أقلام فكرية

أقلام فكرية

إنَّ مقولات (ارسطو) عن الوجود والموجود وعن الحركة والغاية وغيرها قد تكررت عند الفلاسفة المسيحيين، وترددت في الوقت نفسه المقولات الافلاطونية في عالم المثل عند فلاسفة آخرين من الديانة المسيحية أيضاً، فأبرز من مثل الفكر الافلاطوني والفكر الأرسطوطالي (أوغسطين، وتوما الأكويني) تمثلت في تبني أحد المرجعيتين المختلفتين في تفسير الأشياء ونسبتها إلى المثالية، أو المادية أي إلى الأفلاطونية، أو الأرسطوطالية، لذلك فقد تمثلت هذه الجدلية في الفكر المسيحي بوضوح في هذين الاتجاهين، وخصوصاً في رؤيتهما للإنسان وأفكاره على وفق التصورات المنبثقة من الديانة المسيحية ذاتها، أي على وفق الرؤية الإيمانية التي جعل كل منهما الكتاب المقدس وتفسيراته محور لهذه الرؤية، وهنا يتجسد الرأي الأرسطوطالي عند (الأكويني) وتقويمه لطبيعة الإنسان إذ " امتد إلى جسم الإنسان وهو تقويم أثر في توجيهه المعرفي (الابستمولوجي) المميز فعلى النقيض من موقف أفلاطون المعادي للمادية، الذي أنعكس على نهجه جزء كبير من اللاهوت الأوغسطيني التقليدي. نجح الأكويني في استحضار مفاهيم أرسطوطالية؛ تأكيداً لمقاربة جديدة، لا شك أن الروح والطبيعة في الإنسان قابلتين للتمايز إلا أنهما ليستا إلا وجهين لكل متجانس: إن النفس هي شكل الإنسان والجسد مادته " (1) ومن هذا التجانس يجعل الاتجاه نحو ما هو معاش حتى يستمر هذا التكامل أكثر من الأبتعاد إلى عالم مثالي، قد  لا يتطابق وحاجياته المادية وصياغة طبيعة حياته ومتطلباته في داخل المجتمع. صحيح أن الدين يرجع في أغلب الاحيان إلى تربية الروح والتأكيد على نقاء السريرة والتفكير الصالح، لكنه يؤكد دائماً على أن الجسد هو حقل اختبار لهذه الروح، ومدى تأثيرها بالآخرين من خلال السلوكيات والتصرفات التي يقدمها الجسد في صور مختلفة، والفعل المادي يؤديه الجسد والتعذيب التي تمارسه الروح في صعودها نحو الفضيلة والنقاء، يتم من خلال الجسد وليس خارجه، أو في عالم آخر قد لا تستطيع الروح الوصول إليه خارج أطار الجسد المادي.

إنَّ انطلاق (توما الأكويني) في مغايرة الفكر (الأوغسطيني)، الذي سبقه في الساحة المعرفية المسيحية جاءت في مجموعة من المؤلفات التي حاول فيها أن يخرج من الفكر المثالي الأفلاطوني الذي هيمن على اللاهوت المسيحي بتأثير كبير من (اوغسطين)، وهنا قدم (الأكويني) رؤيته واتجاهه نحو المعالم الأخرى المغايرة في اتجاه المقابل والخروج من دائرة المثل والأفكار إلى دائرة الطبيعة والحياة الانسانية، ومن مؤلفاته في هذا المجال التي بنى عليها فلسفته اللاهوتية هي  (وحدة العقل)، و(عن خلود العالم)، و(مجمل علم اللاهوت) والأخير تبنى فيه الإنطلاقة التعليمية في المؤسسات الدينية المسيحية في(ايطاليا) من خلال البحث في علم الأخلاق المسيحية في صورها الجديدة وكيفية البحث في الواقع المعاش حتى يكون الإنسان قادر على التعايش مع الطبيعة الاجتماعية ومتغيراتها، إذ عمل (الأكويني) على إحداث صدمة كبيرة في الفكر اللاهوتي المسيحي حتى يغيره نحو النظرة الواقعية، التي فيها الكثير من التوجهات الأرسطوطالية بعدما كانت الأفكار (الأوغسطينية) سارية المفعول ومؤثرة من خلال الأفكار الأفلاطونية، فكان تركيز (توما) حول الغائية التي يصل إليها الإنسان بوجوده في هذه الحياة بدلاً من الابتعاد عنها إلى عالم مثالي قد لا يتحقق فيه المطلوب من وجود الإنسان في هذه الحياة، لذلك أنطلق (الأكويني) على وفق المرجعيات الأرسطوطالية " من ملاحظة المسارات الحتمية الطبيعية ويستقي من ذلك المفاهيم التي يشرح بها النشوء والفناء في هذا العالم، فالعالم يعد عنده ايضاً غائياً: أي أنه وضع نظامه لغرض وغاية، إنه عالم تنشأ فيه المادة غير المشكلة، التي هي مجال الممكن دائماً وأبداً اشكالا جديدة هي التي كانت كامنة في المادة على أنها (غرض) أو غاية، وتنبثق من هذه المادة بصورة حتمية فيها المادة يصير شكل، أي من الممكن تنبثق حقيقة: الأشكال تصنع الجوهر أي (الجوهر) لشيء ما يقابل الجوهر (العوارض): أي الصفات والخصائص المتغيرة لشيء ما "(2). إنَّ هذه الفلسفة (الأكوينية) أراد من خلالها أن يجعل هذا المنظور المادي للأشياء بعداً (كونياً) يتجاوز الجزئيات البسيطة إلى العموميات والكليات، أي أن النظرة إلى الطبيعة في حقيقتها تنطلق به نحو معرفة (الله الخالق)، وهذه النظرة التي تجعل من الأشياء المادية آثار لخلقه وتكويناً لما يريده الخالق من غايات من وراء خلق هذا الكون بكلياته وجزئياته، هو ما جعل (الأكويني) يغاير ما ذهب إليه المذهب الافلاطوني عند (أوغسطين)، وذلك بأن جعل الطريق من عالم المثل إلى الخالق وهذا الطريق الذي لا يمكن أن يتحقق بنظره كما هو رأي (أرسطو) في تعليقاته على المثل لدى (أفلاطون)، أتجه (الأكويني) إلى البحث في خلق الأشياء للوصول إلى (الله) فهذه النظرة هي مغايرة للفكر الإشراقي وحتى الصوفي البحت، الذي يركز على الإلهام والماورائيات في البحث عن خالق الوجود وعلى هذا الأساس " يصدر توما في موقفه على فكرة أساسية تتعلق بإثبات وجود الله متوسلاً في ذلك (البرهان الآتي): ويرى توما أن العلم بالموجودات الطبيعية سوف يفضي إلى العلم بالعلة، التي هي مصدر هذه الموجودات فالمعرفة بالموجودات الطبيعية من حيث أرتقاء عللها تؤول بالإنسان إلى التأكد من وجود الله، وعلى العموم يتوقف الإيمان على المعرفة الطبيعية، إذ قبل أن نؤمن بالله يتعين أن نعلم وجود الله، وأن عقلنا كفء لهذا العلم وللعلم بأسباب الإيمان "(3)وهنا معرفة الخالق إذا أردنا على وفق نظرة (الاكويني) أن نبحث عنها فأنها تبدأ أولاً: من البحث في الآثار التي تدلنا عليه، وبذلك تكون عملية الإيجاد للموجود سواء أكان الموجود الأثر أم لواجده، فأنها تتم من خلال البحث في طبيعة الموجودات وآثارها التي تدل على الواجد، بينما الأفكار والمثل التي لا تضع للحقيقة الموجودة ولا للعالم المعاش اعتبار، فأنها تبقى مجرد أفكار ونظم مثالية لا يمكن أن تطبق على المستوى الفعلي؛ بل تكون ابتعاد عن واقعية الأشياء الطبيعة البشرية التي يقع جزءاً كبير اًمنها في الاشتغال المادي والتفاعل مع الموجودات الخارجة عن الجسد الإنساني والذي يبقى بحاجة إليها لتأكيد ذاته في هذا العالم.

إنَّ هذه العلاقة التكوينية بين الوجود والماهية، أو بين الوجود وجوهر الأشياء المتشكلة في هذا الوجود، نتكلم عن الوجود الخارجي وجوهر الأشياء وليس على الماهيات المتشكلة في الوجود الداخلي أو الذهني وهذه الوجودات الداخلية هي أيضاً ارتداد لما هو في الوجودات الخارجية، فإن هذه القضية الخارجية لا يمكن فهما إلا عن طريق الكينونة والصيرورة فلا وجود من دون جوهر ولا عكس ذلك، فكلاهما مرتبطان في هذا التشكيل الذي هو وحدة واحدة (4). إنَّ هذه النظرة توضح بأنهما من المتآلفتين في بناء واحد لا يمكن الفصل بينهما لكنهما في الوقت نفسه يكونا من مختلفتين في المسميات والألفاظ.

أذن، فإن الوجود بوصفه حالة راهنية مصاحبة للموجود في حالتي القوة والفعل، تأخذ ذاتيتها في الإيجاد من الانتقال بين الحالتين، وبذلك هي من تصّير ظاهراتية الموجود كمثل الضوء الذي ينبعث باتجاه جسم متحرك، فإن انتشار الضوء حول الجسم المتحرك يعطيه وجودية على عكس من حالة انقطاع نور الضوء على هذا الجسم، فهذه النورية التي تتفاعل في زمانية ومكانية محددة هي من تعطي لهذا الجوهر المتحرك في الظاهراتية التي حولته من معدوم إلى موجود، وهذا مثال تقريبي لرسم حالة الراهنية، أو كينونة الكائن كذلك هذا المثال نضربه على عالم الإمكان وليس الوجوب، فالوجود الواجب وحسب ما تطرقنا إليه في الهامش فله مبدأ آخر، وهذا المقال يتحدد في نظرتنا إلى الكيفية التي نستطيع أن ننظر بها إلى ماهية الوجود والموجود، التي أصبحت خارج السياقات المبنية على الماهويات المبنية على الأفكار المتعالية، سواء أكانت في الوعي القصدي للأشياء، أم الموضوعات أو حتى الإنسان، فوجودية الإنسان بدأت تتشكل بحسب النظرات والنظريات التي همها الوحيد هو تطبيق الأفكار، على الرغم من أن هذه الأفكار لا تأخذ بنظر الاهتمام الموجود الواقعي وراهنيته الواقعية؛ بل أصبحت الأفكار الخارجة عن هذه الراهنية والواقعية في الإيجاد هي من تطبق في عالم اليوم والذي ابتعدنا فيه عن الحقائق التي يجب أن ترتسم فيها الأشياء بطريقة صحيحة وسليمة.

***

أ.د محمد كريم الساعدي

......................

الهوامش

1. تارناس، ريتشارد: آلام العقل العربي، ترجمة: فاضل....، ابو ظبي: كلمة، هيئة ابو ظبي للثقافة والتراث، 2010.، ص 219.

2. تسيمر، روبرت: في صحبة الفلاسفة، ترجمة: أ.د. عبد الله محمد ابو هشة، لندن: دار الحكمة، 2012، ص 65.

3. أسبر، علي ممد: ماهية الوعي الفلسفي، دمشق: دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر، ط1، 2010.، ص 93.

1. ينظر، رونتال، م. ي. يودين، الموسوعة الفلسفية: وضع لجنة من العلماء والأكاديميين السوفياتيين، ترجمة: سمير كرم، بيروت: دار الطليعة للطباعة والنشر، ط 2، 1980، ص 577.

من بين أبرز التوضيحات الهامة للزمن في الغرب هو عمل عمانوئيل كانط (1724-1804). سنحاول هنا استكشاف مفهوم كانط للزمن، خاصة الطريقة التي ارتبط بها باللغة. هذا لا يعني اننا نختزل مشكلة الزمن فقط بمسألة لغة، وانما نريد إظهار ان اللغة تلعب دورا حاسما بشأن الزمن. وللقيام بهذا سوف ننظر بعمل كانط الشهير (نقد العقل المحض) وبالذات في القسم الذي ورد تحت عنوان "الإحساس المتجاوز" The Transcendental Aesthetic. ورغم ان كانط لم يتحدث بشكل مباشر عن الزمن، مختزلا الجدال الى هامش في نهاية الفصل، لكن الجدال قريب جدا لجداله المتعلق بالمكان. وحتى لو يجادل احد ان الزمان والمكان غير متطابقين فيما يتعلق بالحواس – الزمن جزء من "الحس الداخلي"، والمكان مظهر "للحس الخارجي" – لكن الزمن وحده لا يكفي ليجعل تجربتنا منظّمة ومفهومة.

سنرى بان مفاهيم الماضي، الحاضر، المستقبل هي غير ضرورية لطبيعة الزمن كما يراها كانط. الفكرة هي ان الفرق بين المستقبل والماضي – جزء لا يتجزأ من إحساسنا بتدفق الزمن – هو مفاهيمي بشكل لا ينفصم، وبهذا لا ينتمي للعناصر الحسية لتجربتنا وانما هو مرتبط بشكل وثيق باللغة.

لغة التجربة

في كتابه (انثروبولوجيا من وجهة نظر برجماتية، 1798)، يقول كانط "ان المقدرة على تمييز الحاضر كوسيلة لربط أفكار عن أحداث متوقعة مع تلك المتعلقة بأحداث الماضي هي قوة استعمال العلامات" (ص64). وعليه، قد يتحدث احد جيدا حول الزمن فقط عندما تكون اللغة جزءاً من المزيج – والذي يعني، فقط عندما نعرّض الزمن لمفاهيم. السؤال هو ما اذا كان احد يستطيع ان يتصور مفاهيميا احدهما او كلاهما -الماضي والحاضر- كغير موجودين. بالنسبة للقس اوغسطين (354-430)، من السهل ان يتصور عدم وجود الماضي والمستقبل. هو اعتقد ان الاحداث جاءت الى الوجود وخرجت من الوجود، وان الحاضر فقط هو الواقعي. كانط انتمى الى نفس الفكر، لكنه كان قادرا على صياغة المشكلة باسلوب مختلف.

وكما ذكرنا، اول تعامل لكانط مع الزمن في نقد العقل المحض في قسم بعنوان "الأشكال الاولى للتصور". لنحاول الان توضيح العنوان قبل الذهاب الى تفاصيل ما يقوله كانط عن طبيعة الزمن.

المعرفة القبلية هي معرفة موجودة في ذهن الانسان قبليا وبشكل مستقل عن التجربة بالعالم الخارجي. في تحقيقات كانط في التجربة الانسانية، مفاهيمنا عن المكان والزمان تظهر قبل التجربة بالعالم الخارجي ومستقلة عنه وهي الشرط الضروري لنا دائما لإمتلاك هكذا تجربة .

القبلي A priori يمكن ان يكون مضادا للبعدي a posterior الذي يشير للمعرفة المشتقة من التجربة، والى المتجاوز الذي يشير الى شيء يتجاوز التجربة او قبلها، لكنه غير متضمن فيها. مفردة "متجاوز" كان لها سلفا تاريخا طويلا في التفكير الفلسفي خاصة ضمن المدرسية. بالنسبة لكانط، المفردة تحدد شيئا ما لايُشتق من التجربة وانما هو "الطريقة التي يتأثر بها الذهن بفعاليته الخاصة" (نقد، ص 189). بكلمة اخرى مفردة "المتجاوز" تشير الى الطريقة التي يكيّف بها العقل نفسه. من جهة اخرى، مفردة احساس aesthetic تُشتق من الكلمة اليونانية القديمة aisthesis وتعني "احساس". بهذا التحليل، نحن نستطيع سلفا استنتاج ما سيعالجه كانط في هذا الفصل. هذا القسم في الحقيقة يعالج الاحساس القبلي الذي يشير في النقد (نقد العقل المحض) عادة الى الحدس القبلي.

الزمن كشكل من الحدس القبلي

في علاج كانط الأول للزمن، لا تظهر العلاقة بين الزمن واللغة بشكل واضح. لكننا سوف نستطلعها لسببين رئيسيين. الاول ان كانط يستطلع كل من الطبيعة المتجاوزة والطبيعة التجريبية للزمن، ونحن يجب ان نستعمل اللغة لوصف تلك الاشياء. السبب الثاني هو انه على الرغم من ان كانط لايناقش بشكل صريح الزمن واللغة باعتبارهما مرتبطين جوهريا، لكن في هذا القسم هو يتقدم ببعض الافتراضات المسبقة الجوهرية المتصلة بارتباطهما.

يصف كانط الزمن كشكل من الحدس المحض، في تضاد مع مادة العالم التي هو يجادل انها فقط "مظهر يتطابق مع الإحساس"(ص172). هو يبدأ خطابه حول المكان والزمان بجدال يُظهر ان حدس التجربة لا يستلزم بالضرورة ادراكا حسيا. لعمل هذا هو يستخدم تمييزا بين الحدس التجريبي والحدس الخالص قائلا ان الحدس التجريبي (التجربة في العالم) يتضمن بالضرورة ان الاشياء "اُعطيت لنا بوسائل الاحساس" (ص172) – أي، عبر إحساسنا بها. من جهة اخرى، الحدس الخالص لايستلزم بالضرورة احساسا، لأنه لا يُشتق مباشرة من الحواس البايولوجية. الجدال يمكن تلخيصه بالقول، انني استطيع تصوّر المكان ولا أزال ليس لدي احساس به. طالما المكان ليس شيئا اُعطي لي بواسطة حواسي. نفس الشيء، الزمن المطلق ليس شيئا في التجربة طالما نحن ليس لدينا احساس بالزمن ايضا. بدلا من ذلك، تمثيلاتنا للمكان والزمان هي محضة لأنه وبقدر ما يتعلق الامر بهما، "لاشيء يمكن مواجهته ينتمي للإحساس" (ص173).

طريقة اخرى لنفس الفكرة يمكن العثور عليها في حجة كانط الثانية حول الزمن. هو يقول "فيما يتعلق بالمظهر بشكل عام لايستطيع احد ازالة الزمن، مع انه يمكنه جيدا اخذ المظهر من الزمن" (ص162) أي يمكن القول، نحن لا نستطيع ان نتصور أي حدث كغير موجود في الزمن. في النهاية، نحن غير قادرين على تصور غياب الزمن ذاته. هناك مقارنة مبسطة لكنها مفيدة يستخدمها كورنر S.Corner في كتابه كانط (1955)، بان المكان والزمان يمكن تصورهما كـ "نظارات لايمكن نزعها"، طالما "الاشياء والاحداث يمكن رؤيتها فقط من خلال المكان والزمان. لذلك، فان الاشياء والاحداث لايمكن رؤيتها ابدا كما هي في ذاتها" (كانط، ص37). وطالما الزمان والمكان شكلان ضروريان للتجربة، نحن لايمكننا ابدا ان نشعر بأي شيء مستقل عنهما، ولا بأي شيء فيه الزمان والمكان مستقلان عن تجربتنا.

رغم اننا نعتقد ان هذا هو الجدال الأكثر إقناعا حول الزمن، لكن يجب الاعتراف ان ذلك ليس حاسما تماما. لو تصورنا اننا منذ الولادة فصاعدا دائما نرى العالم من خلال زوج من النظارات الملونة باللون الاخضر. بالطبع، العالم يبدو اخضرا. الآن تصوّر اننا بطريقة ما نجد طريقة لإزالة النظارات. نحن ربما في الحقيقة نكتشف ان العالم هو اخضر حقا، او لكي نترجم الاستعارة، ان العالم هو في زمان ومكان . لذلك، فان الزمن المطلق سيكون مستقلا عن تجربتنا بالزمن. مع ذلك، هذا الاستنتاج يذهب الى ما وراء الحدود التي يضعها كانط لقدرتنا على الفهم، لأننا لا نستطيع تجربة ما هو وراء التجربة. هو بدلا من ذلك يقول انه فقط اننا نستطيع التحدث حول الزمن فقط من منظور الانسان، ومن هذا المنظور، فان تجربة الزمن تسبق تجربة العالم الخارجي.

للحفاظ على هذه الفرضية، يجادل كانط بان فكرة الزمن لا يمكن ان تبرز من تجربة التزامن او التعاقب لأننا نحتاج لنفترض الزمن مسبقا لكي نستفيد من هذا النوع الخاص من النظام الذي من خلاله نشعر بالعالم: "فقط في ظل الافتراض المسبق للزمن يستطيع المرء تمثيل تلك الاشياء العديدة الموجودة في نفس الوقت (تزامنا) او في اوقات مختلفة (بالتعاقب)"(ص162). خوف كانط هو ان الزمن غير مشتق من شيء لا زمني، بما يعني ان الزمن لا يمكن اشتقاقه من مصدر لازمني. بكلمة اخرى، الزمن لايمكن توضيحه تماما عبر الاشارة لشيء هو ذاته غير زمني، ولذا يجب افتراضه مسبقا كمظهر للتجربة.

رغم ان هذا الادّعاء قد يبدو بسيطا، لكنه احد اطروحات كانط المركزية. ربما يمكن تلخيصه بشكل افضل من خلال بيان ارسطي. الفيلسوف القديم ارسطو يقول، "من الواضح ان الزمن لا هو تغيير ولا هو جزء من التغيير"(الميتافيزيقا، ص218 b35). التغيير في الحقيقة يحدث في شيء من خلال التعديل او الحركة. مع ذلك، عندما يصل التغيير الى نهايته، نحن لانزال نقول ان الزمن يمر او يتدفق – تصوّر للحظة كونك في غرفة مظلمة وبدون أي نوع من التجربة الحسية. حتى هنا نحن نريد الزعم بان الزمن لم يتوقف، ولانزال نشعر بتدفق الزمن. هذا يجعلنا اقرب لفكرة كانط. هذا المظهر الخاص لتجربتنا يمكن توضيحه عبر ايجاد فرق بين الزمن كما يُعاش في الإحساس (التجربة الحسية للأحداث)، والزمن كما يُعاش في سياق من الفهم المحض.

تجربة الزمن

كوننا اعتبرنا تعامل كانط مع الزمن ضمن الـ "الاحساس المتجاوز" كشكل خالص من الحدس، الآن من الضروري الإنتقال الى فهم مختلف قليلا للزمن ظهر في القسم "التحليلي". في هذا القسم من النقد يبدو ان كانط يستدعي دليلا في الكيفية التي تتولد بها التجربة بالزمن. يوضح كانط بانه ما اذا كان مصدر التمثيل خارجيا او داخليا – ما اذا كنا نتحدث حول المظاهر القبلية او التجريبية – هي مع ذلك تكون دائما تكييف للذهن، وبهذا، هي تنتمي لشعورنا الداخلي. يوضح كانط، انها طالما تنتمي دائما للحس الداخلي، فان "جميع إدراكاتنا هي في النهاية عرضة الى الوضع الاساسي للحس الداخلي، أعني الزمن، الذي يجب ان تُنظّم فيه وترتبط وتدخل في علاقات" (ص228). لذا، الزمن يلعب دورا محوريا في عمليات خلق كل تجربتنا، لأنه يشكل الارضية او الاساس لتلك التجربة. وبما ان التمثلات لا تمثل فقط شيئا ما، وانما تمثله لشخص ما، سنكون الان في موقف من الفهم لهذا "الشخص". سيصبح واضحا كيف بإمكاننا معايشة الزمن، وفي الحقيقة نفهم لماذا نحن نعيش الزمن كاستمرارية بدلا من مجموعة لحظات منفصلة، وبالنهاية، نفهم اي نوع من العلاقة توجد بين الزمن واللغة.

يقول كانط ان تركيبة الحدس هي توحيد مجموعة متنوعة من التجربة. ماذا يعني هذا؟ لكي نستعمل كلمات كانط الخاصة، "تركيبة synthesis بالمعنى العام .. أفهمها كفعل وضع مختلف التمثلات مع بعضها وفهم تعدديتها في ادراك واحد" (نقد، ص210). هنا المتنوع manifold هو تعدد الحدس او البداهات، او مختلف مظاهر التجربة. فمثلا، عندما انظر الى بناية من هذه الزاوية وتلك وفي مختلف الازمان، انا لدي تعدد بالحدس التجريبي او بالمدخلات البصرية التي تتوحد في الذهن لكي تشكل تجربة متماسكة وموحدة للبناية. وعموما، تركيبة تعدد الحدس تسمح لتجربتنا لتكون موحدة بدلا مما يسميه وليم جيمس بـ "تشويش الطنين الكبير".(1)

بدون تركيبة، ستبقى تجربتنا مجموعة غير مرتبة من المعلومات. ولكن سوف لن تكون هناك تجربة بالزمن ايضا. افرض نحن كنا نتحدث عن الزمن الذي مر بين حدث وآخر. اذا كانت اجزاء من تجربتي ليست في علاقة زمنية متماسكة مع بعضها البعض، سوف لن اكون قادرا على القول باني امتلكت هكذا تجربة، ولا ان الزمن مر مع هذه التجربة. في هذه الحالة غير المتماسكة، يقول كانط، انه "حتى أول وأنقى تمثلات للمكان والزمان لا تستطيع ابدا ان تبرز فينا" (ص85)، بالضبط بسبب اننا نحتاج "للمرور من خلال المتعدد والتمسك به مجتمعا" (ص82). ليس بالصدفة ان هذا الفعل من الذهن يسمى تركيبة (مرة اخرى، الكلمة مشتقة من اليونان القديمة "مجتمعا مع" و"يضع"). مقدرتنا في التركيب هي قدرتنا الذهنية المتجاوزة لخلق وحدة من التجارب المتعددة او الحدس. بدون هذه الوحدة، سوف لن نكون قادرين على امتلاك تجربة بالحدس الخالص بالمكان والزمان حسب كانط. وهكذا، من هذا الاساس يقول كانط تتولد التجربة بالزمن. الان، يكفي بنا القول مع كانط ان الزمن"هو الشرط الاساسي لتعدد الحس الداخلي، وبالتالي فان ترابط جميع التمثلات احتوت على متنوع قبلي في الحدس المحض" (ص272).

هل التجربة تكفي لتوضيح الزمن؟

الآن لدينا صورة عن طبيعة وتجربة الزمن . حتى الان، نستطيع القول ان الزمن هو شكل نقي للحدس، وتجربته تعتمد على ما نخلق من نوع محدد (زمني) للوحدة من تعدد التجارب. من هذا المنظور نستطيع الحديث عن الزمن كاستمرارية بدلا من نقاط زمنية منفصلة نشير لها بالماضي والحاضر والمستقبل. هناك قناعة بانه اذا كان كانط صائبا، فان صياغته تنتج فقط وحدة لتجربة الزمن بدلا من تدفق غير قابل للوصف منطويا على اوقات مختلفة. وهكذا، يبدو ان هناك عدم انسجام بين ما نقوله عادة حول الزمن وما يقوله كانط . نعتقد ان هذا ناتج عن الدور الذي تلعبه اللغة في صياغة افكارنا عن الزمن.

دعنا نتقدم تدريجيا. سوف ننظر اولا في فهم اوغسطين للزمن لنرى كيف نستطيع تمييز الزمن مفاهيميا الى مختلف الوجودات، بعد ذلك سوف ننظر في رفض اوغستين للماضي والمستقبل. اخيرا، سوف ننظر في مذكرات كانط المكتوبة باليد طالما تكمن في هذه المذكرات صياغة يمكنها ان توفر الطريق الى الامام لتصور كانط للزمن المنسجم والمتوافق. وكما ذكرنا آنفا، طبقا لاوغستين، لا وجود للماضي ولا للمستقبل، فقط الحاضر موجود. بالنسبة لاوغستين هناك يبدو تزامنا في الزمن ويصبح كما لو انه وجهان لعملة واحدة. لكننا لا نريد التركيز على هذه المشكلة كوننا، نحن الى جانب كانط توقعنا سلفا بان الزمن لايمكن اشتقاقه من شيء غير زمني. الخوف هنا هو ان ذلك بسبب فهمه المفاهيمي للزمن لدرجة ان اوغستين يستطيع القول هو فقط الحاضر. لكن اذا كان الحاضر هو الموجود دائما، فهو يكون مشابه للإبدية. اوغسطين في الحقيقة يقول، "هذان الزمنان الماضي وما يأتي، كيف يكونان، حيث نرى الماضي الآن ليس موجودا، والمستقبل لم يأت بعد؟ لكن الحاضر يجب ان يكون دائما حاضرا ولا يمكن ابدا ان يمر الى زمن الماضي، في الحقيقة انه لا يجب ان يكون زمنا وانما أبدية" (الاعترافات، فصل، 14) .

ضمن هذا التصور يصبح الربط بين الزمن واللغة واضحا. كانط في مذكراته Reflexionen يُظهر عدم جدوى جلب الزمن تحت مفهوم، لأن لا شيء هناك نستطيع ان نقارن الزمن معه بشكل كافي. كذلك، مختلف اجزاء الزمن – الماضي، الحاضر والمستقبل – هي زمن بذاتها طالما هي تشترك بكل صفات الزمن. في الحقيقة، هنا يقول كانط ان الزمن هو استمرارية فيها اجزاؤه – الماضي والحاضر والمستقبل – تُعتبر اجزاءً فقط بمقدار ما نشير الى الفرق بينها لغويا. وهذا يفسر لماذا الفرق المفاهيمي بين الماضي والحاضر والمستقبل لم يوضع على مستوى الواقع، بالطريقة التي يكون بها الزمن ذاته (اي الواقع التجاوزي للزمن). بدلا من ذلك، هذه التمايزات المفاهيمية الاصطناعية هي مظهر لتفكيرنا المفاهيمي واللغة (كما يطرحها كانط في مذكراته).

استنتاج

ان طبيعة وتجربة الزمن معقدة ومتعددة الوجوه، كما ظهر في مختلف الرؤى والمنظورات الفلسفية مثل اوغسطين وكانط. بينما اوغستين يفهم الزمن باعتباره ينشأ من الحاضر، كانط يطور نظاما معقدا لكنه أنيقاً حول تجربتنا بالزمن. هذا التمييز بين طبيعة الزمن وتجربته اللغوية - الانقسام الذي يوجد بين الزمن ذاته وتصوره المفاهيمي – هو من حيث الجوهر اجزاء لنظام اكبر فيه كل شيء مترابط وبشكل متبادل. بالنهاية، الفرق بين ما نستطيع قوله حول الزمن وما هو الزمن حقا انما يؤشر صعوبة الفهم الكامل لهذا المظهر الجوهري لتجربة الانسان. نستنتج الان ان لا شيء يمكن اعتباره إجابة نهائية للسؤال عن الزمن. نحن لا نستطيع عمل أي شيء سوى التأمل في جمال سرّه.

***

حاتم حميد محسن

............................

* Kant on Time, philosophy Now, Aug/Sep 2023

الهوامش

(1) في كتابه مبادئ علم النفس ذكر وليم جيمس عبارته الشهيرة وهي ان العالم عبارة عن "طنين مشوش كبير" لطفل رضيع يتعرّض جهازه الحسي الى هجوم بواسطة العيون والآذان والجلد والأحشاء الداخلية دفعة واحدة. وكبالغين، نحن لانزال نتعرض لكل الهجمات أعلاه، لكن بطريقة ما نحن نستطيع التعامل مع تعقيدية العالم. تجربة الرضيع بالعالم هنا هي كإحساس نقي يأتي قبل أي عقلانية.

ترجمة: ط. احمد مغير

العنوان الاصلي للمقالة هو (قيمة الفلسفة) وهي فصل في كتاب (مشاكل الفلسفة) لبرتراند راسل الفيلسوف البريطاني المعروف ولأهمية الموضوع للمهتمين بالفلسفة فقد ترجمته بعد أن بحثت عن اي ترجمة سابقة للمقالة باللغة العربية ولم اجدها على النت وهنا يوضح برتراند راسل رأيه بقيمة الفلسفة مع اتساع مجال العلوم الاخرى والتقدم في كافة المجالات والجدل بين الفلاسفة والعلماء في علوم اخرى بشأن دور الفلسفة في القرن العشرين وحيث أن جميع العلوم تفرعت من الفلسفة . فقد كان فلاسفة اليونان ضليعين في اغلب علوم ذلك الزمان وارجو للقراء قراءة ممتعة.

بعد أن وصلنا الآن إلى نهاية استعراضنا الموجز وغير المكتمل للغاية لمشاكل الفلسفة، سيكون من الجيد التفكير، في الختام، في ما هي قيمة الفلسفة؟ ولماذا يجب دراستها؟. من الضروري النظر في هذا السؤال، بالنظر إلى حقيقة أن العديد من الرجال، تحت تأثير العلم أو الشؤون العملية، يميلون إلى الشك فيما إذا كانت الفلسفة أفضل من التباهي البريء ولكن عديم الفائدة، والتمييز المجزأ، والخلافات حول الأمور التي تستحيل المعرفة بشأنها.

يبدو أن هذه النظرة للفلسفة ناتجة، جزئيا عن تصور خاطئ لغايات الحياة، جزئيا عن تصور خاطئ لنوع الخيرات التي تسعى الفلسفة إلى تحقيقها. العلوم الفيزيائية، من خلال الاختراعات، مفيدة لعدد لا يحصى من الناس الذين يجهلونها تماما. وبالتالي يجب التوصية بدراسة العلوم الفيزيائية، ليس فقط، أو في المقام الأول، بسبب التأثير على الطالب، ولكن بسبب التأثير على البشرية بشكل عام. هذه الأداة لا تنتمي إلى الفلسفة. إذا كان لدراسة الفلسفة أي قيمة على الإطلاق بالنسبة لغيرهم من طلاب الفلسفة، فيجب أن تكون بشكل غير مباشر فقط، من خلال آثارها على حياة أولئك الذين يدرسونها. في هذه الآثار، لذلك، إن وجدت، يجب البحث عن قيمة الفلسفة في المقام الأول.

 ولكن علاوة على ذلك، إذا أردنا ألا نفشل في سعينا لتحديد قيمة الفلسفة، يجب علينا أولا تحرير عقولنا من تحيزات ما يسمى خطأ بالرجال "العمليين". الإنسان "العملي"، كما تستخدم هذه الكلمة غالبا، هو الشخص الذي يعترف بالاحتياجات المادية فقط، والذي يدرك أن الرجال يجب أن يكون لديهم طعام للجسم، لكنه غافل عن ضرورة توفير الغذاء للعقل. وإذا كان جميع الرجال ميسورين، ولو انخفض الفقر والمرض إلى أدنى نقطة ممكنة، لكان لا يزال هناك الكثير مما ينبغي عمله لإنتاج مجتمع ذي قيمة؛ ومن ثم، فإن الفقر والمرض قد انخفضا إلى أدنى مستوى ممكن. وحتى في العالم الحالي، فإن خيرات العقل لا تقل أهمية عن خيرات الجسم. من بين خيرات العقل حصرا أن قيمة الفلسفة يمكن العثور عليها. ولا يمكن إقناع سوى أولئك الذين لا يهتمون بهذه السلع بأن دراسة الفلسفة ليست مضيعة للوقت.

الفلسفة، مثل جميع الدراسات الأخرى، تهدف في المقام الأول إلى المعرفة. المعرفة التي تهدف إليها هي نوع المعرفة التي تعطي الوحدة والنظام لجسم العلوم، والنوع الذي ينتج عن الفحص النقدي لأسس قناعاتنا وتحيزاتنا ومعتقداتنا. لكن لا يمكن القول  أن الفلسفة حققت أي قدر كبير جدا من النجاح في محاولاتها لتقديم إجابات محددة لأسئلتها. إذا سألت عالم رياضيات أو عالم معادن أو مؤرخا أو أي رجل آخر متعلم، ما هي مجموعة الحقائق المحددة التي تم التحقق منها من خلال علمه، فستستمر إجابته طالما أنك على استعداد للاستماع. ولكن إذا طرحت نفس السؤال على فيلسوف، فسيتعين عليه، إذا كان صريحا، أن يعترف بأن دراسته لم تحقق نتائج إيجابية مثل التي حققتها العلوم الأخرى. صحيح أن هذا يعزى جزئيا إلى حقيقة أنه بمجرد أن تصبح المعرفة المحددة المتعلقة بأي موضوع ممكنة، يتوقف هذا الموضوع عن تسميته بالفلسفة، ويصبح علما منفصلا. تم تضمين دراسة السماوات بأكملها، والتي تنتمي الآن إلى علم الفلك، مرة واحدة في الفلسفة. أطلق على عمل نيوتن العظيم اسم "المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية". وبالمثل، فإن دراسة العقل البشري، التي كانت جزءا من الفلسفة، قد انفصلت الآن عن الفلسفة وأصبحت علم النفس. وهكذا، فإن عدم اليقين في الفلسفة واضح إلى حد كبير أكثر من كونه حقيقيا: تلك الأسئلة القادرة بالفعل على الحصول على إجابات محددة توضع في العلوم، في حين أن الأسئلة التي لا يمكن إعطاء إجابة محددة لها في الوقت الحاضر، تبقى لتشكل البقايا التي تسمى الفلسفة.

ومع ذلك، هذا ليس سوى جزء من الحقيقة المتعلقة بعدم اليقين في الفلسفة. هناك العديد من الأسئلة - ومن بينها تلك التي لها أهمية عميقة لحياتنا الروحية - والتي، بقدر ما يمكننا أن نرى، يجب أن تظل غير قابلة للذوبان في العقل البشري ما لم تصبح قواه ذات ترتيب مختلف تماما عما هي عليه الآن. هل للكون أي وحدة في الخطة أو الهدف، أم أنه ملتقى عرضي للذرات؟ هل الوعي جزء دائم من الكون، يعطي الأمل في نمو الحكمة إلى أجل غير مسمى، أم أنه حادث عابر على كوكب صغير يجب أن تصبح الحياة عليه مستحيلة في النهاية؟ هل الخير والشر مهمان للكون أم للإنسان فقط؟ يتم طرح مثل هذه الأسئلة من قبل الفلسفة، ويجيب عليها مختلف الفلاسفة. ولكن يبدو أنه سواء كانت الإجابات قابلة للاكتشاف أم لا، فإن الإجابات التي تقترحها الفلسفة ليست صحيحة بشكل واضح. ومع ذلك، مهما كان الأمل في اكتشاف إجابة ضئيلا، فإن جزءا من عمل الفلسفة هو مواصلة النظر في مثل هذه الأسئلة، وجعلنا ندرك أهميتها، وفحص جميع المناهج لها، والحفاظ على هذا الاهتمام التأملي في الكون الذي هو عرضة للقتل من خلال حصر أنفسنا في معرفة يمكن التأكد منها بالتأكيد.

صحيح أن العديد من الفلاسفة اعتقدوا أن الفلسفة يمكن أن تثبت حقيقة بعض الإجابات على مثل هذه الأسئلة الأساسية. لقد افترضوا أن ما هو أكثر أهمية في المعتقدات الدينية يمكن إثباته من خلال البرهان الصارم على أنه صحيح. من أجل الحكم على مثل هذه المحاولات، من الضروري إجراء مسح للمعرفة البشرية، وتكوين رأي حول أساليبها وحدودها. في مثل هذا الموضوع، سيكون من غير الحكمة النطق بشكل عقائدي. ولكن إذا لم تضللنا تحقيقات فصولنا السابقة، فسنضطر نحن إلى التخلي عن الأمل في العثور على أدلة فلسفية على المعتقدات الدينية. لذلك لا يمكننا أن ندرج كجزء من قيمة الفلسفة أي مجموعة محددة من الإجابات على مثل هذه الأسئلة. ومن ثم، مرة أخرى، يجب ألا تعتمد قيمة الفلسفة على أي مجموعة مفترضة من المعرفة التي يمكن التحقق منها بالتأكيد والتي سيكتسبها أولئك الذين يدرسونها.

في الواقع، يجب البحث عن قيمة الفلسفة إلى حد كبير في حالة عدم اليقين ذاتها. إن الإنسان الذي ليس لديه صبغة فلسفية يمر بحياة مسجونة في الأحكام المسبقة المستمدة من الفطرة السليمة، ومن المعتقدات المعتادة لعصره أو أمته، ومن القناعات التي نمت في عقله دون تعاون أو موافقة عقله المتعمد. بالنسبة لمثل هذا الرجل، يميل العالم إلى أن يصبح محددا ومحدودا وواضحا. الأشياء الشائعة لا تثير أي أسئلة، ويتم رفض الاحتمالات غير المألوفة بازدراء. بمجرد أن نبدأ في التفلسف، على العكس من ذلك، نجد، كما رأينا في فصولنا الافتتاحية، أنه حتى أكثر الأشياء اليومية تؤدي إلى مشاكل لا يمكن تقديم سوى إجابات غير مكتملة للغاية. الفلسفة، على الرغم من أنها غير قادرة على إخبارنا على وجه اليقين ما هو الجواب الحقيقي للشكوك التي تثيرها، إلا أنها قادرة على اقتراح العديد من الاحتمالات التي توسع أفكارنا وتحررها من طغيان العرف. وهكذا، بينما تقلل من شعورنا باليقين فيما يتعلق بماهية الأشياء، فإنها تزيد بشكل كبير من معرفتنا بما قد تكون عليه. إنها تزيل الدوغمائية المتغطرسة إلى حد ما لأولئك الذين لم يسافروا أبدا إلى منطقة تحرير الشك، وتبقي إحساسنا بالدهشة حيا من خلال إظهار الأشياء المألوفة في جانب غير مألوف.

بصرف النظر عن فائدتها في إظهار الاحتمالات غير المتوقعة، فإن للفلسفة قيمة - ربما قيمتها الرئيسية - من خلال عظمة الأشياء التي تفكر فيها، والتحرر من الأهداف الضيقة والشخصية الناتجة عن هذا التأمل. حياة الإنسان الغريزي مغلقة داخل دائرة اهتماماته الخاصة: قد يتم تضمين العائلة والأصدقاء، لكن العالم الخارجي لا ينظر إليه إلا لأنه قد يساعد أو يعيق ما يدخل في دائرة الرغبات الغريزية. في مثل هذه الحياة، هناك شيء محموم ومحصور، بالمقارنة مع الحياة الفلسفية الهادئة والحرة. إن العالم الخاص للمصالح الغريزية هو عالم صغير، يقع في وسط عالم عظيم وقوي يجب، عاجلا أم آجلا، أن يضع عالمنا الخاص في حالة خراب. ما لم نتمكن من توسيع مصالحنا بحيث تشمل العالم الخارجي بأسره، فإننا نبقى مثل حامية في قلعة محاصرة، مع العلم أن العدو يمنع الهروب وأن الاستسلام النهائي أمر لا مفر منه. في مثل هذه الحياة لا يوجد سلام، بل صراع مستمر بين إصرار الرغبة وعجز الإرادة. بطريقة أو بأخرى، إذا أردنا أن تكون حياتنا عظيمة وحرة، يجب أن نهرب من هذا السجن وهذا الصراع.

إحدى طرق الهروب هي التأمل الفلسفي. لا يقسم التأمل الفلسفي، في أوسع مسح له، الكون إلى معسكرين معاديين - الأصدقاء والأعداء، المفيدين والضارين، الخير والشر - إنه ينظر إلى  المشهد بأكمله بنزاهة. التأمل الفلسفي، عندما يكون غير مضطرب ، لا يهدف إلى إثبات أن بقية الكون يشبه الإنسان. كل اكتساب للمعرفة هو توسيع للذات، ولكن هذا التوسع يتحقق بشكل أفضل عندما لا يتم السعي إليه مباشرة. يتم الحصول عليها عندما تكون الرغبة في المعرفة هي وحدها المنطوقة، من خلال دراسة لا ترغب مسبقا في أن يكون لموضوعاتها هذا الطابع أو ذاك، ولكنها تكيف الذات مع الشخصيات التي تجدها في أغراضها. لا يتم الحصول على هذا التوسع في الذات عندما نحاول، مع أخذ الذات كما هي، إظهار أن العالم مشابه جدا لهذه الذات بحيث تكون معرفتها ممكنة دون أي اعتراف بما يبدو غريبا. إن الرغبة في إثبات ذلك هي شكل من أشكال تأكيد الذات، ومثل كل تأكيد الذات، فهي عقبة أمام نمو الذات التي ترغب فيها، والتي تعرف الذات أنها قادرة عليها. إن تأكيد الذات، في التكهنات الفلسفية كما في أي مكان آخر، ينظر إلى العالم كوسيلة لتحقيق غاياته الخاصة. وهكذا يجعل العالم أقل حسابا من الذات، وتضع الذات حدودا لعظمة خيراتها. في التأمل، على العكس من ذلك، نبدأ من غير الذات، ومن خلال عظمتها يتم توسيع حدود الذات. من خلال اللانهاية للكون، يحقق العقل الذي يفكر فيه بعض المشاركة في اللانهاية.

لهذا السبب لا يتم تعزيز عظمة الروح من خلال تلك الفلسفات التي تستوعب الكون للإنسان. المعرفة هي شكل من أشكال اتحاد الذات وغير الذات. مثل كل الاتحاد، تضعفه السيادة، وبالتالي أي محاولة لإجبار الكون على التوافق مع ما نجده في أنفسنا. هناك ميل فلسفي واسع النطاق نحو وجهة النظر التي تخبرنا أن الإنسان هو مقياس كل الأشياء، وأن الحقيقة من صنع الإنسان، وأن المكان والزمان وعالم الكون هي خصائص العقل، وأنه إذا كان هناك أي شيء لم يخلقه العقل، فهو غير معروف ولا يمثل حسابا لنا. وهذا الرأي، إذا كانت مناقشاتنا السابقة صحيحة، فهو غير صحيح. ولكن بالإضافة إلى كونه غير صحيح، فإن له تأثير في سرقة التأمل الفلسفي من كل ما يعطيه قيمة، لأنه يقيد التأمل في الذات. ما تسميه المعرفة ليس اتحادا مع غير الذات، ولكنه مجموعة من التحيزات والعادات والرغبات، مما يضع حجابا لا يمكن اختراقه بيننا وبين العالم الخارجي. الرجل الذي يجد متعة في نظرية المعرفة هذه يشبه الرجل الذي لا يغادر الدائرة المنزلية أبدا خوفا من أن كلمته قد لا تكون قانونا.

 على العكس من ذلك، يجد التأمل الفلسفي الحقيقي رضاه في كل توسع لغير الذات، في كل ما يضخم الأشياء المتوخاة، وبالتالي الموضوع الذي يتأمل. كل شيء، في التأمل، شخصي أو خاص، كل شيء يعتمد على العادة أو المصلحة الذاتية أو الرغبة  يشوه الشيء، وبالتالي يضعف الاتحاد الذي يسعى إليه العقل. من خلال إنشاء حاجز بين الموضوع والموضوع، تصبح هذه الأشياء الشخصية والخاصة سجنا للعقل. سيرى العقل الحر كما قد يرى الله، بدون هنا والآن، بدون آمال ومخاوف، بدون صخب المعتقدات العرفية والتحيزات التقليدية، بهدوء، بلا عاطفة، في الرغبة الوحيدة والحصرية للمعرفة - المعرفة غير شخصية، تأملية بحتة، كما يمكن للإنسان تحقيقها. ومن ثم فإن العقل الحر أيضا سيقدر المعرفة المجردة والعالمية التي لا تدخل فيها حوادث التاريخ الخاص، أكثر من المعرفة التي تجلبها الحواس، وتعتمد، كما يجب أن تكون هذه المعرفة، على وجهة نظر حصرية وشخصية وجسم تشوه أعضاءه الحسية بقدر ما تكشف.

العقل الذي اعتاد على حرية وحياد التأمل الفلسفي سيحافظ على شيء من نفس الحرية والحياد في عالم العمل والعاطفة. سوف تنظر إلى أغراضها ورغباتها على أنها أجزاء من الكل، مع غياب الإصرار الناتج عن رؤيتها كأجزاء متناهية الصغر في عالم لا يتأثر فيه كل الباقين بأفعال أي إنسان. إن الحياد الذي هو، في التأمل، الرغبة المطلقة في الحقيقة، هو نفس نوعية العقل التي، في العمل، هي العدالة، وفي العاطفة هي تلك المحبة العالمية التي يمكن أن تعطى للجميع، وليس فقط لأولئك الذين يعتبرون مفيدين أو رائعين. وهكذا فإن التأمل لا يوسع فقط أشياء أفكارنا، ولكن أيضا أهداف أفعالنا وعواطفنا: إنه يجعلنا مواطنين في الكون، وليس فقط مدينة واحدة مسورة في حالة حرب مع البقية. في هذه المواطنة الكونية تتكون حرية الإنسان الحقيقية، وتحرره من ثرثرة الآمال والمخاوف الضيقة.

وهكذا، لتلخيص مناقشتنا لقيمة الفلسفة. يجب دراسة الفلسفة، ليس من أجل أي إجابات محددة على أسئلتها لأنه لا يمكن، كقاعدة عامة، معرفة أن الإجابات المحددة صحيحة، ولكن من أجل الأسئلة نفسها. لأن هذه الأسئلة توسع مفهومنا لما هو ممكن، وتثري خيالنا الفكري وتقلل من التأكيد العقائدي الذي يغلق العقل ضد التكهنات ؛ ولكن قبل كل شيء لأنه من خلال عظمة الكون التي تتأملها الفلسفة، يصبح العقل أيضا عظيما، ويصبح قادرا على ذلك الاتحاد مع الكون الذي يشكل خيره الأسمى.

***

ترجمة د.احمد المغير

.........................

[الفصل 15 من مشكلات الفلسفة]

Chapter15-Philosophy Problems

عاش نصر مهموما بإنتاج خطاب ثالث؛ ليس ذاك الخطاب المتشدد الذي يدعو إلى صراع مفتوح مع العالم، ويُقال عنه هذا هو الإسلام، وليس ذاك الخطاب الدفاعي الذي يعزل الإسلام عن سياقاته؛ ليبدو حداثيا عصريا، فهذا الفكر التبريري الذي يُقدّم الإسلام كفعل إنساني مثالي، لا يختلف عن المتشدد الذي يُقدمه لنا في صورة مثالية أخلاقية وروحية متجاهلا سياقاته التاريخية الاجتماعية العامة.

حاول نصر تقديم إجابات علمية تُساهم في بناء وعي جيد بالمعنى الديني تحميه من التوظيف النفعي الذي بجعله وقودا في الصراعات السياسية، ويُفقده الطابع الروحي المتسامح، قدّم نصر فكرا إسلاميا يقبل التعدد الثقافي والديني، ويراه مظهرا من مظاهر الرحمة الإلهية، في مواجهة خطابات متشددة تسعى إلى تثبيت صورة الله الغاضب على حساب صورة الله الرحمن الغفور المحب، خطابات ترسّخ النظرة الأحادية الرافضة لكل أنواع التعدد الثقافي والديني، فتعيش صراعات مستمرة مع الخطابات المغايرة من داخل الإسلام وخارجه.

وفي معركة بناء وعي أكبر بحقيقة المعنى الديني كان لابد من الاشتباك المعرفي مع الكثير من المفاهيم الخاطئة الشائعة حول “الإسلام”، وكسر حلقة السجال التي تدور فيها خطابات غربية وشرقية تخلط بين الإسلام والعالم الإسلامي، فتتحوّل الممارسات الحياتية إلى قضايا لاهوتية، وتجعلُ المسلمين أفرادا ومجتمعات حاملين لنسخة واحدة من الفكر الديني، متجاهلين تنوع السياقات الاجتماعية والتاريخية والاختلافات الثقافية بين المسلمين.

كيف نُواجه تلك المغالطات دون أن نقعَ في مصيدة الخطاب المتشدد الذي حوّل نفسه لمركز ينبغي أن ندور حوله في كل مسألة تتصل بالإسلام، فيُحدد لنا أسلوب النقاش أو الجدال، فإما أن نتبنى خطابه العنيف أو أن نتخذ موقفا دفاعيا نعزل من خلاله الإسلام عن سياقاته، وهذا يقودنا إلى المقاربة المعرفية/ المنهجية التي تبناها نصر في جميع دراساته، والتي تقوم على ثلاث مرتكزات:

الأول: أنّ القرآن الكريم، كما قدّم نفسه وطبقا للمعتقد الإسلامي، هو رسالة الله إلى البشر، حملها النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وكان القرآن واضحا في تقديمه صلى الله عليه وسلم بوصفه بشرا رسولا، فنحن أمام رسالة من مرسل مطلق/إلهي إلى متلقي/بشري، والوسيط الاتصالي شفرة أو نظام لغوي، فاللغة العربية، شفرة الاتصال بين المقدس والبشر؛ فالله اختار لغة الإنسان للتواصل؛ لأن شفرة لغة الله/ المقدّس لا يُمكن أن يستوعبها الإنسان، فلن يتحقق التواصل مع المجتمع، ولأن المستهدف بالرسالة المجتمع؛ كانت الرسالة بشفرة/لغة تُفهم بواسطة المجتمع الذي تُخاطبه، “وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم” [إبراهيم:٤]، فما كان لرسالة الإسلام أن تُحدث تأثيرا لو أنّ مستقبليها الأوائل عجزوا عن فهمها، لابد أنهم قد فهموها من خلال سياقهم السوسيو – ثقافي، ومن خلال فهمهم وتطبيقهم لها تغيّر مجتمعهم.

وحيث أنّ المرسل/المنشأ للقرآن، وهو الله عز وجلّ، لا يُمكن أن يكون موضوعا للدراسة، فإنّه لا يُمكننا أن نُقدّم مقاربة للنص أو الخطاب المقدس إلا من خلال دراسة لغة النص المقدس مستفيدين من تطور الدراسات اللغوية، من جانب، ومن خلال دراسة المجتمع الذي خُوطب بتلك اللغة من جانب آخر.

من هنا يبدأ الباحث في الدراسات القرآنية دراسته بالوقوف أمام سياق الواقع الذي عاصرته الرسالة (ثقافة القرن السابع الميلادي)، والثقافة هنا عالم المفاهيم الذي تحتويه اللغة في تلك الفترة، وهي المفاهيم نفسها التي حملها القرآن الكريم، فإذا كانت السماء في وعي المجتمع آنذاك سقف تُزينه النجوم، فستكون كذلك في القرآن الكريم.

في ضوء ذلك يُمكننا أن نفهم قول نصر: “القرآن منتَج ثقافي وهو في الوقت نفسه منتِج ثقافي”، فكل نص أو خطاب لغوي يحمل ثقافة/وعي/ مفاهيم المجتمع الذي خرج فيه، “كنص من داخل واقع سوسيو -ثقافي محدد- متضمن في نظام لغوي محدد وهو اللغة العربية”، فمثلا القسم بالعاديات ضبحا في القرآن الكريم تعبير يفهمه مجتمع القرن السابع الميلادي، فهم يعرفون حالة الخوف التي تُحدثها إغارة خيل العدو وأصوات أقدام الخيل التي تضرب الصخر تحتها فتقدح شرارا.

والقرآن الكريم، في الوقت نفسه، مُنتِجا لثقافة جديدة، فبالتدريج “انبثقت ثقافة جديدة من خلال القرآن”، فالقرآن الكريم حين يقول “حرّمت عليكم” يعدّل في ثقافتهم حدود المحرمات، ويقول: “كُتب عليكم” فيعدّل في وعيهم طبيعة الواجبات الدينية..

فالقرآن الكريم بوصفه رسالة عبر لغة، قد حمل كل سمات اللغة بشكل عام، من كونها: اتّصالية، فاللغة هي أداة الاتصال الأكثر فاعلية في المجتمعات الإنسانية، رمزية: فتعتمد على مجموعة من الإشارات والرموز، متغيرة مفتوحة، فأي لغة ليست نظاما مغلقا فهي قابلة لإماتة كلمات وجلب أخرى، وهي كذلك دوما في حالة تغيير وتجديد مكتسب من المجتمع، فنجد في القرآن استبرق وسندس وغيرها من الكلمات التي دخلت إلى العربية من بيئات أخرى، نظامية فهي نظام دقيق من القواعد الصوتية والصرفية والنحوية والدلالية حتى تُحقق غرض التواصل والإفهام، وأخيرا اللغة سِيَاقية: فالسِّياقات تتدخل في بناء المعني وتحديد المغزى.

وهذا يقودنا للمرتكز الثاني الذي قامت عليه منهجية نصر، وهو “القراءة السياقية” للنصوص الدينية، التي أكّد أنّه استلهمها من رواد النهضة، من أمثال: الإمام محمد عبده والشيخ أمين الخولي، في سعيهم لإعادة فهم القرآن الكريم، ويُمكن أنْ نُعرّف القراءة السياقية: بأنّها تناول القضية/المسألة الدينية في نسق كلي مُركب من مجموعة سياقات:

1- السياق التاريخي الاجتماعي للقرن السابع الميلادي (زمن نزول الوحي) كإحدى السياقات المتعددة للقراءة، وهذا المستوى من القراءة السياقية يُعرف بـ “السوسيو تاريخي”، وهو التحليل الاجتماعي الكلي الذي يبحث في “الصورة الكبيرة” التي تتضمن التغيير التاريخي على مدى عشرات أو مئات السنين..

وهذه “القراءة السياقية” لها جذور لدى المدرسة الأصولية في تراثيتها القديمة، ومقاصديتها المعاصرة، فعلماء الأصول يبحثون، كضرورة لفهم المعنى، في أسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، وغيرها من مباحث علوم القرآن وعلوم اللغة؛ كي يصلوا إلى بناء مقاصد قرآنية كلية، ولم يقلْ أحد بأنّ الأصوليين عندما بحثوا في الناسخ والمنسوخ كانوا يقولون بـ”وقتية الأحكام”، وأنّهم ينالون من القرآن الكريم، ولم يقل أحد أنّ بحثهم عن أسباب النزول سعي إلى قصرها على السبب.

فلا تختلف القراءة السياقية عن القراءة المقاصدية الأصولية في حاكمية السياق على المعنى، فالسياق في أصول الفقه أو القراءة السياقية هو ما يُمكن أن يُحدد ما هو وحي عابر للزمن، وما هو عادات وأعراف دينية واجتماعية سابقة على الإسلام، وعلى مستوى العادات والأعراف السياق هو ما يُمكنه مرة أخرى أن يميز لنا بين ما تقبله الإسلام تقبلا كاملا مع تطويره كالحج مثلا، وبين ما تقبّله تقبلا جزئيا مع الإيحاء بأهمية أن يُطوّره المسلمون مثل مسألة “العبودية” وقضايا “حقوق المرأة” و”الحروب”.

وكما رأينا ثنائيات عند علماء الأصول من قبيل الناسخ والمنسوخ سنجد ثنائية المعنى والمغزى حاضرة في القراءة السياقية “التي تضع تمييزا بين المعاني والدلالات التاريخية المستنبطة من السياق من جهة، وبين “المغزى” الذي يدل عليه المعنى في السياق التاريخي الاجتماعي للتفسير من جهة أخرى. وهذا التمييز هام جدا بشرط أن يكون المغزي نابعا من المعني ومرتبطا به ارتباطا وثيقا مثل ارتباط النتيجة بالسبب أو المعلول بالعلة، وألا يكون تعبيرا عن هوي المفسر ووثبا علي “المعني” أو إسقاطا عليه”.

٢- سياق ترتيب النزول، أو السياق التتبعي للوحي، “وهو سياق مغاير لترتيب السور والآيات في المصحف، لقد درج المفسرون عموما علي تناول تفسير القرآن وفق هذا الترتيب الأخير، وهو نهج يغفل حقيقة أن ألفاظ القرآن قد أصاب معانيها تطورٌ في سياق السنوات العشرين التي استغرقها نزول الوحي، فاللفظ القرآني ليس من الضروري أن يدل علي المعني نفسه في المواقع المختلفة، وليس معني ذلك التقليل من شأن ترتيب التلاوة (ترتيب المصحف)، بل لابد من الاهتمام به من زاوية الكشف عن التأثير الجمالي النفسي للقرآن؛ لأنه هو الترتيب الذي استقر به النص في أفق التلقي العام. فإذا كانت القراءة بحسب ترتيب النزول أساسية للكشف عن المعاني والدلالات، فإن القراءة بحسب ترتيب التلاوة (ترتيب المصحف) تكشف عن “المغزي” والتأثير، ومنهج القراءة السياقية يهتم بتحليل السياقين في نسق كلي تركيبي لا يغفل الفروق بينهما؛ لأن القراءة التاريخية قادرة علي اكتشاف تطور الدلالة داخل بنية النص (من المكي إلي المدني مثلا) لكنها عاجزة عن اكتشاف التأثير الدلالي الكلي للبنية الراهنة للقرآن، في حين أنّ القراءة التتباعية لعلماء التفسير ربما تنجح في الكشف عن التاثير الدلالي الكلي، وإن كانت تغفل في أحيان كثيرة عن مسألة التطور الدلالي، ومهمة منهج التجديد.. الحرص علي الجمع بين البعدين التاريخي والتتابعي في عملية التفسير”.

٣- يتبع المستوي السابق مستوي آخر هو سياق “السرد “، والمقصود به التمييز بين ما ورد علي سبيل “التشريع” وبين ما ورد على سبيل “المساجلة” أو “الوصف” أو “التهديد والوعيد” أو “العبرة والموعظة”.. إلى غير ذلك من مستويات السرد.

٤- مستوى التركيب اللغوي، وهو مستوى أعقد من مستوى التركيب النحوي الذي اهتم به المفسرون؛ لأنه يتناول بالتحليل علاقات مثل “الفصل” أو “الوصل” بين الجمل النحوية وعلاقات “التقديم والتأخير” و”الإضمار والإظهار” – الذكر والحذف – و “التكرار” .. إلخ. وكلها عناصر دلالة أساسية في الكشف عن مستويات المعنى. وتلك هي العناصر الدلالية التي تناولها “عبدالقاهر الجرجاني” في كتابه الهام “دلائل الإعجاز” تحت مفهوم “النظم”، وقد تناولها نصر بالتحليل في ضوء علم” الأسلوب” أو “الأسلوبية” في دراسة مستقلة.

٥- مستوى التحليل النحوي والبلاغي الذي لا يقف عند حدود علم البلاغة التقليدي بل يوظف أدوات علم “تحليل الخطاب” وعلم “تحليل النصوص” في إنجازاتها المعاصرة. ومن شأن هذا التوظيف أن يكشف عن مستويات أكثر عمقا.

أما فيما يتعلق بالنص التأسيسي الثاني، وهو” السنة النبوية الشريفة” فلا بد من الجمع بين نقد “المتن” ونقد “السند”، أي بين منهج الإمامين أبي حنيفة والشافعي مع الإفادة كذلك من كل إمكانيات منهج فقد النصوص وتوثيقها في اللغويات والأسلوبية المعاصرة، أهم من ذلك ضرورة فتح باب الاجتهاد للفصل بين ما يندرج من كلام الرسول (ص) في مفهوم “السنة” بالمعنى الاصطلاحي، أي الواجبة الاتباع بوصفه رسولا ونبيا، وبين أقواله العادية التي يؤخذ منه ويترك بوصفه بشرا”.

المرتكز الثالث: لمنهجية نصر حتمية أن تتعدد التأويلات التي لا بد أن تختلف عن بعضها البعض بتغير الزمن والثقافة. شريطة أن تكون وفق قواعد منهجية؛ حتى لا يكون النص عرضة للتلاعبات السياسية والنفعية والأيدلوجية كما نرى في واقعنا، ومن أهم تلك القواعد: ضرورة الوعي بأن يكون المغزى مرتبطا بشكل قوي ومتصلا، بعقلانية، بالمعنى لكي نحصل على تأويل أكثر قبولا ومعقولية.

ففهم الجيل الأول من المسلمين والأجيال التي تلته مباشرة ليس فهما واحدا كما يُظن، كما أنه لا يُوجد فهما نهائيا أو مطلقا، فديناميكيات الشفرة اللغوية الخاصة بالقرآن ستسمح دائما بتولد محاولات لا نهائية لا حصر لها لهذه الشفرة.

وبما أن الاعتقاد في رسالة الإسلام ينبني على صلاحيتها لكل البشر، وفي كل زمان ومكان، فإن تعددية التأويل تصبح أمرا حتميا. ولكن يلزم الوعي بالفارق بين السياق الأصلي “المعنى” والذي يعتبر ثابتا، لا يتغير، بسبب تاريخيته، وبين “المغزى” القابل للتغيير.

غير أن تلك المنهجية تُواجهها عقبتين:

الأولى: أن المنهجية المقترحة تستلزم تحليل سوسيو – تاريخي للواقع والثقافة، وتوظيف المنهجيات اللغوية الحديثة، وحتى الآن، ما زال هذا مرفوضا ليس فقط في مجال الدراسات القرآنية، ولكن أيضا في مجال الدراسات الإسلامية بشكل عام، وما زالت المقاربة الفيلولوجية هي المقبولة من المؤسسات الدينية.

الثانية: ما شهده القرن التاسع الميلادي من صراع فكري سياسي حول طبيعة القرآن الكريم، هل هو مخلوق كما تقول المعتزلة أما قديم/ أزلي كما يقول الحنابلة، وقد حسم هذا الصراع لصالح الحنابلة بعد أن تبنته السلطة السياسية، ولم يعد الحديث عن مذهبين يُمكن وصف أحدهما بالصواب والأخر بالخطأ، وإنما أصبح الأمر حقا وباطلا، وأصبح القول بخلافه تهديدا ينال من الإسلام.

وهذا يتعارض مع القراءة السياقية والتأويلية التي تجد نفسها أقرب إلى التصورات الاعتزالية ليس من منطلق الانتصار لمذهب تراثي وإنما من منظور التصور العلمي الأكثر اتساقا مع طبيعة القرآن الكريم كنص أو خطاب اختار اللغة أداة للتواصل.

***

أ.د عبد الباسط سلامة هيكل – جامعة الأزهر

إن الخوف من الموت والمجهول دفع الناس نحو البحث عن حياة ما بعد الموت، فحنطوا أجساد موتاهم، ووضعوا معهم أموالَهم وأغراضَهم الشخصيةَ لاستخدامها بعد قيامتهم، بمساعدة قوىً فوق بشرية ترعاهم. وكان الكهنةُ وسطاءَ هذه القوى غيرِ المرئية ورسلها المطوَّبين، حيث تمكنوا بذكائهم وبراعة حكاياتهم وقوة خطابهم اللغوي من إقناع البشر الفانين للتوسط لهم عندها، حيث كان الكهنة يتقبلون نذورَهم وأضحياتِهم وتبرعاتِهم، ويتغذون على خوف الناس الذين يجدون أمانهم في قصص الرسل ووعود الآلهة لعبادها المطيعين بالجنان؛ فكانت الكهانةُ أولَ وظيفة يعتاش منها أصحابُها دون عملٍ شاقٍّ في الأرض أو الصيد أو الحرب، فكانوا يستغلون التجار والفلاحين والمحاربين باسم الدين، ويطوعونهم للأب الملك والقائد مقابل حظوته وعطائه...

ثم... وبسبب تنافس الكهنة على الناس ومنافعهم، اخترعوا الكثير من الآلهة، وبنوا لها بيوتاً لا تسكنها. وقد كثرت الآلهة وتنوعت اختصاصاتها بين الزراعة والحرب والحب والحكمة والشمس والقمر والرعد والمطر، واختلفت الآلهة مع بعضها باختلاف مصالح كهنتها وتنوع أحقادهم؛ فغالباً ما تسببت الآلهة بالفوضى وتقسيم المجتمع الغافل، حتى بات الكهنة يشكلون قوة روحية موازية للقوة السياسية، فقام الفرعون أخناتون بتوحيد الآلهة وصهرها في جوهر آتون إله الشمس الواحد الذي لا شريك له، وقال إنه ابنه، ثم ضرب على يد الكهنة المعارضين للتوحيد بيدٍ من حديد باعتبارهم مشركين. ولعل اليهود تعرفوا إلى تعاليم أخناتون عندما كانوا في مصر، فلم يعذبوا النبي موسى بتصديق رسالته التوحيدية، حيث ظهرت معهم أولُ نسخة إبراهيمية من التوحيد، ثم تأثرت بها باقي الأديان التي جاءت بعدها وانتشرت بين الوثنيين الخائفين من الموت، حيث وعدتهم بحياة خالدة فيها كلُّ ما يشتهون.

ترى ما هي الطريقة المثلي ليقنعك أحد بتناول كوب من السم ؟ وهل يمكن أن تفلح المغريات في اقناعك : مال ، سلطة ، شهرة؟ ، هل يمكن أن يغريك شيء لتفعل هذا من الأصل؟

ربما لا ، ولكن ماذا لو أقنعك هذا الشخص بأن كوب من السم هو كوب من اللبن أو الماء .. هنا قد يتبدل الأمر .. شيء من التجميل والخداع ، كفيل بإنهاء حياتك إن لم تنتبه له .. وعلى النسق نفسه ، فيمكن لهذا التجميل وذاك الخداع أن يغيروا أفكار المرء عن أمور خطيرة أيضا إن لم ينتبه لها .

وفي خضم هذا يأتينا خطاب فكري فيه من الخطر على قدر ما فيه من الجمالية والجذب ، إنه خطاب العلمانية المتخفي في ثياب غير ثيابه ، فتارة بالعقلانية ، وتارة بالديمقراطية ، وتارة أخرى بالإنسانوية واحترام الحريات ، ونحن بين هذا وذاك نتشرب العلمانية بمفاهيمها دون أن ندري ونملئ عقولنا بالسم الذي نحسبه الماء ، فكيف تتجمل العلمانية ؟ وما هي حقيقة هذا التجميل ؟ وهل هي محض أفكار دنيوية لا ضرر من اعتناقها أم أن أمرها أشد تركيبا وأكبر خطرا من مجرد أفكارا وآراء؟

في الأول من أكتوبر عام 2018 نشر مركز بيو The Pew بالولايات المتحدة الأمريكية دراسة عجيبة تحت عنوان " معتقدات حركة العصر الجديد" New Age beliefs أصبحت شائعة بين الأمريكيين المتدينين وغير المتدينين لكتشف النتائج أن 62 % من الأمريكيين المسيحيين أصبحوا يؤمنون بواحد على الأقل من معتقدات هذه الحركة .

لأجل هذا رأت الموسوعة البريطانية أن تلك الحركة أصبحت إحدى الظواهر الدينية في الغرب بالقرن العشرين ، فما طبيعة هذه الحركة  ؟ ، وما جذورها ؟ ، وما معتقداتها؟  ، وكيف وصلت إلى عمق المجتمع الغربي وتسللت إلى قلب مجتمعنا العربي –الإسلامي دون أن ندري عن اسمها شيئا .

في سبعينات القرن الماضي كان الإنسان الغربي على موعد متجدد مع القلق الوجودي ، فبعد انهيار منظومة الدين الصلبة مع عصر الحداثة ، ثم فقدان الثقة في العلمانية فيما بعد الحداثة ، وجد هذا الإنسان الحائر نفسه وحيدا أمام الحياة بلا دين يثق به ، ولا علمانية تحميه من الشتات ، وتقدم له الاكتفاء الروحي الذي يتوق إليه .

