أقلام فكرية

أقلام فكرية

ظهرت فكرة الحداثة كمفهوم واسع الدلالات وكمشروع ضخم ارتبط بانطلاق الثورة الصناعيّة في أوربا، وظهور الطبقة البرجوازيّة كطبقة تقدميّة تعي ذاتها من خلال التعبير عن مصالحها ومصالح الطبقة العماليّة المرتبطة بها، هذه الطبقة التي ظهر معها الكثير من المفكرين الذين راحوا يعبرون عن مصالحها وطموحاتها بفكر عقلاني تنويري مشبع بتفاؤلها ونزعتها المركزيّة العقلانيّة. ولكن شيئاً فشيئاً راح يغلب على هذه العقلانيّة روح (العقلانيّة الأداتيّة)، أي ذلك النمط من التفكير الذي إذا ما تعرف على مشكلة ما، سعى لحلها مباشرة دون التساؤل عن أهداف هذه الحلول وغاياتها إن كانت إنسانيّة أو معادية للإنسان. هذا وقد فرضت هذه العقلانيّة الأداتيّة آنذاك أسلوب آليات التبادل المجردة في المجتمع الرأسمالي حتى في القيم، بعد وصول الطبقة البرجوازيّة إلى السلطة. فتبَادل السلع في عالم هذه الطبقة بعد أن تحولت إلى طبقة إمبرياليّة احتكاريّة، يعني تساوي الأشياء المُتبادَلة كسلع، فما يهِم في السلعة إن كانت جهد العامل المنتج، أم المادة المنتجة للتسويق ليس قيمتها الإبداعيّة وما تتضمنه من قيم إنسانيّة معدّة لتامين حاجات الناس الاستعماليّة المتعينة، وإنما ثمنها المجرد وما تحققه من ربح لمالكها. وإذا كانت أفكار التنوير قد جاءت مع ظهور الطبقة البرجوازيّة كطبقة تقدميّة لتعمل على محاربة الظلم والاستعباد، وقيم النبالة والعقليّة الكنسيّة الغيبيّة وما تمارسه من تخدير وتغييب لوعي الشعب عن مآسيه، الأمر الذي جعل  أفكار التنوير تشكل أنموذجاً حياً لطموحات هذه الطبقة، وتعبيراً هادئاً عن مشروع الحداثة بكل ما يحمله هذا المشروع من مفردات تعبر عن الحريّة والعدالة والمساواة، وعن المواطنة والحقوق الطبيعيّة والقانونيّة ودولة المؤسسات وحرية الرأي واحترام الآخر فكراً وعقيدة، إلا أن أفكار التنوير بعد وصول الطبقة البرجوازيّة إلى السلطة وتحولها إلى طبقة برجوازيّة إمبرياليّة استعماريّة، راحت تقمع شعوبها وشعوب العالم، ومع هذا القمع أخذت أفكار التنوير ذاتها تتحول من أفكار تحريضيّة للثورة ضد الظلم والاستغلال، إلى أفكار يغلب عليها الطابع (التبشيري) بسبب إفراغ الطبقة البرجوازيّة لهذه الأفكار من محتواها وتحويلها برمتها إلى شعارات براقة يتغنى بها الإعلام الغربي ومؤسساته الدستوريّة ودساتيره، بينما الواقع يقول غير ذلك. فالمواطن الذي غنت له شعارات الحداثة مع فكر فلاسفة عصر التنوير، وبيانات حقوق الإنسان ومضامين دساتير هذه الدول عن الحرية والعدالة والمساوة ودولة القانون والمواطنة وغير ذلك، راح هذا المواطن الذي بدأ يُستلب ويُشيئ ويُغرب بفعل آلية عمل السوق القائمة على الربح، يعيش اضطهادا وتهميشا تحجبه غشاوة السعادة التي خرجت من معطف الحريّة الفرديّة والاجتماعيّة وصناعة التسلية والترفيه وثقافة الاستهلاك والإعلام المنمذج والتركيز على غرائز الإنسان أكثر من عقله. الأمر الذي جعل اغتراب الإنسان واستلابه وتشيئه في النظام الرأسمالي، يحوّل الكثير مما هو إنساني، ويعبر عن القيم النبيلة للإنسان، إلى قيم وسلوكيات حيوانيّة في العالم الرأسمالي.

إن انتصار العقل الأداتي وسلطته السياسيّة والاقتصاديّة للطبقة البرجوازيّة على أفكار التنوير العقلانيّة النقديّة، أسفر عن جملة من المغالطات والتعسفات كانت أساسا لولوج الحداثة مرحلة الأزمة. وبالتالي بدء ظهور فكر وعالم ما بعد الحداثة الذي يعبر خير تعبير عن عالم الطبقة الرأسماليّة الاحتكاريّة وعالم القطب الواحد، أو النظام العالمي الجديد.

مع تحول الطبقة البرجوازيّة إلى طبقة إمبرياليّة احتكاريّة تمارس الظلم على شعوبها وشعوب العالم، تبدأ مسيرة الحداثة بالتراجع، وتبدأ معها قيمها النبيلة بالتراجع أيضاً لتحل بدلاً عنها قيم التذرير والتفكيك والنهايات. أي موت القيم في الفن والأدب والفلسفة والأيديولوجيا وكل ما يمت لحياة الإنسان من قيم نبيلة.

إذن مثلما للحداثة قيمها، فلما بعد الحداثة قيمها أيضاً، ثم أن عبارة  (ما بعد الحداثة) تفيد التجاوز والبعدية وتشير إلى تتابع زمني يأتي فيه واقع جديد ووضع جديد خلفا لآخر أصبح مستنفدا ومتجاوزا ومدمراً كما يقر فلاسفة ومفكرو عالم ما بعد الحداثة.

إن النقد الحاد الذي مورس على قيم الحداثة من قبل مفكري وفلاسفة ما بعد الحداثة، المعبرين عن طموحات الطبقة الرأسماليّة الاحتكاريّة، يقدم نقطة انطلاق هامة للحظة ما بعد الحداثة للمضي أشواطا بعيدة في تجذير هذا النقد وتعميقه، إذ لا يجري نقد الحداثة فقط بل نفيها وتدميرها. وهذا ما يدفع البعض للقول:  إن لحظة ما بعد الحداثة تمثل نوعا من الانفجار الذي سوف يؤدي بالحداثة وبعقلانيتها وموضوعاتها إلى التشتت والتفكيك والتذرير، ولهذا يظهر مفهوم ما بعد الحداثة كنبش في الأسس وكسر للقوالب وخروج على النماذج، وتفجيرا للأشكال وخروجا عن خط الصيرورة التاريخية للحداثة، وتدميرا لأنساقها القيميّة النبيلة على نحو خارق ومدهش.

من هنا ينضبط عالم ما بعد الحداثة داخل (خرائط مفاهيميّة) تقوم أساسا على النفي والتدمير والتجاوز والافتتان "بأخلاقيات الموت" والتحرر ودراميّة النهاية. فعلى نفس هذه الخرائط تماما يشتغل فلاسفة ومفكرو عالم ما بعد الحداثة، حيث يقومون بحصر ظاهرة ما بعد الحداثة على المستوى الفكري في عدد محدد من المبادئ والأسس وهي: موت الفن، وموت النزعة الإنسانيّة والعدميّة، ونهاية التاريخ. وعلى هذا الأساس جاء طرح "ميشل فوكو" و"جاك دريدا"، عدّة مصطلحات تتجلى فيها أوجه التوصيف لعالم ما بعد الحداثي بوضوح مثل: التفكيك، والاختلاف، والتشتيت، واللااستمراريّة، والنهايات، وبالتالي الموت.

واخير نقول : لقد ساير مصطلح ما بعد الحداثة” عند ظهوره وانتشاره ـ العديد من المفاهيم والمعايير الرؤيويّة الغربيّة ومنها مفاهيم (الما بعديّة)،  مثل ما بعد الصناعة، ما بعد العلم، ما بعد الفلسفة.. الخ.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سورية

يشكل النشاط العقلي الرديف الموضوعي للنشاط الحي، ومن الطبيعي الفرد البشري هو يمتلك قاعدة تفكير تناسب حيثياته، والعقل في الجانب الأساس هو عقل الإدراك المباشر الفطري، وإذا فشل الأمر هنا يتحول العقل إلى مرحلة أخرى من مراحله، والعقل هو وحده من يمتلك أقصى حرية، حيث أحيانا يسقط العقل حتى القانون الأخلاقي، وذلك لوجود ضرورات، ولكن القانون الأخلاقي ليس سلطة على العقل إلا إذا احتكم العقل لذلك، وحرية العقل ليست فقط ضامنة للخلق كما يرى برديائف، بل مهام الحرية من الممكن أن تكون في إعادة الإنتاج، وليس كل خلق يتوافق مع حرية العقل، وهناك ربوة الشر في العقل كما هناك وجود لربوة الخير، ونحن لا نتفق كليا مع الفكرة التي ترى بأن البشر شرير بطبيعته، على اعتبار بأن البشرية الأولى بدأت بحادث شرير، وقتل ابن آدم لأخيه ليس معيارا، وكما إخراج آدم من الفردوس ليس بحادث شرير، حتى في المعنى الذي تحول فيه آدم من صيغة عليا إلى صيغة أدنى، فحرية العقل هي الفيصل، والتميز والمفاضلة دفعت أبن ادم الى رفض الامر، واما القتل المزعوم فكان امر يرتبط بالغضب، والذي يأتي نفسيا بعد رفض حرية التمييز، وصراحة الكليات لا تفسر الا نفسها، وما بعدها هو ما يحتاج منا التفسير والتأويل، وهذا ما يزيد الامر تعقيدا، ووفق شوبنهور لا نبلغ الا التصورات المقبولة.

