترن هذا التراث بشكل خاص في الكتابة وما يتفرع عنها من فقه وعلم كلام وأدب وفنون مختلفة. (2).

موقفنا نحن العرب من التراث:

إن علاقتنا مع تراثنا، علاقة إشكاليّة في طبيعتها شكلاً ومضموناً. ففي الشكل لم نزل نتمسك بطقوس تراثية، وفي مقدمتها الطقوس الدينيّة بشكل خاص، وهي التي تتمثل في إحياء مواقف تراثيّة، ليس من باب استلهام قيمها الإنسانيّة بقدر ما يعود إحيائها وإعادة ممارستها إلى تأكيد الذات المجتمعية وتمايزها عن الاخر، عرقيّة كانت أم مذهبيّة. مثل إحياء عاشوراء، وعيد النيروز على سبيل المثال لا الحصر، وتجسيدها رمزيّا في طقوس ماديّة ملموسة عند إحيائها. اما تجسيدها مضموناً، فهو التمسك بجوهرها واعتباره موقفاً حياتيّاً مقدساً للمنتمي تضحى في سبيله حياة الفرد وحتى المجتمع. عاشوراء أنموذجا. وعلى هذا الأساس أو الموقف من التراث، يأتي ضياعنا في الحقيقة ما بين النقل من التراث أو النفاق له.. فالنقل منه، يأتي انطلاقاً من إيماننا الثابت والمطلق بأن ما أنتجه أجدادنا وخاصة في مجال الفقه وعلم الكلام وسيرة وقيم الصحابة وحوادث التاريخ ورجالاته عند التابعين وتابعي التابعين في القرون الهجريّة الثلاث الأولى،  أمراً مقدساً لا يأتيه الباطل لا من خلفه ولا من بين يديه. وبالتالي فكل جديد يطرأ على هذا التراث المقدس من خارجه هو بدعة وكل بدعة ضلالة. وهذا ما يجعلنا ننغلق على أنسفنا ونتخذ مواقف عدائيّة من المختلف عنا ديناً أو مذهباً أو موقفاً من الحياة، وهذا بدوره ما يساهم في خلق حالات من التناقض والصراع داخل مكونات المجتمع الواحد، غالباً ما تؤدي إلى حروب أهلية تأكل الأخضر واليابس.

أما نفاقنا للتراث، فيأتي من قوة حضوره في تفكيرنا وممارستنا اليوميّة وقدسيته، لذلك نحن مأسورون ومحكومون له بجهلنا وتخلفنا وغياب الحقيقة عنا في هذا التراث، أي عدم قدرتنا على فرز الغث من السمين فيه،  وهذا ما يجعلنا ننافق له ليس لإرضاء التراث بحمولته المخيمة على عقولنا المغيبة منهجياً ومعرفياً فحسب، وإنما خوفاً من حامله الاجتماعيّ المتعصب الذي لم يزل مسيطراً علينا أيضاً، ويمارس الإرهاب الفكري على كل من يخرج عن ما يفهموه هم أو يريدون الاتكاء عليه من هذا التراث، وبالتالي فكل من يستخدم العقل المعرفي التنويري، والمنهج العقلاني العلمي النقدي في قراءة وتحليل معطيات هذا التراث، والبحث عن الجوانب العقلانيّة فيه، هو ملحد وكافر وزنديق ومرتكب للكبيرة، ويجب أن يعزر، وإذا اقتضى الأمر لا مانع أن يهدر دمه. وبناءً على ذلك نقول:

1- لقد علمنا أبناءنا أو الأجيال التي أصبحنا أوصياء عليها، بأن أجدادنا فتحوا العالم لأنهم تمسكوا بقيم الدين، ولم نعلمهم بأن للفتوحات أساسها الاقتصاديّ والاجتماعيّ والسياسيّ والحضاريّ أيضاً. وأن موقفنا البراغماتي والمصلحي من الدين ساهم في تجسيد العبوديّة للآخر، إن كان من حيث تجسيد مسألة الإماء وما ملكت أيمانكم، أو من خلال أخذ أموال من فتحت أراضيه كغنائم حرب وتوزيعها على المقاتلين، وبالتالي تحويل الناس الذين لم يدخلوا الإسلام، أو حتى من دخله في البلاد التي دخلها ما سمي بالفاتحين، كموالي عليهم دفع الجزية.

2- قلنا لهم بأننا علميون، ولكننا لم نعلمهم ولم نتعلم نحن معنى العلميّة، التي أساسها الاقرار، بأن هناك قوانين موضوعيّة مستقلة عن إرادة الإنسان تتحكم في آليّة سير الطبيعة والمجتمع، ودورنا هنا لكي نكون علميين، هو اكتشاف هذه القوانين والتسلح بها، وتسخيرها لمصلحتنا. بل قمنا بفتح أبواب الجبر على مصراعيها كي تركن هذه الأجيال إلى الاستسلام والامتثال لأقدارنا المكتوبة على جباهنا، انطلاقاً من الفكر الدينيّ الجبريّ الوثوقيّ الاستسلاميّ. وحتى عند استخدمنا للعقل في تعاملنا مع التراث فقد استخدمناه لتثبيت النص التراثي المقدس وليس للحكم عليه كما يقول الأشاعرة.

3- وفي الوقت الذي نقول فيه للأجيال أيضاً بأننا تقدميون وعلمانيون، ونتفاخر بثورات تراثنا وقيمها الإنسانيّة ضد الظلم، كثورة القرامطة والزنج والخرميّة وغيرها، نجد هناك من يقوم بالعمل ضد هذه الحركات الإنسانيّة وفكرها، معتبرها حركات زندقة وكفر ومقاومة للإسلام الحنيف والخلفاء الصالحين في تاريخ الدولة العباسيّة.  وبفتح مئات الألاف من الجوامع والتكايا ودور تعليم وتحفيظ القرآن والحديث، والمدارس والمعاهد والجامعات الشرعيّة ومئات القنوات الدينيّة التكفيريّة التي تغذي الفكر السلفي الجمودي الامتثالي الاستسلامي التكفيري المعادي للإنسان وعقله، مؤكدين على اعتبار أصحاب المذاهب والفرق الدينيّة والطرق الصوفيّة، هم مراجعنا الفكريّة والسلوكيّة، بينما أهملنا فيه الفلاسفة والمفكرين التنويريين العقلانيين في تراثنا، كابن رشد والفارابي والكندي وابن سينا وابن خلدون وغيرهم .

4- قلنا لهم نحن اشتراكيين وطبقيين... تعلمنا الاشتراكيّة من تراثنا، إن كان من نصنا الديني المقدس: (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) (سورة القصص. الآية (5)، أم من قيم أجدادنا (القرامطة). ثم رحنا نلمس كيف مورست عمليّة الانسلاخ الطبقيّ عند قيادة أحزابنا الثوريّة، وكيف تمت عملية نهب ثروات الدولة والمجتمع، وتشيكل البرجوازيات البيروقراطيّة والطفيليّة.

5- قلنا لهم بأن أحزابنا ثوريّة وديمقراطيّة، ونحن ندعوا إلى صيانة الروح الوطنيّة ودولة القانون والحفاظ عليهما، في الوقت الذي حولنا فيه دولنا إلى دول طائفيّة وقبليّة وحزبيّة شموليّة، يسيطر على شعوبها الخوف، وما يولده هذا الخوف من انتشار للكذب والنميمة والتزلف والتزمير والتطبيل.

6- قلنا لهم بأننا نسعى لتحقيق الوحدة العربيّة، في الوقت الذي جعلنا فيه الوطن العربي محكوماً بالقطريّة من الناحيّة السياسيّة والجغرافيّة، ويعيش تحت مظلة بنى عرقيّة وطائفيّة وعشائريّة وقبليّة ومذهبيّة. أي ساهمنا وبقصد في جعل عالمنا العربي كتلاً بشريّة هي أقرب إلى حزمة من القش لا يربط أعوادها بعضها بعضاً إلا وهم وشعارات وطنية وقوميّة فضفاضة. فعاشت أمتنا العربية في مثل هذه الحالة في جزر جغرافيّة متفرقة اقتصاديّاً واجتماعيّاً وسياسيّاً.

ملاك القول:

التراث يشكل في الحقيقة الجذر التاريخي لأي أمة من الأمم، بيد أن هذا الجذر عندما أفرع وأثمر، أخذت تحيط به نباتات ضارة، منها من يعتاش على وجوده، ومنها من يعمل على يباسه وإلغاء وجوده. ولكن قوة الثراث وصموده تظل مرتبطة بنوعيّة التربة التي لم يزل مغروساً فيها، أي الشعب أو الأمة الحاملة لهذا التراث، فكلما كانت هذه الأمّة قويّة ومتماسكة وعقلانيّة وقادرة على التعامل مع تراثها بروح عقلانية نقديّة من خلال استلهام المواقف العقلانية والإنسانية فيه، وإقصاء كل ما يساعد على تفتيت هذه الأمّة وتهميش دورها في التاريخ، كلما استطاعت هذه الأمّة أن تجعل من تراثها جذوة حيّة لا تنطفئ، هذه الجذوة  التي تعمل دائماً على تنمية الإحساس بالهويّة الوطنيّة والقوميّة والشعور باستمراريتها لدى الفرد الجماعات. هذا إلى جانب دور التراث في تعزيز التماسك الاجتماعي واحترام التنوع الثقافي والإبداع البشري، وكذلك تعزيز قدرة الجماعات على بناء مجتمعات مرنة وسلميّة ويسود تكوينا الإيمان بالآخر والاعتراف به.

***

د. عدنان عويّد - كاتب وباحث من سوريّة

.......................

الهوامش:

1- (محمود زكي (30/8/2009)، "التراث العربي: هوية الماضي وزاد المستقبل"، موقع الألوكة، 5/2/2022. بتصرّف.).

2- موقع موضوع. بتصرف.

ركّز نصر علي التأويلية لكشف علاقة المفسر بالنص، فالتأويل -من منظور نصر- “المصطلح الأمثل للتعبير عن عمليات ذهنية على درجة عالية من التعمق في مواجهة النصوص والظواهر”.([1]) مستهدفة الوصول إلى المغزى دون القطع بأنها الحقيقة الكامنة في النص، وليس التأويل بتلك الدلالة بدخيل على التراث العربي؛ فقد عرفته الدراسات القرآنية واللغوية والنقدية، وإن كانت التأويلية عند نصر اكتسبت أبعادا جديدة من الهرمنيوطيقا في نسختها الغربية، فتأويلية نصر لا تخلو من حضور قوي للهرمنيوطيقا في بعض جوانبها عند ديلثى وهيتش وغيرهما من منظري الهرمنيوطيقا في الغرب، فهي إحدى منطلقات نصر نحو استحداث منهج جديد للعقل العربي في التعامل مع التراث، والتغلب على معضلة فهم النص، فلا يمكن لقارئ تأويلية نصر أن يفهمها دون التعرف على مفاهيم اللغة والنص وعملية الفهم والتفسير والتجربة والتاريخ وجدلية الثابت والمتغير، وعلاقة الجزء بالكل في التأويلية الغربية، فتلك العناصر اختمرت في نفس وفكر نصر منجزة تأويليته في نسختها العربية، فدشَّن نصر لتأويليته في نسختها العربية منطلقا من حوار جدلي مع النظرية في بيئتها الغربية عند أبرز كتاباها.

ولا يخلو توصيف نصر منهجَه في التعامل مع النظرية بـ (بالحوار الجدلي) من محاولةٍ لاستفزاز العقل بجمعه بين نفيضين الحوار والجدل، إلا أنّه علّل ذلك بأنّ النظرية قادمة من الغرب، فهي جزء من علاقتنا الجدلية بالغرب، فبعيدا عن الانكفاء على الذات، والتقوقع داخل أسوار تراثنا المجيد، وبعيدا عن الاستيراد والتبنّي المُطلق يأتى منهجه نقطة وسط بين الانفتاح الكامل والاكتفاء الكامل، فمنهجه كما يقول: “هو الأساس الفلسفيّ لأيّ معرفةٍ، ومن ثمّ لأيّ وعيٍ بصرف النظر عمّا نرفعه من شعارات أو نتبنّاه من مقولات ومواقف، إنّ أيّ موقف يقوم على الاختيار، والاختيار عملية مستمرّة من القبول والرفض”.([2])

وقد ارتبطت تأويلية نصر بالتراث بعلاقة متبادلة؛ فكلّ منهما أسهم في تشكيل الآخر، وتكوين رؤية مُعرِّفة به على النحو الآتي:

أولا: نظر نصر أبو زيد إلى التراث كوحدة كليّة؛ “فالتراث منظومة فكرية واحدة، تتجلى في أنماط وأنساق جزئية متغايرة في كلّ مجال معرفي خاصّ”.([3])  فتتجنّب تأويلية نصر فصل الأفكار الجزئية عن سياق منظومتها الفكرية العامة، فتعدّد التراث بين اللغة والنقد والبلاغة والعلوم الدينية؛ لا ينفى الوحدة في إطارها النّظري العام، فلم يكن سيبويه، مثلا، وهو يضع البناء النّظري، والقوانين الكليّة للغة العربية، معزولا عن إنجازات الفقهاء، والقرّاء، والمحدثين، والمتكلمين، ولم يكن عبد القاهر الجرجاني يتحدّث عن المجاز، منفصلا عن جدل المنشغلين بعلم الكلام، وأصول الفقه، حول التّأويل والتعطيل للمتشابه من آي القرآن الكريم، وكذلك، لا تنفصل معضلة تأويل النصّ عن غيرها من قضايا أكثر عُمقا تتّصل بعلاقة العالم بالله والإنسان، ومصدر المعرفة بين التوقيف من الله وحيا والاكتساب فهما وعقلا، وما سبق ذلك من اختلاف حول كون اللغة توقيفيّةً علّمها الله لآدم أم وضعيةً تعارف على وضعها الإنسان التي شهدت خصومة بين ثلاث اتجاهات المعتزلة المنطلق التأويلي لنصر وليد دراسات وتعايش طويل مع المعتزلة.

فالتراث كلّه كتلة واحدة مترابطة، وإن باتت حديثا فروعا منفصلة لا ينتبه الباحثون إلى طبيعة توحّدها، فتأويلية نصر ترى أنّ أيّ قراءة واعية للتراث، قراءة تصل الحاضر بالنصّ، وتربط النصّ بمختلف المجالات المعرفية للتراث.

“هناك فارق كبير بين الإيمان (النظري) بوجود علاقات تنتظم المجالات المعرفية للتراث، وبين التحقيق (العيني) من التأثيرات المتبادلة؛ التي تكشف عن وحدة المنظومة الفكرية للتراث. وهذا التحقّق العيني الملموس يجب أن يكون أحد هموم القراءة الواعية للتراث في أيّ مجال من مجالاته، فالقراءة التي تعكف على مجال ما عكوفا منغلقا تعجز عن اكتشاف الدلالات الحقيقية لمنجزاته المعرفية”. ([4])

ثانيا: تنطلق التأويلية، عند نصر، من موقف التساؤل الدائم، والمراجعة المستمرّة، حتى تكون القراءة للتراث منتجةً، وذلك بجعل القراءة تتحقّق في الحاضر، من خلال الانطلاق من وجود ثقافي تاريخيّ إيديولوجي، ومن أفق معرفي محدّد يبدأ من طرح أسئلة تبحث عن إجابات… “فموقف (التساؤل المستمر) و(المراجعة الدائمة) قادر – دائما- على تصحيح الأخطاء، والتقدُّم نحو مزيد من الاجتهاد. هكذا، تصبح القراءة فعلا مستمرا لا يتوقّف، يبدأ من الحاضر والرّاهن، وينطلق إلى الماضي والتّراث، ثم يرتدُّ إلى الحاضر مرةً أخرى، في حركة لا تهدأ، ولا يقرُّ لها قرار. لكنّها الحركة، التي تؤكد الحياة وتنفى سكون الموت. إنها حركة الوجود والمعرفة في نفس الوقت نفسه”([5]).

وتجد لهذا صدىً عند عبد القاهر؛ إذ يبدأ صوغ قضيته، ومناقشة فكرته، بطرح سؤال ينطلق منه.. ففي قضية إعجاز القرآن، التي تمثّل شُغله الشاغل، لا يقنع بآراء السابقين عليه في القول بالإعجاز دون ذكر الحجّة، وبيان العلّة، فيتناول القضية من خلال سؤال ينطلق منه مفاده: ما الذي يميّز كلاما من كلام؟ وما الصفة الباهرة، التي بهتت العرب في النصّ القرآني، فأحسّوا بالعجز إزاءه، على الرغم من فصاحتهم وقدرتهم البيانية: “هل سُمع قطُّ بذي عقلٍ ومُسكة استطاع أن يخرس خصمًا له قد اشتط في دعواه بكلمة يجيبه بها، فترك ذلك إلى أمور يُسفه فيها، ويُنسب معها إلى ضيق الذرع والعجز؟ أم هل عُرف في مجرى العادات، وفي دواعي النفوس ومبنى الطبائع، أن يدع الرجل ذو اللب حجته على خصمه، فلا يذكرها، ولا يفصح بها؟”([6])

ثالثا: تنفر التأويلية، عند نصر، من منطقة (اللاتعليل)، فلا يكتفى بالأقوال المرسلة، ويحرص على التفصيل في معرفة الخصائص، فالاختزال من آفات الخطاب الديني، وإحدى إشكاليات تحليل النصوص التراثية، “فاختزال الفكرة في كلمة يحول المعرفة إلى كبسولات تُغنى عن الدخول في التفاصيل استمرارا لعصر التلخيصات، التي كانت إيذانا بأفول عصر التقدُّم والازدهار في تاريخ المسلمين”([7]).

ويلتقي نصر، في بحثه عن العلل، واهتمامه بالتفاصيل، وعبد القاهر الجرجاني، الذي أنكر على القدامى عموميّة القول بلا تفصيل، وإصدار الحكم بلا تعليل، فيقول: “لا يكفي أن تقولوا: إنه خصوصيّةٌ في كيفيّة النّظم، وطريقةٌ مخصوصةً في نسَقِ الكلِمِ بعضها على بعض حتى تصفوا تلكَ الخصوصِيّةٌ وتُبيَّنوها، وتذكروا لها أمثلةً، وتقولوا: مثلَ كيت وكيت. ([8])

ولم تكن لتأويلية نصر أن تسلم من الخصومة مع المدرسة الحرفية القديمة والحديثة إذ تتبنى نمطًا فكريا تقليديا يرتكز على الثبات، والتثبيت، والدفاع عن الماضي بمضمونه مهما كان صادما، أو متناقضا مع العقل، وهذا من شأنه تزييف معرفة الحاضر بماضيه، وسدّ الطريق أمام مستقبل يتّخذ من اللحظة الحاضرة نقطة مراجعة وتقييم للماضي، الذي يؤدّي الوعي فيه إلى حُسن التخطيط للمستقبل. مما دفع إلى احتدام الصراع بين تأويلية نصر، والمدرسة التقليدية؛ لأن تأويليته تنال من أفكارهم التي توحِّدُ بين الدين والفكر، وتُلغى المسافة بين الذات والموضوع، وتحوّل النصوص الثانوية إلى نصوص أوليّة لها من القداسة ما للنصوص الأصيلة من الحسم الفكري والقطعي، وهذا يُفسّر الهجوم الذي تعرّض له في حياته وبعد رحيله.