ونتيجة ارتباط المسيحية بحقبة ما قبل الحداثة ، وذكرياتها المريرة المظلمة ،وكون العلمانية رداءا لا يستر الروح بعدما نزعت عن العالم جانبه الإلهي ، فإن الوقت قد حان لاكتشاف نهج جديد .

وهنا دارت البوصلة نحو الشرق ، فيعد قرابة قرن من دخول الهندوسية إلى الولايات المتحدة الأمريكية على يد جمعية فيداتنا Vedanta عرفت الديانات الشرقية الوثنية طريقها إلى بلاد العم سام من جديد على يد حركات أخرى ناشئة كالجمعية الثيوصوفية والحركة الروحانية وحركة الفلسفة المتعالية وحركة الفكر الجديد وغيرها من الحركات والتوجهات الباطنية التي شكلت نظاما فكريا للعالم الغربي المسيحية ، وأصبحت النواة لبزوغ حركة العصر الجديد والتي لا تقدم مذهبا مبتكرا كما قد يُظن من اسمها ، وإنما هي حصيلة مجموعة من المذاهب والمعتقدات المتنوعة والملفقة في قالب روحاني وعملي جديد ، فهي لا تعتمد عقيدة مركزية موحدة ، وإنما تقدم خليطا من المبادئ الروحية والباطنية كوحدة الوجود وتناسخ الأرواح وإنعدام الفرق بين الأديان .. إلى آخر تلك الخزعبلات التي تسد فراغ إنسان العلمانية الضال .

مما سبق يتبين أن حركة العصر الجديد ما هي إلا إعادة صياغة للعديدة من الآراء الدينية  ووجهات النظر المختلفة ، ولأنها لا ترى أى فارق يذكر بين الأديان ، فإنها لا تهتم على الإطلاق على ما يعتقده أتباعه، وإنما تهتم فقط بما تضيفه إلى حياتهم اليومية ممن ممارسات يمكنها إعادة تشكيل فكرهم مع الزمن ؛ ولأجل هذا صيغت برامج الحركة وأدبياتها بطريقة  تخفي حقيقة أصولها الفلسفية وتقدمها لعامة الناس أساليب حياة معاصرة تساعد من يمارسها في التمتع بالصحة والسعادة الدائمين .

بهذا السياق تركز الباحثة " فوز كردي" Fawz Kurdi أن " أهم ما يميز الحركة زعمها أن عصر التلقي من مصدر خارجي كالإله أو الدين قد انتهى وأن العصر الجديد يستطيع فيه الإنسان تشكيل حياته ومستقبله كيفما شاء باستخدام الطبيعة والعقل والقدرات غير المحدودة ".

وهو ما عبر عنه "ديباك شبرا "  Chopra  Deepak بوصفه أحد رموز الحركة فقال :" أنا كنت ملحدا حتى أدركت أني إله" ، لكن وبقيل من التأمل سنجد ان تلك المفاهيم الكفرية لم تكن تنتشر تحت غلاف حركة روحانية ، إلا بسبب الظمأ الروحي الشديد بالغرب ، الذي ملأته معتقدات الشرق الوثنية من جهة ، ثم حافظت من جهة أخرى على لذته الدنيوية التي يقننها له الدين ، فهي تقدم له الماء الذي يروي ظمائه العلماني – أحادي البعد ، ثم تضع في هذا الماء خمرا يسكره ويرضي شهوته هذا العلماني من جديد مقدمة له الجانب الثاني الذي يبحث عنه ، لكنه جانب زائف يمنحه الحرية المطلقة وكأنه إله نفسه .

ولهذا ساهمت تلك الحرية المطلقة في قبول الحركة مجتمعيا ورواجها ، خاصة بعد ان حاول أتباعها إضفائها الصبغة العلمية على ممارستها من الكهانة والتنجيم والسحر ، فخرجت إلينا في ثياب منمقة تزعم أنها منهج علمي أساسه البرمجة اللغوية العصبية والتأمل الإرتقائي والتحكم بطاقة الكون ، واستغلال قانون الجذب إلى آخر تلك التسميات الرائجة .

إلا أن هذه المحاولة قوبلت بالرفض الشديد من الأوساط العلمية ، لعدم موافقة دراسات الحركة وأبحاثها لمنهج علمي صحيح ، وما هي حتى ينكشف زيف هذا البعد الروحاني واهترائه العملي أمام أتباعه ، حتى يرتد عن سبيله ، ولعل أشهر من رجعوا عن هذه الحركة ، واعلنوا ندمهم "دورين حنان Doreen Hannan المعروفة باسم " Doreen Virtue و"ستيفن بانكرز Stephen Bancarz واللذان كانا من أشهر أعلام حركة الجديد ومنظريها قبل أن يعلنا تخليهما عن أفكارها والعودة للدعوة إلى المسيحية من جديد .

كغيرها من الحركات والمعتقدات الفاسدة ، وجدت حركة العصر الجديد طريقها إلى العالم الإسلامي من خلال الكتب المترجمة والرامج الإعلامية والمسلسلات والأفلام السينمائية ، وبرز عدد كبير ممن يروجون لأفكارها عبر خطاب ديني تحفيزي مثير للمشاعر ، وأخذت تلك الأفكار تنتشر تحت مسميات براقة كعلوم الطاقة واليوجا والبرمجة اللغوية والعصبية وقوانين العقل الباطن وجذب شريك الحياة ومحاضرات الأبراج والفلك والطاقة الحيوية والشفاء الذاتي وذلك على يد مجموعة من المشاهير الذين ارتبطت أسمائهم بهذه العلوم الزائفة .

في هذا الصدد يرى بعض الباحثين  بأن مدرب تنمية البشرية من العرب قد حاولوا كثيرا التوفيق بين جوهر الدين وجوهر التنمية البشرية وذلك لمعرفتهم أن الدين أهم مكونات المعرفة الذهنية العربية على الإطلاق ، ولهذا فإن أي تنمية بشرية لا تستند إلى الدين بشكل قشري أو جوهري لا يمكنها أن تنفع المجتمع العربي على الإطلاق ، إلا أنهم لم ينجحوا في محاولتهم تلك لتعارض المنطلق الديني مع منطلقات التنمية البشرية الوضعية.

فالمكون العلماني في التنمية البشرية المعاصرة أمر لا يمكن تجاوزه ، فهي لا ترى أن تحقيق الأهداف الفردية والاجتماعية قد يتوقف على الدين في شيء بل لو كان الإنسان ملحدا متسقا مع نفسه ومحيطه الاجتماعي فهو إنسانا  ناجح وفق مفاهيم الطاقة تلك .

هذا كله بخلاف التعارضات الصريحة بين المفاهيم المستمدة من الطاقة وبين الإسلام فمفاهيم مثل الطاقة الكونية واستمدادها من الأحجار والأشجار والأشخاص لا يراها المتأسلمين إلا وثنية مقنعة ، بينما هي محور الخطاب التنموي المذكور والذي يؤكد رواده أن برامجهم هجينة من مختلف الحضارات ، والتي تخدم الإنسان بصفته إنسانا دون فلسفة أو دين أو معتقدات ثابتة ، وإنما هي روحانيات عامة تنمي الشخصية وتطور نوعية الأداء وتحسن صحة البدن والعقل والروح وتنشر الحب والسلام في الأرض وتدعو إلى التناغم مع الكون ويكسون هذه الخرافات والخيالات صبغة علمية لتنال القبول عند الناس ، فإن ذلك من الإسلام حتى ينطلى لك على بعضنا ، وقد صدق الله سبحانه فقال :"كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاءً وأمّا ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ".

وتبيِّن المُعطيات الحديثة كما يرى محمود حيدر أنّ المَراجِع التأسيسيّة لمُصطلح «ما بعد العلمانيّة» تنحصر في أعمالٍ بحثيّة صدرت بعد العام 2010. وهذه الأعمال هي حصيلة مؤتمراتٍ خُصِّصت لتظهير هذه القضيّة. في مقدِّم الأفكار والنظريّات التي استندت إليها تلك الأعمال، هي ما اشتغلَ عليه عددٌ وازِنٌ من المفكّرين وعُلماء الاجتماع في مقدّمتهم: الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس، والكندي تشارلز تايلور، وعالِم الاجتماع الأمريكي بيتر بيرغر، وعالِم الأنثروبولوجيا من أصل إسباني خوسيه كازانوفا.. إلى هؤلاء جمعٌ آخر من الباحثين في الفلسفة وعِلم الاجتماع السياسي ممَّن أَسهموا بصورةٍ مباشرةٍ وغير مباشرةٍ في تسييل الكلام على فكرة «ما بعد العَلمانيّة». كان للألماني هابرماس ورفيقه الكندي تايلور على وجه الخصوص مجهودٌ مميّزٌ في التأسيس لنقاشٍ جدّيّ بصددها. ومن الأفكار التي شكَّلت أحد أبرز خطوط الجاذبيّة في هذا النقاش، حديثهما عن عالَم ما بعد عَلماني أَخذت مَعالِمه تظهر في المجتمعات الحديثة. وهو الأمر الذي ولَّد احتداماً فكريّاً غير مألوفٍ مؤدَّاه: أنّ العصر العَلماني قد بلغ منتهاه، وأنّ العالَم الأوروبي المُعاصِر دخلَ في واقعٍ جديدٍ لم يعُد فيه الكلام على العَلمانيّة بمعناها الكلاسيكي أمراً جائزاً.

أمّا السؤال الأكثر مُدعاة للنقاش المُقبل، فهو التالي: ماذا بعد مفهومٍ غامض ومُلتبس الدلالة كمفهوم «ما بعد العلمانيّة»؟.. وهل ثمّة سياقٌ تاريخي حضاري آخر تستثيره مثل هذه الأطروحة، ويستوي فيه شأنُ العالَم مع الإيمان الديني على نصاب التكافؤ الخلاّق؟

هو سؤال يستأهل الخَوض في رحابه على الرّغم من طابعه الاستباقي. ذلك أنّه يَستدرج إلى مُنفسحٍ تنظيري لا يقتصر على الغرب الأوروبي فحسب، وإنّما أيضاً على بقيّة العالَم. ولا مناصّ من الإشارة هنا بوجهٍ خاصّ إلى ما يتوقَّع من تنظيرات في مجتمعاتنا العربيّة والإسلاميّة. فعلى الرّغم من أنّ الدخول إلى فكرة ما بعد العَلمانيّة والسفر في عوالِمها، لا يزال ينطوي على حذرٍ لافتٍ بين مفكّري الغرب وفلاسفته، فلا ينفكّ التعامل مع هذه الفكرة في البلاد العربيّة والإسلاميّة بمَنهج نظر يشوبه التبسيط والاختزال، مثلما يَحكمه الاندهاش والاستغراب كما يرى محمود حيدر.

***

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

أستاذ ورئيس قسم الفلسفة – جامعة أسيوط

........................

المراجع:

1- حركة العصر الجديد.. وثنية مقنعة وعلوم زائفة.. مركز رواسخ.. يوتيوب.

2- تجميل العلمانية.. القناع الزائف والوجه القبيح.. مركز رواسخ.. يوتيوب.

3- التحليل الأيديولوجي للإلحاد | الدكتور نذير خان | ترجمات

4- زهير الخويلدي: الحاجة إلى الإيمان في عصر ما بعد الدين.

5- محمود حيدر: «ما بعد العلمانيّة» كمفهوم مُثير للالتباس.

بعيداً عن الخوض في تعريفات العلمانية، وعن دلالة الكلمة، والمصدر الذي اشتُقت منه. ما إذا كانت مشتقة من العِلم (بكسر العين)، أو من العالم (بفتح العين). حيث ما زال، الخلاف قائماً بين المثقفين، والباحثين، وكذلك بين الناشطين السياسيين؛ حول ما إذا كانت العلمانية، هي الحل، لمعالجة ما ينتاب مجتمعاتنا، من تخلف، ثقافي، وفكري، يطال القاعدة العريضة المهمشة، التي ما زالت تعيش في الماضي، في ظل غياب أي آفاق تنبئ بمستقبلٍ قريب أفضل.

في كتابه، اللاهوت العربي، يُلمِح الدكتور يوسف زيدان، إلى بدايات تداول هذا المفهوم، بقوله: يحلو لكثيرٍ من مفكرينا المعاصرين، ترديد ما فحواه أن الدين ينبغي أن يظل بعيداً عن السياسة، وتظل السياسة بمنأى عن الدين. هذا ما يزعمون ويبشِّرون به وكأنه الاستنارة الباهرة، أو هو حسبما صاروا يسمونه مؤخراً (العلمانية) تلك اللفظة ملتبسة الدلالة التي كانت تعني في اليهودية معنىً خاصّاً، إذ هي هناك صفةٌ لليهودي غير المتديِّن، الذي يظل مع عدم تدينه يهوديّاً، لأن أمه كانت يهودية. ثم صارت العلمانية تعني في المسيحية، الاتجاهَ المعنيَّ بالعمل في العَالم، لا بالخدمة الكنسية (الاكليريكية) من دون أيِّ إدانات صريحة لمن هو علمانيٌّ من المسيحيين.. لكن الكلمة صارت اليوم تعني، عند المسلمين: الإلحاد والكفر والزندقة والخروج عن الدين (الرِّدَّة).

مما سبق نرى أن المسيحية، كان لها، ومنذ البداية، موقفاً، متسامحاً من العلمانية، وهو موقفاً أقل ما يمكن أن يقال عنه، أنه كان موقفاً محايداً. بعكس، الموقف الإسلامي المُتَشَدّد، الذي أوضح موقفه منها، ومنذ البداية، أيضاً، بما لم يدع مجالاً للَبْس.

والسؤال الذي يدور دائما في أذهان المثقفين، والسياسيين؛ كيف السبيل للوصول إلى نظام (علماني) يخرجنا، من حالة التأخُر المزمن، الذي تعاني منه مجتمعاتنا، العربية-الإسلامية، وهُمْ يظنون، أن العلمانية، وصفةٌ جاهزة، ومجرد قرار يُتخَذ من فوق، ويُدرج ضمن قوانيننا الأساسية (دساتيرنا) وكفى المؤمنون شر القتال. غير مدركين لسياق التطور التاريخي لمجتمعاتنا، منذ أربعة عشر قرناً؛ التي لم تعش في ظل دولة فيها بعض ملامح الدولة الحديثة.

لم تعرف بلادنا، منذ ظهور الإسلام، سلطتين مستقلتين، إحداهما (زمنية) على رأسها، ملك أو أمير.. والثانية، سلطة (دينية) يرأسها، رجل دين، إمام أكبر أو فقيه. كما كان عليه الحال في أوروبا، منذ انتشار المسيحية فيها، والتي كان لها، سلطتين زمنية أو سياسية ويرأسها الملك أو (الإمبراطور) وسلطة دينية ممثلة بكبير الأساقفة ما بات يعرف بـ (البابا) على رأس (الكرسي الرسولي).

أما في دولة الخلافة الإسلامية الوليدة، لم يكن هناك فصل بين الدين والدولة. فقد تطور الأمر بعد الخلافة الراشدية إلى المُلك مع بداية الخلافة الأموية. فالخليفة، هو من يستحوذ على السلطتين، الزمنية والدينية. هو الملك، الذي يقبض على دفة الحكم من جهة. وهو أمير المؤمنين "وخليفة الله ورسوله" على الأرض من جهة أخرى. وهو الحاكم، والقاضي، وبيده أصول التشريع، ويلتف حوله الفقهاء ورجال الإفتاء؛ يبررون أحكامه؛ وما ترتب على ذلك من قمع دموي، لكل الجماعات أو المذاهب الكلامية، التي كان لها اجتهادات فكرية، حاولوا من خلالها، نقد بعض المبادئ التي روج لها الحكام، مثل مذهب (الجبرية) أو القدرية، أيام الدولة الأموية، لتعزيز سلطتهم، في القرن الأول الهجري، مثلما حدث لمؤسسي علم الكلام (آباء الكلام) الأربعة الذين وُصِفوا بأهل البِدَع أو (الهرطقة): كـ ـمعبد الجهني، غيلان الدمشقي، الجعد بن درهم، والجهم بن صفوان، الذين ذُبحَ كل واحد منهم بطريقة تفوق التصور!

وإذا أردنا، تَتَبُع ظهور العلمانية، ونشأتها، نرى أنها ارتبطت بالسياق المسيحي الأوروبي (الغربي)، وليس بالمسيحي الشرقي؛ فكانت وليدة مسار، وصيرورة تاريخية أوروبية.

إذن، المسيحية، انتشرت في بيئة أوروبية، لها تاريخها، وتراثها الفكري، والديني وتجربتها السياسية، السابقة على ظهور المسيحية كإحدى الديانات (الابراهيمية) قبل الميلاد بقرون من الزمن، بدءً بأثينا (المدينة- الدولة)، ومن بعدها روما، التي طورت ما بدأته أثينا. وأثرَّت المسيحية، وتأثَّرت، في الحياة الاجتماعية، والسياسية، والثقافية السائدة، في مكان انتشارها الجديد، في أوروبا.

ففي عام 313 م، أعلن الإمبراطور البيزنطي قسطنطين الأول (272 -337) م، مرسوم (ميلانو) الشهير؛ الذي منح بموجبه المسيحيين وغيرهم الحرية لاتباع الدين والنهج المناسب والأفضل لكل فرد منهم فكانت خطوة أخلاقية صائبة، مما منح التسامح لجميع الأديان، بما فيها المسيحية. وبهذا المرسوم أصبحت الإمبراطورية رسميًا محايدة فيما يتعلق بالعبادة الدينية؛ فليست الديانات التقليدية (الوثنية) باطلة غير مشروعة، ولا المسيحية دين الدولة.

وبعد أن أصبحت المسيحية الديانة الرسمية للإمبراطورية، سنة 391 م، وحيث كانت الكنيسة عاملة في كنف دولة عظمى متينة البنيان في بيزنطة، غدت في روما السلطة الوحيدة المتماسكة في عهد الغزوات البربرية لأُمم القوط وغيرها.. ولكن هذه السلطة - سياسية كانت أم دينية - كانت مرتبطة بعلاقة أكيدة مع الدولة، علاقة رعاية من قبل الدولة، وإرشاد من قبل الكنيسة لكون أهلها (أي أهل الكنيسة) مثقفي السلطة ومحتكري المعرفة.

وبحسب الدكتور عزيز العظمة، في كتابه العلمانية من منظور مختلف، يقول: وسنرى أن الكلام على الصراع بين الدولة والكنيسة أمر مبالغ فيه إلى حد كبير، فلم يكن للكنيسة استقلال فعلي إلاّ في مجتمع إقطاعي كانت فيه الكنيسة اقتصادياً سلطة إقطاعية، ملكية أو شبه ملكية، كغيرها من السلطات.

إن ثورة الإصلاح الديني التي قادها مارتن لوثر، وهجومه على الكنيسة ممثلة بـ (بابا الفاتيكان) لبيعها صكوك الغفران عام 1516م، وتعليقه البيان الشهير المتضمن الموضوعات الإصلاحية على باب كاتدرائية فورمز في ألمانيا عام 1517م. وكانت حركة الإصلاح (البروتستانتية) تلك، فاتحة لعهد الحروب الدينية، في أوروبا، التي ترافقت بالعنف الذي أخذ أشكالاً مهولة.. ولم تنته تلك الحروب الدينية، إلا مع معاهدة وستفاليا للعام 1648 م، التي أفضت بأوروبا إلى نظام دولي جديد؛ اقترن باتفاق ملوك فرنسا والكنيسة الكاثوليكية، بتبعية الكنيسة للدولة؛ وأعطي بموجبه الملوك حق تعيين أصحاب المناصب الكبرى في الكنيسة.

إن ما قامت به الشعوب الأوروبية، عبر هذا التاريخ الذي استعرضنا بعض محطاته، والذي جرى في إطار شبكة من العلاقات والصدامات السياسية والاجتماعية والفكرية البالغة التعقيد.. وصولاً إلى التأسيس الحاسم للتربية اللادينية، في فرنسا، من قبل وزير التربية جول فيريه (...) في الفترة 1882 - 1886، وأخيراً الفصل الرسمي التام للكنيسة عن الدولة واعتبارها هيئة خاصة عام 1905. أما فيما تَبقى من أوروبا؛ ففي ألمانيا الاتحادية اليوم، على سبيل المثال، ما الكنيسة إلا هيئة خاصة كالجمعيات الأخرى، ينتمي إليها الأفراد ويعبّرون عن هذا الانتماء بأداء الضرائب لها - وكأنها بدلات اشتراك - ويعبرون عن انفصالهم عنها بالامتناع عن أداء هذه الضرائب.

أخيراً يمكن القول: إن أهم مبادئ العلمانية، هو أن تكون الدولة محايدة؛ أي لادين رسمي لها، وتكفل حرية العقيدة، وحرية الضمير، وحرية اعتناق أي دين أو فلسفة حياتية، وتُكفَل الممارسة الآمنة للشعائر الدينية.

أما عندنا ما زالت العلمانية؛ تُهمة تُقرن بالكفر.. على أنها مُستورد غربي معادي للدين! لذلك فالعلمانية، لا أمل لوجودها وتحققها في مجتمعاتنا الإسلامية، قبل أن ينتصر التنوير العربي على الأصولية الدينية. وبهذا نتفق مع ما يردده البعض من مفكرينا، وفي مقدمهم الدكتور يوسف زيدان، الذي يقول: أنه لا خيار أمامنا، سوى السير في مشروع التوعية التنويرية العامة، وهو ما يعمل عليه من خلال كل ما يكتبه وينشره.. وتأكيده على أهمية إصلاح النظام التعليمي.

***

سمير البكفاني - كاتب سوري

التَّنَوُّعُ الثقافي في العلاقات الاجتماعية يُعْتَبَر انعكاسًا طبيعيًّا للنَّزعة الإنسانية، وتَجسيدًا للمنهج النَّقْدِي في بُنيةِ الواقعِ المُعَاشِ وبِنَاءِ السُّلوك المَعرفي، وتَحريرًا لتاريخ الأفكار مِن الوَعْيِ الزائف ومَنطِقِ القُوَّة. والتَّنَوُّعُ الثقافي لَيْسَ روابطَ حياتية مُتعارضة، أوْ أنظمةً مادية مُتضاربة، أوْ مصالحَ شخصية مُتناقضة، وإنَّما هو كِيَان وُجودي مُنفتح على سِيَاقَاتِ حُرِّية التَّفكير، ومُتفاعِل معَ القِيَم الأخلاقية التي تُخَلِّص الإنسانَ مِن قُيُودِ المصالح الشخصية الضَّيقة.وكُلُّ تَنَوُّعٍ في مَرجعية الثقافة هو بالضَّرورة تَحريرٌ لمركزية الإنسان في الواقعِ المُعَاش والوُجودِ الحياتي.واندماجُ مَرجعية الثقافة معَ مركزية الإنسان يُوَلِّد أنساقَ الفِعْل الاجتماعي،ويُوظِّفها في الأحداث اليومية، ويَربطها معَ إفرازات العقل الجَمْعِي، مِمَّا يُؤَدِّي إلى التَّوفيقِ بَين هُوِيَّةِ الإنسان وسُلطةِ الثقافة، وانسجامِ الفِعْل الواقعي معَ التَّصَوُّرِ الذهني، وَمَنْعِ الصِّدَام بين إرادةِ المَعرفة والوَعْيِ الفَعَّال. وإذا كانت هُوِيَّةُ الإنسانِ مُتَجَذِّرَةً في الفِكْر التاريخي حِسًّا وإدراكًا، فإنَّ سُلطةَ الثقافة مُتَرَسِّخَةٌ في كَينونة اللغة نَصًّا وَرُوحًا، وهذا النَّسيجُ العَقْلاني المُتشابِك مِن شأنه تحقيقُ التوازن بين المُجتمع كَجَسَدٍ وُجودي، والمَعرفةِ كوظيفة حياتية. ولا يُمكِن للواقع المُعَاش أن يَنتقل مِن الوَهْمِ الاستهلاكي إلى الحُلْمِ الإبداعي، إلا إذا انتقلَ المُجتمعُ مِن الجَسَدِ الوُجودي إلى تَجسيدِ العلاقات الاجتماعية في الوَعْي الفَعَّال وقُوَّةِ المَنطِق، وانتقلت المعرفةُ مِن الوظيفة الحياتية إلى تَوظيف النَّزعة الإنسانية في مَرجعية الثقافة وحُرِّيةِ التَّفكير. وكُلُّ جَسَدٍ وُجودي لا يَتَحَوَّل إلى تَجسيدٍ للحقيقة سَيَنهار، وكُلُّ وَظيفة حياتية لا تَتَحَوَّل إلى تَوظيفٍ للمَعنى سَتَسقط.

2

التَّنَوُّعُ الثقافي يَستمد شَرْعِيَّتَه مِن امتلاكه لآلِيَّات التأويل اللغوي، ويُكرِّس سُلْطَتَه اعتمادًا على مصادر المعرفة الظاهرةِ في الواقع المُعَاش، والباطنةِ في الشُّعُور، ويُؤَسِّس مَرْجِعِيَّتَه استنادًا إلى تأثير تاريخ الأفكار في الفِعْل الاجتماعي. وكُلُّ هذه العوامل مُجْتَمِعَةً تَمنح التَّنَوُّعَ الثقافي القُدرةَ على تَحليل بُنية هُوِيَّة الإنسان، بِوَصْفِهَا تحديدًا لشخصيةِ الإنسان وأبعادِها المعنوية والمادية، وتعبيرًا عن مركزيته في العلاقات الاجتماعية. وهُوِيَّةُ الإنسانِ هي المِعيارُ الوُجودي الذي يَكشِف مواطنَ الاتِّصالِ والانفصالِ في مَسَارَاتِ التاريخ وسِيَاقَاتِ الحضارة، ويُوَازِن بَين آلِيَّاتِ سُلطة المعرفة وآلِيَّات التأويل اللغوي. وهذا التَّلازُمُ المصيري بين المعرفة واللغة يَعْنِي أنَّ المعرفةَ بلا لُغَةٍ كُتلةٌ هُلامِيَّة سابحة في الفَرَاغ، وأنَّ اللغةَ بلا مَعرفةٍ منظومةٌ عبثية غارقة في العَدَم. وكُلَّمَا كانت الرابطةُ بين المعرفةِ واللغةِ أقْوَى، كان تحليلُ مَاهِيَّة السُّلطة في العلاقات الاجتماعية أكثرَ دِقَّةً وانضباطًا، وهذا يُسَاهِم في تَشخيصِ الإشكاليات الحياتية التي تَضغط على المنهج النَّقْدِي، وتحديدِ الأنماط الاستهلاكية التي تُهَمِّش مَرجعيةَ الثقافة، وكشفِ المُسَلَّمَات الافتراضية التي تُهَدِّد مَركزيةَ الإنسان، وتَفكيكِ المصالح الشخصية التي تُشَوِّه الفِكْرَ التاريخي. وكُلُّ مُحاولة للفصل بين المعرفةِ واللغةِ تُمَثِّل تَحطيمًا لآلِيَّات التأويل اللغوي، وهذا يَجعل المُجتمعَ عاجزًا عن استيعاب تاريخ الأفكار.وكُلُّ مُحاولة للفصل بين مَاهِيَّةِ السُّلطة والعلاقاتِ الاجتماعية تُمَثِّل تَفتيتًا للواقع المُعَاش، وهذا يَجعل الإنسانَ عاجزًا عن التَّحَرُّر مِن الخَوف.

3

التَّنَوُّعُ الثقافي يُؤَسِّس المنهجَ النَّقْدِي في مَركزية العقلِ الجَمْعِي. ومُهِمَّةُ المَنهج النَّقْدِي هي البَحْث عَن المَعنى. وهذا المَعنى لَيْسَ هُوِيَّةً عابرة، أوْ سُلطةً مُؤقَّتة. إنَّ المَعنى هو كَينونةُ الوُجودِ القائمة بذاتها، والمُكتفية بِنَفْسِهَا. والمَعنى هو تَحريرُ الهُوِيَّةِ مِن الوَعْيِ الزائف، ورُوحُ المُجتمعِ التي تُوَظِّف النَّزعةَ الإنسانية في التأويل اللغوي. وكُلَّمَا اقتربَ الإنسانُ مِن اللغةِ اقتربَ مِن مَعنى حياته الكامن في تاريخ الأفكار، مِمَّا يُؤَدِّي إلى تَكريس اللغة كعملية تَحرير للمَعنى، ولَيْسَ حَشْر المَعنى في قوالب لُغَوية جامدة أوْ كُتَل فِكرية مُتَحَجِّرَة. وتَحريرُ المَعنى هو إعادةُ رسم لِدَور الثقافة في طبيعة الإنسان، وإعادةُ صِياغة للتأويل اللغوي في الفِعْل الاجتماعي، مِمَّا يُكَوِّن مَنظورًا فلسفيًّا جديدًا حَول طبيعة التَّنَوُّع الثقافي، يَقُود إلى دمج تاريخ الأفكار معَ الوَعْي الفَعَّال لإنتاج الحُلْمِ الإبداعي _ فَرْدِيًّا وَجَمَاعِيًّا_ بشكل عابر للحُدود بَين الزمانِ والمكانِ مِن جِهة، وبَين الإنسانِ واللغةِ مِن جِهة أُخْرَى.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

نختلف، نحن السيكولوجيين، عن المحللين السياسيين في مفهوم (الصراع) فهم يحددونه بنوع واحد يتمثل بموقف تنافسي يكون طرفاه او اطرافه على دراية بعدم التوافق في المواقف السياسية المحتملة التي تضطر كل طرف الى اتخاذ موقف لا يتوافق مع المصالح المحتملة للطرف الثاني، فيما نرى نحن ان للصراع انواعا اخرى . فهو في بعده الاجتماعي يمثل كفاحا حول قيم او مطالب او اعتبار اجتماعي يكون هدفه كسب قوة اجتماعية مرغوبة تعلي من مكانة جماعة معينة فوق مكانة جماعة او جماعات اخرى. وهو في بعده الاقتصادي تنافس بين جماعتين او اكثر على حيازة نصيب اكبر من ثروات كبيرة او الاستحواذ على موارد محدودة.وهو في بعده الثقافي تنافس بين جماعتين او اكثر بهدف اعلاء وتغليب معتقدات جماعة معينة والحط من معتقدات جماعة اخرى.. فضلا عن أن الصراع يمكن ان يكون حالة ايجابية تؤدي الى التطور اذا اعتمد الحوار الذي يحترم الرأي والرأي الآخر.

وكثيرون لا يدركون دور اللاوعي الجمعي سواء على صعيد الفرد او المجتمع.ولتوضيح ذلك نشير الى أن اللاوعي او اللاشعور الجمعي هو (ثقافة).. لأنه يتضمن أفكارا ومعتقدات وقيما ورموزا واساطير، وأن تشابه الناس في سلوكهم واختلاف الأفراد في تصرفاتهم يعود الى (الثقافة).فاختلاف رجل الدين عن الارهابي مثلا يعود الى اختلافهما في المنظومة الثقافية لدى كليهما.هذا يعني أن الثقافة أشبه بـ(جهاز تحكّم).. يحدد نوعية تصرفات الفرد والأهداف التي يسعى الى تحقيقها.وبما ان اللاوعي الجمعي عنصر رئيس من عناصر الثقافة هذه.. فان دوره يكون فاعلا في حياة الفرد والجماعات.ولقد اكتشف هذا الدور في عشرينيات القرن الماضي، وجرى ابراز اهميته في الفن والأدب اولا(في السوريالية ومسرح القسوة ومسرح اللامعقول وعدد من الروايات العالمية.. ) ثم انتقل الى علم النفس السياسي وعلم الاجتماع السياسي، واستخدم في تحليل ما يجري من تحولات بعد قيام الثورات.

ومع ان المجتمع العراقي شهد تحولا جذريا بانتقاله من اقسى نظام دكتاتوري الى نظام ديمقراطي، فان دور اللاوعي الجمعي العراقي لم يدرس مع انه كان سببا رئيسا فيما حدث من احتراب عامي 2006 و2007 وفيما حصل ويحصل من أزمات يبدو انها لا تنتهي مادام العقل السياسي العراقي متورم بماضوية اللاوعي الجمعي، وانه يوظف هذه الماضوية في خلق أزمة تضمن بقاءه في السلطة.

تحديد مفهوم

يعني اللاوعي الجمعي او اللاشعور الجمعي COLLCTIVE UNCONSCIOUS هو ذلك الجزء من العقل الذي يتضمن الرموز وخبرات الانسان التي اكتسبها عبر الاجيال وأساليب التعبير عنها، التي يشترك بها كل البشر وتشكل مصدرا للأديان والأساطير والفنون تتشابه عبر الحضارات المختلفة. ويعود اكتشافه الى الطبيب النفساني السويسري كارل يونغ(1875-1961).غير انه جاء بعد اكتشاف الطبيب النفسي النمساوي فرويد(1856-1939) اللاشعور.. اذ نظر فرويد الى الشعور او العقل الواعي بأنه يتضمن عمليات عقلية بسيطة مقارنة بعمل اللاشعور او العقل اللاواعي UNCONSCIOUS MIND ، الذي يعني به ذلك النشاط العقلي الذي لا نكون على دراية به.. اي اننا نقوم بافعال او تصرفات تبدو لنا واعية غير ان دوافعها الحقيقية تكون خفية في اللاشعور.

ومع ان يونغ اتفق مع فرويد ان الجانب الاكثر اهمية في سيكولوجيا الانسان هو ليس العمليات العقلية او السلوك الذي نكون على دراية به، بل هو العمليات العقلية التي لا نكون على دراية بها، فان يونغ ابتكر مفهوم اللاوعي الجمعي وعدّه أكثر اهمية في حياة الفرد والمجتمع من اللاوعي الخاص بالفرد الذي اكتشفه فرويد.بهذا المعنى يمكنك ان تصف اللاشعور الخاص بالفرد بأنه الذاكرة الثقافية الفردية واللاوعي الجمعي بأنه الذاكرة الثقافية الجمعية، بما فيها المخزون المعرفي الأسطوري والسلوكيات الممارسة من قبل اسلافنا.

من هنا جاءت اهمية اللاوعي الجمعي بكونه يحمل خبرات او معتقدات مشتركة لدى شعوب او جماعات داخل شعب معين.. تحدد سلوكها او تصرفاتها او ما تقوم به من افعال.ومن هذا المفهوم ظهر مفهوم حديث نسبيا هو السلوك الجمعي COLLCTIVE BEHAVIOR ويقصد به (السلوك غير المنظّم الذي ينشأ تلقائا، ولا تكون له خطة تحكم مساره فيصعب التنبؤ بتطوراته ، ويعتمد على التأثير المتبادل بين الأفراد المشاركين فيه).ومن انواعه:الدعاية التي تسعى الى اقناع الناس لتقبل أفكار جاهزة دون تمحيص، والرأي العام الذي يمثل اجماع جماعة معينة على وجهة نظر معينة، والتظاهر والاحتجاجات التي تهدف الى احداث تغيير اجتماعي ، والثورة التي تهدف الى تغيير كامل في نظام اجتماعي ما يتسم بالعنف، وسلوك أو غريزة القطيع الذي يشيع في المجتمعات المتخلفة، وسلوك الغوغاء التي تستهدف جموعها القيام باعمال عدوانية مثل تخريب الممتلكات او نهبها او اشعال النار فيها، كالذي حصل في نيسان 2003 حيث نهب العراقيون وطنهم.. وحتى ذاكرتهم التاريخية!.

آليات اللاوعي الجمعي

قد يبدو اللاوعي الجمعي لكثيرين أشبه بشخص (فاقد الوعي)، لكنه يدهشك بأنه يعمل بآليات علمية! اليك اهمها:

1. يتعامل اللاوعي الجمعي مع بعد زمني واحد هو الماضي، ويحيط نفسه بجدار كونكريتي يصد كل مؤثرات الحاضر. وتلك مشكلة كل احزاب الأسلام السياسي في العالم، انها وظفت الحاضر من اجل الماضي.

2. يغلّب العقل الانفعالي على العقل المنطقي في سلوك الفرد والجماعة، ويعطّل العقل المنطقي في اوقات الأزمات.. ولك ان تتذكر ما حدث بين 2006 و 2008 حيث قتل العراقي اخاه العراقي لسبب في منتهى السخافة ما اذا كان اسمه حيدر او عمر او رزكار!

3. يستقطب الناس في مجموعتين متضادتين، جماعة الـ(نحن)التي ينتمي لها وجماعة الـ(هم )الاخرى.

4. يتصف بأنه (أحول عقل).. يرى في الـ(نحن)الايجابيات ولا يرى السلبيات، ويرى في الـ(هم)السلبيات ولا يرى الايجابيات.. ويخرج بتعميمات خاطئة أن جماعته هي الأفضل في كل شيء.

5. يفهم الصراع على انه (أكون أو لا أكون)، وأنه اما غالب أو مغلوب، ولا يرى الجانب الايجابي في الصراع.

6. يؤمن بفكرة (المخلّص).. وبأنه سيظهر في يوم ما شخص بمواصفات استثنائية يقيم العدل بين الناس.

آليات السلوك الجمعي

ما يدهشك.. أن اللاوعي الجمعي يعمل وكأنه (مفكر اصيل) وفق اساليب او آليات نوجز اهمها بالآتي:

1.العدوى: في كتابه: (الجموع.. دراسة في العقل الشعبي) توصل لوبون الى أن الانسان الفرد قد يكون مثقفا ومتحضرا ولكنه وسط الجموع يصبح بربريا.بمعنى ان تصرّف الافراد في الجموع يكون مختلفا عن تصرفهم حين يكونون لوحدهم. ولقد عايشت ذلك في تظاهرات شباط 2011 وانتفاضة تشرين 2019.

ودهشك ايضا ان هنالك عمليات نفسية تتحكم بسلوك الفرد حين يكون بين الجموع، اهمها:

أ‌. تقبّل الأيحاء

في هذه الحالة تسارع الجموع الى التصرف على وفق ما يوحى اليها به، وتتراجع الشخصية الواعية ليتولى "اللاوعي الجمعي" توجيه سلوكها.ومع ان معظم علماء النفس المعاصرين لا يتفقون مع هذا الرأي ، الا أن فرويد يرى أن وجودنا في جمع من الناس يسمح لأنماط السلوك المكبوتة الأنطلاق من عقالها.ويضيف بأننا نخضع للقوى المسيطرة سواء تجسدت في السلطات او في الجماعات نتيجة لعلاقات السيطرة التي عشناها مع آبائنا والتي طورت لدينا الحاجة الى الخضوع.ولقد ثبت ذلك في العراق عمليا بعد 2003، يوم خلق اشاعات خبيثة تثير القلق والتوتر لدى جماهير مشحونة انفعاليا بنزعات وافكار مستقرة في لاوعيهم الجمعي.

ب.العدوى الاجتماعية Social Contagion

تعني العدوى الاجتماعية عملية نفسية يؤثر فيها الأفراد على بعضهم البعض اثناء وجودهم في الجماعة فتتصاعد حدة الانفعالات كما تتصاعد سرعة الاستجابات .فعندما تستثار الجموع فأنها تحتاج لأن تفرّغ انفعالاتها الجياشة فتندفع نحو السلوك الذي يوحى اليها به حين يكون ذلك الاتجاه متسقا مع دوافعها.. والشواهد تأتيك من تصرفات مختلف مكونات المجتمع العراقي.. شيعة وسنة وكوردا.

2. نظرية التقارب:

تقول هذه النظرية ان سلوك الجموع ينشأ عن تجمع عدد من الناس يتشابهون في حاجاتهم ونزعاتهم وأهدافهم، ومن مظاهرها (العدوى الانفعالية المنظبطة).. تكون ذات فائدة اجتماعية عندما تتوجه وجهات بناءة كما يحدث في مباريات كرة القدم حيث تؤدي العدوى الانفعالية الى تفريغ التوتر فيشارك الجميع في الهتاف والتصفيق.. لكنها كارثة حين تتوزع الجماهير على هويات فرعية وتتقاتل فيما بينها كما حصل في لبنان والعراق.

3. معايير الموقف:

ترى هذه النظرية انه بالرغم من اختلاف جموع الشغب في اهدافها الا انها تخرج الى حيز الوجود نتيجة لأحساس جماعة ما بالظلم واتفاقها على ادراك الواقع على هذا النحو، فينبثق عن هذه العدوى الاجتماعية معايير من الموقف الذي تكون فيه تبرر القيام بعمل مشترك تضع حدودا لسلوك الجموع المشاركة.. بمعنى أن معاناة جماعة او طائفة معينة وادراكها للظلم الواقع عليها، والحماس الذي يتأجج بفعل عمليات العدوى الاجتماعية تقود الى نشوء معايير تبرر سلوك الجمع وتحدد مساره.. كما حصل للمكون السّني بعد 2003

ختاما

ان الهدف من هذه المقالة هو أن سياسيين ومفكرين ومثقفين واعلاميين كانوا غافلين عن لاعب خفي في الصراع الذي راح ضحيته مئات الآف العراقيين، ويخطأ من يظن ان اللاوعي الجمعي العراقي قد ضعف دوره في (الصراع العراقي)، فحاله الآن أشبه بجمر تحت الرماد.. يظهر لحظة تنفخه رياح أزمة، في وطن ادرك حكّامه أن بقاءهم في السلطة والأستفراد بالثروة مرهون بخلق الأزمات.. التي تشيطنوا في خلقها!

***

أ.د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

أدرك نصر، من اللحظة الأولى لشغْله وظيفة معيد بقسم الدراسات الإسلامية، أنّه ما بين خيارين: إمّا أن يكون واعظا، وإمّا أن يكون باحثا، اختار الثانية، وهو يُدرك عواقب البحث في الفكر الديني في مجتمع لا يتعامل مع الفكر الديني بوصفه منتجا إنسانيا يخضع للبحث والنقد والتطوير، وإنما بوصفه دينا، فالمغالطة الأخطر في ثقافتنا “الخلط بين الدين المقدس والفكر الديني غير المقدس”، تردد نصر بداية في اختيار مجال “الدراسات الإسلامية” تخصصا لدراساته الأكاديمية بعد تخرّجه في قسم اللغة العربية وآدابها بكلية الآداب – جامعة القاهرة سنة ١٩٧٢، وكان السبب وراء التردد، على حد قوله: “هو عجز الجامعة عن تقديم الحماية الاكاديمية للباحث محمد أحمد خلف الله الذي تقدم عام ١٩٤٧، برسالة لنيل درجة الدكتوراه بإشراف الشيخ أمين الخولي بعنوان “الفن القصصي في القرآن الكريم” تحت ضغط الهجوم الشرس الذي تعرضت له الرسالة والباحث والمشرف – وذلك قبل أن تناقش في الجامعة – في الصحف والمجلات قررت الجامعة عدم صلاحية الرسالة، كما قررت تحويل الباحث إلى وظيفة إدارية (خارج النطاق التعليمي) وحرمان الأستاذ المشرف من تدريس علوم القرآن والحديث أو الإشراف على رسائل جامعية في إطار تخصص “الدراسات الإسلامية”.

“هكذا ظل كرسي “الدراسات الإسلامية” شاغرا، حتى تنبه قسم اللغة العربية سنة ١٩٧٢، إلى ضرورة توجيه أحد شباب الدارسين لاختيار تخصص الدراسات الإسلامية؛ لشغل المنصب الذي ظلّ شاغرا لربع قرن، كان ترددي مفهوما ومنطقيا، إلى جانب أنّه يكشف عن وعيي المبكر بإشكالية البحث العلمي في مجال الدراسات الإسلامية، وأعلم “الخطورة” الكامنة في تجاوز الخطابين الوعظي والإصلاحي معا من هنا كان ترددي الذي حاول أساتذة القسم أن يُهوّنوا من شأنه”.

وكعادة الباحث الجيد يقوده السؤال إلى سؤال، وتُفضي به الدراسة إلى دراسة أخرى في رحلة لا تتوقف، انتقل نصر من سؤال الذات القارئة/المؤولة في رسالتيه لنيل درجة الماجستير والدكتوراه إلى سؤال النّص، فقد تكوّنت بداخله العديد من الأسئلة البحثية حول أهمية إعادة النظر في المراد بمفهوم “النّص”، إذ “لا يُمكننا فهم واقعنا الثقافي المعاصر منفصلا عن الثقافة العربية الإسلامية في جانبها التراثي التاريخي، ولما كانت الثقافة تُمثّلُ الذاكرة الجمعية للجماعة، فليست الذاكرة إلاّ مجموعة من النصوص المحدِّدة للقيم والأعراف وأنماط السلوك ومعايير الخطأ والصواب، وفي ثقافة احتلّ النص الديني فيها – ولايزال – مركز الذاكرة/ الثقافة لا بديل عن البحث في مفهوم النص الصانع للثقافة العربية الإسلامية، فكل كشف وإجلاء للنّص هو إجلاء لآليات إنتاج المعرفة، ولنمط الثقافة التي ينتمي إليها”.(1)

كما أنّ تحليل مفهوم النّص سيكشف الغطاء عن القراءة الإيديولوجية النفعية للتراث التي تجلّت بوضوح في سبعينات القرن الماضي، فتحوّل النصّ الديني المقدس إلى ساحة عراك في المجالات الاجتماعيّة والسياسيّة والفكريّة، يحاول كل طرف من أطراف الصراع تأويلَه بما يُعطي “أيديولوجيته” مشروعية عليا، فكما قُدّمت قراءة اشتراكية للإسلام لتُضفي على المشروع الاشتراكي مشروعية عليا في فترة الحكم الناصري، كان لابد من تقديم قراءة أخرى مغايرة للإسلام في فترة الحكم الساداتي تبرّر تحوّل علاقتنا مع إسرائيل من الصراع إلى المصالحة، وما صاحب ذلك من أفكار عن رأس المال الحر، فتحوّلَ “النص” الديني المقدس بالقراءة الإيديولوجية الجديدة من نصّ يدعو إلى الفكر الاشتراكي القومي التقدمي إلى نصّ يدعو إلى الرأسمالية والانفتاح الإقليمي، فرأى نصر أنّ البحث عن مفهوم النص في مجال علوم القرآن مرة، وأخرى في مجال الدراسات اللغوية كفيل بربط التراث بالمناهج العلمية المعاصرة، وتحقيق “وعي علمي” نتجاوز به موقف “التوجيه الأيديولوجي” السائد في ثقافتنا وفكرنا.

وكانت تلك الدراسات سببا لدخول الخطابات المؤدلِجة للنص في مواجهةٍ مع خطاب نصر الذي لم يقف عند حدود دراسة “مفهوم النص” بل تعداها إلى دراسة “إشكاليات القراءة وآليات التأويل”، فخطاب نصر على مستوى الموضوع يتحرّك حركته البندولية بين دراسة القديم والحديث، بين التراثي والحداثي، فكانت دراسته “الهرمنيوطيقا ومعضلة تفسير النص”(2) ودراسته “الإمام الشافعي وتأسيس الإيديولوجية الوسطيّة” محاولة لاكتشاف جذور “الآني” في بنية الخطاب في “الماضي”. ثم كان “نقد الخطاب الديني” حفرا في بنية الخطاب الديني الحديث تعريةً لجذوره التي يُحاول أن يخفيها مُدّعيا أنه نتاج مباشر للنص الديني،(3) فكان لتنوع منطلقات نصر أثره في عمق وثراء نتاجه العلمي.

استمرت دراسات نصر حول بنية النص في الثقافة العربية، ولم يتوقف منهجه في تحليل النصّ – كما يُظنّ – بانتقاله إلى قراءة التراث في ضوء علم تحليل الخطاب، فبعد أن كشف عن مفهوم النص في نظرية الفقه الإسلامي الذي استخدم كلمة “النص” للإشارة إلى إحدى مستويات الدلالة، وهي “الواضحة وضوحا بيّنا يفهمه كل من يعرف العربية” متسقا بذلك مع المعنى المعجمي للفظ “النص”، عاد نصر وكشف عن مفهوم ثانٍ للنص في الثقافة العربية انتقل إليها من دلالة “النصّ” في اللغات الأوربية التي تُطلق كلمة “النص” على كل بنية لغوية كاملة تتجاوز حدّ الجملة المفيدة، فتُطلق كلمة “نص” على مسرحية أو رواية أو كتاب بوصفه بنية كاملة، وليس بمعنى الواضح البيّن الذي لا غموض فيه، وبالمفهوم الثاني أصبح يُطلق على القرآن الكريم كلمة “نص” بوصفه بنية لغوية كاملة بتقسيمها إلى سور وترتيبها وتقسيمها إلى آيات.

ولم يقف النص في الثقافة العربية عند حدود النصوص اللغوية، بل حمل مفهوما ثالثا أوسع بكثير، فلم يكتف باللفظ لغة للتعبير النصّي، بل امتدّ للإشارات التي يستقبلها الإنسان في منامه، فالنصّ في العقل العربي تجاوز العبارة لغة العقل المحدود بقيوده إلى نص من نتاج لغة أخرى هي لغة الإشارة التي تنفذ إلى ما وراء العقل المجرَّد.. بهذا تكون الرؤى والأحلام في الثقافة العربية نصوصا دالةً بالمعنى السميوطيقي للنصوص لكنها نصوص تحتاج للترجمة إلى اللغة الطبيعية؛ لتصبح أحاديث يُمكن مشاركة الآخرين في فهم “الرسالة” التي تضمنها هذا النمط من النصوص (الرؤى)، فتُصبح موضوعا للتأويل أو التفسير؛ لتستحيل إلى معانٍ جديدة بالترجمة والتعبير والتأويل. فالنصوص من منظور سميوطيقي “سلسلة من العلامات غير اللغوية المنظمة تنظيما خاصا يجعلها منتجة لدلالة كلية، ليست إلا حاصل تفاعل دلالات العلامات داخل كل منظومة، فالحلم والرؤيا مثل اللوحة أو التمثال أو قطعة الموسيقى جميعها نصوص من اللغات غير الطبيعية.(4)

وفي دراسته “القرآن: العالم بوصفه علامة”(5) كشف عن مفهوم رابع للنص في الثقافة العربية مستفيدا من تجربته السابقة في “علم العلامات في التراث”(6)، تلك الدراسة الاستكشافية التي بحث فيها داخل التراث العربي بمعناه الشامل عن جذور وآفاق معرفية لبعض قضايا “علم العلامات” أحد معطيات الدراسات اللغوية الحديثة، فقد عاد بعدها نصر إلى المقاربة السميولوجية لعلم العلامات في بحثه “القرآن: العالم بوصفه علامة”؛ ليبرهن على فرضية مفادها أنّ بنية النص القرآنى جميعها تقريبا تُحيل العالم كله بسمائه وأرضه وكواكبه وبنباته وحيوانه وجماده إلى آيات وعلامات بوصفها نصوصا كونية مقروءة، وليس العالم فحسب هو الذي يتحوّل إلى علامة بل التاريخ الإنساني كله.. قصص الأمم الغابرة وصراع الأنبياء والرسل مع أقوامهم، يُصبح علامة تُجسد الصراع الأزليّ بين الحقّ والباطل وبين الإيمان والكفر. وتتعانق أنماط العلامتين – الكون والتاريخ – من خلال الفصل بين نمطين من البشر: القادرين على قراءة العلامات الكونية، فيستدلون منها على وجود “الخالق”، ويدخلون “الإيمان” ويتمتعون بالخلاص الأخروي، والنمط الثاني هم العاجزون عن تلك العلامات فيسقطون في وهدة “التكذيب” ومحاربة الأنبياء والرسل، مشيرا إلى أن العلامة دال الإشارة لم يرد في القرآن إلا مرة واحدة، وجاء دال العلم بمعنى المعرفة ودال العالم لم يأت أبدا في القرآن فاعلا ولا في موقع الابتداء كما أنه لم يأت مفردا.(7)

فيُمكننا القول إن الثقافة العربية طوّرت مع الإسلام مفهوما جديدا للنص بالمعنى السميوطيقي الذي يُعرّف النّص بأنه “سلسلة من العلامات المنتظمة في نسق من العلاقات تُنتج معنى كليا يحمل رسالة، وسواء كانت تلك العلامات علامات باللغة الطبيعية – الألفاظ – أم كانت علامات بلغات أخرى، فإنّ انتظام العلامات في نسق يحمل رسالة يجعل منها نصا، وليس من قبيل الصدفة أن المفردات “عِلْم” و”عَالم” و”علامة” مفردات من جذر لغوي واحد في اللغة العربية. وليس من قبيل الصدفة أيضًا أن كتاب العربية الأكبر، ونصها المهيمن، يُسمى نفسه “رسالة”، ويُطلق على وحداته الأساسية المكونة للسور – الوحدات الأكبر – اسم “الآية”، والآية فيما يقرر الطبري تحتمل وجهين في كلام العرب: أحدهما أن تكون سُميّت آية، لأنها علامة يُعرف بها تمام ما قبلها وابتداؤها… وإذا كانت “الآية” علامة، والنص: رسالة، فإنّ الكون كله – في الخطاب القرآني – سلسلة من العلامات الدالة -الآيات – على وجود الله، وعلى وحدانيته. ومعنى ذلك أن ثمّة نصين: نصّ لُغوي مرسل من الله للإنسان، ونصّ غير لغوي – العالم – يُمثّل رسالة يتجاوب مضمونها مع مضمون الرسالة اللغوية.. وفي كثير من آيات القرآن توجيه للإنسان لكي يقرأ آيات الله في الكون وفي الناس وفي نفسه، وفي هذا التوجيه ما يدلّ على وجود تصورٍ لتساند النصوص -لغوية وكونيه وإنسانية- في إنتاج الدلالة المنتجة للرسالة. إن النّظر في الملكوت وفي الخلق هو بمثابة قراءة لتأويل الآيات/العلامات – وصولا إلى دلالتها، وبالمثل يُعدّ تأويل القرآن -النص اللغوي- موصلا للرسالة الموجودة -سلفا- في الكون”. (8)

فـ”اللغة الدينية نسق من النظام اللغوي، لكنه النسق الذي يُحاول أن يفرض هيمنته وسيطرته على النظام اللغوي، وتتم هذه الهيمنة والسيطرة من خلال عملية إعادة بناء دلالة العلامات اللغوية في نظام اللغة الأساسي(9) حيث يتمّ تحويل تلك العلامات في نسق العلامات السميولوجية أو (السميوطيقية)، وبعبارة أخرى تُقوم اللغة الدينية من خلال عملية التحويل تلك – ويُطلق عليها مصطلح السمطقة Semiosis – بالاستيلاء على اللغة العربية الأساسية والاستحواذ عليها. والاستيلاء على اللغة يعنى الاستيلاء على “العالم” الذي تُنظّمه اللغة من خلال نظامها العلاماتي، وهذا يُفضي بدوره إلى الاستيلاء على “الإنسان” عن طريق امتلاك وعيه بآليات التحويل المشار إليها، وهذا يكشف عن وظيفة اللغة الدينية في الاستحواذ على الإنسان وامتلاكه لكي يندمج داخل دائرة نظام “الإيمان” و”الجماعة” الذي تسعى اللغة الدينية إلى تأسيسهما”.(10)

بهذا شرح نصر كيف تشكّلت أربعة مفاهيم للنص في الثقافة الإسلامية، في محاولة منه الإجابة عن سؤال ما مفهوم النص؟ سؤال من أسئلة واضحة وصريحة طرحها نصر انطلاقا من هموم واقعه الثقافي، ولم يكن يتوقّع أن طرح جانب من الأسئلة المكبوتة سيكون سببا في إرغامه على ترك الوطن إلى “المنفى”.

يُتبع

***

أ.د عبد الباسط سلامة هيكل

....................

(1) مفهوم النص، ص١٢،١١.

(2) نُشرت في كتابه إشكاليات القراءة وآليات التأويل، ط. المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء/المغرب، بيروت/لبنان، الطبعة السابعة، ٢٠٠٥، ص ١٣: ٥١ .

(3) ينظر: النص السلطة الحقيقة الفكر الديني بين إرادة المعرفة وإرادة الهيمنة ، ص١١،١٠.

(4) ينظر: النص السلطة الحقيقة، ص١٦٧،١٦٦.

(5) ينظر: السابق، ص ٢٥٩:٢١٣ .

(6) نُشرت في كتاب “أنظمة العلامات في اللغة والأدب والثقافة، مدخل إلى السميوطيقا” (دار إلياس العصرية، القاهرة، ١٩٨٦) بإشراف: سيزا قاسم ونصر أبوزيد، وأعيد نشرها في كتاب إشكاليات القراءة وآليات التأويل، ص١١٧:٥١.

(7) ينظر: النص السلطة الحقيقة، ص٢٣١،٢٣٠.

(8) السابق، ص١٧٠.

(9) الفكرة التي سبق واقترب منها نصر في كتابه نقد الخطاب الديني ص٦٧:٦٥، في قوله: “اللغة العربية لغة دينية بامتياز أحكم النص السيطرة عليها، واستوعبها استيعابا شبه تام في نسقه الدلالي الخاص”.

(10) ينظر: النص السلطة الحقيقة، ص٧.

يؤكد مبدأ عدم التأكد لللفيزيائي الالماني فيرنر هايزنبيرغ ان موقع وزخم حركة الجزيء، مثل الالكترون لا يمكن ابداً ان يُعرفان بدقة كاملة في نفس اللحظة، بسبب ان أي محاولة للتحقق من احدهما بالضرورة تغيّر الاخرى. باختصار، الملاحظة ذاتها تغيّر ما يُلاحظ.

شيء من هذا القبيل يحدث ايضا في مجال السياسة الاجتماعية. أي ان محاولة حل بعض المشاكل الاجتماعية تجعل المشكلة ذاتها غير قابلة للحل لأن الحل ذاته يصبح من بين الظروف التي تؤدي الى المشكلة في المقام الاول. بهذا تكون السياسات العامة public policies بطبيعتها معيبة.(1) وهذا بلاشك ليس حقيقة ثابتة. بعض السياسات العامة قد تعمل بشكل أفضل او أسوأ مما قُصد بها. مع ذلك، يبقى مبدأ (اللّايقين) يعمل بانتظام كاف لدرجة انه يشكل تهديدا  دائما لأي محاولة في تغيير الهندسة الاجتماعية. بالطبع، ما هو شائع عموما من التجربة ان تنفيذ السياسة الاجتماعية التي قد تبدو اتجاها واضحا في بدايتها، سوف ينتهي بها الامر الى التعثر واحيانا الى فشل تام – لكن توضيح هذا لم يُفهم بشكل دقيق. ان توضيح هذه المشكلة يتم من خلال مبدأ اللّايقين principle of uncertainty.

يمكن توضيح هذا باستخدام عدة أمثلة نبدأ بأبسطها:

1- طريق سريع ذو مسارين يصبح بمرور الزمن اكثر ازدحاما ولدرجة غير آمن.

الحل يبدو بتوسيع الطريق الى أربع مسارات. لكن السائقين عندما يكتشفون الراحة في هذا الطريق المحسّن سيندفعون نحوه وبالنهاية يصبح مزدحما كما كان في السابق.

2- احدى الجامعات تقرر البحث عن بعض الوسائل لتقييم المهارات التعليمية في الجامعة.

جرى اعتماد طريقة تقييم زملاء العمل، وتستلزم قيام الكلية بزيارة كل صف من الصفوف  وتسليم تقارير حول ذلك. هنا يدخل مبدأ اللّايقين في اللعبة: الأساتذة يشعرون بالإستياء من هكذا تدخّلات ويصبح لديهم وعي ذاتي بحساسية ما يقدّمونه من تعليم ، وان القائمين بالتقييم كونهم يدركون بانهم ذاتهم سوف يُختبرون سيميلون لتقديم تقارير لامعة عن بعضهم البعض. لذا جرى اتخاذ قرار بجعل التلاميذ أنفسهم يقومون بعملية التقييم. هؤلاء جميعهم يتّبعون نفس اللعبة ولم يُعلن عن هوياتهم، في نهاية الفصل يتم إرسال  التقارير الى رئيس الكلية،حيث انها ستؤثر على المعاشات والترقيات وطلب الإجازات وما شابه. النتيجة: هي تصاعد نسب النجاح لدرجة ان معظم الطلاب حصل على الدرجة A،وان أسوأ الطلاب حصل على تقدير B ،والطلاب الذين لم ينجزوا أي شيء حصلوا على درجة النجاح C. لم يفشل أحد بل ولم يحصل أي طالب على الدرجة المتدنية  D .

3- سياسة التقاعد الحكومية:

لنفترض ان عاملا وهو من بين المساهمين في صندوق التقاعد يموت قبل استحقاقه للتقاعد تاركا وراءه أرملة. العدالة تتطلب انه طالما ان الأرملة كانت تعتمد عليه في المساعدة وتستمر في ذلك لو كان حيا، عندئذ هي يجب ان تستلم المستحقات التقاعدية المحجوزة له سلفا. لكن ماذا لو انها تزوجت من رجل آخر، وبهذا تحصل على أساس جديد للمساعدة؟ هل هي لاتزال تستحق ذلك التقاعد؟ مثل هذه المستحقات ستبدو مبالغ او مكاسب غير متوقعة لزوجها الجديد تعفيه من مسؤوليته في المساعدة. وهكذا جُعلت الحقوق التقاعدية مشروطة بعدم الزواج من شخص آخر او على الأقل ليس قبل سن الـ 55 او 60 عاما. ما يحدث هو ان النساء الأرامل تلتف على القيود عبر الدخول بعلاقة زواج جديدة دون استحصال وثائق قانونية للزواج. وهكذا فان هذا الحل يحوّل المشكلة الى شكل آخر ويصبح الوضع اكثر سوءاً.

4- قرار التعامل مع الأمهات الوحيدات:

وُجد ان النساء المنفردات في ضواحي المدن الفقيرة والمزدحمة  بحاجة لمساعدة خاصة خوفا من ان يكبر أطفالهن وهم في فقر وينزلون الى الشوارع ويرتكبون الجرائم. أحسن حل للمرأة  هنا هو ان تتزوج وتبقى متزوجة اذا كانت تنوي تربية أطفال، وبالتالي هذا يوفر لمدى معين استقرارا ماليا. الحكومة لا تستطيع خلق حالات الزواج. لذلك قررت توفير مساعدة اقتصادية خاصة للامهات الفرادى لكي لا يتوجب عليهن الإختيار بين العمل وتربية أطفالهن.(2)

وهكذا توفرت الحوافز للامهات ليبقين فرادى لكي يطالبن بهذه الحقوق حتى لو كن في علاقة زواج مع رجل يعمل ويستطيع توفير المساعدة الاقتصادية التي كانت هي الهدف من هذا البرنامج. المشكلة الان تم مواجهتها بتعيين وكلاء يقومون بزيارات غير معلنة للامهات اللواتي يستلمن الحقوق ليروا ما اذا كان هناك أي رجل يشغل دور الزوج. مجرد اكتشاف هذا الرجل يكفي لإنهاء تلك المساعدات. ماذا كانت النتيجة؟ لم يتحقق الهدف النهائي بتعزيز الزواج واستقرار العائلة، والمشكلة تفاقمت بدلا من ان تُحل.

5- قطاع الصحة العامة يشهد العديد من المشاكل، الحل لكل واحدة منها يخلق مشكلة جديدة، حتى يصبح كامل القطاع مستنقعا لا يمكن ادارته. وهكذا، في المجتمع الديمقراطي، يجب ان يتمتع جميع الافراد  بالرعاية الصحية. المشكلة يتم مواجهتها ببناء مستشفى رعاية صحية ممول تمويلا عاما، وبالتالي سيجنب كل شخص التكاليف العالية والضرورية احيانا. هذا بالطبع،يزيل قيدا هاما على ما يفرضه المستشفى من تكاليف، وبهذا ترتفع التكاليف باستمرار.

هذا التأمين جرى تمديده لاحقا لكل أشكال الرعاية الصحية بعد ان يدفع المريض سلفا مبلغا متواضعا  قبل المطالبة بالتأمين(3). الان لا يحتاج المرضى للتشاور حول ما اذا كان يتوجب عليهم اخذ اختبارات واجراءات. بعد دفع مبلغ التأمين كل شيء بعد ذلك مجانا. بعد ذلك اضيفت تكلفة طب الاسنان . هناك القليل من القيود على المرضى او الاطباء والبيروقراط المتعاقدين لإدارة تلك البرامج والذين لايهتمون بالأرقام التي يدخلونها في كومبيوتراتهم.

الخطوة القادمة هي تضمين كلفة الأدوية التي اعتُبرت ضرورية. هذه الكلفة ترتفع حالا وبشكل خارج عن السيطرة لأن كل من المرضى وشركات الأدوية يمارسون ضغطا على ممارسي الطب العام للترخيص باستعمالها وتبرير الكلفة الهائلة لها بفعل كلفة البحوث الداخلة في التطوير. لم يبق الان سوى خطوة قصيرة لتضمين الأمراض العقلية تحت هذا الغطاء. وبالتالي، فان عدد العلاجات القابلة للتعويض لهؤلاء تتضاعف لتتضمن العلاج الطبيعي مثل الاضطراب والخجل وعدم الراحة عند مواجهة الاخرين، واحمرار الوجه في الحياة اليومية. علاجات طُورت لجميع هؤلاء متوفرة فقط بترخيص الاستعمال ويتم الاعلان عنها بكثافة من قبل المصنّعين. الآن هل تم حل مشاكل الصحة العامة بهذه السياسات؟ بالطبع، الى حد ما، لكن كل حل خلق مشاكل جديدة وبالنتيجة اصبحت الرعاية الصحية بمرور الزمن مكلفة جدا ، الاختلاف الرئيسي هو ان كلفتها تقع بشكل كبير على الجمهور وتصبح أقل أو لم تُلاحظ من جانب المستفيدين منها. ما يراه المريض هو ان العلاج الطبي هو رخيص نسبيا او حتى مجانا، ولم يلاحظ الزيادة الهائلة في أقساط التأمين والضرائب.

6- المثال الأخير يتعلق بمسؤولية التأمين المتوفر لممارسي مهنة الطب العام والجراحين. هنا يعمل مبدأ اللايقين بشكل واضح جدا وبعيد المدى. الأطباء يشعرون مجبرين لإمتلاك غطاء تأمين لأن الطب هو علم غير دقيق، ووقوع أخطاء يمكن ان يهدد الرفاهية وحتى حياة المرضى. لكن مجرد وجود هذه الحماية سيخلق مشكلة بدلا من الحل بسبب العديد من العوامل. التكاليف الهائلة لا يتحملها الأطباء وانما يتحملها مرضاهم، اما من خلال اقساط التأمين  او من خلال الضرائب. ومن غير الواضح ان كانت  المشاكل تُحل في النهاية، لكن ما هو واضح جدا هو انها تفاقمت بشكل كبير. قد يرى احد ان التعقيدات الناجمة عن مبدأ اللايقين يمكن توقّعها والتعامل معها سلفا، ولكن كما يوضح المثال الأخير هذه الحلول المقصودة سوف ببساطة تخلق لايقينيات جديدة والمشاكل تبدأ مرة اخرى.

***

حاتم حميد محسن

.................

المصادر:

1- Uncertainty and public policy: why public policies always go wrong? Philosophy now 2002

2- الاقتصاد في المبادئ دراسة تحليلية في الاقتصادين الجزئي والكلي، حاتم حميد محسن، دار كيوان للطبع والنشر والتوزيع، دمشق 2008.

الهوامش

(1) ويعمل مبدأ عدم التأكد ايضا في مجال السياسة الاقتصادية والمالية للدولة من خلال ما يسمى الفاصل الزمني time lag. القرارات المهمة المتعلقة بالضرائب او الانفاق يجب اقرارها عبر مجلس الوزراء وموافقة البرلمان. وحتى لو كان الاقتصاديون متفقين على سياسة الحكومة بشأن الضرائب او اي موضوع آخر الاّ ان ذلك يتطلب المزيد من النقاش بين السياسيين. فترة التأجيل بين التأكيد الاولي على حالة الاقتصاد والعمل القانوني المطلوب لإحداث التغيير يسمى فاصل القرار Decision lag. وحينما يتم إقرار سياسة التغيير فلايزال هناك فاصل للتنفيذ executive lag فيضيف وقتا آخرا بين سن القانون وتنفيذه، وحتى عندما يتم وضع السياسات موضع التطبيق فانها عادة تأخذ وقتا أطول قبل ان تصبح نتائجها ملموسة. وبالنظر لهذه الفواصل الزمنية فانه من الممكن (وخلال الفترة التي يُتوقع ان يحدث فيها التغيير في الاقتصاد) ان تتغير الظروف بطريقة لم تعد تنفع معها السياسة قيد التنفيذ.

 (2) البحوث تشير الى ان الامهات الوحيدات يُحتمل ان يتزوجن من رجال لايساعدون في اخراجهن من الفقر، لأن هؤلاء الرجال عادة يكون لديهم اطفال من شريكة اخرى، ووُجد ان ثلثي النساء الوحيدات اللواتي تزوجن ثانية ينتهي بهن الامر الى الطلاق حالما يصلن سن الـ 44 عاما وبهذا يصبحن اسوأ اقتصاديا من الامهات المنفردات اللواتي لم يتزوجن ابدا.

(3) التأمين يدفع الناس الى مواجهة مخاطر كان يمكن تجنّبها بدون التأمين، وهذه الحالة تسمى في الاقتصاد "بالمأزق الاخلاقي" حيث تكون الكلفة الاجتماعية عالية. فمثلا لو كان لديك منزل فيه آثاث ثمينة ولم تشتري بوليصة تأمين ضد السرقة، فانك ستكون حريصا جدا على المنزل حيث ستتأكد من غلق الباب بإحكام في كل مرة تغادر فيها المنزل وتتخذ اجراءات لمنع حالات التخريب والكسر في الأبواب، فاذا قمت بشراء تأمين للمنزل فسوف تكون أقل اهتماما، واذا خرجت من البيت وتذكرت بعد عشر دقائق انك لم تغلق الباب فسوف تستمر بالذهاب لأنك تشعر لديك تأمين ضد السرقة ولا تريد ان تخسر الوقت، وكذلك في حالة التأمين ضد الحريق حيث ستتحطم المزيد من البيوت لمن لديهم حماية التأمين ضد الحريق، وهي مخاطرة كان يمكن تجنّبها لو ان الناس يدفعون تكاليف الحماية بأنفسهم. 