لقد طرح جيل دولوز أحد الأسئلة المعرفية الهامة، إزاء تعريف الفلسفة، ونكرر السؤال بسؤال آخر، فهل تحتاج الفلسفة إلى تعريف؟، نجد من الأفضل الإجابة بالنفي، فالفلسفة ذلك العالم الواسع المتجدد أوسع بكثير وأعمق من أي إجابة، والفلسفة ليست حقل مفاهيم فقط، بل هي تمتلك طاقة معرفية خلاقة، وليست أفقا أو فضاء تعليم بالصياغة التقليدية للفكرة، وإنما هي حطاب عميق بسيرورة تمتد في عمق التاريخ، وأيضا نعتقد بوجود فلاسفة قد سبقوا فلاسفة أفق التاريخ والحضارة، وحضارة ما بين النهرين والرقم الطينية تخفي الكثير من الأفكار الخلاقة، ونحن نرى الفلسفة تنمو في وجود مجتمع لغوي متكامل، ومن جهة أخرى علينا التفهم بأن هناك مفاهيم مبذولة وأخرى تحتاج اكتشافا، ولسنا هنا إزاء أعراف فلسفية في الفصل بين المبذول والذي يحتاج إلى اكتشاف، لكن ذلك ما شعر به العقل من ارسطو الى هيدغر، والفلسفة ذلك الفضاء الواسع، وقد ربطه العقل الاخلاقي بالحكمة من جهته، فيما فضاء الفلسفة واسع جدا، وفي كل مرحلة من مراحل الحداثة امتازت بتوصيف، وتخلت عنه في مرحلة لاحقة تغير فيها المجال الزمني، والتفسيرات للفلسفة تتبع المواقف العقلية، ولا ترتبط بالفلسفة ذاتها، وكذلك الحس والمشاعر تشترك بنسب معينة في خلق تفسير لصالحها، وهناك سياقات عامة للتفسير واخرى هي مستحدثة تفصل ما بين السالف والاني واللاحق، وذلك الفصل سيزيح نسبا من الافكار ويعيد تنظيم ما تبقى منها.

لكل عصر صورة، وتلك الصورة مرتبطة بوحدة زمن، تمثل السيرورة الزمنية، وهذا يعني هناك تبدلا عاما يصيب الحياة، فالوحدات البشرية ستكون بشعور مختلف عما كان سابقا، فرجل تحول من زمن العربة والخيول إلى زمن السيارة، من الطبيعي انفصلت وحدة الزمن الجديد عن الماضي، وصارت تدور في أفق الحاضر المدهش، والعقل الفلسفي من الطبيعي سيتأثر إذا مر بتلك الظروف، ففيلسوف القرن الثامن عشر لو قدر له الاستمرار حتى القرن العشرين، ربما يصاب بمس، أو تأخذه الدهشة إلى أقصى حدودها، حتى تصبح الدهشة عالم خاص، لكن هذا المثال إذا كان في افتراض عالي الموقع، ولا يمكن تناوله بصيغ واقعية بين عقل وآخر، لكن أيضا لسنا إزاء التبرير بل إزاء المقارنة الموضوعية، والتي تفضي إلى نتائج تفيد في مواقف أخرى يستقبلها العقل، والعقل في الفلسفة صراحة في دائرة زمنية، متعددة النشاط والحركة والوقوف عن الحركة، لذلك تبقى الفلسفة بفائض كبير للتفسير المباشر، وبما أن العقل الفلسفي غير مستقر تماما بين جانب أفقي وجانب عامودي، فها هو هيدغر مرة يكون أمام الوجود، وأخرى يكون أمام الميتافيزيقا، وتلك الحالة من الحالة العامة للعقل الجديد، أما العقل الحديث فنموذج نتشه متعدد الأقنعة الفلسفية، إلى حد وصل به لا يرج له قناع، حيث تحول من مخلوق الى خالق، وفي احساسه من بشر الى رب متجسد بشريا.

يشكل حقل المفهوم الفلسفي العام في تفسيرنا الموضوعي دائرة متعدد الوجوه دون لوحات إشارة، وهنا ينعدم التحديد، لكن هو كما طرح جيل دولوز، بأن ذلك المفهوم هو يتجه لمفهوم آخر، وعندما يتبلور المفهوم الآخر، سيكون هناك إزاحة لمفهوم الفلسفة العام، وهذا من جهة صيغة التداول، وأما من صيغة ركن الأخلاق الفلسفية، سيكون هناك نقطة تاريخية كبرى يتكئ عليها المفهوم، ومفردة الحكمة تعود إلى تاريخها القديم، أيام كان البشر المتميز يبحث عن البلاغة والحكم، وإلا ليس هناك روابط عقلية تامة لتلك الفكرة، وعلى الخصوص بعد ما أصبح الخطاب الفلسفي لا تقف أمامهم مواقف الكنيسة التي كانت تحرق البشر أحياء، وتمكن هوبز من النجاة من تلك العقوبة لبث خطاب التجديد الحر الذي عارض فكر الكنيسة، وصراحة الدور الأكبر قدما الفلاسفة بمعارضة من خلال العقل لسلطة الكنيسة الاستبدادي، والخطاب وليس الفكر الاجتماعي من جعل العقل يبرهن السلطة الدينية ليست بشرية، بل هي فوق هذا المستوى، والرب دعا إلى تحرير البشر من البشر، والعقل الفلسفي في سيرورته ما تجاهل عنف الكنيسة، لكن يسعى أن يرجح الخطاب المناسب لردعها، وفي شدة الأزمات كانت الصفة العامة للخطاب المجابهة من خلال المستوى المعرفي لتفسير المعايير بالطريقة التي تتمكن من الهبوط بخطاب الكنيسة إلى أسفل، لكي يدخل في خانة الإدانة، وتلك الصيغة لم تكن مناورة عقلية، بل حتى الإدانة تدخل في المنطق العقلي.

تشكل التحولات التي مر بها العقل الفلسفي التغير أولا في ملامح الخطاب، وثانيا ترجيح مرحلة عقلية بديلة لمرحلة أخرى، وثالثا وضع الاعتبار الفلسفي بالدرجة الأولى، وذلك المثلث يتدرج في المفهوم الفلسفي من أولى العتبات إلى آخر ما يتشكل في المفهوم من خطاب، و (هذا أمر لا محيد عنه لأن كل مفهوم بتقطيع جديد، ورسم محيطات جديدة، مما يتطلب إعادة تفعيله وتفصيله ثانية)1، وفي تفسير أدق نرى بأن الكينونة تستبدل بماهية، وهذا ليس إحلال محل بدلا من محل آخر، بل يمكن توصيف الأمر على وجود تطور حسي في الخطاب، والعقل يختلف في تفسيره بالتاريخ وبين العقل بذاته، والعقل في الجانب الشخصي حي ولكن لا يتجاوز الموت عضويا، وإذا قنا العقل يموت ولا يموت، فالمسألة هي في وجوه، فالعقل يموت في موت الشخص، لكن العقل كخطاب لا يموت حتى لو تجاوز ذلك العمر المعين، فنتشه المتوفي على عتبة بداية القرن العشرين لا يزال حيا، وهذا مقصد فكرتنا العقل يموت ولا يموت، والعقل في الجانب الشخصي له صيرورة ومن ثم هناك سيرورة تقف عند حد الموت، وهذا في الجانب العضوي للعقل، أو ما نسميه الجانب العملي للعقل، حيث هو عدة أحداث وتفاصيل وسرد واقعي، والانفصال التام عن لحظة الحياة المستمرة، يبقى الخطاب يمثل استمرارية العقل، والعقل بأي صورة لا يقف عن النشأة أو الصيرورة، واختيار سقراط الموت بالسم بدأ من الحياة، يحتاج تفسيرا مقلوبا، فهو رفض العبودية واحتارت حريته.