عاش نصر قرابة أربعين عاما من البحث والدراسة مهموما بإنتاج وعي علمي بالمعنى الديني، منذ كان معيدا في تخصص الدراسات الإسلامية بكلية الآداب جامعة القاهرة؛ حتى وافته المنية وهو عميد المعهد الدولي للدراسات القرآنية بإندونيسيا- يطرح بعض الأسئلة عن طبيعة النص الديني، ويسعى لإنجاز منهج للتأويل، يفتح معنى النص للإجابة عن أسئلة معاصرة، منطلقا من الإنجازات التراثية والنهضوية متواصلا مع الفكر الإنساني، وكانت أمنيته أن يُكتب على قبره: “علامات طريق للزائرين وتعويذة تقيهم من خوف المقابر، مقابر العقول”.

***

أ.د عبد الباسط سلامة هيكل

.................................

([1]) إشكاليات القراءة وآليات التأويل. ص١٩٢.

([2]) إشكاليات القراءة وآليات التأويل. ص١٤.

([3]) السابق، ص٥.

([4]) السابق، ص٦،٥.

([5]) إشكاليات القراءة وآليات التأويل. ص٩.

([6]) الجرجاني، عبدالقاهر دلائل الإعجاز تحقيق محمود شاكر، دار المدني، جدّة، ط٣، ١٤١٣هـ -١٩٩٢م، ج١، ص ص٥٨١-٥٨٠.

([7]) أبو زيد، نصر حامد، التفكير في زمن التكفير ضد الجهل والزيف والخرافة، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط٢، تموز، يوليو١٩٩٥م، ص ص٨٥-٨٦.

([8]) دلائل الإعجاز،ج١، ص٤٨.

موسوعة الفلسفة على الانترنت (ماجد يار)

ترجمة: علي حمدان

***

الكسندر كوجيف (Alexander Kojeve)، (1902-1968)، كان مسؤولا عن التقديم الجاد لهيجل في الفلسفة الفرنسية في القرن العشرين، مؤثرا في عدد كبير من المفكرين الفرنسيين وبالذات أولئك الذين كانوا يحضرون دروسه حول ظواهرية العقل في باريس في الثلاثينات من القرن الماضي. كان تركيزه على فلسفة التاريخ لدى هيجل وقد اشتهر بنظريته حول نهاية التاريخ ومبادرته حول ما يسمى بالوجودية الماركسية. كوجيف يصل الى تفسير اصيل من خلال قراءة هيجل من خلال نظريتين  مزدوجتين المادية التاريخية لماركس وانطولوجيا هايدجر الزمنية.

نهاية التاريخ والرجل الأخير

رؤية كوجيف لتحقيق الغاية في التاريخ، مارست تأثيرا متجددا، في السنوات الأخيرة، ولاسيما في ضوء انهيار الشيوعية السوفياتية ودولها الحليفة. اذا فحصنا الرؤية التي صاغها كوجيف، يمكننا ان نرى بالضبط لماذا يستلهم انصار (او المدافعون) للنظام الرأسمالي العالمي لما بعد الحرب الباردة الهاما من أطروحة كوجيف.

بالنسبة لكوجيف، ستكون المصالحة التاريخية هي في تحقيق اعتراف متساو بجميع الافراد. سيزيل هذه الاعتراف الأسباب الرئيسية للحروب والصراعات، وبالتالي سيدخل العالم في سرادق السلام. وبهذه الطريقة، يبلغ التاريخ، من الناحية السياسية، في ذروته في النظام العالمي الذي تختفي فيه الطبقات - بمعنى هيجيلي، لم يعد هناك "سادة" و"عبيد"، فقط انسان حر يعترف ويؤكد حريته وحرية الاخرين بشكل متبادل.  تتخذ هذه اللحظة السياسية شكل القانون، الذي يمنح الاعتراف العالمي لجميع الافراد، وبالتالي يرضي رغبة الفرد الخاص في ان يتم تأكيده كمتساو بين الاخرين.

في الوقت نفسه، ستؤدي تقدم قدرات الانسان الإنتاجية، وقدرته على  استغلال الطبيعة وتحويلها لتلبية احتياجاته ورغباته الشخصية، الى الازدهار والتحرر. بالنسبة لكوجيف يجد تكامل القدرات الإنتاجية للإنسان لا تتحقق في الشيوعية، ولكن في الرأسمالية.  مثل ماركس، كان يعتقد  كوجيف ان الرأسمالية قد اطلقت القوى الإنتاجية، وانتجت ثروة لم تتخيل من قبل. علاوة على ذلك، كما يعتقد ماركس،، يعتقد ان اتساع الرأسمالية  كقوة متجانسة، تنتج معيارا ثقافيا عالميا يدمر الارتباطات المحلية والتقاليد والحدود ويحل محلها قيما برجوازية.

كوجيف يتبع منهجا مختلفا عن الماركسية ( وتياراتها مثل اللينينية) عن طريق رفضه فكرة ان الرأسمالية تحتوي على تناقضات ذات طابع حتمي ستؤدي بالضرورة الى انهيارها ويتم تجاوزها بواسطة الشيوعية. كان ماركس يعتقد ان ظروف العمال في القرن التاسع ستزداد سواء، حيث قد يؤدي ضغط المنافسة السوقية الى استخلاص مزيدا من ُفائض القيمة من العمال بوحشية، في محاولة للتوازن مع تراجع معدل الربح، وهذا سيؤدي الى افقار البروليتاريا، وعجز الرأسمالية عن تجنب مثل هذه الازمة سيستدعي  اطاحة علاقاتها من قبل طبقة العمال التي حصلت على الوعي الطبقي في ظل ظروف بؤسها. ومن ناحية أخرى، يعتقد كوجيف ان الرأسمالية في القرن العشرين وجدت سبيلا للخروج من هذه التناقضات، واستطاعت بواسطة نظام السوق من القيام بنجاح  في توزيع الثروة التي تنتجها. بعيدا عن ان تفقر بشكل متزايد فئة  العمال  أصبحت الطبقة العاملة تتمتع برخاء غير مسبوق. هذا هو السبب في ان كوجيف ، بداية من عام 1948، كان يعلن ان الولايات المتحدة هي النموذج الاقتصادي للعالم" الما بعد التاريخ"، الأكثر كفاءة ونجاحا في السيطرة على الطبيعة من اجل تلبية احتياجات الانسان المادية، وبالتالي اكد، قبل انهيار الإمبراطورية السوفياتية النهائي، ان الحرب الباردة ستنتهي بانتصار الغرب الرأسمالي، وذلك سيتم تحقيقه من خلال وسائل اقتصادية وليس عسكرية.

سوف يجلب نهاية التاريخ ايضا اشكالا متميزة أخرى، فلسفيا، ستنتهي بالمعرفة المطلقة التي تحل محل الايدلوجيا. فنيا، سيعبر الوعي المتصالح عن نفسه من خلال الفن التجريدي-بينما يلتقط الفن التصويري والتمثيلي التفاصيل الثقافية، فان هذه التفاصيل قد تلاشت، مما ترك الاشكال الجمالية التجريدية كتجسيد للوعي الشامل والمتجانس.

ومع ذلك، فان موقف كوجيف من نهاية التاريخ العالمي متناقض تماما. من جهة، يتبع ماركس عندما يرى العالم ما بعد التاريخ بصورة مثالية، حيث تكون حرية شاملة، وتحرر من الحرب والحاجة، مما يترك المجال ل"الفن والحب واللعب وما الى ذلك؛ باختصار، كل ما يجعل الانسان سعيدا". ومع ذلك ينتاب  كوجيف تشاؤم في الوقت نفسه. في انثروبولوجيته الفلسفية، يتم تحديد الانسان بنشاطه النافي(Negating)، بكفاحه للتغلب على نفسه والطبيعة من خلال النضال والتحدي. هذا هو التعريف الوجودي للإنسان. ومع ذلك، فان نهاية التاريخ تشكل نهاية هذا النضال، مما يحيد الانسان من النشاط الذي صاغ جوهره. نهاية التاريخ تجلب "موت الانسان" ؛ بشكل متناقض، ينحرم الانسان من النواة التعريفية لوجوده في لحظة انتصاره. ان الانسان ما بعد التاريخ لن يكون "انسانا" كما نفهمه، ولكن سيتم "تحييده"، بحيث تعتبر نهاية التاريخ "الإبادة النهائية للإنسان كما هو بمفهومه الصحيح".

تأثير كوجيف

كان  لفكر كوجيف تأثير عميق على فرنسا وخارجها. يمكن تتبع لعديد من الروابط في الفلسفة الفرنسية التي تدين بدرجات متفاوتة لتأثير كوجيف، حيث ان إعادة تفسيره المميزة للفيلسوف هيجل كانت حاسمة في استقبال الفكر الهيجيلي في فرنسا. ومع ذلك، هناك أيضا عدد من الفلاسفة المهمين الذين استفادوا مباشرة من الهيجيلية الكوجيفية واستخدموها بدورهم لإنشاء مواقف فلسفية متميزة.

أولا: يجب ان نلاحظ أهمية هيجيلية كوجيف في تطور فلسفة سارتر. لايزال هناك جدل مستمر بشان ماذا كان سارتر حضر شخصيا ندوات هيجل في الثلاثينات. ومع ذلك، يمكن اعتبار بشكل معقول ان القراءة الوجودية والماركسية "لعلم الظواهر" كانت بنفس التأثير الذي سببه " الوجود والزمن " لهايدجر للموقف في "الوجود والعدم " الذي قدمه سارتر. من الأمور المركزية لسارتر، التي تجد جوهر الانسان في حريته كنشاط سلبي خالص، يفصل وجوديا الانسان عن العالم الطبيعي. يتضمن تفسير سارتر لكيفية العلاقة بين "السيد والعبد"  تفسير كوجيف في إعادة صياغتها وجوديا، على الرغم من عدم وجود التفاؤل الذي يعثر على إمكانية التوفيق في هذا الصراع بين الموضوع والذات( بالنسبة لسارتر، فإن الجدلية هي بتكرار الصراع من اجل الهيمنة الذي يحاول فيه كل طرف تحقيق حريته من خلال اذلال كيان الاخر). علاوة على ذلك ، فإن محاولات سارتر اللاحقة للتوفيق بين المادية التاريخية والوجودية تدين بفضل كبير الى صياغة كوجيف للتوفيق بين "الماركسية والوجودية".

كان جاك لاكان احد الفلاسفة البارزين التي تعتبر نظرية كوجيف حاسمة بالنسبة له. تم تطوير نظرية لاكان للتطور النفسي الاجتماعي من خلال توليفة من فرويد والبنيوية، تحليلها من خلال تفسير كوجيف" السيد والعبد" التي أعاد صياغتها بصورة دياليكتكية. بالنسبة للاكان، متبعا كوجيف، يتم تعريف الذات البشرية قبل كل شيء بواسطة الرغبة، ان تجربة النقص، توأم لتجربة الرغبة، توفر الشرط الوجودي لتشكيل الذات؛ انها فقط من خلال المزج بين التجربة التوأم للنقص والرغبة الذي يصل من خلالها الكائن الى وعي يفصله عن العالم الذي كان في السابق مندمجا فيه تماما. علاوة على ذلك، كان لاكان يسرد  تطور الوعي الذاتي في الطفولة، الذي يتجسد في تحليله لمرحلة المرآة، يكرر الوساطات الذاتية للوعي  التي عرضها كوجيف لطلابه الفرنسيين (بمن فيهم لاكان) في محاضرات هيجل.

اثر كوجيف بشكل عميق أيضا على جورج باتاي وريموند كوينو، على حد سواء من خلال المحاضرات التي حضروها ومن خلال الصداقات التي ابقاها معهما لسنوات عديدة بعد ذلك. غالبا ما يرتبط كوينو مع اندريه بريتون والسرياليين (الذين انفصل عنهم في عام 1929) لكن رواياته تقدم رؤية للعالم تعتمد بشكل عميق على كوجيف. تصور العديد من كتبه الأكثر شهرة، الحياة في نهاية التاريخ؛ حيث لا يوجد حركة تاريخية أخرى او تقدم او تحول قادم، وشخصياته تعيش في نوع من "الحاضر الابدي" يهتمون بأنشطة الاستمتاع اليومية، حيث يعود التاريخ كشيء يمكن الاستمتاع به كمعلم سياحي، او كحالة تأملية للماضي، ينظر اليها من وجهة نظر نهايتها. باتاي (عالم الانثروبولوجيا، والفيلسوف، والمصور الاباحي عميد جمالية ما بعد الحداثة الحديثة، ومعاداة العقلانية)، كان ربما اكثر من صاغ توقعات كوجيف التشاؤمية في مواجهة " موت الانسان". كان انتصار العقل بالنسبة لباتاي، لعنة، ان انتصاره الحتمي في مسيرة الحداثة التي لا يمكن وقفها جلب معه التجانس والنظام وخيبة الامل. كان انتصار العقل كتاريخ يعني نهاية الانسان وموته، حيث تم استبدال القوة المفرطة والمدمرة للسلبية بتوازن متناغم ومتبادل. استجابة باتاي، وهي نضال تحرري ضد هذه القوى من خلال استحضار الرغبات المنحرفة والجنون والمعاناة، تأخذ  تشخيص كوجيف حرفيا، وتنظم مقاومة بطولية ضد تيار القوى التاريخية.

ربما كان تأثير كوجيف خارج فرنسا اكثر وضوحا في الولايات المتحدة. حيث حققت أفكاره شهرة جديدة وكشفا مع نشر فرانسيس فوكاياما نهاية التاريخ والرجل الأخير(1992)، في اعقاب الحرب الباردة. كان فوكاياما طالبا لألان بلوم، الذي كان بدوره تلميذا للسياسي المهاجر " اليميني" الفيلسوف ليو شتراوس. كان شتراوس هو الذي قدم جيلا من طلابه الى فكر كوجيف، في حالة بلوم، رتب له للدراسة مع كوجيف في باريس في ستينات القرن العشرين. لا يقدم الكتاب الذي يعد من اكثر الكتب مبيعا على مستوى العالم، اقل من تبرئة مظفرة لأطروحة كوجيف التي يفترض انها متبصرة بان التاريخ وجد نهايته في الانتصار العالمي للرأسمالية والديمقراطية الليبرالية، مع الزوال النهائي للماركسية السوفياتية، والهيمنة العالمية للرأسمالية، وصلنا أخيرا الى نهاية التاريخ. لا يوجد المزيد من المعارك التي يجب خوضها، ولا مزيد من التجارب في الهندسة الاجتماعية التي يجب تجربتها، لقد وصل العالم الى حالة متجانسة يسود فيها الجمع بين الرأسمالية والديمقراطية الليبرالية وجميع الأنظمة الثقافية والايدلوجية الأخرى ستكون جزء لا رجعة فيه من الماضي. يتبع فوكاياما كوجيف في ربط  انتصار الرأسمالية بتلبية الاحتياجات البشرية المادية. علاوة على ذلك، يرى انها الالية الأساسية لتوفير الاستحقاق والقيمة. تمثل النزعة الاستهلاكية والنمط السلعي، بالنسبة لفوكاياما، الوسيلة التي يتم من خلالها التوصل الى الاستحقاق. يرغب البشر في ان يقدرهم الاخرون، ووسيلة هذا التقدير هو التشبه باقتناء الأشياء التي يقدرها الاخرون انفسهم. ومن ثم يصبح نمط الحياة والموضة اليات للتقدير المتبادل في عالم ما بعد التاريخ الذي يحكمه منطق الفردية الرأسمالية.

***

يدل مفهوم الالتباس في أبسط معانيه على "الغموض"، وارباك المتلقي حول الرسالة الملتبسة التي يحملها الخطاب الملتبس، واضطراب المواقف حولها. ونحن نقصد به، إضافة إلى معنى الغموض والارباك، عدم وضوح التوجه الفكري للمشروع الخطابي لطه في الساحة الثقافية العربية الإسلامية؛ أو لنقل لدى الكثير من متلقيه.

ونخصص هذه المقالة للعوامل التي تساهم في صناعة وضعية الالتباس، والتي تحصلت لنا، ونحن نقرأ كتبه ومؤلفاته؛ ونتناولها في صورة وضعيات "فكرية"، ترجع، في رأينا، إلى ثلاثة أمور: أولها مهنة التعليم التي أتاحت له تدريس مجموعة من المواد المعرفية، تمكن بسببه من الاطلاع على حقول معرفية، تراثية وحديثة عديدة. ثانيها تعدد كتاباته، وتوزعها على مناحي معرفية وثقافية وتراثية عدة. ثالثها انتماؤها الديني؛ وهو الانتماء الذي يشكل الوجهة التي وظف ويوظف فكره وكتاباته لخدمته. ونجمل هذه الوضعيات فيا يلي:

1-الوضعية الفلسفية. 2-الوضعية المنطقية. 3-الوضعية العقلية. 4-الوضعية الكلامية. 5-الوضعية اللغوية واللسانية. 6-وضعية رجل الدين؛ والداعية إلى التصوف الطرقي. تعكس كتب ومؤلفات طه عبد الرحمن هذه الوضعيات، والتي يمكن تصنيفها إلى ثلاث مجموعات؛ مجموعة الكتب الفكرية والمعرفية منها المنطق والنحو الصوري، واللسان والميزان أو التكوثر العقلي (....) مجموعة المؤلفات السجالية والكلامية، وهي الأكثر مثل: تجديد المنهج في تقويم التراث، فقه الفلسفة، سؤال الأخلاق، بؤس الدهرانية، شرود ما بعد الدهرانية، الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري (...) مجموعة المؤلفات الدينية الصوفية، وتشمل: العمل الديني وتجديد العقل، ما العمل، دين الحياء، المفاهيم الاخلاقية بين الائتمانية والعلمانية، سؤال العنف بين الائتمانية والحوارية، من الإنسان الأبتر إلى الإنسان الكوثر (...).

والعلاقة بين المجموعات الثلاثة، وهي العلاقة التي توضح طبيعة مشروعه الخطابي، هي أن الصنفين الأول والثاني من مجموعات كتبه، هما مجرد أدوات أو آليات لخدمة وتكريس ما يحمله الصنف الثالث من مضامين محتويات ودعوة. ويعني ذلك أن اشتغال الأستاذ طه بالفكر والمعرفة، ومنها الفلسفة والمنطق، ليس اشتغالا أصيلا، وإنما هو اشتغال توظيفي واستغلالي؛ فهو يوظف المعرفة المنطقية والفكر الفلسفي لخدمة التراث والدفاع عنه وإعادة انتاجه، وهو العمل الذي يسميه ب: "النهوض بالموروث الديني". ولهذا يحدد لما يوظفه من معارف صفة "الخدمة"، بحيث لا يقبل أي علم إلا بقدر خدمته "للحقيقة الإسلامية". (تجديد المنهج: 84-85)

وأعاقه هذا الاشتعال التوظيفي الأداتي للفكر، من الابداع في مجال الفلسفة خاصة؛ رغم ما يعلنه ويصرح به بأنه ينشئ “فلسفة إسلامية"، أو أنه يعلم العرب والمسلمين تقنيات التفلسف التي تكسبهم القدرة على الابداع الفلسفي. فالرجل، في رأينا، قارئ جيد للفلسفة وتاريخها، وللمعرفة المنطقية القديمة والحديثة، ومتمكن منهما بشكل يؤهله للإبداع في مجاليهما، لكن الرجل بدل ذلك انحاز باتجاه مهمة الدفاع عن التراث، والعمل على اعادته إلى الخدمة، كما كان في الماضي والدعوة إليه.