تُمثِّل رَمزيةُ اللغةِ تَصَوُّرًا وُجوديًّا عَن كِيَانِ الفردِ وكَينونةِ المُجتمع، وتُشكِّل مَنهجًا مَعرفيًّا لِتَحليلِ العلاقات الاجتماعية في صَيرورة التاريخ المُتوالِد باستمرار، وتَفسيرِ مَصادر الوَعْي الثقافي في أشكالِ التفكير الإبداعي، مِمَّا يُؤَدِّي إلى جَعْلِ الواقعِ المُعَاشِ كائنًا حَيًّا مُتَفَرِّدًا بذاته، وَفِعْلًا اجتماعيًّا مَنظورًا إلَيه مِن خِلال إرادةِ المَعرفة المُتَحَرِّرَة لا سُلطةِ المصالح الشخصية الضَّيقة . والوَعْيُ الثقافي لا يَتَكَرَّس كَنَسَقٍ إنساني لِخَلاصِ الفَرد مِن الأحلام المَكبوتة، وتَخليصِ المُجتمع مِن الضغط الاستهلاكي، إلا إذا تَمَّ النظرُ إلى رمزية اللغة مِن الداخل لا الخارج، وهذا يَستلزم تحويلَ البناء الاجتماعي الحاضن لتفاصيل الحياة اليومية إلى بُنية لُغَوية حاضنة لإفرازاتِ العقل الجَمْعِي وتأثيراتِ الهُوِيَّة الجامعة، الأمر الذي يَجعل العلاقاتِ الاجتماعية تَيَّارَاتٍ فِكريةً مُتَحَرِّرَةً مِن الوَهْمِ والأدلجةِ المُغْرِضَة، ومُندمِجةً معَ اللغةِ والثقافةِ، باعتبارهما نظامًا واحدًا في الزمانِ والمكانِ، ومُوَحِّدًا للآلِيَّاتِ السُّلوكية التي تُنتِج المَعرفةَ وتُوَظِّفها خارجَ القوالب الجامدة، ومُوَلِّدًا لمفاهيم جديدة تُعيد صِياغةَ المَعنى الوُجودي - ذِهنيًّا وحياتيًّا - مِن مَنظور إبداعي لا وَظيفي.وكِيَانُ الفردِ لا يَكتسِب الشرعيةَ الثقافية إلا إذا تَأسَّسَ - إدراكًا كَوْنِيًّا وسُلوكًا إيجابيًّا وواقعًا مَلموسًا-على قَواعدِ البناء الاجتماعي. وكَينونةُ المُجتمع لا تَكتسِب المشروعيةَ التاريخية إلا إذا تَأسَّسَتْ- سِيَاقًا تَحريريًّا وفِكْرًا فاعلًا ونَقْدًا مَنهجيًّا - على أُسُسِ البُنية اللغوية . وتَظَلُّ مَرجعيةُ المَعنى الوُجودي هي الذاكرةَ الجَمْعِيَّة التي تَحْمِي كِيَانَ الفردِ مِن الأحكامِ الثقافية المُسْبَقَة، وتَحْمِي كَينونةَ المُجتمع مِن المُسَلَّمَات التاريخية التي فَرَضَتْهَا سُلطةُ الأمرِ الواقع .

2

رَمزيةُ اللغةِ تُحلِّل أبعادَ هُوِيَّة الفرد في فَضاءات الفِعْل الاجتماعي، وتَكشِف أركانَ سُلطة المُجتمع في تأثيرات التَّفكير النَّقْدِي . وهذه المَنظومة المُترابطة (التَّحليل - الهُوِيَّة / الكَشْف - السُّلطة) تُعيد تَكوينَ زوايا الرُّؤية الفلسفية للأحداثِ اليومية والوقائعِ التاريخية، بحيث يُصبح الماضي والحاضرُ نَسَقًا فِعْلِيًّا مُتَجَانِسًا، وَمُمَارَسَةً حياتية مُتفاعلة مَعَ الوَعْي الثقافي، وتَجَاوُزًا مُستمِرًّا لإيقاع الحياة الرتيبة . وهذا التَّجَاوُزُ المُستمِر لا يَعْنِي تجريدَ اللغةِ مِن رمزيتها، أوْ إقامةَ قطيعة مَعرفية بين الماضي والحاضر، وإنَّما يَعْنِي صَهْرَ المراحلِ الزمنية دُون القَفْز في المَجهول، أو الغرق في الفَرَاغ، أو السُّقوط في العَدَم، بِحَيث يُصبح المَعنى الوُجودي نِظَامًا دِيناميكيًّا قادرًا على تَحويلِ إفرازات العقل الجَمْعِي إلى مصادر معرفية، وظواهر اجتماعية، وشروط تاريخية تُؤَدِّي إلى تَوليدِ الأنساق الحضارية - كَمًّا وكَيْفًا - في الوَعْي الثقافي، وتَكريسِ الوَعْي الثقافي في الواقع المُعاش، بِوَصْفِه انقلابًا على الأحكامِ المُسْبَقَة والمُسَلَّمَاتِ الافتراضية، ونَفْيًا لها مِن حَيِّز الزمانِ والمكانِ، ولَيْسَ إثباتًا لها في الشُّعورِ والإدراكِ والمُجتمعِ، وتُصبح العلاقاتُ الاجتماعية مُنْتَجَاتٍ ثقافية مَرِنَة لا كِيَانات مُتَحَجِّرَة أوْ أيقونات مُقَدَّسَة . وشخصيةُ الفردِ الإنسانيةُ لَيْسَتْ أُسْطُورَةً تُفَسِّر نَفْسَها بِنَفْسِها، وإنَّما هِيَ طَرِيقٌ إلى اكتشاف الأحلام المَكبوتة، وطَرِيقَةٌ لتوظيف أشكال التفكير الإبداعي في البناء الاجتماعي . وسُلطةُ المُجتمع الاعتبارية لَيْسَتْ أيقونةً تَستمد شَرْعِيَّتَهَا مِن ذاتها، وإنَّما هِيَ تَجذيرٌ لِصَيرورة التاريخ بَين الأنماطِ الاستهلاكية والأنساقِ الحضارية، وإعادةُ اكتشافٍ لِرُوحِ الزمان في جسد المكان .

3

المُجتمعُ لا يتعامل معَ اللغةِ كَبُنية رَمزية فَحَسْب، بَلْ أيضًا يَتعامل معها كنظامٍ مَعرفي، وكُتلةٍ اجتماعية، وتَجسيدٍ للوَعْي الثقافي في كِيَانِ الفرد وكَينونةِ المُجتمع . وكما أنَّ اللغة لا يُمكِن حَصْرُها في رَمزيتها، كذلك الفرد والمُجتمع لا يُمكِن حَصْرُها في الوَعْي الثقافي، مِمَّا يدلُّ على أنَّ العلاقات الاجتماعية - فَرديًّا وجَمَاعيًّا- عِبَارة عن دوائر مَفتوحة على كافَّة الاحتمالات، ولَيْسَتْ أنساقًا مُنغلِقةً على نَفْسِها، ومُتَقَوْقِعَةً على ذاتها، ومُكْتَفِيَةً بِوُجودها. وهذه الأنساقُ غَير المُكتمِلة تَجعل أشكالَ التفكير الإبداعي ذات طبيعة انسيابية، ومُتماهِية معَ مناهج النَّقْد الاجتماعي التي يُعَاد تأويلُها في إفرازات العقل الجَمْعِي، ويُعَاد توظيفُها في انعكاساتِ هُوِيَّة الفرد على سُلطة المجتمع، بحيث يُصبح مِن المُستحيلِ فَصْلُ الهُوِيَّة الفَردية عن السُّلطة الجَمَاعِيَّة، وهذا التلازمُ الحَتْمِي يَدفَع باتِّجاه رُؤيةِ اللغة مِن مَنظور خَلاصِي، ورُؤيةِ الفرد مِن مَنظور إنساني، ورُؤيةِ المُجتمع مِن مَنظور مَعرفي، ورُؤيةِ الوَعْي الثقافي مِن مَنظور تاريخي .

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

علاقة الفلسفة بالدين قضية إشكاليّة وخلافيّة أيضاً عاشها المشتغلون على الاتجاهين معاً في تاريخ الدولة العربية الإسلاميّة. ربما تجلى هذا الخلاف أو الصراع الفكري في كتابي أبي حامد الغزالي وابن رشد وهما (التهافت، وتهافت التهافت)، مثلما تجلت عملياً في محاربة من اشتغل على الفكر الفلسفي في تاريخ الخلافة الاسلامية كالفارابي وابن سينا والكندي وابن رشد وغيرهم الكثير.

وعلى الرغم من أن الفلاسفة العرب كانوا أكثر جرأة منا اليوم في النظر بقضايا القديم والمحدث والتحسين والتقبيح، وخلق القرآن وقدمه، والبحث في صفات الله والجنة والنار وغيرها من القضايا التي تتعلق في الخالق نفسه وعقيدته، إلا أنهم ظلوا محكومين بـ (بالخوف)، من السلطة ورجال الدين السلفين الموالين لها والقادرين على تحريض السلطة والناس عليهم، وهذا ما كان يجري تاريخيّاً. أو بسبب غياب الشروط العلميّة للمعرفة ونقصها وخاصة التطور العلمي والتكنولوجي الذي عايشه مفكرو أوربا مع قيام الثورة العلميّة والصناعيّة التي ساعدتهم على طرح قضايا تجاوزت نطاق الايمان المطلق كما جرى لكبررنيك وهارفي وغيرهما.

لنأخذ الفارابي أنموذجاُ فلسفيّا من هذه النماذج الفلسفيّة العربيّة العقلانيّة حيث عرف الفلسفة بقوله:

(هي العلم بالموجودات بما هي موجودة، لاختصاصها بالنظر في ماهيات الموجودات، من خلال تتبع مساراتها وصولاً إلى الامساك بجذورها، أو ما اعتبرها ارسطو عقلها ومبادئها الأولى).

فالفلسفة عنده تقوم في تعريفه هذا لها، على الاقرار بدور العقل النقدي القادر على كشف الظواهر في الطبيعة والمجتمع، من خلال تتبع سيرورتها وصيرورتها التاريخيتين، بهدف معرفة سر وجودها والقوانين الموضوعيّة المتحكمة بها. فالفارابي هنا إذاً تجاوز حدود الاستسلام المطلق لمعرفة وجود الظواهر وفقاً للرؤى الدينية التي تقول بأن كل شيء مخلوق لله، ويأتي في مقدمة هذا الرفض هو أنها لا تسير وفق إرادة عليا تطلب من الناس أو المؤمنين الخضوع لها أو الاستسلام لها. بل لها قوانين سيرورتها وصيرورتها التاريخيتين كما بين في تعريفه لها، وعلينا اكتشاف آليّة هذه السيرورة والصيرورة معاً.

إن الفلسفة في سياقها المعرفي العام، هي نسق من الثقافة الروحيّة للبشريّة، وشكل من أشكال الوعي البشري (الاجتماعي)، تكمن وظيفتها المتميزة في وضع نظريّة قادرة على خلق فهم معلل نظريّاً ومنهجيّاً لأكثر القوانين عموميّة في الطبيعة والمجتمع والتفكير الإنساني. وهي تقدم أصول الفلسفة في الممارسة الاجتماعيّة الواقعيّة، و تعكس على نحو متميز قضايا وتناقضات الممارسة الاجتماعيّة وقضايا عمليّة معرفة الواقع وتحويله، وتؤثر بالإضافة إلى ذلك على تطور المجتمع والتاريخ وعلى تطور الإنسان ومعرفته، وذلك انطلاقاً من أن الوجود بشقيه الاجتماعي والطبيعي مشروط بقوانين موضوعيّة يسري مفعولها في التاريخ الطبيعي والبشري بغض النظر عن إرادة الناس ورغباتهم.

إن المهمة الأساس في الفلسفة إذاً، تكمن في العمل على جعل الوعي الثورة العقلاني (النقدي)، على علاقة موضوعيّة بالواقع الاجتماعي عن طريق توجيه الفكر العقلاني النقدي لدراسة التناقضات والسنن والميول الموضوعيّة للتطور التاريخي.

أما الدين فهو مجموعة العقائد والمبادئ والأفكار والرؤى والرموز والطقوس المتعالية على الواقع، التي يؤمن بها الناس ويعملون على تطبيقها فكراً وممارسة، على اعتبارها تتضمن المقدس والثابت والمطلق حيث تكمن فيها حلول مشاكل الناس وسعادتهم.

أما الأسس التي يقوم عليها الدين فهي: الحس والخيال والايمان والامتثال والاستسلام، لما يقره أو جاء به هذا الدين أو ذلك، وما دور العقل هنا إلا أداة أوسيلة من وسائل السعي لتأكيد ما تقره هذه الأديان أو تثبيته. وبالتالي، فالإيمان بما تقره الأديان يظل في الحقيقة خارج نطاق العقل النقدي القائم على الشك والتجربة.

إن الدين يقوم في سياقه العام على الوحي، والايمان بما ينزله هذا الوحي على الأنبياء والرسل الذين لم يكن دورهم أكثر من تبليغ حقائق للناس، وضرورة التزام بها رغبة في ثواب يتمثل برضا صاحب الدين الذي هيأ جنة لمن يطيعه ويطيع رسوله، أو عقاب يتمثل في نار حامية تكوى بها جباههم ووجوههم خالدين فيها.

هكذا نرى أن الدين يقوم على التبشير والوعد والوعيد، وعلى اعتبار ما هو قائم في هذا الوجود من ظواهر، ليس أكثر من أدلة على الإنسان تدفعه ليفكر من خلالها بعظمة خالقها من خارج عالم الإنسان ذاته ودون مقدمات موضوعيّة، وأمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكن.. فالزمن هنا ليس له سيرورته وصيرورته التاريخيتين، بل هو آنات متفرقة تحدث في الزمان والمكان المتقطعين دون مسببات أو ظروف موضوعيّة.

ملاك القول: إن العقل النقدي يظل حجة، له منزلته العالية، وقوته التي تمارس نفوذها على سائر القوى الأخرى. هذا العقل الذي يظهر عند الفرد مثلما يظهر عند الكتل الاجتماعيّة. وهو عقل يقوم على الحس والاستقراء والاستنتاج والتحليل والتركيب والتجربة وبالتالي البرهان.

وعلى هذا الأساس تكون الحقيقة دينيّة أو غير دينيّة أكثر قوة وحضوراً عندما يشتغل عليها العقل النقدي.

إن العقل النقدي عقل شكاك، يؤمن بالحركة والتطور والتبدل، وبالضرورة ممثلة بالقوانين التي تتحكم بسير حركة الوجود برمته، يرفض الإطلاق ويؤمن بالنسبية، والزمان والمكان عنده تاريخيان لهما وجودهما وتسلسلهما التاريخي، والحقيقة الممثلة بالظواهر تقوم على حقيقة ناقصة. أما الإنسان فهو سيد مصيره حيث يستطيع بما يملك من قدرات عقليّة وجوارح ناشطة في هذا الكون من أعادة بناء نفسه وما يحيط به وفقاً لإرادته.. فهو في المحصلة خليفة الله على هذه الأرض، على اعتبار أن العقل النقدي لا ينكر وجود عوالم في هذا الكون لم يكتشف كينونتها بعد، فالمعرفة تسير دائماً نحو الأمام وفي كل يوم يكتشف الجديد الذي يقبله العقل، في الوقت الذي يتخلى فيه كل يوم هذا العقل عن الكثير من القضايا القائمة معرفتها على الذاتية والحدسية والتخيل والضن والايمان والاستسلام.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سورية

(حين وصلتُ إلى سن الاختيار اخترت الانحياز للفقراء؛ لأنني منهم، وللأنبياء لأنهم كانوا فقراء منحازين للفقراء، ومن ينحاز للفقراء ينحاز بالضرورة للعدل ولا يتحقق العدل إلا بالحرية، والحرية بما تضمنه من الاختيار بين البدائل لا وجود لها في غياب العقل (التفكير الحر)..).. بهذه الكلمات قدّم نصر نفسه قبل رحيله بفترة قصيرة.

الحفر في المشروع الفكري لنصر حامد أبو زيد هو إضاءة وتعميق لفهمنا لمشروع النهضة العربي بإنجازاته وانكساراته، فعلى نقيض الدراسات التقليدية التي تحرس التّراث مدّعية أننا أمام تراث واحدٍ بالألف واللام، ينظر مشروع النهضة العربية إلى التراث بوصفه تراثيات متنوعة متفاعلة، ومن بين تلك التراثيات العربية المتعددة، انحاز نصر إلى التراث العقلاني من المعتزلة وابن رشد إلى محمد عبده وطه حسين وقاسم أمين وأمين الخولي.

ففي الوقت الذي يُسيطر على واقعنا الفكري قراءة مردّدة لما جاء في التراث بدافع من التقليد للقديم، قراءة زيّفت بالترديد المستمر حقيقة القراءة القائمة على الفكر، فـ”الفكر هو التجديد، فما ليس بجديد في مجال الفكر فهو ترديد وتكرار لما سبق قوله، وليس هذا من الفكر في شيء”. (1) فالقراءة التي تكتفي بالتبرير إنّما تنتمي إلى الفكر على سبيل المجاز لا الحقيقة.

في مقابل تلك القراءة صكّ نصر مصطلح “القراءة المثمرة الواعية” للتراث أو ما يُمكن أن نُطلق عليه قراءة حيّة لما تتسم به من حيوية، فالباحث معها في حركة ذهاب وإيّاب لا تهدأ بين الماضي التراثي والحاضر الحداثي، ليس لإعادة تأويل التراث فحسب بل لمعرفة الذات، والبحث في جذور الإخفاق الحضاري الذي نعيشه، واكتشاف أسباب فشل الحداثة العربية، وانحصارها في كونها قشرة بلا جوهر حقيقي يقوى على الصمود والنمو، تلك القراءة الواعية ضرورة معرفية للتغيير والتجديد والتطوير؛ لأنها سبيلنا إلى تحقيق عملية “التواصل الخلاق” بين الماضي بتراثه المعرفي والحاضر بمنهجيته الحداثية.

والمقصود بعملية “التواصل الخلاق” تقديم قراءة واعية للتراث تتجاوز ضيق أفق قراءة تيار الخطاب السلفي المعاصر الساعي إلى إعادة إنتاج الماضي باسم الأصالة، وتثبيت المعنى الديني لإعادة صياغة الواقع الاجتماعي؛ ليتلاءم مع المعنى الظاهري الأحادي الذي اختاره من التراث، كما أنها كسر لأسوار “التبعية” السياسية والفكرية التامة للغرب باسم “المعاصرة”، فالقراءة الواعية تختلف عن القراءة الرافضة للتراث الداعية للقطيعة المعرفية معه، وفي الوقت نفسه تختلف عن محاولات التلفيق الإصلاحي الذي يأخذ طرفا من التراث وطرفا من الحداثة دون تحليل تاريخي نقدي لكليهما، ساعيا بالتأويل العقلاني للنصوص الدينية والتراثية لفتح المعنى الديني؛ ليستوعبَ كثيرا من منجزات العصر في مختلف المجالات، وهو المنهج الذي سيطر بدرجات متفاوتة على المشروع الفكري النهضوي؛ فأفضى إلى تكريس ثنائية “الغرب” المادي العلمي المتقدم والمفلس روحيا، مقابل “الشرق” المتخلف ماديا وعلميا والغنى روحيا!

 فالقراءة الواعية للتراث بآليات الدرس اللغوي الحديث – تستهدف تحرير خطاب النهضة من تلفيقيّته التي انكشف واضحا أنّها لا تختلف عن الخطاب السلفي في عجزها عن التجديد، وإن كان ثمّة فارق بينها.. ففرق كبير بين خطاب منفتح نحو الآخر، ويقبل التعايش معه والإفادة من منجزاته، ويسعى لتغيير الوعي بالمنطق والبرهان والحجة وأساليب الإقناع المعرفي، وخطاب منغلق يحصر الهوية في الماضي الذي يسعى لاستعادته بشتى الطرق والأساليب، ويسعى لتغيير الواقع بالقوة.

ويُمكننا أن نقول إن نصر اعتمد دوما في قراءة/ دراسة التّراث على منهج نقدي منفتح على الفكر الإنساني في مجال العلوم الاجتماعية خاصة الألسنة والتأويلية والسميولوجيا، وأن هذا المنهج كان في سيرورة دائمة لا تعرف الثبات، على حد قوله: “أستطيع أن أقول إن النزعة النقدية في التعامل مع التراث، أي تراث وكل تراث خطاب والعكس صحيح كذلك – تمثل عصب المنهج الذي لا أستطيع الزعم بأنه اكتمل، لأنه كالهوية في حالة إنجاز لا يتوقف، حتى في حالة الوفاة يموت باحث ويتوقف خطاب، ويظل المنهج يواصل سيرورته متسربا في خطابات جديدة متجددا دائما، فلا شيء يفنى لأنه لا شيء يوجد من عدم”.انشغل نصر بمهمتين:

الأولى: العمل على دعوة الشيخ أمين الخولي مؤسس مدرسة الأمناء إلى “قتل القديم بحثا”، تلك الدعوة التي لم تنجز بعد، و”ليس المقصود بالقديم، ما مرت عليه دهور، بل كل ما أنتج من فكر، وما صيغ من خطابات. تفكيك بنية الخطابات وتعريتها من أثواب القداسة التي ألبست لها بفعل ملابسات وعوامل غير معرفية”. فكثيرا ما كرّر نصر عند حديثه عن التجديد عبارة الشيخ “أوّل التجديد قتل القديم فهما وبحثا ودراسةً”(1) فمنهج التجديد من منظور الشيخ لا يستقيم، ولا يصحّ إلا بعد فحص القديم فحصا نقديا من شأنه أن يكشف عن جذور هذه الأفكار، ويُفصح عن دلالتها في سياق تكوّنها التاريخي والاجتماعي، وبذلك يردها إلى أًصولها بوصفها فكرة، وليست عقيدة، ويُزيل عنها القدسية المضافة إليها، والتي تراكمت حولها من جراء الترديد والتكرار، ومن جراء تشويه الأفكار الأخرى التي تُخالفها وتدحضها. وفي عملية إزالة القداسة تلك نوع من التفكيك المعنوي الذي لا يغتال الأفكار، ولكنه يكتفي بردها إلى سياقها الذي يسمح للأفكار الجديدة بالقدرة على مناقشتها ومساجلتها على أرض الفكر وليس على أرض العقيدة. وإذا تصارعت الأفكار صراعا صحيا، فإنه لابد للجديد أن يُزحزح القديم ويُغيّره أو يتجاوزه، أمّا تجاور القديم – الذي أحاطته القداسة بالترديد والتكرار- إلى جانب الجديد – الذي لا يزعم لنفسه أية قداسة- فسيُفضي دائما إلى تمكين القديم من إزاحة الجديد، بل وقتله نهائيا، ناهيك باغتيال المفكر المُجدّد. ومما يسهل عملية قتل الجديد واغتيال المُجدّد أن أنصار التقليد ومحاكاة القديم ينقلون الصراع دائما من أرضه الحقيقية وميدانه الفعلي – أرض الفكر وميدان الصراع الفكري – إلى أرض العقيدة وميدان الدين.(2)

المهمة الثانية: “فتْح الباب للأسئلة التي كبْتت سياسيا أو اجتماعيا أو دينيا. ومن ذلك على سبيل المثال: ما هي طبيعة الخطاب الإلهي، وعلاقته بالتاريخ، والثقافة، واللغة؟ وما هي علاقته بالنصوص أو الخطابات الإلهية السابقة كلها؟ الترتيب الحالي للقرآن – وهو غير ترتيب النزول – ثم على أي أساس: نصي؟ لغوي؟ ديني؟ اجتماعي سياسي؟ وما هي الدلالات الناجمة عن هذا الترتيب. هل الخطاب النبوي والخطاب الإلهي نصّان أم نص واحد؟ وما موقع “الأحاديث القدسية” من هذا النص الواحد أو النصين؟ إذا كانت قضية قراءة التراث في تجلياته وخطاباته العديدة: (الفقه وأصوله، علم الكلام أو أصول الدين، الفلسفة، التصوف على سبيل المثال وليس الحصر) لم تنجز بعد رغم كثرة الكتابات فيها، فإن أسئلة الخطاب الإلهي ما زالت مكبوتة، وقد آن أوان فتحها… فالتفكير بذاته ليس جريمة، ونشر الاجتهاد الذي هو ثمرة التفكير واجب يُمليه ضمير الباحث ومسئوليته إزاء دينه ومجتمعه”.(3)

بدأت قراءات نصر بالتركيز على فعالية المؤوِّل في التراث الإسلامي، أو بعبارة أخرى ركّز على فعالية “الذات” القارئة، فانشغل بالمؤوِّل وعلاقته بالنص، وجدله معه دون أن يبالغ في دوره، فجاءت بَاكورة نتاج نصر العلمي دراستان حول قطبي الفكر والتأويل في التراث الإسلامي المعتزلة والمتصوفة، فتناولَ تأويل النص القرآني على أسس عقلية في رسالته لنيل درجة التخصّص (الماجستير) “الاتجاه العقلي في التفسير دراسة في قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة” معتمدا على تراث القاضي المعتزلي “عبدالجبار الأسد آبادي”، ونُشرت طبعتها الأولى سنة ١٩٨٢، ثم تناول تأويل النص القرآني على أسس ذوقية حدسية عند المتصوفة في رسالته العالمية (الدكتوراه) “فلسفة التأويل: دراسة في تأويل القرآن عند محيي الدين بن عربي” ونُشرت طبعتها الأولى عن دار التنوير ١٩٨٣.

وأظنّ أنّ محرّك نصر لدراسة تأويلية المعتزلة والمتصوفة لم يكن محاولته إيجاد وحدة عضوية بين المتصوفة والمعتزلة، تلك المحاولة التي باءت بالفشل والعجز على حد تعبير الدكتور حسن حنفي.(4) بل بدافع من حركة فكرية لا تهدأ، فاختياراته العلمية يُحرّكها سؤال المنهج، وهو سؤال متواصل دائم، وحين يتوقف السؤال، ويتصور الباحث أنه حقّق نضجه المنهجي، فإن الذي يكون متحققا بالفعل هو “الجمود” المنهجي.

فمنهج نصر حركة دائبة بين قراءة مفاهيم الدراسات الحديثة من الهرمنيوطيقا والسيميولوجيا وتحليل السرد والأسلوبية والإفادة منها، وبين القراءة النقدية للإنجازات التراثية في مجال علوم اللغة والبلاغة والنقد بمعناه العام.. والناتج عن تلك القراءات في مجموعها ليس منهجا، بل سؤال دائم متواصل متى توقف ظنّا النضج، فقد تجمّد المنهج الذي هو في حقيقته ناتج حركة التفاعل العميقة جدا والخصبة بين سؤال الباحث وموضوع البحث. (5)

انتهى نصر من الماجستير والدكتوراه دون معوقات، منحازا إلى المنهج العلمي النقدي متجاوزا الخطاب التقليدي الوعظي والإصلاحي، منتقدا في رسالته لنيل درجة “التخصص/الماجستير فكر المعتزلة ونهجهم في التأويل، فاختياره لعقلانية المعتزلة ميدانا لدراسته لا تعنى الاستسلام لخطابهم، فظلّ المنهج النقدي الأداة البحثية الملازمة له، فكشف نصر كيف أن المعتزلة اتخذت من آية (٧) في سورة آل عمران(6) مدخلا لإرساء نهجهم في التأويل، فتلك الآية الكريمة التي تُقسّم آيات القرآن الكريم بين محكم ومتشابه، دون تحديد لأيّ منهما، أسند أمر تأويل المتشابه إلى الراسخين في العلم، حدث خلاف حول الآيات المحكمة والمتشابهة بين المعتزلة وخصومهم، وراح كلّ منهم يُعطى نفسه حقّ التأويل، ويعتبر نفسه المقصود بالراسخين في العلم الذين صحّ تأويلهم، “وانتهى القرآن بين المتنازعين إلى أن صار مجالا للجدل واللجاج والخصومة، حتى صدق على القرآن ما قاله في الإنجيل عالم اللاهوت التابع للكنيسة الحديثة بيتر فيرفيرنفلس: “كل امرئ يطلب عقائده في هذا الكتاب، فلم تنجح المعتزلة دوما في رفع التناقض بين نصوص القرآن من جهة وبينها وبين أدلة العقل من جهة أخرى مستخدمة “المجاز” سلاحها في التأويل لرفع التناقض، وذلك لمحاولتهم –في أغلب الاحيان – ليّ عنق النص القرآني وإخراجه عن سياقه وذلك ليتحول إلي دلالة نظرية”.(7)

وعندما انتقل نصر في رسالة الدكتوراه إلى اكتشاف منطقة جديدة من مناطق الفكر الديني استكمالا لدراسة العلاقة بين الفكر الإنساني/المؤول والنّص الديني، واستكشاف طبيعة العلاقة ومناقشة المعضلات التي يثيرها الخطاب الصوفي لابن عربي، قدّم دراسة نقدية كانت على وعي بالأبعاد السياقية والاجتماعية المنتجة لخطاب ابن عربي “فجهود بن عربي في تأويل القرآن لم تكن جهودا معزولة عن منظومة مشكلات الواقع التي تظن أن الصوفي لا ينشغل بها، وقد كانت محاولة لتجاوز تناقضات الواقع الأندلسي أولا والإسلامي ثانيا، وكانت فلسفته بكلّ جوانبها –خاصة جانبها التأويلي – محاولة لإزالة كل هذه التناقضات وحلّ كل هذه الصرعات علي مستوي الفكر والعقيدة. وانتهي ابن عربي إلي عقيدة للحب الشاملة والدين العلمي المفتوح والرحمة الإلهية الشاملة، التي فُتح بها الوجود وإليها يؤول. ومع ذلك كلّه فقد ظلت حلول ابن عربي حلولا فكرية أخذت طابع الحلم الكبير، الحلم الذي تفيق منه على مفاجأة قبح العالم وشراسة الصراع الذي يخوضه البشر علي جميع المستويات. لقد أراد ابن عربي أن يقود العالم ويهديه ويرشده. ولكنه أدار ظهره له وبني لنفسه عالما منسجما متناغما يحكمه الإنسان الكامل – ظِلّ الله وصورته – بكل قوانين العدل والرحمة والحب، أو لتقل يحكمه ابن عربي نفسه – خاتم الولاية المحمدية الخاصة – انتظارا لخلاص العالم بنزول خاتم الولاية العامة، عيسى عليه السلام، المهدي المنتظر الذي يُعيد للعالم توازنه وللأمور نصابها”.(8)

***

ا. د. عبد الباسط سلامة هيكل – جامعة الأزهر

..........................

(1) الشيخ أمين الخولي، مناهج تجديد في النحو والبلاغة والتفسير والأدب، دار المعرفة، القاهرة، الطبعة الأولى سبتمبر ١٩٦١، ص١٧.

(2) يُنظر: الخطاب والتأويل، ص٢٠،١٩. مقال تجديد الخطاب الديني، جريدة الأهرام ٢٤ فبراير ٢٠٠٢م.

(3) د/نصر حامد أبو زيد (٢٠٠٠)، حياتي، أبواب، القاهرة، ٢٣٤.

(4) ينظر: د/حسن حنفي (١٩٩٨)، حوار الأجيال، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة الأولى ، ص ٥١١.

(5) ينظر: د/نصر حامد أبو زيد (١٩٩٥)، النص السلطة الحقيقة الفكر الديني بين إرادة المعرفة وإرادة الهيمنة، ط. المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء/المغرب، بيروت/لبنان، الطبعة الأولى، ص١٢،١١.

(6) “هُوَ ٱلَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَٰبَ مِنْهُ ءَايَٰتٌ مُّحْكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٌ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنْهُ ٱبْتِغَاءَ ٱلْفِتْنَةِ وَٱبْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِۦ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُ وَٱلرَّٰسِخُونَ فِى ٱلْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُواْ ٱلْأَلْبَٰبِ”.

(7) د/نصر حامد أبو زيد (٢٠٠٠)، حياتي، أبواب، القاهرة، ٢٣٣.

(8) السابق، ٢٣٦.

(عندما تكون لدينا مقولةٌ نودّ قولَها كعلماء اجتماع، فإن هذا قد يأخذ منّا ثلاثين عاماً)... ألان تورين

الواقع مثقل بالرموز والقصص والأحداث، التي تعززها مواقع التواصل الأجتماعي وتغول من حجمها، مما أنتج خطاباً أجتماعياً هشاً يزخر بمفاهيم تم توظيفها بزحام المعضلات الاجتماعية التي تحاصر الفرد العراقي من كل الجهات، وتكمن خطورة هذه التوظيفات بأنها تشكل تمثلات الأجيال القادمة التي تغذي مخيلتها من العالم الرقمي، ودورها في تأجيج العقل الجمعي وتشتيت أنتباهه عن أزماته الحقيقية لذلك لابد أن نتساءل كيف تبنى هذه المفاهيم؟ وكيف توظف اللغة في بناء مزالق الأيديولوجيات؟ ومن يملك مفاتيح اللغة؟ وكيف شكلت تأويلات الجندر مع تطور الموجات النسوية وتعددها أزمة مفاهيمية؟

عنف اللغة وأغتيال المعنى:

يرى تيري أيجلتون إن اللغة التي تُعد من بين أكثر التداولات اليومية براءة وتلقائية، هي في الواقع أرض مجرحة، مصدعة ومقسّمة بوساطة زلازل التاريخ السياسي، مكسوة بجثث الصراعات الإمبريالية والقومية والإقليمية والطبقية. ويتأسس ما هـو لغوي دائما علـى أساس لغوي - سياسي، والمجال الأخير هو الذي تحسم فيه الصراعات بين الغازي الاستعاري والدول الخاضعة له، الدولة القومية ودولة قومية أخرى، الإقليم والدولة القومية، الطبقة والطبقة الأخرى.

فعندما يقوم شخص ما باستعمال اللغة، من يكون المتكلم؟ هل هو الشخص بذاته أم أن اللغة هي التي تتكلم؟ بكلام آخر: هل يكون الشخص المتكلم مسيطراً سيطرة تامة على "الأداة" التي يستعملها، وهي اللغة، بحيث إنه يفعل بها ما يريد وفق شروطه الخاصة ويشكلها وفق تصوراته المسبقة، أم أن اللغة تلعب دوراً أساسياً في عملية التعبير، بحيث تفرض شروطها هي وتتحول "متكلماً" أو لاعباً أساسياً في العملية؟"

هذا ما أقر به لوسركل في كتابه "عنف اللغة "بالتالي فأن عنف اللغة الأجتماعي جزء من عنف رمزي يتماهى بكل تفاصيل الحياة الأجتماعية، موجه نحو الجماعات، وهذا العنف تبدد الى الخطاب السياسي والخطاب الأجتماعي برمته، ومثال على ذلك مفهوم الجندر كغيره من الموضوعات الخاصة بقضايا النساء وحقوقهن وأخضاعه الدائم الى العنف اللغوي؟ الذي أنتج أزمة مفاهيمية مفرغة من المعنى مما أجاز التأويل باتجاهات مختلفة وأبعده عن معناه الحقيقي الذي أنطلق مع سيمون بوفوار، فالجندر مفهوم قلق منذ ظهوره حيث أجاز تأويله على مر الموجات النسوية وسياقاتها التاريخية، وتطرح جوديث بتلر في كتابها" قلق الجندر، النسوية وتخريب الهوية" عدة تساؤلات كيف لبعض الممارسات الجنسية أن تجبرنا على التساؤل: ما هي المرأة، ما هو الرجل؟ وإذا ما كان الجندر لم يعد مفهوما باعتباره شيئا مرسّخا وموطّدا بواسطة الجنسانية المعيارية، عندئذ هل ثمّة أزمة في الجندر خاصة بالكويير؟.

ماهي المركزية عن خطاب الجندر: كيف تبني اللغة مقولات الجنس؟ وهل أن "الأنثى" The Female تقاوم التمثيل داخل اللغة؟ وتساؤل الإطار المفاهيمي لعدد من منظري الجنسانية، تعيد طرح أسئلة فيما تختلف مع مقاربة مونيك فيتيغ، كيف تنتج اللغة ذاتها هذا البناء التخييلي للجنس الذي يسند هذه الأنظمة المختلفة من السلطة؟ وفي نطاق لغة قائمة على الجنسانية الغيرية الإجبارية، أيّ أنواع من الاستمرارية يُفترَض أن توجد بين الجنس والجندر والرغبة؟ وهل هذه المصطلحات منفصلة؟ وأيّ أنماط من الممارسات الثقافية من شأنها أن تنتج الانقطاع والنشاز التخريبيين ما بين الجنس والجندر والرغبة، وتضع العلاقات المزعومة في ما بينها موضع سؤال؟

ويضيف عالم الاجتماع بورديو عن اللغة والسلطة الرمزية، يتضح لنا أن السلطة الرمزية هي القدرة على التأثير في الأشخاص والأشياء وذلك من خلال تكوين معنى عن طريق العبارات اللفظية، أي عن طريق استعمال اللغة كنظام رمزي، وبالتالي فاللغة قادرة على خلق واقع خاص بها.

مفهوم الجندر وأعادة التأويل بين سيمون دي بوفوار وجوديث بتلر

في قراءة جوديث باتلر لكتاب سيمون دي بوفوار ترى أن الجندر صيرورة مزدوجة المعنى تمثل جدلاً مستمراً بين الذات والبنية الثقافية الخارجية، حيث ترى " إن سيمون دي بوفوار لا تقترح إمكانية وجود أنواع أخرى إلى جانب الرجل والمرأة، لكن إصرارها على كونهما بنيتين تاريخيتين يجب على الأفراد في كل مرة أن يقوموا بتملّكهما يقترح أن النظام ثنائي الجندر لا يتمتع بضرورة أنطولوجية. قد يرد أحدهم بأن هناك وببساطة عدة طرق ليكون المرء رجًلا أو امرأة، لكن هذا الرأي يولي الجندر أنطولوجيا جوهرانية تنافي مقصد بوفوار: إن الرجل والمرأة هي طرق وجود سابقة بالفعل، هي أنماط وجود جسدي، كما أنها لا تظهر بصفتها كيانات جوهرية إلا لمنظور متحيز. قد يتساءل المرء أيًضا فيما إذا كان ثمة أمر في البنية ازدواجية الشكل للتشريح البشري يستوجب ترتيبات جندرية ثنائية عبر الثقافات؟ إن الاكتشافات الأنثروبولوجية للنوع الثالث وأنظمة الجندر المتعدد تقترح أن ازدواجية الشكل البيولوجي ذاتها تكتسب دلالتها بحسب ما تتطلبه المصالح الثقافية، وأن الجندر عادة ما يعتمد على متطلبات القرابة أكثر من اعتماده على الضرورات التشريحية... .، إطار سيمون دي بوفوار الوجودي قد يبدو من ناحية أنثروبولوجية ساذًجا، ملائًما فقط لقلة قليلة من المفكرين مابعد الحداثيين الذين يحاولون التعدي علي حدود الجنس المقبول. لكن قوة رؤيتها تكمن في التحدي الجذري الذي تفرضه على الوضع الثقافي الراهن أكثر مما تكمن في مخاطبتها للحس السائد. لهذا السبب، فإن إمكانات التغيير الجندري ليست متاحة فقط للضليعين بالمناطق الأكثر غموًضا للوجودية الهيغلية، بل هي كامنة في الطقوس اليومية للحياة الجسدية. إن مفهمتها للجسد باعتباره رابطة من التأويلات، وبصفته "منظوًرا" و"وضًعا" في آن مًعا، يكشف الجندر كمشهد من المعاني المترسبة ثقافًيا وكنمط من الابتكارية. أن تصبح جندًرا يعني في آن مًعا أن تخضع لوضع ثقافي وأن تخلق واحًدا، وهذه النظرة للجندر باعتباره جدلية من الاستعادة والابتكار تضمن إمكانية الاستقلال داخل الحياة الجسدية التي قلما وجد لها مثيل في نظرية الجندر"1.

المقاربة الوجودية لمفهوم الجندر مقابل ما بعد البنيوية:

وأستنادا ً الى ذلك نرى سيمون دي بوفوار وجوديث بتلر هما مفكرتان نسويتان بارزتان ساهمتا بشكل كبير في فهم مفهوم الجندر، في حين أن كلاهما يتحدى المفاهيم التقليدية للنوع الاجتماعي وآثاره المجتمعية، إلا أنهما يتعاملان مع الموضوع من وجهات نظر مختلفة ويؤكدان على جوانب مختلفة للجندر تشكل الصراع المفاهيمي السائد اليوم؟

- سيمون دي بوفوار: في كتابها "الجنس الأخر"، ركزت على البناء الاجتماعي لأدوار الجنسين والطرق التي يتم بها تعريف المرأة فيما يتعلق بالرجل، واستكشفت كيف شكلت المعايير والتوقعات المجتمعية هويات النساء وجعلتهن "الآخر" بالنسبة للرجال.

- جوديث بتلر: الذي تم تقديمه في "مشكلة الجندر"، حيث تركز على مفهوم الأداء الجنساني، تجادل بأن الجنس ليس شيئًا متأصلًا ولكنه يتم إنشاؤه من خلال الإجراءات والعروض المتكررة. إنها تتحدى فكرة الهوية الجنسية الثابتة والمستقرة، وبدلاً من ذلك تؤكد على الطبيعة المرنة والطارئة للجنس كعمل أدائي.

- أدركت بوفوار دور اللغة في تعزيز معايير النوع الاجتماعي وتشكيل الهويات. استكشفت كيف ساهمت التعبيرات اللغوية والروايات الثقافية في تبعية النساء وإنشاء ثنائيات بين الجنسين.

- بتلر: وسعت بتلر فهم دور اللغة من خلال تقديم مفهوم "الأداء اللغوي"، تجادل بأن اللغة لا تعكس فقط الهويات الموجودة مسبقًا؛ يبني ويكرر الهويات من خلال الخطاب، يؤكد هذا التركيز على اللغة باعتبارها أداءً على المرونة والطبيعة الاجتماعية القائمة على النوع الاجتماعي.

- بوفوار: بينما انتقدت بوفوار النظام الثنائي بين الجنسين وتهميش النساء، عمل تحليلها إلى حد كبير في إطار ثنائي الذكور والإناث. استكشفت كيف تم إقصاء المرأة إلى مرتبة "الآخر" بالنسبة إلى الرجل.

- بتلر: كان لعمل بتلر دور فعال في توسيع الخطاب خارج الإطار الثنائي. من خلال تقديم فكرة الهويات الجنسية غير الثنائية والسلسة، تتحدى قيود الثنائي بين الذكور والإناث وتفتح إمكانيات لفهم أكثر تنوعًا وشمولية للجندر.

سيمون بوفوار بصفتها فيلسوفة وجودية يقع تحليلها للجندر ضمن إطار وجودي أوسع يأخذ في الاعتبار حرية الإنسان، والاختيار، والنضال من أجل الأصالة، تتناول مسائل الوكالة الشخصية والقيود المجتمعية.

أما بتلر يتماشى عملها بشكل وثيق مع الفكر ما بعد البنيوي وما بعد الحداثة، حيث يتماشى تركيزها على الطبيعة الأدائية للجندر مع النهج التفكيكي الذي يتحدى المعاني والهويات الثابتة.

بالتالي فأن الجندر كمفهوم أكتسب كل اللحتمالات المطروحة ويعيد تشكيل نفسه من خلال اللغة المستخدمة، لذلك نرى أنه أضحى فضفاضاً أكسبته مابعد الحداثة بعداً قلقاً يعكس الأطار اللغوي والسياق الثقافي الذي يحتويه.

***

د. فاطمة الثابت – العراق

استاذة علم الأجتماع

......................

1 - جوديث بتلر: الجنس والجندر في الجنس الأخر لسيمون دي بوفوار، ت: لجين اليماني.

السؤال أعلاه هو من أكبر الأسئلة في تاريخ الفلسفة،والعديد من الفلاسفة والعلماء والباحثين علّقوا على هذا السؤال وحاولوا الإجابة عليه (1). في الحقيقة، فيلسوف القرن العشرين مارتن هايدجر أطلق على هذا السؤال بـ "السؤال الأساسي في الميتافيزيقا". السؤال يبدو أثار شعورا بالرهبة والدهشة لدى العديد ممن طرحوا السؤال لأنه في النهاية، يبدو من المنطقي جدا ان لا يجب ان يكون هناك شيء ابدا، ولكن مع ذلك نرى بوضوح هناك شيء.

عندما نسأل سؤالا لماذا هناك شيء بدلا من لا شيء، نحن نشير الى كلية الوجود وليس فقط الى شيء محدد مثل الكون او لماذا حدث الانفجار العظيم. الآن وقبل ان نحاول الإجابة على السؤال نحتاج لفحصه بشكل دقيق، خاصة الكيفية التي نسأل بها السؤال. فلاسفة مثل لودفيج فيتجنشتاين كتب عن الكيفية التي تكون بها اللغة مصدرا للكثير من الإلتباس الفلسفي. فلاسفة أمضوا عقودا وقرونا حائرين بالأسئلة الفلسفية التي احيانا تُصاغ بشكل غير منطقي عند البدء بها، وهكذا تصبح لايمكن الإجابة عليها في كل الأوقات.

طريقتان لطرح السؤال

عندما نبدأ بالتحقيق في السؤال، نجد ان هناك طريقتين لصياغته.

الصيغة (س) : لماذا يوجد أي شيء بدلا من لا شيء؟

الصيغة (ص): لماذا يوجد هناك أي شيء؟

ربما يبدو انهما بالأساس نفس السؤال لكن أحد السؤالين يفترض سلفا شيئا لا يجعل الآخر مختلفا. كلاهما يفترضان مسبقا ان شيئا ما موجود بالطبع، لكن السؤال (س) يفترض مسبقا بالإمكان ان يكون مفهوم "لا شيء أبدا" موجود ايضا. فمثلا، نحن يمكننا الاعتقاد بهذا المفهوم كـ

 1- ربما لم يكن هناك أي شيء

2- من الممكن وجود حالة اللاشيء

3- بالإمكان وجود عالم لا يوجد فيه أي شيء

بكلمة اخرى، الجزء "بدلا من" في السؤال (س) يفترض سلفا ان عبارة "لاشيء موجود" هي حالة ضرورية بينما السؤال (ص) لا يفترض ذلك.

ما هو الاختلاف؟

لماذا يُعتبر هذا الاختلاف هاما؟ انه هام لأنه طالما نحن سلفا نفترض ان لاشيء هو حالة ضرورية، عندئذ لا توضيح يمكن طرحه بالنسبة للوجود المشروط (2). ذلك يعني ان الجواب على السؤال (س) هو محدود اما بسلسلة لا متناهية من الأسباب او بنوع من الوجود مثل الله، الذي هو غير مشروط ويوضح ذاته.

بنية السؤال (س) تستبعد الإجابات التي لا يستبعدها السؤال (ص). ومن جهة اخرى، السؤال (ص) هو أكثر حيادية ولا يفترض مسبقا وجود فقط ما هو مشروط. هنا، نحن لا نفترض مسبقا ان "لاشيء"هو حالة ضرورية وشيء مشروط او غير مشروط. لذلك، نحن بحاجة لنبذ السؤال "لماذا هناك شيء بدلا من لا شيء" والذهاب قدما نحو ،لماذا أي شيء على الاطلاق موجود؟

قبل ان نبدأ بمعالجة السؤال لنتحدث عن الردود responses مقابل الاجابات answers على السؤال الاساسي.

الردود مقابل الاجابات

الفلاسفة والعلماء والباحثون لديهم مختلف الردود على السؤال الأساسي وبعض الردود قد تتضمن أجوبة لحلّه. ومن جهة اخرى، قد يرد بعض الفلاسفة  بان السؤال لايمكن الإجابة عليه او حتى لا معنى له. تقريبا جميع الردود التي نسمعها تقع ضمن هذين الصنفين.

اولا، السؤال يمكن ان يُجاب عليه او لا يمكن الإجابة عليه. اذا كان الرد هو "لايمكن الاجابة عليه" عندئذ فان الرد يقع في صنفين مختلفين، اما بلا معنى او ذات معنى.

الرد الذي بلا معنى يعني ان السؤال ذاته غير منطقي او زائف. انه ليس له معنى ونحن لا نستطيع الاجابة عليه. ومن جهة اخرى،السؤال قد يكون ذو معنى لكن لايزال لايمكن الاجابة عليه في هذا الوقت.

اذا كان هناك جواب سيكون من المحتمل جدا أحد الانواع التالية:

 جبري necessitarian (فيه كل حدث هو ضرورة نتيجة لسلسلة من الأحداث)، او ديني، او مرتبط بضرورة غير منطقية nomological، او حقيقة عمياء brute-fact(3).

الأجوبة الجبرية تدّعي ان هناك توضيحات منطقية للسؤال. لماذا هناك أي شيء على الاطلاق؟ لأنه حقيقة ضرورية بان شيء ما يجب ان يوجد. الأجوبة الإيمانية تؤكد بان هناك إله او كائن ديني هو سبب بحد ذاته يوضح لماذا يوجد أي شيء.

الأجوبة المرتبطة بضرورة غير منطقية كتلك التي يؤمن بها جون ليسلي John Leslie ونيكولاي ريشرNicholas Rescher وآخرون، تدّعي بالاساس ان هناك عالما من المفاهيم المجردة والاحتمالات او "قوانين اولى"  proto-laws كما يسميها ريشر، منفصلة عن عالم الاشياء الملموسة وهو مسؤول عن سبب وجود الشيء.

أجوبة الحقيقة العمياء، لا حاجة فيها لتوضيح سبب وجود الشيء. هناك حقيقة عمياء في مكان ما في الكون يجب ان نقبل بها في توضيح الوجود.

***

حاتم حميد محسن

.................

Think deeply-medium, Dec 28, 2020

الهوامش

(1) مقال بنفس العنوان أعلاه سبق وان نُشر في صحيفة المثقف بتاريخ 1 مايو 2021 ولكن بسياق ومقاربة مختلفين.

(2) هناك نوعان من الوجودات: واحدة توجد لكنها ربما تفشل في الوجود وهذه تسمى وجودات مشروطة contingent beings والاخرى لا يمكن ان تفشل في الوجود وتسمى وجودات ضرورية necessary beings.

(3) الحقيقة العمياء هي الحقيقة التي لا يمكن توضيحها كحقيقة أكثر عمقا وجوهرية. هناك طريقتان رئيسيتان لتوضيح شيئا ما وهما عن طريق معرفة "ما الذي سبّب حدوثه" او عن طريق وصفه على مستوى أكثر دقة. على سبيل المثال، لو عُرضت قطة على شاشة كومبيوتر، هذه يمكن توضيحها عبر الفولتية المعينة في عنصر معدني في الشاشة، والتي بدورها يمكن توضيحها على مستوى جسيمات معينة دون الذرة تتحرك باسلوب معين. لو يستمر المرء في توضيح العالم بهذه الطريقة ويصل الى نقطة لا يمكن فيها إعطاء توضيح أعمق، عندئذ يكون قد وجد بعض الحقائق غير القابلة للتفسير لا يستطيع فيها إعطاء تفسير انطولوجي. هناك يوجد شيء ما فقط. رفض الحقيقة العمياء يعني الاعتقاد بان كل شيء يمكن توضيحه. عبارة كل شيء يمكن توضيحه تسمى احيانا "مبدأ السبب الكافي".

طبقا لبعض المنظّرين، يمكن تقسيم القرن العشرين الى فترتين متميزتين، واحدة تميزت بحركة الحداثة والاخرى بما بعد الحداثة. البعض يعتقد ان ما بعد الحداثة كانت كرد فعل للحداثة وبالتالي يعتبرون كلاهما مظهران لنفس الحركة. هناك بعض الاختلافات الرئيسية بين الحداثة وما بعد الحداثة. الاختلاف الاساسي كان في طرق التفكير وهو الذي قاد الى هاتين الحركتين. ان الاختلاف بين الحداثة وما بعد الحداثة يتجسد في اختلاف الاتجاه نحو الحياة. الحداثة تصف مجموعة من حركات ثقافية في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. انها تتألف من سلسلة من الحركات الاصلاحية في الفن والبناء المعماري والادب والموسيقى والفنون التطبيقية. الحداثة اتسمت بتغيير دراماتيكي في الفكر بواسطة العقل الانساني لأجل تحسين تلك البيئة. كانت هناك نزعة لتحسين كل مظهر من مظاهر الحياة عبر اشراك العلوم والتكنلوجيا. الحداثة ادّت الى اصلاحات في كل مجالات الحياة بما في ذلك الفلسفة والتجارة والفن والادب بفضل استخدام التكنلوجيا والطرق التجريبية . انها قادت الى تقدّم في كل الجوانب عبر تغيير اتجاه البشرية في النظر الى الاشياء.

ما بعد الحداثة كانت رد فعل للحداثة وتأثرت بالإستياء الناجم عن الحرب العالمية الثانية. مصطلح ما بعد الحداثة يشير الى دولة تفتقر الى تنظيم هرمي مركزي وهي معقدة وغامضة ومتنوعة. ان التطور في المجتمع، الاقتصاد وثقافة الستينات من القرن العشرين تأثر بما بعد الحداثة.

الحداثة مقابل ما بعد الحداثة

بدأت الحداثة في العقد لأخير من القرن التاسع عشر (1890) واستمرت حتى عام 1945. اما ما بعد الحداثة بدأت بعد الحرب العالمية الثانية خاصة بعد عام 1968. الحداثة ارتكزت على استعمال الوسائل العقلانية للحصول على المعرفة بينما ما بعد الحداثة أنكرت تطبيق التفكير المنطقي. بدلا من ذلك، ارتكز التفكير اثناء عصر ما بعد الحداثة على عمليات فكرية غير علمية وغير عقلانية. اتسمت الحداثة بطبيعة منظمة وهرمية محددة للمعرفة. لكن ما بعد الحداثة ارتكزت على حالة فوضوية، غير كلية وغير محددة للمعرفة. الاتجاه الحداثي كان موضوعيا، نظريا وتحليليا بينما الاتجاه الما بعد حداثي كان مرتكزا على الذاتية. انه افتقر للطبيعة التحليلية والتفكير وكان بلاغيا ومرتكز كليا على الايمان. الاختلاف الاساسي بين الحداثة وما بعد الحداثة هو ان التفكير الحداثي كان حول البحث عن الحقيقة المجردة للحياة بينما مفكرو ما بعد الحداثة يعتقدون ان لا وجود هناك لحقيقة عالمية مطلقة او ما شابه.

الحداثة تحاول بناء رؤية عالمية متماسكة بينما ما بعد الحداثة تحاول إزالة الاختلاف بين الأعلى والأدنى. التفكير الحداثي يزعم ان البشرية تتقدم عبر استعمال العلم والعقل بينما التفكير الما بعد حداثي يعتقد ان التقدم هو فقط طريقة لتبرير الهيمنة الاوربية على الثقافة. التفكير الحداثي يعتقد بالتعلّم من تجارب الماضي ويثق بالنصوص التي تحكي الماضي. اما، تفكير ما بعد الحداثة يتحدى أي حقيقة في النصوص المتعلقة بالماضي ويعتبرها بلا فائدة في الوقت الحاضر. مؤرخو الحداثة لديهم ايمان بالعمق. هم يؤمنون بالذهاب عميقا في الموضوع لتحليله بالكامل، وهذا ما يرفضه مفكرو ما بعد الحداثة. هؤلاء يعتقدون بالذهاب الى المظاهر السطحية واللعب على السطح ولم يهتموا بعمق المواضيع. الحداثة ترى الأعمال الأصلية أصيلة بينما مفكرو ما بعد الحداثة يركزون رؤاهم على الواقع المفرط   hyper-reality (عدم قدرة الوعي على التمييز بين الواقع ومحاكاة الواقع خاصة في المجتمعات المتقدمة تكنلوجيا)، هم يتأثرون جدا بأشياء انتشرت من خلال الميديا. اثناء العصر الحداثي، جرى الاعتقاد بان الفن والاعمال الادبية هي نتاجات فريدة للفنانين. الناس كانوا جادين حول الهدف من انتاج الفن والاعمال الادبية. هذه الاعمال اعتُبرت تحمل معنى عميقا، الكتب والروايات سيطرت على المجتمع. اثناء عصر ما بعد الحداثة ومع بداية الكومبيوتر اصبحت الميديا والتقدم التكنلوجي والتلفزيون والكومبيوتر هم المهيمنون على المجتمع. الفن والاعمال الادبية بدأت تُستنسخ وجرى حفظها بوسائل الميديا الرقمية. لم يعد الناس يعتقدون بان الفن والادب يحمل معنى متفردا واحد، هم اعتقدوا بامكانية اشتقاق معانيها الخاصة بها من أجزاء الفن والادب. الميديا التفاعلية والانترنيت قادا لتوزيع المعرفة. موسيقى مثل موزارت وبيتهوفن التي جرى تقديرها عاليا اثناء الحداثة اصبحت اقل شعبية في عصر ما بعد الحداثة. الموسيقى العالمية ، وعازفوا الموسيقى وموسيقى الريمكس عكست طابع ما بعد الحداثة. الأشكال المعمارية التي كانت رائجة اثناء الحداثة جرى استبدالها بمزيج من مختلف الاساليب المعمارية في ما بعد الحداثة. إيقاع الحياة البطيء نسبيا الذي كان يستلهم من مبادئ أساسية، اصبح سريعا والحياة فقدت هدوئها. 

***

حاتم حميد محسن

(في التحليل النهائي، يجب أن تتماسك الوسائل والغايات. لأن الغاية موجودة مسبقًا في الوسائل، وفي النهاية، لا يمكن للوسائل الهدامة أن تحقق غايات بناءة).. مارتن لوثر كينج الابن

انقلبت مفاهيم الاتصال والتواصل اليوم، وأضحت تشكل مأزقا سوسيولوجيا بالغ التعقيد، خصوصا فيما يتعلق بأنساق ضبط العلاقات الملتبسة، التي تتأطر بإزائها أدوات عولمية جديدة، أوثقت حبال تأثيراتها على أنماط الحياة وسلوكيات البشر.

وإذا كانت هذه المفاهيم الواعية بثقافة الاتصال والتواصل تمثل نوعا من التمكين لاحتلال أحواز العوالم الحديثة المحيطة بعولميات الشركات والاقتصادات والثقافات والتكنولوجيا، وجزء من صناعة كيانات استهلاكية بديلة، فإن استعارة العصر الرقمي وفق وضعيات الاتصال تلك، تشكل نوعا من الصراع الإنساني (conflit humain)، الذي تذوب فيه ومن خلاله قيم المجتمعات، دون أن تفقد عصب تفاعلها وتشاركيتها، وإن بطرق محدودة وغير مندمجة.

لقد اشتبكت المرائي العولمية بما يعكس نوعا من البحث عن هويات كونية متلاطمة، في أتون تحطيم الأعباء التي ما فتئت تكرسها أثلام الحضارات وأيديولوجياتها، حيث صارت القرية المربوطة بأسلاك لا مرئية، هي جوهر تلك المرائي، ونبضها الذي تقوم عليه الكينونة والمصير. ثم استبدلت الاتصالات الكلاسيكية العتيقة بوسائل تقنية أكثر حضورا وتأثيرا وانكشافا وسرعة وتوسعا وراهنية. ما أسهم بالانفتاح تواصلا مع الناس في جميع أنحاء العالم، بأقل التكاليف، حتى دون أن نحافظ أحيانا على إحساسنا بالخصوصية.

هذا ما يمكن استيعابه عند الحديث عن أسرار العولمة وآثارها على وسائل التواصل الاجتماعي. وهذا يعني، من ضمن ما يعنيه، أن الأصدقاء المحتملون الجائلون عبر الفضاء الأزرق، يمكنهم التعايش معك عبر الإنترنت بنسبة 28٪، كما أنه يمكن أن تزداد فرصك في العيش بالقرب منهم، عن طريق مشاركتك نفس الاهتمامات إلى أكثر من 50٪، وفق دراسات ميدانية موثقة. وهو ما تترجمه بالفعل، الرؤية التي تقوم عليها اتصالاتنا على خريطة بناءً على المواقع الجغرافية، التي تمكننا بالفعل من الاستفادة من قوة الشبكات على الصعيدين الظاهري والمادي، وذلك من خلال التطبيقات المتطورة الجديدة التي تستعمل في هذا الإطار.

وعلى الرغم من أن العولمة، في عمق حضورها الثقافي والنفسي، لا تمثل البديل الواقعي والمعرفي للخصوصية المجتمعية والقيمية، فإنه وللأسف الشديد أعادت توسيع الفجوة بين الأنماط الثقافية والاجتماعية لمختلف الشعوب والحضارات، وهو ما يطرح مشكلة تغول وسائل التواصل الاجتماعي وفشلها الذريع في سد الفجوات بين البلدان.

وبغض النظر عن اقتدارية العولمة في الحصول على معلومات حول الثقافات المختلفة من خلال التواصل مع أشخاص من جميع أنحاء العالم، عبر جسر منصات وسائل التواصل الاجتماعي، ما عزز دورها في الانفتاح على الثقافات والشعوب، وتقليل سلبيات الصور النمطية للثقافات الأخرى ، فإن تمة ما يتسلل من خلال الشقوق، ويرهن القيم والأخلاق، علاوة على كميات المعلومات المنشورة على وسائل التواصل الاجتماعي ، المتحيزة أو المضللة ، وهو ما يؤثر سلبا على مستوى الوعي والتحصين ضد الرداءة وفساد الذوق، والأخطار الناجمة عن أفعال وسلوكيات منبوذة، كالتنمر والكراهية والجريمة والعنف. بالإضافة إلى التكيفات الشاذة بنطاق المشاركة المستمرة حد الإدمان، المؤدية إلى الاكتئاب وتدني احترام الذات.

وهناك دراسات في الميدان، تذهب إلى أن المشكلة تلك تزداد سوءًا عندما ترى مقدار الوقت الذي يقضيه المراهقون على وسائل التواصل الاجتماعي؛ ما يقرب من نصفهم يتصفحون Facebook مرة واحدة على الأقل كل ساعة خلال ساعات الدراسة. يقضون حوالي 30 دقيقة من كل فصل في تصفح مواقع مثل Tumblr ومشاهدة مقاطع الفيديو على YouTube. وهو ما أكدته أرقام تقول إن 77٪ من هؤلاء المدمنين على الأنترنيت يقضون ست ساعات أو أكثر يوميًا في استخدامه في كل شيء من الألعاب إلى البحث، دون الاهتمام بالمحتوى الذي يستهلكونه أثناء التمرير، دون دراية بالعواقب التي تترتب على وضع الكثير من المعلومات الشخصية على الإنترنت، خاصةً عندما يتعلق الأمر بالأطفال والمراهقين، ومن دون أي مراقبة أو تحفيز إيجابي أو مواكبة نفسية وثقافية. حتى إنه أصبح من الصعب على الآباء مراقبة سلوك أطفالهم بسبب الوصول غير المحدود الذي يأتي مع الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية.

هناك اتجاه فكري أوربي حديث، ينظر إلى العولمة كبنية أفقية متقاطعة، ترهن الوجود البشري بالسيطرة والقوة، والتركيز المباشر على الثروة. على اعتبار التفاوتات الدولية بهذا الخصوص، إذ لا يمكن أن تنسجم والمواقع السيادية للعالم جنبًا إلى جنب. وهو ما يفرض بالضرورة تكثيف التبادلات الاقتصادية الدولية التي أصبحت ممكنة بفضل تقنيات الاتصال الجديدة وعملية التحلل، ثم إعادة تشكيل العلاقات بين المتفاعلين، وهو ما يصفونه تحديدا  ب"العولمة المقنعة"، حتى إنه لم يعد البحث عن المبادئ العامة لتوجيه العمل الفردي وفكرة التنظيم الأخلاقي للمؤسسات بديهيًا. وهذا يمنحنا فرصة لإعادة قراءة "التناقضات الرأسمالية" كما هي ضمن نتاجات العولمة وثقافاتها المبثوثة، بعيدا عن بروبجندا "العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان" كما يروج لها لدى الغرب. وهو ما يعبر عنه الفيلسوف الكندي دومينيك ديسروش بالقول إن "عبادة الأداء، والهوس بجعل وقت العمل مربحًا، والإدمان الإلكتروني، على سبيل المثال، يشهد على تقييم الإجراءات على حساب المحظورات، مما يزعج علاقاتنا الاجتماعية".

إذا كان من الممكن أن يؤدي الاقتصاد الافتراضي الجديد إلى الاعتقاد بأننا سننتشر بحرية أكبر في القرن الحادي والعشرين، فإن حجم خساراتنا الأخلاقية والثقافية ستكون ثقيلة وأليمة، لأن عتبة انفلاتنا من بوتقة الخصوصية المجتمعية والثقافية، وتخلينا عن التقاليد والأعراف المنذورة للهوية والتاريخ، سيضعنا أمام مآزق استرداد الطريق الضائع، وهي قضايا مرتبطة بأبعادها العولمية بالعدالة الاجتماعية والفضيلة والأخلاق غير المنمطة والعقلانية المتنورة.

إن زمنا تتيه فيه كل هذه الوشائج الدامغة والمناقب السابغة، لن يكون بمقدورها الصمود في وجه الأرياح العصرية العاتية، حيث تعسر الحلول وتشقى به المحاذير والخطوب، وتشرد السياسات والتخرصات الواجمة المحصورة. على أنه ليس من مخرج سوى التشبث بحبل الله والتحوط بحواكم الحق دون مخالف العدل. فالعولميات المتنطعات ترمين القشور لمزابل التاريخ، ولا يصح في نهاية المطاف إلا الصحيح.

***

د مصطَفَى غَلْمَان:

لا تُعطي الرحمة أهميةً للتوجُه نحو الآخر فقط، ولكنها ترسم آفاق الاعتقاد كذلك. ثمة طريقان متزامنان لكل رحمةٍ: طريق إلى الخارج، أي إلى الوسْع، حيث الإنسان والأكوان بامتداد المعنى، وطريق إلى الداخل لتحرير المفاهيم والمعتقدات. كل رحمة تشُق الطريقين إلى نقطةِ تقاطع في وقتٍ واحد. والأكثر دلالة: أنها تعيد تصحيح وتعيد صياغة المفاهيم الكبرى في الإسلام.

المفارقة أنَّ المسلمين لم يدركوا دلالةَ الرحمة على معانٍ مختلفةٍ للإله الخالق، وأنها لا تعطي الإنسان أسبقيةً ولا ترسخ لوناً من المركزية إزاء غيره. وكأنَّها تتنصل من تصورات البشر حول الإله والحياة والموت والزمن. فهي ضرب من التحرر، ضرب من التطهر، ضرب من اللا تملُّك وعدم الاستحواذ. يُرجّح القول إن الرحمة تجري في جوهرها بخلاف الطبيعة البشرية، إذ تأتي من الجانب غير المُتوقّع، وكأنها نوع من الإستحالة التي تحقق كلَّ شيءٍ ممكن. فلئن كانت المفاهيم الدينية (مفاهيم تجميع وربط بين الأشياء)، فمفهوم الرحمة مفهوم تفريق وتشتيت وفك إرتباط. أي تنزع كل ما تجمّع وإلتصق بالمعاني الدينية من أفكارٍ.

وبالتالي، تخفف الرحمة ثقل الاعتقاد دافعةً الإنسان إلى إكتشاف ذاته أنطولوجياً. لأننا كبشر عندما نعطي من أنفسنا، سيُعاد إلينا العطاء في صور منتظرةٍ، غير أنَّ الرحمة لا تعيد شيئاً بخلاف فكرتي الثواب والعقاب. فهما (الثواب والعقاب) من الأمور التي تخصُ الإله وحده، وقد لا يجد الإنسان لهما سبيلاً مؤكداً على غرار الأمور الاعتيادية. وهما مرهونان باليوم الأخر في الأديان، ولذلك ليس لأحدٍ أنْ يطلع عليهما من قريبٍ أو بعيدٍ.

والسؤال الأكثر عمقاً: هل الرحمة تُحرر معنى الإله نفسه؟ هل حين يرحم الإله (دون حدود) يحرر وجوده (بلا قيود) من تصورات البشر؟ وبخاصة أنه عندما يمارس البشر أفعال الرحمة، يلتقون بحرية الاعتقاد عوضاً عن فرض المعتقدات. يبدو أن نفسْ الرحمة موجودٌ، ولذلك لا نستغرب أنها واقعة على تلك المساحة الشاسعة من الفعل الإلهي.

تحرُر الإله

تعكس المفاهيم في الأديان (دلالة الإله)، وكيف تحرك آثاره بين البشر. لأنَّ معاني الإله بمثابة المرجع الذي يغذي الأفكار الدينية في حيوات الناس. وإذا كانت أفكارٌ كهذه تطرح مضمُوناً عنيفاً من زاويةٍ، فلابد أنْ تُلحق جوانبَ العنف بالدلالة المركزية للألوهية من زاوية أخرى. وسيتصور الناسُ الإله على غرار ما يعتقدون ويفكرون. وهذا لون من القيد الذي يفرضه البشر على ما يؤمنون.

بالفعل ترسم الرحمة ماهية الإله في ذهنية البشر الآدميين. إذ كيفما يؤمن الناسُ وكيفما تتكون صورُ الإيمان، يكون إلههم وتكون معتقداتهم سمحةً وحرة أم لا. وبقدر ما يتمثلون معانيه المختلفة، تأتي المعاني مرتهنة بجوانبها المقصودة. إنَّ الإله وتصورات الناس حوله أشياء لا تنفصل عن تراث الرحمة والقسوة في المجتمعات. لأنَّ اصحاب العنف الديني ولاهوته السياسي لديهم تصورات إقصاء وتكفير عن الإله، هي " الميتافيزيقا الدموية blood metaphysics " التي تُرسّخ فكرة الإله الآمر بالعذاب وانزال العقاب والبأس على الإنسان.

والفكرة توضحُها جيداً الوثنيات الغابرة، من حيث تصوير الإله في هيئة غاضبة على الدوام، وذلك لإيقاع الرعب والخوف داخل قلوب الأعداء، ولإشعارهم أن اتباع الاله سيمارسون الأثر نفسه تجاه من يناصبهم الصراع والعداء. وكانت تلك الملامح القاسية مرسومةً على الأقنعة التي يرتدونها مع الطقوس والشعائر بعد المعارك وأثناء الإحتفالات الحربية. ولا يخفى على القارئ أن ذلك يرجع إلى الرغبة المحمومة لدى البشر للهيمنة على الآلهة لا العكس، بجانب محاولة الهيمنة على مخاوفهم تجاه المجهول!!

وبعض المسلمين عندما يمارس القسوة في شكل جماعات ارهابية، فهم يحيون تراثاً وثنياً قديماً يلقي بظلاله على الإله، وبعضهم الآخر حين يحرص على فرز المخالفين دينياً بوصفهم رجساً من عمل الشيطان إنما يقعون في ممارسات وثنية، قائمة على احياء الوهم بأن الإله يقف معهم بخلاف سواهم. والموقفان يعتبران طرحاً لقضية الألوهية كما يتصورها البشر كذلك، مما يجعل الوجود الإلهي مرهوناً بما يطرحونه ويمارسونه.