لا يمكن الوقوف التام على سيرورة العقل، فوحدة الزمن ليست بركن ثبات الاتصال، بل ينقطع الزمن ويتواصل، الموت الذي يحل في نهاية عقل بشري، ويمتلك خطابا فلسفيا، في تفسير الأمر من جهة الوضع البشري تقف وحدة الزمن، فيما تتعدى ذلك في الخطاب، والزمن الفلسفي لا يقاس على حياة الشخوص الفلاسفة، بل يكون في سيرورة الخطابات، وهنا نقف على فكرة حساسة ترى بأن افلاطون وارسطو على وجه التخصيص لا زالوا احياء، وتلك الفكرة لازالت واقعية الى حدما، ومن هنا تنتفي فكرة عن الخطاب، واذا كنا نحاور افلاطون وارسطو وتفصلنا عنهما الفين سنة، فذلك امر في غاية الدهشة، وتلك ميزة من ميزات الفلسفة، والتي تعتبر هي الصيرورة الاساس للوعي والعقل والخطاب، واذا امتلك الشعر ذات النفس التاريخي، فإن جل اهتمامه ينصب على اللحظة الانية للشعر، والتي محط اهتمام التلقي المعاصر لتلك اللحظة الشعرية، والتي يتوقف التقابل ما بين الخطاب والقراءة، واذا كانت هناك اخوة ما بين الشعر والفلسفة، فقد تدنى مستواها، ومن ثم عاد بصيغة مختلفة تماما، اذا تغير موقع الأنسان وتلك الهرمية المهمة، وفعلا الفلسفة اتجهت الى موازاة ذلك الشعور في الشعر، فتوجه الان دونو لدراسة نظام التفاهة المزمع، لكن الشعر بالقدر الذي يشعر به بضياع الإنسان، لكن الشعر بدعم جوهر الشاعر وليس واقعه، لكن الفلسفة ليست خطاب دونو او بوردو، بل الفلسفة تلك السيرورة طويلة الامد .

***

محمد يونس محمد

..................

1- ما هي الفلسفة، جيل دولوز، فيلكس غتاري، ترجمة مطاع صفدي، المركز الثقافي العربي، ص 41

للعقيدة البوذية هدف مركزي واحد هو القضاء على المعاناة او (duhkha) في اللغة الهندية القديمة، وبذلك هي تستهدف كل أشكال اللاّقناعة في الحياة والإحباطات والآمال الخائبة وعدم السعادة.

يعتقد البوذي ان تخفيف المعاناة هو المهمة الأساسية في الحياة، وان معظم معاناتنا تبرز من عدم وجود تطابق جوهري بين رؤيتنا للواقع والواقع نفسه. لذلك، فان المسار لإنهاء المعاناة يكمن في مواجهة وتصحيح عقائدنا الزائفة حول العالم. يرى بوذا ان احدى أبرز حالات سوء التصوّر الضارة حول الواقع هي فكرتنا الملتبسة حول "الذات" self. طبقا لبوذا، لو استطعنا تذليل مفهومنا التقليدي لفكرة الذات وأدركنا ما نحن فيه حقا،سنتمكن من تقليل المعاناة والعيش بحياة أكثر هدوءاً.

اللّاذات Anatman : أنت غير موجود حقا

مفهوم بوذا لعدم وجود الذات يبدو فكرة غريبة، نظرا للإحساس بان الذات هي من أكثر الأشياء المألوفة لنا، لكن هناك الكثير من سوء الفهم لما يعنيه بوذا هنا. في الحقيقة، هناك الكثير من النقاش ضمن البوذية ذاتها حول ما تعنيه مفردة اللاّذات او Anatman، حيث ان أدبا واسعا في الرؤى البوذية الأصلية، يقدم تفسيرات مختلفة وتشعبات (بعضها أكثر تشددا من الاخرى). سنركز في هذا المقال فقط على التعاليم البوذية الأصلية التي وردت في الخطاب Suttas في شريعة بالي pali canon.

اولاً: من المهم فهم السياق التاريخي الذي كان يعمل به بوذا، لأن أعماله كانت كرد فعل للبراهمينية (سلف الهندوسية الحديثة) السائدة في الهند سنة 500 ق.م. ضمن هذا التقليد، كان مفهوم atman او النفس الدائمة او الروح حاسما. وفق مفهوم بوذا للذات، ليس من الضروري للبوذي إنكار تقاليد الناس، هو يركز خصيصا على المفهوم البراهميني للذات، الذي يستلزم جوهرا دائما لها. هذا قد يجعلنا نتأمل بالفكرة المسيحية للروح اكثر من فكرتنا اليومية للذات، لكن الرؤية البوذية لها تداعيات هامة على كل منهما.

يعتقد بوذا اننا سواء أسميناها روح أم ذات فان ما يُشار اليه بـ "انا"، "انت"، "هو"، "هي" ليس له استمرارية واقعية: جميع تلك الضمائر المشار اليها لا توجد بالطريقة التي نعتقد بها. الذات المستمرة – او "انت" في الاسبوع الماضي وفي يوم امس واليوم هي فقط تقليد او تبسيط مُخترع، طريقة ملائمة للإشارة لما هو في الواقع مجموعة من العمليات المعقدة والدائمة التغيير.

لو تأملنا بهذا نجد اننا نتغير كل ثانية طوال اليوم . أفكارنا، رغباتنا، أمزجتنا، ذكرياتنا،شعر رؤوسنا، الأظافر في أصابعنا، الخلايا في أجسامنا – كلها في تدفق دائم. لننظر في كومة من الرمل. كلمة "كومة" هي طريقة بسيطة للاشارة لحقيقة ان هناك آلاف الحبات من الرمل مكدسة الى بعضها. لو أخذنا حبات الرمل الانفرادية سوف لن يبقى شيء. الـ "كومة" هي فقط طريقة مختصرة للقول ان آلاف الذرات من الرمل التصقت مع بعضها.

نفس الشيء بالنسبة للذات، طبقا لبوذا، نحن نستعمل أسماءً انفرادية ونلفظ "انا"، "انت"، "هو"، "هي"،"هم"، ونحن ربما نعتقد اننا باستعمالنا هذه الكلمات نشير لوجودات فردية مستمرة. لكن الناس ليسوا وجودات فردية مستمرة، نحن مركب من كيانات متغيرة باستمرار. كما في كومة الرمل، نحن ليس أكثر من مجموع أجزاءنا المتغيرة. الكتاب البوذي الشهير الذي يوضح هذا التفكير هو (أسئلة الملك ميليندا) "هو في الحقيقة لم يرد ضمن شريعة بالي الأصلية لكنه يُعتبر بنفس أهمية ذلك المرجع"، الذي يناقش فيه الملك مع الحكيم ناجاسينا اسئلة حول ما الذي يجعل من العربة عربة:

"هل هو العمود؟العجلات؟الاطار؟الحبال،الدواليب؟ الجواب كلا ليس في أي من تلك.

"هل ان جميع تلك الأجزاء هي التي تشكل العربة؟ الجواب ايضا كلا"

"هل هناك أي شيء خارج تلك الأجزاء تشكل العربة؟" الجواب كلا

"وهكذا نستطيع اكتشاف ان لا عربة هناك. العربة هي مجرد صوت فارغ".

ويستمر ناجاسينا في توضيح انه مثلما لا تضيف العربة أي شيء لأجزائها، كذلك الذات لا شيء – لا شيء اضافي يُضاف لجميع أجزائنا. الذات هي فقط قصة مريحة،إشارة موجزة للعديد من الأجزاء المختلفة المكونة لنا. وجودها يرتكز على الفكرة وليس على مادة واقعية مستمرة. وهكذا يوجد الناس بالمعنى التقليدي: نحن لسنا كما نظن حول أنفسنا كمعنى نهائي. عندما نشير للافراد، نحن في الحقيقة نشير لكتل كبيرة من العمليات المتفاعلة محصورة ضمن أجزاء جسم معين. اسمك ببساطة هو طريقة مختزلة لتجميع آلاف العمليات الدائمة التغيير، التي هي ذاتها مصنوعة من آلاف العمليات الأصغر، وهكذا.

في الحقيقة، أشبه كثيراً بالصورة العلمية لجسيمات ما دون الذرة في العالم، يعتقد البوذيون، انه في الأصل، كل شيء صُنع من قطع منفردة من الدارما dharma (المبادئ الاساسية للكون) – مثل الذرات، لكن مع عنصر ضئيل من الوقت ايضا. قطع ضئيلة من الكون في زمن واقعي، تكونت بطرق مختلفة.

هناك الكثير من الادب البوذي يصنف هذه الشظايا من الأحداث ليصف بالضبط  الكيفية التي تصنعنا بها وكيف نتفاعل مع كل شيء. الرؤية البوذية الاساسية هي ان مجموع هذه القطع الضئيلة من الكون ليست أكبر من أجزائها: "انت" لست اكثر من مركب من افكار متغيرة، رغبات، عمليات، وذرات تصنعك مؤقتا.

انت لا تشعر بتصوراتك ومشاعرك، انما انت تصوراتك ومشاعرك.