ولكي يبرر المهمة التي انتدب لها نفسه وقلمه، أطلق دعاوى كثيرة مثل: إن الموروث ومعارفه الدينية، وليس الفكرية، تحمل فلسفة خاصة؛ فلسفة صيغت، ليس على مقتضى الفلسفة اليونانية المنقولة، والتي تعتمد ما يسميه "العقل المجرد"، وإنما اعتمادا على "ملكات" ومناهج أخرى، لا تقل مكانة في بناء "المعرفة" واكتسابها من العقل نفسه، وفي طليعتها "الروح" أو العقل الصوفي، الذي يسميه في تقسيمه الثلاثي للعقل بـ "العقل المؤيد"، والعقل الفقهي الذي يسميه بـ "العقل المسدد"، والعقل الكلامي الحجاجي، الذي تجسده المناظرة. (فقه الفلسفة، الفلسفة والترجمة:257)

من العقل الديني؛ بمكوناته الثلاثة تولدت "الفلسفة الإسلامية" في رأيه. وتنضاف هذه الدعوى إلى العوامل/الوضعيات السالفة في تكريس صفة الالتباس على فكر طه؛ هل هو فكر فلسفي ومنطقي، أو هو فكر ديني صوفي طرقي، أو هو فكر أخلاقي انساني. ونشرع، بعد هذا، في الإضاءة على الوضعيات المشار إليها، وضعية وضعية، في صورة عناوين عامة ومركزة.

1-الوضعية الفلسفية: يحضر طه في الساحة الفكرية والثقافية تحت عنوان الفلسفة، وربما يعد العنوان الأبرز لهذا الحضور لدى تابعيه ومريديه، وانطلاقا منه يتم تصنيفه بوصفه فيلسوفا. وتتمثل الأسباب التي ساهمت وتساهم في رسم هذا العنوان لطه عبد الرحمن فيما يلي: امتهان تدريس الفلسفة والمنطق، أنه قارئ للفلسفة وتاريخها، السجال مع فكر فلاسفة غربيين كبار، القول بإنشاء فلسفة بديلة؛ يسميها بأسماء عديدة منها "الفلسفة الحية" و "الفلسفة الائتمانية"، القول بتعليم المسلمين تقنيات التفلسف.

2-الوضعية المنطقية: لا يستطيع أحد التشكيك، في عالمنا العربي الإسلامي على الأقل، في تمكن طه عبد الرحمن من المعرفة المنطقية؛ ونن نرى أن هذا التمكن، إلى جانب تمكنه اللغوي واللساني، هو ابرز ما يؤهله للإبداع الفكري والفلسفي، لكنه اختار مسارا آخر، وهو تحويل هذه المعرفة الأرقى والأكفأ على بناء العقل والاقتدار والكفاءة العلمية والمعرفية، بشكل لا يضاهيها غيرها من المعارف والعلوم، إلى مجرد أداة خدمة لمعارف التراث، التي تحمل في مضامينها "فلسفة" لا تحتاج إلا إلى إعادة بنائها واحيائها على مقتضى اللغة الفلسفية، ولهذا انحصر تفاعله الإيجابي مع الفلسفة القديمة والحديثة والمعاصرة، في الجانب الآلي والصوري فقط؛ أي في أدوات وتقنيات انتاج الفكر الفلسفي. (من الإنسان الأبتر إلى الإنسان الكوثر: 73)

وهذه الآليات التي لا يخفي نقله لها من خارج المعرفة التراثية، كما نقل وينقل غيره في عالمنا الفكر الفلسفي، هي أقوى أدواته في النقد والاعتراض على المشاريع الفكرية والثقافية والتراثية لمن صنفهم ويصنفهم خصوما (نقده للجابري نموذجا في: تجديد المنهج: 82)؛ ونميز في هذه الوضعية بين:

ا- وضعية الاقتدار المنطقي، وتفصح عنها المعطيات التالية: تدريس مادة المنطق بالجامعة، التأليف في حقل المنطق، انجاز بحوث أكاديمية في المجال.

ب- وضعية "الاشتباه" حول الموقف من المعرفة المنطقية، وتدل عليها الأمور التالية: الانتصار والاحتفاء بنزع الطابع الصناعي على المنطق الأرسطي من طرف بعض الفقها؛ ابن حزم وابن تيمية خاصة (تجديد المنهج:329-350)، الانتصار للمنطق الطبيعي، تفضيل الجدل والمناظرة على المنطق.

3-الوضعية العقلية: يساهم موقف طه ونظرته إلى العقل بشكل أقوى في إشكالية التباس فكره، وذلك للأسباب التالية: التوسل وتوظف آخر مستجدات العقل الفلسفي ومنجزاته (التداولية مثلا)، القول بتعدد العقل وتكوثره، اتهام ما يسميه "العقل المجرد" بعدم القدرة على ارشاد الانسان، وعجزه على إدراك ما هو ضار وما هو نافع في الحياة، تفضيل العقل الديني بنوعيه الفقهي (المسدد)، والصوفي (المؤيد) على العقل الإنساني المشترك (المجرد)، وتصنيفه في المرتبة الأدنى في تقسيمه للعقل؛ فالدين أقوى من العقل ومنه يستمد المشروعية. (روح الدين: 152)

4-الوضعية الكلامية: تبرز هذه الوضعية أكثر من غيرها في كتاباته؛ فأغلب مؤلفاته تمت صياغتها بطريقة الجدل والحجاج، المؤسسة على الادعاء والاعتراض وتعبر بشكل أفضل من غيرها من الوضعيات عن المهمة "الفكرية" والثقافية للمشروع الخطابي لطه، والمؤهلة، في رأينا، لئن تحدد هويته الفكرية أو الثقافية، ويأتي في مقدمة عواملها: ممارسة الوظيفة المميزة لعلم الكلام وهي الدفاع، العمل على تجديد علم الكلام من خلال التأليف: أصول الحوار وتجديد علم الكلام (روح الدين: 391)، الانتصار للكلام الأشعري وتبني مقولاته (نفي الفاعلية عن الانسان، الكسب، العادة)، تفضيل الجدل والمناظرة (فقه الفلسفة، الفلسفة والترجمة:256)، تصنيف علم الكلام وأصول الفقه النموذج الأصيل للفلسفة الإسلامية. (روح الدين: 391) و(تجديد المنهج: 386)

5- الوضعية اللغوية واللسانية: تعكس كتابات طه عبد الرحمن تمكنه واقتداره اللغوي واللساني؛ وهي في الحقيقة، الوجه الآخر لاقتداره المنطقي؛ فهما معا يرشحانه لمهمة الابداع الفكري والفلسفي كما سبقت الإشارة إليه، وتدل على هذه الوضعية المعطيات التالية: تدريس فلسفة اللغة بالجامعة، التمكن من لغات انتاج الفلسفة القديمة والحديثة، التمكن من العربية وأدوات التوليد فيها، الاشتغال على المفاهيم الدينية والتراثية على مقتضى الصناعة الفلسفية الصورية المنطقية، واخراجها في صيغ وموازين تضفي عليها مسحة من الابداع، ويحدد لهذا التصنيع وظيفة أيديولوجية واضحة: حفظ الدين وانتزاع التصديق له (سؤال الأخلاق: 226)، تجعلها منسجمة مع الأنساق الخطابية الحديثة، توليد مصطلحات ومفاهيم كثيرة، وهو نتيجة للمعطى السابق، العمل على إعادة مفاهيم ومصطلحات الموروث الديني والتراثي إلى الخدمة.

6- وضعية رجل الدين والداعية؛ أو الوضعية الأيديولوجية: وتتمظهر فيما يلي: الدفاع عن المعارف الدينية التراثية، وتقديمها بوصفها تتضمن فلسفة ومناهج عقلية، إعادة انتاج الموروث الديني بإضفاء الصنعة الحديثة عليه، رجل التصوف والمنظر للتصوف الطرقي، العمل على تقديم السند الفكري للحركات الأصولية (مقدمة كتاب: العمل الديني وتجديد العقل)، رفض السياسة المدنية، والدعوة إلى اعتماد "التدبير" الديني للمجتمع عبر تقسيم السلطة بين الزاوية والسلطة، تتولى الأولى "التدبير الديني"، وتتولى الثانية "التدبير السياسي"، اعتبار نظام "الخلافة" التاريخي النموذج المثالي للحكم. (روح الدين: 360-361)

تلك هي الوضعيات التي استشكلنا من خلالها طبيعة حضور فكر الأستاذ طه في الثقافة؛ ولعل البعض يعترض بالقول إنها وضعيات تعكس تعدد أبعاد فكر طه وغناه؛ فنقول سيكون الأمر كذلك لو أن طه قارب قضايا تلك الحقول الفكري والتراثية من زاوية البحث العلمي، وما يفرضه من الموضوعية وخدمة الحقيقة، فضلا عن احترام الحدود المميزة لكل حقل؛ لكن ما يميز عمله واشتغاله هو التوظيف والخلط؛ فهو يوظف بعض تلك الحقول أداة لخدمة البعض الآخر، ولهذا تجده ينقلب في سياق واحد، أو داخل كتاب واحد من حقل على آخر بنفس منطق التوظيف أو التخديم.

وأحيانا يعرض مفاهيم وأفكار حقل تحت عناوين حقل آخر، ومثاله: أن يتحدث عن التصوف ومقولاته، ويعرضها تحت عنوان الأخلاق، أو مفهوم المقاصد تحت نفس العنوان، مما يجعل الثلاثة شيئا واحدا؛ ومثل عرض التصوف الطرقي في سياق "نقد" الحداثة، بوصفه بديلا لتجاوز أزماتها، ومثاله أيضا اعتماد "العقل المجرد" وآلياته ضد الخصوم ونقدهم، ثم تنزيله المنزلة الأدنى والأخس، بهذا العقل اكتسب ما اكتسب من معارف، وقدرات في القراءة والكتابة و (...)، فلو افترضنا طه بدون اطلاع على الفلسفة فهل يستطيع هو نفسه اليوم اعتمادا على العقل الصوفي، أو بعبارته "العقل المؤيد"؟ أن يكتسب ما اكتسب من معارف واقتدار على القراءة والكتابة (روح الدين: 495).

وخلاصة القول إن فكر طه ينتظمه حقلان معرفيان، يعدان أقوى حقول المعرفة تأثيرا في الحياة والانسان، هما المعرفة الفلسفية والمنطقية، والمعرفة الدينية؛ الأولى تؤثر في النخبة، بل تصنعها، والثانية تؤثر في العامة وتؤطرها. وفي هذا تتجلى قيمة أو خطورة ما يعرضه الرجل على المتلقي من تصورات ومواقف وأفكار وقرارات وأحكام (...) وللاقتراب أكثر من طبيعة مشروعه الفكري، نعرض نماذج لمواقفه وقراراته والتي، حتما، تكون قد مررت للنخبة.

يقول عن العلم والتقنية، بوصفهما النموذج الأبرز للمعرفة الحديثة، ولنمط الحياة الحديثة؛ أو للحداثة: "والقول الجامع أن النمط المعرفي الحديث غير مناسب؛ إن لم يكن غير صالح للتوسل به في بناء معرفة إسلامية حقيقية". ولا يكتفي بالتقرير؛ بل يدعو إلى التطهر منهما؛ إذ يحدد للصوفية الطرقية وظيفة: "تجديد التربية لمداركنا، حتى تطهرنا من هذه الطبقات المعرفية المترسبة". (سؤال الأخلاق:110-111)

فالطرقية تولد في المتصوف: "فاعلية تعيد إليه تكامله المادي الروحي، فينهض إلى تطهير نفسه من الطبقات العقلية والعلمية الموروثة عن النمط المعرفي المتداول". (نفسه: 112) ويقول عما يسميه "أخلاق العمق": "تدعونا إلى الشروع في بناء حضارة جديدة لا يكون السلطان فيها ل "اللغوس"، وإنما ل "الإيتوس"" (نفسه: 146)، ويقول في السياق ذاته: "لست أرى رأي من يقول بأن مآل التجديد الإسلامي رهين بإنشاء المؤسسات الصناعية، والمراكز التقنية ووضع البرامج التحديثية وتجنيد الطاقات المادية" (نفسه: 195)

وفي سياق نقد من يسميهم "محترفي التقليد" يضع من أسباب عدم التقليد: "لأن، في مجالات ثراتهم، غناء عن هذا الذي يقلدون ويتبعون فيه غيرهم". (بؤس الدهرانية: 183) وينتقد الأصولية في اقتباسها الآليات الديمقراطية في التدبير، ويبرره بأنه مخالف ل: "إرادة تدبير أمور المعاش بما يخدم المصالح الأخروية على طريقة المتقدمين". (روح الدين: 337)

وليس غريبا، بناء على ذلك، أن يصدر عن الرجل مثل هذا الموقف. يقول: "ليس في جميع الأمم، أمة أوتيت من صحة العقيدة وبلاغة اللسان وسلامة العقل مثلما أوتيت أمة العرب، تفضيلا من الله"، والقول: "إن العرب أوتوا رجاحة في العقل لم تتقدم لغيرهم"، ويقول إن الشعور بالتميز العقلي متفرع عن التفوق الديني واللغوي. لماذا؟ لأن: "من تكون له أفضل شريعة وأفضل لغة، لزم أن تكون له أفضل معرفة ما دام يستمد هذه المعرفة من أحق الحقائق التي جاءت بها أصدق شريعة". (تجديد المنهج: 252-254) فليس يحتاج المسلم إلى المعارف الحديثة، لأنه يملك "أفضل معرفة".

***

حسن العلوي -  كاتب مغربي

لو جمعت ما كتب عن الدين والاديان ووضعتها في باخرة.. لغرقت!. والمفارقة، انك لو قرأتها كلها فانك لن تصل الى مفهوم او تعريف محدد للدين!. ولا يعود هذا الى اختلاف ايديولوجيات.. توجهات من كتبوا: رجال دين، فلاسفة، علماء اجتماع.. بل ان الأختلاف موجود حتى بين الصنف الواحد منهم ما يجعلك تتفق مع عالم النفس وولف Wulff بقوله (ان تعريفا مرضيا للدين قد استعصى على العلماء حتى يومنا هذا) الموثق في كتابه علم النفس والدين 1996

وتعرّفه ويكيبيديا: (الدين هو نظام اجتماعي ثقافي من السلوكيات والاخلاق والنظرات العالمية والنصوص والاماكن المقدسة او النبوات او المنظمات التي تربط الانسانية بالعناصر الخارقة للطبيعة او المتعالية). وتعترف، مضيفة، بانه لا يوجد اجماع علمي حول التعريف الدقيق للدين.

ولقد سألت، باللغة الانجليزية، عن افضل تعريف للدين فجاءني الجواب، بعد ترجمته، بأن (الدين هو معتقد في اله او آلهة ونشاطات مرتبطة بهذا المعتقد مثل الصلاة او التعبد في بناية مثل الكنيسة).

وحين سالت عن اصل مصطلح(religion) جاءني الجواب بأنها من اصل فرنسي وانجلونورمان 1200 قبل الميلاد، وتعني احترام الشعور بالصح او الحق right، والالتزام الاخلاقي، والحرمةsanctity، والمقدس sacred.. وان اصلها يعود الى الكلمة الأغريقية rligio.

ولقد اطلعت على مؤلفات عربية رصينه خاصة بالدين (الأديان والمذاهب في العراق- رشيج الخيون، وموسوعة تاريخ الديان- فراس السواح...) فلم اجد تعريفا متفقا عليه للدين.. فخلصت الى نتيجة هي:

ان افضل تعريف نقترحه للدين هو:

ما يعتقد به الفرد بوجود قوة غير مرئية، يعتبرها مقدسة وتربط بينهما علاقة يراها متبادلة.

علماء النفس والدين

كانت العلاقة بين علم النفس والدين في النصف الاول من القرن العشرين ضعيفة ومرتبكة وفيها اشكالية خلاصتها ان عالم النفس لا ينظر للدين باهتمام وجدية، وان المتدين لا يعتبر علم النفس علما، ما يعني ان علم النفس والدين لا يمكن التوفيق بينهما، وانه من المستحيل ان يكون هناك علم بأسم علم نفس الدين. وبقي هذا الحال الى سبعينيات القرن الماضي، ففيه بدأت (المصالحة) وظهرت مقالات ومنشورات توظف علم النفس في تحليل موضوعات دينية، تطورت الى محاولات طموحة بينها ظهور كتاب في 1988 بعنوان علم نفس المعرفة الدينية لـ(واتس وويليمز Watts&Wplliams) ليشهد عقد التسعينيات الاعتراف علميا بعلم النفس الديني.

سنبدأ بايجاز مواقف فريقين متضادين من اشهر علماء النفس والاجتماع، نطرحها بموضوعية وحيادية، أي أن دورنا هو الناقل لوجهة النظر وليس الناقد لها.. ونبدأها ب(شيخ) النفسانيين، سيجموند فرويد.

1. سيجموند فرويد.

بدأت تأملات فرويد الأولى حول الدين من أوجه التشابه بين الأعراض العصابية والممارسات الدينية، وتتدرج في ايضاح رأيه بالدين عبر عدد من مؤلفاته، بدأ اهمها بالطوطم والتابو(1913)، ومستقبل وهم، وخلل في الحضارة، وانتهى بموسى والتوحيد(1937)، وصف الدين فيها بانه "عصاب قهري عام". واعلن ان التحليل النفسي كان آخر من تصدّى بالنقد للنظرة الدينية للكون، بأن ردّ اصل الدين الى عجز الطفولة وقلة حيلتها، وردّ مضمونه الى بقاء رغبات الطفولة وحاجاتها حتى سن النضج. موضحّا بأنه لا يتضمن على التحديد دحض الدين، لكنه ضروري لمعلوماتنا عنه، واننا (فرويد) لانتناقض مع الدين الا حين يدّعي انه ذو اصل الهي.

وعن اصل نشوء الدين يجيب فرويد بأنه اكتشف مبدأ " القدرة المطلقة للافكار " الذي يوجد بدوره في اساس السحر، وأنه مضى في نشوء الكون بمقارنته نقطة فنقطة بعصاب الوسواس القهري، وبيّن ان كثيرا" من مسلمات الحياة النفسية البدائية لا تزال فعّالة لذلك الاضطراب الغريب.

والواقع ان نظريات التحليل النفسي تفسر الدين بدلالة (وهم) ناجم عن تفكير مرغوب فيه يشكل بديلا لشخص الأب، وتصف الدين بأنه علاقة وهمية تتوسط بين العالم النفسي الداخلي للانسان وبين العالم الخارجي الذي يعيش فيه، ناجمة عن عمليات اسقاطية.واوضح في كتابه " مستقبل وهم " ان الدين ينبع من عجز الانسان في مواجهة قوى الطبيعة بالخارج والقوى الغريزية داخل نفسه.مع التوضيح بأن وصفه للدين بانه (وهم) لا يعني القول بأنها خاطئة بل يعني انها تخضع لمنطق الرغبة وليس منطق الحقيقة، تماما مثل وهم سكرتيرة بعمر عشرين سنة.. تحلم بانها ستتزوج مديرها ذي الستين عاما.

ولقد ذهب فرويد الى ابعد من وصفه للدين بأنه " وهم " بقوله ان الدين " خطر " لأنه يميل الى تقديس مؤسسات انسانية سيئة تحالف معها على مر التاريخ. فضلا" عن ان ما يقوم به الدين، يضيف، من تعليم الناس الاعتقاد في وهم وتحريم التفكير النقدي بأن يجعله مسؤلا" عما اصاب العقل من فقر.

ومع أن فرويد وصف الدين بأنه حالة سيكولوجية لقضية وهمية، فأنه لم يسفّه العقائد الدينية ولم يقل عنها انها كاذبة.