تحرُر الخالق والمخلوق:

يعتقد البعضُ أنَّ الرحمة في الاسلام أمرٌ عرضيٌّ يحل بعد القسوةٍ. وهذا ليس صحيحاً، لأنَّ فعل الرحمة في الاسلام يرتبط بكون الإله خالقاً لعباده وأكوانه ومحباً لموجوداته دون شروطٍ. وأنه يرحمهم لهذا السبب الأنطولوجي بالتحديد. إن تذكير القرآن بالرحمة يتضمن علاقة حب كونية حُرة بين الخالق ومخلوقاته من البشر: " قُلْ يا عِبادِيَ الَّذين أسْرفُوا على أنفُسهم لا تقنطُوا من رحمةِ اللهِ" (الزمر/ 53).

والقنوط قيدٌ يظن الناس كونهم خاضعين له، ومن حيث أنه يأس قاهر، فلا مبرر له. لأنَّ النداء نداء خلق لا قول خطاب. في هذه اللحظة يتم تحرير الخالق والمخلوق من قبضة المفاهيم. تحرير للخالق من تصورات البشر القانطة، فكان القرآن قاصداً للمعنى. وهو بالمثل تحرير للمخلوق من ذاته، فالأخير يظن أنه فرض جزاء القنوط على الخالق دون غفران.

تشير كلمة "عبادي" إلى الحنو والرأفة والرعاية الأنطولوجية التي تمتد من لحظة الخلق إلى أية (واقعة قنوط) بإفراد الناس أو جمعهم. وهؤلاء الذين وجدوا في فضاء الرحمة لا تبتعد معاني الخالق عنهم، والقول القرآني ضرب من التذكير بأن الذي خلق هو نفسه صاحب الرحمة. والخلق عمليةٌ تحررها الرحمة رجوعاً إلى الإله ذاته لا سواه. وأنه بمطلق الإرادة لا يغضب ولا يستاء ولا ينصرف عن الموجودات، ولكنه يهبهم الرحمةَ والرأفة, فالاستياء resentment على خلفية الرحمة من صفات البشر[1] والله لا يكف عن الأخذ بأيدي الناس إلى إحسانه، أي أنَّ الرحمة الالهية فعل واهب دون استياء. ولا ينتظر استرضاء ولا استعطافاً كنوع من التذلل للإرادة الإلهية.

والفكرة هاهنا عكس جميع تراث العبودية وكل تراث المقدس في الأرض، لأنَّ الكهنة ورجال الدين أقنعوا البشر أنهم بمقدار خضوعهم للغيب الناطقين بلسانه ستكون هناك مكانة لهم. بينما الرحمة تكسر عنهم الأغلال وتدعوهم (قُل يا عبادي) مباشرةً إلى فك القيود الذاتية أو الوسيطة نحو الإنطلاق. والنداء ينفي ذلك تماماً، ليجعل اللقاءَ مع الله على نحو مباشرٍ. مع التأكيد أنه حتى العلاقة هي رابطة من نوع مخالف لما عرفه البشر.

إنَّ كل مراحل وجود (خلق) الإنسان كانت ومازالت مشمولةً بالرحمةِ، فلقد أطلقَ القرآن لفظ الأرحام على موضع الحمل عند تكوين الجنين. "هو الذي يُصوركم في الأرحام كيف يَشاء" (آل عمران/6) وكأنَّ الإنسان قد خُلق تحديداً بالرحمة، أي أنه قد تكوّن كائناً حياً عن طريقها، فالرحمة والرحم شيء واحد[2]، وأنَّ الإنسان سيظل مُحاطاً بها من مرحلةٍ إلى غيرها في جميع أطوار حياته، حتى يعود إلى رحمة الله في الآخرة. والإنطلاق والعودة درجتان على امتداد الوجود بلا قيد، ولا يجب على الإنسان أن يشعر بكونه مدفوعاً في اتجاه أو آخر. إنه يعيش بكامل الإمتلاء الوجودي، وفوق ذلك سيظل هو نتاج الرحمة.

ولذلك تعني الرحمة نوعاً من الخَلْق بدلالة التكوين في إطلاقه غيباً وشهادةً، والرحيم عندئذ هو المتحرر من القيود والذي يخلق ويعاود الخلق من جديد لا من يقول بالرحمة فقط. هو من يفتح كلَّ أبواب رحمته لمخلوقاته لا من يوصدها بعد طردهم إلى الأرض وانزالهم من الجنة، هو من يذكرهم مع كامل الحرية لعبادته كطريق للعودة إليه لا من يرميهم في شتات الأرض فارضاً عليهم تيه الترحال من صحراء إلى صحراء.

والخالق من ثمَّ في الإسلام هو" الرحمن/ الرحيم" على الأصالة لا غير. صفتان ملاصقتان لعين وجوده المطلق، لأنَّ عملية الخلق ذاتها لون من تجليات الرحمة. وليس الله هو الكائن الأسطوري المخيف الذي يؤلم ويعذب مخلوقاته في نيران جهنم. إن الكائن المقدس المُرعب ليس له مكان في مرجعية الاسلام، ولذلك يُعوّل الارهابُ على التشوّه الميتافيزيقي للعقول نتيجة الشحن الأيديولوجي للأتباع والأعضاء الحركيين. أي أنهم يرسخون لديهم أولاً فكرة دموية عن الإله قبل تنفيذها في الواقع. وهي فكرة تنال من حريتهم وتشترط على الله أن يفعل وفقاً لما يعتقدون. وهنا يبدو التماهي مع الخالق لا بما يجب أن يكون، بل بحسب إملاء تصورات البشر، كأن الإله هو المشروط بوجودهم ومعتقداتهم لا العكس. وتلك أقسى فكرة يطرحها أصحاب الإيديولوجيات عندما يعتبرون الإله جزءاً منها ويتصرف في أكوانه بالمنطق نفسه.

تحرُر الواحد:

التوحيد هو المرادف للرحمة إنْ لم يكونا شيئاً واحدًا. والمرادفة تقف على أساس الحرية والإطلاق لا على أساس التحديد والقسر. " وَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَٰنُ الرَّحِيمُ" (البقرة/ 163). لم يقُل القرآن بعد ذكر التوحيد أنّ الله هو المنتقم الجبار على ما يظن بعض الناس، لكنه ربك الإله الواحد (أي الفكرة والمبدأ) بالرحمن، لأنه بالأساس كثير الرحمة وقادر على تكرارها دون نهاية ولا توقف، فكان رحيماً. وجوهر الإله الواحد هو تلك الرحمة التي لا تتوقف ولا تتعين بمحرمات ولا بأسوار. إنها كذلك لون من تحرير المعاني من أيدي البشر. ولا ننسى أنَّ لفظ التحرير يدل على الحرية بمضمونها العام وعلى الكتابة والخط وإطلاق العنان للفظ.

ونحن نعرف في حياتنا البشرية أنَّ (الحرية والكتابة) لا ينفصلان عن بعضهما البعض. ومشكلة من يمارس الكتابة أنَّه قد لا يجد مساحة كبيرةً من الحرية لما يدبج ويقول، في حين أن هذا يكون عند الإله بمنطق الكل والشمول، لكون الكتابة الإلهية لوناً من الخلق الذي هو مصدره في الأصل. وهذا ما يجعل الكتابة الإلهية كتابة تحرير وجود، وتحرير زمن، وتحرير كائنات بالوقت عينه. وعلى غرارها يمكن للإنسان أن يُصرّف ما يؤمن به ويتجه نحوه.

وهذا التعريف للوحدانية المطلقة تعريف لطيف، فهناك اعتقاد مؤدّاه أنَّ الوحدانية نوع من العنف. والسبب هو القول بأن الاعتقاد في إله واحد يتبعه بالضرورة عنف المشاعر والتصورات وأن المجتمعات لم تشهد في عصر الوثنيات ألوان العنف المنتشره في أديان التوحيد. ولكن هذه الآية تؤكد عكس ذلك تماماً، لأن من يستطع العفو والمغفرة، لا ينازعه إله سواه. إذ تقتضي الوحدانية إطلاق الفعل إلى نهايته القصوى مهما تكن. يؤكد القرآن:" يغفرُ لم يشاء ويعذب من يشاء والله غفور رحيم" (آل عمران/129). فليس الأمر متوقفاً على إرادة البشر المقيدين لسواهم، إنما الأمر مرفُوعاً إلى الوسْع.

فكل مستويات الفعل مرهونة بالمشيئة الصادرة عن الواحد، ورغم ذكر (الغفران والعذاب)، لكن الآية جعلت (الغفور الرحيم) تساوي وتزيد عن الفعلين السابقين (الغفران والعذاب)، لأن الغفران مرتبط بالرحمة القابلة للتكرار والزيادة باستمرار. يؤكد أبو حامد الغزالي.. أنَّ الغفور بمعنى الغفّار، ولكنه شئ ينبئ عن نوع مبالغة لا ينبئ عنه الغفار، فإن الغفار مبالغة في المغفرة بالإضافة إلى مغفرة متكررة، مرةً بعد أخرى، فالفعال يُنبئ عن كثرة الفعل، والفعول ينبئ عن جودته وكماله وشموله، فهو غفور بمعنى أنه تام المغفرة والغفران كاملها حتى يبلغ أقصى درجات المغفرة[3].

والوحدانية مرتبطة بالتفرد التام إزاء الناس جميعاً، حتى لا يظن ظانٌ أن الله في حاجة إلى أحدٍ. وفي هذا وثقها القرآن بمعاني الحرية التي تدل على الغنى والكفاية والوحدانية عن البشر والكائنات وعن الأشياء الأخرى. " وربك الغني ذو الرحمة" (الأنعام/ 133 (أي لا تظن أنه حين يرحم كافة المخلوقات، فإنه في حاجة إليهم، ولذلك سيكون معنى الرحمة الكوني مرتبطاً بكمال التنزيه في الإسلام.

تحرُر المُطلق:

آفاق الرحمة الواسعة دالة على إله مطلق، فالمطلق بهذه المعاني المفتوحة يعود إلى قدرة إليهة من جنسها. وأن الذين يقْصرون رحمة الله أو يمارسونها على نحو خاص هم يجعلون إرادةَ الله نسبيةً. وهذا ما تراه المسيحية في فكرة التجسد بشخصية الرب- الإله، ولذلك قد تتجسد الرحمة في اشخاص على الغرار نفسه في البابوات أو رجال الدين القائمين بالرعاية الروحية[4]. ولذلك تشترك الأرثوذكسية والبروتستانتية والكاثوليكية في أهمية القيام باعمال الرحمة في الإطار الخيري العام وهي فكرة مأخوذة من الثقافة الرومانية المسيحية[5].

ولكن يؤكد الاسلامُ أنَّ رحمة الله مؤشر كلي على إطلاق معنى الخالق الرحيم في حياة الناس بصورة عمومية، وأنَّ الرحمة هي مناط الفهم الصحيح لتصوراتنا حول الاله دون أن يكون محدوداً ولا مشخصَّاً. ولأول وهلة ستكون صفة الرحمة وجوداً وماهية وفعلاً بالوقت نفسه. فالإله لا تنفصل عنه الرحمة لأنَّه مصدرها وهو الوهاب لها. ومن حيث أن الرحمة بلا محددات، فإنها ترسم لنا كيف أن الله لا يتصوره عقل بشري بالمعاني التي يصورها المؤدلجون، لأنَّ الإنسان (وأضرابه) لا يستطيع أن يمارس رحمة خالصة، بينما الإله فقط هو من يفعل ذلك.

"نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" (الحجر/49)، والقول يشير إلى وجود إلهي كامل دون هيمنة، لأن الكراهيات تترك مردوداً سلبياً في ذاتها وتجاه الإله، وقد تكون هي عوامل النقص بإمتياز. والتأكيد في الآية على اثبات الرحمة في ذاته، أي صفة روح مطلق. وفي المسيحية كانت ثمة فكرة جديرة أنَّ الرحمة تتعمق في الأرواح، في أعماق الحياة الروحية، قبل الأجساد المادية وقبل الأشكال الظاهرية التي قد تخدع[6].

الرحمة تعبر كذلك عن شفافية وخلوص الوجود الإلهي لذاته، ومنها صدرت الموجودات، " وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ" (القصص/ 73). فبسبب رحمته الحرة، وُجد هناك الليل والنهار من باب الرعاية والرأفة بالبشر. وكما أنَّ المطلق يسع كل شيء، فكذلك الرحمة مشتقة من هذا الاطلاق وكأننا نعود من نقطة البداية إلى النهاية بشكل دائري في المطلق الإلهي، نحن موجودين فيه مع معاني الرحمة: " قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ" (الأنعام/12).

فالإحتواء الواسع الرحيم في مطلق المعنى لا يدل على الاستحواذ، لكنه نوع من الرحمة الواسعة المعبرة عن مضونها الإلهي لكل شيء، وليس أبرز برهنةً على ذلك من قول القرآن " وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ" (الأعراف/ 156)، لأنَّ الله:" هُو أَرحَم الرَّاحمين" (يوسف/64) بصيغة الاستثناء الشامل، وبصيغة الانفتاح الداعي للفعل ذاته عبر حيوات البشر المختلفة.

اختصاراً، فإن دلالة تكرار الرحمة في الإسلام هي دلالة عميقة من جنس التحرر مما يدعي البشر. والمعنى مزدوج، أي فليقل البشر ما يقولون وليمارسوا الحياة كيفما شاءوا، ولكن تثبت الرحمة تبرؤ الإله مما يفعلون. ومن ذلك أن انحراف أفعال البشر دلليل على مصداقية الرحمة، وتشكل (مرجعية تحرر) لأقطاب العلاقة في الاسلام: الله والعالم والإنسان.

***

د. سامي عبد العال

........................

المراجع

- ابن سيدة، على بن اسماعيل المرسي، المحكم والمحيط الأعظم، تحقيق عبد الحميد هنداوي، (بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 2000).

- ابن فارس، أحمد بن زكريا، معجم مقاييس اللغة، تحقيق عبد السلام هارون، (بيروت: دار الفكر، الطبعة الأولى 1979)

- أبو الفرج الدمشقي الحنبلي، تفسير الفاتحة، تحقيق سامي بن جاد الله، (الرياض: دار المحدث للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1427).

- أبو حامد الغزالي، المقصد الأسـنى في شرح أسـماء االله الحسنى، (القاهرة: مكتبة الكليات الأزهرية، د. ت).

- أبو عبد الله العثماني الشافعي، رحمة الأمة في إختلاف الأئمة (بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1987).

- الراغب الأصفهاني، مقدمة جامع التفاسير، تحقيق: أحمد حسن فرحات، (الكويت: دار الدعوة، الطبعة الأولى 1984) .

- الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن، تحقيق وضبط محمد سيد كيلاني، (بيروت: دار المعرفة للطبعة والنشر والتوزيع د. ت).

- علي بن محمد الماوردي الأحكام السلطانية، (بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 2004).

- محمد الطاهر بن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، تحقيق محمد الطاهر الميساوي، (عمان: دار النفائس، الطبعة الثانية 2001).

- محمد بن جرير الطبري، تفسير الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، الجزء الحادي عشر، تحقيق وتخريج الأحاديث محمود محمد شاكر، راجع الأحاديث أحمد محمود شاكر (القاهرة: مكتبة ابن تيميه، الطبعة الثانية د. ت).

- محي الدين بن عربي، فصوص الحكم، شرح عبد الرازق الكاشاني، (القاهرة: دار آفاق للنشر والتوزيع، 2016).

Alessandro Rovati, Mercy Is a Person: Pope Francis and the Christological Turn in Moral Theology, In: Journal of Moral Theology, (Volume. 6, 2 ,2017).

Haya Eid, Muhammad: the Prophet of Mercy, New Vision for Translation and Culture , (Cairo, Egypt, 2012).

Jeffrie Murphy, Forgiveness and resentment, In: Jeffrie Murphy and Jean Hampton, Forgiveness and mercy, (New York: Cambridge University Press 1988).

John R. Searle, Expression and Meaning, Studies in the Theory of Speech Acts, (New York ; Cambridge University Press 1979).

Linda Ross Meyer, The Merciful State, In: Austin Sarat and Nasser Hussain (Editors), Forgiveness, Mercy, and Clemency (Stanford, California: Stanford University Press 2007).

Marcel Mauss, The Gift: The Form and Reason for Exchange in Archaic Societies, Translated by W.D.Halls, With a foreword by Mary Douglas, (London and New York: Routledge, Firest Edition, 1990).

Marina I. Nadeeva, The Phenomenon of Mercy in Orthodoxy: The Relationship of Theory and Practice, "Advances in Social Science, Education and Humanities Research", Proceedings of the International Scientific Conference on Philosophy of Education, Law and Science in the Era of Globalization (PELSEG 2020), volume 447, (Atlantis Press SARL, 2020).

Maria F. Kowalska, Diary of Saint Maria Faustina Kowalska: Divine Mercy in My Soul, (Marian Press ,2005).

Stephen P. Garvey, As the Gentle Rain from Heaven: Mercy in Capital Sentencing, In: Cornell Law Review- 989, Volume 81, Issue 5 , Jule 1996, P 995. See also: Bryan Stevenson, Just Mercy: A Story of Justice and Redemption, (New York: Random House, LLC, 2014).

Tariq Jaffer, Rāzī: Master of Qurʾānic Interpretation and Theological Reasoning, (New York and Oxford: Oxford University Press 2015).

Vladimir Jankélévitch, Forgiveness, Translated by Andrew Kelley, (Chicago and London: University of Chicago Press, 2005).

................

الهوامش

[1]- Jeffrie Murphy, Forgiveness and Resentment, In: Jeffrie Murphy and Jean Hampton, Forgiveness and mercy, (New York: Cambridge University Press 1988), PP14- 34.

[2]- الراغب الأصفهاني، مقدمة جامع التفاسير، تحقيق: أحمد حسن فرحات، (الكويت: دار الدعوة، الطبعة الأولى 1984)، ص 114 .

[3]- أبو حامد الغزالي، المقصد الأسـنى في شرح أسـماء االله الحسنى، (القاهرة: مكتبة الكليات الأزهرية، د. ت)، ص 66.

[4]-Alessandro Rovati, Mercy Is a Person: Pope Francis and the Christological Turn in Moral Theology, In: Journal of Moral Theology, (Volume. 6, Number. 2 ,2017), PP 48-69.

[5]- Marina I. Nadeeva, The Phenomenon of Mercy in Orthodoxy: The Relationship of Theory and Practice, "Advances in Social Science, Education and Humanities Research", Proceedings of the International Scientific Conference on Philosophy of Education, Law and Science in the Era of Globalization (PELSEG 2020), volume 447, Atlantis Press SARL, 2020, P 241.

[6]- Maria F. Kowalska, Diary of Saint Maria Faustina Kowalska: Divine Mercy in My Soul, (Marian Press ,2005), P38.

تَنْبُع أهميةُ فَلسفةِ الظواهر الاجتماعية مِن قُدرتها على تحليلِ طبيعة الأحداث اليومية، وتفسيرِ ماهيَّة التقاطعات التاريخية معَ الواقع المُعَاش، وهذه الفلسفةُ غَير مَحصورة في بُنيةِ المُجتمع التَّحتية وبِنَائِه الفَوْقِي، بَلْ تَتَعَدَّى إلى دَلالات اللغة كإطارٍ مَعرفي ومَرجعيةٍ رمزية، وهذا يدلُّ على الترابط بين المُجتمعِ واللغةِ، بِوَصْفِهِمَا كِيَانَيْن مُنْدَمِجَيْن شُعوريًّا وإنسانيًّا، ويُشكِّلان مَنظورًا وُجوديًّا لتأويلِ تاريخ الأفكار منهجيًّا ومنطقيًّا، وتوضيحِ كَيفية تفاعله معَ رُؤيةِ الفرد لِذَاتِه ومُحِيطِه، مِمَّا يُؤَدِّي إلى استخراجِ الأحلام المَقموعة مِن مَسَارَات الزمن المُتشابكة، واسترجاعِ الوَعْي الإبداعي مِن مَتَاهَات المَكَان العميقة. وهَاتَان العَمَلِيَّتَان تُسَاهِمَان في نَقْل الهُوِيَّة المعرفية مِن كَينونة الفرد الفاعلة إلى الفِعْل الاجتماعي، وهذا يَضْمَن الانتقالَ السَّلِسَ لتاريخ الأفكار مِن الذِّهْنِ التَّجريدي إلى التطبيقِ العملي، ومِن الدَّلالةِ اللغوية إلى السُّلوكِ الأخلاقي، ومِن الجُمُودِ الحَضَاري إلى الحَرَاكِ الحَيَاتي. وإذا تَجَذَّرَ تاريخُ الأفكارِ في فلسفة الظواهر الاجتماعية رُوحًا ونَصًّا، فَإنَّ الأنساق الثقافية سَيُعَاد تشكيلُها لإنقاذِ الفرد مِن المَأزق الوُجودي، وإنهاءِ الصِّرَاع بَين مَصادرِ المَعرفة والتجاربِ الواقعية، الأمر الذي يَدفَع باتِّجَاه تَحويل البناء الاجتماعي إلى جَوهَر إنساني على تماس مُباشر معَ العَقْلِ الجَمْعي، والوَعْيِ الإبداعي. وإذا كانَ وُجودُ الإنسانية سابقًا على وُجود المُجتمع، فَإنَّ الهُوِيَّة المَعرفية سابقة على سُلطة الظواهر الاجتماعية. واندماجُ الإنسانيةِ معَ المَعرفةِ يُؤَسِّس للتفاعلات الرمزية بين المُجتمعِ واللغةِ في صَيرورةِ التاريخ، وتفاصيلِ الحياة اليومية، وتَحَوُّلاتِ الشُّعورِ والإدراكِ.

2

البِنَاءُ الاجتماعي والبِنَاءُ اللغوي مُرتبطان بانعكاساتِ الوَعْي الإبداعي على مَاهِيَّةِ الذات الإنسانية، وطبيعةِ الواقع الرمزية، وهذا الارتباطُ يُشير إلى التجانس بين مُكَوِّنَاتِ المُجتمع وعناصرِ اللغة، حَيث إنَّ المُجتمع يُكَرِّس رمزيةَ اللغةِ في تاريخ الأفكار بما يُفْرِزه مِن ظواهر اجتماعية وأنساق ثقافية ومعايير أخلاقية، واللغة تُجَذِّر مركزيةَ المُجتمع في مصادر المعرفة بما تُفْرِزه مِن هُوِيَّاتٍ عقلانية، وآلِيَّاتٍ تأويلية، وسِيَاقَاتٍ حياتية. والمُجتمعُ واللغةُ كِلاهُمَا يُكَوِّنان القاعدةَ الحاملةَ للعقلِ الجَمْعِي، الذي يَحْمِي الفردَ مِن تَزويرِ إرادته وتَزييفِ وَعْيِه، ويُشَكِّلان الإطارَ الجامعَ للتُّرَاثِ الحضاري الذي يَتَّخِذ أشكالًا مُختلفة في المناهج النَّقْدِيَّة، ويَتَّخِذ صُوَرًا مُتَنَوِّعَة في الأحداث اليومية. وإذا أرَدْنَا فَهْمَ الماضي الذي يُعَاد تَوليدُه في الحاضر، فلا بُدَّ مِن تحليل تاريخ الأفكار مِن خِلالِ تأثيرات المَأزِق الوجودي للفردِ والجماعةِ في الواقع المُعاش، لأنَّ كُلَّ مَأزِق يَكشِف كيفيةَ العلاجِ، وكُل مُشكلة تُحَدِّد طبيعةَ الحَل، وهذا يَعْنِي استحالةَ فَصْلِ الذات الإنسانية كَكَينونةٍ حَيَّةٍ وحُرَّةٍ وواعيةٍ عَن ضغوطات النظام الاستهلاكي القاسي، الذي يَقتلع الفردَ مِن هُوِيَّته الوجودية داخل اللغة، ويَنتزعه مِن سُلطته الاعتبارية داخل المُجتمع، ويَجتثه مِن مكانته الجَذرية داخل التاريخ، مِمَّا يُجبِر الفردَ على الهُرُوبِ مِن وجهه الحقيقي بحثًا عن وَعْيٍ مُخَادِع في الأقنعة المُزيَّفة، ويُجبِر الفردَ _ أيضًا _ على الفِرَارِ مِن ذاته العميقة بحثًا عن سعادة وهمية في الشِّعَارات السَّطحية.

3

المُجتمعُ لُغَةٌ مَعرفية قائمة على التواصلِ المُتبادَل وتحقيقِ المَصلحة المُشترَكة، واللغةُ مُجتمعٌ رمزي قائم على الظواهرِ الاجتماعية وتاريخِ الأفكار، وهذا التشابكُ يَجعل العلاقةَ بَين الفِعْلِ الاجتماعي والعقلِ الجَمْعي مُرتبطةً بالدَّلالةِ اللغوية والسُّلوكِ الأخلاقي، وقابلةً للتَّحَوُّلِ إلى نَقْدٍ اجتماعي بَنَّاء يُنقِذ الفردَ مِن الوَعْي المُخَادِع الناتج عن القطيعة المعرفية في النسيج الاجتماعي، ويُنقِذ المُجتمعَ مِن النَّزعة الاستهلاكية الناتجة عن الانفصال الفِكري في الأحداث اليومية. وهذا الإنقاذُ المُزْدَوَجُ لا يَعْني إخراجَ الفردِ مِن المُجتمع، ولا يَعْني إخراجَ المُجتمعِ مِن التاريخ، وإنَّما يَعْني تَكوينَ شخصيةِ الفرد الإنسانية اعتمادًا على الوَعْي الإبداعي بِمَعْزِلٍ عَن الصِّرَاعِ بَين سُلطةِ المعرفة ومعرفةِ السُّلطة، وتَكوينَ هُوِيَّةِ المُجتمعِ المُتَنَوِّعَة اعتمادًا على الأنساق الثقافية بِمَعْزِلٍ عَن الصِّرَاعِ بَين قُوَّةِ المَنطِق ومَنطِقِ القُوَّة. وفلسفةُ الظواهرِ الاجتماعية تَقُوم على رُكْنَيْن: شَخصية الفرد وهُوِيَّة المُجتمع، والاندماجُ بَينهما حَتْمِي ومَصيري، لأنَّ الجُزْءَ لَيْسَ له مَعْنَى ولا جَدْوَى بِدُون الكُلِّ، وهذا الاندماجُ يَتِمُّ داخل تاريخ الأفكار، لَيْسَ بِوَصْفِه زَمَنًا ذهنيًّا عابرًا، بَلْ بِوَصْفِه وَاقِعًا قائمًا بذاته، وحَيَاةً مُكتمِلةً بِنَفْسِهَا.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

ظهرت فكرة الحداثة كمفهوم واسع الدلالات وكمشروع ضخم ارتبط بانطلاق الثورة الصناعيّة في أوربا، وظهور الطبقة البرجوازيّة كطبقة تقدميّة تعي ذاتها من خلال التعبير عن مصالحها ومصالح الطبقة العماليّة المرتبطة بها، هذه الطبقة التي ظهر معها الكثير من المفكرين الذين راحوا يعبرون عن مصالحها وطموحاتها بفكر عقلاني تنويري مشبع بتفاؤلها ونزعتها المركزيّة العقلانيّة. ولكن شيئاً فشيئاً راح يغلب على هذه العقلانيّة روح (العقلانيّة الأداتيّة)، أي ذلك النمط من التفكير الذي إذا ما تعرف على مشكلة ما، سعى لحلها مباشرة دون التساؤل عن أهداف هذه الحلول وغاياتها إن كانت إنسانيّة أو معادية للإنسان. هذا وقد فرضت هذه العقلانيّة الأداتيّة آنذاك أسلوب آليات التبادل المجردة في المجتمع الرأسمالي حتى في القيم، بعد وصول الطبقة البرجوازيّة إلى السلطة. فتبَادل السلع في عالم هذه الطبقة بعد أن تحولت إلى طبقة إمبرياليّة احتكاريّة، يعني تساوي الأشياء المُتبادَلة كسلع، فما يهِم في السلعة إن كانت جهد العامل المنتج، أم المادة المنتجة للتسويق ليس قيمتها الإبداعيّة وما تتضمنه من قيم إنسانيّة معدّة لتامين حاجات الناس الاستعماليّة المتعينة، وإنما ثمنها المجرد وما تحققه من ربح لمالكها. وإذا كانت أفكار التنوير قد جاءت مع ظهور الطبقة البرجوازيّة كطبقة تقدميّة لتعمل على محاربة الظلم والاستعباد، وقيم النبالة والعقليّة الكنسيّة الغيبيّة وما تمارسه من تخدير وتغييب لوعي الشعب عن مآسيه، الأمر الذي جعل  أفكار التنوير تشكل أنموذجاً حياً لطموحات هذه الطبقة، وتعبيراً هادئاً عن مشروع الحداثة بكل ما يحمله هذا المشروع من مفردات تعبر عن الحريّة والعدالة والمساواة، وعن المواطنة والحقوق الطبيعيّة والقانونيّة ودولة المؤسسات وحرية الرأي واحترام الآخر فكراً وعقيدة، إلا أن أفكار التنوير بعد وصول الطبقة البرجوازيّة إلى السلطة وتحولها إلى طبقة برجوازيّة إمبرياليّة استعماريّة، راحت تقمع شعوبها وشعوب العالم، ومع هذا القمع أخذت أفكار التنوير ذاتها تتحول من أفكار تحريضيّة للثورة ضد الظلم والاستغلال، إلى أفكار يغلب عليها الطابع (التبشيري) بسبب إفراغ الطبقة البرجوازيّة لهذه الأفكار من محتواها وتحويلها برمتها إلى شعارات براقة يتغنى بها الإعلام الغربي ومؤسساته الدستوريّة ودساتيره، بينما الواقع يقول غير ذلك. فالمواطن الذي غنت له شعارات الحداثة مع فكر فلاسفة عصر التنوير، وبيانات حقوق الإنسان ومضامين دساتير هذه الدول عن الحرية والعدالة والمساوة ودولة القانون والمواطنة وغير ذلك، راح هذا المواطن الذي بدأ يُستلب ويُشيئ ويُغرب بفعل آلية عمل السوق القائمة على الربح، يعيش اضطهادا وتهميشا تحجبه غشاوة السعادة التي خرجت من معطف الحريّة الفرديّة والاجتماعيّة وصناعة التسلية والترفيه وثقافة الاستهلاك والإعلام المنمذج والتركيز على غرائز الإنسان أكثر من عقله. الأمر الذي جعل اغتراب الإنسان واستلابه وتشيئه في النظام الرأسمالي، يحوّل الكثير مما هو إنساني، ويعبر عن القيم النبيلة للإنسان، إلى قيم وسلوكيات حيوانيّة في العالم الرأسمالي.

إن انتصار العقل الأداتي وسلطته السياسيّة والاقتصاديّة للطبقة البرجوازيّة على أفكار التنوير العقلانيّة النقديّة، أسفر عن جملة من المغالطات والتعسفات كانت أساسا لولوج الحداثة مرحلة الأزمة. وبالتالي بدء ظهور فكر وعالم ما بعد الحداثة الذي يعبر خير تعبير عن عالم الطبقة الرأسماليّة الاحتكاريّة وعالم القطب الواحد، أو النظام العالمي الجديد.

مع تحول الطبقة البرجوازيّة إلى طبقة إمبرياليّة احتكاريّة تمارس الظلم على شعوبها وشعوب العالم، تبدأ مسيرة الحداثة بالتراجع، وتبدأ معها قيمها النبيلة بالتراجع أيضاً لتحل بدلاً عنها قيم التذرير والتفكيك والنهايات. أي موت القيم في الفن والأدب والفلسفة والأيديولوجيا وكل ما يمت لحياة الإنسان من قيم نبيلة.

إذن مثلما للحداثة قيمها، فلما بعد الحداثة قيمها أيضاً، ثم أن عبارة  (ما بعد الحداثة) تفيد التجاوز والبعدية وتشير إلى تتابع زمني يأتي فيه واقع جديد ووضع جديد خلفا لآخر أصبح مستنفدا ومتجاوزا ومدمراً كما يقر فلاسفة ومفكرو عالم ما بعد الحداثة.

إن النقد الحاد الذي مورس على قيم الحداثة من قبل مفكري وفلاسفة ما بعد الحداثة، المعبرين عن طموحات الطبقة الرأسماليّة الاحتكاريّة، يقدم نقطة انطلاق هامة للحظة ما بعد الحداثة للمضي أشواطا بعيدة في تجذير هذا النقد وتعميقه، إذ لا يجري نقد الحداثة فقط بل نفيها وتدميرها. وهذا ما يدفع البعض للقول:  إن لحظة ما بعد الحداثة تمثل نوعا من الانفجار الذي سوف يؤدي بالحداثة وبعقلانيتها وموضوعاتها إلى التشتت والتفكيك والتذرير، ولهذا يظهر مفهوم ما بعد الحداثة كنبش في الأسس وكسر للقوالب وخروج على النماذج، وتفجيرا للأشكال وخروجا عن خط الصيرورة التاريخية للحداثة، وتدميرا لأنساقها القيميّة النبيلة على نحو خارق ومدهش.

من هنا ينضبط عالم ما بعد الحداثة داخل (خرائط مفاهيميّة) تقوم أساسا على النفي والتدمير والتجاوز والافتتان "بأخلاقيات الموت" والتحرر ودراميّة النهاية. فعلى نفس هذه الخرائط تماما يشتغل فلاسفة ومفكرو عالم ما بعد الحداثة، حيث يقومون بحصر ظاهرة ما بعد الحداثة على المستوى الفكري في عدد محدد من المبادئ والأسس وهي: موت الفن، وموت النزعة الإنسانيّة والعدميّة، ونهاية التاريخ. وعلى هذا الأساس جاء طرح "ميشل فوكو" و"جاك دريدا"، عدّة مصطلحات تتجلى فيها أوجه التوصيف لعالم ما بعد الحداثي بوضوح مثل: التفكيك، والاختلاف، والتشتيت، واللااستمراريّة، والنهايات، وبالتالي الموت.

واخير نقول : لقد ساير مصطلح ما بعد الحداثة” عند ظهوره وانتشاره ـ العديد من المفاهيم والمعايير الرؤيويّة الغربيّة ومنها مفاهيم (الما بعديّة)،  مثل ما بعد الصناعة، ما بعد العلم، ما بعد الفلسفة.. الخ.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سورية

يشكل النشاط العقلي الرديف الموضوعي للنشاط الحي، ومن الطبيعي الفرد البشري هو يمتلك قاعدة تفكير تناسب حيثياته، والعقل في الجانب الأساس هو عقل الإدراك المباشر الفطري، وإذا فشل الأمر هنا يتحول العقل إلى مرحلة أخرى من مراحله، والعقل هو وحده من يمتلك أقصى حرية، حيث أحيانا يسقط العقل حتى القانون الأخلاقي، وذلك لوجود ضرورات، ولكن القانون الأخلاقي ليس سلطة على العقل إلا إذا احتكم العقل لذلك، وحرية العقل ليست فقط ضامنة للخلق كما يرى برديائف، بل مهام الحرية من الممكن أن تكون في إعادة الإنتاج، وليس كل خلق يتوافق مع حرية العقل، وهناك ربوة الشر في العقل كما هناك وجود لربوة الخير، ونحن لا نتفق كليا مع الفكرة التي ترى بأن البشر شرير بطبيعته، على اعتبار بأن البشرية الأولى بدأت بحادث شرير، وقتل ابن آدم لأخيه ليس معيارا، وكما إخراج آدم من الفردوس ليس بحادث شرير، حتى في المعنى الذي تحول فيه آدم من صيغة عليا إلى صيغة أدنى، فحرية العقل هي الفيصل، والتميز والمفاضلة دفعت أبن ادم الى رفض الامر، واما القتل المزعوم فكان امر يرتبط بالغضب، والذي يأتي نفسيا بعد رفض حرية التمييز، وصراحة الكليات لا تفسر الا نفسها، وما بعدها هو ما يحتاج منا التفسير والتأويل، وهذا ما يزيد الامر تعقيدا، ووفق شوبنهور لا نبلغ الا التصورات المقبولة.

لقد طرح جيل دولوز أحد الأسئلة المعرفية الهامة، إزاء تعريف الفلسفة، ونكرر السؤال بسؤال آخر، فهل تحتاج الفلسفة إلى تعريف؟، نجد من الأفضل الإجابة بالنفي، فالفلسفة ذلك العالم الواسع المتجدد أوسع بكثير وأعمق من أي إجابة، والفلسفة ليست حقل مفاهيم فقط، بل هي تمتلك طاقة معرفية خلاقة، وليست أفقا أو فضاء تعليم بالصياغة التقليدية للفكرة، وإنما هي حطاب عميق بسيرورة تمتد في عمق التاريخ، وأيضا نعتقد بوجود فلاسفة قد سبقوا فلاسفة أفق التاريخ والحضارة، وحضارة ما بين النهرين والرقم الطينية تخفي الكثير من الأفكار الخلاقة، ونحن نرى الفلسفة تنمو في وجود مجتمع لغوي متكامل، ومن جهة أخرى علينا التفهم بأن هناك مفاهيم مبذولة وأخرى تحتاج اكتشافا، ولسنا هنا إزاء أعراف فلسفية في الفصل بين المبذول والذي يحتاج إلى اكتشاف، لكن ذلك ما شعر به العقل من ارسطو الى هيدغر، والفلسفة ذلك الفضاء الواسع، وقد ربطه العقل الاخلاقي بالحكمة من جهته، فيما فضاء الفلسفة واسع جدا، وفي كل مرحلة من مراحل الحداثة امتازت بتوصيف، وتخلت عنه في مرحلة لاحقة تغير فيها المجال الزمني، والتفسيرات للفلسفة تتبع المواقف العقلية، ولا ترتبط بالفلسفة ذاتها، وكذلك الحس والمشاعر تشترك بنسب معينة في خلق تفسير لصالحها، وهناك سياقات عامة للتفسير واخرى هي مستحدثة تفصل ما بين السالف والاني واللاحق، وذلك الفصل سيزيح نسبا من الافكار ويعيد تنظيم ما تبقى منها.

لكل عصر صورة، وتلك الصورة مرتبطة بوحدة زمن، تمثل السيرورة الزمنية، وهذا يعني هناك تبدلا عاما يصيب الحياة، فالوحدات البشرية ستكون بشعور مختلف عما كان سابقا، فرجل تحول من زمن العربة والخيول إلى زمن السيارة، من الطبيعي انفصلت وحدة الزمن الجديد عن الماضي، وصارت تدور في أفق الحاضر المدهش، والعقل الفلسفي من الطبيعي سيتأثر إذا مر بتلك الظروف، ففيلسوف القرن الثامن عشر لو قدر له الاستمرار حتى القرن العشرين، ربما يصاب بمس، أو تأخذه الدهشة إلى أقصى حدودها، حتى تصبح الدهشة عالم خاص، لكن هذا المثال إذا كان في افتراض عالي الموقع، ولا يمكن تناوله بصيغ واقعية بين عقل وآخر، لكن أيضا لسنا إزاء التبرير بل إزاء المقارنة الموضوعية، والتي تفضي إلى نتائج تفيد في مواقف أخرى يستقبلها العقل، والعقل في الفلسفة صراحة في دائرة زمنية، متعددة النشاط والحركة والوقوف عن الحركة، لذلك تبقى الفلسفة بفائض كبير للتفسير المباشر، وبما أن العقل الفلسفي غير مستقر تماما بين جانب أفقي وجانب عامودي، فها هو هيدغر مرة يكون أمام الوجود، وأخرى يكون أمام الميتافيزيقا، وتلك الحالة من الحالة العامة للعقل الجديد، أما العقل الحديث فنموذج نتشه متعدد الأقنعة الفلسفية، إلى حد وصل به لا يرج له قناع، حيث تحول من مخلوق الى خالق، وفي احساسه من بشر الى رب متجسد بشريا.

يشكل حقل المفهوم الفلسفي العام في تفسيرنا الموضوعي دائرة متعدد الوجوه دون لوحات إشارة، وهنا ينعدم التحديد، لكن هو كما طرح جيل دولوز، بأن ذلك المفهوم هو يتجه لمفهوم آخر، وعندما يتبلور المفهوم الآخر، سيكون هناك إزاحة لمفهوم الفلسفة العام، وهذا من جهة صيغة التداول، وأما من صيغة ركن الأخلاق الفلسفية، سيكون هناك نقطة تاريخية كبرى يتكئ عليها المفهوم، ومفردة الحكمة تعود إلى تاريخها القديم، أيام كان البشر المتميز يبحث عن البلاغة والحكم، وإلا ليس هناك روابط عقلية تامة لتلك الفكرة، وعلى الخصوص بعد ما أصبح الخطاب الفلسفي لا تقف أمامهم مواقف الكنيسة التي كانت تحرق البشر أحياء، وتمكن هوبز من النجاة من تلك العقوبة لبث خطاب التجديد الحر الذي عارض فكر الكنيسة، وصراحة الدور الأكبر قدما الفلاسفة بمعارضة من خلال العقل لسلطة الكنيسة الاستبدادي، والخطاب وليس الفكر الاجتماعي من جعل العقل يبرهن السلطة الدينية ليست بشرية، بل هي فوق هذا المستوى، والرب دعا إلى تحرير البشر من البشر، والعقل الفلسفي في سيرورته ما تجاهل عنف الكنيسة، لكن يسعى أن يرجح الخطاب المناسب لردعها، وفي شدة الأزمات كانت الصفة العامة للخطاب المجابهة من خلال المستوى المعرفي لتفسير المعايير بالطريقة التي تتمكن من الهبوط بخطاب الكنيسة إلى أسفل، لكي يدخل في خانة الإدانة، وتلك الصيغة لم تكن مناورة عقلية، بل حتى الإدانة تدخل في المنطق العقلي.

تشكل التحولات التي مر بها العقل الفلسفي التغير أولا في ملامح الخطاب، وثانيا ترجيح مرحلة عقلية بديلة لمرحلة أخرى، وثالثا وضع الاعتبار الفلسفي بالدرجة الأولى، وذلك المثلث يتدرج في المفهوم الفلسفي من أولى العتبات إلى آخر ما يتشكل في المفهوم من خطاب، و (هذا أمر لا محيد عنه لأن كل مفهوم بتقطيع جديد، ورسم محيطات جديدة، مما يتطلب إعادة تفعيله وتفصيله ثانية)1، وفي تفسير أدق نرى بأن الكينونة تستبدل بماهية، وهذا ليس إحلال محل بدلا من محل آخر، بل يمكن توصيف الأمر على وجود تطور حسي في الخطاب، والعقل يختلف في تفسيره بالتاريخ وبين العقل بذاته، والعقل في الجانب الشخصي حي ولكن لا يتجاوز الموت عضويا، وإذا قنا العقل يموت ولا يموت، فالمسألة هي في وجوه، فالعقل يموت في موت الشخص، لكن العقل كخطاب لا يموت حتى لو تجاوز ذلك العمر المعين، فنتشه المتوفي على عتبة بداية القرن العشرين لا يزال حيا، وهذا مقصد فكرتنا العقل يموت ولا يموت، والعقل في الجانب الشخصي له صيرورة ومن ثم هناك سيرورة تقف عند حد الموت، وهذا في الجانب العضوي للعقل، أو ما نسميه الجانب العملي للعقل، حيث هو عدة أحداث وتفاصيل وسرد واقعي، والانفصال التام عن لحظة الحياة المستمرة، يبقى الخطاب يمثل استمرارية العقل، والعقل بأي صورة لا يقف عن النشأة أو الصيرورة، واختيار سقراط الموت بالسم بدأ من الحياة، يحتاج تفسيرا مقلوبا، فهو رفض العبودية واحتارت حريته.

لا يمكن الوقوف التام على سيرورة العقل، فوحدة الزمن ليست بركن ثبات الاتصال، بل ينقطع الزمن ويتواصل، الموت الذي يحل في نهاية عقل بشري، ويمتلك خطابا فلسفيا، في تفسير الأمر من جهة الوضع البشري تقف وحدة الزمن، فيما تتعدى ذلك في الخطاب، والزمن الفلسفي لا يقاس على حياة الشخوص الفلاسفة، بل يكون في سيرورة الخطابات، وهنا نقف على فكرة حساسة ترى بأن افلاطون وارسطو على وجه التخصيص لا زالوا احياء، وتلك الفكرة لازالت واقعية الى حدما، ومن هنا تنتفي فكرة عن الخطاب، واذا كنا نحاور افلاطون وارسطو وتفصلنا عنهما الفين سنة، فذلك امر في غاية الدهشة، وتلك ميزة من ميزات الفلسفة، والتي تعتبر هي الصيرورة الاساس للوعي والعقل والخطاب، واذا امتلك الشعر ذات النفس التاريخي، فإن جل اهتمامه ينصب على اللحظة الانية للشعر، والتي محط اهتمام التلقي المعاصر لتلك اللحظة الشعرية، والتي يتوقف التقابل ما بين الخطاب والقراءة، واذا كانت هناك اخوة ما بين الشعر والفلسفة، فقد تدنى مستواها، ومن ثم عاد بصيغة مختلفة تماما، اذا تغير موقع الأنسان وتلك الهرمية المهمة، وفعلا الفلسفة اتجهت الى موازاة ذلك الشعور في الشعر، فتوجه الان دونو لدراسة نظام التفاهة المزمع، لكن الشعر بالقدر الذي يشعر به بضياع الإنسان، لكن الشعر بدعم جوهر الشاعر وليس واقعه، لكن الفلسفة ليست خطاب دونو او بوردو، بل الفلسفة تلك السيرورة طويلة الامد .

***

محمد يونس محمد

..................

1- ما هي الفلسفة، جيل دولوز، فيلكس غتاري، ترجمة مطاع صفدي، المركز الثقافي العربي، ص 41

للعقيدة البوذية هدف مركزي واحد هو القضاء على المعاناة او (duhkha) في اللغة الهندية القديمة، وبذلك هي تستهدف كل أشكال اللاّقناعة في الحياة والإحباطات والآمال الخائبة وعدم السعادة.

يعتقد البوذي ان تخفيف المعاناة هو المهمة الأساسية في الحياة، وان معظم معاناتنا تبرز من عدم وجود تطابق جوهري بين رؤيتنا للواقع والواقع نفسه. لذلك، فان المسار لإنهاء المعاناة يكمن في مواجهة وتصحيح عقائدنا الزائفة حول العالم. يرى بوذا ان احدى أبرز حالات سوء التصوّر الضارة حول الواقع هي فكرتنا الملتبسة حول "الذات" self. طبقا لبوذا، لو استطعنا تذليل مفهومنا التقليدي لفكرة الذات وأدركنا ما نحن فيه حقا،سنتمكن من تقليل المعاناة والعيش بحياة أكثر هدوءاً.

اللّاذات Anatman : أنت غير موجود حقا

مفهوم بوذا لعدم وجود الذات يبدو فكرة غريبة، نظرا للإحساس بان الذات هي من أكثر الأشياء المألوفة لنا، لكن هناك الكثير من سوء الفهم لما يعنيه بوذا هنا. في الحقيقة، هناك الكثير من النقاش ضمن البوذية ذاتها حول ما تعنيه مفردة اللاّذات او Anatman، حيث ان أدبا واسعا في الرؤى البوذية الأصلية، يقدم تفسيرات مختلفة وتشعبات (بعضها أكثر تشددا من الاخرى). سنركز في هذا المقال فقط على التعاليم البوذية الأصلية التي وردت في الخطاب Suttas في شريعة بالي pali canon.

اولاً: من المهم فهم السياق التاريخي الذي كان يعمل به بوذا، لأن أعماله كانت كرد فعل للبراهمينية (سلف الهندوسية الحديثة) السائدة في الهند سنة 500 ق.م. ضمن هذا التقليد، كان مفهوم atman او النفس الدائمة او الروح حاسما. وفق مفهوم بوذا للذات، ليس من الضروري للبوذي إنكار تقاليد الناس، هو يركز خصيصا على المفهوم البراهميني للذات، الذي يستلزم جوهرا دائما لها. هذا قد يجعلنا نتأمل بالفكرة المسيحية للروح اكثر من فكرتنا اليومية للذات، لكن الرؤية البوذية لها تداعيات هامة على كل منهما.

يعتقد بوذا اننا سواء أسميناها روح أم ذات فان ما يُشار اليه بـ "انا"، "انت"، "هو"، "هي" ليس له استمرارية واقعية: جميع تلك الضمائر المشار اليها لا توجد بالطريقة التي نعتقد بها. الذات المستمرة – او "انت" في الاسبوع الماضي وفي يوم امس واليوم هي فقط تقليد او تبسيط مُخترع، طريقة ملائمة للإشارة لما هو في الواقع مجموعة من العمليات المعقدة والدائمة التغيير.

لو تأملنا بهذا نجد اننا نتغير كل ثانية طوال اليوم . أفكارنا، رغباتنا، أمزجتنا، ذكرياتنا،شعر رؤوسنا، الأظافر في أصابعنا، الخلايا في أجسامنا – كلها في تدفق دائم. لننظر في كومة من الرمل. كلمة "كومة" هي طريقة بسيطة للاشارة لحقيقة ان هناك آلاف الحبات من الرمل مكدسة الى بعضها. لو أخذنا حبات الرمل الانفرادية سوف لن يبقى شيء. الـ "كومة" هي فقط طريقة مختصرة للقول ان آلاف الذرات من الرمل التصقت مع بعضها.

نفس الشيء بالنسبة للذات، طبقا لبوذا، نحن نستعمل أسماءً انفرادية ونلفظ "انا"، "انت"، "هو"، "هي"،"هم"، ونحن ربما نعتقد اننا باستعمالنا هذه الكلمات نشير لوجودات فردية مستمرة. لكن الناس ليسوا وجودات فردية مستمرة، نحن مركب من كيانات متغيرة باستمرار. كما في كومة الرمل، نحن ليس أكثر من مجموع أجزاءنا المتغيرة. الكتاب البوذي الشهير الذي يوضح هذا التفكير هو (أسئلة الملك ميليندا) "هو في الحقيقة لم يرد ضمن شريعة بالي الأصلية لكنه يُعتبر بنفس أهمية ذلك المرجع"، الذي يناقش فيه الملك مع الحكيم ناجاسينا اسئلة حول ما الذي يجعل من العربة عربة:

"هل هو العمود؟العجلات؟الاطار؟الحبال،الدواليب؟ الجواب كلا ليس في أي من تلك.

"هل ان جميع تلك الأجزاء هي التي تشكل العربة؟ الجواب ايضا كلا"

"هل هناك أي شيء خارج تلك الأجزاء تشكل العربة؟" الجواب كلا

"وهكذا نستطيع اكتشاف ان لا عربة هناك. العربة هي مجرد صوت فارغ".

ويستمر ناجاسينا في توضيح انه مثلما لا تضيف العربة أي شيء لأجزائها، كذلك الذات لا شيء – لا شيء اضافي يُضاف لجميع أجزائنا. الذات هي فقط قصة مريحة،إشارة موجزة للعديد من الأجزاء المختلفة المكونة لنا. وجودها يرتكز على الفكرة وليس على مادة واقعية مستمرة. وهكذا يوجد الناس بالمعنى التقليدي: نحن لسنا كما نظن حول أنفسنا كمعنى نهائي. عندما نشير للافراد، نحن في الحقيقة نشير لكتل كبيرة من العمليات المتفاعلة محصورة ضمن أجزاء جسم معين. اسمك ببساطة هو طريقة مختزلة لتجميع آلاف العمليات الدائمة التغيير، التي هي ذاتها مصنوعة من آلاف العمليات الأصغر، وهكذا.

في الحقيقة، أشبه كثيراً بالصورة العلمية لجسيمات ما دون الذرة في العالم، يعتقد البوذيون، انه في الأصل، كل شيء صُنع من قطع منفردة من الدارما dharma (المبادئ الاساسية للكون) – مثل الذرات، لكن مع عنصر ضئيل من الوقت ايضا. قطع ضئيلة من الكون في زمن واقعي، تكونت بطرق مختلفة.

هناك الكثير من الادب البوذي يصنف هذه الشظايا من الأحداث ليصف بالضبط  الكيفية التي تصنعنا بها وكيف نتفاعل مع كل شيء. الرؤية البوذية الاساسية هي ان مجموع هذه القطع الضئيلة من الكون ليست أكبر من أجزائها: "انت" لست اكثر من مركب من افكار متغيرة، رغبات، عمليات، وذرات تصنعك مؤقتا.

انت لا تشعر بتصوراتك ومشاعرك، انما انت تصوراتك ومشاعرك.

يقول بوذا ان كل هذا ليس للتقليل من شأننا ولكن للاشارة الى خدعة نلعبها على انفسنا – حيلة ترسّخ رؤية معيبة للواقع، وبهذا تسبب لنا المعاناة. لأنه حتى لو نعترف اننا دائما نتغير فيزيقيا،نحن لانزال نتشبث بقوة بنسخة "ذهنية"للذات المستمرة. نحن ربما نعتقد ان هذه الذات الذهنية كنوع من الملاّح لأفعالنا، او الراعي لما فينا من منولوج داخلي – وهذا المنولوج الداخلي يمكن ان يكون مقنعا جدا في جعلنا نعتقد انه نوع من الوجود المستمر(انظر على سبيل المثال كوجيتو ديكارت:انا افكر لذا انا موجود). لكن الرؤية البوذية هي ان هذه الذات الذهنية "المستمرة" تنشأ فقط عندما نفكر – انها فعل، وليست اسما. تماما مثلما الرقص لايوجد عندما لا يرقص احد، كذلك الذات توجد فقط عندما يفكر احد او يشعر. هذه النقطة ايضا جرى عرضها بالتفصيل في التفكير الفلسفي الغربي من جانب فيلسوف القرن الثامن عشر ديفد هيوم. يكتب هيوم مفكرا حول تياره الخاص من الوعي:

"بالنسبة لي، عندما أدخل بقوة الى ما اسميه ذاتي، انا دائما في حالة تصوّر معين او آخر، حرارة ام برودة، ضوء او ظلال، حب او كراهية، ألم ام متعة. انا لن أمسك نفسي ابدا في أي وقت بدون تصور، ولا أستطيع ابدا ملاحظة أي شيء سوى التصور".

بكلمة اخرى، كل ما نجده عندما نفكر كثيرا بأنفسنا هو باقة من الافكار والتصورات: نحن لا نستطيع ابدا استعمال "انا" مالم تكن مرتبطة بما يطابقها من اريد/افكر/اشعر. النتيجة هي انه، بينما توجد الافكار والمشاعر، لا وجود هناك مكان لـ "انا" – لا وجود لذات منفصلة – تتعامل مع تلك الافكار والمشاعر. الفرد هو ببساطة تلك الافكار والمشاعر الدائمة التغيير. انت حزين في لحظة وسعيد في اخرى. ويستمر هيوم ليستنتج ان الناس هم .... "لاشيء سوى مجموعة او باقة من مختلف التصورات وفي حركة وتدفق دائمين".

ومع ان الافتراض هو ان هيوم توصّل الى رؤاه بشكل مستقل تماما، لكن البحث الأخير لبروفيسور الفلسفة اليسون جوبنك Alison Gopink يشير الى ان هيوم ربما تأثر بالفسفة البوذية. في الحقيقة، بوذا وصل الى نفس هذه الاستنتاجات قبل 2000 سنة مضت: الذات هي وهم ترسّخ بفعل بناء لغتنا. النقطة الرئيسية هي كالتالي: مع اننا نحاول فرض قصة مستمرة ومعنى على "ذاتنا"، فان تلك القصص هي تقاليد وروايات مبسطة بشكل محبط : في الواقع، نحن حزم معقدة من التغيير الدائم. ما يجعلنا مستمرين مع الناس عندما كنا بسن العاشرة هو ليس "ذات" ثابتة وانما سلسلة معينة من الاسباب والنتائج. نحن نخطيء في ذكرياتنا الناقصة والمتغيرة باستمرار لهذه السلسلة من حيث الجوهر، فيبرز اصطلاح "الذات".

لماذا الذات مؤلمة؟

استجابة لهذا التحليل، نحن ربما نقول، حسنا – ما هو الأذى؟ حتى لو كانت الذات لا شيء أكثر من مجموع أجزائها الدائمة التغيير، وشبكة معقدة من الأسباب والنتائج، أليس من السهل القول "انا تعبان" بدلا من القول "الشعور الحالي الناتج من آلاف العمليات الدائمة التغيير هو تعب؟". بعض البوذيين ربما يوافقون لدرجة ما بان: الاشارة للذات يمكن ان تكون احيانا مريحة. لكن هناك حجم كبير من الادب يناقش هذه المسألة، ويجب ملاحظة ان هناك بعض المدارس البوذية لاتوافق على الفكرة بان الاشارة الى الذات هي مثمرة. لو نحن نتبع التعاليم البوذية الأصلية كما وردت في شريعة بالي، ربما نقول ان هناك أذى قليل نسبيا في استعمال تقليد الذات كمختصر للآلاف الأجزاء المتفاعلة المكونة لك – خاصة اذا كانت تساعد في تحسين تلك الأجزاء بطرق تقلل من المعاناة (مثلا عندما اتناول طعام صحي سأنفع عدد كبير من الأجزاء).

لكن – وهنا تتفق جميع المدارس البوذية – نحن يجب ان نتذكر بان المنفعة من هذه الذات التقليدية الخيالية هي محدودة، وفي الحقيقة تصبح ضارة جدا بسرعة لو قبلنا بها بجدية أكبر. لو نحن نبدأ بالاعتقاد ان الذات هي واقعية حقا – كنوع من جواهر مستقلة ومستمرة مضادة للتقليدية الخيالية – فان الخطر هو انها تشجعنا للنظر الى كل شيء من خلال عدستها: نحن نشعر مرتبطون بإحكام لهذه الذات التي تصبح الشيء الأكثر أهمية في الكون.

اذاً نحن نحكم على الواقع فقط بالكيفية التي يؤثر بها على هذه الذات الخيالية،والذي يقودنا لتطوير نفور وارتباطات معينة: "انا أحب هذا ولا أحب ذلك"، "انا أريد الكثير من هذا والقليل من ذلك"، "انا أحب هذا وأرغب ان يكون محتوى"،"انا أكره هذا ومتى ما حدث  يجتاحني الخوف والقلق".

نحن نصبح عبيدا عبر الذات الخيالية، عبر متطلبات المنولوج الداخلي المتغير باستمرار. مثلما الثقب الأسود يحني الزمكان ليحتجز الضوء، كذلك وهم الذات يحني الواقع و يحبس افكارنا ومشاعرنا وتجاربنا في ايغو(الانا). وبما ان العالم في الأساس عابر ونادرا ما يتطابق مع الآمال والرغبات التي نضعها فيه – الاشياء السيئة تحدث، والاشياء الجيدة تنتهي دائما-  طالما نحن نستمر في رؤية الواقع من خلال عدسة الايغو المضلل، و نستمر في محاولة الحصول على اشياء بطريقة غير مريحة نتصور ان الذات تريدها، وطالما نستعمل نماذج ذهنية معيبة كعكازات ونفهم ما نحن فيه حقا، فنحن انما نؤسس معاناة دائمة.

أخطار الهوية

أذى آخر يأتي من النظرة الى الذات كشيء واقعي، وجوهر مستقل هو انها تشجعنا لننسب صفات معينة لها. بكلمة اخرى، نحن نبدأ نتشبث بهويات معينة. نصبح ملتصقين بطرق معينة من التفكير حول انفسنا – بكلا المظهرين الايجابي والسلبي – وهذا يقود الى معاناة حقيقية.

انظر في الجملة "انا فاشل" ماذا تعني؟ أي أجزاء منك فشلت بها؟ شعر الجلد؟ جهازك الهظمي؟ مقدرتك على العد؟ او انظر الجملة "انا متشائم"- ألم تشعر بمزيج من أفكار مفعمة بالأمل؟ هل مزاحك متشائم؟ لماذا تختار فقط الافكار المتشائمة التي تشكل فقط فقاعة صغيرة من بين مركب وجودي لا حدود له، معتبرا ذلك تفكير صائب للذات، وتتجاهل التدفق الكبير والمتنوع للوجود؟

الرؤى الايجابية للذات يمكن ان تكون شريرة ايضا. بوذا يطرح تصورا قويا: تصوّر لو كان هناك سكين ملطخ بالعسل. في البدء، طعم السكين حلو لكنه حالا سيسبب لك أذى خطيرا. وهكذا مع الاحساس الإيجابي بالهوية،يجادل بوذا اننا ربما نجد متعة واقعية وسعادة منها في الأجل القصير- انا رياضي، انا محامي من الطبقة العليا – لكن بسبب قصر الحياة نحن سوف لا نحافظ على هذه الهويات الى الأبد. في يوم ما نستيقظ لنجد اننا لم نعد نتلائم مع ما كنا نعتقد او نرغب ان نكون. العسل اختفى كله ولم يتبقى سوى السكين. البوذية تسعى لإصلاح سوء فهمنا حول الهوية ليس عبر بيان الهوية "الصحيحة" وانما عبر الادّعاء باننا لانمتلك هوية على الاطلاق. افكارنا المتكررة،المشاعر، الآمال،الخوف، الرغبات، الأمزجة، الهواجس، ليس فيها ما يعرّف هويتنا لأنها لا تفعل شيئا.

عندما نرى أنفسنا في عالم مركب وعابر وننظر الى انفسنا كحزمة دائمة التغيير، يعني اننا نعرف بان جميع الهويات مضللة ، وسنحرر أنفسنا من وهم الذات. عبر تحرير انفسنا من الجاذبية المشوهة للذات، نحن نرى اننا فقط مثل أي شيء آخر وليس اكثر أهمية من أي شيء آخر: كل شيء في الحقيقة يصبح موضع اهتمامنا وليس فقط الجزء الصغير المشوه للنفس الوهمية.

كيف نطبق اللّاذات على الحياة اليومية؟

الصورة البوذية للواقع بعيدة جدا عن رؤيتنا اليومية للعالم: كل شيء غير دائم، مركب،والذات غير موجودة في الواقع. عندما نمارس حياتنا نحن لاتتوفر لدينا هذه الحقائق في مقدمة أذهاننا. نحن قد نتفق معها في لحظات من التفكير لكن اذا كنا نأكل رقائق الذرة او نشكر زميلا، نحن يُحتمل ان لا نعتقد ان "الحياة عابرة والذات وهم".

بدلا من ذلك،عندما نتنقل او نخرج مع اصدقاء لنا، ننظر للعالم من خلال عدسة الذات، و الرغبة، والارتباط  فان الذات قد تعود وتلعب دورا هاما. لذا، ما مدى اهمية التعاليم البوذية في انكار الذات في القضاء على المعاناة؟ كيف تساعدنا في التعامل مع الإجهاد اثناء العمل؟ الإحباط تجاه السياسة؟ صعوبات ومشاكل العلاقات؟ الباحث والاستاذ البوذي نيكولاس بومارتو Nicolas Bommarito يقترح في كتابه (الرؤية بوضوح) والذي يُعتبر من افضل الكتب في الفلسفة البوذية بان احدى الطرق التي يمكن ان تلعب بها االبوذية دورا هنا هي في مساعدتنا في الاعتراف بان الحياة اليومية ليست كشيء زائف او غير مهم وانما كتقليد: شكل من الحياة محكوم بقواعد معينة وقيود نحن نشارك بها، ولكن مصيرها لسنا مرتبطين به كليا. وهكذا، نحن يمكننا النظر الى العالم من خلال عدسة الذات لأجل الراحة في العمل وفي المجتمع، لكننا لا نحتاج ان نكون ملتصقين بتلك العدسة.

في مثال على ذلك، بوماريتو يسألنا ان نعتبر انفسنا في متحف، فما هو وعينا الذاتي حول ماذا نشبه: "هنا انت في بناية ممتلئة بالفن الرائع وانت لا تستطيع حقا التمتع به لأنك منغمس جدا في صورتك الذاتية". كونك منغمس بفكرتك عن الذات، انت غير منخرط في العالم وتخسر تجارب ثمينة. الحل الذي  يذكّرنا به بوماريتو هو استدعاء الواقع وبالتالي افراغ الذات. ادراك ليس فقط فكري وانما بصري بانك مركب،علائقي، وغير دائم يمكن ان يساعد في اذابة هذه الحواجز والسماح لك بالانخراط التام مع العالم. بالتاكيد انها تجعلك أقل اثارة تجاه التصفيق لكنها تقطع جذور العادات الذهنية التي هي مؤلمة ومسببة للعزلة: اللّاامان، الفشل، افكار حول ما يُفترض ان تسير عليه حياتك، كل هذه تصبح منكشفة كخطأ عميق. العيش طبقا لهوية عابرة،مكانة، ارتباط سوف يجلب فقط اللاقناعة حسب بوذا، كونك حريصا على التدفق سيجلب لك السلام.

***

حاتم حميد محسن

......................

Philosophy/break, April 2023

كلما جاء المعنى في الإسلام كونيّاً، أخذ يتحلل من الجُذور التي تشده إلى الوراء. وقد بانت الفروق الفاصلة بين مفهومٍ وآخر، وأتخيل أنَّ تصورات الإسلام حول ما هو كوني في الحياة أمر بالغ الحساسيةٍ تجاه الماضي كله. المفارقة أنَّ المعنى يرمي إلى التجاوز لا إلى الثبات، إلى الأكثر تنوُعاً لا إلى الأقرب انغلاقاً. والإسلام ريثما يُقرر الأبعاد الكونية فيه، لابد أنْ يتحرر– بنفسه- مما يجذبه إلى محدودية الواقع. ولاسيما أنَّ الكون كتصور وكفكرة يتطلب كلَّ ما ليس مطروحاً لدى الخاص والعرضي. فلا يُوجد في عرف البشر مفهوم ديني يعترف للآخر بكل اختلافاته وما يناسبها من حياةٍ في الوقت عينه.

كونية المعنى

مشكلة المسلمين أنَّهم حصروا الدين الإسلامي داخل أفكار محلية تركت بصماتها المشوهة على النصوص المؤسِسّة (القرآن والسنة)، ومازال الاسلام حبيساً لهذه (التأويلات البيئية environmental interpretations) القائمة على العادات والتقاليد الأقل تطوراً. وهي تقاليد انتجت الإرهاب ودعمت استعمال النصوص لاستباحة وجود الآخرين والنيل منهم ورسخت أنظمةً سياسية مستبدة وحولّت الإنسان إلى كائن هش ملتوٍ على ذاته (كالديدان)، أقصى آماله أنَّ يحيا ويأكل القوت حتى يبلغ الموت، ولا يتطلع إلى الإندماج في حركة العالم وتياراته الثقافية.

وخطورة ذلك أنَّ مفاهيم الاسلام (الإيمان والحياة والآخر والوطن والحياة والحرب والسلم والحقيقة والموت) ظلت مفاهيم ملوثة بآثار المذاهب والصراعات الفكرية على خلفيات التوظيف السياسي للدين والتزييف التاريخي للوعي. ولكمْ تمَّ تصوير القرآن تاريخياً كأنه " دستور حرب" لا علاقة له بالتسامح ولا العفو ولا الاندماج داخل الحضارات الكونية. وغاب التصور الإنساني عن العالم الذي يسمح بالاختلاف والتنوع. وهذا تأويل يتماشي مع لاهوت الحروب القديمة، تلك التي كانت إفرازاً لجماعات التأويلية ودوائر انتاج الكلام فيها.

لقد ظلّ القرآن مرهوناً بتأويلات لا تخرج من حيز المكان والزمان، مما قلّص طاقة النص الديني ونطاقه الدلالي إزاء الإنسانية الفسيحة بما يتوافق مع غاية الإسلام. وبخاصة أنَّ النص القرآني ينتمي إلى مساحة أفعال الكلام speech acts، وهي التي- فيما يقول جون سيرل- تهدف إلى التأثير (المباشر أو غير المباشر) فيمن يستمع وكيف يمارس ما تطرحه اللغة في الواقع[1].

وتاريخياً أهمل المسلمون البعد الكوني في المفاهيم الدينية، رغم أنها من صلبها الدلالي والوظيفيٍ. وربما أن أبرز ما يميز الاسلام عن سواه من الأديان أنه ينطوي على (حَدْس كوني) يخص الإنسان. بخلاف اليهودية والمسيحية اللتين اختصتا بأناس معينين في إطار ثقافة وموروثات ابراهيمية، وهي موروثات حملت عادات المجتمعات وقيودها البيئية.

في كل ما يقول الإسلام عن الآخر (المتنوع، المختلف، المغاير، النقيض) وبخاصة عبر القرآن توجد خلاله (بذرة كونية رحيمة) على الدوام. والمقصود بها هو مخاطبة الإنسان ككائن يستحق معالم الإنسانية وحقوقها لذاته. بينما الممارسة المذهبية والفقهية نتيجة الاستغراق في التأويلات البيئية تهبط بالاسلام من تلك المكانة وتجعله سلاحاً أيديولوجياً ليس إلاَّ. وهذه ليست مجرد حالة عابرة، بل كارثة تحل على مفاهيم الدين والإيمان والاعتقاد إجمالاً ولا سيما لافي عصور الانحطاط، حتى تحولت مناهج القول الكلامي- برأي فخر الدين الرازي- إلى جدال وتناقضات تخالف الغايات الروحية والإنسانية الكبرى[2].

الرحمة تنتمي إلى البذرة الكونية، لعلَّها تنمو شجرة وتستوي على سوقها ثم تظلل آفاق الإنسانية في المسلمين قبل الآخر. وهذا المعنى ليس تكملةً تأتي عرضاً كلما اتفق، بل من صلب الإسلام. ويمكن القول بأن الرحمة إبرز طُرق الانفتاح على العالم المختلف. فلئن كانت الأديان تجد نفسها في مفترق طُرق بفضل البيئات الثقافية وصعوبة الانخراط مع تطورات التاريخ، فالرحمة رؤية كلية ذات طابع إنساني بالمقام الأولى لتحقيق هذا التجاوز. هي دعوة مفتوحة للإنخراط في كل ما يتصل بالعوالم والحيوات المختلفة.

وفي المجتمعات المعاصرة، تعد الرحمة لغة عالمية بموجب أن الصورة الطبيعية والثقافية للإنسان قد تحققت فيها إلى أبعد نقطة، فهي تعود عليه بدرجة من العمومية التي لا تتوقف على شيءٍ معين. فكل رحمة لا تستحق اسمها كما هي في الاسلام دون تلك النبرة الجامعة وقد تفقد وجودها بمجرد حدوث شيء يناقض هذه الكونية الإنسانية والروحية.