يقول بوذا ان كل هذا ليس للتقليل من شأننا ولكن للاشارة الى خدعة نلعبها على انفسنا – حيلة ترسّخ رؤية معيبة للواقع، وبهذا تسبب لنا المعاناة. لأنه حتى لو نعترف اننا دائما نتغير فيزيقيا،نحن لانزال نتشبث بقوة بنسخة "ذهنية"للذات المستمرة. نحن ربما نعتقد ان هذه الذات الذهنية كنوع من الملاّح لأفعالنا، او الراعي لما فينا من منولوج داخلي – وهذا المنولوج الداخلي يمكن ان يكون مقنعا جدا في جعلنا نعتقد انه نوع من الوجود المستمر(انظر على سبيل المثال كوجيتو ديكارت:انا افكر لذا انا موجود). لكن الرؤية البوذية هي ان هذه الذات الذهنية "المستمرة" تنشأ فقط عندما نفكر – انها فعل، وليست اسما. تماما مثلما الرقص لايوجد عندما لا يرقص احد، كذلك الذات توجد فقط عندما يفكر احد او يشعر. هذه النقطة ايضا جرى عرضها بالتفصيل في التفكير الفلسفي الغربي من جانب فيلسوف القرن الثامن عشر ديفد هيوم. يكتب هيوم مفكرا حول تياره الخاص من الوعي:

"بالنسبة لي، عندما أدخل بقوة الى ما اسميه ذاتي، انا دائما في حالة تصوّر معين او آخر، حرارة ام برودة، ضوء او ظلال، حب او كراهية، ألم ام متعة. انا لن أمسك نفسي ابدا في أي وقت بدون تصور، ولا أستطيع ابدا ملاحظة أي شيء سوى التصور".

بكلمة اخرى، كل ما نجده عندما نفكر كثيرا بأنفسنا هو باقة من الافكار والتصورات: نحن لا نستطيع ابدا استعمال "انا" مالم تكن مرتبطة بما يطابقها من اريد/افكر/اشعر. النتيجة هي انه، بينما توجد الافكار والمشاعر، لا وجود هناك مكان لـ "انا" – لا وجود لذات منفصلة – تتعامل مع تلك الافكار والمشاعر. الفرد هو ببساطة تلك الافكار والمشاعر الدائمة التغيير. انت حزين في لحظة وسعيد في اخرى. ويستمر هيوم ليستنتج ان الناس هم .... "لاشيء سوى مجموعة او باقة من مختلف التصورات وفي حركة وتدفق دائمين".

ومع ان الافتراض هو ان هيوم توصّل الى رؤاه بشكل مستقل تماما، لكن البحث الأخير لبروفيسور الفلسفة اليسون جوبنك Alison Gopink يشير الى ان هيوم ربما تأثر بالفسفة البوذية. في الحقيقة، بوذا وصل الى نفس هذه الاستنتاجات قبل 2000 سنة مضت: الذات هي وهم ترسّخ بفعل بناء لغتنا. النقطة الرئيسية هي كالتالي: مع اننا نحاول فرض قصة مستمرة ومعنى على "ذاتنا"، فان تلك القصص هي تقاليد وروايات مبسطة بشكل محبط : في الواقع، نحن حزم معقدة من التغيير الدائم. ما يجعلنا مستمرين مع الناس عندما كنا بسن العاشرة هو ليس "ذات" ثابتة وانما سلسلة معينة من الاسباب والنتائج. نحن نخطيء في ذكرياتنا الناقصة والمتغيرة باستمرار لهذه السلسلة من حيث الجوهر، فيبرز اصطلاح "الذات".

لماذا الذات مؤلمة؟

استجابة لهذا التحليل، نحن ربما نقول، حسنا – ما هو الأذى؟ حتى لو كانت الذات لا شيء أكثر من مجموع أجزائها الدائمة التغيير، وشبكة معقدة من الأسباب والنتائج، أليس من السهل القول "انا تعبان" بدلا من القول "الشعور الحالي الناتج من آلاف العمليات الدائمة التغيير هو تعب؟". بعض البوذيين ربما يوافقون لدرجة ما بان: الاشارة للذات يمكن ان تكون احيانا مريحة. لكن هناك حجم كبير من الادب يناقش هذه المسألة، ويجب ملاحظة ان هناك بعض المدارس البوذية لاتوافق على الفكرة بان الاشارة الى الذات هي مثمرة. لو نحن نتبع التعاليم البوذية الأصلية كما وردت في شريعة بالي، ربما نقول ان هناك أذى قليل نسبيا في استعمال تقليد الذات كمختصر للآلاف الأجزاء المتفاعلة المكونة لك – خاصة اذا كانت تساعد في تحسين تلك الأجزاء بطرق تقلل من المعاناة (مثلا عندما اتناول طعام صحي سأنفع عدد كبير من الأجزاء).

لكن – وهنا تتفق جميع المدارس البوذية – نحن يجب ان نتذكر بان المنفعة من هذه الذات التقليدية الخيالية هي محدودة، وفي الحقيقة تصبح ضارة جدا بسرعة لو قبلنا بها بجدية أكبر. لو نحن نبدأ بالاعتقاد ان الذات هي واقعية حقا – كنوع من جواهر مستقلة ومستمرة مضادة للتقليدية الخيالية – فان الخطر هو انها تشجعنا للنظر الى كل شيء من خلال عدستها: نحن نشعر مرتبطون بإحكام لهذه الذات التي تصبح الشيء الأكثر أهمية في الكون.

اذاً نحن نحكم على الواقع فقط بالكيفية التي يؤثر بها على هذه الذات الخيالية،والذي يقودنا لتطوير نفور وارتباطات معينة: "انا أحب هذا ولا أحب ذلك"، "انا أريد الكثير من هذا والقليل من ذلك"، "انا أحب هذا وأرغب ان يكون محتوى"،"انا أكره هذا ومتى ما حدث  يجتاحني الخوف والقلق".

نحن نصبح عبيدا عبر الذات الخيالية، عبر متطلبات المنولوج الداخلي المتغير باستمرار. مثلما الثقب الأسود يحني الزمكان ليحتجز الضوء، كذلك وهم الذات يحني الواقع و يحبس افكارنا ومشاعرنا وتجاربنا في ايغو(الانا). وبما ان العالم في الأساس عابر ونادرا ما يتطابق مع الآمال والرغبات التي نضعها فيه – الاشياء السيئة تحدث، والاشياء الجيدة تنتهي دائما-  طالما نحن نستمر في رؤية الواقع من خلال عدسة الايغو المضلل، و نستمر في محاولة الحصول على اشياء بطريقة غير مريحة نتصور ان الذات تريدها، وطالما نستعمل نماذج ذهنية معيبة كعكازات ونفهم ما نحن فيه حقا، فنحن انما نؤسس معاناة دائمة.

أخطار الهوية

أذى آخر يأتي من النظرة الى الذات كشيء واقعي، وجوهر مستقل هو انها تشجعنا لننسب صفات معينة لها. بكلمة اخرى، نحن نبدأ نتشبث بهويات معينة. نصبح ملتصقين بطرق معينة من التفكير حول انفسنا – بكلا المظهرين الايجابي والسلبي – وهذا يقود الى معاناة حقيقية.

انظر في الجملة "انا فاشل" ماذا تعني؟ أي أجزاء منك فشلت بها؟ شعر الجلد؟ جهازك الهظمي؟ مقدرتك على العد؟ او انظر الجملة "انا متشائم"- ألم تشعر بمزيج من أفكار مفعمة بالأمل؟ هل مزاحك متشائم؟ لماذا تختار فقط الافكار المتشائمة التي تشكل فقط فقاعة صغيرة من بين مركب وجودي لا حدود له، معتبرا ذلك تفكير صائب للذات، وتتجاهل التدفق الكبير والمتنوع للوجود؟

الرؤى الايجابية للذات يمكن ان تكون شريرة ايضا. بوذا يطرح تصورا قويا: تصوّر لو كان هناك سكين ملطخ بالعسل. في البدء، طعم السكين حلو لكنه حالا سيسبب لك أذى خطيرا. وهكذا مع الاحساس الإيجابي بالهوية،يجادل بوذا اننا ربما نجد متعة واقعية وسعادة منها في الأجل القصير- انا رياضي، انا محامي من الطبقة العليا – لكن بسبب قصر الحياة نحن سوف لا نحافظ على هذه الهويات الى الأبد. في يوم ما نستيقظ لنجد اننا لم نعد نتلائم مع ما كنا نعتقد او نرغب ان نكون. العسل اختفى كله ولم يتبقى سوى السكين. البوذية تسعى لإصلاح سوء فهمنا حول الهوية ليس عبر بيان الهوية "الصحيحة" وانما عبر الادّعاء باننا لانمتلك هوية على الاطلاق. افكارنا المتكررة،المشاعر، الآمال،الخوف، الرغبات، الأمزجة، الهواجس، ليس فيها ما يعرّف هويتنا لأنها لا تفعل شيئا.