2. فروم:

يعرّف فروم الدين بأنه (أي مذهب للفكر والعمل تشترك به جماعة ما، ويعطي للفرد اطارا للتوجيه وموضوعا للعبادة). ويرى أن الدين على أنواع، فهنالك أديان توحيدية وأخرى متعددة الالهة، غير أنه يركز في نوعين يطلق عليهما:الأديان الانسانية humanistic والأديان التسلطيةauthoritarian. ويقصد بالنوع الأول ألاديان التي يأتي بها أشخاص مثل بوذا، الذي يعدّه معلما عظيما ويصفه " بالمستنير " الذي أدرك حقيقة الوجود الانساني وتحدث باسم العقل وليس باسم قوة فائقة على الطبيعة. أما الأديان التسلطية (يقصد السماوية) فان العنصر الجوهري فيها هو الاستسلام لقوة تعلو على الأنسان، والطاعة فيه هي الفضيلة الأساسية والعصيان هو الخطيئة الكبرى. وكما تصور هذه الأديان (التسلطية) أن الاله قوي شامل القدرة ومحيط علما بكل شيء، فانها تصور الانسان بالمقابل على أنه عاجز، تافه الشأن، ولا يشعر بالقوة الا بمقدار ما يكتسب من فضل الاله ومعونته عن طريق الاستسلام التام. فالاله في الدين التسلطي رمز للقوة والجبروت، وهو الأعلى لأن له القوة الأعلى، والانسان الى جواره لا حول له ولا قوة، على حد تعبير فروم.

وينّبه فروم الى أن الدين التسلطي العلماني (أو الدنيوي) يتبع هذا المبدأ نفسه. فهنا يصبح الفوهرر أو " ابو الشعب " المحبوب، أو الدولة، أو الوطن الاشتراكي.. موضوعا للعبادة، وتصبح حياة الفرد تافهة، وتتألف قيمة الانسان من انكاره لقيمته وقوته.غير أن فروم يفضل ما يسميه الدين الانساني على الدين التسلطي، لأن هدف الانسان في الدين الانساني هو أن يحقق أكبر قدرة من القوة، لا أكبر قدر من العجز، والفضيلة هي تحقيق الذات لا الطاعة، والايمان هو يقين الاقتناع المؤسس على تجربة المرء في مجال الفكر والشعور لا على تصديق قضايا وفقا لذمة المتقدم بها. والمزاج السائد فيها هو الفرح، فيما المزاج السائد في الدين التسلطي هو الحزن والشعور بالذنب، يضيف فروم.

3. يونج:

اذا كان فرويد (ضد أو عدو)الدين فان يونج (مع أو صديق) الدين. ولهذا السبب فقد دعمته الكنيسة، ليس فقط لأنه مع الدين بل لأنه انشق على فرويد واختلف معه في طروحاته بخصوص الجنس وعقدة أوديب واللاشعور والدين. فالقاريء لنظرية فرويد يستنتج منها أن الانسان هو الذي خلق الدين فيما يستنتج من نظرية يونج أن الدين بنظامه الأخلاقي هو الذي خلق الانسان.

ولقد بدأ اهتمام يونج بالدين بعد أن انفصل عن فرويد وتخلص من سلطته عليه، وتأسيسه مدرسة أو منهجا أسماه (علم النفس التحليلي)، فتوجه نحو دراسة الأساطير والرموز القديمة والطقوس وعادات الشعوب البدائية والاحلام وامراض العصابيين وهلوسات الذهانيين.. وخلص الى نتيبحة عدّ فيها شخصية الفرد نتاجا ووعاء يحتوي تاريخ اسلافه. ورأى أن الأساطير والتقاليد القديمة والرموز والأفكار المجردة تنتقل من جيل لآخر عبر مفهوم أطلق عليه مصطلح اللاشعور الجمعي Collective Unconscious الذي يعدّه مخزن آثار الذكريات الكامنه التي ورثها الانسان عن ماضي أسلافه، وأن الدين هو من بين الأمور التي يحتويها هذا اللاشعور الجمعي الانساني بصورة طبيعية بوصفه مسألة فطرية، ويستنتج: بما أن الدين أقرته المجتمعات عبر تاريخها الطويل، وما تزال، اذن فهو حقيقة موضوعية.

ويعرّف التجربة الدينية بانها شيء تسيطر عليه قوة خارجة عنّا، وأنها تتسم بضرب خاص من الخبرة العاطفية هي الخضوع لقوة أعل.ويرى ان انعدام الشعور الديني يسبب كثيرا من مشاعر القلق والخوف من المستقبل والشعور بعدم الامان والنزوع نحو الرغبات الغريزية.

4. فرانكل:

لموقف فرانكل الايجابي من الدين واقعة في منتهى القسوة. فهو طبيب نفسي نمساوي أمضى خلال الحرب العالمية الثانية ثلاث سنوات في أحد المعسكرات النازية.وكان والده وأخوه وزوجته قد لقوا حتفهم في معسكرات الموت. وعن هذه التجربة القاسية والمرعبة أصدر عام 1959كتابا بعنوان (من معسكر الموت الى الوجودية)أعاد طبعه عام 1963 بعنوان (الانسان يبحث عن المعنى) وصف فيه الاذلال والمهانة والرعب والتعذيب التي عاشها في السجن، وشرح كيف استطاع هو وآخرون أن يعيشوا نفسيا في ظروف معسكر الموت. واستنتج بأنه استطاع أن يحافظ على توازنه الانفعالي لكونه نجح في ايجاد معنى لمعاناته المريرة التي ربطها بحياته الروحية، وأن روحه هي التي أعطته الحرية لتجاوز ظروف.. الابادة فيها متوقعة كل ساعة.

والذي جعل فرانكل يتحول من منهجه الفرويدي الى منهج روحي وجودي هو أنه لاحظ أن السجناء الذين كانوا معه في معسكر الاعتقال كانوا على نوعين، الأول:شحبت وجوههم و هزلت أجسامهم وصاروا جلدا على عظم، والثاني: صمدوا وظلوا في صحة جسمية ونفسية أفضل.. وتبين ل، بعد دراستهم، أن الصنف الأول فقدوا الأمل في الخلاص وصاروا كالمحكوم بالاعدام الذي ينتظر لحظة التنفيذ، فيما النوع الثاني كان لديهم ايمان ديني او روحي منحهم القدرة على تحمل المعاناة والتعلق بالحياة.

ويعتقد فرانكل ان الامراض النفسية وبخاصة الكبت تنشأ حين لا يكون للفرد غرض او هدف في العيش او الحياة، وأن الانسان يكون أكثر مقاومة للمرض النفسي وأسرع تعافيا منه اذا كان في حياته معنى يشكل له هدفا وغاية، وأن الايمان من أهم المعاني التي تمنح لحياة الانسان معنى وجدوى، ويكون لوجوده أهمية ومغزى، اوصلته الى ابتكار طريقة جديدة في العلاج النفسي أسماها (العلاج بالمعنى Logo Therapy)، يوظّف فيها الأفكار والنصوص الدينية التي يعتقد بها المريض في تصحيح ما لديه من أفكار مرضية أو مغلوطة.وابتكر نوعا جديدا من العصاب أسماه (عصاب اللامعنى أو الفراغ الوجودي) حدد أهم أعراضه بالشعور بالملل والتعاسة والفراغ الداخلي وعدم الرضا والاحساس بأن الحياة لا لون ولا طعم لها بالرغم من أنه لا يوجد سبب واضح لهذه الأعراض.ويعزو فرانكل أسباب العزلة والاغتراب الى فشل صاحب المعاناة في أن يجد معنى واحساسا بالمسؤولية ازاء وجوده. وبهذه الانجازات فقد عدّته مجلة تايم الأمريكية بأنه يمثل المدرسة النمساوية الثالثة في العلاج النفسي بعد فرويد وأدلر.

ونوضّح، من جانبنا، أن في الفلسفة الوجودية فريقين من الوجوديين، الأول: وجوديون مؤمنون، ويمثلهم جابريل مارسيل وكارل يسبرز من الفلاسفة، وفرانكل من علماء الطب النفسي.والثاني: وجوديون ملحدون، ويمثلهم هايدجر وسارتر من الفلاسفة، ورولو مي من علماء النفس.

ويرى الفريق الأول (المؤمنون) أن للانسان طبيعة بشرية خلقه الله بمقتضاها، ثم بعد ذلك يختلف الناس ويتباينون، فيما ينكر الفريق الثاني (الملحدون) أن للانسان شيئا أسمه الطبيعة البشرية، لأنه لا يوجد الربّ الذي تمثل وجود هذه الطبيعة.. كما يرون.

مؤكد انك ستتساءل عن موقفنا نحن من الدين.. ولك ان تجده في كتابنا (الدين والسلطة).. وقد نوجزه في مقالة قادمة.. مع تساؤل لك: مع ايهم انت من هؤلاء الأربعة في موقفهم من الدين؟.

***

أ.د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

العمل على إسترجاع التراث الكلي .

1 – في ماهية التراث الإسلامي: إن مشروعية السؤال المطروح في عنوان هذه الدراسة تنبع من كون عنوان الفصل فيه شذوذ عن العرف وخروج عن المألوف. فإذا كان محمد أركون ينحدر من ثقافة عربية إسلامية وإذا كانت مصادر بحوثه قد كتبت باللغة العربية، وإذا كان جميع الذين إهتموا مثله بالتراث قد إعتبروا أن الصفة الأولى لهذا التراث هي العربية والثانية هي الإسلامية، نذكر على سبيل المثال محمد عابد الجابري الذي يصف التراث بأنه تراث عربي إسلامي (1) ومنهم من ذهب إلى أبعد من ذلك فلم يعترف بالصفة الثانية (الصفة الإسلامية) مثل الطيب تزيني، والأمر واضح بالنسبة إليه من خلال عنوان كتابه " مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط " (2) . فلماذا ينكر أركون على التراث صفته العربية ويصر على نعته بالتراث الإسلامي؟

للإجابة على هذا السؤال ينبغي الرجوع إلى مشروع أركون في قراءة التراث . إن هذا المشروع الشمولي ينزع إلى تقصي بواكير الظاهرة الدينية في المجال العربي أولا وكيفية تفاعلها مع الواقع. لا ننسى هنا أن الظاهرة الدينية إخترقت مجالات أخرى، إضافة إلى المجال العربي، نذكر هنا تركيا وإيران والبربر في شمال إفريقيا،...فأركون يعود إلى الأصل، إلى اللحظة الأولى إلى ما يسميه " التجربة التأسيسية " وهنا يكمن تميزه عن غيره ممن أهتموا بالتراث، فمعظمهم انطلق من " عصر التدوين " أو حتى من بعد " عصر التدوين " .إن أركون يعتبر أن الفترة الأولى التي شهدت انبثاق الوحي ينبغي أن تضاء وتفهم في كل أبعادها حتى تكون المنطلق الأساسي لفهم التراث وإعادة قراءته. فلهذه الرؤية في تناول التراث بالبحث صلة قوية بمشروع آخر يسعى أركون إلى بلورته وهو " نقد العقل الإسلامي " (3) وهو كل عقل لامسته الظاهرة الدينية – أي الإسلام- سواء كان عربيا أو غير عربي. لأن العامل الديني يلعب دورا هاما في مجتمعات عديدة ومختلفة جدا تتجاوز الوطن العربي وتشمل الهند وباكستان وأندونيسيا وإيران وغيرها، إذن فالظاهرة الدينية ومن ورائها التراث المرتبط بها تتجاوز الدائرة اللغوية العربية لتجد صياغاتها في لغات قومية أخرى. فالتراث العربي هو إحدى التعبيرات عن الظاهرة الدينية – أي الإسلام – ولا يمكن أن يكون كل التراث الإسلامي بأي حال من الأحوال، فلو استنفدنا تحليل ما استطاع أن ينتجه العقل العربي في اللغة العربية داخل التجربة التاريخية للمجتمعات فإننا لن نستطيع أن نطلق حكما شاملا على نوعية إنتاج العقل الإسلامي وآلية إشتغاله وكيفية تحريكه لوعي الفرد والمجتمع. يقول محمد أركون متحدثا عن الظاهرة الدينية وعن شموليتها: " وإذا فنحن نهدف من خلال دراستنا النقدية التاريخية للعقل الإسلامي إلى الإمساك بالظاهرة الدينية في عموميتها الشاملة التي تتجاوز من حيث الإتساع الدائرة اللغوية والقومية الواحدة سواء أكانت عربية أم تركية أم إيرانية أم باكستانية أم غير ذلك. بل سوف نذهب إلى أبعد من ذلك ونقول إنه إذا ما أنجزنا دراسة للعقل الإسلامي على هذا النحو فسنكون أكثر قدرة على فهم العقل العربي ضمن مقياس أن نتجنب عندئذ كل الأحكام المسبقة الشائعة بخصوص العروبة والإسلام وضمن مقياس أن الفكر العربي لا يزال محكوما حتى هذه اللحظة بالمقولات الأساسية للفكر الإسلامي القروسطي "(4)

إن ما قاله أركون عن العقل الإسلامي ينطبق أيضا على التراث الإسلامي بل كلا الأمرين مترابطان فلا يمكننا أن نتحدث عن عقل ما إلا من خلال آثاره سواء منها المنطوقة أو المكتوبة ويتحدث أركون في نفس المحاضرة على إبن رشد (ت 595 ه/ 1198 م) مبينا علاقة الفكر باللغة يقول : " وإذن فآبن رشد كان يتحدث آنذاك وهو محكوم بمقولات العقل الإسلامي لا العربي، لأنه لم تكن توجد آنذاك مقولات عربية محضة للمعرفة، فالمقولات التي كان يستخدمها هي مقولات إسلامية. إنها مقولات الشريعة المحددة من قبل القرآن وإذا فنحن هنا داخل أرضية العقل الإسلامي...حتى لو كان إبن رشد يتكلم بالعربية فالعربية هنا ليست إلا أداة للتعبير ولو أنه عبر باللغة التركية أو الفارسية هو مسلم لقال الشيء نفسه، ومن يطلع على محاجات المفكرين المسلمين من أتراك وإيرانيين باللغتين التركية والفارسية يكتشف أنهم يستخدمون المقولات نفسها التي استخدمها إبن رشد بالضبط وبالتالي فهذا يبرهن على أنها مقولات إسلامية المضمون عربية الصياغة " (5). إن تشابه المضامين في تراثات الدول والأقاليم التي إعتنقت الإسلام حدا بأركون إلى الحديث عن تراث إسلامي عابر للثقافات ومقللا في الآن نفسه من دور اللغة التي تصاغ فيها الأفكار والرؤى لكأننا إزاء أولوية الفكر على اللغة وهو توجه إختاره أركون في تعاطيه مع مسائل التراث، في حين أن علاقة اللغة بالفكر إشكالية. فقد ذهب برغسون وديكارت وفاليري إلى الإقرار بوجود إنفصال بين اللغة والفكر وأن الفكر أسبق من الناحية الزمنية عن اللغة، في حين ذهب غيرهم في إنتقادهم لهذا التوجه من أمثال دي سوسير وميرلوبونتي وهاملتون وهيغل إلى أن العلاقة بين اللغة والفكر علاقة تلاحم وتلازم ولا يمكن الحديث عن أسبقية أحدهما عن الآخر، فهما ينبثقان في آن واحد. إن الإختيار المنهجي الذي تبناه أركون من شأنه أن يطمس الخصوصيات الثقافية لكل الشعوب التي لامستها الظاهرة الدينية – الإسلام تحديدا -، كما أن ما يطرحه يساعد على تغذية يوتوبيا الأمة الإسلامية الواحدة ذات القيم الروحية الجامعة، حيث يتم إهمال التاريخ واللغة في نحت المميزات الحضارية للشعوب ويقلل من الثراء الذي يمكن أن يغنمه الإسلام من تلك الثقافات.

2 – التراث والتراثات في المجال الإسلامي:

لقد قدم التراث الإسلامي نفسه في مرحلة تشكله بديلا عن التراث السابق له وإعتبر نفسه يؤسس خصوصيته بعيدا عن سلفه ودون الإرتباط به ورمى بذلك التراث العربي السابق للإسلام كليا في دائرة الجهل والفوضى والظلم والضلال والوثنية والقمع والتعسف أي بكلمة أخرى رمي به في " ظلمات الجهل " وفي هذا تجن على الحقيقة والتاريخ لأن الإسلام لا يمكنه أن ينقطع كلية عما سبقه حتى يتسنى له تأسيس إختلافه، فالنص القرآني حافل بالإشارات التاريخية والعقائدية والأخلاقية التي تفند هذا الزعم التيولوجي، وهذا التصور المثالي والمتعالي. لقد حاول التراث الجديد المرتبط بظاهرة الوحي، طيلة عشرين عاما من النضال في مكة والمدينة، أن يرسخ نفسه داخل ساحة اجتماعية وثقافية معادية ورافضة له .هذه القوى المعادية خاض ضدها حربا ضروسا على كل المستويات الرمزية والدينية والتقديسية ثم الإجتماعية والسياسية والعسكرية وحتى الإقتصادية ثم أصبح بعدئذ التراث الإسلامي. إن التراث الإسلامي في صيغة المفرد هو تراث يستند إلى الإسلام بمعناه المتعالي اللاتاريخي، لأنه يمثل التعبير المستقيم – الأرثوذكسي – الوحيد عن التراث المثالي الذي تلقته الأمة المثالية. يقول أركون متحدثا عن هذا التراث المتعالي: " إن التراث المتعالي الأكبر إذن ليس إلا تجسيدا لدين الحق في التاريخ، إنه قوة لتقديس الزمكان وتنزيههما. هذا الزمكان الذي تتجلى فيه حياة الأمة . إن تصورا كهذا يفسر لنا السبب في أن كل عضو من أعضاء الأمة يشعر بنفسه معاصرا بشكل مباشر وفي آن واحد لكل أعضائها السابقين والأحياء واللاحقين. هذا التصور يعطي الأولوية للدينامو الروحي الخاص بالتراث، هذا الدينامو هو الذي يغذي شعور الأمة بهويتها ويحرك آمال المؤمنين ويخلع غاية أخروية وأنطولوجية على تصرفاتهم التاريخية في الوقت الذي يرفض فيه أن يأخذ بعين الاعتبار تاريخية (6) كل هذه المعطيات " (7). يتولد عن هذا التصور رفض إمكانية وجود تراثات متعددة، حتى وإن وجدت عبر التاريخ تراثات متنوعة، لأن كل واحد منها محكوم بعقلية دوغمائية تقوم على النفي والإقصاء وتحتكر لنفسها التراث الصحيح، مدعية امتلاكها له دون غيرها فهي المخولة وحدها التحدث عن التراث المثالي، رغم أن الواقع الإجتماعي والثقافي لشبه الجزيرة العربية والبلدان المجاورة، ومنذ موت النبي يكشف عن تاريخية كل هذه الفرق الإسلامية – السنة، الشيعة، الخوارج،...و يسجل الصراعات الدموية العنيفة التي دارت بينها وكذلك المناقشات الخصبة أيضا .إن كل منظومة معرفية لكل فرقة من هذه الفرق ظلت منغلقة وظلت تصوراتها لا تاريخية، وهنا يطرح أركون إعادة تحديد الإسلام بصفته عملية إجتماعية وتاريخية من جملة عمليات وسيرورات أخرى.