وأتصور أنَّ فكرة الرحمة لم يأخذ بها بعضُ فقهاء الإسلام تاريخياً لعدة أسبابٍ، وهي أسباب تعود إلى درجات الوعي بالجوانب الفلسفية للرحمة. كما أنَّه نظراً لعدم تأسيس الفقه على النقد الذاتي والمعرفة الإنسانية ومناهجها المتقدمة، فقد يرى منطلقاته ونتائجه صحية تمام الصحة:

1- تحول الفقه من فقه يهتم بالإنسان إلى فقه صراعي يشتغل على الغرائز الحسية والرغبات والكراهية والنزعات العدائية.

2- ارتباط الفقيه بالسياسي في تاريخ الإسلام، إذ لم يكُّن الفقيه مفكراً ولا مُلماً بالمعارف والعلوم الإنسانية، لكنه ظل خادماً للتوجُهات السياسية. وحرصت الساسية على الإحتفاظ به في تلك الخانة.

3- كان الفقيه بمثابة الموقَّع (اسمياً) عن رب العالمين بتعبير ابن القيم الجوزية، كأنّه يتحدث بلسان السماء دون أي إنسان آخر. مما خلع عليه هالةً من القداسة لم تسمح له ببذل الرحمة في المُطلق بحكم محدودية آفاقه.

4- وجود التأويلات العنيفة لخدمة الجهاد والصدام الحدي بين الثقافات، وكأنَّ الاسلام مجرد (طرف حربي لا غير)، يذود عنه الفقهاء ورجال الدين بالنصوص واحتكار المفاهيم والتصورات، حارمين أنفسهم من تطورات الحياة ومن التنوع الخلاق لكل المجتمعات.

5- اختفاء التوجُهات العقلانية التي تخاطب إنسانيتنا الكونية المشتركة (كما يقول ديكارت العقل هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس) . وهي بطبيعتها توجُهات ذات صلاحية خارج وجودنا المحدود.

6- انتشار ثقافة العنف والتنظيمات الإرهابية التي تركت آثارها على النصوص ومحاولة اخراج تأويلات قاتلة للدين نفسه قبل أن تصل لما هو كوني. والوصول إلى ما هو كوني تحت عنوان أرض الحرب في مقابل أرض السلام. وكأن ثقافة العنف بإسم الإسلام تقطع الطريق على الإسلام ذاته!!

7- اللُّهاث السياسي- من قبل الأنظمة والدول- على إمتلاك النصوص المؤسسة للإسلام، فالمجتمعات العربية تنخرط في صراع محموم للاستحواذ على القرآن مصحفاً ونصّاً وتفسيراً وتأويلاً وتوظيفاً وقراءة وطباعة. حتى غدا لدى المسلمين ما هو رسمي وما هو غير رسمي من الإسلام.

8- الحرص على نشر مفاهيم (العبودية والتذلل) باسم الله للحاكم وأصجاب الصولجان، أو العكس التذلل لله باسم الحاكم على إعتبار أنه ولي الأمر. وهذا ما يلغي الرحمة من حيث هي مستوى من الرأفة والتعاطف والاعتراف بلا سلطة ولا قهر. أنْ ترحم يعني أن تكون مدفُوعاً برغبة كونيةٍ على ممارسة الرحمة دون انتظار آثار لدى الآخر.

والسؤال: هل يمكن إلغاء تلك الأشياء من مفهوم الرحمة أم أنه مفهوم مغاير؟! في الحقيقة تعد الرحمة مفهوماً مغايراً من زاويته الكونية كما نوهت. ولذلك كان القرآن دقيقاً عندما استعمل ألفاظاً لا تلوي على عنفٍ، وأنه قد أسند دلالة الرحمة إلى الله ذاتاً مطلقاً وتوحيداً بلا أدنى تصور آخر. لأنَّه بتلك العملية قد رفع من المعاني ما قد يضُر إنسانياً بالرحمة. لأن العنصر الإنساني الذي يجب أن يتعامل مع الرحمة كتعامل الله معها قد يحوّل الرحمة إلى قسوةٍ. وقد يحدث ذلك ما لم يعِ الإنسان مساحة القسوة التي تضر بنفسه قبل سواه. والوعي ها هنا في غاية الأهمية لكيلا يُصبح مرهوناً بما يقيده ويعتبره مبرراً لعوامل القصور من جهةٍ. ومن جهةٍ أخرى، إذا كان الذي يستحق الرحمة هو الباذل لها على الأصالة، فمن باب أولى أن تكون عامة على الجميع.

إن الإله أراد أن يضرب مثالاً بذاته كي يقترب الإنسان منها وإن كان لا يستطيع على وجه القطع. لكنها مثال قابل للمعرفة ويظل مثالاً بارزاً للمسير نحوه في كل الأحوال، إنَّ الرحمة الإلهية مسيرةٌ لا تتوقف نحو العطاء. المبرر أن الرحمة من جنس المفاهيم التي لا يألفها البشر. فنحن نبذل شيئاً من أجل الحصول على شيء ولو نفسياً، ولكن الرحمة تمارس تعميماً من نوع جديد. وعدم الألفة لا يعني التعجيز، ولكنه يعبر عن الجانب غير المفكر فيه لدى الإنسان. وكأن عدم الألفة تقول دوماً: لماذا لا نفكر بطريقةٍ أخرى؟ وبأي أسلوبٍ تقلّب ما نُؤمن به لصالح مستوى آخر أكثر عموميةً باستمرار؟ ومن ثمَّ، فالرحمة تحمل المفاجأة المذهلة حتى لمن يقوم بها. فهذا من دواعي المغامرة ومن دواعي البذل والشغف بالمزيد منها. ولذلك تشتغل الرحمة على ما يعجز عنه البشر أحياناً، حتى يصبح إنجازُه لها قادراً على تعويض كل عجز ممكن.

وتقتضي كونية المعنى في الاسلام فتح آفاق المسلمين على أنْ يكونوا مؤهلين لممارسة دور (الإنسان الكوني)، فما لم يوجد المعنى بهذا العمق، لن يفهم مسلم واحد: كيف يخرج من محددات المفاهيم إلى نوع مغاير منها؟ وفي ذلك الاتجاه، لم يمر المسلمون في كل مراحلهم بهذا اللون من البشر.

أولاً: (المسلم الفرد)، حيث ظهر هناك في بداية نزول الرسالة تبعاً للإختلاط بالمجتمع المحيط، والقضية البارزة كانت تأكيد وتدعيم الدعوة بصورة فردية. وكانت الأولوية معطَّاة لترسيخ فكرة الإسلام تمشياً مع المرحلة الأولى من المجتمع. وظهر تأكيد متواصل على الدين قبل الفرد وعلى الاعتقاد قبل الإنسان، مع أن نماذج المسلمين الأوائل قد فهموا الفحوى من ذلك ولم يتركوا الجانب الإنساني، وظهرت في بعض الممارسات العامة تجاه غير المسلمين.

ثانياً: (المسلم الداعية)، وهو المسؤول عن نشر الدعوة وممارستها في جوانب المجتمع المكي والمدني. وذلك النموذج قد ظهر مع تعقد الحياة وتداخل الثقافات، فاقتضت حركة الإسلام نحو الكون لأن يبدو الداعية أسلوباً بشرياً تجاه الآخر. وهذا النموذج كانت له سماته الخاصة. وربما هذا النموذج من أخطر نماذج المسلمين لكونه قد استمر طويلاً حتى اللحظة وأخذ أشكالاً متنوعة في مجالات المعرفة والتعليم والثقافة والإقتصاد.

ثالثاً: (المسلم السياسي)، وهو الذي انشغل سياسياً بإقامة دولة الاسلام في الحضر والممالك والإمصار، وقد أخذت الدولتان العباسية والأموية في تدعيم هذا النمط البشري الذي يدافع عن الدولة ويسيس القضايا لصالح السلطة الحاكمة. وهو الحشود التي تتنادي لدعم القضايا والدفاع عن الإسلام وهو ذاته الحشود التي تزظفها الأنظمة لغير إرادة الإسلام الكوني.

رابعاً: (المسلم السياسي المؤدلج)، وهو نموذج قديم كان موجوداً في الدولة الفاطمية من حيث قيامها على فكرة اللاهوت السياسي الشيعي. وربما هي الدولة التي تجسدت فيها الإيديولوجيا كحركة وإيقاع للواقع والحكم وطرائق التعبير عن رؤى العالم والحياة.

خامساً: (الملسم الحركي المؤدلّج)، وهو ما ظهرَ مع الجماعات الاسلامية والأذرع الحركية التي تنفذ عملياتها على الأرض. وهي تعتبر نفسها الجانب الكوني من الإسلام وتختصر الإسلام في كيانها.

سادساً: (المسلم المنكفئ على ذاته)، وهو الغارق في تصوراته الجزئية والتي التهمت وعيه وطرائق تفكيره ونمط عيشه. ولقد كان ذلك رد فعل و نتيجة ممارسات الأنظمة السياسية الموظفة للدين ونتيجة تحول الإسلام إلى وسيلةٍ للتربح كما لدى الدعاة والفقهاء ورجال السياسة في عصر لا يمتلكون مفاتيحه وتطوراته الحضارية.

كل تلك الأنماط السابقة فشلت فشلاً ذريعاً في أنْ تواكب مفهوم (إنسان الرحمة) بكل معالمه الثقافة والمعرفية والحضارية والدينية. وهو الإنسان القائم بدلالة الرحمة وممارساتها بحسب الفهم الكوني لوجود الإنسانية الراهنة في التاريخ والحضارة مع كل عصر. وبجانب ذلك لم يتطور الجانب الإنساني في المسلم، حتى يواكب طاقات المفاهيم الكونية الخاصة بالاسلام.

ولندقق سنجد أنَّ مفهوم الرحمة أكبر مما يستوعبه مسلم بهذا النمط أو ذاك، لأنها تخص كل العالم، وهذا المعنى هو ما يتعثر المسلم المعاصر في دروبه الواسعة والوعرة، فهو مسلم لم يخترج نمطاً من العيش المعاصر يلائم ما يمتلك من مفاهيم. ولم يخترع مفاهيم كونية تلائم وجوده المنطوي على مفارقة التأسيس والإنطلاق.

ولذلك فالمسلم الكوني هو إنسان في المقام الأول، ويجب على الفكر الإسلامي أن يناقش قضايا هذا الإنسان ويشرّع لوجوده ويطرح أفكاراً تخصه تحديداً، لأن المستقبل ينتظره في نقطة بعيدة عن كل ما مضى. إن المسلم الكوني ما لم ينمو ويتطور عبر الحياة، فلن يعود قادراً على مواكبه الإسلام قبل غيره، ولن يواصل وجوده الحيوي في العالم.

إنَّ مفهوم الرحمة يشد كيان المسلمين من الأمام لا الخلف، من الأبعد لا الأقرب. وهذا هو الفارق بين قدرة الإنسان على التجاوز والتفكير بصورة جديدة. وغياب المسلم الكوني مشكلته في عدم القدرة على نحت أسلوب داخل التراث الإسلامي يخص هذا الجانب الأوسع. ولو نظرنا- من باب التوضيح- إلى فكر محي الدين بن عربي لوجدناه يردد أصداء هذا الإنسان الكوني بكل سلالةٍ وبلاغة فكرٍ لا بلاغة لفظٍ وحسب. وكذلك فلسفة جلال الدين الرومي حيث يتكلم عن الإنسان والحياة والموت والحب والآخر بلغة كونيةٍ تقطر صفاءً ونقاءً. ولعلَّ ذلك ما يجعل التصوف دون غيره من مجالات الفكر الإسلامي سابقاً نحو فكر جديد، حتى وإن نظر إليه البعض نظرة قاصرة. إن التصوف الكوني من تلك الزاوية - وكل تصوف أصيل لا يخول من نبرة كونية- قد نحت مفاهيم بإمكانها أن تمتد الرحمة إلى كامل عروق الحياة.

وبخلاف ذلك، سنجد نمط الحياة التي يشرعها المسلمون لغيرهم من البشر لم تكُّن على مستوى التوقعات الكونية. وهذا مجال أكثر تعقيداً، لأنّه مرتبط بشق طرق أخرى للحياة، وأنْ تخطو نحو الأكثر تطوراً على الصعيد الكوني. علماً بأن تراكم الحيوات الإنسانية يجعل المهمة شاقة، ويفترض أنْ يبدع المسلمون في تجديد واقعهم وتقديم بدائل كونية جاذبة.

***

د. سامي عبد العال

.......................

[1]- John R. Searle, Expression and Meaning, Studies in the Theory of Speech Acts , (New York ; Cambridge University Press 1979) ,PP30-33.

[2]-Tariq Jaffer, Rāzī: Master of Qurʾānic Interpretation and Theological Reasoning, (New York and Oxford: Oxford University Press 2015) , PP 40-41.

(لو كانت هناك حياة أخرى لوددت أن أكون طيراً، أجتاز الخلود محلقاً غير قلق من أن أضل الطريق، أملك آمالاً متوهجة في الشرق وعشاً دافئاً في الجنوب، ألاحق مغيب الشمس غرباً وأثير أريجاً صوب الشمال)... سان ماو 

(يأتي الضوء أكثر إشراقًا من الشرق، ويكون لون الغربان المضطربة أكثر حدة على الأذن).. ثيودور روثكي

***

في مارس من عام 2014 اطلعت على دراسة مهمة للأكاديمي الإسباني هيثم أميرا فرنانديز، نشرها في الموقع الرسمي لمعهد Elcano Royal في موضوع: (الدين والتدين في عالم عربي متغير: تداعيات اجتماعية وسياسية). استحضر الكاتب فرنانديز، التآكل المتدرج للحركات الإسلامية عقب الربيع العربي، الذي أسقط بعض الديكتاتوريات، وأعاد بوصلة التقطيع السياسي المتحكم في السلطة إلى مدارك جديدة، لازالت تداعياتها ترخي بظلال الشكوك والتوجس إلى الآن؟.

وأورد الأكاديمي الإسباني، في ذات السياق، مواطن وخلفيات تلك الشكوك، مستنتجا أنه بعد إجراء الانتخابات ووصول الأحزاب الإسلامية إلى السلطة في سياق الاستقطاب الاجتماعي المتزايد والصعوبات الاقتصادية، تحول الاهتمام الدولي إلى خوف من احتمال ظهور أنظمة دينية استبدادية، أو من تطرف قطاعات الإسلاميين بعد ذلك، يتم إزالته من السلطة، مركزا على النفوذ المتصاعد والنشاط الإسلامي، مع ظهور أشكال غير تقليدية والتآكل التدريجي للتسلسلات الهرمية المركزية، وكيف يمكن أن يؤثر ذلك على العمليات السياسية.

يثير هذا التوجه حسب نظري، قلقا متزايدا للنخب الغربية، من هذا الصعود المباغت، وانتقالها من مجرد أدوات رصد وقطيعة، إلى عامل أساس في بنية التأثير والبروبجندا التي رافقت أجهزتها الاستخباراتية ومراكزها في كل مراحل صنع القرارات المرافقة لحالات الثورات واختلافها من بلد لآخر.

وهذا ما أكده المفكر السوري برهان غليون، الذي اكتوى بنيران تفتيت النخب السورية قبل قيامتها، في كتابه (عطب الذات)، مفككا ظروف وملابسات تقديم الشعوب كضحايا في محارق الحرب الداخلية، وانتشارها داخل بنية المجتمع في علاقة بمنظومة التدين وفوارقها العميقة ..

ومع أن الباحثين في الضفة الأخرى، يؤمنون بأن البناء الاجتماعي والسياسي للحركات الدينية في العالم العربي، تقوم أساسا على مذهبية الحركات التكتونية، مقتنعين تماما أنه لا يمكن حتى الآن إلقاء نظرة على عواقبها في حجمها الكامل، على اعتبار أن الدين والتدين يلعبان أدوارا مركزية في صيرورة الحياة ومآلاتها. لهذا السبب، فإنهم يدعون إلى ضرورة التكيف مع المبادئ التوجيهية الإيديولوجية والسلوكية التي وضعها الإسلاميون أنفسهم من أجل توجيهها وفقا لاحتياجاتهم في العالم المحيط بهم، وبإتاحة تقنيات المعلومات والاتصالات الجديدة حدوث هذه التحولات بسرعة كبيرة وبدرجة متزايدة من التعقيد.

هناك توجه عقلاني آخر، يمثله المفكر الفرنسي إدغار موران، يلامس جوهر إدراك مفهوم التغيير في نسق الغضب العربي، أو ما يصطلح عليه ب "ثورات الربيع العربي"، وعلاقة ذلك بمسألة الدين والتدين، عندما سئل: هل الثورات العربية، بالنسبة لكم، هي أحد المؤشرات على أن اللامتوقع يمكن أن يصبح متوقعا؟

أجاب، أن "الربيع العربي يمثل يقظة ابتدائية ستخصب المستقبل"، وأنه "حركة سلمية شديدة الأهمية". مشيرا إلى "أن أغلب أحزاب اليسار عانت من اضطهاد الأنظمة الديكتاتورية، مما أفقدها، غالبا، التواصل مع الشعب. والإسلاميون حافظوا على هذا التواصل؛ وهذا ما جعل الناس يصوتون لصالحهم. هذا لا ينتقص من أهمية الحدث."

لكن حكمته التي سارت بتواردها الركبان، إضافته الجديرة بالتأمل والقائلة، أن "التفكير في الظاهرة كدودة القز التي تغلق على نفسها في شرنقة لتتحول إلى فراشة. إنها تدمر نفسها كلية لتصير كائنا آخر". مضيفا أنه "في تاريخ البشرية يبدو العالم طافحا بالتحولات. لا يحصل التحول الجديد إلا على مستوى الكوكب كله. ستتغير مجموع العلاقات والتنظيمات؛ ومن غير الممكن اليوم توقع الشكل الذي سيظهر به مجتمع العالم هذا. لقد تخليت عن فكرة الثورة لسببين".

والأجمل أنه يرى أن "الأول يتمثل في هدف القطع النهائي مع فكرة "إلغاء الماضي كلية". مشددا على أننا بحاجة إلى كل ثقافات الماضي، وكل مكاسب فكر الماضي. إذ إن فكرة التحول تتضمن نفي نفس الوقت، القطيعة والاستمرار". أما الثاني "فيهدف إلى تجاوز فكرة كون الثورة أكثر أصالة منها عنيفة. أحيانا لا يمكن تفادي العنف، لكن من الخطأ التفكير بكونه مشروعا وضروريا ؛ لأنه يستدعي عنفا آخر".

هذا المفهوم البديل لقراءة النصوص من الداخل، يشكل حافزا للمؤرخ والأنثروبولوجي والروائي والسوسيولوجي، من أجل التمرن على فرادة تدوير المعلومات والوثوق بصحتها، والتعامل معها .. وهذا هو الأهم بنظري؟.

فالغرب ونخبه، ما انفكت تطيح بكل مشروع تغييري أو إصلاحي قادم من الشرق أو بلاد العرب خاصة، مادامت رؤيته له، حبيسة الحماية والاحتقار التصنيفي وإثارة النعرات .

ما بين الرؤيتين سالفتي الذكر، أطروحة هيثم أميرا فرنانديز، ونظرية إدغار موران، يمكن وضع مجموعة من علامات الاستدراك والتساؤل:

أولها، هل تفرض هنا مركزية النظرة الغربية للعرب والمسلمين، مشاكل وإشكاليات التآويل والقراءات المبطنة التي تحبل بها الرؤى النقدانية الغربية عبر قطائع زمنية طويلة وممتدة؟

ثانيها، لماذا تلتبس علينا فكرة الحياد الثقافي في قراءاتنا للمتون الغربية، كلما ارتجعنا فواجعنا وندوبنا الثاوية؟

ثالثها، ما مدى تأثير هذه الرؤى في علاقاتنا بالغرب ونخبه؟ وحدود هذه العلاقات وامتداداتها في النسيج السياسي والتثاقفي والاقتصادي والمالي ..إلخ.

رابعها، كيف نعيد تجسيد العبور إلى الذات، عبر هذه التداوليات والقطائع، باستقلالية وحيادية وانتقال للأفضل؟ ..

هذه بعض من تخمينات ومرائي حدسية، يمكن أن تساعد القارئ المتأمل على إعادة كتابة الحقيقة، كما يستشعرها، انطلاقا من وقوفه البين على أهم مشاهد انحسار الفهم وانغلاق مفازاته، بين النفور من الاقتراب من (الغرب) كحضارة وثقافة وإنسان، بالكلية، لا بالتقطيع والسديمية وسوء الانطباع ..

***

د مصطَفَى غَلْمَان

كان المفكر الدانيماركي كيركيجارد - وهو عادة ما يُطلق عليه أول فيلسوف وجودي- كاتبا نهما. فيتغنشتاين وصفه باعتباره أكثر المفكرين عمقا في القرن التاسع عشر، والعديد من أعماله امتلأت بالتعابير والرؤى الثريّة التي تناولت نطاقا واسعا من مختلف الموضوعات.

احدى أهم الموضوعات البارزة في عمل كيجارد هو نقده للإنفصال الفكري "rational detachment" الذي مورس من جانب التقليد الفلسفي السائد في الفترة السابقة له، وتوضيحه للكيفية التي فشلت بها هذه الممارسة في تزويدنا برؤية لموضوعات هامة مثل معنى الحياة.

كيركيجارد استهدف خصيصا الفيلسوف المعاصر له الألماني هيجل الذي اعتبرهُ استمراراً لذلك التقليد في محاولة الكتابة من "رؤية من لا مكان" – محاولا ان يكون منفصلا وموضوعيا، بينما لم يكن لدى هيجل أي ادّعاء بالكتابة حول اي شيء من منظور انساني منفرد وخاص.

رؤية كيجارد هي، ان محاولة التجريد عن ذاتيتنا، ستفقد الفلسفة فيها قوة التحرك وسوف لن تكون ملائمة لنا. التوضيحات العلمية للواقع، هي جيدة لكن ماذا عن تجربتنا الحقيقية المُعاشة؟ ماذا يعمل الانفصال الفكري لنا عندما نكافح لإيجاد معنى وهدف – شيء نعيش لأجله؟ كيركيجارد يرى اننا لا نريد فقط أوصافا، ولا نريد فقط توضيحات، وانما نريد أسبابا للنزول من السرير في الصباح، ونحن سوف لا نجد هذه الأسباب عبر محو الـ "انا" الذاتية من صورتنا للعالم.

وكما كتب كيركيجارد في مذكراته عام 1835:

"ما أحتاج اليه حقا هو ان أكون واضحا حول ما يجب ان أعمل، وليس حول ما يجب ان أعرف، الاّ بقدر ما يجب ان تسبق المعرفة كل فعل ... الشيء الأساسي هو ان أجد الحقيقة التي هي حقيقة لي، أن أجد الفكرة التي لأجلها أرغب ان أعيش وأموت".

حتى لو امتلكنا معرفة موضوعية كلية عن الكون، يرى كيركيجارد، تلك لن تخبرنا حول ما يجب ان نفعل او كيف يجب ان نعيش حياتنا القصيرة والمحدودة. النتيجة من معظم أعمال كيجارد هو انه، عبر تجريد الذاتية من العالم، نحن نجرد المعنى منه . اذا أردنا ايجاد اسباب لنعيش، فان المحافظة على منظور الشخص الاول (التحدث بصيغة الضمير انا او نحن عن انفسنا، افكارنا، تجاربنا) هو الشيء الأساسي.

السؤال، اذاً، هو ليس "ما معنى الحياة؟" بل السؤال هو "ما معنى الحياة لي؟".

يرى كيركيجارد ان الجواب لكل واحد منا، يجب ان يستلزم نوعا من "القفز" وراء الانفصال الفكري. بالنسبة له خصيصا، تلك كانت قفزة نحو الايمان الديني، لكن الفلاسفة الوجوديين اللاحقين بنوا على الرؤى الاولى لكيركيجارد في تقديم أجوبة أكثر علمانية.

تأثير كيركيجارد على الوجودية

في اتّباعهم لكيركيجارد، يعتقد معظم الفلاسفة الوجوديين بانه، بينما التوضيحات العلمية تعطينا معرفة واقعية ومفيدة حول العالم، لكن هذا الانفصال الفكري "الموضوعي" لا يساعدنا في فهم تجربتنا الحقيقية المُعاشة او هو في الحقيقة لايساعدنا كيف يجب ان نعيش، لأن تجاهل منظور الشخص الاول يخيّب الآمال في العالم ويجرّده من المعنى. بكلمة اخرى، اذا كنا نعتمد فقط على الانفصال الفكري للعلوم، نحن سوف لا نحل مشكلة العدمية، لأننا نريد معرفة ماذا يعني الوجود لنا. وكما كتب الفيلسوف الفرنسي البرت كامو:

"من الشرعي والضروري التساؤل ما اذا كان للحياة معنى". وان تأكيد كيركيجارد على منظور الشخص الاول هو الذي يمكّن الوجودية من التحقيق بهكذا معنى. انها تعطي وتطرح الاساس المفاهيمي لايجاد حلول لمشكلة العدمية التي لايستطيع العلم والفلسفة التقليدية تقديمها نتيجة لإستخدامهم للانفصال الفكري "الموضوعي".

فردريك نيتشة، مثلا، مع انه من غير المحتمل قرأ كيركيجارد مباشرة، لكن يُعتقد انه كان مطّلعا على افكاره من خلال ما كُتب عنه، حيث طرح نقدا مشابها بالضد من الانفصال الفكري – بانه لا يمكن ان يزودنا بالمعنى. وبعد الإعلان عن موت الإله، يجسد نيتشة شخصية الانسان الخارق بدلا من العلم كمصدر بديل للمعنى والقيمة.

فلاسفة القرن العشرين ادموند هسرل و مارتن هايدجر، أسّسا في تلك الأثناء مفاهيما جديدة للتجربة في فهمهم الفيمونولوجي للواقع، فكانت النتيجة ان اثّروا بعمق على اتجاهات صناعة المعنى لسارتر وسيمون دي بوفوار واستجابة كامو للعبثية، وذلك عبر تشجيعنا لغرس روح القبول الشجاع، بينما يقترح توماس ناجل اننا نتعامل مع موقفنا الوجودي بروح من المرح بدلا من اليأس.

ختاما، ونظرا لتأثيرها البعيد المدى، يبقى السؤال هو كيف سننظر للتحليلات الاولى لكيركيجارد؟ هل ان التوضيحات العلمية للواقع قادرة على تزويدنا بأسباب للنهوض من السرير في الصباح؟ ام اننا نتفق مع كيركيجارد بان مثل هذه الأسباب يجب ان تأتي من الذات؟.

***

حاتم حميد محسن

تُمثِّل الروابطُ الاجتماعية بين الأفرادِ هياكلَ مَعرفيةً تَستمِد مشروعيةَ حُضُورِها الفِكْري مِن سُلطة الظواهر الثقافية، وتَستمِد شرعيةَ وُجُودِها العملي مِن هُوِيَّة الفِعْل الاجتماعي الذي يَتِمُّ تكريسُه على أرض الواقع سَبَبًا وغايةً . وبُنيةُ المُجتمعِ الوظيفيةُ التي تَتَكَوَّن مِن الحُضُورِ الفِكري والوُجُودِ العملي لا تَمتاز بالكثافة اللغوية الرَّمزية فَحَسْب، بَلْ أيضًا تَمتاز بِسُيولةِ المعاني الشُّعورية المُستمدة مِن صَيرورة التاريخ، بِوَصْفِه وَعْيًا مُتَجَدِّدًا بِتَحَوُّلات شخصية الفرد الإنسانية زمنيًّا ومكانيًّا . وإذا كانَ الزَّمَنُ هو فلسفةَ مصادرِ المعرفة، فَإنَّ المَكَانَ هو كَينونةُ الحياةِ الواقعية، وهذا الارتباطُ الوثيق بين الشُّعور والوَعْي مِن جِهَةٍ، وبين المعرفة والواقع مِن جِهَة أُخْرَى، يُجسِّد جَوْهَرَ البناءِ الاجتماعي في مَساراتِ التاريخ المُتشابكة معَ إفرازات البيئة معنويًّا وماديًّا، ويُؤَسِّس التَّجريةَ النَّقْدِيَّةَ في الأحداث اليومية فرديًّا وجماعيًّا، ويَستعيد مَركزيةَ الوَعْي الحضاري مِن أشكال الغِيَاب التي تتكاثر في الأنظمةِ الفِكرية، والمعاييرِ الأخلاقية، والأنماطِ السُّلوكية، والنماذجِ الاستهلاكية، مِمَّا يُؤَدِّي إلى تَكريس الحقائق الاجتماعية كزوايا رُؤية للأنساق الثقافية، فَيُصبح المُجتمعُ تَوظيفًا مُستمرًّا للثقافةِ، لَيْسَ بِوَصْفِها إجراءً رُوتينيًّا، بَلْ بِوَصْفِهَا إعادةَ اكتشافٍ للإنسان بكلِّ إنجازاته المكشوفة، وأحلامِه المكبوتة، وتُصبح الثقافةُ تأويلًا دائمًا للمُجتمع، لَيْسَ بِوَصْفِه تَجَمُّعًا سُكَّانيًّا، بَلْ بِوَصْفِه إعادةَ اكتشاف للحياةِ بكلِّ تفاصيلِها العميقة، وأسرارِها الدقيقة . وكُلَّمَا تَعَمَّقَت الصِّلَةُ بَين المُجتمعِ والثقافةِ، تَجَذَّرَت العلاقةُ بين مَركزيةِ الوَعْي ومَصدريةِ المَعرفة، لأنَّ الوَعْيَ هو الحاملُ لشرعيةِ المُجتمعِ فِكْرًا وسُلوكًا، والمَعرفة هي الرَّافعةُ لوجود الثقافة نَصًّا ورُوحًا .

2

الدافعُ الجَوهري للأفكارِ في المُجتمع مُرتبطٌ بِعُمْقِ الذاكرةِ الجَمْعِيَّةِ في تقاطعاتِ الحياةِ الواقعية معَ الوَعْي والإدراكِ والسُّلوكِ . والذاكرةُ الجَمْعِيَّةُ تَحْمِي التُّرَاثَ الحضاري مِن التَّدمير الذاتي، كَمَا تَحْمِي إنسانيَّةَ الفردِ مِن تَشَظِّي الهُوِيَّاتِ الناتج عن ضغط النظام الاستهلاكي القاسي . ولا يُمكِن للروابط الاجتماعية بين الأفراد أن تَتَجَذَّرَ في السُّلوكِ اليَومي إلا إذا صارَ الفِعْلُ الاجتماعي نَسَقًا عقلانيًّا مُتَّزِنًا ومُتَوَازِنًا بلا أحلامٍ مَكبوتة ولا ذِكرياتٍ مَقموعة، وكُلُّ فِعْلٍ اجتماعي هو ابنٌ شَرْعِي للمَرجعيةِ الثقافية، وكُلُّ نَسَقٍ عَقلاني هو إفرازٌ طبيعي للذاكرة الجَمْعِيَّة . وجُذُورُ الفِعْلِ الاجتماعي ضاربةٌ في تاريخِ الأفكار الذي يُسَاهِم في بناءِ المُجتمع المُتجانِس ثقافيًّا وحضاريًّا وأخلاقيًّا، وتأثيراتُ الذاكرةِ الجَمْعِيَّة مُتغلغلةٌ في مَصادرِ المَعرفةِ التي تُسَاهِم في تأسيس هُوِيَّةِ الفرد كَكِيَان مُتَصَالِحٍ معَ إنسانيته، وقادرٍ على تحقيق مَصلحته . وبَين المُصالحةِ والمَصلحةِ تَتَعَزَّز قُدرةُ الفردِ على تأكيدِ ذَاتِه في اللغةِ، وتَكريسِ وُجوده في الواقع، وهذا يَحْمِي الفردَ مِن الاغترابِ اللغوي والغُربةِ الثقافية، وبذلك تُصبح اللغةُ رمزيًّا وتواصليًّا خريطةَ طَريقٍ تُفْضِي إلى صناعة التجارب الإبداعية شخصيًّا وجماعيًّا، مِمَّا يُؤَدِّي إلى إحداث حالة تَوَازُن بين هُوِيَّةِ الفِعْلِ الاجتماعي وسُلطةِ الظواهر الثقافية. وأيضًا، يُصبح الواقعُ معرفيًّا وماديًّا بُوصلةً تُرشِد تاريخَ الأفكارِ إلى مَركزية الوَعْي الحضاري حِسًّا وحَدْسًا، مِمَّا يُؤَدِّي إلى إحداث حالة استقرار بين الحُضُورِ الفِكري والوُجُودِ العملي .

3

الإشكاليةُ الحقيقيةُ في الروابط الاجتماعية هي اتِّسَاعُ الهُوَّةِ بين الحُضُورِ الفِكري والوُجُودِ العملي، وهذا مَرَدُّه إلى ضَغطِ سُلطة المُجتمع على كَينونة الفَرْد، فَيَبدأ الفردُ في البحث عن ذاته خارج ذاته، وهذا أمرٌ شديد الخُطورة، لأنَّه يَعْنِي أنَّ الفَرْدَ مُقتنِعٌ أنَّه عُنْصُرٌ هامشي، ووُجُوده وَهْمِي، وكَينونته هُلامِيَّة، ولا يَملِك مَسَارَه ومَصِيرَه، لذلك يَبحث عن شرعية وُجوده خارج وُجوده . وإذا سَيْطَرَتْ عُقدةُ الشُّعورِ بالنَّقْصِ على الفرد فإنَّه سَوْفَ يَسعَى إلى عوامل خارجية تَمنحه الكَمَالَ، وتُشعِره بأهمية وُجوده، وجَدْوَى حَيَاته، والعواملُ الخارجيةُ زائلةٌ وَلَيْسَتْ مَجَانِيَّةً، لذلك يُضْطَر الفردُ إلى التفريطِ بِحُرِّيته ومَصلحته ومُستقبله بحثًا عن وُجُود مُؤقَّت في الحاضر، ومَن يَضَع مَصِيرَه في أيدي الآخَرِين فلا بُدَّ أن يَلعَبوا به، ويَمْتَصُّوه حتى الرَّمَق الأخير. ووجودُ الفردِ لا يَتَأسَّس على المصالحِ المُتضاربة، والخِيَاراتِ الثقافية الانتقائية، وإنَّما يَتَأسَّس على مَركزيةِ الوَعْي في حُقول المعرفة، وكيفيةِ تَوظيف إفرازات الذاكرة الجمعية في مراحل التاريخ، وعدم تَحويل اللايقين إلى يقين، وعدم اختراع تناقضات وهمية بين الحياة والحُرِّية . والمُجتمعُ لَيْسَ دوائرَ مُغلَقة، بَلْ هو أنظمة مَفتوحة، وهذا يَعْنِي أنَّ الحُضُورَ الفِكري هُوِيَّةٌ لتجذيرِ الانتماءِ إلى المعرفة كَحَالَةِ خَلاصٍ، وأنَّ الوُجُودَ العملي كِيَانٌ لإزالة الحُدود بين سُلطةِ المُجتمع وكَينونةِ الفَرْد .

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

يتجه الظل لصفات الحركة حسيا ولصفات البقاء والوجد معنويا ليحتل مكانة متباينة في نفوس الناس على اختلاف ثقافاتهم وميولهم الوجدانية لتنعكس على خيالهم وتصوراتهم وإلهامهم ليبدعوا في مجالات كثيرة ثقافية وفنية وأدبية وعلمية وأقيمت على أساس ذلك المعارض الفنية والحركات المسرحية القديمة والحديثة وقيلت في وصفه عشرات القصائد الشعرية وقد لا تخلو رواية من ذكره إلا ما ندر لأننا حين نتأمله سنجده يوائم بشكل ما مزاجنا التأملي ويلازم خيالنا فنجد في مساحات الظل الرمادية أو المعتمة شيء من الوجد وتأمل في الوجود وكأنها صدى لهذا الوجود .

رغم أن الظل كائن متغير تابع بطبيعته فلا وجود له قبل وجود مصدر الضوء ويتكون بحجب الضوء عن منطقة معينة فتتباين شدة الإضاءة بين منطقتين ويكون الضوء والظل.

قد يفتقد الظل مقومات الحياة المادية التي تختص بها جميع الكائنات الحية إلا أن بعده المعنوي يتمتع وبشكل قطعي بمقومات هذه الحياة ورغم انه لا يرى إلا من خلال العين حيث أن مستقبلات الحواس الخاصة عند الإنسان كالسمع والشم والذوق واللمس لم تستطع من إثبات وجوده إلا أن العين انفردت بهذه الوظيفة والمسؤولية والشرف وتميزت بقدرتها على إدراك وجوده وخلق هذا الشعور بالانسجام والاتِّفاق والتفاهم بين الظل والعين كما أشار الى ذلك العالم والفنان الإيطالي ليوراندو دافنتشي صاحب لوحة الموناليزا بقوله:

ـ إن الألوان مصنوعة من ضوء وظل تمثيلا للكيان الإنساني المكون من جسد ونفس.

وقيل:

" الألوان هي شكل الأشياء ولغة الضوء "

واللغة كلام مسموع مثل لغة الكلام ولغة الموسيقى ولغة مرئية مثل لغة الإشارة والإيماء ولغة وجدانية مثل لغة الهوى فقال أمير الشعراء أحمد شوقي:

ـ وتعطلت لغة الكلام وخاطبت عينيَّ في لغة الهوى عيناك.

وهناك أيضا لغة الصمت والحدث الذي تعجز الكلمات عن تبيانه ويُدْرَكُ بالصمت والصمت لغة الفكر ولسان الحكمة وموقد العشق...

ولأن الظل كائن يمتلك مقومات الحياة برمزيته ومفاهيمه الفكرية والشعورية والإيمائية ومستويات عمقه فأن َ الفيلسوف الألماني Gute   حَدَّثَ عن العلاقة والتناسب الإيجابي الطردي بين كم الضوء الساقط وعمق الظل فقال:

" حيث يكون الكثير من الضوء يكون الظل عميقا "

وفي هذا القول الكثير من رقي الحكمة وهو قانون يدخل ويتجسد في مختلف مجالات الحياة والفكر فمثلا يمكن القول على غرار تلك الحكمة:

ـ حيث يكون الغدر يكون الألم عميقا

ـ حيث يكون التفاني يكون العمل

ـ حيث يكون النقاء يكون الإحساس عميقا والظل عمق والعمق من أهم عناصر الإبداع الذي يفوق الوصف وهو أمر بعيد الغور عصي ّ على الفهم وفِطْنَة واستدلال ودرب يسلكه  من رام وتاقَ ورجا  رحلة الكمال لإدراك كنهه وخفاياه .

قالوا:

" إذا وجدت الظل فاعلم أن الضوء أمامك"

وهنا درس آخر في التأمل والنظر الى الأمام صوب الضوء والأمل والسعي والتفاؤل واليقين بأن تقلب الليل يتبعه فجر وجانب مشرق بالتركيز على أول خطوة وتخطيها بالثانية والثالثة لنعيش اللحظة ونمتلك أسرارها ونروض قلوبنا لتتسع للحب و السَخَاء ويتحرك الزمن من خلال سعينا ونقترب من الحقيقة ويكون التيار والعطاء. أما اذا انكسرت النظرات ورضخ الإنسان الى السكون والنظر الى الأرض وفقد القدرة على رفع راسه فسيعيش هذا الكائن ببعد واحد خالٍ من المحتوى والجوهر بلا امل بلا فكر بلا عطاء أو نجده في موقف آخر مغاير ينتابه السأم ليعكس أزمة من أزمات الإنسان والزمان والتي عبر عنها الشاعر المصري صلاح عبد الصبور بقصيدة " الظل والصليب" فيقول: هذا زمن السأم  ويتابع فيقول:

لا عمق للألم

لأنه كالزيت فوق صفحة السأم

لا طعم للندم

لأنهم لا يحملون الوزر إلا لحظة

ثم يستحضر الظل بمضامين إيحائية رمزية فكرية والكثير من السأم الوجودي والرفض فيقول:

أنا الذي أحيا بلا أبعاد

أنا الذي أحيا بلا آماد

أنا الذي أحيا بلا ظل ... بلا صليب

أنا رجعت من بحار الفكر دون فكــر

قابلني الفكر، ولكني رجعت دون فكــر

أنا رجعت من بحار الموت دون موت

حين أتاني الموت لم يجد لدي ما يميته

وعدت دون موت

أبعاد الظل

1 ـ البعد التجسيدي

هو الانسجام بين الضوء والظل فمثلا رسم وجه إنسان كتخطيط سوف يعطينا وجه إنسان ببعدين خالٍ من الحيوية والجاذبية في حين إضافة الضوء والظل سوف تمنحه الحيوية والحياة بأبعاده الثلاث والتجسيد

البعد المعنوي المتمثل بقانون " الجذب الفكري "

وهو الأيمان بأن الطاقة الإيجابية تساعد الإنسان على العطاء والعمل والإبداع والصحة والكسب الصحيح أما الإنسان السلبي فهو كثير التشاؤم قليل الإنتاج يحيطه الملل والإحباط وفقدان الأمل فينعكس هذا السلب على صحته الجسدية والنفسية

2 ـ بعد التلازم والمصاحبة وحمل التناقض:

ملازمة الظل للضوء وبشكل دائم مبني على أساس التلازم والتضاد والتنافر في الاستعارات فالظل نقيض الضوء وهذا التناقض له دلالاته في الحياة كباقي تناقضات هذا العالم التي تمنحه الحركة عبر صراع الأضداد فلكل ضده يقيه أو يعارضه وكل نفس بشرية تحمل ضدها بل تحمل جميع المتناقضات في الكون وتنعكس هذه الرؤية على باقي مجالات الحياة كالأدب وأجناسه ، فقصيدة الشعر التي تحمل مثلا تضادا في المعنى أو في التوقيت والزمن أو في اللون أو في دواعي الوضوح والغموض أو التشبيه بذاك النقيض أو أن يكون التناقض والتضاد في النفس الواحدة كما جاء في أشعار أبي تمام ( نوافر الأضداد) وأشعار المتنبي وكلاهما اعتمد فن التضارب وجمع الأضداد وكلاهما ابدع:

يقول المتنبي:

"أعذب الشعر أكذبه"

والكذب هنا ليس عدم قول الصدق، بل يعني التناقض وخاصية التناقض هي التي تمنح الشعر تلك العذوبة فيقول:

وعقابُ لبنانٍ وكيف بقطعِها

وَهْوَ الشتاءُ وصيفُهنَّ شتاءُ

لبس الثلوجُ بها عليَّ مسالكي

فكأنَّها ببياضها سوداءُ

............

دانٍ بعيدٍ، محبٍّ مبغضٍ، بَهِجٍ

أغرَّ، حلوٍ ممرٍّ، لينٍ شرسِ

3 ـ البعد الديني والعقائدي

العيش في ظل الاله والإيمان به وكل إيمان يصحبه شك وهناك قصة المرأة العجوز التي مرت يوما بالإمام الرازي   وهو في الشارع وكان تلاميذه يمشون وراءه بالعشرات ما يقول كلمة إلا ويكتبوها ، فتعجبت العجوز من هذا الذي وصل إلي هذا المستوي ، فنادت العجوز علي واحد من التلاميذ وقالت يا ” يا بني من هذا ” فغضب .. غضبا شديدا

وقال أما عرفتيه؟ هذا الإمام الرازي الذي عنده ألف وألف دليل علي وجود الله تعالى .

هنا قالت العجوز قولتها العجيبة والشهيرة:

" يا بني لو لم يكن عنده ألف شك وشك ما احتاج لألف دليل ودليل، أفي الله شك؟

فلما بلغ هذا الإمام الرازي قال:

" اللهم إيمانا كإيمان العجائز"

4 ـ بعد الخلود:

ظل الأشياء والكائنات لا تنتهي إلا بموت الأشياء وتأتي هنا فكرة البقاء والخلود للظل فمثلا الشخصيات المؤثرة في التاريخ كالملوك والأنبياء والعلماء والحكام تموت ويبقى ظل اسمها وبصماتها خالدة فمثلا مات غاندي وبقي ظل اسمه في ذاكرة الهنود وكل العالم وكذلك مع جيفارا وهتلر بيكاسو وهكذا،

5 ـ البعد الأسطوري والخرافي:

الظل مقدمة للظلمة التي هي نقيض الضياء وخلق هذا المفهوم بعدا أسطوريا للظل في الوعي الإنساني فصار قرين الغموض والموت والأسرار عبر حضارات مصر وحضارات اليونان القديمة واستخدم مصطلح " ارض الظلال" للإشارة الى العالم الآخر السفلي الذي ينتقل اليه الموتى فعند اليونان كانت ارض الظلال مجمعا للأرواح الشريرة تعاني فيها أنواع العذاب، أما عند المصريين فأرواح الموتى تتجه صوب الغرب حيث تختفي الشمس هناك ويحل الظلام.

وفي العصور الوسطى كان الحكام وهم من طبقة النبلاء يحاكمون خيال النبيل (ظله) كأجراء تحايلي يجنب طبقة النبلاء الأذى الفعلي.

أما طبقة الكهان فظلهم الممدود على الأرض مقدس والخطو عليه خطيئة كبرى تستوجب العقاب حيث أن ظل الكاهن يمثل الامتداد الروحي لجسمه.

6 ـ البعد الفني والرمزي:

الرمز قبل كل شيء ومعنى خفي وإيحاء وانه اللغة التي تبدأ حين تنتهي لغة القصيدة كما يقول الشاعر " أدونيس" وان له القدرة على استفزاز فكر المتلقي وخياله للبحث عن الدلالات وما تخفي السطور.

أما قيمة الظل الفنية فقد ابتدأت بصنع ظلال على نمط حيوانات منذ سخر الإنسان يده وأصابعه وفكره لتتفاعل مع الضوء الساقط وصناعة ظل تشبه بأشكالها بعض الحيوانات لتتطور الفكرة عبر الزمن وتصل الى أفكار أكثر نضجا في مسرح الظل باستخدام الدمى لترسم بمضمونها قصص الصراع الأزلي بين الخير والشر ولتتطور من عروض تسلية الى رسم خطوط وصراع قوى كسلوك أخلاقي تعليمي .

هناك أبعاد أخرى للظل يمكن تعدادها باختصار:

ـ البعد الاجتماعي: العيش في ظل العائلة والمجتمع والحاكم

ـ البعد الاقتصادي: العيش في ظل الأزمات

ـ البعد القانوني والسياسي: العيش في ظل القانون والعيش في ظل الأحزاب

البعد الشخصي: العيش في ظل الأمجاد

إن الفتى من يقول ها أنذا

ليس الفتى من يقول كان أبي

***

الدكتور نجم السراجي

المدير والمؤسس لمجلة ضفاف الدجلتين الأدبية المستقلة 

لندن   31.07.2023

يبدو السؤالُ وارداً إزاء جوهر الرحمة، بعدما عرفنا بأية درجةٍ تطرحها النصوص الأساسية في الاسلام. وليس الجوهر ماهيةً قابلة للتراجع بحسب مركزية المعنى، لكنه حركة وتفضية spacing، أي خلق فضاءات متواصلة ومفتوحة على الدوام. لو تخيلنا الأمرُ أشكالا هندسيةً، فهندسة الرحمة ممتدة، وتتوالد منها صور لا نهائية كما الأشكال دخل مساحات حرةٍ، لا تُعرف بدايتها ولا نهايتها. لأنَّ الغاية هي تغطية كل مشاهد الرؤية وجميع عناصر الوجود. فالإسلام كونياً نوع من المسئولية عن الحياة، والفكر الذي لا يهب الحياة بإطلاق لا يستحق الحياة بأدناها.

الرحمة: وسعٌ بلا حدود

منطقياً، لا توجد هناك مفاهيم من غير حدود، فلكل مفهوم حدودٌ بعينها، تقنن دلالته وتبرز حقله التداولي. غير أنَّ الرحمة في الإسلام تصرُ على كسر منطق المفاهيم. بلغة الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز: إذا كان لكل مفهوم فضاء يتحرك فيه، فالرحمة ذات فضاءات متباينة ومختلفة، ولا تنسجم مع أُطر الاعتقاد الديني بمعناه المعروف. ومن ثمّ، ليس أقل من هدم المنطق التقليدي (دينياً وفكرياً) للتعامل مع المفاهيم التي انتجتها البشرية.

يتدرج مفهوم الرحمة على متصل لا نهائي، يوفر (أبعاداً تأويلية) تتجاوز حدود المفاهيم:

1- قد تبدأ الرحمةُ بحدود التخصيص:" يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ" (البقرة/ 105). ولكن الأمر برمته متروكٌ لله كمنبع ومرجعية للرحمة الخالصة، وفوق ذلك لا يُترك الأمر إطلاقاً في الإسلام لبشر. لأنَّ (التخصيص) طالما كان مجهُولاً، فهو يفيد التعميم والشمول والإحاطة. وطالما أنَّ الله هو الخالق المطلق، فإطلاق المعنى كونياً يتجاوز التخصيص بمدلول الحد أو الحرمان. إن الرحمة معطّاة لكل الناس من واقع كون الإله رحمة لجميع الكائنات فما بالنا بالإنسان!! وهذا يعنى أن (النّفسْ الإلهي) في كل رحمة لا يجعلها حكراً على أُناسٍ بعينهم.

قد تأخذ الرحمة حدَّ التخفيف والعفو:" تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ" (البقرة :/178). ولئن ظن الإنسان أنها مرهونة بغرض تقليل الخطايا والذنوب، فليس المعنى هو المقصود حصراً، ولكن ذلك التخفيف إنما يعني بذل الرحمة بوصفها قادرة على القليل والكثير معاً بصرف النظر عمن يكون متلقيها. وهي علاج يستطيع إنزال الإريحية بمن رأي في نفسه ثقلاً ينوء بوجوده.

3- تأتي الرحمة بحد المغفرة: " كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ " (الأنعام/ 54). وهذا المعنى يهدم حدّ المفهوم وأي حدود أخرى بالضرورة، لكن الكتابة كما مرَّ سابقاً تخص كل فعل صادر عن الله، وأنَّ رحمته من جنس الوجود الإلهي لا مجرد حال ولا مآل. وطالما أنَّ الله قد خطَّ وحدّد لذاته، فجميع الأسوار قابلة للهدم من فورها كما يتصورها البشر.

4-   ترتبط الرحمة بحد الإيمان:" " وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ" (هود / 28). ويبدو المعنى هنا إيماناً بلا موضوعاتٍ معينةٍ، فمن المعروف أن الإيمان العقدي يخضع لقوالب دينية صارمة، ومن المعروف أيضاً أن الإيمان الإيديولوجي تدخل فيه الكراهيات وعوامل التعصب والشحن النفسي. بيد أنَّ الإيمان كرحمةٍ في الآية يفُوق حتى الإيمان الديني الشائع، لقد غدا ايماناً من جنس الرحمة، هو الإيمان الحر free faith وقد اكده الارتباط بمعنى الإله الذي لا ينحاز لبشر ولا يتواطأ مع أية قوة خاصة ولا يقبل استعباداً لأحد.

تتحقق الرحمة بحد الوحي القرآني (الرسالة): " قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ" (يونس: 58). لكن الحد لم يقل شيئاً معيناً، كأنَّه يحُول دون الرحمة، بل وسع الوحي هو الرحمة نفسها. وتدل الكلمة على الفضل الكبير الذي يعم كافة البشر وينتظرهم دون شقاءٍ. والوحي مصدر الغبطة والمسرة بلغة المسيحية لكل ذي مخلوق، والآية تقرر المصدر (الإله) والرحمة (الوحي) والفرح (المتلقي)، إنه الخط الذي يصل القرآن بالإنسانية. إن القرآن بما هو موجّه إلى الإنسان يحتاج إلى ثقافة الرحمة والتعامل بمنطقها مع الآخر، كل آخر.

ترد الرحمة بحد العطاء: " آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً" (الكهف/10). والعطاء ممنون ومتواصل، أي لاممنوع ولا مقطوع، أي العطاء الرحماني بعبارة ابن عربي[1]. ونظراً لأن الرحمة مجهولة الصيغة في الآية، فلتكن كما هي تفيد الكثرة والتعدد والنجاعة والقوة. والعطاء بحكم تعريفة لا مقابل له، وعادة لا ينتظر منْ يعطي أن يأخذ، ولاسيما إذا كان العطاء رحمةً. وذلك لا يعترف بخطوط العطاء والاستمرارية فيه. وهو بذلك يحدو البشر للتشبه بالعطاء من لدن الإله الذي يعطي بلا حسابٍ. والعطاء هو القاعدة التي تستحدث الناس على البذل، لا لأنَّ الآخر يستحق فقط، بل لأنَّ المُعطي هو أهل لذلك بحكم إنسانيته.

تتبلور الرحمة في حدود النعم والهبات: "آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا" (الكهف/ 65). أي تأخذ شكل النعم التي تفتح آفاقاً للإنسان، فيكون ذا قدرات خاصة، والقصد لا يفيد الحصر لكنه أحد اشكال النعمة عندما تتجسد في الواقع. وليس ثمة مجال أوسع من ذلك، لأنَّ مطلق الرحمة تحتاج أنْ تتشكل في صورة بالغة العمق والتنوع بالمثل. وكأن الآية تقول: فلينظر القارئ إلى ماذا تعمل رحمة الله في الإنسان (العبد الصالح في سورة الكهف)؟

تعبر الرحمة عن حد المنّة: " وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ" (القصص: 46). والاشارة لطيفة في كون الحديث عن الرحمة آتياً من مصدرها (الرب)، وهي التي تجعل الأفضلية فيها لذات المصدر، ولذلك يتجاوز المعنى أية حدود بالدرجة التي تفوق إمكانيتها. لأن البشر هم من يضيقون الحدود في كل زمان ومكان، فالأنظمة السياسية والدينية ترسم تقاليد الاعتراف بالآخر. ثم يقوم المجتمع بنسخ الرحمة من نظام مفتوح إلى طريقة للضبط الإجتماعي السياسي.

تعبر الرحمة عن حد الرأفة والرقة والعطف: " رَأْفَةً وَرَحْمَةً" (الحديد/ 27). والرأفة هي بلوغ مرحلة التفهم للوضع والأخذ بيد المرءوف به، لدرجة تجاوز الحدود الموضوعة أمام ذلك. وقرنت الآية الرحمة مع الرأفة، حتى تظل الرأفة مفتوحة ولا تُوضع لها نهاية متوقعة. لأن قوة احتمال المفهوم الخاص بالرأفة تتوقف على القائم بها، بينما طاقة الرحمة هي الوسع والعلم اللانهائيان. فليس الوسع حجماً ولا افتراضاً، لكنه علم وهذا يجعل الرحمة عجيبة التكوين والاستمراراية بقدر وجود المجهول والمعرفة.

تمثل الرحمة الوفرة والفائض غير المحدود: "قُلْلَوْأَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ" (الإسراء:/100). والقرآن يؤكد لانهائية الرحمة إزاء محدودية البشر، وكأنَّ المقارنة لا تعترف بأية حدود. والإفتراض في الأية يفيد الشرط والانفتاح بأثر رجعي وفقاً لكون الرحمة لا تُمتلّك. والإشارة لا تخطئها العين في التعبير عن الرحمة بمصطلح (خزائن رحمة الرب)، فهي أصيلة أصالة المطلق والخلوص التامين، وأن الخزائن جمع يعبر عن الوفرة والنماء والفائض والزيادة. وأنَّ خزائن الرحمة لايمتلكها غير الله، ونسبة الخزائن إلى الرب توضح كونها موهوبةً للبشر.

وسواء أخذت أشكالا مادية أم إنسانية، فالرحمة نوع من الإغداق الإلهي دون حساب. والحث الضمني على إطلاق العنان للرحمة يكسر قيود الشح النفسي والإنساني. فلو كانت الرحمة مطلقة، فأحرى بنا الانفاق بكل تبذير دلالي ومفهومي ممكن. إنَّ إقتصاد الرحمة اقتصاد مفتوح لا ينضب ويفيض بما يكونه باستمرار. ويقر القرآن بهذه اللاحدود: " مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا " (فاطر/ 2). فلا تجدي أية سدود أمام الناس، شريطة أنْ يكونوا جميع الناس.

حد المودّة والرفق والتراحم: " رُحَمَاء بَيْنَهُمْ" (الفتح/ 29). وهذه آثار الرحمة التماساً لمضمونها الأوسع، لأنَّ الأية تقرر كون المؤمنين رحماء، أي يتصفون بالرحمة التي تتسع للجميع وتفيض أيضاً. و (البينية) الواردة ليست على المقاس، كما يُقال في هذه الحالات التي تقبل توزيعاً حيادياً. فالرحمة غير قابلة للتقنين، كما أن الجانب الخفي الرمزي منها أكبر من المادي. وبهذا تعد الرحمة ممارسةً جمعية في صورة نظام للعيش معاً. وتلك هي قضية القضايا السياسية والاجتماعية في المجتمعات متنوعة الأديان والأعراق والثقافات. واطلق القرآن الرحماء على الناس وإنْ كانوا داخل دين معين، لأن الرحمة لا تتجزأ حتى أزاء المخالفين أو أصحاب المواقف النقيضة.

وترجمت الرحمة في الدولة المعاصرة كأطر وآليات للحفاظ على حالة الثراء الثقافي والسياسي. وهو ما تسميه لندا ماير"الدولة الرحيمة " Merciful State، وهي الدولة التي ترى أن سياسات العفو والصفح موقف عقلاني حر، وهي سياسات يمكن تعميمها في إطار الولاء والمسئولية وكذلك تتماشى مع العملية الديمقراطية في المجتمعات[2].

تتجاوز الرحمة حدود الزمن، فقد تكون بمعنى الجنة والفردوس في الآخرة، من ذلك قول القرآن: "أولئك يرجُون رحمةَ الله" (البقرة/: 218). والرجاء قرين الأمل فيما هو قادم، والرجاء يفتح الزمن الإنساني نحو المستقبل. وكلُّ ايمان حُر ينتعش وحده مع الرجاء ومع كل إيمان آخر، وليس بإمكانه أنْ يغلق النوافذ حول نفسه فقط. والرجاء قوة إنسانية لا تُميّز غير الآدميين. ولنلاحظ أنَّ الرجاء نُسِبَ إلى المجموع (أولئك)، لأن كلَّ رجاء يفيدُ- من واقع الرحمة المنتظرة- الآخرين، لا رحمة مع الذات فيما هو آتٍ. ولكن الرحمة خاصة بالآخر، وتلك الفكرة تعلِّق (إن لم تقضِ على) الصراع والتنابذ. وكأنَّ المصير يتشكل بواو الجمع.

ولعلّنا ندقق القول بأن الرحمة بالمعاني السالفة هي المتجاوزة للحدود أصلاً، فلن تكون كذلك من الأهمية سوى بانتهاك كل قاعدة تُوضع للتقليل من الآخرين سواء أكانوا مخالفين أم أغياراً. وربما الحد الذي تستهدفة الرحمة يتماس مع موضوع الحدود في الإسلام. فتطبيق الحدود الشرعية يحمل معاني العقاب وإيقاع أثر المخيف من المصير ذاته بالنسبة لأفراد المجتمع.

بينما تتفلت الرحمةُ من الحدود العقابية، لأنها تشكل عملاً بلا عقابٍ، كما أنها ليست مطروحة من الأساس بهذا القصد. فهي رحمة خالصة وكفى. بل وتبدو منطلقةً للقضاء على الأثر الحاصل من أي خوف ومن أي توجُس. وحتى الأثر الشعوري الحاصل لهاـ فهو أثر حياتي بالوقت عينه. فالعقاب يأتي في المجتمعات من إيقاع الضرر بالآخرين، من إضمار النوايا الخبيثة، ومن استئثار الأنا الجمعي بكل ما يجلب الصراع والكراهية.

ومن هنا تكون (الحدود العقابية) هي الأسوار الخطيرة التي لا يعلوها إنسان دون إيقاع العقاب به، وكذلك إيقاع الخوف بالآخرين. لكن الرحمة تستأصل تلك النوايا المسئولة عن الجرائم وانتهاك الحقوق. ولذلك، فإنَّ وسْع القصاص في الإسلام يعود بالرحمة على المجتمع من جهة السكينة والهدوء والإطمئنان[3]. وهي (الوضعية الرأسية) التي تمكثُ فيها الرحمة من السماء إلى الأرض ويتطلع إليها الناس، وكذلك الرحمة بـ (الوضعية الأفقية) التي تتحدى حدوداً مصطنعة بين البشر باختلاف الأديان والمعتقدات.

كيف تكون الرحمة بلا عنف؟

يضمر المفهوم عنفاً عندما يرتبط بمرجعيةٍ صارمةٍ تمارسُ إكراهاً على الآخر مثل المرجعيات الأيديولوجية والسياسية والدينية. وهي تتميز أول ما تتميز بالقمع، لأن كل مرجعية تمثل (نواة صلبةً) غير قابلة للتفاوض حول نفاذها التام، فما بالنا بآثارها على الآخر؟! والدين في ممارساته التقليدية هو الأقرب إلى تحديد مساحة المفاهيم، من جهة كونها معبرةً عن الأوامر والنواهي الخاصة ليس أكثر.

ومفهوم الرحمة كتعاطف ورأفة وعفو وغفران كان مفهوماً حذراً تجاه المرجعيات الدينية. لماذا لا نقول إن خروجه على كافة المرجعيات والأعراف والتقاليد هو سبب إبطال العنف من الجذور؟ لأنَّ المعنى دالٌّ على كون الرحمة لو وُهبت للإنسان، فشرطها الأول أنْ تصبح بلا إكراهٍ ولا قسْر. هو شرط تأسيسي بوصفها رأفة وعفواً دون مقدمات. ولذلك كانت مفاهيم الرحمة في عالمنا المعاصر اشكالية مع وجود الأنظمة الرأسمالية الديمقراطية حول سؤال القانون والعدالة[4].

وذلك هو ما يجعل (مفهوم الرحمة) بين قوسين على الدوام، لأنَّ الفكرة الخطيرة أنه مفهوم يشتبك مع أنظمة الحكم وتراث الدين السياسي وتراث الفرق والطوائف والمذاهب. وليس هذا وحسب، لكنه مفهوم يكشف كمْ هي تراثات قمعية في صلب الأديان ذاتها، وأنها لم تكن لتؤدِ إلى التنوع والحرية الدينية التي نصَّ عليها الاسلام نصاً صريحاً، طالما هي بعيدة عن جوهر الرحمة بمعناها الإنساني.

الرحمة كما رأينا تتدرج مع الخلْق الذي هو جزء منها مروراً بمعاني الإيمان والنعمة والحياة والإقتصاد (الرزق) وانتهاء بالجنان والثواب في الآخرة. وكل ذلك ليس متوقفاً على شيءٍ قدر توقفه على إرادة إلهية لا تساوم بشراً في منطلقات الرحمة، وهي تبلغ في هذا مرتبة الأسرار الكونية المخبأة في كافة تفاصيل الإسلام.

تمثل الرحمةُ أبلغ درجةٍ من اللاعنف non- violence، فهي حتى تبطل ذاتها وباسمها لو كان ثمة من يراها منّةً أو استحواذاً. والقرآن واضح في هذا الفهم للمسألة: "وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا" (الأسراء/ 28). فهناك مخاطبة حاسمة للنبوة في شخص النبي: أنه لو اعرض عن الآخرين والمخالفين ابتغاء الرحمة (أي باسمها)، فلن تكون غاية الرحمة متاحة من أول وهلة وكأن الله يخضع (في أفعاله) لما يشعر به البشر. وسلوك النبي حين أخذَ شكل الاعراض والأزورار عن الآخرين فإنما يتخذ موقفاً بشرياً خالصاً. ولكن النظرة الإلهية الواسعة انطلاقاً من الرحمة كذات وفكرة كونية أشار بالأية إلى أن ذلك الإعراض بملابساته النفسية والحياتية لا يجب أن يخرج عن الرحمة المتمثلة في القول الميسور اللين (والرحيم).

وتبلغ الرحمة مبلغاً متعالياً، إذ يشكل القول الميسور أمراً إلهياً، والقول نوع من العودة إليها مرة ثانيةً كلما أراد النبي بوضعية البشر الخروج عليها. والأمر موجّه إلى بشرية الإنسان المرتبطة بالجوانب النفسية والغرائز والتفضيلات والأهواء. وهو التمييز الذي تعول عليه كلُّ رحمة خالصة لذاتها دون عنف.

والمعنى ثري إنسانياً، لأن الرحمة حتى في تجسدها العيني تميز بين البشري (الغرائزي) والجانب الإلهي فيها، ولكن الأهم أنَّ الجانب الإلهي يلتقي في النهاية مع الجوانب الإنسانية لدرجة التطابق. والرسالة الإلهية (الوحي) التي هي رحمة لا تتعارض مع الإنسان نفسه كرسالة أنطولوجية لكل الكائنات. ولذلك تبدو التفرقة القرآنية الضمنية فيما بين الكلمات بالغة التأثير في منع القمع باسم الرحمة.

ويتضح التواضع الثقافي أكثر على المكانة الإنسانية للآخر من سواه. فالثقافة تنطوي على عناصر الهيمنة والتسلط والإقصاء، وعندما يقول القرآن إذا كانت ثمة نوازع ثقافية للاعراض عن الآخر، فهذا لا يحول إطلاقاً من إبالغهم مضمون الرحمة التي هي أوسع من الطرفين. وبالتالي سيظل مفهومها نقياً من ترسبات الثقافة الشائعة.

ولتأكيد معنى اللاعنف فأنَّ الإنسان داخل كيان النبوة (أي الإنسان النبي) قد يقول بأن المجتمع يمارس اقصاءً بدوره مع النبي تجاه إنسانه (أي النبي الإنسان)، وبالتالي قد يبرر ذلك بموقف النبي المتجنب لهؤلاء المعارضين لدعوته، غير أنَّ الله لم يعتب على النبي ولا يتحدث بخطاب التبرير انحيازاً لموقفه غير المريح من هؤلاء. لكن ذروة الحياد اللاعنيف: أن يُذَكِّر (هؤلاء وأولئك) بأن ربهم الذي هو أكبر من المجتمع ومن صاحب الدعوة هو صاحب الرحمة الواسعة. "فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ" (الأنعام/ 147). وتلك الغاية ستنقي من فورها أي عنف محتمل سواء من النبي أو من المجتمع.

إذن المبدأ وراء الرحمة كل لا يتجزأ، فما هو ذلك المبدأ؟ أنّ الرحمة معيار وجود إلهي لا يخضع لمقاييس البشر ولا لحدود المجتمعات. وهذا هو السر وراء كونها (الرحمة) لا تتواطئ مع بقايا القمع والإقصاء ولا مع رغبات البشر. وتصل هذه المعيارية أن الله لا يسمح بقانونه الكوني على لّي عنق الرحمة حتى ولو كانت في إطار رسالاته (الأديان).

ومعنى الرحمة الكلية ثري فلسفياً بالمثل، من حيث أنَّ مفهومها يشكل مفارقة دينية religious paradox عصية على الحل إلاَّ بوجود معانٍ عليا ترفع الاحراج المنطقي. دوماً البشر يبررون أفعالهم بشكل تجزيئي برجماتي. وقد لا يمتثلون للمنطق الكوني cosmoc logic وراء المفاهيم الذي هو شرط لكل رحمة وصفح. كما يقول الفيلسوف الفرنسي فلاديمير جانكلفيتش Jankélévitchإنَّ العفو أو الصفح forgiveness يتم بضربة واحدةٍ غير قابلة للتجزئة indivisible ويجري بشكل قاطعٍ، في حركة واحدةٍ غير قابلة للفهم incomprehensible، فالصفح يمحو كل شيء، يكتسح كل شيء، وينسى كل شيء في غمضة عينٍ، الصفح يصنع صفحةً بيضاء من الماضي tabula rasa of the past [5].

ولذلك ستمثل الرحمة نقطة قلقة لدرجة الخلخلة في جميع خطابات الإسلام السياسي والهوس الأيديولوجي لدى التنظيمات الإرهابية. وليس مفهوم الرحمة من تلك الزاوية معترفاً بالإرهاب من الأساس، بل يقف حائلاً دون تكوين الأيديولوجيات الدينية العنيفة. الرحمة بهذه المفارقة تقف كتحصين (كلقاحٍ إنسانيhuman vaccine) ضد الإنغلاق باسم الإله وبأي عنوان آخر. فالفكرة أنَّ المفارقة لا تُحل عقدتُها من أول وهلة، لأن المطلق واللاحدود فيها أعقد من أن تتحملهما الخطابات المؤدلَّجة. فالإنسان والإله أكبر شفرتين في أفق الحياة والتاريخ مع هذه المساحة الشاسعة من الرأفة والعفو.

وإذا كان الفيلسوف المعاصر إيمانويل ليفيناس يرى في الخطابات الميتافيزيقية بذوراً للعنف، نظراً للقمع الحاصل بإسم مفاهيم الوجود والمقدس والإله ونتيجة المصطلحات الأنطولوجية التي تترك ظلالاً من الإقصاء، فإنه يحبذ نوعاً من التعالي نحو المطلق لتذويب العنف ومحو آثاره. هو يؤكد أنَّ عنف المحدود لا ينتهي إلاَّ بالانفتاح على اللامحدود. بلغة القرآن، فإن الاعراض عن الرسالة يتم تذويبه بعملية الوسع التي هي قاعدة الرحمة. يشير القرآنُ بصريح المعنى غير العنيف: "قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً" (هود/ 63)، أي لا داع لنشوب الصراع على شيء لا نملكه ، شيء أعظم من الانهماك في مواقف جزئيةٍ، لأن الله هو الإنفتاح الخاص بالرحمة لدرجة أن إتيانها منه كفيلة بالرجوع إليها في مستواها الكلي دون التمسك بتلابيب الحالات الجزئية حيث تبرز النزاعات والمبررات الواهية التي لا تبلغ تلك المرامي الكبرى.

كل رحمة لون من الانفتاح على وجه الكل لا الجزء. فالانفتاح لا يمكن أن يكون خاصاً وإلاَّ لسقط مرة أخرى في دورة الاستقطاب والعنف. ولذلك كانت الرحمة كاشفة لطبيعة الإنسان الجزئي الذي لا يعيش انفتاحاً بملء الكلمة. يقول القرآن موضحاً: "وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ" (هود / 9). وكأن الرحمة نوع من (تذوق الانفتاح) على الحياة والعالم والتاريخ، وهو ما لخصه القرآن بالاريحية كمعنى كامن وراء التشبع بمذاق الرحمة. ولكن الآية أرادت أن تثبت ذلك بالنقيض (منطق قياس الخُلف)، أي اثبات صحة الحالة المراد تأكيدها باثبات صحة العكس. فالإنسان (وهو المستحق للرحمة) لا يعدو أن يكون دون الإنسان إذا ما سُلبت منه الرحمة ولم يكن على مقدارها. بل قد يتحول فجأة إلى يئوس كفور، في حين إن الرحمة لا تعطي الإنسان مساحة لليأس ولا الكفر والقنوط بلغة الإسلام. والكفر هنا ليس شرطاً بمعناه الميتافيزيقي تجاه الله. أي إعلان إنكار الاله، بل إنكار التسامح والعفو والرأفة بالآخر.