عندما نرى أنفسنا في عالم مركب وعابر وننظر الى انفسنا كحزمة دائمة التغيير، يعني اننا نعرف بان جميع الهويات مضللة ، وسنحرر أنفسنا من وهم الذات. عبر تحرير انفسنا من الجاذبية المشوهة للذات، نحن نرى اننا فقط مثل أي شيء آخر وليس اكثر أهمية من أي شيء آخر: كل شيء في الحقيقة يصبح موضع اهتمامنا وليس فقط الجزء الصغير المشوه للنفس الوهمية.

كيف نطبق اللّاذات على الحياة اليومية؟

الصورة البوذية للواقع بعيدة جدا عن رؤيتنا اليومية للعالم: كل شيء غير دائم، مركب،والذات غير موجودة في الواقع. عندما نمارس حياتنا نحن لاتتوفر لدينا هذه الحقائق في مقدمة أذهاننا. نحن قد نتفق معها في لحظات من التفكير لكن اذا كنا نأكل رقائق الذرة او نشكر زميلا، نحن يُحتمل ان لا نعتقد ان "الحياة عابرة والذات وهم".

بدلا من ذلك،عندما نتنقل او نخرج مع اصدقاء لنا، ننظر للعالم من خلال عدسة الذات، و الرغبة، والارتباط  فان الذات قد تعود وتلعب دورا هاما. لذا، ما مدى اهمية التعاليم البوذية في انكار الذات في القضاء على المعاناة؟ كيف تساعدنا في التعامل مع الإجهاد اثناء العمل؟ الإحباط تجاه السياسة؟ صعوبات ومشاكل العلاقات؟ الباحث والاستاذ البوذي نيكولاس بومارتو Nicolas Bommarito يقترح في كتابه (الرؤية بوضوح) والذي يُعتبر من افضل الكتب في الفلسفة البوذية بان احدى الطرق التي يمكن ان تلعب بها االبوذية دورا هنا هي في مساعدتنا في الاعتراف بان الحياة اليومية ليست كشيء زائف او غير مهم وانما كتقليد: شكل من الحياة محكوم بقواعد معينة وقيود نحن نشارك بها، ولكن مصيرها لسنا مرتبطين به كليا. وهكذا، نحن يمكننا النظر الى العالم من خلال عدسة الذات لأجل الراحة في العمل وفي المجتمع، لكننا لا نحتاج ان نكون ملتصقين بتلك العدسة.

في مثال على ذلك، بوماريتو يسألنا ان نعتبر انفسنا في متحف، فما هو وعينا الذاتي حول ماذا نشبه: "هنا انت في بناية ممتلئة بالفن الرائع وانت لا تستطيع حقا التمتع به لأنك منغمس جدا في صورتك الذاتية". كونك منغمس بفكرتك عن الذات، انت غير منخرط في العالم وتخسر تجارب ثمينة. الحل الذي  يذكّرنا به بوماريتو هو استدعاء الواقع وبالتالي افراغ الذات. ادراك ليس فقط فكري وانما بصري بانك مركب،علائقي، وغير دائم يمكن ان يساعد في اذابة هذه الحواجز والسماح لك بالانخراط التام مع العالم. بالتاكيد انها تجعلك أقل اثارة تجاه التصفيق لكنها تقطع جذور العادات الذهنية التي هي مؤلمة ومسببة للعزلة: اللّاامان، الفشل، افكار حول ما يُفترض ان تسير عليه حياتك، كل هذه تصبح منكشفة كخطأ عميق. العيش طبقا لهوية عابرة،مكانة، ارتباط سوف يجلب فقط اللاقناعة حسب بوذا، كونك حريصا على التدفق سيجلب لك السلام.

***

حاتم حميد محسن

......................

Philosophy/break, April 2023

كلما جاء المعنى في الإسلام كونيّاً، أخذ يتحلل من الجُذور التي تشده إلى الوراء. وقد بانت الفروق الفاصلة بين مفهومٍ وآخر، وأتخيل أنَّ تصورات الإسلام حول ما هو كوني في الحياة أمر بالغ الحساسيةٍ تجاه الماضي كله. المفارقة أنَّ المعنى يرمي إلى التجاوز لا إلى الثبات، إلى الأكثر تنوُعاً لا إلى الأقرب انغلاقاً. والإسلام ريثما يُقرر الأبعاد الكونية فيه، لابد أنْ يتحرر– بنفسه- مما يجذبه إلى محدودية الواقع. ولاسيما أنَّ الكون كتصور وكفكرة يتطلب كلَّ ما ليس مطروحاً لدى الخاص والعرضي. فلا يُوجد في عرف البشر مفهوم ديني يعترف للآخر بكل اختلافاته وما يناسبها من حياةٍ في الوقت عينه.

كونية المعنى

مشكلة المسلمين أنَّهم حصروا الدين الإسلامي داخل أفكار محلية تركت بصماتها المشوهة على النصوص المؤسِسّة (القرآن والسنة)، ومازال الاسلام حبيساً لهذه (التأويلات البيئية environmental interpretations) القائمة على العادات والتقاليد الأقل تطوراً. وهي تقاليد انتجت الإرهاب ودعمت استعمال النصوص لاستباحة وجود الآخرين والنيل منهم ورسخت أنظمةً سياسية مستبدة وحولّت الإنسان إلى كائن هش ملتوٍ على ذاته (كالديدان)، أقصى آماله أنَّ يحيا ويأكل القوت حتى يبلغ الموت، ولا يتطلع إلى الإندماج في حركة العالم وتياراته الثقافية.

وخطورة ذلك أنَّ مفاهيم الاسلام (الإيمان والحياة والآخر والوطن والحياة والحرب والسلم والحقيقة والموت) ظلت مفاهيم ملوثة بآثار المذاهب والصراعات الفكرية على خلفيات التوظيف السياسي للدين والتزييف التاريخي للوعي. ولكمْ تمَّ تصوير القرآن تاريخياً كأنه " دستور حرب" لا علاقة له بالتسامح ولا العفو ولا الاندماج داخل الحضارات الكونية. وغاب التصور الإنساني عن العالم الذي يسمح بالاختلاف والتنوع. وهذا تأويل يتماشي مع لاهوت الحروب القديمة، تلك التي كانت إفرازاً لجماعات التأويلية ودوائر انتاج الكلام فيها.

لقد ظلّ القرآن مرهوناً بتأويلات لا تخرج من حيز المكان والزمان، مما قلّص طاقة النص الديني ونطاقه الدلالي إزاء الإنسانية الفسيحة بما يتوافق مع غاية الإسلام. وبخاصة أنَّ النص القرآني ينتمي إلى مساحة أفعال الكلام speech acts، وهي التي- فيما يقول جون سيرل- تهدف إلى التأثير (المباشر أو غير المباشر) فيمن يستمع وكيف يمارس ما تطرحه اللغة في الواقع[1].

وتاريخياً أهمل المسلمون البعد الكوني في المفاهيم الدينية، رغم أنها من صلبها الدلالي والوظيفيٍ. وربما أن أبرز ما يميز الاسلام عن سواه من الأديان أنه ينطوي على (حَدْس كوني) يخص الإنسان. بخلاف اليهودية والمسيحية اللتين اختصتا بأناس معينين في إطار ثقافة وموروثات ابراهيمية، وهي موروثات حملت عادات المجتمعات وقيودها البيئية.

في كل ما يقول الإسلام عن الآخر (المتنوع، المختلف، المغاير، النقيض) وبخاصة عبر القرآن توجد خلاله (بذرة كونية رحيمة) على الدوام. والمقصود بها هو مخاطبة الإنسان ككائن يستحق معالم الإنسانية وحقوقها لذاته. بينما الممارسة المذهبية والفقهية نتيجة الاستغراق في التأويلات البيئية تهبط بالاسلام من تلك المكانة وتجعله سلاحاً أيديولوجياً ليس إلاَّ. وهذه ليست مجرد حالة عابرة، بل كارثة تحل على مفاهيم الدين والإيمان والاعتقاد إجمالاً ولا سيما لافي عصور الانحطاط، حتى تحولت مناهج القول الكلامي- برأي فخر الدين الرازي- إلى جدال وتناقضات تخالف الغايات الروحية والإنسانية الكبرى[2].

الرحمة تنتمي إلى البذرة الكونية، لعلَّها تنمو شجرة وتستوي على سوقها ثم تظلل آفاق الإنسانية في المسلمين قبل الآخر. وهذا المعنى ليس تكملةً تأتي عرضاً كلما اتفق، بل من صلب الإسلام. ويمكن القول بأن الرحمة إبرز طُرق الانفتاح على العالم المختلف. فلئن كانت الأديان تجد نفسها في مفترق طُرق بفضل البيئات الثقافية وصعوبة الانخراط مع تطورات التاريخ، فالرحمة رؤية كلية ذات طابع إنساني بالمقام الأولى لتحقيق هذا التجاوز. هي دعوة مفتوحة للإنخراط في كل ما يتصل بالعوالم والحيوات المختلفة.