صحيح أن هذه العملية بالذات قد أدت إلى تشكيل تراث موصوف بأنه إسلامي ولكن ينبغي أن لا ننسى أنها كانت واقعة في تنافس دائم مع عمليات أخرى وخطوط أخرى (8) فالمقاربة التاريخية هي التي تكشف أن الإسلام كان نتيجة سيرورة إجتماعية وتاريخية وهي التي تمكننا من التعرف على المشاكل التي يطمسها المفهوم المتعالي للتراث الإسلامي وأبرزها عملية الإنتقال من الثقافة الشفاهية – المتوحشة – إلى الثقافة المكتوبة – العالمة – وتمكننا أيضا من الإنتقال من مفهوم التراث الإسلامي بصيغة المفرد إلى مفهوم التراثات في المجال الإسلامي بصيغة الجمع. فالتراثات هي الأقرب إلى الحقيقة وإلى التاريخ وهي تعطي للإسلام بعده الإجتماعي والتاريخي ومن خلالها تتمظهر مستويات الوعي الديني عبر التاريخ ويؤكد أركون على البعد التاريخي للإسلام فيرى أن الإسلام لا يكتمل أبدا بل ينبغي إعادة تحديده وتعريفه داخل كل سياق إجتماعي- ثقافي وفي كل مرحلة تاريخية معينة لكن هذا لا يمنع من أن نقول إن للإسلام عناصر تكوينية ثابتة هي التالية : النص القرآني، مجموعات نصوص الحديث النبوي والتشريع العديدة والمختلفة، الفرائض الشرعية الخمس والشعائر اللازمة لتأديتها، الدينامو الروحي المشترك لدى كل المؤمنين والذي يشكل خاصية مميزة للترا ث 9 (9) والمقصود بالدينامو L ' ethos  القوة الحيوية المحركة، في الواقع إن هذه الكلمة تعني مجموعة التصورات الأخلاقية والروحية التي تشكل القوة الداخلية لوعي فئة إجتماعية معينة. إن تثبيت هذه العناصر وترسيخها قد تطلب وقتا طويلا إلى حد ما وهذا ما يدعوه أركون بالسيرورة le processus  الإجتماعية والتاريخية لتشكل التراث. هذه الصورة التي يقدمها أركون عن تشكيل التراث الإسلامي تغاير تماما الصورة اللاتاريخية الشائعة عموما لدى المسلمين فهي صورة تاريخية أركيولوجية لأنها تحفرفي الطبقات المترسبة من التراث لتتبع الأسباب والخلفيات الكامنة وراء كل مرحلة من مراحل تشكل التراث . فآنطلاقا مما رأيناه يمكننا أن نستنتج المعادلة التالية: العناصر التكوينية الثابتة للإسلام وعددها أربعة + سياق إجتماعي = تراث إسلامي. وهكذا نلاحظ أنه كلما تغير السياق الإجتماعي الثقافي تغير تبعا له التراث المتولد عنه وما على التاريخية بآعتبارها منهجا في البحث إلا الكشف على أسباب هذا التغيير وعلى أبعاده وكذلك على تأثير هذا التغيير في التراث نفسه.

3 – مفهوم التراث الإسلامي الكلي La tradition Islamique exhaustive

رأينا في العنصر السابق أن التراثات متعددة في المجال الإسلامي وهي وليدة السياقات الإجتماعية والثقافية وفي أحيان كثيرة نتاج إختلافات تيولوجية أو صراعات إيديولوجية وأركون بقدرما يقر تنوعها فإنه يرفض قراءتها كل واحدة على حدة ويرى أن قراءة التراث الإسلامي لا بد أن يسبقها عمل جبار يتمثل في استرجاع التراث الإسلامي الكلي، فما المقصود بالتراث الإسلامي الكلي؟ إنه التراث السني والتراث الشيعي والتراث الخارجي والتراث المعتزلي وكل تفرعاتها العديدة ينضاف إليها التراث العربي السابق على الإسلام وتراث الإسلام الشعبي والشفوي الذي يسود الأقليم البعيدة والطبقات الفقيرة والمتهم في أغلب الأحيان بالزندقة من قبل الإسلام الرسمي المرتكز على الكتابة والمستند إلى سلطة الدولة المركزية. إن هذا المفهوم – التراث الإسلامي الكلي – خاص بأركون وهو دعامة أساسية في تصوره للتراث وهو في الآن نفسه محاولة لتجاوز مفهوم التراث المبتور والباتر La tradition mutilée et mutilante الخاص بكل فئة منعزلة ومنكفئة على حقيقتها المطلقة التي تحذف ما عداها . وإزاء هذه الوضعية يطرح أركون ثلاث مهام، على الفكر الإسلامي الإضطلاع بها حتى يمتلك القدرة على الإجابة عن الأسئلة المحرجة وتجاوز التحديات المطروحة عليه وهي أولا إعادة قراءة القرآن، ثانيا إسترجاع التراث الإسلامي الكلي، ثالثا النضال ضد التراثات المبتورة والباترة. يقول أركون: " إن إعادة قراءة القرآن هي فعلا عودة لتحمل المسؤولية الفكرية وإذا أمكن الوجودية ليس فقط للنص الموحى ولكن لكلية الحالات والإنجازات التاريخية المرتبطة بعنوان ما هو الكلام التأسيسي ( كلام الله كما يقول المسلمون) هذه الكلية تظل بالتأكيد المثال الذي يسعى إليه المؤرخ دون أن يبلغه، ولكن بالإبقاء على ضرورة هذا المثال نساهم في توجيه البحث نحو معرفة التراث الكلي وفي الآن نفسه نسحب الثقة discréditer من التراث المبتور والباتر "10) ويعتبر أركون أن سحب الثقة هذا من شأنه أن يمكن التاريخ من الانفلات من الإستعمال الإيديولوجي الذي نجده داخل كل سياج ثقافي، لأن التراث يمارس على نفسه أثناء تطوره عملية إنتقاء وحذف اضطرارية حسب حاجيات المجموعة وإغراءات اللحظة فهو يتقبل العناصر الجديدة أو يرفضها ويضخم الإنجازات السابقة أو يقلصها وهو يؤيد السلطة القائمة أو يعارضها الخ...و هكذا تنعكس هذه العملية على التراث فيتشظى الإسلام إلى تراثات سنية وشيعية وخارجية واعتزالية ...و هذه التراثات تتفرع عنها تراثات أخرى عديدة، معادية لبعضها البعض. لذلك سيعمد أركون إلى محاولة لملمة الوعي الإسلامي لتخطي هذه الإنقسامات. (11) نرى اليوم مثلا أن التراث السني والتراث الشيعي يعيشان منفصلين وكل منهما يجهل الآخر بل يتصارعان بنفس البراهين التي تعود إلى القرون الوسطى ويأسف أركون لغياب حركة مسكونية في الإسلام كالتي وجدت في المسيحية هدفها التقريب بين المذاهب المختلفة، لا يرمي أركون من وراء هذه الحركة إنجاز مصالحة عاطفية تزيد في تقوية المناخ الإيديولوجي والرومنسي للفكر الإسلامي المعاصر.

إن بلوغ هذا الهدف يعني التأمل في التراث الإسلامي، فنخترق الممنوعات وننتهك المحرمات السائدة أمس واليوم ونضرب عرض الحائط بالرقابة الإجتماعية التي تريد أن تبقي في دائرة المستحيل التفكير فيه l'Impensable كل الأسئلة التي كانت قد طرحت في المرحلة الأولى للإسلام ثم أغلق عليها بالرتاج وذلك منذ أن انتصرت الأرثوذكسية الرسمية المستندة إلى النصوص الكلاسيكية. يبدو للبعض أن التأمل في التراث الإسلامي على هذا النحو من شأنه أن تكون له تداعيات خطيرة على التوازن النفسي للجماهير وعلى الأنظمة السياسية أيضا. فالجماهير المطمئنة إلى تصور معين للتراث قد تشعر بالخواء والرعب إذا ما خلخل هذا التصور. يرد أركون على هذا التخوف المبالغ فيه بأنه لا داعي للقلق على مصير التراث وبالتالي على تأثيراته فهو سيستمر في البقاء مهما يكن النقد الذي يتعرض له قويا وجذريا، وللدفاع عن موقفه يستشهد أركون برأي إيف كونغار Yves Congar  في التراث من كتابه " التراث والتراثات " والصادر في جزئين: الجزء الأول، محاولة تاريخية، الجزء الثاني: محاولة تيولوجية. يقول كونغار: " ينقل لنا التراث أكثر من مجرد الأفكار القابلة للتشكل المنطقي، إنه يجسد حياة كاملة تشمل الفكر والعواطف والعقائد والمطامح والممارسات والأعمال....و يمكن للطاقة الفردية والجماعية معينة أن تستنفده ولذا فإنه يتضمن التواصل الروحي للنفوس التي تحس وتفكر وترد في ظل وحدة المثال الوطني أو الديني نفسه وهو لهذا السبب أيضا شرط من شروط التقدم ضمن مقياس أنه يتيح لبعض سبائك الحقيقة التي لا يمكن أن تختزل إلى نقود مفرقة تماما، فالمرور من حالة المجهول المعيش إلى حالة المعروف الصريح، ذلك بما أن التراث هو مبدأ الوحدة والإستمرارية والخصوبة، فإنه يشكل في آن معا شيئا أوليا وإستباقيا وختاميا وبالتالي فهو يسبق كل توليفة تكوينية ويستمر في البقاء بعد كل تحليل نقدي استدلالي أو فكري عميق" الجزء الثاني، ص 122 – 123 (12).

4 – في مقاربة التراث:

إن العودة إلى النصوص التأسيسية كما ذكرنا سابقا، اقتضى من أركون الإعتماد على المقاربة السيميائية أو علم الدلالات فهو المدخل المناسب للإستعادة النقدية التي تتخذ مسافة بين النواة الأولية المقروءة والنواة الثانية التي أنتجها التراث في آن معا. هذا العلم يختلف اختلافا جذريا عن التصور التقليدي لفقه اللغة الذي يصبح التراث بمقتضاه جسما مكتملا ومتماسكا ويترسخ بدءا من اللحظة التي يتوصل فيها أعضاء جماعة معينة – مثلا أعضاء النواة الأولى أي الأشخاص المدعوون مؤمنون الذين التفوا حول النبي محمد صلى الله عليه وسلم في مكة والمدينة – إلى إقامة إطار مشترك من الإدراك un cadre de représentation et de perception بواسطة حكايات التأسيس الواردة في القصص القرآني. في حين نجد من الناحية السيميائية- الدلالية أن كل تراث يمارس عمله ووظائفيته على هيئة حكاية تأسيسية تغتني وتثرى بآستمرار فيما بعد عن طريق تجارب الأمة ذات الدلالة(13). إن وحدانية الحقيقة المطلقة، المتولدة عن التصور التقليدي لفقه اللغة والمولدة لأحادية المعنى ليستا هما الشيء نفسه في القرآن، فهما تغذيان الحنين إلى المطلق الواحد وترسخان النزعة التوحيدية والعدالة والخلود بصفتها يوتوبيا une Utopie  محركة وتعبوية وأما داخل الأنظمة التيولوجية فقد أصبحتا توجهان نظاما صارما من الإيمان / واللإيمان والعقائد / واللاعقائد، فقد أصبحتا ثابتتين وساكنتين في حين أنهما كانتا في فترة نزول القرآن طازجتين ومترجرجتين. ويرى أركون أن المفاهيم والتصورات التيولوجية التي اندفع إلى بلورتها علماء الكلام طيلة قرون والتي يواصل الإندفاع نحوها خلفهم المباشرون الإيديولوجيون قد انتهت إلى الكشف عن فرق رئيسي بين الحدث القرآني le fait coranique  والحدث الإسلامي le fait islamique فالحدث القرآني هو نداء موجه إلى الضمير البشري والحدث الإسلامي هو إحدى التحققات الممكنة للحدث القرآني، فمن خلال تجربة سياسية وإقتصادية وأخلاقية واجتماعية عاشتها ألجزيرة العربية في القرن السابع الميلادي، تم الإنتقال من الحدث القرآني إلى الحدث الإسلامي الذي هو إسقاط تاريخي ملموس قد تم داخل اللغة العربية والدعامات المحتملة للوحي les supports contingents de la révélation تدريجيا . وتحت الضغط المزدوج للحاجيات التاريخية ولمختلف تيارات الفكر . اغتصب الحدث الإسلامي معنى الحدث القرآني وقيمته بواسطة ترقية اعتباطية أو إيديولوجية من المحايث l'Immanent إلى المتعالي le Transcendant  ومن الما فوق تاريخي إلى التاريخي والوجودي l' existentiel (14) ونلاحظ مما تقدم أنه من خلال الإنتقال من القرآن إلى الأنظمة التيولوجية أو من الحدث القرآني إلى الحدث الإسلامي يتوجه التراث إلى أكبر عدد ممكن من الناس ويمارس فعله، وأثره يكون طبقا للأنموذج الثاني أي للتصورات التيولوجية وبصفة أشمل للحدث الإسلامي. فالنموذج الثاني وبآسم الأرثوذكسية يرفض تعددية المعنى والدلالات المتجلية في التفاسير والمدارس الكلامية والفقهية المختلفة ويرفض أيضا إمكانيات المعنى المحتملة التي لم تحين بواسطة قراءات جديدة للكتابات المقدسة ولقد بين أركون في كتابه " قراءات في القرآن " كيف أن الدراسة الحديثة للمجاز والأسطورة تتيح لنا تقديم رؤية جديدة مخالفة لما خلفه لنا التفسير الكلاسيكي.

أما المقاربة التاريخية السوسيولوجية التي اعتمدها أركون، فإنها كانت تطمح إلى طرح إشكاليات تشترك فيها كل التراثات المبتورة وهي تحاول تناول التراث في شموليته بالنقد التاريخي والسوسيولوجي. فتاريخيا نجد أن الأطر الإجتماعية الثقافية السائدة والخاصة بالمعرفة خلال القرنين الأول والثاني للهجرة كان يغلب عليها النقل الشفهي على النقل الكتابي وكان بعد الغريب الساحر العجيب Le merveilleux أو البعد الأسطوري والرمزي والمجازي يتغلب آنذاك على المقولات العقلانية والمنهجيات المنطقية في تشكيل المخيال الإجتماعي وفي طريقة أدائه لوظيفته وممارسته لعمله، ومن المعروف أن هذه العمليات الأخيرة أي المقولات العقلانية لن تتطور إلا بعد " اختراع الورق " وانتشار الخط العربي وتحسنه ثم دخول العقلانية المنطقية أو المركزية اليونانية إلى ساحة الثقافة العربية الإسلامية. ينبغي أن تستعاد دراسة كل التاريخ الثقافي للمجال العربي والإسلامي ضمن هذا المنظور المزدوج للتنافس ببن العاملين الشفهي والكتابي، الأسطوري والعقلاني، الغريب الساحر والمحسوس الواقعي، بين المقدس والدنيوي، فتاريخيا نجد أن التراث بصفته نسيجا نصيا أو شكلا ومضمونا يحمل علامات هذه المنافسة وآثارها وهذا ما يجعل لزاما اليوم إعادة تقييم الشكل والمعنى لأن كل المفاهيم الأساسية المصطلح عليها في المعيش الضمني للمؤمنين كالمقدس والعجيب والأسطورة والعامل الشفهي أو الكتابي، المخيال العقلاني هي الآن في طور الإنتقال من حالة المجهول المعيش إلى حالة المعلوم الصريح كما يقول إيف كونغار، بفضل الإكتشافات الجديدة لعلوم الإنسان. إن التاريخية والسوسيولوجيا المتصلة بالمعطيات الثقافية والممارسات العملية التي يندمج الكتاب المقدس بواسطتها داخل الجسد الإجتماعي ويمارس دوره كفيلتان بتخطي التراثات المبتورة والباترة وتمكين الفكر الإسلامي من بلورة مفهوم التراث الإسلامي الكلي شريطة أن يدخل في رؤيته للتاريخ، ليس فقط دار الإسلام، بل كل الفضاء الجغرافي والسياسي حيث وجد الإسلام في علاقة تأثير ومنافسة.

***

بقلم رمضان بن رمضان: باحث في الحضارة العربية الإسلامية

..............................

الهوامش والمراجع :

1 – محمد عابد الجابري، نحن والتراث، دار الطليعة، بيروت، ط 1، 1980، ص 69.

2 – الطيب تيزيني، مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط، دار دمشق للطباعة والنشر، دمشق 1971.

3 – Mohamed Arkoun, critique de la raison islamique, ed maison neuve et larose, Paris, 1984.

4 – محمد أركون، " الإسلام والحداثة " مجلة مواقف، بيروت، العدد 59/ 60، 1989، صص 24- 25 .

5 – نفس المرجع ص 29 .

6 – المقصود بالتاريخية هو الأصل التاريخي للتصرفات والمعطيات والحوادث التي تقدم وكأنها تتجاوز كل زمان ومكان وتستعصي على التاريخ ولا يستطيع عقل المؤمن التقليدي أن يستوعب تاريخية الأحداث التأسيسية والشخصيات الكبرى ويشعر نحوها برغبة التقديس وبالتالي لا يستطيع أن يفهم أنها مشروطة بالتاريخ أو بلحظة محددة من لحظات التاريخ وما قلناه عن التاريخية ينطبق على معنى المخيال l' imaginaire أيضا.

7 - محمد أركون ، الفكر الإسلامي قراءة علمية، مركز الإنماء القومي، بيروت، ط 1، 1987، ص 20.

8 – لتوضيح هذه الفكرة الهامة عند محمد أركون يمكن الرجوع إلى الكتاب التالي : Lucien Goldman ' Marxisme et sciences humaines, ed Gallimard, Paris, 1970, pp, 121- 130.

9 – محمد أركون، الفكر الإسلامي قراءة علمية، صص 20 – 21 .

10- Mohammed Arkoun, Essais sur la pensée islamique, ed MaisonNeuve et Larose, Paris,1977,p 310.

11 – لتوضيح هذه النقطة أكثر يمكن الرجوع إلى البحث القيم لمحمد أركون: " نحو إعادة توحيد الوعي العربي الإسلامي " ضمن كتابه، تاريخية الفكر العربي الإسلامي، منشورات مركز الإنماء القومي، بيروت، 1986، ط1، ص 143.

12 – محمد أركون، الفكر الإسلامي قراءة علمية، صص 31- 32.

13 – نفس المرجع، ص 34.

14 –312 Mohamed arkoun, Essais sur la pensée islamique, op cit , pp 311-

(أصبحت لقضية "موت الذات" أولوية طاغية عند الماركسية البنيوية، بدعوى أن شعورنا بأننا صانعو أفعالنا، هو من بعض الوجوه شعور خاطئ أو شعور إيديولوجي، فما يحدث حقاً هو أن البنى الاجتماعية الكامنة هي التي تحدد أفعالنا، وتعمل من خلالها، وأن أفعالنا تعمل على إعادة إنتاج البنى وإدامتها، أو أحياناً على تحويلها عن طريق الثورة. فالبشر – بناءً على هذا الرأي – يضحون دُمّى للبنية الاجتماعية، وهذه البنية بدورها تصبح نوعاً من الآلة ذات الحركة  الدائمة. وما نريد قوله هو إن هذه النظرية تقف عاجزة تماماً حينما تتناول الفعل الاجتماعي، وتصف الخيوط التي تحرك تلك الدمى، رغم فائدتها في تحليل البنى الاجتماعية).. (إيان كريب: النظرية الاجتماعية - من بارسونز إلى هابرماس، ص: 200) .

 وهذا ما ينطبق على نظرة لوسيان سيباج للماركسية باعتبارها تتضمن إرهاصات بنيوية، التي سوف نحاول مناقشتها في هذا المقال.