وإذا قلبنا الموضوع على وجهته الصريحة، ستكون الرحمة هي مصدر الفرحة التي يتلقاها الإنسان كما لو لم يتلقاها من قبل: "وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً، فَرِحُوا بِهَا" (الروم/36). ولأنَّ الرحمة حرّةُ الإنفاق والعفو والإحسان، فهي مصدر سعادة بلا ريب. ويا حبذا لو كانت تلك الفرحة لها عمق يواكب مضمون الرحمة. أما لو كانت فرحة نتيجة الشكل العيني للرحمة (مثل النعمة والرزق) ، فهذا أمر دال على كيفية التعامل معها. إن ردود الأفعال على الرحمة قد لا تواكب ثراء فعلها وزخمه المصدري باعتباره من الله. لكن المنّة والإحسان ليسا منطويين على تبذير، حتى تكون الفرحة ظاهرية ولا على إغداق فارغ من محتواه. ولذلك فالرحمة استحضار لمعاني الجُود الإلهي الذي يبرر ذاته بذاته.. رعم إنكار البشر له بين يأس وفرحٍ.

***

د. سامي عبد العال

..............

[1]- محي الدين بن عربي، فصوص الحكم، شرح عبد الرازق الكاشاني، (القاهرة: دار آفاق للنشر والتوزيع، 2016)، ص 64.

[2] - Linda Ross Meyer, The Merciful State, In: Austin Sarat and Nasser Hussain (Editors), Forgiveness, Mercy, and Clemency (Stanford, California: Stanford University Press 2007), PP 85-86.

[3] - إن أمر القصاص نوع من الزجر الذي تحل به الرحمة على المجني عليه وزجر ورادع للجاني عن القسوة ودفع الناس الآخرين لاختيار طريق الرحمة بدلاً من الجرائم والعقاب. راجع: محمد الطاهر بن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، تحقيق محمد الطاهر الميساوي، (عمان: دار النفائس، الطبعة الثانية 2001)، ص ص 516- 518. وكذلك: علي بن محمد الماوردي الأحكام السلطانية، (بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 2004)، ص 443.

[4] - Stephen P. Garvey, As the Gentle Rain from Heaven: Mercy in Capital Sentencing, In: Cornell Law Review- 989, Volume 81, Issue 5 ,Jule 1996, P 995. See also: Bryan Stevenson, Just Mercy: A Story of Justice and Redemption, (New York: Random House, LLC, 2014), P86.

[5]- Vladimir Jankélévitch, Forgiveness, Translated by Andrew Kelley, (Chicago and London: University of Chicago Press, 2005), P 153.

في مقال له عام 1988 حول الفلسفة السياسية بعنوان "السعي وراء المُثل" ينظر الفيلسوف اسحق برلين (1909-1997) بالنزعة الحالية للبحث عن نوع من "الخير المطلق". من خلال ملاحظاته في الاخلاق والسياسة، وجد ان العديد من الناس يسعون لتأسيس مُثل. ما هو الخير؟ ما هو النظام الاخلاقي؟ ما هو المجتمع المثالي؟. يجادل برلين ان هذا الاتجاه هو في الحقيقة مضلل: المُثل غير موجودة. لا توجد هناك طريقة واحدة لقيادة الناس بشكل تام او قيادة حياة عقلانية تامة.(1)

من الخطأ مثلاً تصوّر أوقات تنويرية في تاريخ اوربا – اليونان القديمة، النهضة، التنوير – باعتبارها تمثل مجموعة مشتركة من القيم، تشبه خيطا واحدا من التفكير في الكفاح ضد الجهل. يرى برلين، ان هذه الأزمان التنويرية "البُقع المشرقة للتقدم" جميعها غير منسجمة في الأساس مع بعضها البعض. وبينما نحن ننظر باعجاب للاعمال العظيمة لليونان القديمة، لكننا لا نستطيع مقارنتها مع أعمالنا لأنها كانت نتاجا لمجموعة مختلفة كليا من حيث القيم واللغة والناس.

اذا اردنا فهم نتاجات الثقافات الماضية، نحن لا نستطيع القيام بهذا من خلال عدسة قيمنا الحالية. نحن لا يجب ان نجبر الثقافات الماضية وقولبتها ضمن اشكال من "الدولة الجيدة" مقابل "الدولة السيئة". بدلا من ذلك، نحن يجب ان نعترف بان هناك طرقا متعددة لتنظيم المجتمع وحيث الناس في تلك المجتمعات يعتقدون انهم عموما يعيشون حياة عقلانية.

هذه ليست أخلاقية نسبية، حسب برلين، انها تعددية أخلاقية. هناك عدة طرق مختلفة لنعيش حياة جيدة، الفكرة بان هناك طريقة تامة واحدة للخير هي غير متماسكة. الإعتراف باننا نستطيع تجسيد الكثير من مختلف القيم هو جزء جوهري لما نعنيه بحياة انسانية حرة وعقلانية. اولئك الذين يستسلمون للدوغما ربما يجعلون أنفسهم افضل، لكنهم ليسوا عقلانيين. فكما يقول برلين:

"سعداء اولئك الذين يعيشون تحت نظام يقبلون به بدون سؤال. منْ الذي يطيع بحريته أوامر القادة الروحانيين او الزمنيين، الذين تُقبل كلماتهم كقانون ملزم، او اولئك الذين وصلوا، بطرقهم الخاصة، الى قناعات واضحة لا تهتز حول ماذا يعملون و ماذا يجب ان يكونوا . انا استطيع فقط القول ان اولئك الذين يستلقون على أسرة مريحة من الدوغما هم ضحايا لأشكال من قصر النظر الذاتي، ومضات من الرضا ولكن ليس لفهم ما يجب ان يكون عليه الانسان".

لا وجود لليوتوبيا

انطلاقا من التعددية الأخلاقية، يتبع ذلك ان الطموح لخلق دولة طوباوية مثالية ليس فقط سخيفا وانما مؤذيا. لا وجود هناك لدولة تامة، لا وجود لحل نهائي. لماذا؟ لأن كل جيل انساني يواجه مجموعة جديدة من المشاكل ويستجيب بأنواع جديدة من القيم والحلول. يكتب برلين:

"الأطفال حصلوا على ما اشتاق اليه آبائهم وأجدادهم من حرية اكبر ورفاهية مادية اكبر ومجتمع اكثر عدالة، لكن الامراض القديمة نُسيت، والاطفال يواجهون مشاكل جديدة نجمت بفعل حلول المشاكل القديمة، وهذه، حتى لو كانت حُلّت بدورها، لكنها تولّد مواقفا جديدة ومعها متطلبات جديدة وهكذا الى الأبد وبشكل لا يمكن التنبؤ به".

المجتمع باستمرار يجب ان يتكيف مع التحديات الجديدة طبقا لبرلين. لو دخلنا الى دولة "مثالية" قاسية، نحن لانزال غير مهيئين جيدا للاستجابة لهذه التحديات. "الطوباويات لها قيمها"- "لا شيء يمدد بشكل رائع الآفاق التصورية لإمكانات الانسان – لكنه كمرشد للسلوك يمكنه ان يثبت انه قاتل تماما".

لماذا قاتل؟ كل شخص يخدع نفسه بالتفكير ان هناك نسخة "نهائية" لمجتمع تقود جميع افراده للازدهار– وهو ما لا يقومون به للحصول على مثل هذا الهدف؟ اذا كانت المكافأة هي "كل الناس سيكونون سعداء الى الأبد"، أي فظاعة لايمكن تبريرها للحصول على ذلك؟ رعب القرن العشرين يوفر اجوبة لمثل هذه الأسئلة حسبما يذكر برلين.

وعد بمستقبل مجيد لتبرير حاضر مرعب

يتذكر برلين مقال عام 1848 للراديكالي الروسي الكسندر هيرزون بعنوان (من الشاطئ الآخر)، فيه ينتقد هيرزون اولئك الذين يدعون الى مستقبل مجيد لتبرير حاضر مرعب. هو يكتب:

"اذا كان التقدم هدفا، فلمنْ نحن نعمل؟ هل انتم حقا ترغبون بلوم الناس الأحياء اليوم على الدور المحزن للنصب المنحوتة في قواعد بنايات المسارح للرقص فوقها في يوم ما .. او لعبيد في سفينة بائسة يغوصون الى ركبهم في الوحل، يسحبون قاربا مرددين كلمات متواضعة "التقدم في المستقبل"؟ .. الهدف البعيد الى ما لانهاية هو ليس هدفا، انما فقط خداع، الهدف يجب ان يكون أقرب – او على الأقل اجور العمل او متعة العمل المنجز ...".

برلين يعلق على هذا المقطع بالقول:

"الشيء الوحيد الذي نحن متأكدين منه هو حقيقة التضحية، الموت والميت. لكن المثل الذي لأجله يموتون يبقى غير مدركا. البيض يتكسر، وما يتكسر منه عادة يكبر، لكن صحن البيض يبقى غير مرئي. التضحيات لأهداف قصيرة المدى، والإكراه، ربما تكون مبررة اذا كانت محنة الناس شديدة بما يكفي وتتطلب حقا مثل هذه المقاييس. لكن الهوليكوست كانت لأجل اهداف بعيدة، انها سخرية قاسية بكل ما يعتز به الرجال، الآن وفي كل الأوقات".

كيف يجب ان ننظم المجتمع؟

اذا لم تكن الطريقة طوباوية، فما هي؟ هل نتخلى عن جميع المثاليات؟ هل يجب ان نطمح للكثير؟ يعتقد برلين ان أفضل ما يمكن الكفاح لأجله هو المحافظة على "توازن غير مستقر"، فيه نبني مجتمعا بطرق تساعدنا في ضمان عدم قدرة أي شخص او حزب في السيطرة الكلية على السلطة وفرض رؤيتهم الطوباوية على مواطنيهم.

قد لا تبدو هذه نسخة مثيرة كحالة مثالية، لكن برلين يعتقد انها شرط مسبق لإنتاج مجتمع لائق وسلوك مقبول أخلاقيا. السؤال متروك للقارئ هل يؤمن بالتعددية الأخلاقية وأخطار اليوتوبيا ام انه يؤمن بان الصيغ المثالية توفر زخما للتقدم الانساني؟.

***

حاتم حميد محسن

..................

الهوامش

(1) اسحق برلين فيلسوف ومؤرخ روسي- بريطاني، عُرف بافكاره المدافعة عن الليبرالية والتعددية، ومعارضته الشرسة للتطرف السياسي.

(نعم، يضغط الناس على الزناد – لكن البنادق هي أداة الموت. السيطرة على السلاح ضروري، والتأخير يعني المزيد من الموت).. إليوت سبيتزر

(بكل الوسائل خرق القواعد).. روبرت برينجهيرست

السؤال مخيف حقا. ويستدعي ضبط وتحوير أجهزة مفاهيمية ثقيلة، على الرغم من وجودها الافتراضي اليومي، ضمن العلاقات التواصلية الشاسعة بين المتفاعلين والمؤثرين وخلافهم.

المفهوم الإشكالي ل"الذكاء الاصطناعي"، يتاخم في مدلوله الواقعي والهوياتي، شكل تدبير "إعلام الجمهور" الموسوم بصفات التثقيف والترفيه، متجاوزا بذلك كلاسيكية التواصل المبني على مجال التأثير المجتمعي، وتحولاته التقنية والفنية، وحمولاته السياسية والإيديولوجية والاقتصادية والثقافية وغيرها.

هذا البعد المركب لظاهرة بروز الذكاء الاصطناعي، في باراديجمات الإعلام ووسائط الميديا، يبرر التركيز الأفقي على ثورة العقل الإعلامي وانحيازه الجديد لنسق مغاير ومتناغم واكتشافات المعرفة وحاجيات المجتمع.

يعتني خبراء المجال اليوم، بكيفية إعادة مفهوم الذكاء الاصطناعي، تعريف النهج الحديث لإدارة المحتوى. وبالضبط مشكلة ضبط استخدام الذكاء الاصطناعي في الإدارة المسؤولة لوسائل التواصل الاجتماعي ، معتقدين أن ذلك سيؤثر بشكل عميق في حياة المستخدمين وارتباطاتهم بالرؤى الحديثة لقطاع الإعلام وتأثيراته على الثقافة والوعي.

وعند رصد أدوات الإنتاج التقني والمعلوماتي، على سبيل استدراج بعض مصادر الإعلام وامتداداته في حياة المواطنين، انطلاقا من الأجهزة المستخدمة إلى فضاءات الشوارع والأماكن العمومية، يظهر أن التأثير الملموس والحتمي على المجتمع المعاصر أضحى أكثر تعقيدا، بعد أن شكل الذكاء الاصطناعي عموده الفقري وأحد الأصول الأساسية التي تتحكم في هذا التأثير وتحافظ على وسائل الإعلام .

وزاد من تغول هذا التأثير، الإعلان الرسمي عن تأسيس نموذج  GPT-3، الذي ساهم في التشكيك في وجود نظام قيمي للذكاء الاصطناعي نفسه، الشيء الذي تضمن حدوث فوارق غير طبيعية في قياس هذه الأخلاقيات، ومدى مواءمتها للممارسة الإعلامية والحس النقدي السليم؟.

هناك دعوات ملحة للاحتفاظ بضرورة السيطرة على المحتوى الذي تم إنشاؤه بواسطة الذكاء الاصطناعي. وهذا أمر مستحيل، إن لم نقل معجزة، إذ إن ارتدادات ذلك على وسطاء المحتوى وصناعه، يخالف في التصور العام وجود تباعدات في استعمال خصوصيات الذكاء الاصطناعي، على مستوى السرد الآلي مثلا، وانحساره في بيئة تفاعلية مندمجة بآفاق متعددة، مثل ما يمكن حدوثه في الكتابة والتكنولوجيا والألعاب على وجه خاص.

علاوة على ذلك، يطرح مشكل استلهام نصوص سردية من روايات وقصص رقمية مبتكرة بمساعدة الذكاء الاصطناعي، وتمكين تجزئة الصوت والتجارب التفاعلية والافتراضية متعددة الوسائط بالسبب ذاته، في مرحلة إنتاج المحتوى، (يطرح) تأويل البعد الأخلاقي والقيمي في الإعلام الحديث، وتطبيعه الشاذ والانتقادي لفواعل التطوير وتبرير المحتوى المنظور ، وهو ما يطرح فعلا قدرة الذكاء الاصطناعي على "نمذجة" سلوك الإعلامي ومهاراته وحالته العاطفية. واستتباعا، تفكيك بنية الدال الأخلاقي في أسلوب النشر واختيار التيمات الأكثر تداولا وتفاعلا.

صحيح أنه أصبح انتقال الذكاء الاصطناعي، من تدبير قوة الحضور كأداة لتحقيق محتوى واع بالقيمة والاعتبار، على مستوى وسائل الإعلام الإخبارية، على اعتبار تسهيل التحقق من الوقائع والأحداث المتوصل بها، بالاضافة إلى إمكانيات التحليل والفحص المتقاطع لمصادر المعلومات. لكن بموازاة ذلك، هناك أيضا توتير إبدالات المحتوى، وما تستثمر بإزائها علاقات التقابل بين دوال التزييف والبحث عن الحقيقة، وأيضا تحليل الشبكة الاجتماعية (اكتشاف المعلومات المضللة)، والتوليد الآلي لملخصات إخبارية موثوقة.

ويعتبر هذا النهج المحدد لأدوار وخلفيات الذكاء الاصطناعي، مشتلا لتوجيه ملفات تعريف المستخدم وأنظمة التوصية المدرجة ، والحلول الذكية لتقييم مصداقية المعلومات في الأخبار، والأدوات لتحسين جودة الصحافة التشاركية. وهو ما يسهم في تمكين آليات تجميع الأخبار الآلي مع تلخيصها وإعادة صياغتها بالشكل المطلوب، وجها مركزيا في صناعة الإعلام الإخباري المدعوم بالذكاء الاصطناعي.

إن انتشار المعلومات المضللة والتطرف والكراهية والعنف عبر الإنترنت، يكرس لدى الجمهور وصناعة الأخبار وقطاع التكنولوجيا، نوعا من التصادي مع أخلاقيات العيش المشترك والتلقي الآمن للمعلومات، ينتج عن ذلك كله، صراع وجود وتفكيك خصوصية المجتمعات، واندثار آثار الثقافة والأعراف على قاعدة تاريخ البناء الإنساني والعمراني.

ورغم تشكل معالم فلسفات مفارقة لمؤسسات صحفية تعمل على ابتداع أساليب ومبادئ متفق عليها، تنحو إلى البحث عن الحقيقة والدقة والموضوعية والحياد والتسامح والمسؤولية أمام قرائها ومهتمي الميدان. إلا أن أنظمة احترام الأخلاقيات في الإعلام لازالت تؤمن بمبدأ "إلحاق أقل ضرر"، هروبا أو تدافعا أو قطعا للطريق، وهو ما يبرز كعقبة كأداء لتغول الغامض في فائض "الذكاء الاصطناعي" ومخلفاته التي تعني من ضمن ما تعنيه، تدمير الذات وتشويه صورتها، في مقابل تدوير وجودها كصفة مغلقة وليس كوحدة مستقلة؟

***

د. مصـطَـفَى غَـلْمَان

لنبدأ من سؤال مهم، ونسأل ما هي مقتضيات العقل في مبدأ التفكير؟، واشدد هنا على كلمة – مبدأ – فهناك اصول تعقبها مستحدثات، واصول التفكير الثوابت التي يستند اليها العقل، وينطلق منها لكسب مناطق جديدة، ولن ننكر هناك دوران زمني للتفكير، وهذا الدوران الزمني فيه سبل لإيقافه عند فكرة ملحة، وفي سبل اخرى يتاح للمعرفة بدء النشاط الاستكشافي، ومن ثم يكون دور المعرفة كنشاط تواصل واكتساب، فهي سيرورة الاكتشاف لا تتمحور في مفهوم حتى اذا تبلور بشكل تام، والجدل الذي يقف عنده التفكير يأتي ما بعد ذلك، والعقل في مدار الفكرة ليس هو ذات العقل في مدار الحرية، والمبدأ العقلي اما في الخيار الإنساني، وهنا نؤمن بهذا العقل وافق المثالية، واما يكون في اما في الخيار الفكري، وهذا مهم ايضا حتى في افقه الجدلي، لكن الفلسفة لا تنحدر الى ركن الايديولوجيا والبعد الشخصي، فالفلسفة في افقها الاساس هي اخلاق عليا وترتفع بأفق الإنسان الوجودي، (واكثر الفلسفات تعبيرا عن الطابع الوجودي هي اكثرها حيوية، فقد اتجه الفلاسفة في اغلب الاحيان الى تجاهل حقيقة وجودهم الخاص باعتباره شيئا مستقلا عن قواهم الذهنية)1، وطبيعي هناك فارق ما بين العقل والوعي والذات الشخصية، فالشخصية هي الذات البشرية او الكائن الاجتماعي، والوعي هو النشاط التفكيري، واما العقل فهو السلطة التي تحكم مناحي التفكير المتعددة .

التفكير هو إحدى نعم العقل البشري التي تخفف فينا عناء ذلك التواصل المباشر البياني ومنع أن يكون الإنسان آلة، أو يكون في متاهة تؤدي بزمنه الميلان إلى العدم، فيفقد العقل البشري طاقته التعريفية والتفكيرية ، وصراحة في إطار الفلسفة الموضوعية ترجح لنا عقل أسميناه الكامن وقبالته عقل آخر أسميناه النشيط، والعقل الكامن هو عقل أرسطي فيما العقل النشيط هو عقل أفلاطوني، والعقل الكامن هو غير منتج بل مستهلك، وتلك سمة تاريخية في نمط ونوع هذا العقل، وقد نقف بشكل محايد أكثر حين ننصف أحد أبعاد هذا العقل الكامن، حين تكون هناك مسببات خارجية تمنع نمو هذا العقل وتطور الوعي فيه، وهذا عادة ما يكون في فضاء بدائي غير فعال وغير محفز أيضا، لكن لا نقر بأن ذلك العقل جمعيا على الرغم من  الظروف البدائية التي تحيط به، وكسل ذلك النوع من التفكير واسع تاريخيا، لكن ينعدم مستوى التحديد إلى أقصى الحدود، ولكن ذلك التفكير الكسول نؤمن بوجود ثمة بيئة حاضنة له، والبيئة المغلقة حسب شتراوس منتجة لعقل بدائي1، وهي على عكس البيئة المدنية التي ينمو ويكون فاعل فيها التفكير، وبتعدد نشاط من جهة يحتمل أفق المنطق الصوري في الإدراك، ومن جهة اخرى يكون جدليا في ابعاد نفسية خصوصا، والافق المدني هو بيئة العقل الفاعل والنشيط والمنتج، وهنا اهمية هذا العقل، وجانب الانتاج من جهة اولية يعني تطوير ابعاد الحياة، ومن جهة ثانية يكون بصفة ابداع وتجريب، ومن جهة ثالثة يكون طابع انساني مهما.

من الطبيعي العقل العلمي يفصل بين التفكير المقيد والتفكير النشيط، فالتفكير المفتوح هو علمي ومعرفي وفلسفي، وينتج قيما فكرية حتى المضادة، وكما يرى ابن سينا تثمر قوة الفكر قادرة على إحداث المرض والشفاء منه، وهذا يحيلنا إلى أن العقل النشيط يتمثل بسمة الجدل، والخطاب والواقع هما صفة تأكيد لسمة الجدل، وهي ليست سلبية إلا في التفكير الدائري المتعصب والعدائي، وفكر التجريب هو نتاج العقل النشيط، فيما انعدام التجريب يؤكد لنا بأن هناك عقلا خاملا قانعا بظروفه العامة والخاصة ولا يهتم لتطويرها، والعقل الخامل ممكن وجوده في أفق حضاري، ولا يمكن تحديد وجوده بالأفق المعزول، فأديسون يرى التفكير في العزلة أفضل من الوجود المشترك، وفي تفسير فضاء التفكير يكون الرأي مقبولا، فالضوضاء تشتت التفكير وتمنع تطوره، والتفكير الإدراكي يتصل بالوجود المشترك على عكس التفكير الحر النشاط، والذي يبحث عن نتيجة.

هناك فكرة يطرحها برنارد شو يرى المحاولة عن التوقف عن التفكير لعدة دقائق تنقلب ويكون الفرد محاصرا بالأفكار من جميع الجهات، وهذا ما ينقض صفة فالتفكير المقيد، لكن لا يمتلك منطق عام ضدها، ومن ثم هناك جانب بنيوي، والذي هو فيه مشتركات بين التفكير الخامل والتفكير النشيط، حيث الذاكرة والتاريخ تهدفان إلى تحقيق ذات النتيجة الحتمية، والعقل البشري لديه مؤشرات بلوغ النتيجة في إطار تقييد التفكير فقط، وأما التفكير المفتوح فالفكرة مقبولة نسبيا، فالتفكير النشيط يكون بلا حدود سيوسولوجيا الخيال، وقد تصاعد من الأنا الأدنى إلى الأعلى في حالة اغتراب التفكير وامتناع تقييده وذلك يسهل التفسيرات الرمزية العصيبة، وكذلك نظرية القراءة أيضا هي تمتلك دعما نوعيا لتطوير التفكير في نشاط التعرف أولا، ومن ثم في التجريب، وهذا قد تحقق في الكتابة الأدبية خصوصا ببعد التأثر والتأثير، فجيمس جويس يعترف بأن ما بلغه من إبداع مثير للجدل، بعد التأثر الخالص بطريقة الكتابة من خلال تجريب رودريكن في القرن التاسع عشر، وذلك استثمار لقول جون لوك حيث يرى بأن  العقل تمده القراءة بالتخصيص بلوازم المعرفة، فيما التفكير فيجعلنا نمتلك الافكار التي نقرأ لها،  وبالرغم من نسق  هذا الرأي فلسفيا لكن الفكرة مهمة وجديرة.

لا يمكن قبل التجربة تحديد مهمة العقل، فالعقل مركز جوهري لا يستند على قاعدة ثابتة، وهناك افكار طرحت ازاء تلك الفكرة، لكن كل منها ينطلق من زاوية، وليس هناك اتفاق على إن مركزية العقل تحسب ايديولوجيا بحد ذاتها، والعقل الحرة من يضع الفكرة في ركن نسبي وغير ثابت تماما، فالأفكار ليست تلك الحقائق الملموسة التي نتفق عليها جميعا، فمن المعقول والمنطقي من يعرف نيتشه لا يمكن ان يقول ذلك الفيلسوف شوبنهاور، لكن اذا قرأ افكار نيتشه دون اشارة مباشرة او وحدة دالة عليها، أن يفكر بأنها افكار شوبنهاور، والفارق كبير ما بين المسميات وبين التفكير فيها، وهناك فطنة وجدارة محتملة من خلال الاستمرارية والتجربة، بأن تحيل خطاب غير معنون الى عنوانه، لكن ذلك ليس بقاعدة تجريب واستمرار، بل هو نشاط فطنة ودراية، يمتلك الدقة في تحديد الخطاب، وفي اطار حركية العقل ومركزية الفكرة، فالعقل في استمرارية الحركة ليس يزعزع مركزية الفكرة، واذا كانت تلك المركزية كخطاب دال ومدلول، فالعقل بكل طاقته الحركية  لا يمكن له من اخراج الفكرة من ذلك السكون، فالمعادلة الاقليدية الثابتة في سيرورة التاريخ تبقى في الثبات خلافا لحركية العقل ووظيفته الاعتبارية في المعنى وليس في الثوابت والمسميات واليقين .

في تفسير او تحديد افق اليقين العقلي، فذلك في المجالات التي دخلت في افق التاريخ، وتحولت الى مسميات، فمن المعقول أن نفرق ما بين هيدغر كشخص وبين طروحاته في الاطار العام، لكن عندما نقرأ احد الكتب نكون في وضع بيني، فنحن نحمل اليقين لشخص هيدغر ولا نملك لما نقرأ اليقين المناسب، لكن علينا هنا ايضا تجنب سوء الفهم، الذي يقود الى متاهة، او تعدد افكار من زاوية وجهة نظر واحدة’ ونظم التفكير المتعددة تختلف عن الثوابت الفكرية المحددة، وكما اختلاف الرياضيات عن الأدب او الفنون، والفلسفة هي بحد ذاتها ذلك الفضاء الواسع المترامي، والذي يمكن تحديده الا من خلال ما حدد نفسه، ومن الطبيعي هناك نسب احتمال، ففكرة أن درب التبانة تضم الملايين من النجوم، وهذا اطار الفكرة، والنجوم التي تتجاذب فيما بينها يكون ذلك عبر الاف السنوات الضوئية، ولكن علم الفلك يرى هناك تماسك وانشداد من الجزيئيات، (سيخبرك عالم الفلك ايضا أن الكون، على عكس هدوء سماء الليل ومظهرها شبه الثابت، يموج بنشاط عنيف، فأي نجم عادي يحول ملايين الأطنان من الكتلة الى طاقة في كل ثانية)2، ويكون كل غرام مطلق يعادل الطاقة المنبعثة من قنبلة نووية، وهنا دخلنا في فكرة معقدة ما بين ما نشاهد من الاحتمالات  وما يكون من حقيقة عضوية خارج حدود المستوى البصري ومدار الزمن العضوي .

مثلما هناك احتمالات للفكرة متعددة الوجوه، فالعقل ايضا هناك احتمالات له لكنها تأتي متسلسلة، وليس كما في طبيعة الفكرة واحتمالاتها، فالعقل اولا ينطلق مركز التفكير، والذي هو في اتجاهات فكرية وادبية ومن الجهة الاخرى علمية ومنهجية، والمركز ثابت في ذاته ومتحرك في الافكار، والتفسير العضوي لا يرتبط بالعقل موضوعيا بل في اطار المنطق الصوري، وزاوية وجهة النظر تخلف تلك القاعدة، فهي في الاصول البيانية، الوعاء يختلف عما فيه، فزاوية وجهة النظر هي بحد ذاتها وعاء فارغ، لكن الاستخدام العقلي يجعلها تبدو بصيغة اخرى، وفارق كبير ما بين وعاء فارغ واخر هو مملوء، ولسنا هنا ازاء المقارنة ونضع الفارغ على جهة والمملوء في الجهة الاخ، بل نهدف الى تحقيق ثنائية متناقضة كما ذهب ذلك ديكارت وبرهن على تشكل ثنائي ما بين المظهر والجوهر، وهنا وظيفة العقل تختلف، فلابد من سبل اقناع للبرهان عند ديكارت، ونحن ايضا في تلك نحتاج الى بصيرة عليا في خلق فكرة مقبولة ازاء ثنائية الفارغ والمملوء، فالمملوء نتفق جميعا على أنه كينونة، وهيدغر يرى الفراغ ذلك ليس بعدم، والمنطق العلمي يحيل الى طرد الهواء من ذلك الاناء الفارغ، في حالة وضع اي شيء فيه، والفراغ لا يعني هنا حالة لا نهاية، بل فراغ نسبي يمكن تغييره بيسر، ومن هنا نستبعد الدلالة الفيزيائية، ونضع للدلالة العقلية اهمية اوسع .

***

 محمد يونس محمد

.................

1- العزلة والمجتمع – نيقولاي برديائف – ترجمة فؤاد كامل – دار الشؤون الثقافية – ص 59.

1- بداية اللانهاية – ديفيد دويتش- ترجمة دينا احمد مصطفى – مؤسسة هنداوي - ص12

(أعتقد ببساطة أن جزءًا من الذات أو الروح البشرية لا يخضع لقوانين المكان والزمان)... كارل يونج (1961-1875)

مع نهاية شهر جويلية تمر مائة وثمانية وأربعين سنة على ميلاد عالم النفس كارل جوستاف يونغ و وأربع وثمانون سنة على وفاة استاذه سيغموند فرويد والعلاقة بينهما اكبر من  حصرها في علاقة الأستاذ والتلميذ  فقد تميزت بأشكال من التجاذب والتنافر، والقرب والتباعد والتوافق والاختلاف. هي بالمحصلة علاقة صداقة وحب متوترة وقلقة، جسدت سينمائيا من خلال فيلم طريقة خطرة هو فيلم دراما أمريكي لعام 2011 من إخراج ديفيد كروننبرغ. حيث تدور أحداث الفيلم بين زيورخ وفيينا عشية الحرب العالمية الأولى، ويستند الفيلم في مشاهده إلى العلاقات المضطربة بين الطبيب النفسي كارل غوستاف يونغ ومعلمه سيغموند فرويد.

كان سيغموند فرويد وكارل يونغ من اهم علماء النفس في القرن العشرين كلاهما وضع منهجا لدراسة وعلاج الامراض النفسية الأول هو مؤسس مدرسة التحليل النفسي  من أصل نمساوي تخصص في علم الأعصاب اشتغل على فكرة اللاشعور واعتبره حقيقة علمية مؤكدا على ان الحفر والنبش في العقد والمكبوتات اللاشعورية من خلال منهج التحليل النفسي شرط لابد منه لعلاج المرضى نفسيا. ولد سيغموند فرويد في 6 مايو 1856. كان والده تاجر صوف وذو عقل حاد وروح دعابة جيدة. كانت والدته امرأة نشطة ومفعمة بالحيوية، وكانت الزوجة الثانية لوالد سيغموند ويصغر زوجها بعشرين عامًا. كانت تبلغ من العمر 21 عامًا عندما أنجبت طفلها الأول، سيغموند فرويد  اما الثاني فقد ولد في سويسرا وبصفته طبيبًا نفسيًا وعالمًا نفسيًا أسس مدرسة التحليل أو علم النفس العميق ولد في 26 يوليو 1875 في بلدة صغيرة على الساحل السويسري لبحيرة كونستانس، كيسويل، حيث كان والده قسًا بروتستانتيًا. و بعد أن درس كلاهما الطب، اختاروا تخصصات مختلفة، يونغ للطب النفسي وفرويد لطب الأعصاب، على الرغم من فارق السن حوالي 19 سنة، التقيا شخصيًا في عام 1907 كان لديهما اختلافات كبيرة في تاريخ حياتهما. بينما جاء فرويد من عائلة فقيرة وعمل بجد لإعالة أطفاله الستة، جاء يونغ من عائلة ثرية سمحت له بالعيش دون هموم. وفي شهر ماي 1908، اعترف سيغموند فرويد لكارل أبراهام بأنه "فقط من خلال ظهور يونغ على الساحة، نجا التحليل النفسي من خطر التحول إلى علاقة قومية يهودية".

ويقال إن الفترة الأكثر تعقيدًا للعلاقة الخاصة بين فرويد ويونغ كانت حوالي عام 1912. حيث حاول فرويد دحض نظريات يونغ بطريقة ما، كما فعل مع نظريات تلميذه  أدلر . كانت هذه بداية واضحة للجدل بينهما حيث اكد فرويد انه غير موافق على نظرياته، وأشار إلى مساهمات يونغ على أنها غير ضرورية. في وقت لاحق، حوالي عام 1920، قطع فرويد ويونغ العلاقة بينهما حيث صرح فرويد أن يونغ كان خطيرًا على التحليل النفسي بسبب التوجه الذي اتخذه.

وبعد الانفصال عن فرويد، استقال يونغ من جمعية التحليل النفسي، من منصبه  وقطع علاقاته مع جامعة زيورخ وبدا رحلته في اللاوعي والتي استمرت من 1913 الى 1918 وبدأ يتحدث عن الروح والذات والنماذج البدائية واللاوعي الجماعي. بالنسبة له، كانت حقائق نفسية موجودة مثل العالم المادي من حولنا. إضافة إلى ذلك، أسس مدرسته الخاصة: "علم النفس التحليلي"  متوجها أكثرالى الفكر الفلسفي، تارًكا إطار التوجيه العلمي الطبيعي للتحليل النفسي. في هذه السنوا ت أصبح مهتًما جًدا بالكيمياء، وفي عام  1944نشر كتابًا بعنوان علم النفس والكيمياء. وجاء في مقال بعنوان " القطيعة بين فرويد ويونغ: همومهم ومواقفهم تجاه اللغز"  لبلانكا أنجويرا ودومينجو جامعة برشلونة 2007

:" على الرغم من الانقطاع في عام، 1913كانت هناك أشياء مشتركة بين فرويد ويونغ لأنه، إلى جانب صراعاتهما واختلافهما، كان هناك  اهتمام مشترك بينهما: استكشاف الغامض، واللاوعي، والذهان، والأحلام، وفتح الفضاء العقلي أمام المجهول"

في وقت لاحق، حوالي عام 1920، قطع فرويد وجونغ استراحة واضحة للغاية. صرح فرويد أن يونغ كان خطيرًا على التحليل النفسي بسبب التوجه الذي اتخذه.

كارل يونج ومعارضته للعقيدة الفرويدية

كانت العلاقة التي كانت تربط يونغ بالطبيب النفسي فرويد  في بدايته هي علاقة المعلم والتلميذ علاقة مشبعة بقيم الحب والاحترام والصداقة، حيث شعر فرويد أن كارل يونغ سوف يديم نظريته وبدوره رأى  يونغ معلمه كشخص حكيم للغاية ومليء بالخبرة، ولكن الاختلافات بدأت عندما انتقد تلميذه الشاب نظرية التحليل النفسي للمبالغة في استخدام الجنس كأساس لتنمية الطفولة. ومن المعالم الأخرى التي ميزت الفصل النهائي بينهما اختلافاتهما في التفكير، حيث كان فرويد يتمتع بعقلية مغلقة، وبالنسبة له، كانت نظرية التحليل النفسي هي حقيقته المطلقة لا تقبل النقاش وعقيدة لا يمكن التنازل عنها. كما انتقد يونغ لإيمانه بالأسرار والخوارق والتنجيم والعقائد بشكل عام حول نظريته.  و بدأ كل من فرويد وزملائه المحللين النفسيين مثل فيرينزي في التحدث بشكل سيء عن يونغ:"  إنهم يعتبرونه "صوفيًا غير مفهوم، وعالم تنجيم"

سيغموند فرويد، اقترح أن نمو الإنسان يبدأ من الطفولة حيث قال إنه لهذا يجب أن يمر بعدة مراحل تتعلق بالمؤامرة الجنسية وأنه فقط من خلال تحقيق هذه الأهداف، سيكون للرجل في مرحلة البلوغ توازن جسدي ومعرفي ونفسي اجتماعي، ومن ناحية أخرى، من خلال عدم تلبية أي من هذه المراحل، سيواجه الشخص صعوبات في مرحلة البلوغ ؛ وقد استندت نظريته في التحليل النفسي إلى ثلاثة عوامل مثل التفسير والملاحظة وذكريات الطفولة.

منهج التحليل النفسي جذب في البداية  كارل يونج  حيث اصبح مهتمًا بعمل فرويد وواحد من ابرز تلامذته، وفي وقت لم يرغب فيه الأطباء في معرفة الكثير عن التحليل النفسي، معتبرين أنه غير علمي. قدم يونغ لفرويد ورقة بحثية عن الخرف المبكر، سميت فيما بعد بالفصام، وفي المؤتمر الدولي الثاني للتحليل النفسي في نورمبرج بألمانيا في عام 1910، اقترح فرويد على يونغ منصب الرئيس. بعد سنوات، أعرب فرويد عن أسفه لأنه اقترح يونغ لهذا المنصب، لأنه بدأ في التحرك نحو اتجاه آخر، وإنشاء اختلافات في المبادئ الأساسية. وبعد ان اكتسب يونغ شيئًا فشيئًا أهمية بين تلاميذ فرويد وأصبح يده اليمنى تم تعيينه رئيسًا لجمعية التحليل النفسي الدولية ومحررًا للكتاب السنوي لأبحاث التحليل النفسي والمرض، أصبح يونغ مهتمًا بنظريات فرويد بعد دراسته في الطب النفسي، حيث كان يبحث عن نموذج لمحاولة فهم المرضى الذين يعانون من أمراض عقلية ووجد في نظرية فرويد للقمع إطارًا لتطوير دراساته. نشر في عام 1906 "دراسة حول ارتباط الكلمات". مع مرور الوقت وعلى الرغم من ارتباطهم الأكاديمي، فإن آرائهم حول قضايا مثل الجنس والدين والاختلاف في تاريخهم الحيوي جعلت مساراتهم منفصلة إلى الأبد بين عامي 1912 و 1913.

بدأ الخلاف عندما حدد فرويد أنه يوجد في الإنسان طاقات دافعة ذاتية مثل الرغبة الجنسية، أي موجهة نحو الواقع أو تلك التي تربط الموضوع بالأشخاص المحيطين به. هذه المحركات موجودة دائمًا في الموضوعات. قال يونغ إن هذه ليست ضرورية لتعريفهم. بالنسبة له، كان الدافع هو طاقة نقية ومجردة وعالمية يمكن أن تكون جنسية أو لا جنسية.

يقول عالم النفس الإكلينيكي صموئيل ميرلانو: "ما هو مركزي بالنسبة لفرويد هو الطاقة الجنسية حيث يمكن إظهارها أو قمعها أثناء نمو الفرد، وهي أساس علم الأمراض أو الصحة العقلية"

من منظور فرويد الدوافع الجنسية تشبه محركات الحياة التي تدفع الشخص للعيش أو البقاء على قيد الحياة كل يوم. أنهم يسيرون جنبًا إلى جنب بطريقة متناقضة مع محرك الموت، وهي نظرية لم يوافق عليها يونغ، لأنه لم يكن لديه سوى طاقة دافعة عامة واحدة.

يشير ميرلانو إلى أن "هذه الطاقة العامة أو التي تسمى أيضًا القوة الحيوية المحايدة تتكيف مع ظروف أي رجل، سواء كانت ذات طبيعة فنية أو دينية أو عاطفية أو جنسية".

من اللاوعي الفردي الى اللاوعي الجماعي

أجرى يونغ مناقشات داخل جمعية المحللين النفسيين، بدأ يسافر كثيرًا ويقوم بأبحاثه حول الأساطير القديمة. وسرعان ما قدم فكرته حول  اللاوعي الجماعي، والذي يشبه  "تراثنا النفسي" إنه خزان تجربتنا، وهو نوع من المخطط الذهني الذي نولد به جميعًا ونتشارك فيه.

تسمى محتويات اللاوعي الجماعي بالأنماط البدائية، والتي يوجد منها الكثير. وفقًا لميرلانو، فهي عبارة عن نظام أفكار أو نماذج أو كلمات تجعل المجتمع يفهم القيم الثقافية والطقوس وجميع أشكال الاتصال. على سبيل المثال، المفاهيم الدينية مثل خلق آدم وحواء. بالنسبة ليونغ، الأديان هي جزء من اللاوعي الجماعي.

في مقابل ذلك أكد فرويد أن اللاوعي فردي، أي مناسب لكل واحد. بالطبع يتكون من جميع تأثيرات العلاقات التي أقامها الشخص منذ ولادته مع أشخاص آخرين. كما فصلهما المجال الديني. لم يعطها فرويد للدين أهمية كبيرة، لكن يونغ أعطى الله دورًا أساسيًا في تطوير الناس ليضعوا أنفسهم في الكون، وربما مستمدًا من التعليم الذي قدمه له والده، وهو القس اللوثري.

من مواطن الاختلاف بين فرويد ويونغ موضوع الاحلام وبنية الجهاز النفسي. ففرويد في تفسيره للأحلام فرّق بين المحتوى الظاهر، وهو ما نتذكره، وبين عمل الأحلام الذي يتجلى به المحتوى الكامن. وقسم الجهاز النفسي الى ثلاثة (الانا، الهو، الانا الأعلى) مؤكدا ان العمليات العقلية التي لا تصل إلى الوعي بسبب حجب الرقابة أو القمع. يمكن أن تظهر في شكل أمراض. ويعتقد أن هناك سلوكًا حيوانيًا تحدده الوراثة ويتم تنظيمه حول كائن معين من كل نوع يسمى الغريزة. وهو يميز بين محركين: محرك الحياة، ويسمى أيضًا إيروس ومحرك الموت ويسمى ثاناتوس أو الموت تنشأ ثلاثة افتراضات نظرية من نظرية المحركات: النشاط الجنسي في الطفولة ومراحل التطور النفسي الجنسي وهي على النحو التالي  المرحلة الفموية: السنة الأولى من العمر. يتركز التوتر وتفريغ المحرك في الفم كمنطقة مثيرة للشهوة الجنسية. المرحلة الشرجية أو السادية الشرجية: حتى السنة الثالثة. وظيفة الإخراج والاعتداءات تسبب الرضا المطلوب. المرحلة القضيبية: من السنة الثالثة إلى السادسة. يمر عبر عقدة أوديب (الطفل يرغب جنسياً في والد من الجنس الآخر وموت الوالد من الجنس الآخر). مرحلة الكمون: حتى سن البلوغ. الدوافع الجنسية نائمة. المرحلة التناسلية: في مرحلة المراهقة. تظهر الرغبات الجنسية مرة أخرى تتمحور حول الأعضاء التناسلية. يمكننا التحدث عن الانحدار إذا عاد الموضوع إلى مرحلة سابقة والتثبيت إذا ركود في مرحلة. النرجسية وفقًا لهذه النظرية، يكرس المولود طاقاته الشهوانية لتلبية احتياجاته الفسيولوجية. إنها النرجسية الأولية أو النرجسية أو الرغبة الجنسية. في وقت لاحق هناك كائن الرغبة الجنسية الموجهة نحو الأم. إذا كان يعاني من بعض الصدمات التي تسببت بها الأم، فسوف يعاني من تراجع نحو الرغبة الجنسية للأنا وستكون نرجسية ثانوية. مبدأ اللذة ومبدأ الواقع. يحكم الأداء العقلي عدة مبادئ: مبدأ المتعة. تجنب الاستياء والبحث عن المتعة كنهاية للنشاط العقلي. مبدأ الواقع. العالم الذي يحيط بنا يشترط البحث عن اللذة والقدرة على تأجيل النتائج.

في مقابل ذلك نظريات كارل يونج اشتغلت على تطوير سلسلة من المفاهيم: اللاوعي الجماعي. إنه أعمق مستوى من اللاوعي حيث يكون لخبرات الأسلاف مكان. إنه تراثنا الروحي ويتم تنظيمه حول الرموز أو النماذج الأصلية هناك أنواع مختلفة من الشخصيات عند كارل يونغ، الانبساطي: وهو شخص يتكيف مع الخارج. الانطوائي:  وهو شخصية تعطى الأولوية للعناصر والأفكار والأحاسيس الداخلية ... عندما نخصص أحد هذه المصطلحات للشخص، فإنه يحدد أي من الوظائف النفسية الأربعة تسود: الأحاسيس: هي المعلومات التي يتم جمعها عن طريق الحواس. الحدس: إنه غير عقلاني مثل الأحاسيس، ولكن يتم الحصول على المعلومات الخارجية من معالجة كمية كبيرة من المعلومات. الفكر: إنها المعلومات التي نجمعها من خلال العقل. الشعور: يعتبر أيضًا عقلانيًا وهو استجابة الانفعالات بشكل عام.

إحدى النقاط الأساسية من حيث الاختلافات هي التركيز المفرط الذي يضعه فرويد على النشاط الجنسي للأطفال. بينما يرفض يونغ عقدة أوديب، وبما أننا تمكنا من التحقق من مفهومه عن الطاقة النفسية، فإنه يعطي الرغبة الجنسية دلالات مختلفة عن تلك التي كان لديه مع فرويد، والذي أعطاها معنى جنسيًا حصريًا. بالنسبة لكارل يونغ، إنها طاقة أكثر حيوية وبمفهوم أكثر عمومية. إذا انتبهنا لمفهوم اللاوعي،وفقًا لفرويد، فإن معظم الدوافع الأساسية وما يتم قمعه كانت موجودة في اللاوعي، ومع ذلك، أكد يونغ أن الإبداع وركائز تطوير الذات كانت في اللاوعي. يختلف أيضًا التقسيم الذي يفرضه كل من البنية النفسية، وفقًا لـكارل يونغ لدينا اللاوعي الشخصي والجماعي، وبالنسبة لفرويد فإن التصنيف ينتقل من الواعي إلى اللاوعي من خلال اللاوعي. يفترض فرويد أنه بالنسبة لفردية اللاوعي، قد تكون هناك سمات مشتركة، لكنها شيء سيكون دائمًا شخصيًا. ومع ذلك، يراهن كارل يونغ على جزء مشترك وموروث من مقدمة اللاوعي. ومن ثم، بالنسبة لفرويد، الشخصية مشتقة من تراث الأجداد والأهداف التي يمتلكها كل شخص، وبالنسبة لتجارب فرويد الشخصية، خاصة في مرحلة الطفولة، حدد المبادئ التوجيهية لسلوكنا.

لم يعتبر فرويد الدين مجرد عصاب آخر، بل هو تعبير عام ونمطي اعتبره خطرًا، على الرغم من أن فكرة الدين بالنسبة ليونغ ولدت بالإنسانية ومن خلالها يمكن للإنسان أن يعبر عن نفسه ويتطور. عمل كلا المؤلفين على العصاب مختلف. وفقًا لفرويد، فإن أصل هذا الاضطراب هو الإحباط من الشعور بالرضا عن القيادة. كل العصاب سلبي. يظهر صراع بين الغرائز والواقع، ويستبدل الواقع بالخيال. إذا لم يتم حل النزاع، فإن آليات القمع والدفاع تبقي الرغبات بعيدة عن الوعي، وفي هذا الوقت يظهر اللاوعي في شكل أعراض. يدافع يونغ عن أن العصاب يمكن أن يوفر لنا إمكانية التغيير الإيجابي في حياتنا.

يفترق فرويد عن يونغ أيضا في مسألة خوارق اللاشعور والظواهر الخفية حيث أولى يونغ أهمية كبيرة لعلم التخاطر وأصالة ما كان يسمى حينها "ظواهر غامضة"، كما يظهر من عمل نشرته مجلة تاريخ علم النفس . من ناحية أخرى، كان فرويد يعارض دراسة هذه الأسئلة وربطها بالتحليل النفسي. لقد اعتبر أنهم سيلحقون الكثير من الضرر بالتحليل النفسي.

***

علي عمرون

لا يعني وجودُ تأسيسين للإسلام: (الإسلام كدين عالمي) وإسلام الرحمة (كمفهومٍ كوني) أنهما متصارعان لا محالة. فبخلاف أية نبرةٍ صارمةٍ أخرى، ليس التأسيسان المُشار إليهما منفصلين بالضرورة. طالما وُجدت الرحمة، فبإمكانها إعادة تفسير (إعادة تفهُم) كل متعلقات الإسلام المُؤرّخ، وبإمكانها كذلك أنْ تُغير أنماط الأفكار والتدين. التأسيسان متداخلان لصالح الإنسان ومن أجل إيجاد صيغةٍ أكثر رحابةً لفهم قضايا الحياة والإعتقاد والدين.

إن الجانب المعياري المفتوح يُوجد داخل الرحمة وملحقاتها بطريقة حرةٍ. فهي الأكثر انفتاحاً، وتستطيع أن تبطل عنف الأفعال والممارسات غير المقبولة إنسانياً، وتستطيع أن تنقّي اتجاهات الكراهية، وتغربل المواقف الحدية، وتُحلل انحرافات التاريخ، وتعدل التوجُهات أيضاً. وكذلك بإمكانها أنْ تقدم تأويلاً حُراً لنصوص الإسلام ومصادره.

إنَّ انتشال الرحمة من بعض تشوهات التراث الاسلامي يتم بمساءلة الأخير وتطويره وفقاً لمعايير الرحمة ونظامها الكوني ميتافيزيقياً وبشرياً. انتشال يجري من خلال تاريخ الإنسانية وداخله بالدرجة الأولى، فمفهوم الرحمة يُظلّل كافةَ جوانب البشرية، ولا يستغني عنها، ولا ينظر إليها بإزدراءٍ. إنَّه يدرك (الأخطاءَ البشرية) تمام الإدراك ويعالج القضايا بالوسع والفهم لا بالحذف والإنكار. ولعلَّ جغرافية هذا المفهوم هي نفسها جغرافية العالم بما في جوفه من معتقدات ومجتمعات وثقافات وأديان وفي مقدمتها الإسلام. وعندما تكون الرحمةُ منظوراً كاشفاً لتنوع الحياة، فهذا فحواه إضاءة الدروب الوعرة والطرق المتعرجة لأجل المستقبل. ولا يجب أنْ يكون الحد الفاصل هو العنف، لكن الحد الفاصل هو الفهم والحرية.

كلُّ ذلك الرهان الفكري وارد ببساطة مع شديد الاحتراز من السقوط في نزعة ساذجة أو استسلامية أو تبريرية. لأنَّ القرآن من زاوية الرحمة- وهو النص المصدر- لم يَقُل بذلك العنف. وهذا يعني التعامل الفلسفي الرصين مع القرآن كنصٍ قابل لانتاج مفاهيم إنسانية كبرى. ولئن كان البعض يلتزم تجاهه بنزعىة سلفية صرف، وإذا بدا أنَّ هناك آيات تمس العنف، فالرحمة ستعيد تأويلها ضمن آفاق القرآن. وأكثر من هذا، فإن كل أعمال العنف التاريخي وتنظيراته غير منصوص عليها في المصادر العملية والدينية الرصينة. وأنَّ ارجاع الرحمة إلى (مقولة الله) في الاسلام هو تدمير جذري لكل ما بُني عليها وتراكم من دلالات تكفيريةٍ واقصائيةٍ. وأنَّ الرحمة تدير عقارب الزمن إلى (نقطة بيضاء) تجاه البشر والخلائق جميعاً، تمثلُ دعوةً من الخالق إلى إزاحة ما علق بالأديان، إلى كشط الترسبات الثقافية بسكين كوني حاد.

الرحمة في القرآن

ورد لفظُ "الرحمةِ" في القرآن قرابة مئتين وثمانٍ وستين مرةً (268) بأشكال مختلفة وفي سياقات متنوعة. ولكنها تُغطي مساحةَ الدلالة الكونية والإنسانية والزمنية والاجتماعية إلى أقصى درجةٍ ممكنةٍ. وقد ذُكر اللفظ في أكثر مواضعه بصيغة (الاسم) تحديداً. حتى لا يكون ثمة جدال أو تردد من المتلقين تجاه ما يطرحه مباشرةً. فالاسم ينطلق مرتبطاً بمدلوله بألف ولام التعريف أو بمصدرية المعنى مع حقيقة المسمى.

ونحن نعرف أنَّ القرآن نصٌ مؤسِس لجوانب الإسلام، وأنَّه يقرر مفاهيم مختلفة كل الاختلاف عما هو شائع، وحتى إذا كانت مفاهيم متواترة، فإنه سرعان ما يفرغها من حمولاتها الثقافية، ويعيد إدراجها وفقاً لنظام الدلالة ورؤى الحياة العامة له. وكذلك عندما يُرسخ القرآن مفهوماً، فدلالته ترتبط بإستعماله وما يهدف إليه ربطاً بمرجعيته الكونية. ومن ثمَّ، يبدو أنَّ المعاني التي يطرحها تمثل المعاني عند الدرجة الصفر للتفكير، حيث يستند إليها جُل التفكير المسمى إسلامياً.

وهذا فحواه أنَّ الأمر بالغ الأهمية إزاء (البُعد الكوني) للرحمة، نحو قول القرآن إسماً عن الله .." إنَّه هو التوّاب الرّحيم" (البقرة/ 37) . لأنَّ الاسم يشيرُ إلى دلالة الكلمة بأصالة المُتصف بها (الإله) ، حيث لا تمْر الدلالةُ عرّضاً، بل هي عين المُسمّى الفاعل. فحينما يعْلم البشر أنَّ الإله الخالق توابٌ رحيم، فهذه الصفات هي التي تمثل (حقيقة الإله) ، لا حالة عابرة تستوجب التغيُر كما في عرف البشر مع تقلب الأحوال، إنما تستلزم اليقين بوجودها من طبيعة الإله نفسه[1].

وكذلك وردت الرحمةُ في أربعة عشر موضعاً من القرآن بصيغة (الفعل) تطبيقاً لدلالة الإسم، وكونّه ممارسةً خارج حدوده أو بالأحرى تكسر الحدود عن وعي وتروٍ، نحو ذكر القرآن بوضوح: " قالوا لئن لم يرحمنا ربُنا " (الأعراف/ 149) .

هكذا توزعت آياتُ " الرحمة" كما جاءت بالقرآن على كلّ شيءٍ في الكون:

1- الله رحمة (عين الذات) :

الرحمة هي المعادل الميتافيزيقي - الأنطولوجي لمعنى (الوسْع الذاتي الإلهي) "رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً" (غافر/7) . والوسْع ليس مجرد معنى فحسب، ولكنه وجودٍ وإرادة وفعلٍ أيضاً. وكأنَّه لا توجد أيةُ رحمة نافذةٍ إلاَّ بقدر ما هي نوع من الوسْع. أي أنَّ الرحمة تمثل الوسع بإطلاق، وتظل كذلك بضمان الخالق الواسع. هذا هو الطرح الجديد بخلاف تاريخ الرحمة ارتباطاً بمفهوم التبادل والمقايضة في بعض الأديان والثقافات. وليس مرتبطاً بالأفعال الإنسانية - خيرةً أو شريرةً- حتى تصدرُ الرحمة عن الله. ولذلك كلما تقوَّت فكرة التوحيد تقوَّت بالتبعية الرحمة، لأن الإثنان شيء واحد.

ونظراً لأنَّ الله واحد، فهو رحيم رأساً. وليس هناك إله رحيم بإطلاق في حالة تعدد الآلهة، فقد يكون الوضع مهيئاً في حالة التعدد إلى الصراع والانتقام والثأر. كما أنَّ من يستطيع أنْ يقول أنا الإله من غير منازع هو من يرحم بإطلاقٍ ويعرّف نفسه بهذه الهيئة إلى البشر ويعرّف البشر والكائنات إلى نفسه. والتسميّة هنا تسميةُ خلق لا تسمية مُسمى وحسب.

تلك لفتة في غاية الخطورة للأديان، لأن وصف الله ذاته بالرحمة يعني أنه لا يمكن لإنسان أنْ ينكرها، وفوق ذلك غدت عقيدة. الأمر يخاطب المؤمنين هكذا: مثلما تؤمنون بالله، فعليكم الايمان والامتثال للرحمة، والأدق أن الرحمة بهذا التكوين الميتافيزيقي بإمكانها أنْ تعود إلى الجذور وتشق عصا العنف والتشدد مرة واحدة. وتعطي الممتثل لها قوة إزاحة التراكم حول رؤيته وأفكاره وصولاً إلى المصادر الأولية، وهي بهذا المعنى إعلان عن حياة جديدة، رغم كون الإنسان قد بلغَ من الكراهية عتيّاً.

وهذا المعنى الفلسفي الخاص بالرحمة عبارة عن تعريفٍ وهُويةٍ وقدرة ميتافيزيقيةٍ على الفعل. لأنَّ الرحمة في الإسلام معبرةٌ عن وجود الإله في مقابل جميع الأشياء والكائنات. فلولا الله ما كان شيءٌ، إن المعنى يجري بحد الضرورة التي تعود إلى رسم المشهد من تلك البداية. والرحمة كوسعٍ هي الكفيلة بوضع الخلائق في معيِّة الإله ووجوده. والآية تقول بالرحمة على سبيل الرعاية والعناية والقيام والجُود دون إنتهاءٍ.

وطالما ظهرت تلك النقطة القصوى للوسع الإلهي، فإنَّ الله هو عين الرحمة، إذْ لو تصورنا وجوداً بلا قسوةٍ ولا انتقام فهو إثبات أنه إله. يردد المؤمنون في كافة أمورهم الحياتية: " بسم الله الرحمن الرحيم" (الفاتحة /1) . هي عبارة الإبتداء النصي والوجودي، الفاتحة للمعاني والكلام والأعمال والحياة[2]، كأنَّه لا توجد ثمة فاتحةٌ سوى بالرحمة. ولم تكن هنالك عبارةٌ انطولوجية مثلها في القرآن تبرز درجة التسمية بهذا الانفتاح.

وتأكيداً لدلالة الوسع، رَجع القرآنُ إلى أصل الإنسانِ، وهو حادثة آدم المنطوية على ذاكرتها الخاصة حين عصى الأمر الإلهي. كان رد فعل الله واضحاً داخل إطار الرحمة أيضاً: " فتلقى آدمُ من ربِّه كلماتٍ فتابَ عليه إنَّه هُو التَّوابُ الرَّحيمُ" (البقرة/37) . وآدم هو الذي تلقي التوبة، أي كانت المبادرة الإلهية بدرجة الرحمة أسبق من تفكير (آدم) في أثر المعصية. لأنَّ وسعاً إلهياً قد شمل- بحكم الخلق والإيجاد- حياة آدم وأفعاله وما لا يمكن تصوره. فكان منطقياً أنْ تمارس الرحمة دورها في جوانب حياة أبناء آدم:" ذلكُم خيرٌ لكُم عندَ بارئكُم فتَابَ عليكم إنَّه هو التَّوَّاب الرحيمُ" (البقرة/ 54) .

الرحمة بهذا المستوى تتعلق بكل معاني البارئ، أي الخالق المبدع الذي يوجد الأشياء من عدمٍ وواهب الحياة. هو مبدع الأكوان، حيث لن يُسقط أحداً من رحمته، فالرحمة من ثمَّ تُساوي الخلق كل الخلق وجه لوجه. ونظراً لأنَّ الله في الإسلام لا يتخلى عن مخلوقاته، فالمصير الذي ينتظرهم هو الخيرية انطلاقاً من التوبة. فالخير في مقابل التوبة أمرٌ إلهي بموجب كون الإله ذاته توّاباً رحيماً. اللافت أنَّ البارئ هو المسئول عن محو خطايا مخلوقاته نتيجة الرحمة التي هي منه ارتباطاً كما يقول الراغب الاصفهاني بـ (الإحسان المجرد) ، لأنها من الله إنعام وإفضال ومن الآدميين رقة وتعطُّف[3].

والخط الواصل بين البارئ والرحمة هو المناجاة، التطلع إلى الأعلى فوق الأشياء. بالطبع فإن مجرد الدعاء هو تذكير برحمة الخالق (أو الخالق كرحمة)، "وأَرنَا مَناسِكنا وتُبْ عَلينَا إنّك أنْتَ التَّوَّاب الرَّحيمُ" (البقرة/ 128) . إذ يعبر الدعاءُ عن علاقةٍ مباشرةٍ بين الله والمخلوقين، ولكن كون الله تواباً (كثير التوبة) وكونه رحيماً (كثير الرحمة)، فقد أسسا العلاقة بعين الرحمة. علماً بأن التوبة تحمل داخل طياتها فعلَ الخطايا من البشر، والرحمة تعبرُ ضمناً عن جوهر الذات الإليهة بما هي كذلك. فلو لم يعرف المؤمنُ أنَّ الله هو الرحمة، ما كان ليخاطبه بالمعنى نفسه!!

يؤكد القرآن الإعتراف الإلهي بالرحمة قصداً: " فأولئك أتُوبُ عليْهم وأنا التَّوَّاب الرَّحيمُ" (البقرة/160) . والآية تنطوي على إعترافٍ بالتوبة من قبل الله على أولئك الداعين إياه بالمغفرة. وتبدو الرحمة نوعاً من الغفران والتوبة كحالةٍ لمحو الخطايا، حتى لا تكون كلُّ رحمةٍ خاليةً من استحقاق إلهي. فهي هنا (مقدّرة واستحقاق) من عين الذات. وكأنَّ الآية تحدد نموذجاً متماسكاً للرحمة مهما كانت الخطايا لأولئك الذين يطلبونهما. وربما من المرات النادرة التي يعبر فيها الله بـ (الأنا) عن وجوده مقروناً بكونه توّاباً رحيماً خاصةً، أي أنه مَيّز وجوداً ذاتياً له هو الأولى بالتجلي الدائم. والأنا هو الفيصل لاعتبار الرحمة بالغة الفعل من باب: أنَّ الأنا الإلهية مطلقةُ التحقق والمعنى. والله يحُول دون تطفل القضايا الإنسانية المُضافة إلى وجوده عرضاً مثل: الشفقة واللين والموائمة والتصالح والتساهل وغيرها، فجاء الله رحمةً. إن الله هو جوهر الرحمة، والرحمة هي جوهر ذاته دون مبررات أخرى.

ولا يخفى على القارئ أنَّ الذات الإلهية من تلك النقطة تتصل بوحدانيتها في الإسلام. يعبر القرآن: " وإلهُكُم إلهُ واحدٌ لا إلَه إلّا هو الرَّحمن الرَّحيم" (البقرة/ 163) . إذ تستبق الرحمة دوماً إساءةَ الفهم أو التقدير في شكل بذلها دون مقابل، وأن المقدّس المانح للرحمة قادرٌ عليها بلا مقدماتٍ ولا شروط. ولذلك تعدُّ الرحمة من جنسْ التوحيد في الإسلام. إنَّ الرحمن هو الواحد ولا شيء سواه، وهنا تأتي المسئولية بالنسبة للأفراد من واقع الإيمان. لأنَّ كل فعل إيمان يستند بطريقةٍ أو أخرى إلى فعل رحمة الذي هو فعل توحيد. وينسب القرآن (حد الإله) إلى البشر (إلهكم) من باب الإطمئنان، ومن ثمَّ ينسب الله الرحمةَ إليه بالمثل (الرحمن) .

المقصود أنه لا تظنوا أنَّ ما تؤمنون إلهاً غير رحيمٍ، وأنه سينزل بكم العقاب لا محالة. فالأمر بالعكس، يؤكد القرآن" يُحببكُمُ اللهُ ويَغْفر لَكُم ذُنُوبكُمْ واللهُ غفُورٌ رَحِيمٌ" (آل عمران/ 31) . والحب بمثابة (النسغ الأصيل) الذي تنهل منه الرحمة معينها الذي لا ينضب. فالحب يصلُ إلى شفافية الوجود إزاء الآخرين. ويرفع الله مستوى التوقُع لدرجة مبادرته هو ذاته بالحب تجاه الناس، فالرحمة من تلك الجهة تكسر (التراتب المطلوب) لفعل الغفران بمعناه اللاهوتي، حين كان تاريخُ الرحمة لوناً من التذلل والتمسكن واستعطاف سلطة أعلى. لكن الآية القرآنية تضع فعل الحب خلفية ًكمصدرٍ للرحمة، وكأنَّ الرحمة فعل (حُب حر) ، فعل هبة للوجود، وذلك لمجرد وجودنا في نطاق أُناسٍ ما، أناس يقفون مع الرجاء صوب الآخر جنباً إلى جنبٍ.

2- نبي الرحمة:

أبلغ توصيف لعلاقة السماء بالأرض أنها علاقة رحمة بالدرجة الأولى. وليس يدركُ ذلك إنسانٌ قدر ما يدرك صاحبُ الرسالة، فما بالنا بمصدر الرسالة (الله) .. "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِين" (الأنبياء/ 107) . ما يهمنا بجانب ما قيل: أنَّ القرآن ترك بصمة القائل (الله) في الكاف بنهاية أرسلنا (ك) مع ورود الرحمة كغاية حصرياً (أي تفيد الحصر والتأكيد بالوقت عينه) .

لقد حرص الله أنْ يكون ذاته موجوداً لغوياً هو الفاعل بالخطاب الرحيم، وترك النبي في الخلفيةِ على هيئة مخاطب غائبٍ (أرسلناك) ، وكانت الرحمة هي القصد الكلي للقول والرسالة. والمغزى أنَّ الرسالة هي الرحمة بعينها لا غير، وأنَّ النبي يجب عليه أنْ يتمثل دائماً كونّه رحمةً، وأنَّ الرسالة التي يحملها خارجة من هذا المصدر لكل الناس حتى الأعداء[4].

الأخطر في الآية أن الرحمة تتجاوز الإختلافات الطبيعية والبيولوجية والثقافية بين البشر، أي أنَّ مفهوماً للدين لا يستوعب (عن قصدٍ) معنى الرحمة وطرائقها وبنيتها وغايتها حتى وإن كان مفهوم الدين هو الإسلام نفسه. والآية تقول إنه ربما سيكون الإسلام فريسة للأيديولوجيات والطوائف والنحل والمذاهب، ولذلك فدلالة الحضور الإلهي (الكاف) تُعلِّق إمكانية التحكم في الرحمة، ولن يترك فرصةً لوضعها في شروط خاصة وأنَّها تعلو كونياً على كافة ترتيبات المذاهب. والآية تؤكد حرصاً على كونية الرحمة بقدر حرص الإله عليها، حتى وإنْ كان الوسيط (النبي) موجُوداً ويجسدها.

ولكمْ صوَّر أصحاب المذاهب أنَّ الرسالة مشروطة إيمانياً في التاريخ، غير أن المعنى الخاص بالآية يحطم هذه الصورة أو تلك. وبمجرد ذكر العالمين يأخذ المعنى قوسّه الأوسع دوماً، ولن يعود على مطية الأيديولوجيا أو السياسة، إنما سيذهب لكل "آخر كوني". و هذا المعنى هو معنى يعرفنا أنّ هناك عالمين لا عالم واحد، عالم ظاهر وآخر باطن. فلئن كان البعض يتحيّن رؤية الشفقة في عيون أقرانه طلباً للرحمة، فما بالنا بمن لا نعرف ولا نُدرك من كائنات، وهم جزء من كوننا الفسيح الخارج عن نطاق السيطرة البشرية.

تبلغ الرحمة شأنا كونياً خطيراً، لدرجة أن الله - بلفظ القرآن- يُخرج الرسول من معادلة الرحمة لو وَجَدَ في نفسه شيئاً من الناس. وهذا ذروة الاقرار الإلهي لمعنى الرحمة إجمالاً، " فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ " (الأنعام / 147) . والفكرة تعالج هواجس المخالفين في الإعتقاد أيضاً، وليس المخالفين في التوجهات داخل الدين الواحد فقط. وبخاصة أنه ليس من حق أحدٍ أنْ يمنع رحمة الله حتى وإنْ كان رسولاً حامل الرسالة. فلا يمكنه أنْ يتدخل في المعنى الكوني للرحمة، لأنّها أكبر مما يحتمل بمنطق ما يُحمّل أيضاً. والمفارقة أنَّ نبي الإسلام هو الصاحب الرسالة، ولكن رسالته تقول بالرحمة التي لو اقتضى الأمر أنْ تخرج عن مسارها الاعتيادي لفعل اللهُ ذلك. أي أنه يمكن للرحمة أن تهدم أي شيء يقف في طريقها ولو كان منصوصاً عليه في رسالة السماء، وهذا شرط يُقدم نفسه على أية شروط أخرى مهما كانت من صميم الرسالة الإلهية.

ولئن كان النبيُ قد شعر بغُصةٍ من صدود الناس، فعليه أن يتذكر أن الرحمة سابقة على ما يشعر به، وأنه ليس مرجعها الخاص، ولكنها تعود إلى الله "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ" (آل عمران /159) . والرحمة تمثل فعلاً نبوياً وسيطاً، لكيلا يظن ظانٌ أن الرحمة قد تتقهقر عن كونيتها في وقت من الأوقات. وتلك الفكرة بعيدة الجذور فيما يطرحه الناس من تصوراتٍ، وتبدو كأنَّها مادة إنسانيةً خالصة بالفعل. فالله يقول: إنه حتى ما جادت به (النبوة) في شخص الرسول، إنما كانت نتيجة الرحمة التي هي مصدرها الله. وأين تكون؟ إنَّها موجودة في داخل النبي ذاته؟ أي حتى أن ما يمتلكه النبي من أخصِ ما يملك، سيكون هناك وجود لرحمة إلهية داخله.

واتساقاً مع ذلك،" فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ" (النساء /175) . وفي هذا الصدد، يُحيّد القرآن الرسول نفسه كي يلتقي الإنسان بالله مباشرةً، فلم يأتِ على ذكر الرسول، ولكن الإيمان يفتح المجال مع مصدر الرسالة بخلاف أي شيء آخر. والرحمة لا تحتاج استئذانا ولا تقتضي توقيفاً تحت المساءلة، لأن الإيمان يجعلها في هذا السياق صلاحية كونية مفتوحة.