وفي المجتمعات المعاصرة، تعد الرحمة لغة عالمية بموجب أن الصورة الطبيعية والثقافية للإنسان قد تحققت فيها إلى أبعد نقطة، فهي تعود عليه بدرجة من العمومية التي لا تتوقف على شيءٍ معين. فكل رحمة لا تستحق اسمها كما هي في الاسلام دون تلك النبرة الجامعة وقد تفقد وجودها بمجرد حدوث شيء يناقض هذه الكونية الإنسانية والروحية.

وأتصور أنَّ فكرة الرحمة لم يأخذ بها بعضُ فقهاء الإسلام تاريخياً لعدة أسبابٍ، وهي أسباب تعود إلى درجات الوعي بالجوانب الفلسفية للرحمة. كما أنَّه نظراً لعدم تأسيس الفقه على النقد الذاتي والمعرفة الإنسانية ومناهجها المتقدمة، فقد يرى منطلقاته ونتائجه صحية تمام الصحة:

1- تحول الفقه من فقه يهتم بالإنسان إلى فقه صراعي يشتغل على الغرائز الحسية والرغبات والكراهية والنزعات العدائية.

2- ارتباط الفقيه بالسياسي في تاريخ الإسلام، إذ لم يكُّن الفقيه مفكراً ولا مُلماً بالمعارف والعلوم الإنسانية، لكنه ظل خادماً للتوجُهات السياسية. وحرصت الساسية على الإحتفاظ به في تلك الخانة.

3- كان الفقيه بمثابة الموقَّع (اسمياً) عن رب العالمين بتعبير ابن القيم الجوزية، كأنّه يتحدث بلسان السماء دون أي إنسان آخر. مما خلع عليه هالةً من القداسة لم تسمح له ببذل الرحمة في المُطلق بحكم محدودية آفاقه.

4- وجود التأويلات العنيفة لخدمة الجهاد والصدام الحدي بين الثقافات، وكأنَّ الاسلام مجرد (طرف حربي لا غير)، يذود عنه الفقهاء ورجال الدين بالنصوص واحتكار المفاهيم والتصورات، حارمين أنفسهم من تطورات الحياة ومن التنوع الخلاق لكل المجتمعات.

5- اختفاء التوجُهات العقلانية التي تخاطب إنسانيتنا الكونية المشتركة (كما يقول ديكارت العقل هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس) . وهي بطبيعتها توجُهات ذات صلاحية خارج وجودنا المحدود.

6- انتشار ثقافة العنف والتنظيمات الإرهابية التي تركت آثارها على النصوص ومحاولة اخراج تأويلات قاتلة للدين نفسه قبل أن تصل لما هو كوني. والوصول إلى ما هو كوني تحت عنوان أرض الحرب في مقابل أرض السلام. وكأن ثقافة العنف بإسم الإسلام تقطع الطريق على الإسلام ذاته!!

7- اللُّهاث السياسي- من قبل الأنظمة والدول- على إمتلاك النصوص المؤسسة للإسلام، فالمجتمعات العربية تنخرط في صراع محموم للاستحواذ على القرآن مصحفاً ونصّاً وتفسيراً وتأويلاً وتوظيفاً وقراءة وطباعة. حتى غدا لدى المسلمين ما هو رسمي وما هو غير رسمي من الإسلام.

8- الحرص على نشر مفاهيم (العبودية والتذلل) باسم الله للحاكم وأصجاب الصولجان، أو العكس التذلل لله باسم الحاكم على إعتبار أنه ولي الأمر. وهذا ما يلغي الرحمة من حيث هي مستوى من الرأفة والتعاطف والاعتراف بلا سلطة ولا قهر. أنْ ترحم يعني أن تكون مدفُوعاً برغبة كونيةٍ على ممارسة الرحمة دون انتظار آثار لدى الآخر.

والسؤال: هل يمكن إلغاء تلك الأشياء من مفهوم الرحمة أم أنه مفهوم مغاير؟! في الحقيقة تعد الرحمة مفهوماً مغايراً من زاويته الكونية كما نوهت. ولذلك كان القرآن دقيقاً عندما استعمل ألفاظاً لا تلوي على عنفٍ، وأنه قد أسند دلالة الرحمة إلى الله ذاتاً مطلقاً وتوحيداً بلا أدنى تصور آخر. لأنَّه بتلك العملية قد رفع من المعاني ما قد يضُر إنسانياً بالرحمة. لأن العنصر الإنساني الذي يجب أن يتعامل مع الرحمة كتعامل الله معها قد يحوّل الرحمة إلى قسوةٍ. وقد يحدث ذلك ما لم يعِ الإنسان مساحة القسوة التي تضر بنفسه قبل سواه. والوعي ها هنا في غاية الأهمية لكيلا يُصبح مرهوناً بما يقيده ويعتبره مبرراً لعوامل القصور من جهةٍ. ومن جهةٍ أخرى، إذا كان الذي يستحق الرحمة هو الباذل لها على الأصالة، فمن باب أولى أن تكون عامة على الجميع.

إن الإله أراد أن يضرب مثالاً بذاته كي يقترب الإنسان منها وإن كان لا يستطيع على وجه القطع. لكنها مثال قابل للمعرفة ويظل مثالاً بارزاً للمسير نحوه في كل الأحوال، إنَّ الرحمة الإلهية مسيرةٌ لا تتوقف نحو العطاء. المبرر أن الرحمة من جنس المفاهيم التي لا يألفها البشر. فنحن نبذل شيئاً من أجل الحصول على شيء ولو نفسياً، ولكن الرحمة تمارس تعميماً من نوع جديد. وعدم الألفة لا يعني التعجيز، ولكنه يعبر عن الجانب غير المفكر فيه لدى الإنسان. وكأن عدم الألفة تقول دوماً: لماذا لا نفكر بطريقةٍ أخرى؟ وبأي أسلوبٍ تقلّب ما نُؤمن به لصالح مستوى آخر أكثر عموميةً باستمرار؟ ومن ثمَّ، فالرحمة تحمل المفاجأة المذهلة حتى لمن يقوم بها. فهذا من دواعي المغامرة ومن دواعي البذل والشغف بالمزيد منها. ولذلك تشتغل الرحمة على ما يعجز عنه البشر أحياناً، حتى يصبح إنجازُه لها قادراً على تعويض كل عجز ممكن.

وتقتضي كونية المعنى في الاسلام فتح آفاق المسلمين على أنْ يكونوا مؤهلين لممارسة دور (الإنسان الكوني)، فما لم يوجد المعنى بهذا العمق، لن يفهم مسلم واحد: كيف يخرج من محددات المفاهيم إلى نوع مغاير منها؟ وفي ذلك الاتجاه، لم يمر المسلمون في كل مراحلهم بهذا اللون من البشر.

أولاً: (المسلم الفرد)، حيث ظهر هناك في بداية نزول الرسالة تبعاً للإختلاط بالمجتمع المحيط، والقضية البارزة كانت تأكيد وتدعيم الدعوة بصورة فردية. وكانت الأولوية معطَّاة لترسيخ فكرة الإسلام تمشياً مع المرحلة الأولى من المجتمع. وظهر تأكيد متواصل على الدين قبل الفرد وعلى الاعتقاد قبل الإنسان، مع أن نماذج المسلمين الأوائل قد فهموا الفحوى من ذلك ولم يتركوا الجانب الإنساني، وظهرت في بعض الممارسات العامة تجاه غير المسلمين.

ثانياً: (المسلم الداعية)، وهو المسؤول عن نشر الدعوة وممارستها في جوانب المجتمع المكي والمدني. وذلك النموذج قد ظهر مع تعقد الحياة وتداخل الثقافات، فاقتضت حركة الإسلام نحو الكون لأن يبدو الداعية أسلوباً بشرياً تجاه الآخر. وهذا النموذج كانت له سماته الخاصة. وربما هذا النموذج من أخطر نماذج المسلمين لكونه قد استمر طويلاً حتى اللحظة وأخذ أشكالاً متنوعة في مجالات المعرفة والتعليم والثقافة والإقتصاد.

ثالثاً: (المسلم السياسي)، وهو الذي انشغل سياسياً بإقامة دولة الاسلام في الحضر والممالك والإمصار، وقد أخذت الدولتان العباسية والأموية في تدعيم هذا النمط البشري الذي يدافع عن الدولة ويسيس القضايا لصالح السلطة الحاكمة. وهو الحشود التي تتنادي لدعم القضايا والدفاع عن الإسلام وهو ذاته الحشود التي تزظفها الأنظمة لغير إرادة الإسلام الكوني.

رابعاً: (المسلم السياسي المؤدلج)، وهو نموذج قديم كان موجوداً في الدولة الفاطمية من حيث قيامها على فكرة اللاهوت السياسي الشيعي. وربما هي الدولة التي تجسدت فيها الإيديولوجيا كحركة وإيقاع للواقع والحكم وطرائق التعبير عن رؤى العالم والحياة.