بلغت البنائية ذروتها باعتبارها اتجاه فكري وفلسفي في السنوات الأخيرة من ستينيات القرن العشرين المنصرم. وكان من الشائع في أوساط المثقفين أن يُنظر إليها على أنها " مذهب فلسفي "، ومن سمات المذهب الفلسفي أنه يسعى بقدر إمكانه إلى الشمول، ويستهدف تقديم تفسير موحد لمجموعة كبيرة من المشكلات الفكرية، ويضم مجالات معرفية متعددة في إطار نظرة واحدة إلى العالم وإلى طبيعة الأشياء، وبالفعل وصل المد البنائي - في فترة الذروة هذه - إلى ميادين شديدة التنوع، ففي مجال اللغويات كان جاكوبسون Jakobson وشومسكي Chomsly يقودان حركة نشطة اتخذ منها الكثيرون نموذجاً ومثالاً يحتذى في ميادين أخرى. وفي ميدان التحليل النفسي كان لاكان Lacan يشد انتباه معاصريه بنظرته الجديدة إلى هذا العلم الذي كان يبدو - قبل نشر بحوثه - في حالة ركود نسبي. وفي النقد الأدبي كان بارت R. Barthes يفتتح عهداً جديداً في تفسير النصوص على أساس بنائي. وفي الميدان الفلسفي كان مفكر ميال إلى المحافظة مثل فوكو Foucault يبهر جماهير المثقفين برؤيته الجديدة في كتابه المشهور الكلمات والأشياء  Les Mots et les Choses، على حين أن مفكراً ماركسياً أصيلاً هو ألتوسير Althusser كان يعيد قراءة الأصول الكبرى للفلسفة الماركسية - وخاصةً كتاب " رأس المال " ذاته- من خلال تفسير بنائي مبتكر، وقبل هؤلاء جميعاً كان  ليفي ستروس Lévi-Strauss يواصل جهوده الرائدة التي كان قد بدأها قبل هذا التاريخ بما يقرب من عشرين عاماً، والتي استطاع بفضلها أن يجعل للبنائية مكانة بارزة على خريطة المذاهب الفلسفية في النصف الثاني من القرن العشرين، على الرغم من أن ميدان تخصصه كان علماً اجتماعياً وليس فلسفياً هو الانثروبولوجيا.

 إن هذا الانتشار للبنائية جعل منها مذهباً فلسفياً شاملاً، إلا أنها في حقيقة الأمر لم تصبح البنائية مذهباً فلسفياً إلا لأن المتخصصين قد تنبهوا في ذلك الوقت بالذات إلى الإمكانات الخصبة التي تكمن في فكرة (البناء)، إما الفكرة ذاتها، وإما مبدأ التفكير من خلال (بناءات)، فكان معروفاً قبل ذلك بوقت طويل، وعلى هذا الأساس نستطيع أن نقول: إن البنائية هي - قبل كل شيء – (منهج) في التفكير، وبهذا المعنى كانت موجودة منذ عهد بعيد. ولكنها لم تصبح مذهباً فلسفياً إلا بعد أن تنبه بعض المفكرين - بطريقة واعية - إلى أهمية هذا المنهج وحددوا معالمه بوضوح بعد أن كان يطبق بطريقة ضمنية دون وعي بكافة أبعاده. وكانت نتيجة الحماسة التي تملكتهم حينما اكتشفوا هذه الطريقة في التفكير أن جعلوا منها (مذهباً) شاملاً يقدم تفسيراً للمشكلات التي تواجه العقل في ميادين شديدة التباين، ومعنى ذلك أن البنائية - من حيث هي منهج - قديمة العهد. أما من حيث هي مذهب شامل، فهي ظاهرة حديثة في الفكر المعاصر.

ولكن على أي أساس نقول: إن البنائية كمنهج  كانت معروفة ومطبقة منذ وقت طويل؟ ذلك لأن مجرد تطبيق نموذج رياضي على موضوع علمي معين، هو في ذاته نوع من البنائية، فإذا أدركنا أن العلم الحديث منذ القرن السابع عشر لم يتمكن من تحقيق إنجازاته الضخمة إلا بفضل تطبيق النموذج الرياضي على الظواهر الطبيعية، كان في استطاعتنا أن نحكم بأن هذا العلم كان منذ بدايته (بنائياً)، لأنه استهدف الاهتداء إلى (البناء) الكامن وراء الظواهر الطبيعية، وعبر عن هذا البناء بلغة رياضية. بل إن كل علم لابد أن يكون له من البنائية نصيب، لأن دراسته تنصب على بحث أنساق من العلاقات والروابط بين الظواهر.

ويؤيد بياجيه (1896-1980) الرأي القائل: إن البنائية في تصميمها منهج قبل أن تكون مذهباً، ذلك لأنها أسلوب فني متخصص (Technical)، وتقتضي التزامات عقلية معينة، تؤمن بالتقدم المتدرج. ولقد كان للمنهج الذي تمثله البنائية تاريخ طويل يشكل جزءاً من تاريخ العلوم. غير أن سماتها لم تُكتشف إلا في وقت متأخر، وذلك لأسباب منها: صعوبة المنهج البنائي وتعقده، واتجاه العقل البشري إلى أن يتجاهل في البداية مفاهيم الاعتماد المتبادل بين الظواهر، والكل النسقي الذي تشكله، مكتفياً بتفسيرات مبسطة موحدة الاتجاه. هذا فضلاً عن أن البناءات الكاملة وراء الظواهر لا تظهر للملاحظة المباشرة، بل توجد على مستويات لا يتم التوصل إليها إلا بتجريد مضاعف، أو على حد تعبيره: بتجريد (صور الصور Forms of Forms).

على أنه إذا كان للبنائية - بوصفها منهجاً - مثل هذا التاريخ الطويل، فإن ظهورها الذي يبدو على شكل انبثاق مفاجئ، والذي اتخذ صورة مذهب فكري متكامل، قد ارتبط بظروف تاريخية معينة، كان لها تأثيرها في الفلسفة الفرنسية بالذات، إذ إن أول البنائيين وأهمهم كانوا من الفرنسيين. فبعد الحرب العالمية الثانية كان إنتاج سارتر الغزير في ميادين الفلسفة والرواية والمسرحية والمقال السياسي هو المسيطر على الجو الثقافي الفرنسي. بل إنه تعدى نطاق هذا الجو الثقافي حتى أصبح (أسلوباً خاصاً للحياة) يتميز به عدد كبير من الشبان الفرنسيين في مظهرهم وملبسهم ومناقشتهم، هم (الوجوديون) الذين كانوا من المعالم الفرنسية المميزة في ذلك الحين، ولم تظهر قوة فكرية أخرى تتحدد آراء سارتر في الحرية (المحكوم بها) على الإنسان إلا في الماركسية، التي ركزت أبحاثها على قوانين التحول التاريخي، وأكدت حتمية الصراع الطبقي، ولم يمض وقت طويل حتى سعى سارتر نفسه إلى إزالة التعارض الحاد بينه وبين الماركسية، حتى وصل به الأمر إلى حد إعلان أن الماركسية لا يمكن تجاوزها، وأن فلسفته بالتالي تتخذ لنفسها موقعاً (داخل) الماركسية. هذا على الرغم من أن حركة التقارب لم تكن متبادلة من الطرفين، لأن الماركسية ظلت تهاجم النزعة الذاتية والمثالية في الوجودية، وتصفها بأنها نموذج واضح للإيديولوجية البورجوازية.

خلاصة بالقول: إن البنائية في أساسها نظرية في العلم (ابستمولوجيا)، تؤكد أهمية النموذج أو البناء في كل معرفة علمية، وتجعل للعلاقات الداخلية والنسق الباطن قيمة كبرى في اكتساب أي علم. ولكن الحماسة الفياضة التي أثارتها هذه النظرية في فترة تاريخية معينة هي فترة الستينيات المتأخرة من القرن العشرين. وربما أوائل السبعينيات، أدت بالبعض إلى أن يعاملوها كما لو كانت انقلاباً فلسفياً شاملاً، وثورة فكرية جديدة تجعل من الذات مجرد حامل للبناءات. ومن التاريخ مجرد تعاقب لصور تظل في أساسها ثابتة، وإن اختلفت مظاهرها التاريخية، على أن هذا التوسع في فهم البنائية قد أدى في تلك الفترة بالذات، إلى بعض التشويه في صورتها، وإلى إقحام عناصر داخلية عليها، عندما أصبحت هي (الموضة) الشائعة، وعُوملت على أنها إيديولوجية جديدة كاملة، طُبقت على ميادين قد لا يكون المنهج البنائي صالحاً لها أصلاً. وهذا تطرف نجده في كل مذهب يبهر الناس بجدته وخروجه عن المألوف. ولكنه لا يصح أن يتخذ أساساً للحكم على هذه الحركة الفكرية المثمرة. فإذا كانت البنائية تؤكد على الدوام أن البناء " موجود هناك "، بغض النظر عن الاختلافات في ظروف الحياة الإنسانية التي يطبق فيها هذا البناء، فإن قدرة الإنسان على القيام برد فعل على هذا البناء هي الأمر الجدير بالاهتمام حقاً.

ومن هنا كان الميل الذي نلمسه لدى كثير من البنائيين إلى تصوير الأنساق أو البناءات كما لو كانت تؤثر وتمارس فعلها وحدها دون أن يكون للإنسان دور فيها - أعني الميل إلى جعل الإنسان (مفعولاً) لا (فاعلاً) - يعبر عن نزوع إلى السلبية وقبول الأمر الواقع. ولقد ضرب (دوفرين) للتضاد بين سلبية الإنسان وفاعليته إزاء النسق مثلاً طريفاً، فقال: إن المشكلة التي ينبغي أن تفكر فيها الفلسفة المعاصرة بإمعان هي كيف استطاعت جبهة التحرير الفيتنامية أن تقاوم الأميركيين بكل هذا النجاح (وهي لم تكن قد انتصرت بعدُ عندما قال هذا الكلام)، فتلك واقعة تثبت انتصار الفاعلية الإنسانية على العقول الإلكترونية التي طالما استعان بها الأميركيون في التخطيط وفي ممارسة الحرب ذاتها، وما العقول الإلكترونية إلا تجسيد (للنسق)، وهكذا فإن الأنساق لا تستطيع أن تسير في طرقها بلا مقاومة، ولا تستطيع أن تكبت فاعلية الإنسان وتجعله مجرد مفعول.

وهكذا تظهر الصورة أخيراً  في تطور التاريخ مؤيدة لفكرة القدرة الفعالة للإنسان، حتى على أشد الأنساق والبناءات ثباتاً، فأحداث الحركة الطلابية عام 1968م تفجر الإطار السكوني للبنائية، وتنبه العالم إلى أهمية رد الفعل الإنساني على كل نسق يبدو ثابتاً، وانتصار فيتنام يبدو كما لو كان هزيمة لمبدأ أساسي تقوم عليه البنائية، هو استقلال الأنساق عن الإنسان. ولكن، إذا كان التاريخ قد بادر إلى الإدلاء بشهادته بعد بلوغ البنائية قمتها مباشرةً، فلنذكر أننا لسنا في حاجة إلى شهادة التاريخ لكي ندافع عن فاعلية الإنسان إزاء بناءاته، فالمنطق الداخلي للبنائية هو خير شاهد على ما نقول، إذ إن كل البنائيين الكبار من ستروس إلى ألتوسير، ومن فوكو إلى لاكان، قد بذلوا جهداً عقلياً لا نظير له، ومارسوا فاعليتهم الذهنية إلى أقصى حد لكي يكتشفوا بناءات يقولون: إنها تجعل ذهن الإنسان (مفعولاً). بناءً على ما سبق سنحاول تتبع الإرهاصات البنيوية عند كارل ماركس من وجهة نظر لوسيان سيباج.

- رؤية لوسيان سيباج  لإرهاصات البنائية في الماركسية: يعتبر لوسيان سيباج Lucien Sebag 1933) - 1965) من أوائل الماركسيين الذين تنبهوا إلى إمكان وجود عناصر بنائية في فكر ماركس. ويبدو أن تحمسه لإثبات هذه الفكرة قد أدى به إلى الانحياز إلى جانب البنائية وإنكار عناصر أساسية في الماركسية، مما أبعده بالتدريج عن التيار الرئيسي للفكر الماركسي الفرنسي، وأدى إلى فصله من الحزب الشيوعي الفرنسي. وعلى أية حال فقد أتيح لسيباج أن يعرض وجهة نظره كاملة، قبل موته المبكر، في كتاب يعد من الكتب الكلاسيكية في هذا الموضوع، هو " الماركسية والبنائية " 1964.

لقد أثار هذا الكتاب مجموعة من المسائل التي قد لا يلقَى بعضها معارضة شديدة من الماركسية التقليدية، على حين أن البعض الآخر لا يمكن الاعتراف به في الإطار التقليدي للفكر الماركسي، لأنه يتضمن تشكيكاً في مبادئ كانت أساسية عند ماركس نفسه، لا مجرد تفسير جديد لأفكار كانت موجودة عنده بالفعل. ومن أمثلة النوع الأول، أعني ذلك الذي يمكن أن يكون مقبولاً في إطار الماركسية التقليدية، القول بوجود عناصر بنائية في صميم فلسفة ماركس. أما النوع الثاني فيتمثل في رفض الصورة المألوفة للعلاقة بين البناء التحتي infrastructure  وخاصة الاقتصاد، وبين البناء الأعلى Superstructure وهو رفض يصل إلى حد تغيير ركن أساسي من أركان الماركسية. وسوف نعرض لكل من هذين النوعين على حدة.

في حقيقة الأمر، تربط الماركسية بين الأسس التي يرتكز عليها سلوك أفراد أو جماعات معينة، وبين عناصر معينة في إيديولوجية هؤلاء الأفراد أو الجماعات، على نحو ينطوي على القول بوجود تشابه بين الطرفين. فمثلاً تُفسر الماركسية النمط الخاص للعلاقة بين الله والإنسان في العصور الوسطى (وهو نمط ينتمي إلى مجال الإيديولوجيا) بأنه انعكاس للعلاقة بين الإقطاعي ورقيق الأرض في هذه العصور (وهي علاقة تنتمي إلى البناء التحتي). وتُفسر سيادة الفكر النظري المحض على البحث في العلوم التطبيقية، في المجتمع اليوناني (وهو موضوع ينتمي إلى إيديولوجية ذلك المجتمع) بأنها ترجمة لعلاقة السيد بالعبد في مجتمع يسوده الرق (وهو تفسير ينتمي إلى البناء التحتي). وتُفسر عقيدة الجبر المطلق Predestination  كما قال بها كالفان Calvin في عصر النهضة الأوروبية، بأنها تعبير عن إحساس الإنسان في بداية العصر الرأسمالي بوجود قوى مجهولة تتحكم في مصيره، هي قوى السوق وقوانينه، وتفرض نفسها عليه دون أن يستطيع السيطرة عليها. في كل هذه الحالات تُفسر الماركسية عنصراً معيناً من عناصر الإيديولوجية في مجتمع معين، بعلاقات إنتاجية ذات طابع اقتصادي واجتماعي. ولكي يكون هذا التفسير ممكناً ومقبولاً، فلابد من وجود (بناء) مشترك يجمع بين المجالين المتباينين، المجال الإيديولوجي (وهو في هذه الحالة فلسفي أو ديني) والمجال الاجتماعي الاقتصادي. وعلى سبيل المثال، فكما أن العلاقة بين الإقطاعي وتابعه في العصور الوسطى هي علاقة رأسية بين طرفين يعلو أحدهما على الآخر علواً هائلاً، فإن هذا النمط أو (البناء) ينعكس هو ذاته على تصور هذه العصور للعلاقة بين الله والإنسان. وقل مثل هذا عن سائر التفسيرات الماركسية لمختلف عناصر الإيديولوجية، كالفكر الفلسفي، والفن، والأدب.

ولنذكر في هذا الصدد ما سبق لنا أن أشرنا إليه، من أن البنائية من حيث هي منهج ليست بالشيء الجديد، وإنما الجديد هو التعبير الواعي عنها في مذهب فكري متماسك. فهنا نجد هذا النوع من التفسير البنائي لا يلقى معارضة من الماركسيين المتمسكين، لأنه لا يخرج عن إطار الماركسية التقليدية، وكل ما يفعله هو أنه يستخدم في تقديمها مصطلحات بنائية.

على أن هذا الطرح، حسب سيباج، لم يكن هو المظهر الوحيد الذي اتخذته البنائية في الفلسفة الماركسية. فمن الممكن أن تتحدد العلاقة بين البناء الأدنى، أي الأساس، وبين البناء الأعلى، أي الإيديولوجية، على مستوى آخر، هو أن ننظر في مجال كامل من مجالات الواقع الاجتماعي، مثل علاقات الإنتاج، ونربطه بمجالات أخرى ذات طبيعة فكرية أو إيديولوجية. فعلى هذا المستوى لا نربط بين تفكير فردٍ معين، أو جماعة معينة، وبين عنصر معين في علاقات الإنتاج، وإنما نربط على نحو أعم، وأكثر تجريداً، بين (أنماط) معينة من التفكير، وأنماط معينة من علاقات الإنتاج، أو من الواقع الاجتماعي. ومثل هذا الربط يحتاج إلى عملية توحيد ومقارنة أشد تعمقاً مما يحتاج إليه الربط على المستوى الأول. وعلى الرغم من أن ماركس بحث الموضوع على المستويين معاً، فقد كان البحث على المستوى الثاني هو الغالب لديه. فهو لا يلجأ إلا نادراً إلى الكلام عن تأثير عامل معين يسهل تحديده في توجيه الفكر وجهة معينة، بل يتحدث عن التأثير الشامل لآليات نمط اقتصادي كامل، كالاقتصاد الرأسمالي، في تحديد أسلوب التفكير والوعي الاجتماعي داخل هذا النمط، أي إنه يستهدف دائمًا بحث " كليات شاملة totalities " وتؤثر كل منها في الأخرى، وتكشف عن (بناء) مشترك. ومثل هذا البحث هو الجدير بأن يسمى (علماً) بالمعنى الصحيح، لأن موضوعه بناءات كلية.

يستخلص سيباج من تطبيق المنهج البنائي على تفسير الماركسية نتيجةً تتعارض مع عنصر أساسي من عناصر التفكير الماركسي التقليدي، هي رفض الحتمية الاقتصادية. فعندما يكون أساس تفسيرنا هو البناء الكلي لا يعود من الممكن أن نعطي أولوية مطلقة لواحد بعينه من عناصر هذا البناء، ونجعل منه (سبباً) للعناصر الأخرى، فالعامل الاقتصادي، وفقاً للنظرة البنائية، هو مجرد عنصر من العناصر التي ينطوي عليها البناء، وليس هو أساس البناء بأكمله، ولذلك رفض سيباج تفسير التاريخ على أساس القول بأولوية العامل الاقتصادي، بل نظر إلى العلاقات الاقتصادية، جنباً إلى جنب مع اللغة والأساطير ونظم القرابة، على أنها كلها عناصر يمكن اقتطاع أي منها من الكل بعملية ذهنية متعمدة تسعى إلى استخلاص السمات المميزة لهذا العنصر بالذات، عن طريق فصله عن علاقاته بمجالات الواقع الأخرى، وعندئذ يمكننا الوصول إلى مقارنات متوازيات بين كل عنصر والآخر ولكننا لا نستطيع أن نصل إلى حالة يكون فيها لأحد هذه العناصر - كالعنصر الاقتصادي مثلًا - أولوية سببية بالقياس إلى العناصر الأخرى، أو يكون هو الذي تتولد عنه هذه العناصر الأخرى.