والنبي (مثل سائر المؤمنين) عليه أنْ يتحيّن معنى الرحمة: "رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إنك أنت الوهاب" (آل عمران/ 8). فطلب الرحمة يأتي من نقطة قُصوى تعلو كافة الكائنات والأشياء مثلما كانت إنطلاقتها. تعلو بالمنطق نفسه مع قدرتنا على التمييز، لكونها أوسع مما نتخيل ولكونها مادةَ الإيمان الأولى فيما تقول الآية. وهي الدرجة المؤشرة إلى لون من الهداية دون زيغ. وتعلن الآية أنَّ الرحمة mercy هبة gift، والهبة من تلك الجهة تجري دون مقابل ولا ترقب النتائج. أي أنَّها منحةٌ لا ترد ولا تقدر إلاَّ بذاتها المعطّاه للإنسان[5].

والإشكالية أنَّ الرحمة والهبة لا تُصنفان عادة على أساس العلاقات الإنسانية أو على قاعدة المقابل الذي يوازيها، هما كلمتان خارج حدود الهيمنة أيا كانت عناوين الدجما التي ترعاها. ولذلك حرصت الآيةُ على تسمية الله بالوهاب كواهب للرحمات والنعم دون حدود. والتسمية نوع من الإقرار إلى كلية الرحمة طالما كان هو الله. وليس يوجدُ لدى البشر ما يُسمى بالوهاب حصراً، لأنَّ الإنسان ينخرطُ في بذل الرحمة طالما يستطيع. والأية تستحثه أنْ ينتظر الهبة المطلقة في معانى الرحمة: عليك أنْ تكون لديك قدرة هبة لا قدرة استئثار، قدرة بسط لا قدرة قبض.

3- كتاب الرحمة:

لأول وهلةٍ في تراث الأديان أنْ يكون الكلامُ رحمة بين دفتي كتاب. قد نعرف أن سلوك الرحمة يبدو كحالة بين قوسين في رتم الحياة المشتركة، وقد يكون حثاً على حالة من التعايش بين البشر المختلفين، ولكن أن يكون النص الإلهي ذاته رحمة، فهذا مفهوم جديد ليس ينال منه أيُّ تأويل عنيف لعباراته وآياته. يقول القرآن: " وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَىٰ إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ" (القصص /86) .

وهذا أقصر تلخيض لكل كتاب وحي، فمن باب الرحمة جاءت الكلمات والمعاني والمبادئ والتعاليم والشعائر. ويقف القرآن مباشرةً منذ لحظته الأولة في وجه الاستحواذ على الكتاب. سواء أكان القائمون بذلك هم المسلمين العاديين أم المؤدلجون أم الفقهاء[6]، فلن يكون مشروعاً ناجحاً بحال، لكونه يخالف نقطة الإنطلاق. والمعنى هنا كوني وأصيل، لأن الكتاب جزء من الرحمة بصيغة المجهول هكذا. والكتاب دال يعبر عن القراءة كفعل رحمة ومعرفة وفهم معاً.

والمدهش أنْ تصبح القراءة رحمة هي الأخرى وربما تعد الفكرة (أقصى تحول) قد يحدث في مفاهيم التعايش والحب وقبول الآخر. وهو تحول يقطع الطريق على توظيف النصوص المقدسة لقطع الرقاب وتمزيق الأجساد والإرهاب والتنابذ بالهويات الدينية. وليس هذا خطأ في الطريقة والأسلوب، بل هو خطأ في المبدأ ذاته، وهو يساوي التعارض مع دلالة الله وقدرته الوجودية في الاسلام. "مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ، فَلَا مُمْسِكَ لَهَا" (فاطر/2). فالرحمة التي يصعب إمساكها، ولاسيما أنَّ الكتاب مستمر في التاريخ بحكم اللغة وبحكم قدرته على تأويلات الرحمة مادام هناك إنسان وعوالم مختلفة.

قد يُقال: لماذا تكون الرحمة كتباً مقروءاً ومنظوراً؟ وهل ثمة أمر ما يستوجب الرحمة؟ هذان السؤالان استفهامان منطقيان تماماً، بحكم تفكير الإنسان وشعوره الطبيعي بالاحتياج للرحمة. وهذا ما يستند إليه القرآن في إطلاق إنسانية المعنى لكل البشر لا يتوقف على الخطايا: "رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًاً" (الكهف/ 10) . فطلب الرحمة والإنتظار المعقود لها أمران مهمان لتلقي الهبة. وليس الطلب هنا استعطافاً ولا إثارة للشفقة، لأن كتاب الرحمة مفتوح للجميع وليس متوقفاً على استدرار الرحمات من الله.

تختلف الرحمة (بهذا المعنى) عن الرحمه في تاريخ اللاهوت، لأنها في القرآن كتاب موثوق لا حادثة، نص لقانون كوني لا استثناء، ورغبة من المؤمنين والتقاء مع هبات الله لا تذلُّل، وتراحم حُر لا استعطاف وتملق. والمعنى هنا لا يلوي على نقيضة (القسوة والعنف) . لأنه لو فعل ذلك، لكانت للرحمة قيودٌ تتكبل بها في غير حالةٍ، ولن يستحقها أناس بخلاف غيرهم. فكل قيد سينعكس على صاحب الرحمة وسيحد من قدرته، وهذا أحد أسباب أن الله قد أطلق معنى الرحمة.

تلك هي الرحمة التي يستحقها في الزمن: (من يكون ومن كان ومن سيكون) على امتداده: "قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ" (56:/ الحجر) . ذلك لأنها مرتبطه بالمصدر وكما أن الكتاب يحتاج قراءة حقيقية ومثابرة، فكذلك لن يقنط أو يحبط من عدم بلوغ الرحمة إلاَّ من لم يستطع القراءة جيداً، إلاَّ هؤلاء الذين لم يفهموا الرسالة جيداً، وإلاَّ من لم يتمكن من فك شفراته الإلهية الإنسانية. وأن تجنب الرحمة أو إساءة القراءة يعدُّ ضلالاً لا يحول مع ذلك دون استحقاقها.

" كَتَبَ على نَفْسه الرَّحْمةَ ليَجْمعنَّكم إلى يَوْم القِيَامَةِ لارَيْبَ فيهِ" (الأنعام /12) . ماذا تسمى الكتابة على النفس وبخاصة من الله؟! هل هي ضرورة وجودية؟ كيف يكتب الله المطلق شيئاً ذاتياً يخص به ما هو نسبي؟ الرحمة هي الشرط الوحيد تقريباً الذي يضعه الله على نفسه، كأنه يبطل تصوراتنا العنيفة حول ذاته لصالح رحمته التامة. والشرط من قوة الشارط وقدرته على انفاذه كقانون إلهي، فليس معقولاً في الإسلام أنْ يشرط أيُّ مخلوقٍ الرحمةَ على الله، ولكن الرحمة بمثابة القوة التي تمثل (قدرة القدرة الإلهية) ، لأنَّها تكتب وجودها على خالص الأكوان.

وفعل كتب فعل ماض، أي أمر محتوم بالرحمة منة حيث لا يكون حتم على الذات الإلهية من أية كائن كان أو سيكون. فلو قال الله يكتب الله على نفسه الرحمة لكانت أمراً طترئاً ولوقال سيكتب على نفسه الرحمة، لكانت الكتابة خاضة للظروف والأحوال. ولكنه أكدها بصيغة الماضي ارتباطاً بالذات وقدمها.

وفي سياق آخر ربط الله الكتابة بفعل وتحقيق السلام والتواد والتسامح إزاء الآخرين: " فقُل سَلامٌ عليكُم كَتَبَ ربُّكُم على نَفْسه الرَّحمة" (الأنعام /54) . وفي الآيتين (كتب على نفسه) ، وذلك أمرٌ دال على منتهى التوحيد بين المعنى والفكرة، كأن الله من حيث الكتابة على نفسه لم يتح فرصة للتفكير فيما دونه، وكذلك لاعتبار الناس جزءاً حيوياً من وجوده. ومن ثم قضى الله بالرحمة على خلقه، حتى وإنْ أخطأوا وأذنبوا بقول الطبري[7]. فما مدلول أنْ يكتب على نفسه رحمة جامعة لغيره؟! أنَّ فعل الكتابة عمل خالق، أوجد الناس وقد تمت الرحمة بهم رأفة بالبشر كل البشر. لأنَّه لم يحدد أُناساً بعينهم يستحقون ذلك، لكنه كتب الرحمة لمنْ يكون وكفى.

***

د. سامي عبد العال

............

[1]- لو ثمة مقارنة باليهودية، سنجد أنَّ الذات الإلهية في اليهودية مثلاً كثيراً ما وُصفت في حالة صراع مع الشعوب الأخرى: " اِقْتَرِبُوا أَيُّهَا الأُمَمُ لِتَسْمَعُوا، وَأَيُّهَا الشُّعُوبُ اصْغَوْا. لِتَسْمَعِ الأَرْضُ وَمِلْؤُهَا. الْمَسْكُونَةُ وَكُلُّ نَتَائِجِهَا. لأَنَّ لِلرَّبِّ سَخَطًا عَلَى كُلِّ الأُمَمِ، وَحُمُوًّا عَلَى كُلِّ جَيْشِهِمْ. قَدْ حَرَّمَهُمْ، دَفَعَهُمْ إِلَى الذَّبْحِ. فَقَتْلاَهُمْ تُطْرَحُ، وَجِيَفُهُمْ تَصْعَدُ نَتَانَتُهَا، وَتَسِيلُ الْجِبَالُ بِدِمَائِهِمْ. وَيَفْنَى كُلُّ جُنْدِ السَّمَاوَاتِ، وَتَلْتَفُّ السَّمَاوَاتُ كَدَرْجٍ، وَكُلُّ جُنْدِهَا يَنْتَثِرُ كَانْتِثَارِ الْوَرَقِ مِنَ الْكَرْمَةِ وَالسُّقَاطِ مِنَ التِّينَةِ".. (التوراة، سفر أشعياء، الإصحاح الرابع والثلاثون) .

[2]- أبو الفرج الدمشقي الحنبلي، تفسير الفاتحة، تحقيق سامي بن جاد الله، الرياض: دار المحدث للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1427، ص ص 22-23.

[3]- الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن، تحقيق وضبط محمد سيد كيلاني، (بيروت: دار المعرفة للطبع والنشر والتوزيع د. ت) ، ص 191.

[4]-Haya Eid, Muhammad: the Prophet of Mercy, New Vision for Translation and Culture, (Cairo, Egypt, 2012) , P41.

[5]- لعلنا نلاحظ أن عطاء الرحمة يخالف نمط الهبات المتداولة في المجتمعات البدائية القديمة، حيث كانت الهبات تقتضي رد الجميل في نسق رمزي يحكم المسألة اجتماعياً، وأحياناً يكون الإنسان المتقبل للهبة مديناً روحياً وجسدياً لصاحب الهبة ويقع تحت سيطرته السحرية والدينية.

Marcel Mauss, The Gift: The Form and Reason for Exchange in Archaic Societies, Translated by W.D.Halls, With a foreword by Mary Douglas, (London and New York: Routledge, Firest Edition, 1990) , P16.

[6] - وحتى على مستوى التشريع والفقه كانت الإجتهادات الفقهية في الاسلام باباً للرحمة، وأن الاختلاف حول الأمور الحسنة والقبيحة ومناط الحلال والحرام أحد موجبات الرحمة والرأفة والأخذ بيد الناس إلى الخيرات. وتوضيحاً لذلك، ناقش أبو عبد الله الشافعي الاحكام الفقهية باختلاف المذاهب في مسائل العبادات والاجتماع والسياسة والحدود وغيرها وبيان الرحمة فيها.

راجع: أبو عبد الله العثماني الشافعي، رحمة الأمة في إختلاف الأئمة (بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1987) .

[7] - محمد بن جرير الطبري، تفسير الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، الجزء الحادي عشر، تحقيق وتخريج الأحاديث محمود محمد شاكر، راجع الأحاديث أحمد محمود شاكر (القاهرة: مكتبة ابن تيميه، الطبعة الثانية د.ت) ، ص 392.

إن مهمة الفعل الثقافي تتمثل في عملية صناعة الحراك (الديوجيني) ـ نسبة إلى الفيلسوف ديوجينس ـ (والزوربوي) ـ نسبة إلى بطل رواية نيكوس كزانتزاكي التي تحمل الاسم نفسه ـ الغاضبين، والقدر نفسه من (تشاؤميتهما) الهادمة والفاعلة، وليس وفق تسلطية الأكاديميات الخاملة والكابحة، بسبب روح (النظام/ الاقتصادي) الذي أسست على مفهومه وأودع فيها أو في روعها، إن توخينا الدقة.

ومثلما يمكننا أن نقول إن الأكاديميات أو الجهد الأكاديمي عجز عن تخريج شعراء وروائيين وكتاب مسرحيين محترفين، عبر تدريسه لتقانات وأشكال وشروط هذه الأجناس، الفنية والمعرفية والنقدية، وهي تعد - الأجناس الأدبية - أحد أهم عناصر وأدوات الفعل الثقافي، إلى جانب الفن والموسيقى، فإنه يمكننا القول إن تلك الآداب والفنون جاءت من حراك ثقافي (فطري) أنتجه شعراء وكتاب لم يكملوا تعليمهم ولم تتوفر لأغلبهم حتى طاولات للكتابة عليها. وهذا يعني، بطريقة ما، أن الفعل الثقافي ليس عملية تنظيم أو عملية خلع معنى على وضع ما، كالذي تحاول عجلة التصنيع فعله عبر سلسلة تجديدها للحاجات وسد فراغاتها عبر إنتاج الحاجات الاستهلاكية لها، إنما هو عملية ارتكاب حرة ومقصودة في جسد الأنظمة، مهما كانت مصادرها، وإحداث (التشوهات) الواعية فيها، بعد سلخ جلودها التي تقرأها بصيرة الإرادة الإنسانية الواعية، على أنها جلود أفاع مستهلكة أو منتهية العمر أو الصلاحية ولا بد من استبدالها… أو حان وقت استبدالها، على وجه الدقة.

ولنبقى في فكرة جلود الأفاعي هذه لنقول، تأسيساً عليها، إن فعل الإزاحة الفطري، الذي تمارسه الثقافة، يأتي كعملية نقض لخلل في النظام، وإلا فإن أغلب الكائنات تولد بجلود واحدة وتموت فيها وبدون تغيير، فلم الأفعى من بين القلة القليلة، وربما الكائن الوحيد، الذي يحتاج لنقض قانون أو نظام جلده؟

وتسعفنا الأفعى هنا بفكرة التهشيم الاقصائي والتحرر من أعباء القديم البالي وتحشرنا ـ مرغمين ـ تحت قوس الرؤية أو في زاويتها الوحيدة لنمارس حريتنا في فعل الخلق، الذي في متناولنا أو متناول إمكاناتنا العقلية الحالية. وهذا هو الوضع الذي فطر عليه العقل الانساني، منذ لحظة خروج (جلجامش) ـ في الأسطورة القديمة ـ للبحث عن عشبة الخلود.. لم تكن في توديعه لتلك الرحلة كاهنة المعبد وإنما (سيدوري) صاحبة الحانة، وهذا يدل على أن صولة التطلع كانت لما هو ثقافي/ تشوفي وازاحي، وليس لما هو تكريسي وترهيبي/ قمعي (لاهوتي).

ولكن، ولاصطدام (المثقف، الأديب، الفيلسوف) بـ (جدار اللانفاذ) منذ تلك (اللحظة القديمة للعقل البشري)، تحول الدور (القيادي/ التفسيري) واللاثوري إلى كهنة اللاهوت الذين أزاحوا المثقف وجهده الثوري إلى جبال التطلع وعزلة الرفض.

ولكن ما هو (جدار اللانفاذ) هذا الذي اصطدم به الفعل الثقافي ولماذا عجز عقل الإنسان أمامه وعن اختراقه؟ هل هو جدار عجز فعلاً؟ لماذا استطاع العقل الإنساني النفاذ عبر ممره العلمي وعجز عن النفاذ عبر ممر (الحاضنة التهذيبية، الفعل الثقافي) لهذا العلم؟ ربما لأن هذا الثقافي هو حسي ومشاعري صرف وغير قادر على الانسجام مع قوانين العقل أو مقاوم لها ولاشتراطاتها الحسابية ـ المادية؟

بمعنى أن الشجرة التي خصف منها آدم وحواء على عورتيهما، يجب أن تبقى شجرة وأن تنتج بذرة شجرة لكل واحد من ذريتهما، وبغرض الأوراق نفسه، وأن تبقى الغابة من وراء تلك الأشجار مراحاً (للخصف) ولما قبله، وليبقى شيطان وأفعى الغواية يجولان في أطرافها بكل عبثية ولا مسؤولية! أليس هذا هو ما تأسست عليه الايديولوجيات الدينية واستمدت منه مشروعيتها وديمومتها؟، فلم لا يكون (الثقافي) بالدورة نفسها ويلبي بالطريقة نفسها، جانب الحاجة له: الطفو على قوانين المنطق أو اتباع قوانين الطبيعة، التي سمحت لبعض كائناتها بالتطور وأهملت البعض الآخر ليواصل بقاءه بالآلية نفسها، كبعض العظاءات والحشرات المغرقة في الغباء والتخلف، على صعيد الشكل وطرق الإداء، وغير قادرة على التعلم والتكيف، كالإنسان وأصناف الطيور والحيوانات المفترسة والقرود التي تطورت؟

وهنا نحن بصدد تحديد ملامح الجهة التي قررت تلك الارتباكات ورسمت أشكالها، واستناداً إلى الشكل الأسطوري الذي رسم قصة الخطيئة الأولى، وأصناف الارتباكات التي رافقتها: إغواء تتبعه خطيئة، يترتب عليها غضب وطرد، ثم سقوط من حدائق نهر العسل لتتبدى للإنسان، وللمرة الأولى، سوءته، في غابة وفي عصور ما قبل يقظة العقل البشري، أي قبل اختراع الأقمشة ومكائن الخياطة، فيضطر إلى الاستعانة بأوراق الأشجار ليغطي بها، أول خطوات وعيه بكينونته: عورته، مصدر لذته الجنسية ومصدر بقائه في حياته الجديدة (آلية وأدوات تناسله).. لم لم تكن لحظة ذلك الاكتشاف لحظة وعي وكشف معرفي وثقافي، خاصة أن العقل الإنساني كان مازال بكراً ونقياً ولم يكن مكمماً (بالسلطات والمحددات الايديولوجية والسياسية على وجه التخصيص)، بدليل بحثه عن بديل للقماش في أوراق الأشجار لستر عورته؟

أن يكون الإنسان قد عاش قبل الخطيئة الأولى عارياً في الجنة، من دون أن ينتبه إلى خجل عورته، لا يعني أن حس غرائزه كان منوماً أو غير معروف لديه، وأن أحاسيسه الغريزية قد استيقظت فجأة كنوع من العقاب الذي تبع الخطيئة، لأن هذا سيعني أن الإنسان كان مسلوب الوعي، وأن وعيه وثقافته قد تكونت فجأة وفي لحظة واحدة. وقبل خطيئته والوعي الذي تبعها، ماذا كان يعمل وبأي وعي كان يتصرف؟ كان يعيش ليأكل كالبهائم؟ من أين جاءه الوعي الذي يؤهله إذن لتقبل إغواء وإغراء منافع أو امتيازات ما بعد الأكل من شجرة الحكمة أو المعرفة؟

هذا هو مصدر الارتباك (الثقافي) الحاصل، وهو انقسام أو توزع الوعي والبنى الثقافية ما بين فروض أو احتياجات الحس الغريزي وقوانين العقل واشتراطات منطقه؛ وهذا الارتباك ناجم عن أن كل جانب من الجانبين متمسك باحتياجاته ويسعى إلى إشباعها، وأن غلبة أي جانب على صاحبه تعني، بالضرورة، حالة عدم استقرار تدفع باتجاه العودة إلى الجانب المغلوب من أجل إحداث حالة من التوازن بين حضورهما في سيرورة (الوجود الذاتي وكينونته) في الانسان.

ولنأخذ هنا فكرة، الروائي اليوناني، نيكوس كزانتزاكي، التي طرحها في روايته الشهيرة (زوربا)، وبشكلها المجرد كفكرة، لا بمدلولها المباشر، إذ يقول زوربا لمعلمه مستثمر المنجم:  دعهم نياماً ولا توقظهم يا أستاذي.. فماذا ستعطيهم إذا ما أيقظتهم وأشعلت النار في أفكار تطلعاتهم؟ ديمقراطية وحقوق إنسان ونقابات عمال وعدل اشتراكي في توزيع الثروات؟ سيتمرد الجميع على الجميع وعلى كل شيء، وستطمح الدجاجات إلى التحول إلى ديكة… والسؤال هو ـ بمعناه ومقصده المجازي طبعاً: ما جدوى أن تتحول الدجاجات إلى ديكة مادام الحقل لا تنقصه الديكة؟ وعليه يصبح سؤالنا الثقافي وبالمقصد نفسه من المجاز: لماذا تتحول الدجاجات إلى ديكة، مادامت الديكة تصرخ في كل زوايا الحقل، ومادامت الدجاجات المتحولة لن تزيد بشيء على ذلك الصراخ، وربما حتى لن تصل إلى طبقته الصوتية أو نغمته من الأساس؟

والآن يكون عرضنا هذا قد أوصلنا لبداهة السؤال: ما هي الإشكالية الثقافية التي نعانيها وتشدنا بعيداً، وتسرف في إبعادنا لتحيلنا إلى أشباه لمساح قصر (فرانز كافكا)، وهو يدور متبدداً تحت سلطة القصر والمحكمة؟

لقد أضحينا نعيش حالة توزع ثقافي ـ بلا وجه ـ بارد إلى الحد الذي لا يستجيب فيه لأي متغير أو أثر، رغم أن ظاهر (ملمسه) لا يدلل على حالة موت يستوجب كتابة نعي أو إصدار شهادة وفاة..، وهذا التوزع (أو حالته) لم يعد يؤهلنا لإنتاج فلسفة تصنف مشاكلنا، على أقل تقدير. وهذا يعني، في المحصلة، أن الجهد الثقافي يجب أن يتأسس على جهد فلسفي بالأساس، وهذا ما حصل بالحراك الثقافي الفطري، في عصور الإنسان الأولى (عهد الأساطير الأولى التي تولت تفسير الوجود ووجود الإنسان)، وعليه فهذا هو ما يعاني نقصه المشروع الثقافي العربي: ركائز الفلسفة، ولكن ركائز الفلسفة (الفطرية)، أي غير المؤدلجة أو المنسوج لها (خصف العورة) المسبق: أي حرية التفكير والفكر والتأسيس المعرفي والثقافي.

***

دكتور سامي البدري

كان سقراط أوقع نفسه في ورطة بتحقيقاته وأسئلته المتواصلة عن السلطة. هو أزعج  زملائه المواطنين كثيرا حتى انتهى به الأمر الى المحاكمة. وبالنهاية هو قبل بعقوبة السم بدلا من التهرب من القانون والذهاب الى المنفى.

وبينما هناك القليل من الفلاسفة تحلّوا بنفس شجاعة سقراط، لكننا عموما نبقى في شك حول مسألة اللجوء الى السلطة. نخشى ان هناك الكثير من مدّعي السلطات هم من المخادعين الذين أوكلوا لأنفسهم هذه المهمة دون معنى. لابد من تسليط الضوء والبحث الدقيق والتحقيق في الحكمة المعطاة. لابد ان نسأل عن أسباب، عن دليل، عن حجة. الحجج يجب موازنتها مع مزاياها وليس مع اصولها. الناس السيئون يمكن ان تكون لديهم آراء جيدة، والناس الجيدون يمكن ان تكون آرائهم سيئة. السؤال المشكك بالسلطة "منْ له سلطة القول" هو شائع جدا بين النسبيين الأخلاقيين.

في بعض السياقات، يبدو من المنطقي الإجابة بنعم  وافتراض ان هناك شخص ما لديه سلطة "القول"، او إملاء الحقيقة. فمثلا، المحكمة العليا قد تكون لديها سلطة القول فيما اذا كانت بعض القوانين دستورية. وببساطة اكثر، الوالدان لهما القول في تقرير وقت النوم عند الساعة الثامنة مساءً. في هذه الحالات، يتم القرار من جانب سلطة ملائمة. لكن الأسئلة الفلسفية تختلف عن هذا. نحن غير قادرين ان نقرر،مثلا، ما اذا كانت لدينا رغبة حرة او البت في مسألة وجود الله. ومهما كانت الحالة، لا توجد هناك سلطات ملائمة نفوض لها اتخاذ هذه القرارات. اذا كان لدينا زملاء فلسفيين رائعين، اكثر اطلاعا واكثر أناقة وفضيلة. لكن من المؤسف ليس لدينا زملاء لديهم السلطة في تقرير ما اذا كان الذهن هو الدماغ ذاته.

ربما لدينا سبب كاف للتشكيك في مصدر السلطة الاخلاقية. القلق الواضح هنا هو ان هناك اسبابا ذاتية هائلة تجعل من ادّعاء أخلاقي لشخص ما مرشدا لسلوك الآخرين. لنسمي هؤلاء اصحاب السلطة الاخلاقية  بـ معلمي الاخلاق. ليس من الصعب الاعتقاد بان هؤلاء معلمي الاخلاق الذين يتحدثون عن أهميتهم الاخلاقية هم يهتمون كثيرا بزيادة سلطتهم وثروتهم ومكانتهم. هم ربما ميكافيليين مستغلين. هؤلاء اساسا، يفتقرون لمعرفة كافية بالذات. ربما من المغري تجسيد الأحكام المسبقة للمرء عبر تفسير حياته وقيمه الخاصة كانعكاس لحقيقة أخلاقية عميقة.

نظرا لهذه المخاوف، نحن يجب ان لا نقبل دون نقد تصريحات معلمي الاخلاق. الأفضل ان نتبع مسار سقراط في التساؤل المستمر: لماذا يجب عمل هذا الشيء؟ ما الاسباب التي لديك لهذه السياسة؟ ما الحجة، ما الدليل؟ انا لا أقبل مجرد القول لي. العديد من الاخلاقيين النسبيين يشتركون بهذه الشكوك. ما الذي اذاً يقودهم للسؤال عن "صاحب سلطة القول" كطريقة لرفض حقيقة أخلاقية موضوعية؟ الاخلاقيون النسبيون عادة يبدأون من ملاحظات واقعية بان مختلف الثقافات تجيز مختلف العادات والقوانين والقواعد الاخلاقية. هناك اختلافات ثقافية واضحة بشأن قضايا مثل العبودية، عقوبة الإعدام، علاقات المثلية الجنسية واستعمال الكحول. الشخص المطّلع على هذه الاختلافات بالطبع يبدأ بالتساؤل منْ هو على صواب، ومنْ هو صاحب سلطة القول؟ سيكون من غير الحكمة الإفتراض سلفا اننا على صواب. ربما، لا أحد على صواب، واننا يجب ان نشكك بفكرة الحقيقة الاخلاقية. ربما لا وجود لحديث معقول عن الخطأ والصواب في مسائل الأخلاق. البعض يفضل آيس كريم عادي بينما الآخر يفضله بالفواكه. الاسبارطيون احيانا فضلوا وأد الاطفال، بينما نحن لسنا كذلك.

الحديث النسبي

من المثير للاهتمام حاليا ان معظم النسبيين الاخلاقيين لايسلكون هذا المسار المشكك. لنبدأ بحالة من الاختلاف لكي نرى منطق افتراضاتهم. ربما انت تعتقد ان الارض كروية. وانا ارى ان الارض مستوية. من حيث المنطق البسيط يبدو ان هناك ثلاثة احتمالات : اما انت لديك عقيدة زائفة، او انا عقيدتي زائفة، ام كلانا عقيدتنا زائفة. نفس الشيء، في حالة عدم الاتفاق الأخلاقي، يبدو انه اما انا على صواب، او انت على صواب، او لا احد منا صائبا. النسبيون، يلجأون لحالات لا تتبع هذا النمط. دعنا نقول انك تعتقد ان هناك وحش على جهة اليمين، بينما انا ارى ان نفس الوحش هو على اليسار. في هذه الحالة،من الممكن اننا كلانا لدينا عقيدة صادقة. ربما نحن نواجه بعضنا، نحدق بعيون بعضنا،نبحث عن شجاعة واطمئنان. او ربما ان الوحش انتقل اثناء حديثنا. في حالات اخرى يبدو ان الجملة "الوحش على اليسار"هي لا صحيحة ولا كاذبة: انها غير كاملة الى ان يتم تحديد اطار مرجعي – مثل "الوحش هو على اليسار لحد الان".

هنا ايضا نموذج يفترضه النسبيون للحقيقة الاخلاقية: هم يقولون ان القول "س هو صائب اخلاقيا" هو غير تام بنفس الطريقة في القول ان "س هو على اليسار". فمثلا،لو ان (ص) يؤمن ان العبودية مقبولة اما (د) يؤمن ان العبودية غير مقبولة اخلاقيا. يبدو كما لو ان جانبا واحدا يمكن ان يكون صحيحا. لكن الاقتراح النسبي هو ان كلا الطرفين هما صائبان قياسا لمنظورهم الثقافي: العبودية جائزة اخلاقيا لـ (ص) وغير جائزة اخلاقيا لـ (د).

من جهة، هذا النموذج للاخلاق يبدو اكثر تسامحا. ومن جهة اخرى، انه يعني ان المكانة الاخلاقية للعبيد لا تعتمد مباشرة على حقائق، مثل، رفاهية الانسان، المساواة، الكرامة، والاستقلالية. بل، ان أخلاق العبيد تعتمد على مواقف سلطة ملائمة، أي، المواقف الاخلاقية السائدة بين (ص) و (د).

الاستنتاج المدهش هنا، هو الخوف الواضح من ان المواقف الاخلاقية السائدة تفشل احيانا امام التمحيص الفكري الدقيق. ببساطة، يبدو كأن كل ثقافة وكل فرد يصل الى أشياء خاطئة أخلاقيا. هذا الفشل من السهل تحديده من بُعد، مثل عندما ننظر رجوعا في الاخطاء الاخلاقية لأسلافنا. هذا احد الاسباب يفسر لماذا من المفيد النظر في معتقدات اخلاقية بديلة والانتباه للنقد الخارجي. بالتأكيد، ثقافات اخرى تقوم باشياء افضل مما نعمل. عندما نخبر اجدادنا حول حياتنا الان، أي شيء يجعلنا خجلين؟، تعاملنا مع الحيوانات؟ موقفنا الرقيق تجاه تخصيب اليورانيوم؟ عدم احترامنا للبيئة؟ او شيء اصعب مما نتصور، هذه لا تبدو مجرد تقلبات للموضة مثل شكل البدلة او القبعة. انها تبدو مسائل يجب ان نفكر بها.

في الحقيقة، النسبيون عادة يبسّطون او يتجاهلون التفكير الاخلاقي من خلال عدم النظر في الاسباب الاخلاقية كلها، ويركزون على المعتقدات الثقافية. هناك مقارنة مفيدة مع فكرة المؤمن بان القانون الاخلاقي يتطلب واهبا للقوانين. طبقا "لنظرية الأوامر الالهية"، الفعل يكون صائب اخلاقيا اذا كان مطابقا لاوامر الله.  سقراط  يسأل ما هي الاسباب التي تجعل الله يأمر بافعال معينة. هذا يقود الى ما يسمى "مأزق ايوثيفرو"،في حوار افلاطون(1): اذا كانت هناك اسباب مستقلة تفضل الفعل كخيّر، عندئذ نحن يمكننا اللجوء مباشرة لتلك الاسباب، وعليه لماذا نجلب الله؟ وبالعكس، بدون اسباب مستقلة تجعل الشيء خيّرا، ستبدو اوامر الله اعتباطية. بالطبع قديس مثل اوغستين يلجأ الى شخصية الله الجيدة وانها ذاتها المعيار النهائي للخير، ويقول انه بهذه الطريقة تكمن الخيرية في الله او تأتي منه. لذا في هذه الطريقة فان المعيار الاخلاقي يقف مع خالقنا، وهذا يكون مفيدا ضمن الاطار الديني. اللجوء الى السلطة الثقافية بين النسبيين الاخلاقيين العلمانيين هو اكثر ارباكا. لماذا نعتقد ان عبء التبرير الاخلاقي يتوقف على المعتقدات الثقافية السائدة؟ ما الذي يعطي الثقافة سلطة شبيهة بالله لتقرير الحقيقة الاخلاقية؟

السؤال النسبي "منْ صاحب القول؟" يفترض سلفا سلطة اخلاقية شبيهة بنظرية الاوامر الالهية. كذلك، منطق حجتهم يتضمن جوابا واضحا لسؤالنا – أعني، المواقف الاخلاقية السائدة. رغم هذا، العديد من النسبيين هم مشككون بقوة بفكرة ان هناك موقف مفضل لسلطة تحترم الحقيقة الاخلاقية. فمثلا، هم عادة صدى للمابعد حداثي مايكل فوكو ورؤيته بان الادّعاءات بالمعرفة الاخلاقية يمكن استخدامها كوسائل للسيطرة والاحتفاظ بالسلطة. وهم بوضوح صائبين حول ذلك. في الحقيقة، هناك تاريخ كبير ومروع للأقوياء يفرضون طريقتهم بالحياة على الضعفاء والأقل قدرة باسم الحقيقة الاخلاقية. الفاتحون عادة لديهم معلمين اخلاقيين يقفون بجانبهم، يعملون على خنق المعارضة. هم يمكن ان يكونوا مخلصين دائما ومليئين بالحماس.

الرؤى الاخلاقية

يبدو ان استراتيجية النسبيين في ربط الحقيقة الاخلاقية بالمعتقدات الاخلاقية يخلق لهم مشكلة في الوقوف مع اخلاق السلطة دون ان تكون لهم رغبة بذلك. فهل يمكن العمل بطريقة افضل؟

هناك ثلاثة تصورات تأتي الى الذهن عندما نحاول التفكير بالسلطة الاخلاقية. الاول يتعلق بالمعلم الاخلاقي الذي ينقل ما يعتبره حقيقة اخلاقية مطلقة من موقع السلطة. هو ربما ينظر نزولا من منصة بالكنيسة لأغراض العبادة او من منبر استاذ جامعة او من حملات انتخابية للسياسيين. هو ربما يعتبر نفسه في مهمة تثقيف المواطنين. هذا التصور هو نوعا ما مخيف. في صيغته المتطرفة هو يستلزم مركب سام من السلطة واليقين الاخلاقي الذي هو مقدمة للسلطوية والتوتاليتارية والاضطهاد وحتى التطهير العرقي. اذا كان المعلم الاخلاقي لديه ما يقوله، عندئذ دعه يقف الى جانبنا بدلا من تسليم حقيقته من الأعلى. دعنا نناقش اسبابه لكي نستطيع النظر بها مجتمعين بروح من عدم التأكد.

البديل النسبي يبدو على الأقل خطوة نحو الأفضل. هنا يمكن ان نتصور أعضاء ثقافة مشتركة يتجمعون حول حقائقهم الاخلاقية مثلما يتجمعون في مخيم حول النار. هناك قياس للانسجام، و قبول بان مخيمات اخرى التي لديها نار اخرى يبدو تجعلهم متساويين في الدفء. هناك الاف المخيمات تشعل النار وهناك ايضا رؤى محافظة معقولة نتعلمها نزولا من الأسلاف – افكار عملت لهم بنجاح او على الأقل للغالبية منهم في وقت ما.

الخوف هنا هو حول أصوات معارضة عند حافات الجماعة، يحتشدون ضد البرد، و يشكّون بان ثقافتهم ضلّت الطريق. دعنا نأمل انهم ينتمون لثقافة تجيز هكذا معارضة لو تجرأوا للتعبير عنها. في الحقيقة، دعنا نأمل ان ثقافتهم مستجيبة للجدال العقلاني. ايضا، وان لا نفكر كثيرا حول الجماعات الاخرى من المخيمات الذين ينوون نشر نيرانهم بالقوة عند الضرورة. بالنهاية،التسامح ليس عقيدة أخلاقية عالمية.

التفكير الاخلاقي المفضل هنا لا يستلزم معلمين اخلاقيين يسلّمون الحقيقة نزولا. ولا يستلزم قبول المعتقدات التي صادف ان تكون سائدة لدى جماعة معينة. بل انها تستلزم تشجيع اعضاء جماعات اخرى مع افتراض مسبق بالمساواة والاحترام والجهل المشترك. لذا دعونا نتجول بعيدا عن مخيمنا الاخلاقي ونحاول النظر بافضل ما نستطيع في الكيفية التي يعيش بها الآخرون حياتهم، فرديا وجماعيا. لنقوم بهذا بدون اعتبار لأي سلطة اخلاقية مفترضة، وبدون افتراض ان أي شخص يعرف سلفا بالضبط ما يقوم به. في الحقيقة، الافتراض بان أي ثقافة تمتلك احتكارا للحقيقة الاخلاقية او للتفكير الاخلاقي الواضح يبدو كأنه شيء ما بين الساذج والمضحك. يبدو من المحتمل جدا اننا جميعا مخطئون بشكل ما، وصائبون بأشكال اخرى. دعونا نحاول اكتشاف أي العقائد هي تلك. نسأل لماذا الآخرون يعيشون كما يريدون ودعونا نفهم لماذا نحن نعيش كما نعمل. نحن ربما نتعلم شيئا ما جيدا وقد نتغير نحو الافضل.

اذاً، منْ هو صاحب القول؟ الجواب هو "لا أحد". لا مصدر متعالي ولا ثقافة س او ثقافة ص. ليس معلمو الاخلاق. نحن يجب ان نقاوم الافتراض بان أي شخص لديه سلطة خاصة فوق الشك تحترم المسائل الاخلاقية. الأسئلة الاخلاقية لم تتقرر بسلطات او بأوامر عشوائية. بل، في الحقيقة، نحن جميعنا نجلس حول ضباب اخلاقي، محاولين شق طريقنا بأفضل ما يمكن. هناك ضوء من مخيمات اخرى حولنا، لكنه عادة ضعيف. احيانا نحن علينا ان نغلق عيوننا مؤقتا وننتبه للمنطق والدليل بصرف النظر عن اصوله. نفس الشيء، دعنا نرفض الافكار التي لا تصمد للتمحيص النقدي بصرف النظر عمن يفترضها.

ربما احد يعرف أين تكمن الحقيقة الأخلاقية. بينما الآخر ليس كذلك. ان رهاننا الأفضل هو ان نفكر بهذه الاشياء مجتمعين بدون اللجوء للسلطة. لا أحد يستطيع القول لكننا جميعا نستطيع التشاور على قدم المساواة.

***

حاتم حميد محسن

............................

Who’s To Say? Philosophy Now, June/July2023

الهوامش

(1) في مأزق ايوثيفرو يسأل سقراط هل اننا نقوم بالافعال الخيّرة لأن الله اراد ذلك ام اننا نقوم بها لأنها بطبيعتها خيّرة؟ اذا كنا نقوم بعمل الخير امتثالا لأوامر الله، معنى هذا لا توجد هنا اسباب منطقية للقيام بالعمل، فيكون العمل اعتباطيا، ليس له اسباب، فقط لأن الله اراد ذلك. اما اذا كان قيامنا بالفعل الخيّر لأن الفعل هو ذاته خيّرا، فستكون خيريّة الفعل هي المصدر الاخلاقي ولا حاجة لوسيط آخر.

في عام 1982 أصدر عالم الاجتماع الانجليزي "أنتوني جيدنز" Antony Giddrns كتابه الشهير علم الاجتماع، والذي تطرق من خلاله لتطورات المفاهيم الجنسية وأثرها الاجتماعي على الأفراد، فيقول أن: مفاهيم الحياة الجنسية قد تعرضت لتغيرات وتحولات مثيرة في العصر الحديث، فقد تبدلت بصورة جوهرية جوانب مهمة من حياة الناس الجنسية في البلدان الغربية خلال العقود القليلة الماضية، إذ أصبح النشاط الجنسي جزءا محوريا في اخوية الاجتماعية ما أدى بدوره لظهور العديد من السلوكيات والتوجهات الجنسية التي لا تنتهي والتي تعد النسوية التقاطعية intersectionality feminism واحدة من تطبيقاتها.

ويمكن تسليط الضوء على النسوية التقاطعية فبعد أن تلاشت موجة الثورة الثقافية في أوائل سبعينات القرن الماضي في العالم الغربي، أصبح من الواضح أن موضوع المرأة لا يمكن أن يكون وحده مطلبا موحدا ووحيدا للنضال من أجل التغيير، حيث أثارت النسويات الأمريكيات من أصل أفريقي واشتراكي ونسوي قضايا مختلفة من الاضطهاد والقمع وعلاقات السلطة من قبيل العرق والطبقة والجنس والجغرافيا السياسية والميول الجنسية.

ففي الولايات المتحدة الأمريكية تتعرض النساء بسبب هويتهن الجنسية (أنثى) وهويتهن الجندرية (امرأة)، بصورة أساس، لعنف قائم على النوع الاجتماعي، ولتمييز يصعب حصره في ٍشكل محدد، لأسباب عدة: لون بشرتهن، وهوياتهن العائلية والعشائرية والإثنية والطبقية والدينية والمذهبية... إلخ، أو بسبب ميولهن الفكرية والأيديولوجية والسياسية أيضا، وفي خضم الدفاع عن حقوقهن، غالبا ما تٌحصر في هويتهن الجندرية، وتحديدهن بوصفهن فئة واحدة تعيش التجربة نفسها، وتعاني الاضطهاد نفسه، وتقع عليهن النتائج نفسها، الأمر الذي يفضي إلى إعادة إنتاج الصور النمطية، وتكريسها ضدهن، وعدهن كتلة واحدة من الضحايا والمعتقدات والُمستغلات، ومن يستغلهن هو ”الرجل”، في تكريس لانقسام جندري معياري، يبسط القضايا، ويغفل الحالات التي تتراكب فيها عناصر التمييز المركب وتتقاطع.

وتعود بداية استخدام النسويات المعاصرات لمصطلح التقاطعية إلى عام 1989، عندما صاغت الناقدة الأمريكية والرائدة في نظرية العرق النقدية " كيمبرلي كريشنو" المصطلح لوصف وتحليل ما تواجهه النساء السود في أمريكا من تجارب فريدة ومتنوعة من الاضطهاد والتمييز.

وقد طرحت "كيمبرلي كرينشاو" عبر نظريتها "التقاطعية" كما يقول الأستاذ سليم سوزا أغلب المفاهيم والإشكاليات الرئيسة التي كانت قد ركزت عليها كاتبات نسويات ملونات من أصول أفريقية قبلها بسنين طويلة، لكن من دون أن يبتكرن مصطلحًا خاصًا بهذا الأمر. طُرحت هذه الإشكاليات من قبل من دون أن يتم تعريفها نظريًا، حتى جاءت كيمبرلي كرينشاو وصاغت هذا المفهوم (التقاطعية) في ورقتها التأسيسية الشهيرة (استكشاف الهامش: التقاطعية، سياسات الهوية والعنف ضد النساء الملونات) التي نُشرت لأول مرة في عام ١٩٨٩. قدمت كرينشاو للمرة الأولى مصطلح التقاطعية ليكون عنوانًا للعمل النظري وللممارسات العملية التي تحاول النسويات من خلالها فهم التجارب المركبة لبعض النساء، تلك التجارب التي كانت نتاج ظلم متعدد الأبعاد لم يقع عليهن بسبب كونهن نساءً فحسب، وإنما لأنهن يحملن انتماءات وهويات أخرى في آن واحد: العرق والدين والطبقة... إلخ.

وتشير التقاطعية عند كيمبرلي كرينشاو كما يقول الأستاذ سليم سوزا إلى تداخل الهويات الاجتماعية وأنظمة القمع والهيمنة و/ أو التمييز ذات الصلة. الفكرة هي أن الهويات المتعدّدة تتقاطع لتكوّن مجموعة مختلفة عن الهويات المكونة الأساس. التقاطعية أداة تحليل لدراسة الطرق التي يتقاطع فيها الجنس والنوع الاجتماعي (الجندر) مع الخصائص/الهويات الشخصية الأخرى وفهمها والاستجابة لها، وكيف تساهم هذه التقاطعات في صنع تجارب فريدة للتمييز.

وكيمبرلي كرينشاو ليست أول من أوجدت فكرة التقاطعية، وإنما الفكرة كانت موجودة في الموجة الأولى وما بعدها أيضًا كما يقول الأستاذ سليم سوزا، حيث بدأت النسويات السود في الموجة الأولى وما بعدها، بسبب تأثير خطاب ما بعد الكولونيالية وما بعد الحداثة، تركز على أن المرأة السوداء لديها تجربة مختلفة وفريدة عن بقية النساء، سيما المنحدرات من العرق الأوروبي الأبيض. فمثلاً، التقاطعية كفكرة (وليست كمصطلح) كانت موجودة في كتابات الشاعرة المكسيكية ذات الأصول التي ترجع إلى سكان قارة أمريكا الأصليين، غلوريا أنزالدوا (١٩٤٢-٢٠٠٤)؛ وقبل ذلك، في محاججات سوجيرنر تروث ضد فريدريك دوغلاس، كما تطرقنا إليها في بداية الحديث. لكن كرينشاو هي من طورت هذه الفكرة وهذّبتها ونظّرت لها أكاديميًا ومنهجيًا وصاغت مصطلحًا مناسبًا لها في مقالتها التأسيسية المذكورة آنفًا، أي مصطلح "التقاطعية".

ما التقاطعية في بداية ظهورها؟.. تشكّلت التقاطعية في البداية من ثلاثة أشياء تخص بالأساس تجربة النساء السوداوات في المجتمع الأمريكي، الأولى: الطبقة، والثانية: العرق، والثالثة: الجندر (النوع الاجتماعي). انظر الشكل التوضيحي أدناه كما يقول الأستاذ سليم سوزا:3522 النسوية التقاطعية

تقع "المرأة السوداء" في مركز تقاطع الدوائر الثلاث تلك: الطبقة والعرق والجندر، إذ تُهمَّش وتُضطَهد بشكل مضاعف بسبب هوياتها المتقاطعة الثلاث هذه. التقاطعية مصطلح يُستخدم بشكل عام لوصف وجود أشكال متعددة من الاضطهاد التي تتداخل وتتقاطع لتشكيل تكوينات مختلفة لكل فرد، والتي تخلق تجارب وعوائق اجتماعية فريدة. فنجد عبارة "الحاجة إلى أن تكون تقاطعية" عبارة شائعة داخل الطبقة والجندر والعرق، مما يعنى أن أي صراع يجب أن يكون شاملاً وممثلًا للأفراد الذين يعانون من اضطهادات متداخلة مختلفة، بدلاً من فكرة التركيز ببساطة على مجموعة واحدة أو شكل واحد من الاضطهاد. في كلام آخر، أن المرأة السوداء على سبيل المثال ليست مضطهدة بسبب أنها امرأة، بل لأنها امرأة ومن طبقة فقيرة ومن عرق أسود (ظلم متعدد الأبعاد نتيجة تداخل وتقاطع ثلاث هويات في آن واحد: جندر، طبقة، عرق). بدأ هذا المفهوم "التقاطعية" يتجسد بوضوح في كتابات كرينشاو واستُخدِم كعدسة تحليل في النسويات (وفي العلوم الاجتماعية فيما بعد). تضرب كرينشاو مثلاً بحادثة شهيرة وقعت في إحدى المحاكم الأمريكية، إذ تعرضت مواطنة سوداء إلى الاغتصاب على يد رجل أبيض. حكمت المحكمة بعقوبة ما هي ذاتها العقوبة المنصوص عليها قانونًا مع جرائم من هذا النوع. إلّا أن كرينشاو هنا تنبّه إلى نقطة خافية عن الكثيرين من أن هذا الحكم لا يمكن أن يكون عادلاً هنا لأن هذه المرأة السوداء لم تُغتَصَب لأنها امرأة، بل لأنها امرأة وسوداء ومن طبقة فقيرة. يجب أن يُحاكم المغتصب ثلاثة أضعاف هذا الحكم القانوني الموجود لأنه ارتكب ثلاث جرائم سوية، اغتصب امرأة، وانتقم من عرق، واستغل فردًا من طبقة اجتماعية فقيرة. بالتأكيد، لا يعني هذا أن كرينشاو تريد حكمًا من هذا النوع، فهي قانونية وتعي تمامًا صعوبة تطبيق مثل هذا الأمر في الواقع، ثم أنها غير معنية بالجدال القانوني هنا وباعتراضات سطحية من هذا القبيل بقدر ما أنها تحاول إثارة موضوع أخلاقي وثقافي يسلط الضوء على ظلامات متعددة تتعرض إليها بعض النساء جراء تقاطع عدد من الهويات لديهن. جدالها تحليلي ثقافي وليس قانونيًا سطحيًا.

ومن هذا المنطلق تمثّل النسوية التقاطعية طريقةً لفهم واستيعاب العلاقات الاجتماعية، وتعدّ تأكيداً على تداخل أنواع التمييز في جميع أشكال الهويات الاجتماعية والسياسية. وهذا يعني الاعتراف بتعقيد النظام الاجتماعي، وأن الإنسان قد يكون معرضاً للكثير من أشكال الاضطهاد كالتمييز العنصري والجنساني والعمري. ويتم استخدام مصطلح التقاطعية غالباً لتوصيف ضرورة التصدي لكافة أشكال الاضطهاد وتقاطعاتها المتعددة.

وعلى الرغم من أن النسوية التقاطعية تعني القدرة على التعامل مع جميع العقبات المحتملة التي تقف عائقاً ضد السلامة الفردية والجماعية، لكنها ليست مجرد اعتراف بتعدد أشكال التمييز والتعامل مع كلٍ منها على حدة. فجميعنا ندرك حقيقة وجود التمييز العنصري والجنساني، والتمييز ضد الأشخاص ذوي الإعاقة، ولكن عندما تجتمع هذه الأشكال معاً فإنها تتضاعف وتتحول إلى اضطهاد، وبناء على ذلك فإن التقاطعية النسوية تؤمن بوجود اضطهاد استثنائي وتكرّس جهودها لمعرفة آلية التعاطي مع هذا المزيج المتعدد والمعقد من أشكال التمييز.

خلاصة القول: إن التقاطعية هي مقدرتنا على الإصغاء إلى الآخرين ومعرفة مزاياهم المختلفة، وتحديد الأشخاص المهمشين الذين تتم ممارسة التمييز تجاههم ضمن أماكن العمل وفي المجتمع؟ والأهم من ذلك، فهي الرغبة بتغيير هذا السلوك. واتّخاذ الإجراءات المناسبة لدعوة وتضمين جميع الأشخاص والعمل معهم للحصول على جميع حقوقهم وتخطي جميع أشكال التمييز والتعصّب التي يتعرضون لها.

***

أ. د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة – جامعة أسيوط

.................................

المراجع

1- أسماء مقري: التقاطعية.. رؤية نسوية جديدة، موبريس، السبت 2-4-2022.

2- ندى مصطفي: النسوية التقاطعية: ماذا تعني؟، أوفيد، 07/01/2022.

3- أنظر محاضرة الأستاذ سليم سوزه عن مفهوم التقاطعية في دراسات العدالة الاجتماعية، منشورة يوتيوب ضمن الصالون العراقي بلوس أنجليس.

4- علياء أحمد: النسوية التقاطعية: معناها، تطبيقاتها، نقدها وإمكان استخدامها في السياق السوري، المجلة السورية للعلوم الإنسانية، العدد السادس عشر- تموز/ يوليو 2022.

مدخل عام: في شهر اوت 1909 الطويل والحار، وفي سن الثالثة والخمسين، أتيحت الفرصة لفرويد برفقة تلميذه وصديقه ساندور فيرينزي، للذهاب إلى السينما لأول مرة. وحدث ذلك في نيويورك خلال زيارته للولايات المتحدة حيث تم إلقاء خمس محاضرات في جامعةClark University  في Worcester رغم انه لم يكن منجذبًا جدًا للأفلام، باستثناء إبداعات تشارلي شابلن. ويؤكد الكثير من المهتمين بحياة فرويد وافكاره العلمية بأنه سيصاب بخيبة أمل كل من يبحث في نصوص فرويد على أمل العثور على بعض المراجع التي تشهد على اهتمامه بالسينما أو نقطة التقاء محتملة بين نظريته في التحليل النفسي والفن السابع فهل رفض فرويد كان نابعا من إمكانية تحويل التحليل النفسي الى سجل تجاري في ظل ثقافة غربية يغلب عليها الطابع المادي النفعي والاستهلاكي؟ وهل هذا الرفض ينفي وجود تقارب ونقاط تلاقي بين التحليل النفسي والشاشة السينمائية؟

لقد بدأ عالم السينما يهتم بالتحليل النفسي في منتصف العشرينات من القرن الماضي. ففي ديسمبر عام 1924 سافر المنتج صامويل جولدوين إلى أوربا وهو مؤسس شركة Goldwyn Pictures  Corporation  وفي تقرير أرسل إلى نيويورك تايمز على متن الطائرة، أعلن عن نيته زيارة فرويد والحصول على تعاونه في فيلم حب مبني على المشاعر الغرامية ، وانه مستعد لتقديم مائة ألف دولار لفرويد مقابل قبول عرضه. وكان رد فرويد على طلب المقابلة موجزا ونهائي: "ليس لدي أي نية لرؤية السيد جولدوين". رفض فرويد لعرض صامويل جولدوين تسبب في إحداث ضجة في نيويورك أكثر من نشر "تفسير الأحلام" والذي صدرت الطبعة الأولى منه سنة 1900 وقد اشارت الى ذلك صحيفة نيويورك تايمز  وكتبت قائلة ان هوليوود تفشل في إغواء مؤسس التحليل النفسي. على الرغم من وضعه الاقتصادي الضعيف، بل ان فرويد لم يوافق حتى على مناقشة الاقتراح.

هذا الرفض نجد له امتدادا عند بعض المشتغلين بالفلسفة على الرغم من ان السينما بوصفها شكلا من اشكال الفن لها قدرة على التأثير في نظرتنا لأنفسنا وللعالم الخارجي  فهي تمنحنا كنقطة انطلاق إمكانية التحرر من الواقع ورتابته وصلابته والسفر في امكنة وزوايا متخيلة ذلك ان الأفلام السينمائية على تنوعها وتعدد اشكالها تمثل جسرا نعبر من خلاله الى ذواتنا فهي لا تتحكم في عواطفنا وانفعالاتنا فحسب بل و تسلب في بعض الأحيان منا ارادتنا الحرة والفاعلة وتحولنا الى كائنات منفعلة فسحر الموسيقى وقوة الصورة وبلاغة الكلمة عوالم سحرية لا يمكن مقاومتها واذا كان هذا الانقياد يحررنا من رتابة وقسوة الواقع ويفتح امامنا أبواب التأمل فهل يمكن الثقة بقدرة السينما على تحريرنا وعلاجنا من امراضنا النفسية في غياب الإرادة الفاعلة؟  وهل يمكن لجمهور عاطفي منقاد ولا يتمتع بحس نقدي ان يدرك طبيعة اللعبة التي تراهن عليها السينما ؟الا يمكن ان تحولنا الأفلام السنيمائية الى قطيع من الخراف كما كان يعتقد ألفريد هيتشكوك؟

التحليل النفسي والسينما علاقة حميمية

العلاقة بين التحليل النفسي والسينما علاقة وظيفية تماما كعلاقة الكلمة بالصورة هي علاقة حميمة ومتنوعة. فالفن بأشكاله المختلفة، يلتقط المحتوى العاطفي والخيالي والشخصي  للإنسان السوي و للمريض النفسي وهذا المحتوى هو الذي يعمل الطبيب النفسي على التفكير فيه بطريقة حرة محاولا الصعود به الى مستويات الوعي بالحفر والنبش في اللاشعور.

وتاريخيا السينما والتحليل النفسي لا يمكن الفصل بينهما من حيث النشأة فقد بدأت السينما في ليلة السبت من ليالي الشتاء البارد، في اليوم الثامن والعشرين من شهر ديسمبر سنة 1895 حيث قدم الإخوة لوميير (أوجست ولويس) وهما من أبناء مدينة ليون عرضهما الأول لجهاز السينماتوغراف، في 14 شارع كابوسين بباريس، بمبنى (نادي جوكي) الذي يحتوي أسفل طابقه الأول على مقهى '' جراند كافيه '' هذا العرض الذي دام لمدة 20 دقيقة مقابل فرانك واحد من كل مشاهد حيث كان هذا الحدث مميزا ومنعطفا حاسما وشاهدا على تأثير الصورة. ولعل أول ما يلفت الانتباه في العلاقة بين السينما والتحليل النفسي ولادتهما المتزامنة، ففي السنة نفسها (1895) أصدر (سيجموند فرويد) بمشاركة الطبيب النفسي بروير أول مؤلف له بعنوان (دراسات حول الهستيريا).

وبما ان جوهر الفكر الفرويدي يقوم على منهج التحليل النفسي فانه يمكن فهمه من خلال الإحاطة ببعض الافتراضات الأساسية عن الطبيعة البشرية، وجميعها لها آثار ضمنية شديدة الأهمية على الطريقة التي يتم بها تفسير الأفلام ومنها:

1- الكائنات البشرية منذ الميلاد تتحرك مدفوعة برغبات أنانية (مثل الجوع ُ والجنس والعنف) بهدف جلب المتعة وتجنب المعاناة والبحث الاناني عن المتعة هو مما يكثر وجوده في الأفلام.

2- نحن نولد بدوافع أساسية، بطاقاتنا الحيوية الأولية المتمثلة في مايسمى (ال «هَو»). وحقائق الحياة تُعلِّمنا أنه لا سبيل لإشباع رغباتنا إشباعا كاملا ومن ثمة نقوم بالمساومات الضرورية في الحياة اليومية وهذا ما يشتغل عليه (ال «أنا»). وفي نهاية المطاف، نكتسب من والدينا ٍّحسا مدموجا بالصواب والخطأ  يتجسد في أوامر ونواهي (ال «الانا الأعلى»). بَيْد أنه ما لم «يتطور» هذا التنظيم الداخلي بطريقة سليمة، يبدأ الناس في الوقوع في المتاعب. وكثيرا ما تتبنَّى الأفلام الاعتقاد بأهمية عملية التطور في السنوات الأولى من العمر من خلال توظيف حبكات ِّ تغطي حياة الفرد بأكملها، أو الفلاش باك، أو الإحالات إلى أحداث هامة في فترة الطفولة من خلال الحوار على اعتبار ان الطفل اب الرجل.

3- ولأن ال «الهَو»، وال «الأنا»، وال «الانا الاعلى» ترغب جميعها في أشياء مختلفة، فإن تلك َّ البنى النفسية الثلاث تنخرط في «صراع» لا نهاية له بعضها ضد ِّ بعض. ويحدد فرويد ِ مركز ساحة هذه الحرب في ال «أنا» وهو «كائن مسكين يدين بالطاعة لأسياد ثلاثة ومن ثم َّ يتعرض لتهديد أخطار ثلاثة؛ العالم الخارجي، وظلمة (الليبيدو) ال «هَو»، وقسوة ال «الانا الأعلى » وقد قسم فرويد الجهاز النفسي الى ثلاثة اقسام (الانا،الهو،الانا الأعلى ) وقال :" يستمد الآنا طاقته من الهو، وقيوده من الآنا الآعلى و عقباته من العالم الخارجي انه يخدم ثلاثة سادة طغاة "

4- جميع السرديات السينمائية تقوم على صراع من نوع أو آخر ولأن الأفلام موضوعات رمزية، ِتتغذى من تلك العمليات يمكن اعتبار ملخص الحبكة هو َّ مجرد سطح؛ أما السْبر الرمزي فيَقُودنا إلى تلك الجوانب المظلمة.

صورة فرويد في السينما من السامي الى السخيف

على الرغم من أن سيغموند فرويد لم يكن مهتمًا بالسينما، حيث حضر العرض الأول أثناء إقامته في الولايات المتحدة، إلا أنه يوجد حاليًا مئات المقالات والكتب حول هذا الموضوع حيث لم تنل شخصية علمية هذا التميز والانفراد مثل شخصية فرويد وربما السبب يعود الى ان الاليات والمرتكزات على يقوم عليها التحليل النفسي هي ذاتها التي تشتغل عليه السينما تقول  إليزابيث كوي :" أن للسينما وظيفة مشابهة لوظيفة الأحلام، فعندما نشاهد فيلمًا، فإننا نشعر بنوع من الخيال، والذي سيُبنى عندما ينتهي الفيلم، بعد لحظات أو أيام من خلال استحضاره وإعادة التفكير فيه" وهكذا يتم عرض الأفلام على أنها حلم، والفرق فقط يكمن في أننا في السينما لسنا نائمين، ولكننا مهتمين بالمحفزات السمعية والبصرية و نواجه التحدي العقلي لخلق معنى في الشخصيات والحبكة. ومع ذلك فإن حالتنا المعرفية ليست حالة اليقظة العادية، لأنه على الرغم من أننا نحافظ على مهاراتنا الحركية، فإننا غير متحركين، صامتين، مضبوطين على هذه المحفزات، متجاهلين الآخرين الذين يتحدثون حولنا.

كمتفرجين ننخرط في عملية تحويل، حيث نتواصل مع الخيال، حتى للحظات القصيرة، "كما لو" كان حقيقيًا. نحن نرتبط بالأفعال والشخصيات "كما لو" كانت شخصيات في تاريخنا النفسي.  بالإضافة إلى ذلك، هناك عدد من الأدوات الجمالية - على سبيل المثال، الاستعارات - التي تُستخدم في الأفلام لدعوتنا إلى تفسيرها في عملية تحليل منظمة، بناءً على توقعات معينة حول القصة والأحداث. في السينما، بصفتنا جمهورًا، نحن حالمون ومترجمون للأحلام، وكذلك محللون ومحللون.

في عام 2019، صدر فيلم فرويد في السينما: من السامي إلى السخيف، وهو مقال سينمائي من إدواردو لاسو وخوان خورخي ميشيل فارينيا، نتيجة عمل بحثي جمع وعلق على جميع الأفلام والمسلسلات التلفزيونية التي ظهر فيها سيغموند فرويد كشخصية على الشاشة. من أول فيلم لجون هيوستون، العاطفة السرية لفرويد في عام 1962، مع مونتغمري كليفت في الدور الرئيسي، إلى أحدث إنتاجات Netflix، حيث نلمس الطرق المختلفة التي تم بها تصوير فرويد: من البطل الفكري مكتشف اللاشعور وواضع أصول منهج التحليل النفسي، بطل الحقيقة المدافع عن كون الانا ليس سيدا حتى في بيته ، إلى شخصية العصابي المهووس بالجنس. أو من رجل طموح متمسك بأفكاره حول اللاوعي الى شخصية مدمن على الكوكاين . وتجسد الطرق التي تم بها تمثيل فرويد في السينما النظرة الى التحليل النفسي التي كانت تحدث بمرور الوقت. منذ الأربعينيات من القرن الماضي، تم تعزيز التحليل النفسي في الولايات المتحدة، وبعيدًا عن أن يصبح معمما كما توقع فرويد، فقد تم دمجه في الثقافة الأمريكية و كانت النتيجة النهائية لهذا المكانة المرموقة أول فيلم عن فرويد في عام 1962. وحتى أواخر سبعينيات القرن الماضي، قدمت السينما صورة محترمة لفرويد، على الرغم من كونها صورة نمطية وغالبًا ما تكون بعيدة عن الحقيقة التاريخية.خلال الثمانينيات، هاجمته السينما أو صورته كاريكاتيرًا، بما يتماشى مع سلسلة من المنشورات التي تنتقد فرويد والتحليل النفسي. من عام 2004 فصاعدًا، ظهر فرويد كشخصية في الأفلام حيث يتم تهكمه أو تقديمه بطريقة متناقضة وسنتطرق هنا الى ثلاثة نماذج تتراوح بين الأعلى والادنى وهي:

1- فيلم "فرويد: العاطفة السرية" وبداية الفيلم  ترتكز على خلفية من الصور غير الدقيقة التي يتم تركيبها، يخبرنا صوت (صوت جون هيوستن ) عن الضربات الثلاث الكبرى لفخر الإنسان : الأول، إثبات كوبرنيكوس أن الأرض ليست مركز الكون ؛ والثاني، عندما أكد داروين أن الإنسان جزء من الطبيعة، وحيوان آخر، نتيجة التطور؛ والثالث، الذي وضعه فرويد، أن العديد من العمليات العقلية غير واعية، وبالتالي خارجة عن سيطرتنا ويأخذنا هذا الفيلم  في رحلة رائعة إلى أعماق العقل البشري، إلى جوانبه الخفية والمظلمة  في محاولة لكشف أسرارها.

يعتبر هذا الفيلم "سيرة ذاتية" تغطي خمس سنوات فقط من حياة طبيب الأعصاب والطبيب النفسي الشهير في فيينا فرويد  وهو الدور الذي لعبه مونتغمري كليفت تحديدًا من عام 1885 إلى عام 1890، عندما بدأ في تطوير أفكاره حول اللاشعور وبناء منهجه الجديد المسمى التحليل النفسي . يبدأ الفيلم ببطل رواية شاب (قريب من 30 عامًا) يرتدي زيًا جميلًا ومعبّرًا باللونين الأسود والأبيض، مليء بالوهم والفضول، لا يزال طالبًا يعيش في ظل افكار ثيودور مينيرت  وهو رجل لامع ومسيطر، لديه أفكار قوية. حريصًا على توسيع معرفته وحل الآليات الغامضة للهستيريا ، يسافر فرويد إلى باريس ويكتشف الاحتمالات الهائلة للتنويم المغناطيسي للوصول إلى جزء من العقل اللاوعي  والذي على الرغم من أنه يتجاوز إرادة الشخص، يمكن أن يؤثر عليه بقوة.وبالعودة إلى فيينا، وهو متزوج حديثًا، يتعرض فرويد للانتقاد والسخرية من قبل زملائه الذين يصفون التنويم المغناطيسي بأنه "سحر". فقط جوزيف بروير  يثق بأفكاره، لكنه يفعل ذلك في الخفاء خوفا على سمعته. بفضل دعم شريكه الجديد، بدأ فرويد  في العمل مع بعض المرضى وتطوير نظرياته حول أهمية وعمل اللاوعي. هذه هي الطريقة التي يلتقي بها سيسيلي من خلال شخصية سوزانا يورك، في دور مخطط لمارلين مونرو، وهي أرستقراطية شابة تعذبها حلم متكرر لا تستطيع رؤيته وترفض شرب الماء. من خلال هذه القضية وغيرها من القضايا الغامضة،سيحقق فرويد اكتشافات مذهلة ومقلقة تعزله وتواجهه مع المجتمع العلمي. فقط زوجته مارثا وشجاعتها التي لا تلين تشجعه على مواصلة بحثه ...لم يكن إنتاج الفيلم يخلو من الصعوبات، رغم أنه تم حلها جميعًا بنجاح. في عام 1958، لجأ هيستون إلى جان بول سارتر لكتابة سيناريو "فرويد"، ولكن كان لا بد من تصحيحه ووضعه في صيغته النهائية من قبل تشارلز كوفمان وولفجانج راينهارت.، لأن سارتر لم يكن قادرًا على تقليص نص تجاوز على ما يبدو 400 صفحة (يُفهم أن الصفحة الواحدة هي حوالي دقيقة واحدة من الفيلم). أخيرًا، كان الفيلسوف الفرنسي المرموق غير سعيد جدًا بالنتيجة النهائية لدرجة أنه طلب عدم ظهور اسمه في الاعتمادات، على الرغم من حقيقة أن قاعدة الحبكة والعديد من الحلول السردية لا تزال سليمة (مثل تمثيل سيسيلي لثلاثة مرضى حقيقيين من فرويد). على الرغم من الاندفاع والقص في بعض الأحيان، تمكن السيناريو من الفوز بجائزة الأوسكار .

2- مسلسل فرويد: والذي يعرض على منصة نتفليكس سنة الإصدار: 2020 وجاء في تقديمه :

سعيًا لتحقيق شهرة في "فيينا" خلال القرن التاسع عشر، ينضمّ الشابّ المتعطّش "سيغموند فرويد" إلى وسيطة روحية ومفتش لحلّ لغز سلسلة جرائم دموية. يتكون من ثماني حلقات الأولى بعنوان الهستيريا بينما يواجه "فرويد" تحدّيات في عمله ويسرف في تعاطي الكوكايين، يجد نفسه في خضمّ جريمة مروّعة، ثم جلسة استحضار أرواح خاصّة تقودها وسيطة روحية. والحلقة الثانية بعنوان الصدمة النفسية ُحيث يقدم “فرويد"، الذي قوبِلت نظرياته بالمعارضة، معلومات للسلطات التي تبحث عن فتاة مفقودة، لكنه يضطرّ للتعاون مع شخصية غريبة ليصل إلى الحقيقة. وباقي الحلقات جاءت على النحو التالي : السير أثناء النوم، الطوطم والحرام، الرغبة، الانتكاس، تطهير الفكر، الكبت ومدة كل حلقة حوالي 55 دقيقة تدور أحداث سلسلة فرويد في فيينا عام 1886، وتقدم لنا سيغموند فرويد الشاب الذي بلغ الثلاثين من عمره ولا يزال بعيدًا عن كونه الشخصية الراسخة التي نعرفها اليوم. في محاولة لإنشاء مكان احترافي لنفسه، يجب عليه التعامل مع سوء الفهم الطبي للوقت ومع تعقيد ما يمكن أن يكون اكتشافه العظيم: اللاوعي. في هذا السياق، تقترح الحبكة عقبة جديدة: مواجهة والد التحليل النفسي بسلسلة من الجرائم الغامضة التي يجب أن يكشف النقاب عنها مع وسيط ومحارب قديم. يلعب الممثل النمساوي روبرت فينستر دور سيغموند فرويد، وبذلك انضم إلى الثلاثين الذين لعبوا دور البطولة فيه بالفعل على الشاشة، بما في ذلك مونتغمري كليفت وكورد يورجنز وماكس فون سيدو وفيجو مورتنسن وبرونو غانز.هل يمكن أن تعوض متعة الاستماع إلى Unbebuste بلغتها الأصلية عن التراخيص الفاضحة للسيناريو؟

3- فيلم «Freud’s Last Session» للمخرج ماثيو براون والذي يعتبر سيرة ذاتية عن عالم النفس النمساوي الشهير سيجموند فرويد، يقوم ببطولته النجم أنتوني هوبكنز، من المقرر أن يبدأ تصويره خلال الربع الأخير من عام 2022، في لندن.وكشفت تقاير صحفية، أن الفيلم لا يقدم السيرة الذاتية للعالم الراحل، ولكن يركز على جزء فقط من حياته، حيث تدور أحداث الفيلم في عشية الحرب العالمية الثانية، في الفترة الأخيرة من حياة مؤسس التحليل النفسي، عندما يدعو عالم اللاهوت المسيحي الشهير سي إس لويس لمناقشة وجود الله، كما تتطرق أحداث الفيلم إلى علاقة «فرويد» بابنته، وعلاقة «لويس» مع والدة أقرب أصدقائه.ومن جانبه، قال المخرج ماثيو براون، «بعد فضولي العقلي وميلي نحو اتجاه، كان هناك إدراك عميق لمدى أهمية هذا الفيلم في التوقيت المناسب، نبقى في عصر شديد الاستقطاب أيديولوجيًا، حيث يبدو أن الجميع عالقون في أفكارهم الخاصة دون حوار حقيقي وأضاف: " أرغب في صنع فيلم لجميع الجماهير يكون عاطفيًا ومحفزًا للفكر وفنيًا، فيلم يطرح الأسئلة الكبيرة، أثناء التحقيق في ما يدور في القلب البشري ما بين الحب والدين والفناء"

لماذا رفض فرويد السينما؟

في 7 يونيو من عام 1924  استقبل كارل أبراهام في برلين زيارة من مدير UFA وهي أهم شركة إنتاج أفلام في ألمانيا. يقترح أن يصنع فيلمًا علميًا شائعًا عن التحليل النفسي، بإذن مناسب من فرويد وتحت إشراف تلاميذه المعروفين. بعد يومين، لم يستغرق فرويد أكثر من ساعة لإرسال إجابته: "المشروع المذهل لا يرضيني." ويحذر من مخاطر ترك المشروع في أيدي محللين متوحشين، لكنه في الوقت نفسه يقر بأنه "لا يمكننا منع أي شخص من صنع فيلم من هذا النوع دون موافقتنا"

بالنسبة لجولدوين، كان تعاون فرويد ضمانًا لنجاح شباك التذاكر: لقد راهن على أن اكتشافاته عن الحب "ستنير قلوب المتفرجين.