خامساً: (الملسم الحركي المؤدلّج)، وهو ما ظهرَ مع الجماعات الاسلامية والأذرع الحركية التي تنفذ عملياتها على الأرض. وهي تعتبر نفسها الجانب الكوني من الإسلام وتختصر الإسلام في كيانها.

سادساً: (المسلم المنكفئ على ذاته)، وهو الغارق في تصوراته الجزئية والتي التهمت وعيه وطرائق تفكيره ونمط عيشه. ولقد كان ذلك رد فعل و نتيجة ممارسات الأنظمة السياسية الموظفة للدين ونتيجة تحول الإسلام إلى وسيلةٍ للتربح كما لدى الدعاة والفقهاء ورجال السياسة في عصر لا يمتلكون مفاتيحه وتطوراته الحضارية.

كل تلك الأنماط السابقة فشلت فشلاً ذريعاً في أنْ تواكب مفهوم (إنسان الرحمة) بكل معالمه الثقافة والمعرفية والحضارية والدينية. وهو الإنسان القائم بدلالة الرحمة وممارساتها بحسب الفهم الكوني لوجود الإنسانية الراهنة في التاريخ والحضارة مع كل عصر. وبجانب ذلك لم يتطور الجانب الإنساني في المسلم، حتى يواكب طاقات المفاهيم الكونية الخاصة بالاسلام.

ولندقق سنجد أنَّ مفهوم الرحمة أكبر مما يستوعبه مسلم بهذا النمط أو ذاك، لأنها تخص كل العالم، وهذا المعنى هو ما يتعثر المسلم المعاصر في دروبه الواسعة والوعرة، فهو مسلم لم يخترج نمطاً من العيش المعاصر يلائم ما يمتلك من مفاهيم. ولم يخترع مفاهيم كونية تلائم وجوده المنطوي على مفارقة التأسيس والإنطلاق.

ولذلك فالمسلم الكوني هو إنسان في المقام الأول، ويجب على الفكر الإسلامي أن يناقش قضايا هذا الإنسان ويشرّع لوجوده ويطرح أفكاراً تخصه تحديداً، لأن المستقبل ينتظره في نقطة بعيدة عن كل ما مضى. إن المسلم الكوني ما لم ينمو ويتطور عبر الحياة، فلن يعود قادراً على مواكبه الإسلام قبل غيره، ولن يواصل وجوده الحيوي في العالم.

إنَّ مفهوم الرحمة يشد كيان المسلمين من الأمام لا الخلف، من الأبعد لا الأقرب. وهذا هو الفارق بين قدرة الإنسان على التجاوز والتفكير بصورة جديدة. وغياب المسلم الكوني مشكلته في عدم القدرة على نحت أسلوب داخل التراث الإسلامي يخص هذا الجانب الأوسع. ولو نظرنا- من باب التوضيح- إلى فكر محي الدين بن عربي لوجدناه يردد أصداء هذا الإنسان الكوني بكل سلالةٍ وبلاغة فكرٍ لا بلاغة لفظٍ وحسب. وكذلك فلسفة جلال الدين الرومي حيث يتكلم عن الإنسان والحياة والموت والحب والآخر بلغة كونيةٍ تقطر صفاءً ونقاءً. ولعلَّ ذلك ما يجعل التصوف دون غيره من مجالات الفكر الإسلامي سابقاً نحو فكر جديد، حتى وإن نظر إليه البعض نظرة قاصرة. إن التصوف الكوني من تلك الزاوية - وكل تصوف أصيل لا يخول من نبرة كونية- قد نحت مفاهيم بإمكانها أن تمتد الرحمة إلى كامل عروق الحياة.

وبخلاف ذلك، سنجد نمط الحياة التي يشرعها المسلمون لغيرهم من البشر لم تكُّن على مستوى التوقعات الكونية. وهذا مجال أكثر تعقيداً، لأنّه مرتبط بشق طرق أخرى للحياة، وأنْ تخطو نحو الأكثر تطوراً على الصعيد الكوني. علماً بأن تراكم الحيوات الإنسانية يجعل المهمة شاقة، ويفترض أنْ يبدع المسلمون في تجديد واقعهم وتقديم بدائل كونية جاذبة.

***

د. سامي عبد العال

.......................

[1]- John R. Searle, Expression and Meaning, Studies in the Theory of Speech Acts , (New York ; Cambridge University Press 1979) ,PP30-33.

[2]-Tariq Jaffer, Rāzī: Master of Qurʾānic Interpretation and Theological Reasoning, (New York and Oxford: Oxford University Press 2015) , PP 40-41.

(لو كانت هناك حياة أخرى لوددت أن أكون طيراً، أجتاز الخلود محلقاً غير قلق من أن أضل الطريق، أملك آمالاً متوهجة في الشرق وعشاً دافئاً في الجنوب، ألاحق مغيب الشمس غرباً وأثير أريجاً صوب الشمال)... سان ماو 

(يأتي الضوء أكثر إشراقًا من الشرق، ويكون لون الغربان المضطربة أكثر حدة على الأذن).. ثيودور روثكي

***

في مارس من عام 2014 اطلعت على دراسة مهمة للأكاديمي الإسباني هيثم أميرا فرنانديز، نشرها في الموقع الرسمي لمعهد Elcano Royal في موضوع: (الدين والتدين في عالم عربي متغير: تداعيات اجتماعية وسياسية). استحضر الكاتب فرنانديز، التآكل المتدرج للحركات الإسلامية عقب الربيع العربي، الذي أسقط بعض الديكتاتوريات، وأعاد بوصلة التقطيع السياسي المتحكم في السلطة إلى مدارك جديدة، لازالت تداعياتها ترخي بظلال الشكوك والتوجس إلى الآن؟.

وأورد الأكاديمي الإسباني، في ذات السياق، مواطن وخلفيات تلك الشكوك، مستنتجا أنه بعد إجراء الانتخابات ووصول الأحزاب الإسلامية إلى السلطة في سياق الاستقطاب الاجتماعي المتزايد والصعوبات الاقتصادية، تحول الاهتمام الدولي إلى خوف من احتمال ظهور أنظمة دينية استبدادية، أو من تطرف قطاعات الإسلاميين بعد ذلك، يتم إزالته من السلطة، مركزا على النفوذ المتصاعد والنشاط الإسلامي، مع ظهور أشكال غير تقليدية والتآكل التدريجي للتسلسلات الهرمية المركزية، وكيف يمكن أن يؤثر ذلك على العمليات السياسية.

يثير هذا التوجه حسب نظري، قلقا متزايدا للنخب الغربية، من هذا الصعود المباغت، وانتقالها من مجرد أدوات رصد وقطيعة، إلى عامل أساس في بنية التأثير والبروبجندا التي رافقت أجهزتها الاستخباراتية ومراكزها في كل مراحل صنع القرارات المرافقة لحالات الثورات واختلافها من بلد لآخر.

وهذا ما أكده المفكر السوري برهان غليون، الذي اكتوى بنيران تفتيت النخب السورية قبل قيامتها، في كتابه (عطب الذات)، مفككا ظروف وملابسات تقديم الشعوب كضحايا في محارق الحرب الداخلية، وانتشارها داخل بنية المجتمع في علاقة بمنظومة التدين وفوارقها العميقة ..

ومع أن الباحثين في الضفة الأخرى، يؤمنون بأن البناء الاجتماعي والسياسي للحركات الدينية في العالم العربي، تقوم أساسا على مذهبية الحركات التكتونية، مقتنعين تماما أنه لا يمكن حتى الآن إلقاء نظرة على عواقبها في حجمها الكامل، على اعتبار أن الدين والتدين يلعبان أدوارا مركزية في صيرورة الحياة ومآلاتها. لهذا السبب، فإنهم يدعون إلى ضرورة التكيف مع المبادئ التوجيهية الإيديولوجية والسلوكية التي وضعها الإسلاميون أنفسهم من أجل توجيهها وفقا لاحتياجاتهم في العالم المحيط بهم، وبإتاحة تقنيات المعلومات والاتصالات الجديدة حدوث هذه التحولات بسرعة كبيرة وبدرجة متزايدة من التعقيد.

هناك توجه عقلاني آخر، يمثله المفكر الفرنسي إدغار موران، يلامس جوهر إدراك مفهوم التغيير في نسق الغضب العربي، أو ما يصطلح عليه ب "ثورات الربيع العربي"، وعلاقة ذلك بمسألة الدين والتدين، عندما سئل: هل الثورات العربية، بالنسبة لكم، هي أحد المؤشرات على أن اللامتوقع يمكن أن يصبح متوقعا؟

أجاب، أن "الربيع العربي يمثل يقظة ابتدائية ستخصب المستقبل"، وأنه "حركة سلمية شديدة الأهمية". مشيرا إلى "أن أغلب أحزاب اليسار عانت من اضطهاد الأنظمة الديكتاتورية، مما أفقدها، غالبا، التواصل مع الشعب. والإسلاميون حافظوا على هذا التواصل؛ وهذا ما جعل الناس يصوتون لصالحهم. هذا لا ينتقص من أهمية الحدث."