وإذا كانت وحدة العناصر وتفاعلها المتبادل في البناء تمنَع من معاملة أحدِ هذه العناصر (كالعنصر الاقتصادي) معاملة مميزة، بوصفه أصلًا للباقين، فإن هناك أسباباً أخرى تؤدي في نظر سيباج إلى هذه النتيجة نفسها. ومن أهم هذه الأسباب، أن العامل الاقتصادي لا يمكن أن يكون عاملاً مادياً بحتاً، في مقابل نتيجة فكرية أو عقلية هي الإيديولوجية بصورها المختلفة. وينتقد سيباج التصوير التقليدي عند بعض الماركسيين، الذي يعالجون العامل الاقتصادي كما لو كان مادة خاماً، تختلف في طبيعتها عن العوامل الأخرى التي هي " معلولات " لها. والواقع أن العقل الإنساني، الذي يتدخل في كل هذه العوامل، يُزيل الفوارق النوعية بينها عن طريق تدخله هذا. فالأساس الاقتصادي لا يكتسب كيانه ووجوده إلا من تلك الدلالة التي يُضفيها عليه العقل الإنساني، بحيث إن التضاد بين الواقع الاقتصادي والناتج الإيديولوجي المرتكز عليه ليس تضاداً بين حقيقتين بينهما اختلاف أساسي في الطبيعة، وإنما هو تضاد يقع (داخل) الإطار العقلي والعلمي ذاته. ومن هذا الإطار العقلي يكتسب الطرفان معاً دلالتهما. وهكذا تكون الوسيلة الوحيدة لدراسة العلاقة بين الاقتصاد والإيديولوجية، في نظر سيباج، هي البحث في العلاقة المتبادلة بين الطرفين. أما فكرة وجود بداية مطلقة، أو سببية نهائية، يكون فيها أحد الطرفين منتجًا للآخر وأصلاً له، فإنه يرفضها بوصفها فكرة مستحيلة.

وهناك سبب أخير يؤدي إلى إنكار فكرة السببية المطلقة بين الواقع الاقتصادي والإيديولوجيا، هو أن الناتج الإيديولوجي، من فكر أو فن أو دين، لا يكفي لتفسيره أن نُرجعه إلى أصله، لأن هذا الناتج يخرج عن الأصل ويتجاوزه، ويكتسب خلال تطوره دلالة خاصة مستقلة عن الأصل الذي نشأ منه.

 ويعبّر سيباج عن هذه الفكرة بقوله: " إن القول بأن نظامًا فكرياً معيناً يتولد عن ممارسة اجتماعية معينة لا يكفي لتفسير طبيعة هذا النظام، إذ إن ما نعبر عنه على المستوى الرمزي يتجاوز دائماً ذلك الواقع الذي اتخذ منه نقطة بدايته " وهو يستشهد في هذا الصدد برأي لبياجيه Piaget يقول فيه: " إن تولد البناءات من أصل اجتماعي لا يفسر وظائفها اللاحقة، لأن هذه البناءات حين تندمج في تركيبات كلية جديدة، يمكن أن تتغير دلالتها. وبعبارة أخرى: فإذا كان بناء تصور معين يتوقف على تاريخه السابق، فإن قيمته تتوقف على موقعه الوظيفي في الكل الذي يكون هذا التصور جزءًا منه في لحظة معينة ".

وهكذا يدافع سيباج عن تلك القدرة الخلاقة التي يتسم بها العقل الإنساني، والتي تجعل لنواتج هذا العقل استقلالاً ذاتياً بالقياس إلى الواقع الاجتماعي الذي أنتجها. ويترتب على ذلك أن النسق البنائي الواحد الذي يكونه هذا العقل يستطيع أن يعبر عن أكثر من واقع أساسي واحد، كما أن الواقع الواحد يمكن أن يولد أنساقاً متباينة. ولهذا الرأي نتيجتان هامتان، تؤلفان تعديلاً أساسياً على النظرية الماركسية التقليدية: الأولى: هي إنكار وجود علاقة مباشرة بين الأساس الاقتصادي والاجتماعي الواحد، والنسق الفكري الذي يُقال إنه يرتكز عليه، فالسببية هنا ليست خطية تجمع بين طرفين، بل هي متشعبة يمكن أن تسير في شتى الاتجاهات.أما النتيجة الثانية: فتذهب إلى مدًى أبعد، إذ تنكر تلك القسمة الثنائية التقليدية بين بناء أدنى وبناء أعلى، أو بين أسس الواقع الاقتصادي الاجتماعي والبناءات التي تُشيد عليه في ميادين الفكر والدين والفن … إلخ. فليس ثمة أولوية للأسس الاقتصادية الاجتماعية، وإنما يكشف لنا التاريخ عن سلسلة دائمة من التفاعلات المتبادلة، التي تتحول فيها الأسباب إلى نتائج، والنتائج إلى أسباب. ولو رجعنا إلى ما يحدث بالفعل في عالم الواقع؛ لوجدنا أن الناس حين يسلكون، يجمعون في مركب واحد بين مستويات كثيرة لا يمكن الفصل بينها إلا بعملية فيها قدر من العمق، ولذلك فإن هذه العملية المزعومة للعنصر الاقتصادي تعزل شطراً واحداً من كل لا ينطوي إلا على علاقات متبادلة.

وهكذا يذهب سيباج، في تحليله البنائي للماركسية، إلى مدى بعيد في الخروج عن المبادئ الأساسية للنظرية الماركسية التقليدية. وليس أدل على ذلك من أنه يرفض النقد الذي وجهه ماركس إلى هيجل، على أساس أنه قلب الأوضاع رأساً على عقب، وجعل من الواقع الاقتصادي الاجتماعي مجرد ناتج مترتب على (الفكرة) الدينية أو الميتافيزيقية أو المنطقية. على حين يريد ماركس أن يعيد الأمور إلى نصابها ويوقف الديالكتيك (على قدميه)، بعد أن كان واقفاً (على رأسه). هذا النقد يرفضه سيباج، لأن قلب الأوضاع هذا يمكن أن يحدث بالفعل، ولأنه سمة أساسية من سمات العملية الرمزية التي ينفرد بها الإنسان، والتي تجعل للنواتج الرمزية، من فكر ولغة وعقيدة، استقلالاً ذاتياً عن الأصل الذي نشأت منه، وقدرةً على التأثير في الواقع ذاته، وتغيير الأسس الاقتصادية الاجتماعية. فنحن ها هنا في مجال لا يمكن التمييز فيه بين ما هو (أصل) وما هو (نتيجة). وتلك كلها آراء تعدها الماركسية التقليدية تحريفات غير مشروعة، لأنها لا تتعلق بالاجتهادات في تفسير النظرية، بل بالأسس التي ترتكز عليها.

***

د. حسام الدين فياض

الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة

قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً

........................

- المراجع المعتمدة:

1. Lucien Sebag: Marxisme Et Structuralisme, Payot, Paris, January 1, 1964.

2. فؤاد زكريا: الجذور الفلسفية للبنائية، مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، ط2، 2022.

3. فؤاد زكريا: آفاق الفلسفة، المركز الثقافي العربي ودار التنوير، بيروت، ط1، 1988.

4. إحسان محمد الحسن: النظريات الاجتماعية المتقدمة – دراسة في النظريات الاجتماعية المعاصرة، دار وائل، عمان، ط3، 2015.

5. إيان كريب: النظرية الاجتماعية – من بارسونز إلى هابرماس، ترجمة: محمد حسين غلوم، مراجعة: محمد عصفور، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، سلسلة عالم المعرفة، العدد: 244، أبريل 1999.

لماذا نستمر في حياتنا كما نحن؟هل الذات تقيم في الروح، او في الجسم، او في الاثنين معا؟ سؤال لطالما ناقشه الفلاسفة. الفيلسوف جون لوك (1632-1704) جادل بان الذات تقيم في الذاكرة. سنحاول إعطاء صورة للحجة التي قادت لوك لهذا الاستنتاج، وننظر في الاعتراضات التي أثارها النقاد ضد رؤية لوك حول الذات وخاصة اختزاله الذات الى ذاكرة. سنصل الى قناعة ان لوك لم يختزل فقط الذات الى ذاكرة وانما اختزلها الى ذاكرة داخلية. وبعمله هذا هو يضع نفسه في منزلق يقوده نحو المثالية رغم موقفه التجريبي المنطقي بشكل عام.

مبادئ الهوية

قبل الخوض في موقف لوك من الهوية الشخصية سيكون من المفيد النظر في مبادئه بشأن الهوية او تطابق الأشياء بشكل عام. في عمله (مقالة تتعلق بالفهم الانساني، 1690)،يعرض لوك مبدأين اثنين رئيسيين في تقرير هوية او وحدة الأشياء. المبدأ الاول هو مبدأ الزمان والمكان (ص297): في أي وقت، يوجد هناك شيء واحد في مكان واحد فقط. لايمكن ان يوجد نفس الشيء في مكانين بوقت واحد. افرض انت ترى كرسي في هذه اللحظة في الباحة الأمامية للبيت. في نفس الوقت، انت ايضا ترى كرسي مشابه على بعد خمسة أمتار. رغم انهما يبدوان متشابهين، لكن هذين الشيئين كونهما في موقعين مختلفين في وقت واحد يجعلك تستنتج انهما شيئان منفصلان. لكن، اذا صادف انك ترى فقط كرسي واحد في الباحة الأمامية عند الصباح، وبعد ساعتين  ترى كرسيا مشابه في الساحة الخلفية، انت بسهولة ستفترض انه نفس الكرسي الذي رأيته في الساحة الأمامية في الصباح، لكن ربما نقله أحد ما . يستنتج لوك:

"من المستحيل لشيئين اثنين من نفس النوع يوجدان في نفس الوقت وفي نفس المكان، او واحد من نفس الشيء يوجد في أماكن مختلفة. لذلك،كون احدهما امتلك بداية واحدة، سيكون هو ذات الشيء، اما ذلك الذي امتلك بداية مختلفة في الزمان والمكان،فهو ليس ذاته وانما مختلف"(ص297).

المبدأ الثاني والمهم ايضا في تقرير هوية الأشياء طبقا للوك هو المكونات التي يُصنع منها الشيء والمختلفة عن الأشياء الاخرى. فمثلا، الأشياء غير الحية هي "تماسك من جزيئات متحدة"(ص299) وهنا حيث تكمن ايضا هويتها. بالنسبة للمخلوقات الحية، لايكفي لجزيئاتها ان تكون متحدة فقط بطريقة واحدة: انها يجب ان تتحد بطريقة تعزز وتحفظ المخلوقات طوال وجودها. وهكذا، هوية المخلوقات الحية تقيم "في المشاركة بنفس الحياة المستمرة، بالحركة المستمرة لجزيئات المادة في تعاقب متحد بنفس الجسم المنظّم"(ص298-300). نتيجة لهذا، من المكن جدا للكائنات الحية ان تستمر بالوجود حتى لو حصل تغيير او فقدان في مادتها الفيزيقية. نحن نرى البلوط النامي من شتلة صغيرة الى شجرة كبيرة لايزال نفس البلوط، ومهر الفرس ينمو الى حصان هو في نفس الوقت نفس الحصان بالنسبة لنا،رغم انه في كلا الحالتين حدثت عدة تغييرات في المادة الفيزيقية. الناس، ككائنات حية ليسوا استثناءً من هذه القاعدة. كما يؤكد لوك.

هوية الانسان مقابل الهوية الشخصية

الهوية الشخصية ليست هي نفس هوية الانسان لأنه بالنسبة للوك،الانسان والشخص هما شيئان مختلفان رغم استعمالنا المتكرر والمتبادل لكلا المفردتين. هما مختلفان لأن مكوناتهما مختلفة. الانسان، طبقا للوك، صُنع من نوعين من المادة: المادة الفيزيقية (الجسم) والمادة غير الفيزيقية (الروح). من جهة اخرى، الشخص بالإضافة لإمتلاكه مادة فيزيقية وروح، هو يمتلك ايضا وعيا والذي بطريقة ما يوحّد الروح والمادة مجتمعين ضمن ادراك الكائن. وبشكل خاص، الفرد هو كائن مفكرلديه عقل وتفكير ويستطيع النظر الى نفسه كذات ، هو نفس الشيء المفكر، في مختلف الأوقات والأزمان. هذا يستطيع عمله فقط من خلال الوعي. لذلك، يقول لوك، الهوية الشخصية او "الشبه " المستمر للكائن العقلاني يقيم في هذا الوعي وحده (ص301-304).

المادة لا يمكن ان تكون جوهرا لهويتنا الشخصية. الدليل على هذا يكمن في أجسامنا. من الصواب اننا نشعر بأجسامنا كجزء من أنفسنا، لأننا نشعرعندما نُلمس، ونتأثر بما يحدث لنا من اشياء جيدة او مؤذية.  لكننا نقوم بهذا فقط عندما تكون جميع جزيئات أجسامنا متحدة بذاتنا الواعية المفكرة. هذا الشعور بأجزاء من جسمنا يختفي في اللحظة التي تنفصل بها تلك الاجزاء من ذلك الجسم. المثال الرئيسي الذي يذكره لوك هو بتر الذراع (ص310-311). لكن الروح ليست المكان الذي تقيم فيه الهوية الشخصية . لكي يثبت هذا، يدعو لوك قرائه للتفكير بأنفسهم كأنهم يمتلكون روحا غير فيزيقية، وان تلك الروح كانت في السابق تعود لشخص ما من التاريخ، مثل سقراط . بعد ذلك هو يطلب منهم التفكير ما اذا كانوا امتلكوا أي وعي بالروح اعتقدوا انهم يحملونها. اذا كانوا لا يتذكرون أي شيء من تجاربهم في حياتهم الماضية، عندئذ سيكون من الخطأ ان يتصور هؤلاء الاشخاص انفسهم نفس الشخص التاريخي الذي يُفترض انهم يمتلكون روحه (ص305-307).

طبقا للوك، الهوية الماضوية للشخص تصل الى ابعد ما يمكن ان يمتد اليه وعيه بفعل او فكر سابق.  أي شيء قبل ذلك لايمكن تعريفه نفس الشخص طالما هو لا يحمل وعيا بتلك الفترات. وبطريقة اخرى، انا اعتقد بنفسي أكتب مسودة هذه المقالة يوم أمس باعتباري كنت نفس الشخص في اللحظة الحاضرة، لأني امتلك ذاكرة الكتابة يوم أمس. لو كنت لا امتلك أي ذاكرة، عندئذ انا سوف لن امتلك أي تبرير او زعم بهويتي. يستنتج لوك ان عدم امتلاك وعي يصل الى الماضي، حتى مع الاستمرارية بنفس الروح هو دليل بان الروح ليست المكان الذي تقيم فيه الهوية الشخصية. الهوية الشخصية او الذات تقيم في الوعي وبه وحده. في الحقيقة، طالما ان الهوية الشخصية تتقرر بالوعي، هي في الحقيقة لا تترك أي فرق فيما اذا كان الوعي مرتبط بشيء غير مادي (روح) ام لا. حتى من الناحية التقنية ممكن لإنسان واحد امتلاك شخصين يقيمان فيه: نستطيع تصوّر وعيين منفصلين يعملان في نفس الجسم واحد في النهار والآخر في الليل. ومن جهة اخرى، لو تُتاح هجرة الوعي، سيكون ممكنا ايضا وبنفس المقدار لنفس الوعي ليتصرف بفواصل زمنية في جسمين مختلفين. إقامة الشخص في جسمين مختلفين حسب رأي لوك، لايختلف عن كون الفرد في طقمين مختلفين من الملابس (ص310-312).

معارضة نظرية لوك في الذات

تعاملْ لوك مع طبيعة الذات رُحب به في زمانه، وآرائه لازالت تحظى باهتمام الفلاسفة اليوم. هو ايضا أخذ حصته من النقد وبالخصوص في إختزاله الذات الى ذاكرة. العديد من المشاكل العملية والأخلاقية برزت ضد هذه الرؤية سواء من جانب معاصريه او من اللاحقين له. احدى المشاكل شخّصها تومس ريد Thomas Reid(1710-1796) الفيلسوف الاسكتلندي والاستاذ في جامعة كلاسكو، الذي جادل بان نظرية لوك في الذاكرة هي نوع من المفارقة. طرح ريد فكرته الشهيرة "مفارقة الضابط الشجاع"، التي يسألنا فيها ان نتصور ضابطا في الجيش عمره 44 سنة يسرق طعام العدو. في تلك اللحظة يتذكر الضابط عندما عوقب بسبب سرقته التفاح من بستان جاره عندما كان شابا بعمر عشر سنوات. بعد ذلك يتصور ريد هذا الضابط كعسكري متقاعد في عمر الثمانين وهو لايزال يتذكر نفسه يسرق طعام العدو حين كان بعمر الـ 44 عاما، ولكن لم تعد لديه أي ذاكرة لما حلّ به من عقوبة بسبب سرقته التفاح كولد. عند تطبيق تفسير لوك للذات على هذا السيناريو، فان الضابط المتوسط العمر يبدو مشابها لكل من الولد بعمر 10 سنين لأنه يتذكر فعله كولد،وللعسكري المتقاعد بعمر الثمانين عاما، نظرا لأن الضابط يتذكر سرقة طعام العدو. ايضا طبقا لتفسير لوك، الضابط المتقاعد لايمكن ان يكون مشابها للولد بعمر العشر سنين لأنه ليس لديه ذاكرة للفعل الذي ارتكبه عندما كان شابا بعمر 10 سنين، وهكذا، تفسير لوك للذات يثبت انه متناقض، حسب ريد، طالما ان الضابط هو مشابه للولد وغير مشابه له.

مشكلة اخرى في تفسير لوك للذات تتضمن حقيقة ان وعينا وذاكرتنا يتقطعان باستمرار بسبب النوم والشراب او بالتذكّر الإنتقائي الذي يثير اسئلة حول استمرارية الذات، وايضا حول المسؤولية الاخلاقية عن الأفعال المرتكبة اثناء هذه الانقطاعات.

استجابة لهذه الاعتراضات، يقدم لوك جوابا برجماتيا نوعا ما: "قوانين الانسان تعاقب في كل تلك الحالات بعدالة تتناسب مع طريقة المخالفين في المعرفة، لأنهم في تلك الحالات لا يستطيعون التمييز بوضوح بين ما هو واقعي، وما هو مزيف، ولهذا فان الجهل في الشرب او النوم لا يُعترف به كعذر. لأنه، مع ان العقوبة متصلة بالشخصية، والشخصية متصلة بالوعي، والناس المخمورين غير واعين بما فعلوا، لكن مع ذلك، القضاة يعاقبون على ذلك بإنصاف، لأن الحقيقة جرى إثباتها ضد المخالف، بينما إرادة الوعي لا يمكن إثباتها. غير انه في يوم الحساب وحيث تنفتح جميع أسرار القلوب، يصبح من المسؤولية الاعتقاد  بان ، لا أحد يجب ان يجيب على ما لا يعرف، ولكن يجب ان ينال مصيره، ضمير المخالف يتّهمه أو يعذره" (ص310).