و مخطط الفيلم كان على النحو التالي الجزء الأول كمقدمة، مع "أمثلة بليغة" توضح الحلم، وعملية القمع، واللاوعي. الجزء الثاني يعرض حالة سريرية توضح  الأعراض والشفاء في ضوء التحليل النفسي.

في المؤتمر الذي عقد في جامعة كلارك في ورسيستر، عبر فرويد عن نفسه على النحو التالي:

ربما يمكنني أن أقدم لكم وصفًا حيويًا للقمع وعلاقته الضرورية بالمقاومة عن طريق تشبيه فج مشتق من وضعنا الحقيقي في هذه اللحظة بالذات. لنفترض أنه في غرفة الاجتماعات هذه وبين الجمهور، الذين لا أستطيع أبدًا أن أشيد بصمتهم وانتباههم المثاليين، هناك شخص ما، بعباراته المتعجبة وضحكاته وحركاته، يصرف انتباهي عن مهمتي. علي أن أعلن أنني لا أستطيع مواصلة المؤتمر. بعد ذلك، يقف ثلاثة أو أربعة رجال أقوياء منكم وبعد صراع قصير يطردون هذا الشخص  من الغرفة. وبالتالي، فهو "مكبوت" ويمكنني أن أكمل محاضرتي. ولكن حتى لا يتكرر الانقطاع في حال حاول المطرود العودة للغرفة، السادة الذين حققوا أمنيتي وضعوا كراسيهم على الباب وبالتالي أقاموا "مقاومة" بعد تحقيق القمع. إذا قمت الآن بالترجمة إلى مصطلحات نفسية، فإن التعريبين المعنيين هما "الواعي" و "اللاوعي"، فستكون أمامك صورة تقريبية إلى حد ما لعملية القمع.في الواقع، فإن التمثيل، أو حتى الصورة المتحركة لمجموعة من الرجال المزدحمين بالكراسي أمام باب "يقاومون" دفع شخص آخر يكافح للدخول، يوحي بإيقاع شبلينسك أكثر من آلية القمع اللاواعي. هذا التشبيه، التعليمي في سياق المؤتمر، عندما يتم وضعه في الصور يصبح ببساطة سخيفًا.

في نفس الشهر، أعلن في امريكا عن بدء تصوير فيلم "ألغاز الروح"، مشيرًا إلى أن تحقيقه سيحدث "بناءً على دراسة حالة سيغموند فرويد". و ذهبت مجلة تايم إلى حد التأكيد على أن فرويد نفسه خطط وأشرف على كل متر من الفيلم.

توفي كارل أبراهام في عام 1925 بسبب ما يُفترض الآن أنه سرطان الشعب الهوائية. في الشهر التالي، عُرض فيلم "ألغاز الروح" لأول مرة في برلين.

شكك فرويد في أي إمكانية للتمثيل البصري لأي من مساهماته النظرية. ومن النية التعليمية المزعومة، لم يلمح إلا إلى خطر السخرية. كانت جهود إبراهيم لإقناع فرويد بوجهة نظره غير مجدية. نظرًا لحماس تلميذه للمشاركة في النص، اختار فرويد ببساطة مشاركة اعتراضاته وإخطاره. من الناحية العملية، تم حذف الجزء الأول من الفيلم وتمسك النص بقصة التاريخ السريري. وبالمثل، قرر فرويد رفض ترخيصه لهذا الفيلم أو أي فيلم آخر.

يعتبر المهتمون والباحثون موقف فرويد غريبا لسببين على الأقل:

- الأول أن اللقاء بين التحليل النفسي والسينما، سواء على المستوى الإبداعي أو على مستوى الدراسات التنظيرية، قد أثمر أعمالا سينمائية غنية، خصبة، وطلائعية.

- والثاني أن هناك تشابها كبيرا بين الفيلم والحلم، بما يعني أن الفن السابع يعمل على تفعيل اللاوعي وإخراجه سينمائيا، لكن بطريقة مغايرة لطريقة التحليل النفسي.

لذلك انطلقت التأويلات لمحاولة فهم الموقف الفرويدي من السينما:هناك مَن فسّر الأمر بالانتماء الثقافي اليهودي لفرويد، وهو انتماء يحضر فيه الدين بكامل ثقله، مثلما تحضر فيه الصورة بوصفها ممنوعا أو محرما خاصة إذا سعت إلى الاقتراب من الإنسان نفسه ومن روحه.ويرجح الباحث السينمائي روجيه دادون في دراسة له بعنوان (اللاوعيان المتوازيان) تفسيرا لموقف فرويد الرافض للتعامل مع السينما بوجود تنافس شديد بين السينما والتحليل النفسي من حيث قدرتهما على التعبير والتمثل، أو من حيث قدرتهما على إخراج اللاوعي.ومرد هذا التنافس إلى أن التحليل النفسي يستطيع الوصول إلى عالم اللاوعي ورموزه وخباياه عن طريق الكلمة بالأساس، بينما تبلغه السينما أساسا عن طريق الصورة، التحليل النفسي يقترح علينا لاوعيا كلاميا، أما السينما، فهي تقترح بالمقابل لاوعيا صوريا (نسبة إلى الصورة)، وطبعا هناك بون شاسع بين الكلمة والصورة من حيث علاقة كل منهما بالواقع، تشكّل الكلمة دوما انزياحا عن الواقع، إنها تقول باستمرار أكثر مما تود قوله، وعبر إفراطها في القول تتجاوز الواقع نحو اللاواقع، أي نحو الخيال.

أما في الصورة، فإن الواقع حاضر بكامل ثقله، ومن هنا مقولة (الانطباع الواقعي) في السينما، وهي مقولة تؤكد القدرة الكبيرة للسينما على استنساخ الواقع. وقد استغلت الأديان هذا الاختلاف لتحريم الصورة وللتحذير من مخاطرها.

***

عمرون علي - أستاذ الفلسفة

المسيلة – الجزائر

تعد مشكلة الخوف من الموت وطبيعته تقليدياً من  دائرة اختصاص الدين، والدين ينكر عادة الطابع المتناهي للموت، إذ يؤكد استمرارية الشخصية الانسانية سواء في شمولها النفسي – البدني او كنفس متحررة من البدن، مؤكدا على طابعها الممّيز المألوف. ومن ثم فأن الفلسفة لم تشرع في الاهتمام بالموت الا حينما اصبح التأكيد الذي يطرحه الدين مشكوكا فيه وموضع ريبة، او حينما بدا هذا التأكيد في تناقض لا مفر منه مع شهادة حواسنا المباشرة التي لا جدال فيها.(1)

وحينما اصبح الرد الديني على الموت موضع تشكك سعت الفلسفة الى دعمه بحجّة عقلانية، وعندما غدا الامر متعلقا بالتناقض راحت الفلسفة تسعى الى الوصول من خلال النظر العقلي الى رد مؤكد مماثل لذلك الذي طرحه الدين منذ وقت طويل، او تصدت للوصول الى التصالح مع الموت منظورا اليه باعتباره نهائيا او بحسبانه خلودا غير شخصي، خلود الانسان كنوع.وهناك امكانية ثالثة، فالعجز عن تقبل الحل الديني يمكن ان يؤدي بالفيلسوف الى الاهمال الكلي للمشكلات التي يطرحها الموت، والى انكار انها تقع في دائرة اختصاص الفلسفة.(2)

وفي غياب اقتناعات دينية محددة تماما، كما كان الامر في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد في بلاد الاغريق على سبيل المثال، وفي القرنين الثاني والاول قبل الميلاد في روما، نجد الموت لا كموضوع للفسلفة فحسب، وانما كمحرك لها ايضا، لكنه مع مجيء المسيحية، ووعدها بالبعث والحياة الخالدة، في العالم الاخر تقلصت الضرورة الحيوية لقيام الفلسفة بتناول الموت.حيث غدت الفلسفة ذاتها تابعة للاهوت لاسباب عديدة. لكن سيكون من الخطأ الاستنتاج بأن الانشغال بالموت قد اختفى في العصر المسيحي فالظهور التدريجي لتصور محدد للحياة الاخرى، التي طورها اللاهوت وجعلها الشعر، والنحت، والتصوير، واقعية بصورة مرئية.(3)

وخلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر التي سادت فيهما نوبة تسلط الموت على الاذهان والقلوب، اصبح حدث الموت بالاضافة الى المخاوف المعتادة المرتبطة به، اكثر اثارة للفزع، لان لحظة الموت اكتسبت معنى خاصا ومشؤوما، حيث ان لحظة هروب النفس من الجسد المحتضر، هي الفرصة الاخيرة لقوى الجحيم للسيطرة على هذه النفس.

ونجد مع استئناف التفكير الفلسفي المستقل في عصر النهضة ان الفلاسفة يميلون فيما يتعلق بمشكلة الموت الى انكار الخلود الشخصي، ويمكن ان يقال انه منذ اللحظة التي انحاز فيها بيترو بومبونازي P.Pomponazzi الى صفوف القائلين بانكار الخلود، اصبح انكار خلود النفس بصورة تدريجية الموقف الفلسفي غير المنازع في كل من فرنسا والمانيا في القرنين الثامن والتاسع عشر. ولم تهمل الفسلفة مشكلة الموت، فحتى الماديون الفرنسيون في غمار انكارهم لخلود النفس ووصفهم بانه (كذبة كهنوتية) وانه عقبة في وجه تحسين الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، لكنهم تناولوا الموت بالدراسة. وكان هناك دائما جهدا دائبا من جانب بعض الفلاسفة لاثبات خلود النفس. وفي الضرب الاول أي الفلسفات التي تتناول مشكلة الموت تظهر العلاقة بين واقعة الموت والبحث الفلسفي في ثلاثة جوانب هي:

1- يمكن ان يكون الموت مصدر الهام للفلسفة وقوة الدفع الكامنة وراء التفلسف الذي يهدف اساسا الى السيطرة على الخوف من الموت والتصالح مع حتميته. وكانت هذه فلسفة شوبنهاور.

2- يمكن ان يكون الموت اداة للفلسفة التي تزعم انها وحدها التي تناسب الوصول الى فهم الوجود والكشف عن طبيعته الحقة التي يتخللها اللاوجود على حد تعبير هيدجر.

3- اخيرا الموت كما يقول افلاطون يمكن ان يكون الوضع المثالي للتفلسف وحالة يمكن فيها وحدها ان يتحقق سعي الفيلسوف وراء المعرفة الحقة.

ان مهمة الفلسفة هي التيّقن من طبيعة الموت والبرهنة على انه ليس فناءا نهائيا، او اظهار الاسباب الكامنة وراء موقفنا من الموت الذي يذهب الى انه رغم الموت هو (النهاية) فانه لاينبغي ان يكون موقفنا هو الخوف بل اللامبالاة والاذعان بل التقبل والابتهاج (4)

 لقد سهّل استبعاد مشكلات الموت عن الفلسفة تحت ضروب التقدم المذهلة التي أحرزتها العلوم الدقيقة، الى ترك الموت ومشكلاته على قارعة الطريق. وعلى اية حال فقد أعلن انصار النزعة العلمية حماس احتضار الموت، بينما اعترف به بأسى ممثلو الدين التقليدي فقد كتب احدهم (ان الموت المجرد كمحرك قد احتضر... لقد فقد الموت ضروب افزاعه). وكتب اخر (ان القرن العشرين اكثر انشغالا من ان يشغل نفسه كثيرا بالمشكلات التي يطرحها الموت، وما يعقبه فالرجل المحنك يكتب وصيته، ويؤمن على حياته، ويزيح موته جانبا باقل صور التأديب...  الموت كمصير يلقي بظلاله وكموضوع كان الخلاف حوله شاملا).(5)

غير ان آرثر شننتزلر يجد انه ما من شخص جدير بالاحترام لايفكر في الموت، وبينما انسحب الفلاسفة المحترفون الى البحث المتخصص. اعرب كتاب وشعراء من امم عديدة عن ادراكهم للموت وأساهم ازاء الظل المعتم الذي يلقيه على كل ما يحيا ويتنفس، وعلى وجودهم بصفة خاصة، وهناك تولستوي الذي كانت فكرة الموت تطارده دونما توقف والذي واصل التساؤل في يأس (أي حقيقة يمكن ان توجد اذا كان هناك موت؟).

وهناك اونامونو (1864-1936) فيلسوف وجودي اسباني تأثر في مذهبه بابي الوجودية سورين كيركارد، الذي كانت شهوته للخلود، وشكهّ في الحياة بعد الموت يجعلانه ينشد عبثا الهروب من المعنى المأساوي للحياة، بان يكرر لنفسه دونما توقف ان على المرء ان يؤمن بالايمان ذاته، وهناك ريلكة الذي اصيب بعذاب الزوال وناضل ببسالة ليحول الموت من شبح مفزع الى اعظم حدث في الحياة ، وهناك بروست الذي سعى للوصول الى مهرب من المرور الفاني للزمن من خلال محاولة استرجاع الماضي بأمل باطل هو انه اذا كان بوسعه القيام بذلك، فان كلمة الموت لن يعود لها معنى بالنسبة له.(6)

ومع بداية القرن الحالي على وجه التقريب فحسب حدث رد فعل في الفلسفة ضد استبعاد الموت من التأمل الفلسفي، فتمرد وليام جيمس، وهنري برجسون على استبعاد جميع العناصر الشخصية من الفلسفة ، ولاحظ جورج زمل بأسى (بأن جانبا بالغ الضآلة من المعاناة الانسانية شق طريقه الى الفلسفة).(7)

وحدث انقسام حاد بين الفلاسفة المعاصرين فيما يتعلق بما اذا كان من الضروري اعتبار الموت موضوعا مناسبا للفلسفة من عدمه، وانفصال الفلاسفة التحليليون عن اولئك الذي يتعاطفون مع تصور اوسع نطاقا لمهمة الفلسفة باعتبارها تعنى كذلك بمسائل المصير النهائي للانسان ولكن هناك كذلك اشكالا اخرى للانقسام فقد هاجم بشدة، برونشفيك جبرائيل مارسيل احد اقطاب الوجودية الحديثة وهو لاهوتي التفكير. وعند نيكولاي هارتمان (1882-1950) وهو فيلسوف الماني وضع مذهبا يدور حول الانطولوجيا النقدية، كما وضع مذهبا للاخلاق ونظرية القيم وعلم الجمال ونظرية المعرفة، فهو يتحدث عن رجال الميتافيزيقيا الذين يعذبون انفسهم، وينكر اهتمام الفلسفة بالموت، لان تعذيب الذات امر لا اخلاقي ، ويذهب قائلا: اذا لم يكن الموت الا عدما، فانه لايمكن ان يكون شرا.(8)

غير ان شيلر يسخر من العبث الميتافيزيقي للفلاسفة الذين لا يرغبون في معالجة المسائل المطلقة، ومشكلة الموقف بشكل خاص، وفي غمرة نظر راسل الى الانسان باعتباره محكوما عليه بان يفقد احب الناس اليه وانه يمر هو ذاته في الغد عبر بوابات الظلام، فانه يدرك بصورة ملحة الحاجة الى شيء (يلوح للخيال وكأنه يحيا في سماء بعيدة عن فكي الزمان المفترسين).

ويكتب بردياييف: (انني لا اميل الى الخوف من الموت على نحو ما كان يفعل تولستوي على سبيل المثال، لكني شعرت بألم حاد ازاء فكرة الموت وبرغبة جامحة في اعادة الحياة لكل من ماتوا، وبدا لي قهر الموت المشكلة الاساسية للحياة، فالموت حدث اكثر اهمية وحيوية للحياة من الميلاد).(9)

وفي عبارة كونفوشيوس المعاكسة (اننا لانعرف أي شيء عن الحياة، فكيف نستطيع ان نعرف شيئا عن الموت؟) فما لانعرفه عن الحياة أي معناها وهدفها المطلقين، يرتبط ارتباطا وثيقا بالموت، ومشكلة هذا الاخير اننا لانعرفه خير المعرفة.

الفلسفة تعنى بامور كثيرة منها الموت والامر يرجع الى الفيلسوف الفرد في متابعة المشكلات التي يعتقد انها هامة، لكن الفلسفة باهمالها لمشكلات الموت كلية انما تفصل نفسها عن احد ينابيعها الرئيسية التي تنشّط البحث الفلسفي بقوة تضاهي الفضول العقلي والدهشة.

وان الحجة القائلة بان الاهتمام بالموت يؤدي الى اهمال المهمة المحددة والملحة المتمثلة في تحسين الوضع الانساني والاهتمام بالرخاء والسعادة، تتجاهل واقعة ان الموت بدوره ينتمي الى الوضع الانساني العام، وان الابحاث التي اجريت في السنوات الاخيرة مقنعة بما يكفي لاظهار ان الشخص العادي يفكر في الموت اكثر بكثير مما يفترض عادة. واذا كان الادب ذو المعنى في عصرنا يصلح كمؤشر للمزاج الحديث، فيكفي ان نشير الى هيمنجواي، فوكنر، مالرو، كامو، ت.س، اليوت، وديلين توماس، فالموت يثقل كاهل شريحة هامة من الانسانية المعاصرة( ). كما يجد البعض امكانية الاقتناع بان الحياة عبث، وانها مجردة من المعنى ولايحملها القلائل أي معنى آخر، وضروب الموت العبثية تبدو سطحية وموضع تشكك طالما انها ليست قابلة للتطبيق على ضروب الموت الاخرى.

ويقدم مالرو صياغة بليغة لذلك حينما يقول ان الحياة رخيصة في الوقت نفسه ما من شيء غال كالحياة، ويشير براتراندرسل قائلا: (ان اولئك الذين يحاولون ان يجعلوا من النزعة الانسانية التي لاتعترف بشيء اعظم من الانسان دينا، لايرضون عواطفي، رغم اني عاجز عن الايمان بان هناك في العالم على نحو ما نعرفه ما يمكن ان اقدره خارج نطاق الموجودات البشرية). (10)

ننتقل الى احد اقطاب البراجماتية وليم جيمس (1842-1910) وما يميزه عن غيره من فلاسفة البراجماتية هو رؤيته الخاصة الى قضايا الاعتقاد الديني، والحقيقة ان رؤية جيمس الدينية لا تصدر عن قناعة فكرية ولا تقوم على ايمان راسخ محدد، فهو في الحقيقة لايؤمن بالدين والديانات السماوية التوحيدية وهو ما نجده واضحا في قوله بان البراجماتية يمكن ان تكون دينية اذا ما كانت تؤمن بالتعدد والتطور.(11)

ان البحث في الجانب الديني من براجماتية جيمس تكمن اهميته عن حقيقة موقف جيمس من الاعتقاد، والمعتقدات الدينية ويعدها نوعا من التجريبية النفسية الواقعية، وفي تأكيده على النفعية فقد جعل من الدين بضاعة تباع وتشترى على اساس الرغبة ومقدار نفعها وقيمتها المادية العاجلة.(12)

يؤكد جيمس على الارادة انها حق الاختبار والاعتقاد يقوم على الرغبة الذاتية والمنفعة الشخصية، والاعتقاد لدى جيمس احد القوى النفسية ولابد ان يبقى عنصرا ثابتا من عناصر البناء الفلسفي، وخاصة لانه يحمل معه في كثير من الحالات براهينه، عليه فالدين عند جيمس اعتقاد فردي وموقف شخصي لايقرره منطق العلم، ولا يدعمه مصدر سماوي فالدين عند جيمس مجموعة وجدانات وافعال وتجارب يعانيها الافراد في وحدتهم كلما ادركوا انهم على علاقة مع أي شيء يعتبر الهاً، وان جوهر مثل هذا الدين الشخصي هو الاعتقاد. (13)

ان جيمس لا يقر دينا معينا وبخاصة الاديان السماوية، التي يرى جيمس ان الايمان بها في طريقة الى الزوال قائلا: (انه لم يهتم بالاديان السماوية، وسيوجه همّه الى الديانة الشخصية، وان لكل متدين دينه الخاص). فاساس الدين عنده امر واقعي وشخصي وليس الدين في ذاته، الدين الواحد الثابت حقيقة مدرسية فارغة، فهناك من الاديان بمقدار ما يوجد من افراد، ولم يكن عبثا ان يضع وليم جيمس على كتابه عنوان (تعدد التجربة الدينية)، وعن القضايا الروحية يقول جيمس (لم يحتقر العلم على العموم شيئا من تلك البواقي غير المنسقة كما احتقر تلك المسائل الروحية الغامضة. اذ ان علم النفس المحافظ يعرض عنها، واما الطب فيبعدها كلية، ويصفها بـ (عمل الوهم والخيال).

ومن المسائل الروحية التي يذكرها جيمس هي: (التفكير الديني، والتفكير الاخلاقي، والخيال الشعري، والتفكير الغائي، والتفكير العاطفي والانفعالي، وكل ما يصفه الانسان بانه افكار شخصية ليميزه بذلك عن الاراء الآلية الميكانيكية، او كل ما يصفه بانه افكار رومانتيكية، كل هذه الافكار كانت ولا زالت خارجة عن الدائرة العلمية، وهي في نظر الميكانيكية العقلية، حديث خرافة). (14)

ويؤكد جيمس: (لكننا لا ندري من اين أتت تلك الحاجة النفسية الى الاعتقاد في ان هذا العالم المشاهد ليس الا مجازا لعالم اخر اكثر منه روحانية وابدية. من القدرة والسلطان على النفوس هؤلاء الذين يشعرون بها مثل ما للحاجة النفسية الى الاعتقاد المطرد في قوانين السببية من قوة وسلطان على عقول العلماء)، ويعتبر جيمس حرية الاعتقاد ركيزة مهمة في تكوين قناعات الافراد، ويقول: (لنا الحق في ان نعتقد في بعض الموضوعات الدينية، على الرغم من انه قد لايكون لنا من الادلة المنطقية ما يكفي لاقناع قوانا العقلية). وفي تأكيده على حرية المعتقد الديني يتبين بحسب جيمس:

- حق الانسان الفرد في الاعتقاد بأن يؤيد فكرة مهما تبدو غير مناسبة لغيره من الافراد وتحقق المنفعة الذاتية له.

- الاعتقاد بالشيء ممكن، وان لم يدعمه دليل منطقي علمي.

- الاعتقاد قضية فرضية تصدر من تجربة نفسية ذاتية، و تخضع لقواعد المنهج العلمي في الفروض العلمية.

- الاعتقاد في موضوع من الموضوعات الاعتقادية ، يصدر عن ارادة المعتقد في السلوك ، وباصراره على الفعل دائما، ويدوم الاعتقاد اذا استمرت ارادة فعل نحوه عند الفرد.

- الاعتقاد لابد ان يكون نافعا، محققا رغبات الفرد في حياته.

ويرى جيمس: اذا كان الاعتقاد بالدين حقا فرديا، ولم تكن براهينه كافية، يكون الاعتقاد فرض يعتمد على المخاطرة، كما ان عدم الاعتقاد يقود الى المخاطرة ايضا. والاثنان ميل نفسي لا دليل قاطع يفصل بينهما. لذلك يدعو الى الاعتقاد الديني على وفق رؤية براجماتية خاصة تؤكد على ما هو عملي نفعي، يناقضه في ذلك البابا حين يدين الدفاع البراجماتي عن الدين، ويبين الرؤية الدينية القائمة على الايمان الراسخ بوجود الله دون تفكير في منفعة دنيوية عاجلة.

***

علي محمد اليوسف/الموصل

.......................

الهوامش: المصدر كتاب (الموت في الفكر الفلسفي الغربي) جاك شورون، سلسلة عالم المعرفة.

   

نبدأ من سؤال نوعي ونستفسر، فأليس الوضع البشري محاطا بالحياة من كل جانب، ونحن في هذا السؤال لا نسعى إلى إجابة، وإذا كانت الحياة معنى وجودنا، من خلال المعنى الحرفي لكلمة – حياة-، فهي الإطار العام لوجودنا البشري، ونحن نمثل الموجود فيما هي تمثل الوجود، ولكن لا نملك غير محور تكهنات فقط للحياة ووجهات نظر فلسفية، وأما الإطار العلمي فغير راجح تماما، حيث اعتمد المنهج العلمي على أطر فيزيائية، ومؤشرات بداية التكون والكيفية التي أشرها خلق الحياة والعالم المشترك، ومؤكد العالم سبق الحياة، وفي التفسير الموضوعي العالم لا يقترن بنا تماما ولكن الحياة تقترن بنا بشكل مؤكد، فوجود العالم كان وجودا بلا حياة، يعني لا فائدة منه، لكن الحياة هي ذلك النفس المتعدد الإيقاعات والتردد، وإذا كانت الحياة قد وجدت قبل أكثر من ثلاثة مليارات سنة، فالعالم أقدم من ذلك، والعالم هو كوكب الأرض أما الحياة فهي الأنفاس التي شهقت داخله، وهنا تداخل ما بين العالم والحياة والوضع البشري، فالحياة من خلال البشرية تؤكد العالم، فالعالم هو الكينونة ونحن واقعها والحياة هي معنى الوجود ونحن فيها الموجود، والكينونة ساكنة حسب التفسير العملي فيما الوجود متبدل، وأما الموجود متحرك، وذلك المثلث في التفسير يختلف كل مكون منه، فيما في التفسير المعنوي هناك تقارب بنسب غير معينة، وعدم تعيين النسب يعود إلى تغير الوحدات الزمنية، والتي تتبدل بشكل مستمر، والاختلاف والتبدل يشمل كل ركن من أركان المثلث، وهذا هو من نبحث عنه، فسكون العالم وتبدل أفق الحياة من نهار إلى ليل وحركة الوضع البشري أمور مدركة في الإدراك المباشر.

تفسير علاقة الحياة باعتبارها تتبدل وتتغير سجنتها، ونحن نحيل الأجواء والطقس والجغرافيا إلى الحياة وليس للعالم، فالعالم تكون والحياة صيرورة تتبعها سيرورة، وقد بلغت من الأنطولوجيا حدا هائلا، في التفسير له يحيل الحياة إلى المعنى السرمدي، فالحياة التي يلغيها البعض ويسميها الأرض اختصارا، على اعتبار إن للأرض صيرورة تلتها مباشرة سيرورة سرمدية، وإلغاء السماء يعني إلغاء جزء أساس ومهم من أفق الحياة، وذلك غير ممكن فالسماء هي التي هي تقابل أختها الأرض من الجهة العليا، وتلعب الدور الأساس في التغير المناخي، والعقل الذي يقصي أسسا من أسس الحياة هو عقل سياقي في اتجاه وسبيل واحد ولا يمر بمنعرجات، ونحن لا تهتم بالتفاصيل بل نهتم بمعنى الحياة وعلاقته بالوضع البشري، ونوع التأثير الذي من الممكن أن يمر به الوضع البشري، وفي المتعارف العام الوضع البشري هو من ينتج للحياة معناها، وهذا ممكنا في الشكليات الكبرى من مثل الحرب التي مر بها الوضع البشري في أربعينيات القرن الماضي وفقد الملايين من الأبناء من أمم عدة، وهذا لا تتحمل الحياة الذنب المباشر فيه، وكما هي ليست تمتلك فؤادا لتحتج ضد الحرب، وفي ذلك أنا من ننوب عنها، لكن مدى تأثير الحياة على الوضع البشري يكمن في الجو العام، فالجو العام للحرب مثلا هو متلبد وبشع وليس فيها نور أو ضياء، وكما الليلة الظلماء لا تسر النفس أو تبهجها، والحياة تتلبس ذلك الجو الكئيب، وبذلك يكون انعكاس الحرب شاملا، وليس فقط في البقعة التي قامت عليها الحرب.

الحياة أنثى العالم الساكن والوضع البشري هو الابن إذا جازت التوصيفات، وعلي وجه الخصوص ما تقره الميثولوجيا الدينية، فتشكل أسطورة خلق آدم صورة جانبية وليست مباشرة في خلقه من تراب الأرض، وإذا خلق من تراب الأرض فما الذي كان يفعله في السماء، وترى أكانت تلك ذاته المعنوية التي خضعت للتمحيص والتفسير والتعيين، ولكن لسنا إزاء فكرة خلق آدم وملابساتها، ونحن نحصر أفكارنا في البعد الآني للوضع البشري والمشكلة الكبرى التي تعيشها البشرية، ولا نريد التفريط بالهدف السامي الذي نسعى إليها، ونحن نشعر أننا إزاء مسؤولية عميقة، وتحتاج إلى حد كبير الاهتمام من أكثر من وجه بها وهذا هو ما نسعى إليه، والعالم الرحب المعنى تقابله الحياة برحابة شكلية وسطحية، فالخيانة هي في الدور بالحياة أكثر ما هي في صمت العالم على ما يجري، وإذا افترضنا بأن مفهوم الإنسان الخلاق قد استهلكته الحداثة، وفكرنا بما بعد الإنسان، وتركنا خيانة الحياة جانبا، وفكرنا بمقومات إعادة إنتاج الذات بما يلائم المعنى الخلاق، وإعادة التعويل على الوضع البشري في امتلاك الشعور بالأمل والتفكير بالمستقبل بجدية، وتلك العوامل التي تحطمت إلى أقصى حد ممكن، تحتاج منا السبيل المناسب إلى إعادتها إلى جوهر الحياة العام ونشعر بها من خلاله، وإذا كان الماضي حافلا بالمثل والمعاني السامية، وكانت النفس البشرية بمؤشر استقرار مدهش، فالسرعة التي تخلينا فيها عن ذلك تكاد تكون أكثر دهشة.

لنا وجهة نظر إزاء التغيرات التي مرت بها السينما، وعلي وجه الخصوص في تغيير الرؤيا ووجهة النظر والبؤرة السينمائية من أمثلة حية إلى أخرى جامدة، والمعنى الإنساني الذي كان يرتبط ارتباطا وثيقا بالمثل الحية، ومن خلال وعي ومشاعر الشخوص، وانتقل إلى المثل الجامدة في ظروف ما بعد الحداثة، وبدلا من البشر صارت الآلة البديل النوعي، وأتاحت لها ميتافيزيقا ما بعد الحداثة بتلبس المشاعر البشرية، وما هو شعورك وأنت ترى قطعة حديد تبكي بعد هزيمتها وخذلان الناس، ونقر هنا بوجود متعة جديدة تتناسب مع روح العصر، لكن مديات ذلك الأنطولوجيا العميقة تاريخيا، قد أزالتها ما بعد الحداثة السينما في لحظة إدهاش وغرابة، وربما تقصد ما بعد الحداثة أن تجاهنا لمعنى ما بعد الإنسان، على اعتبار إن الإنسان في حضوره وتاريخه ومعناه قد استهلك تماما، وصراحة (يعادل اهتمامي بما بعد الإنسان شعوري بالإحباط حول الموارد والقيود الإنسانية المفرطة في إنسانيتها التي تحدد قدراتنا المكثفة والإبداعية شخصا وجماعة)1، وإذا نفر بوضعنا البشري من قيود زائفة نجد أمامنا القيود الأخرى بطريقة ملتوية تواجهنا، ويقدر ما خططنا لحفظ ماء وجه الإنسان نواجه أيضا ذلك التخطيط الماكر في عالم ما بعد الإنسان لا يسعى إلا إلى استغلالنا، وكما كانت السياسة تستغل الناس بالمبادئ صارت اليوم تستغلهم بالاقتصاد، وتتفنن في خلق قطيع يتوجه إلى السبيل الذي تريده السياسة وتسعى إليه.

نحن لا نهدف أبدا السعي إلى قولبة الحياة، لكن نحن أيضا ضد عدم التوازن، وإذا فقدنا بشكل واضح توازن القوى، والذي كان يجعل العالم يتمثل في كتلتي الناتو ووارسو، وصرنا في عالم يسمى عالما أحادي القطب، وصرحت النظرية الأحادية قد سبق التحول السياسي إلى القطب الواحد، فقبل أن تكون روسيا زعيمة حلف وأمريكا زعيمة الخلف المعاكس، انتقل الفن من تعدد الأبعاد إلى البعد الواحد، وثورة كاندنسكي الروحية للفن غيرت المعنى العام إلى معنى خاص، وكان سابقا يشعر الوضع البشري بأنه القرين إذا لم يكن هو المثل الأساس للفن، وصراحة انخفضت طاقة الذوق الفني كثيرا، وابتعد الفن عن المجتمع مثلما ابتعدت السينما عن الإنسان ومفهومه، وذلك التغير ليس بالهين، بل له تأثيرات مباشرة، وهذا ما جعل الحياة العامة تتأثر بتلك الصيغ الفنية البديلة، حارت في إيجاد تفسير مقبول، وبالتدريج انخفض مؤشر الحس الاجتماعي بالفن، وارتفعت قيمة الفن لتنحصر في الوعي الموازي أو وعي النخب، ونظرية الحداثة للفن ترى بأن وجود الضفة ملزم، ولا يمكن للفن التخلي عن البعد الأول، فيما ما بعد الحداثة نحت إلى إدخال أفكر حرة في تحليقها، وعلى الرغم من عدم جدارتها، لكنها صارت توازي ذوق النخب والتلقي المشترك معنويا، وطبعا البعض يرى ذلك لا تأثير مباشر له على حياته، فيما تجد في بيته لوحة لا يجد لها أي معنى مقبول.

نسب خيانة الحياة ليست بتلك التي يمكن تقديرها، والحياة التي شهدت منا البشر خيانة لأنفسنا أكثر من تلك الخيانة، فنحن نمتلك مسؤولية كبرى في تنمية روح الشر والخيانة، وصراحة قد تأصل الشر في نفوسنا، وصارت الكراهية شعار أساس لحياتنا بدل من المحبة، ونحن نتحمل أعلى المسؤوليات في ذلك، فبداية لا بد من أن نقر بأننا تحولات من اعتقاد مؤكد إلى حال تجاوز أهمية الاعتقاد، وصرنا نتصور وجودنا من جديد بصورة مختلفة عما كان في الماضي، وبعدما ضاق ذلك العالم الواسع المترامي وأصبح قرية عصرية كما يوصف، تغيرت أحوالنا النفسانية، فبدلا من تأكيد ذواتنا صرنا نفتش عنها ونبحث بلا استدلال، وصراحة ذلك البحث اللامجدي أحيانا يمكن تفسيره كمتاهة بروح معاصرة، وستتسع تلك المتاهة في المستقبل القريب أكثر، وكما سيتغير المعنى الاجتماعي أو ما تبقى منه ذلك الذي كان في ظروف وعهد الحداثة، وفي الحقيقة صعب على الوضع البشري بعد نبذه مؤشر الواقعية والتاريخ العيش في مواجهة متاهة اجتماعية من جهة ومتاهة شخصية من جهة أخرى، وسيكون الوضع البشري أصعب بكثير مما مر به بظروف الماضي، فحسنة الحرب في إيقاظ الضمير العام والخاص على السواء، كم نحن بحاجة لها الآن، وإذا كانت الحرب وجها للشر، فإن أثرها على البشرية فيه إعادة للصحوة الإنسانية المفقودة، وهنا لا بد من أن نقف بأن نقر نحن أبناء البشرية فينا وجوه عديدة للحرب ومعناها، مثلما فينا وجوه لتلك الصحوة التي قد تجدين في ظرفا معينا فقط وبعده تنتهي صلاحيتها.

إذا قد انتقلت الفلسفة الحديثة من الموضوعة إلى الذات في عهد المثالية وما بعدها من مفاهيم الوجودية التي سادت من خلال مقولة – أنا أفكر إذن أنا موجود – لديكارت، فهناك سبب وجيه استوجب ذلك الانتقال، فبعد تطور مفهوم الإنتاج العضوي، والتماس الحاصل ما بين البشر والآلة، تبلورت فكرة مهمة جدا للمعنى الإنساني على الرغم من عظم الشقة، فلقد أصبح الإنسان مركز الوجود وهرمه، وصار فعليا يسعى الوضع البشري إلى إيجاد حل ذاتي، وعلي وجه الخصوص للتضاد القائم تاريخيا ما بين الذات والموضوعة، وإذا صار العقل هو الفيصل في هو أعلى من النفس البشرية التي فيها نسب للشر ربما أكثر من النسب التي للخير، ولكن العقل ليس منزها بالشكل التام، فهو ما بين ذاكرة ولا وعي ومبادئ يكمن أو في دائرة تلك المقومات يدور، ومن الطبيعي أيضا أحيانا أن تجبره النفس البشرية أن يتنازل عن قمته وينحدر نحوها، وذلك جائز خصوصا في المسائل المتعلقة بوضع نفسي، ولكن رجاحة العقل هي التي جعلت الحياة بهذه الامتيازات من التطور، لكن العقل لم يصمد طويلا، وخصوصا بعد عصر ما بعد الحداثة، والذي فيه استبدلت الذات بالشخصية، وصار الأفق التاريخي للتدرج من الموضوعة نحو مثال الواقعي وهو الذات، وهذا الأمر طبيعي جدا، لكن التحول من الذات إلى الشخصية حدد على أنه انتقال للمسؤولية من الاعتقاد إلى الالتزام، لكن تحولت المسؤولية في صيغة الالتزام والغاية المرافقة له، ومن ثم دفعتها السياسة نحو المصلحة وهناك استقرت في عصرنا الحالي دون رجوع.

الرجوع إلى القاعدة المثلى صار مستحيلا، فلم يعد من الممكن رجوع البشرية إلى عالم المثال والمثال والمبدأ، فقد تغيرت الصيغ وتحول العالم البشري من صيغة العطاء إلى صيغة الاستحواذ، وفي صيغة الاستحواذ هناك نفس بشع الرائحة جدا، حيث لم تفسد القيم فقط وتتشوه بل انحدرت بها البشرية نحو الحضيض، وخسر العالم رهانه الرأسمالي بنسب كبيرة، وإذا كان سابقا نستطيع تحديد الأمور، فاليوم لم نعد نمتلك طاقة لمواجهة أي أمر، وخصوصا بعدما صرنا أمام كم هائل من الأمور المختلفة، والاختلاف في سرعة إيقاع العصر قد غير ملامح العصر عن الظرف السابق، والحياة لم تعد تلك المرجوة للتأمل والنظر من خلالها للمستقبل، فلم يعد اليوم يمكننا من النظر خلالها إلى الغد، وحتى ذواتنا التي كانت ذوات عينية أصبحت اليوم ذوات وصفية ليس إلا، وتقدير الأمور لم يعد كما كان، ولا بعد هناك تفكير جدي لخلق نتائج، وإذا نقر بوجود استثناء لخلق النتائج فهو نادر جدا، فمثلا تجد طالبا متفوقا جدا ويطمح إلى نيل شهادة عليا، لكن التميز الذي نهدف إليه هو ليس عبر الشهادة بل عبر العطاء، والعطاء إذا لم يكن يمتلك الرخاء الاقتصادي وقوم المال للتحويل إلى فعل وتكريس الجهود عمليا، سيكون ليس سوى برواز لتلك الشهادة اليوم، وسيكون لتلك الذات البشرية أما أن تستعبدها أيديولوجيا أو تتحول إلى سلعة مصيرها الاندحار والاستهلاك.

العالم إذا كان هو هوية الوضع البشري وكانت الحياة هي الانعكاس الإجمالي له، فما الذي يمثله الوضع البشري لنفسه؟، وهذا السؤال ليس بغاية أو بهدف نفسي أو أيديولوجي، بل بطموح فكري للبلوغ إلى نتيجة مقبولة من قبل العقل نفسه، ومن حق العقل أن يقوم بتوجيه السؤال لنفسه، وإذا كانت حرية العقل أوسع من حرية الذات والبديل لها الشخصي، فإن العقل في حريته لا يمثل هنا الخطاب المرجو، والذي يجد قبالته جهة تلقي، وذلك ممكن عندما يتحول العقل إلى خطاب، لكن العقل بنفسه يختلف تفسيره، وهناك من يرى على أنه مجموعة الأفكار المتجانسة، وآخر يطور الفكرة خصوصا حسب ما أتاحته ما بعد الحداثة، فيكون العقل أوسع، وأصبح إضافة إلى الأفكار المتجانسة أفكارا مختلفة، وهنا وجه الأشكال فالعقل المعاصر قد يختلف مع نفسه، وذلك بالنسبة له يحتمل حصوله بيسر في أفق ما بعد الحداثة أو ما بعدها، وإذا اتاحت ما بعد الحداثة للعقل بلوغ ذلك الحد العصيب، فلا بد من اسباب ترجوها الجهة التي روجت لمفهوم ما بعد الحداثة وما بعدها، واختلاف العقل مع نفسه يعني اختلاف العالم مع نفس، فالعقل هو الوحدة الجوهرية التي يعتمد عليها النشاط الروحي للعالم، والاختلاف يعني التغير في كينونة العقل، وبالتالي لا بد من وجود مظاهر عقلية جديدة يواجهان العقل نفسه، وتفسير العقل النشيط في مجال يختلف عن تفسير العقل الكامن، والذي يستجيب مباشرة للمظاهر العقلية الجديدة.

اليوم نواجه ذلك النوع الجديد من الجهل، فبعدما واجهنا الجهل بصفته الأساس في الحدود المتاحة له نواجه ذلك النوع الجديد الذي نطلق عليه الجهل المتعلم، حيث هناك كم هائل من الشهادات التي يقف خلفها ناس جهلة بالمعنى الحياتي، ولا يمكن درجهم بأية صورة حتى كأنصاف متعلمين، وهذا ما نقصده بمواجهة العقل لنفسه، فهؤلاء وجودهم ليس منعزلا تماما عن الوجود العام، ولا يمكن أن نصف المدنية قد تخلت عنهم وأبعدتهم عن أفقها، بل هو جزء من النسيج الاجتماعي في إي بلد من بلدان العالم المعاصر، والعالم المعاصر نقصد به عالما ما بعد الحداثة والذي يختلف جزم عن عالم الحداثة الواسع والعميق تاريخيا، ففي الحداثة انعدمت مواجهة العقل نفسه بشكل كبير ولم نشهد وجود صراع بين الجهل والمعرفة، بل كانت ناصية الجهل تتوسم بناصية المعرفة أن تمدها بالمعلومات وتحقق لها تواصل التعلم، والغريب أن وسائل التعلم وتطوير العقل متاحة بشكل أوسع بكثير مما مضى، فاليوم الفضاء الإلكتروني ينقلك إلى أي معلومة بسرعة كبيرة ويختصر لك الزمن لبلوغها، والنجاح النوعي صارت اليوم سبله يسيرة، لكن تجد كما كبيرا يترك فائدة المعلومات التي من الممكن أن يملأ بها خانة فارغة من خانات العقل، لكن الجهل وجه البشرية إلى اللهو، بل تمادى أكثر فتحولت البشرية إلى الألعاب غير المسلية، والتي منها ما يحول الإنسان إلى قاتل متوحش، ولا بد ذلك العمل غير تام البراءة في تقديمه بتلك الميزة الدموية.

لابد من فصل شعورنا البشري عن معنى الحياة، واذا لا نقوم بالفصل فسنقف على فكرة أن الموجود البس الوجود قناعه وبالتالي راح يتهم الوجود على بشاعة ذلك القناع، والصراحة النفسية مفقودة وكذلك الصراحة الموضوعية بنسب اقل، ولم يعد هناك مورد عقلي نعول عليه (لم تلق الفلسفة بعد ضوء كاف على المضمون الاجتماعي للمعرفة ومن الروابط العقلية التي تربط بين الناس وتجعل التفاهم بينهم ممكنا)2، واذا انعدم سبيل الاتصال ما بين المعرفة والناس وانعدمت الدرجات المؤهلة، وتصاعد انطواء الفرد البشري على شخصه وليس ذاته النشطة عقليا، وازدادت نسب انفصاله عن النسيج الاجتماعي الاصغر وهو الاسرة، وهذا بدوره سيوسع مساحة الانفصال عن النسيج الاجتماعي الاكبر، وهذا الضياع الملموس لا ندري ما الذي سيأتي بعده، والفرد منا نحن جميعا لو حرك الساكن من حياته بعزم إزاء بشاعة ذلك القناع، وامتلكنا إرادة فاعلة إزاء علة ومشكلة ذلك التشويه وبحثنا في وقعنا وفي أنفسنا عن السبب المقنع، وبالتالي نحصل على نتيجة تستوجب علينا التفكير والتخطيط للمعالجة وحل المشكلة، لكن اعتقد جازم أن أحدنا لا يقف أمام المرآة طويلا ويبحث في نفسه عن السبب المباشر لتشويه حياتنا، بعدما تمكنت من أن تتنفس برضا بعد حرب عالمية أزهقت أرواح ملايين الأبناء، والحرب التي كانت تهرول بالموت تجاه أرواح الجند إذا همدت في أفق واقعها ومظهرها البشع، فهي قد عادت من جديد داخل نفوسنا البشرية.

إذا أردنا أن نفسر النزعات النفسية فمن الطبيعي لا نجلب ذلك الطبيب النفسي إلى الحياة ليكشف عنها، ومن المعتقد التاريخي بمقدرة علم النفس هناك مؤشرات عامة ليست لصالحه، وأقول صراحة علم النفس إذا عالج أحد المرضى فسينتج لنا مريض آخر، وتلك إحدى مشاكل الحياة البشرية، ولا أفصل البشرية عن الحياة ولا الحياة عنهم، ففي التفسير الموضوعي للفلسفة، إن الحياة هي الكيان العام للبشرية وحيواتنا هي الكيان الخص، ووفق هذا المعنى ننطلق لدراسة العلاقة بين الحياة والوضع البشري، والمفاهيم الأخرى الضيقة التفسير العام تجاوزنه جميعا، في مفاهيم ذاتية ونحن نسعى إلى مفهوم مشترك ما بين الفلسفة والمجتمع، لكن ليس على طريقة فلسفة ما بعد الحداثة، والتي لم تختلف عن مسعى علم النفس الإجرائي إلا بالمسميات، فدراسة التفاهة اجتماعيا لا تنتج نتائج ولا هي بفائدة ولا يمكنها تحسين حال المجتمع، ونحن لا نعيب على العقل الفلسفي الجديد، لكن لا نجد في مساعيه ما يفيد البشرية، وليدرك ذلك العقل أن مستويات اليأس الإنساني داخل الوضع البشري بلغت أقصى حدودها، فما الذي يضيفه الفكر الفلسفي من خلال مفهوم التفاهة للوضع البشري، ونحن ندرك تمام انحدار الحياة البشرية نحو التفاهات الموضوعية، ونفصل صراحة بينها وبين التفاهات غير الموضوعية، فالتفاهة الموضوعية تدخل في خضم الحياة فيمما غير الموضوعية لا تبلغ ذلك الحد إلا عند العقل البسيطة والساذجة، ولا تبلغ العقل العملي ولا العقل العلمي.

إذا قمنا بترجيح العقل النشيط كمتمكن من خلق جدوى للوضع البشري المنهار حضاريا وأخلاقيا ونفسيا، وتصاعد مؤشر انحسار الإنسان داخل وجودنا البشري، وإذا فصلنا البعد المفاهيمي للحياة وأبقينا على المقومات الواقعية فيها، فتلك المقومات هي نتاجنا وليست أنتجتها الحياة بمعزل عنا، ومن ثم هي ترد إلى مرجعيات بشرية، فكل فعل بشري له فاعل، فلم نقل ذلك من مقومات الحياة، وصراحة نحن نحتاج إلى فصل لساني وعضوي بين أفق وآخر، فأي أفق لأفعالنا تقع مسؤوليته مباشرة علينا، وإذا قبلنا أن تكون الحياة هي ذلك الانعكاس الذي يشعرنا بما فعلنا، أو هي تلك المرآة غير البيانية، وصراحة يا ليتها كانت بيانية ونشاهد أفعالنا كما نشاهد المشاهد إلا إنسانية في فيلم ونقوم بنقدها، وقيامنا بنقدنا بشكل عير مباشر هو إحدى المهمات المطلوبة منا، والتي تخلينا عنها بعدما كانت إحدى الطبائع الأسرية المثلى، وصراحة صرنا نقوم حتى بخيانة أنفسنا، ولسنا فقط اجتحنا الغير وصرنا ننقده بلا حق إنساني، وتجاوزنا الحدود صار أوسع بكثير ما كنا عليه، فاليوم تشهد المواقع الاجتماعية ليس بيان رأي إزاء فكرة معينة، بل تجاوز الحدود الشخصية بالشكل المستمر، ونحن لسنا نقصد تشخيص الأمور والأفكار هنا بالقدر الذي نسعى فيه إلى دعم الأفكار، وصراحة أجد اليأس بلغ أقصى حدوده من إمكان العودة إلى العقلانية، ولم نعد نملك الحلول المقبولة، وإذا لم نعد نمتلك الحلول المثلى لأنفسنا، فمن الطبيعي أن نتخلى عن مشاركة الغير.

ما هي السبل إلى السير؟ طبعا السؤال لا يحتاج إلى إجابة، فالصبر ينبع من داخلنا نحن البشر، ولن تجد في إي صيدلية وصفة مناسبة للصبر، إذن نحن أمام معضلة وعلى وجه الخصوص في وضعنا البشري المعاصر، وتلك المشكلة لا حلول واقعية لها تماما، وكذلك من الندرة أن تجد لها الحلول الجوهرية، وطبيعة الحياة حياتنا تلك الأم البائسة هي لا تهتم لعوامل الصبر إلا ما ندر، فمن الصدفة أن نعثر على إنسان صبور دون اكتراث، فتلك العصامية النادرة هي وجه رجعي في الأفق العام، والذي لم يعد يعرف معنى للصبر، حيث لقد اعتاد الوضع البشري في ما بعد الحداثة وربما ما بعد بعدها أيضا، أن يضع الصبر على الطاولة ويخرج، فالحياة في نمطها الجديد هي بلا أي معنى للصبر، وهناك في نمط الحياة الجديد هذا صرحت صيغة الزمن ونمط سرعتها أبعد الحياة بعيدا عن الصبر، ومن ثم تطبع الفرد البشري على صيغ الحياة الجديدة وتداولها جعله ميالا لعدم الاكتراث إلا بما تطبع عليه، ومن أكثر الأمور التي اعتاد عليها الفرد وتطبع هي استهلاك الأشياء، ودون إحراج نجد الفرد لا يصبر حين تنفد سجائره ويقوم على الفور بشراء السجاير بعد استهلاكه ما سبق، وليقوم باستهلاك تلك ويستبدلها بغيرها، وإذا قيل في الأمثال بأن الصبر مفتاح الفرج، فالفرد يصبر على سياسة بلد رعناء، لكن لا يصبر إذا نفدت شكائره .

***

محمد يونس محمد

..........................

1- ما بعد الإنسان – روزي بريدوتي – ترجمة حنان عبد المحسن مظفر – عالم المعرفة – ص 25

1- العزلة والمجتمع – نيقولاي برديائف – ترجمة فؤاد كامل – دار الشؤون الثقافية – ص 83

في تفسير الخطاب الذي يمتلك ارادة وحرية خالصة، يكون سهم الموقف يتجه اليك، مهما ابتعدت عنه، وتلك السمة الاساس التي تمثلت في موقف الحسين في كربلاء، حيث تحدت الحرية الخالصة ذلك الكم الهائل المستعبد، والحسين ليس فقط المثال المتفرد في اطار الحرية، بل هو المثال الأول على مستوى الواقع طرح حرية الانتخاب، ورسم صورة مثالية لجدارة الموقف وحرية الرأي، وتحول موقف الحسين الى نص الحرية في التفسير الفلسفي، وبنس كبيرة على مستوى الفكر والمعرفة، وفي التفسير الموضوعي لتجسيد الأمة، نجد بالتحليل الخالص تمثل الحسين المثال الاجدر في تأسيس امة الشدائد وليس امة الرخاء، ولابد من جعل المواقف دلالة للبراهين، والبرهان في تفسير مفهوم الأمة على مستوى الفكر والواقع، لدينة امة تاريخية للإسلام، تعيش وتتنفس الاختلاف المقبول حسب تفسيرها، لكن في اطار الفلسفة الموضوعة هي تعيش اعلى نسب الخلاف، ونمت تلك الكراهية التي كانت بين جنبات ماكبث، وازدهرت عند دين الطائفة البغيض، مخالفة تلك الروحية الباهرة والتفاني والاخلاص التام، الذي تمثلت به امة كربلاء، والتي اتجهت الى الموت لتخلد ولا تزول .

اهم مفاهيم الأمة هي الارادة، ولا نعني بها تلك الارادة الالية، والتي تكون بتراكب ما بين مثلث – الدولة – المجتمع – الفرد -، فهي بحد ذات وجه غير نقي للإرادة، ولا يمكن أن تبرهن على وجود ارادة خالصة، وفي التفسير الفلسفي لا يمكن لمن لا يملك الحق أن يعطي الانصاف، ومن لا يمتلك الحرية هو يعيش في قفص الدولة والاعتقاد والاعراف، وتاريخ الامة العربية الاسلامية لا يخرج ولا يبتعد ابعد من هذا التوصيف، والتاريخ المزيف صريح اكثر من الحقيقة التاريخية، وصراحة تلك الأمة بلا نص، ولا تمتلك غير وثيقة مزيفة، واما مثال اساس الفلسفة ودهشة المعرفة وتمام الارادة الحرة، وذلك الذي وصف بالخارجي العظيم  اعطى للبشرية اعظم درس، وبرهن بالتضحية الشجاعة على وجوب اعادة انتاج الدين كافلا لمعنى الحرية الفردية بأقصى المستويات، وبالرغم انحراف الوعي الاثني وارتداده، وبث السموم الرجعية لحفظ ماء وجه اليمين الدعي، وتسخير ذلك التاريخ المزيف ضد تلك الحرية الخلاقة، وبالرغم من تقديم اوثان الجاهلية كوكلاء للرب على الارض، وأية اراضي، والتي اغلبها حسب النص القرآني مغصوبة، فجاء في الذكر الحكيم – اوحينا اليك قرآنا عربيا لتنذر ام القرى وما حولها - ، وصراحة النص العلوي لا غبار عليها، وحدد النص المواقع الموجب حريتها، فهي مكة وما يحيط بها، وما كان ابعد من ذلك، فهو احتلال حسب المؤشرات التي اوردها القرآن .

من الاسهل تفسير الحرية في حدود المفهوم، ومن الصعوبة أن نتمكن من تفسير الحرية في مستوى الواقع العملي، والحرية حسب التفسير الفلسفي الذي نؤمن به هي انتاج وليس اكتساب، ونرى لا حرية بلا ارادة، وكما نقر بانعدام الارادة اذا انعدمت الحرية الحقيقية، ولا اجد في تلك السيرورة الواسعة من التاريخ الا ذلك الوجه المشوه للحرية والارادة، وكما لا تلمس في كيان الآمة غير ذلك النفس المنفعل من خلال التزام الاعتقاد الطائفي، والتي لا توصف الا بالدين السياسي، فالنص قد تم الاسراف في تزويقه، والذي هو نتاج رجال تحكمهم النوازع النفسية، واذا كانت المسيحية بوجه اساس اسهم ذلك العدد الذي لا يتجاوز اليد الواحدة، فيما تجاوزت ذلك امة الاسلام ذلك العدد، وامة بتزويق وانعدام الحرية والارادة،  والاف من مصححي المسار العقلي والعملي للدين .

النص الحقيقي هو حرية الاختيار، وحرية الاختيار هنا هي من يوازن ما بين الدوافع النفسية والاحتكام العقلي، والحرية التي تحليلنا الى الدوافع النفسية، هي ليس الا ذلك التهور او الفوضى التي تسمى بالخلاقة اليوم، والحرية من جهة اخرى التزام بالمعنى الإنساني من خلال ارادة حرة، والتي تعمل على تنظيم الجانب العقلي والجانب النفسي على السواء، ويمكن لتلك الارادة من انتاج بلاغة سلوك تسمو به وتصل الى حد الاستثناء، لكن ذلك كله لابد أن يصب في اطار العامل الإنساني، ولا – ابدا – أن يصب في مصلحة شخصية، بل السمو على الغرض الشخصي احد السبل الاخلاقية، والتي لمسناها في الترجي من قبل نص الحقيقة المعنوية وهو الحسين للرجال بأن يتخذا من الليل الجمل الذي يوصلهم بأمان، وكما يبقي لهم ماء وجوههم، لكن جاء الجواب من جهة التلقي المثلى للنص بالصورة الابداعية الموازية للدعوة النبيلة، وقبالة ذلك الأمة بلا حرية ولا ارادة تدافع عن السجون اللغوية، والتي ارتفع ايقاعها من التلقي الموازي الى صفة القداسة، ولكن يبقى الادعاء يصب في جهة اخرى، والاصول الفلسفية ترى بأن الدين فطرة سليمة وليس وثائق مكتوبة، والتي مهدت للتمايز والتفاضل ما بين المذاهب السياسية للدين، وعدم اتباع الفطرة واتباع الوثائق المكتوبة بأيدي ونوازع بشرية هو مسار ايديولوجي، ولا يختلف عن اتباع الماركسية والاعتقاد بها، وتلك مواقف جزئية وليست مواقف تامة الا في حدود نفس الاعتقاد .

النص الذي نعنيه في تفسيرنا الفلسفي لا تصل الى حدوده الوثيقة، فهي من جهة اشتركت في انتاجها النوازع النفسية اثناء ظرف الكتابة، وكما هناك جهة ثانية تشير الى حمية الاعتقاد، والتي برع  المفكر الدكتور علي الوردي في تحليل مضامين الذات البشرية التي انتجت الوثائق، والوثيقة الحقيقية هي من تكشف الزيف وليس تستره وتزوق ما يهدف اليه، حتى رسمت صور مهينة للنبي، فمرة يتسابق في الجري مع زوجة له، واخرى تكشف الاوضاع السرية، والتي تتنافى مع الاخلاق العامة، فيما النبي جاء لإتمام  مفهوم الاخلاق، الذي قدمه لنا الفيلسوف سقراط عبر صورة فقدمت تماما في تاريخ كتابة الدين، وسقراط هو الدرس الامثل للإرادة وحرية الاختيار، وجاء الحسين ليكون ذلك المثال الابلغ جدارة في اختراق سلطة الزمن العضوي، والخروج من مسار الزمن الى مسار المعنى وبلوغ افق الرمز، فكان ذلك النص الذي انجذبت لها اللغات، فجون اشر احال الحسين الى ركن العدل الاجتماعي، فيما الالماني ماربين يرى بالحسين الدرس الامثل، اما براون الانكليزي يرى نسب الالم الجبارة يمكن أن تسقط اي بناء مزيف، وتوماس كارليل يرى ذلك الايمان الفطري بالحرية راسخ ولا يمكن فصله عن الكيان البشري للحسين، والسؤال اليس الحسين هو النص الذي استعاره التاريخ لتكون هناك قيمة مضافة للتاريخ  وبلغات شتى، لذا (إن الرجال الذي مثلوا أعظم الأدوار في العالم، كانوا رجالا قويي الإرادة، مقدرين قدر نفوسهم، ولهم الجرأة أن ينسحبوا من جمهرة الناس ويخطون لهم طريقا)1. وتفرد تفرد النص، الذي انجذب اليه التاريخ برحابة صدر، وبقي يدور في مداره الزمني .

اذا كانت الحقيقة الدينية لا تحتاج الى اقنعة او تحسين، فلماذا كل تلك الاقنعة التاريخية، والتحسين المرتجى قلبه الصولجان على قفاه، وتلك التحسينات التي ذهبت لصالح السلطة الدينية او الدنيوية، قد فصلت النظرية الدينة عن الواقع البشري لها، وكما استبدلت قيم الصلاح الإنساني الى التزامات بالعبادات، على اعتبار عالم العبادة هو عالم الزهد، والعالم العملي للدين عالم الانجذاب للدنيا، وهذا ما انتج مجتمعات للدين في خمول تام، فالواقع العملي للدين هو الرهان، لكن الفقاهة وعسس الدين حولوا المسار، ونستذكر هنا عندما بنى ابراهيم بيوتا لله، سأله الرب كم من الجياع اشبعت، وهذا ما يعني دور العبادة  للخمول الديني وللزهاد، فيما الواقع العملي لخلق قوانين صارمة للتعامل البشري، وصراحة السلطة الدينية هنا قد تجاوزت عقبة عصيبة، فلن يكون هناك الا ذلك الالتزام العبادي، والذي قد انتج له ذلك الكم من الاحاديث والروايات، والصلاة في الجامع اصبحت البديلة لصكوك الغفران، واصبحت النص الديني الذي تستقبله السماء مباشرة، وتلك الشكليات استهلكت اوقات الافراد، وتقريبا انعدم الاستعداد الى الواقع العملي، وانعدمت الارادة نتيجة لوجود الية حكمت الحياة البشرية، ويقول لنجلس (يجب ألا ينظر للعالم ككيان من اشياء جاهزة، بل ككيان من عمليات)2، وهذا الرأي اعتقد يضعنا في مواجهة حتمية مع الدين الجاهز، الذي هو وثيقة وليس بنص، وتطرفها هذا استوجب الرفض والاعتراض والاحتجاج والنهضة .

ثمة فارق هائل ما بين الوثيقة والنص، فالوثيقة هي تكفل ذلك الافق الزمني المحدد الزمان، قبل أن تدخل في متن التاريخ بعد ما يقارب مرمر قرن على صيرورتها، واما النص فهو الوجود والموجود، والنص خارج التحديد الزمني يكون، فنحن نقرأ اليوم الالياذة ويفصلنا عنها ما يزيد على خمسة قرن، وكذلك نجد في مكتبة كتاب دانتي، وفي تلك العملية الدلالية نقف على مغزى فلسفي جعل المنحى العلمي سبيل التأهيل، والنص ديالكتيك لكن ليس وفق ذلك السياق المشترك للديالكتيك، وعملية التلقي تشعر بأنها امام فعل، وهو سلطة نفسه، وليس كالسلطة الدينية او السياسية التي تحكم الناس، والدخول الى  النص يحتاج الى فطرة سليمة، ولا يحتاج ارصدة او ممتلكات ثمينة، فتلك تفنى وتزول، وكم ازيلت من شواهد عظيمة كما يصور للناس، وكذلك ممن البس ثوب العظمة والمهابة، ارتحل عاريا ويرتحلون عراة الا من الكفن، والنص بسلطته يدور ويدور التاريخ معه، وتلك الارادة التامة ما احوجنا اليها نحن من تسير اراداتنا عرجاء، وحريتنا التي تحتاج الى ما لا يحصى من التبريرات لكي تستقيم، وحرية النص الازلي كانت ابلغ صورة، وهنا وجه الاشكال، فالبشرية تحتاج الوجه العقائدي من الحسين ولا تحتاج الوجه الإنساني، فمفهوم الإنسان ليس قائما على وجه الحاجة، بل على وجه التضحية الباسلة، ونحن ابناء الظروف ولسنا ابناء الارادة التامة الاشتراطات، وكما لسنا نحن ابناء الحرية المسؤولة المنتجة من عزيمة فطرة سليمة .

اتوسم بنا جميعا انزال لافتة الامام، واعلاء لافتة المعنى، ومن يشكل موقع الامامة هو رجل تجري عليه ما يجري علينا، لكن المعنى حتى من الصعب أن نلمسه كما نقوم بلمس الامام، وامام الامة فرصة في التحول الى عقلي عملي فاعل، وبذلك نزيح عنه الكاهل العظيم، ويستعيد ما فقد في مرحلة التقديس، وتجاوز التكريس الروحي للدين، ولابد من التحول من مفهوم ترفيه النفس الى مفهوم محاسبة النفس، وصراحة محاسبة النفس هي اخر الامور، ومحاسبة الاخرين هي التي تحتل الزعامة في حياتنا، وكذلك امتلاك رد فعل يتجاوز الفعل بكثير، والنص يشير- لا تستوي الحسنة والسيئة ادفع بالتي هي احسن – ونحن نذهب باتجاه معاكس، ولو تطلبت الظروف والحتميات والموقف العام الذهاب في اتجاه معاكس لأنسحب الجميع، وهذا ما يجعل الدين في حرج، وكذلك الإنسان الذي بداخلنا لا يجد النفاد الى الحرية التي قد تتاح له، فعالم العبيد هو السائد صراحة وعالم الاحرار نجده مفقودا الى حد كبير، وهذا ما فصلنا عن النص وطاقته الكبرى، حتى فقدنا الارادة المناسبة الاشتراطات المهمة للجهتين، وفقدنا نسبيا حرية الانتاج  .

في النظرية الدينية لابد أن نفرق ما بين العقل المنفتح او الحر بما يمتلك من مخرجات، والعقل المقيد او المغلق الذي لا يخرج عن حدوده، والمخرجات التي يمتلكها غير مؤهلة لأبعد من حدود الاعتقاد، وكذلك في النظرية العلمانية المقابلة ذات الطرح نجده متوافقا، ولا يقول لي العقل العلماني هو المؤسس لنظرية العقل المنفتح، ونشير هنا مباشرة الى مفهوم الحرية ومديات تشكله في العقل العلماني، فالعلمانية الرشيدة تضع نسب للأيمان بالطروحات الفكرية، ولكن النسب الاكبر للنزعة الإنسانية، والعلمانية المغلقة تقابل التدين، فكلاهما لا يصل من جهة الى الدين الحر، ومن جهة اخرى الى العمانية الحرة، وثمة مشتركات ما بين معنى الحرية في الدين ومعنى الحرية في العلمانية، ومحور المشتركات هو العامل الإنساني، لكن ذلك يوجب الانطلاق من حرية تامة، وليس هناك تأهيل اذا قدمنا الايديولوجيا الدينية او العلمانية، ونحن ازاء المعنى ولسنا ازاء الذوات، ولابد أن تسمو العلمانية والدين نحو ذلك المعنى، فدين الرجال في التفسير الموضوعي يعكس لنا ايديولوجيا من نوع المغلق، والكنيسة حرقت البشر وهم احياء لمعارضتهم لها، والاسلام السياسي خلف ماسي وضحايا، بل بلغ الى الحد الذي يوصف به بأنه قتل نفسه بنفسه، وعجيب دين الرجال يشترك به الابرياء مع الطغاة والظلمة، ودين المعنى هو ليس باعتقاد الا  عبر الفطرة السليمة، وهو حس وشعور، ولا يضع فيه العقل خانات للخصوم في الجهة المقابلة .

النص يكون افق الطرح فيه عبر الممكنات الحسية والاحتمالات العقلية، التي ليست التبريرية ولا المغلقة الاعتقاد، بل عبر القيمة والموقف، وطبيعة الحياة الحرة تحتاج الى المحفزات من جهة تصعيد الحس الإنساني، وفي المعنى الديني من اجل رفع مستوى العرفان، وهيدغر يجد العرفان هو الجوهر، الذي يعطي للنشاط العضوي طاقة خلق وابداع، وهل هناك اجمل من الابداع الإنساني، وكم هو عظيم من ابدع وبكى، كما بكى الحسين بن علي على الاعداء، فرسم لنا صورة بهية للسيد المسيح، تركناها خلفنا في دين الاعراف والتقاليد، وكما العقل الرجعي اعتبرها نمطا للأيديولوجيا الدينية، ولا تغادر ذلك التوصيف، ولا ادري حتى يقبل دين العبيد أن يفنى الاحرار جميعا، ولا يبقى اثر لسبارتكوس، ولا يرسخ ذلك المعنى الابداعي، وتلك الشجاعة والارادة الحرة، التي لا تشترط الا العامل الإنساني، ولن يكون هناك أي تأثير غير ارتداء الملابس التي تحمل صورته، واما اثره فلا وجود له في النفوس، ويبدو المجتمعات اعتادت على دور العبودية، ولم تعد تهتم لقيمة الحرية، ولا يوجد لمعناها أي اثر، والدين المغلق والعلمانية المعادلة له استمرا في التسابق لكسب مساحات اجتماعية اخرى، فالناس اليوم عبيد الاستهلاك، وما نفد يكرر بشكل مستمر، ومن يصلي بتلك الارادة الهشة يستمر في تكرار ذلك، دون أي تطوير معنوي على اقل تقدير، وكذلك من اعتاد على احتساء الخمر يوميا ايضا يكرر ويستهل حياته بلا ابداع انساني، وارضاء النفس ذلك كم نود أن يستبدل، ويكون هناك ذلك الارضاء للعقل، وحسب تلك المؤشرات البشرية فإن على المستوى الإنساني لا وجود لنتائج مرضية، وما دام افق الاستهلاك يتكرر وقدر له البقاء مستمرا، فالحياة ستكون في توصيف فلسفي اشبه بنقطة تنمو ومن جديد تتخصر نفسها، وتعاد تلك المعادلة باستمرار، واي قدر كتبت البشرية لنفسها، قدر الاستكانة والاستسلام، وكونت اكبر مجتمع للاستهلاك في التاريخ .

***

محمد يونس

............................

1- قوة الإرادة – اوريسون سويت ماردان- ترجمة يوسف شديد أبي اللمع- دار صادر- ص 46 و47

2- الفن والإنسان – محمود صبري – مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية- ص 83

في المثقف اليوم