بالاضافة لهذه المعارضات، هناك مشكلة أكثر جوهرية في توضيح لوك للذات. لوك يختزل الذات ليس فقط الى ذاكرة وانما الى ذاكرة داخلية. لتوضيح هذا سوف نضيف شخصية اخرى لمفارقة الضابط الشجاع. هذه الشخصية الجديدة هو الاخ الشاب للضابط جون والذي كان مع أخيه دائما. جون كان هناك عندما عوقب اخوه لسرقته التفاح وهو شاب بعمر 10 سنين. جون كان ايضا يكافح جنبا الى جنب مع اخيه اثناء الحرب وشهد سرقة الضابط لطعام العدو وهو بعمر الـ 40 سنة. ورغم ان العسكري المتقاعد بعمر الثمانين عاما لا يتذكر كونه عوقب لسرقته التفاح، لكن اخاه لايزال لديه ذاكرة يقظة بكلا الحدثين. مع ذلك، بما ان لوك يقول ان الذات تصل الى حد وعي المرء بأي حدث في الماضي، هو يبدو يقول انه في هذه الحالة لا تُحسب شهادة الاخ في تشخيص الولد بعمر الـ 10 سنين بالعسكري بعمر الثمانين اذا كان العسكري ذاته لايتذكر نفسه كشاب بعمر الـ 10 سنين. نحن نستطيع ان نستنتج انه بالنسبة للوك، الذات لا تقيم فقط في أي ذاكرة: انها تقيم في الذاكرة الداخلية للشخص ذو العلاقة. الذاكرة الخارجية (شهادة الشاهد) لا تُحسب في تحديد الذات المستمرة.

لكن بهذا، يبدو ان لوك يقترح ان الذات هي مفهوم مثالي خالص – اذا كانت الذات مشابهة فقط في وقت وعي المرء بها، وتختفي مع انقطاع الوعي او الذاكرة بصرف النظر عن وجود الشهادة (أي،الذاكرة الخارجية)، عندئذ فان الأفعال المنسية والكلمات التي كانت تعملها الذات تثبت ايضا انها غير موجودة، او على الأقل غير ملائمة للذاكرة الداخلية. نحن نستطيع القول انه بالنسبة للوك كل شيء تمارسه الذات وتتصوره يثبت انه مثالي، أي، فقط في الذهن. من هنا نستطيع الاستنتاج انه بنظريته هذه عن الذات، يبدو ان لوك مثاليا خالصا رغم حججه الاخرى في اننا نكتسب المعرفة فقط من التجربة الحسية للعالم المادي.

استنتاج

بعد فحص آراء لوك في الهوية الشخصية، يصبح واضحا ان الطريقة الوحيدة لمعرفة أين تقيم الهوية الشخصية هي ان نعرف ماهو الشخص. لوك يرى ان الشخص هو كائن ذكي يمتلك عقلا وتفكيرا ويستطيع إعتبار الذات كذات، هو نفس الشيء المفكر، في مختلف الأماكن والأزمان. يستطيع المرء القيام بهذا من خلال الوعي. طبقا للوك، بدون وعي لا وجود لشخص مهما كانت المادة هناك. هوية الشخص تصل الى أي فعل او فكرة في الماضي بقدر ما يمكن تمديد الوعي نحو ذلك الماضي . عند نهاية هذه الذاكرة،ستنتهي الذات حسب لوك. هذا التفكير الاختزالي للذات كان الحافز الرئيسي لمختلف الاعتراضات ضد لوك على كل المستويات الأخلاقية والعملية. كذلك، نرى ان لوك اختزل الذات ليس فقط للذاكرة وانما للذاكرة الداخلية، وبعمله هذا هو يرتكب مخاطرة وضع اتجاهه الفلسفي التجريبي بالكامل على ارض رخوة.

***

حاتم حميد محسن

ترجمة: علي حمدان

الكسندر كوجيف (Alexander Kojeve) (1902-1968)، كان مسؤولا عن التقديم الجاد لهيجل في الفلسفة الفرنسية في القرن العشرين، مؤثرا في عدد كبير من المفكرين الفرنسيين وبالذات أولئك الذين كانوا يحضرون دروسه حول ظواهرية العقل في باريس في الثلاثينات من القرن الماضي. كان تركيزه على فلسفة التاريخ لدى هيجل وقد اشتهر بنظريته حول نهاية التاريخ ومبادرته حول ما يسمى بالوجودية الماركسية. كوجيف يصل الى تفسير اصيل من خلال قراءة هيجل من خلال نظريتين  مزدوجتين المادية التاريخية لماركس وانطولوجيا هايدجر الزمنية.

تأثير ماركس

فلسفة هيجل للتاريخ العالمي توفر الاطار الأساسي لموقف كوجيف الفلسفي. التاريخ هو حركة عملية تتعرض فيها التناقضات للمصالحة، حتى تتوج في "نهاية التاريخ". وإكتمالها في مجتمع عالمي يتم فيه الاستحقاق المتبادل.

ومع ذلك، يقوم كوجيف بإعادة صياغة هيجل بعدد من الطرق الحاسمة (بين دارسي هيجل، هذه الطرق مثيرة للجدل)*.  يمكن تحديد اول هذ الطرق باعتبارها من  تأثير ماركس. وخاصة كتابات ما يسمى ب" مخطوطات 1848 ". كوجيف يتبع " "الهيجيلية المقلوبة " لماركس عن طريق فهم عمل التطور التاريخي بمصطلحات مادية على نطاق واسع. صنع التاريخ لم يعد مجرد حالة عمل العقل في العالم، بل يعود الى نشاط الانسان ككائن ينتج كيانه بشكل جماعي. يحدث ذلك من خلال العمل علي الاستيلاء على عالمه المادي وتحويله من اجل تلبية احتياجاته الخاصة. في حين تعطي العقلانية المثالية لهيجل الأولوية لإشكال الوعي التي تنتج العالم كما هو مجرب، يتبع كوجيف ماركس في ربط الوعي بالعمل في الإنتاج المادي وإشباع رغبات الانسان. بينما يستعيد هيجل  الوعي البشري الى كلية لاهوتية  (جايست او "الروح المطلقة"). يقوم كوجيف بعلمنة التاريخ البشري. يراه فقط نتاج تصنيع الانسان لذاته. في نهاية المطاف مصالحة الانسان مع الله (الكلي او المطلق)، يرى كوجيف ان الانسان يمكنه تجاوز اغترابه بعوامل إنسانية. يرى هيجل نهاية التاريخ كلحظة المصالحة النهائية مع الله او الروح، فان كوجيف (مثل فيورباخ وماركس) على انها سمو الوهم، حيث يستعيد الانسان الله  (جوهر الانسان المغترب) بواسطة الانسان. بينما توفر الكلية الهيجيلية مجموعة سابقة من العلاقات الانطولوجية بين الانسان والعالم في اطار استيعابها من خلال وعي متنامي. يرى كوجيف ان العمل الإنساني هو العملية التحويلية التي تنتج العلاقات الانطولوجية. بينما يمكن القول ان هيجل يقدم علاقة "شمولية" بين الانسان والطبيعة، موحدا الاثنين في المطلق، يرى كوجيف تنافرا أساسيا بين المجالين، مما يوفر الشروط لإنتاج الانسان لذاته من خلال نشاطاته النافية والتحويلية.

ربما يكون المفتاح المفاهيمي لمفهوم كوجيف للتاريخ العالمي هو الرغبة. تعمل الرغبة كمحرك للتاريخ- انها سعي الانسان في تحقيق رغباته التي تدفع الصراعات بين الناس. الرغبة هي سمة دائمة وعالمية لوجود الانسان، وعند تحويلها الى عمل فأنها تشكل أساسا لكل "وكالة" تاريخية. الرغبة في "الاعتراف"، وتأكيد قيمة الانسان وتلبية الاحتياجات، تدفع نحو النضال والصراع الذي يحقق التقدم التاريخي. يتحرك التاريخ من خلال سلسلة من التكوينات المحددة، تتوج بنهاية التاريخ، وهي حالة تتحقق فيها الإنسانية المشتركة والعالمية وبشكل نهائي. ويتضمن ذلك تشكيل مجتمع .. يتعرف فيه على القيمة الفردية الخاصة والشخصية لكل فرد، وبالتالي، ستتقاطع القيم والاحتياجات الفردية في تسوية مشتركة (تشمل الرغبات والميول التي تحددها الانسانية بذاتها).

كيف ولماذا يتحقق هذا الادراك للتبادلية والمساواة؟ يتبع كوجيف عرض هيجل الشهير لجدلية "السيد والعبد" من اجل استنتاج التغلب الضروري على عدم المساواة والانقسام والتبعية. العلاقة بين "السيد" و"العبد" هي علاقة يتم فيها تلبية احتياجات المجموعة او الطبقة المهيمنة "الاسياد" من خلال اخضاع الاخرين "العبيد" او" المستعبدين". "العبد" موجود فقط لتأكيد تفوق وإنسانية "السيد"، ولتوفير احتياجات "السيد" من خلال تسليم عمله. ومع ذلك فان هذه العلاقة محكوم عليها بالفشل، لسببين أساسيين:  أولا، يرغب "السيد" في الاعتراف بإنسانيته وقيمته الكاملة وتأكيدها، ويستخدم "العبد" التابع لهذه الغاية. هذا يعني ان "السيد" على العكس من ذلك يعتمد على " العبد"، وبالتالي يقلب علاقة الهيمنة. علاوة على ذلك، تظل علاقة الاعتراف القسرية هذه غير مكتملة تماما، لأن "العبد" ليس في وضع يسمح له بمنح التأكيد بحرية، ولكنه مجبر على القيام بذلك بسبب تبعيته. التأكيد او الاعتراف الذي لا يعطى بحرية لا يهم شيئا. او كما يقول كوجيف:

العلاقة بين السيد والعبد ليس اعترافا بشكل صحيح...السيد. ليس الوحيد الذي يعتبر نفسه سيدا،....العبد، أيضا يعتبر نفسه على هذا النحو. ومن ثم، فهو معترف به في واقعه الإنساني وكرامته. ولكن هذا الاعتراف احادي الجانب، لأنه لا يعترف بدوره بالواقع الإنساني للعبد وكرامته. ومن ثم يتم الاعتراف به من قبل شخص هو لا يعترف به. وهذا ما هو غير كاف- ما هو مأساوي في وضعه ... لأنه  "السيد" لا يمكن ان يرضى الا بالاعتراف من شخص هو يعترف به.

هذا يؤسس الحاجة الأساسية للتعرف المتبادل والمساواة الرسمية. اذا التعرف على القيمة يجب ان يتأسس. انه فقط عندما يكون تبادل واعتراف بالجميع، يصبح الاعتراف باي شخص ممكنا بشكل كامل.

ثانيا: بالنسية لكوجيف (كما هو الحال، بالنسبة لماركس) فإن "العبد" الكادح هو مفتاح التقدم التاريخي. ان "العبد" هو الذي يعمل، وبالتالي  فهو وليس "السيد" الذي يمارس "سلبيته" في تحويل العالم بما يتماشى مع رغبات الانسان ورغباته. لذلك على المستوى المادي، يمتلك العبد مفتاح تحريره، أي اتقانه النشط للطبيعة. علاوة على ذلك، ليس لدى "السيد" رغبة في تغيير العالم، في حيين ان " العبد"، غير راض عن حالته، يتخيل ويحاول تحقيق عالم من الحرية يتم فيه الاعتراف بقيمته في النهاية، وتلبية رغباته الخاصة. الصراع الأيديولوجي للعبد هو التغلب على خوفه من الموت والنضال ضد "السيد"، مطالبا بالاعتراف بقيمته وحريته. كانت مصادفة الظروف المادية والأيديولوجية للتحرر واضحة بالفعل، بالنسبة لكوجيف من خلال ثورات القرن 18و 19و20. هذه النضالات وضعت الشروط لاستكمال التاريخ في شكل مجتمع عالمي.

تأثير هايدجر

اذا كان ماركس يوفر مصدرا مركزيا لإعادة قراءة كوجيف لهيجل، فان هايدجر يوفر المصدر الاخر. من هايدجر، يأخذ كوجيف الادراك بان الانسان يتميز عن الطبيعة من خلال علاقته الانطولوجية المميزة. حيث ان كيان الانسان مشروط  بطابعه الزمني الجذري، وفهمه لكيانه في الزمان، وباعتبار الموت افقه النهائي. تصدر انطولوجية كوجيف حسب   تحليل هايدجر ل"داساين  Dassein" في "الوجود والزمان "، والتي هي ذات طابع تجريبي ووجودي قبل كل شيء. من خلال جمع هيجل مع هايدجر، يحاول كوجيف تأريخ الوجودية بشكل جذري، مع منح تاريخية هيجل جانبا وجوديا جذريا، حيث تحدد الحرية الوجودية للإنسان كيانه، يتم فهم الحرية على انها العلاقة الانطولوجية للسلبية، عدم كمال الانسان، ان عدم اكتمال الكائن البشري " النقص التكويني " هو على وجه التحديد بسبب هذا النقص في الوجود الكامل الذي يختبره الانسان، (آو بالأحرى ليس شيئا سوى) الرغبة، سلبية الوجود، التي تتجلى كرغبة تجعل من الممكن صنع الانسان لذاته، يمكن اعتبار هذا الموقف مستلهما من نقد هايدجر للمغامرات الميتافيزيقية للفكر الغربي، التي يدعي انها وضعت رموزا ميتافيزيقية مؤكدة اسبقية الوجود على الصيرورة. (حيث يتم الكشف عن "كينونة الكائنات" بشكل مختلف في افق الزمان).

ان التنصل من مثل هذا التكوين الراسخ ميتافيزيقيا والازلي، في نهاية المطاف يحرر الانسان من "الحتمية"، "ويلقي به" في حريته الوجودية. في تفكير كوجيف، يكمن صراع الانسان في ممارسة هذه الحرية من اجل انتاج عالم يشبع رغباته، وفي هذه العملية يقبل حريته الخاصة ويتخلص من أوهام الدين والخرافات، ويطالب بشجاعة بوجوديته المحدودة او موته.

يمكننا رؤية كيف يحاول كوجيف توليف هيجل ماركس وهايدجر، من هيجل، يستلهم مفهوم عملية تاريخية عالمية تنكشف  فيها المصالحة التاريخية من خلال جدلية ذاتية، تؤدي الى الوحدة. من ماركس، يستلهم انثروبولوجية فلسفية علمانية غير لاهوتية، والتي تضع النشاط التحويلي المتمثل في الرغبة في مركز الصدارة في العملية التاريخية. ومن هايدجر، يستلهم تفسيرا وجوديا للإنسان ككيان حر وسلبي وزمني بشكل جذري. ومن خلال دمج هذه العناصر الثلاثة ، يقدم رؤية لتاريخ الانسان، حيث يدرك الانسان حريته في انتاج نفسه وعالمه في سعيه وراء رغباته، وبذلك يدفع نحو نهايته( المفهومة على حد سواء على انه تتويج او استنفاد، هدف او اكتمال).

***

....................

* راجع كتاب خفايا ما بعد الحداثة، د. شادية دروري ترجمة: د. موسى الحالول، دار الحوار، اللاذقية، سوريا.

موسوعة الفلسفة على الانترنت (ماجد يار).

(البراطيل تنصر الأباطيل).. الزمخشري

كل فرد مجتمعي مطالب بتحصيل معارف جديدة، تنهض على المشاركة والتأثير، على أن تكون أدوات هذا التحصيل ناظمة لمجموعة المؤشرات والعناصر المبدعة، بدلا من مجرد التلهية والتهويم.

كانت أول مبدئية، تقوم عليها منظومة مجتمع المعرفة، هي أولوية تحفيز وإدماج الفرد في مجتمع العقل، واستثمار قواه وإمكاناته للمشاركة القصدية، ومحاولة تقديمه كمركز بديل وبؤرة ضوء متاخمة للحاجة والضرورة.

من هنا، تبرز المعرفة الجمعية، كبوصلة ترتهن عليها أجزاء المعرفة المتعددة والمختلفة، بصفتها سيرورة متوافق عليها. ومنها تنبع الرغبة في تغيير الملاذات، أو الأهداف المرتجاة، كما هو الشأن بالنسبة، لاعتبار فرضية "عدم الاتفاق بشكل كلي وحصري على تلك المعرفة الجماعية"، ما يفرض منهجيا "التفكير في المتفقات وترك الاختلافات الجانبية"، هروبا من انهيار تقسيم العمل المعرفي الذي تعوزه الوضعية.

استعمل س سلومان وف فيرنباخ، في كتابهما العميق "وهم المعرفة: لماذا لا نفكر بمفردنا أبدا؟"، مفهوم "استراتيجية توجيه النظر"، كحقل ألغام يناط به تحديد سمات انتقاء جودة المعلومات الفورية، وما تتطلبه من جهود فكرية وعقلانية لتوجيهها وتصنيفها وإدراك أبعادها وتحولاتها. وفي سياق قياس منافذ هذه الاستراتيجية وأبنيتها الدلالية والمعرفية، يقاربان سؤال الزمن وسرعته، والتقائية ذلك مع فكرة التحول، حيث يعتمد نظرهما على تأسيس حدود هذا النظر بالقول "لمعرفة اتجاه نظرك، كل ما عليك فعله، معرفة أين هي الأرض، وإلى اين أنت تنظر؟"، علاوة على أنه "لمعرفة السرعة التي يتغير بها اتجاه نظرك، كل ما تحتاج معرفته هو مدى سرعة تحرك رأسك؟".

هناك أبعاد فلسفية كبرى، تجعل من تأطير هذه المسألة المثيرة، أمرا متصلا بما يصفانه ب"حوسبة القطع"، مستدركين، أن من بين أهم سبل تواجدنا، هو استعمالنا العالم من أجل إجراء الحوسبة، للتنقل عبر المساحات الضيقة.

ولا يستدعي المثال الأخير لنظرية "وهم المعرفة"، أي جهد للوصول إلى معنى ارتباط "حقل المعرفة" بالطريقة التي ننظر بها إلى مكنوناته الظاهرة، فهي الأقرب إلى واقع "علاقة الضوء الملتقط بالأعين المجردة بسطح الأشياء"، كمثل "انعكاس ذلك على المحيط أثناء الحركة". وهو ما يؤشر على استنتاج فواعل جديدة في "مجتمع المعرفة" وعقلها، مما يشي بتدفق المعلومات الجنونية المتلاطمة، عبر وسائل الإعلام ووسائطها الاجتماعية، بشكل لا يخضع لقواعد محددة، ويرتهن على مغازلتها لأنساق جماهيرية متغلغلة، تبحث عن تقاليد وأنماط غير مسبوقة تتجذر بشكل أبطأ، وتحفر بقسوة، في بناء نموذج قيمي خارج الأخلاق.

هل معنى ذلك، أن المعرفة الآن مشروطة بإعادة معرفة فهم التكنولوجيا والتحكم فيها؟

ربما، لكن قطعا، لا يمكن التعويل على تحقيق الامتلاء المعرفي، وإغراءاته في الوصول إلى كمية المعلومات وتشعباتها، دون تطوير المواقف بإزاء حضورها في المجتمع وانتشارها بين الناس، بل وتأثيرها في المسار العام للحياة والعيش المشترك. فالخطر القادم، يظل قائما، ما دام "الذكاء المعلوماتي الفائق والشرير"، يراكم استحقاقاته الخاصة و"اللاأخلاقية" على حساب البشرية، إذ إن "الآلات التي لا تمتلك القدرة البشرية الأساسية، على مشاركة الانتباه والأهداف، لن تكون قادرة أبدا على قراءة أذهاننا، وعلى أن تفوقنا ذكاء، لأنها لن تكون قادرة حتى على فهمنا؟"*.

***

د. مصطَفَى غَلْمَان

............................

* ستيفن سلومان وفيليب فيرنباخ (وهم المعرفة: لماذا لا نفكر بمفردنا أبدا؟" ترجمة، أحمد م احمد ، مبادرة ترجم السعودية 2022 / ص 163

في المثقف اليوم