لكن حكمته التي سارت بتواردها الركبان، إضافته الجديرة بالتأمل والقائلة، أن "التفكير في الظاهرة كدودة القز التي تغلق على نفسها في شرنقة لتتحول إلى فراشة. إنها تدمر نفسها كلية لتصير كائنا آخر". مضيفا أنه "في تاريخ البشرية يبدو العالم طافحا بالتحولات. لا يحصل التحول الجديد إلا على مستوى الكوكب كله. ستتغير مجموع العلاقات والتنظيمات؛ ومن غير الممكن اليوم توقع الشكل الذي سيظهر به مجتمع العالم هذا. لقد تخليت عن فكرة الثورة لسببين".

والأجمل أنه يرى أن "الأول يتمثل في هدف القطع النهائي مع فكرة "إلغاء الماضي كلية". مشددا على أننا بحاجة إلى كل ثقافات الماضي، وكل مكاسب فكر الماضي. إذ إن فكرة التحول تتضمن نفي نفس الوقت، القطيعة والاستمرار". أما الثاني "فيهدف إلى تجاوز فكرة كون الثورة أكثر أصالة منها عنيفة. أحيانا لا يمكن تفادي العنف، لكن من الخطأ التفكير بكونه مشروعا وضروريا ؛ لأنه يستدعي عنفا آخر".

هذا المفهوم البديل لقراءة النصوص من الداخل، يشكل حافزا للمؤرخ والأنثروبولوجي والروائي والسوسيولوجي، من أجل التمرن على فرادة تدوير المعلومات والوثوق بصحتها، والتعامل معها .. وهذا هو الأهم بنظري؟.

فالغرب ونخبه، ما انفكت تطيح بكل مشروع تغييري أو إصلاحي قادم من الشرق أو بلاد العرب خاصة، مادامت رؤيته له، حبيسة الحماية والاحتقار التصنيفي وإثارة النعرات .

ما بين الرؤيتين سالفتي الذكر، أطروحة هيثم أميرا فرنانديز، ونظرية إدغار موران، يمكن وضع مجموعة من علامات الاستدراك والتساؤل:

أولها، هل تفرض هنا مركزية النظرة الغربية للعرب والمسلمين، مشاكل وإشكاليات التآويل والقراءات المبطنة التي تحبل بها الرؤى النقدانية الغربية عبر قطائع زمنية طويلة وممتدة؟

ثانيها، لماذا تلتبس علينا فكرة الحياد الثقافي في قراءاتنا للمتون الغربية، كلما ارتجعنا فواجعنا وندوبنا الثاوية؟

ثالثها، ما مدى تأثير هذه الرؤى في علاقاتنا بالغرب ونخبه؟ وحدود هذه العلاقات وامتداداتها في النسيج السياسي والتثاقفي والاقتصادي والمالي ..إلخ.

رابعها، كيف نعيد تجسيد العبور إلى الذات، عبر هذه التداوليات والقطائع، باستقلالية وحيادية وانتقال للأفضل؟ ..

هذه بعض من تخمينات ومرائي حدسية، يمكن أن تساعد القارئ المتأمل على إعادة كتابة الحقيقة، كما يستشعرها، انطلاقا من وقوفه البين على أهم مشاهد انحسار الفهم وانغلاق مفازاته، بين النفور من الاقتراب من (الغرب) كحضارة وثقافة وإنسان، بالكلية، لا بالتقطيع والسديمية وسوء الانطباع ..

***

د مصطَفَى غَلْمَان

كان المفكر الدانيماركي كيركيجارد - وهو عادة ما يُطلق عليه أول فيلسوف وجودي- كاتبا نهما. فيتغنشتاين وصفه باعتباره أكثر المفكرين عمقا في القرن التاسع عشر، والعديد من أعماله امتلأت بالتعابير والرؤى الثريّة التي تناولت نطاقا واسعا من مختلف الموضوعات.

احدى أهم الموضوعات البارزة في عمل كيجارد هو نقده للإنفصال الفكري "rational detachment" الذي مورس من جانب التقليد الفلسفي السائد في الفترة السابقة له، وتوضيحه للكيفية التي فشلت بها هذه الممارسة في تزويدنا برؤية لموضوعات هامة مثل معنى الحياة.

كيركيجارد استهدف خصيصا الفيلسوف المعاصر له الألماني هيجل الذي اعتبرهُ استمراراً لذلك التقليد في محاولة الكتابة من "رؤية من لا مكان" – محاولا ان يكون منفصلا وموضوعيا، بينما لم يكن لدى هيجل أي ادّعاء بالكتابة حول اي شيء من منظور انساني منفرد وخاص.

رؤية كيجارد هي، ان محاولة التجريد عن ذاتيتنا، ستفقد الفلسفة فيها قوة التحرك وسوف لن تكون ملائمة لنا. التوضيحات العلمية للواقع، هي جيدة لكن ماذا عن تجربتنا الحقيقية المُعاشة؟ ماذا يعمل الانفصال الفكري لنا عندما نكافح لإيجاد معنى وهدف – شيء نعيش لأجله؟ كيركيجارد يرى اننا لا نريد فقط أوصافا، ولا نريد فقط توضيحات، وانما نريد أسبابا للنزول من السرير في الصباح، ونحن سوف لا نجد هذه الأسباب عبر محو الـ "انا" الذاتية من صورتنا للعالم.

وكما كتب كيركيجارد في مذكراته عام 1835:

"ما أحتاج اليه حقا هو ان أكون واضحا حول ما يجب ان أعمل، وليس حول ما يجب ان أعرف، الاّ بقدر ما يجب ان تسبق المعرفة كل فعل ... الشيء الأساسي هو ان أجد الحقيقة التي هي حقيقة لي، أن أجد الفكرة التي لأجلها أرغب ان أعيش وأموت".

حتى لو امتلكنا معرفة موضوعية كلية عن الكون، يرى كيركيجارد، تلك لن تخبرنا حول ما يجب ان نفعل او كيف يجب ان نعيش حياتنا القصيرة والمحدودة. النتيجة من معظم أعمال كيجارد هو انه، عبر تجريد الذاتية من العالم، نحن نجرد المعنى منه . اذا أردنا ايجاد اسباب لنعيش، فان المحافظة على منظور الشخص الاول (التحدث بصيغة الضمير انا او نحن عن انفسنا، افكارنا، تجاربنا) هو الشيء الأساسي.

السؤال، اذاً، هو ليس "ما معنى الحياة؟" بل السؤال هو "ما معنى الحياة لي؟".

يرى كيركيجارد ان الجواب لكل واحد منا، يجب ان يستلزم نوعا من "القفز" وراء الانفصال الفكري. بالنسبة له خصيصا، تلك كانت قفزة نحو الايمان الديني، لكن الفلاسفة الوجوديين اللاحقين بنوا على الرؤى الاولى لكيركيجارد في تقديم أجوبة أكثر علمانية.

تأثير كيركيجارد على الوجودية

في اتّباعهم لكيركيجارد، يعتقد معظم الفلاسفة الوجوديين بانه، بينما التوضيحات العلمية تعطينا معرفة واقعية ومفيدة حول العالم، لكن هذا الانفصال الفكري "الموضوعي" لا يساعدنا في فهم تجربتنا الحقيقية المُعاشة او هو في الحقيقة لايساعدنا كيف يجب ان نعيش، لأن تجاهل منظور الشخص الاول يخيّب الآمال في العالم ويجرّده من المعنى. بكلمة اخرى، اذا كنا نعتمد فقط على الانفصال الفكري للعلوم، نحن سوف لا نحل مشكلة العدمية، لأننا نريد معرفة ماذا يعني الوجود لنا. وكما كتب الفيلسوف الفرنسي البرت كامو:

"من الشرعي والضروري التساؤل ما اذا كان للحياة معنى". وان تأكيد كيركيجارد على منظور الشخص الاول هو الذي يمكّن الوجودية من التحقيق بهكذا معنى. انها تعطي وتطرح الاساس المفاهيمي لايجاد حلول لمشكلة العدمية التي لايستطيع العلم والفلسفة التقليدية تقديمها نتيجة لإستخدامهم للانفصال الفكري "الموضوعي".

فردريك نيتشة، مثلا، مع انه من غير المحتمل قرأ كيركيجارد مباشرة، لكن يُعتقد انه كان مطّلعا على افكاره من خلال ما كُتب عنه، حيث طرح نقدا مشابها بالضد من الانفصال الفكري – بانه لا يمكن ان يزودنا بالمعنى. وبعد الإعلان عن موت الإله، يجسد نيتشة شخصية الانسان الخارق بدلا من العلم كمصدر بديل للمعنى والقيمة.

فلاسفة القرن العشرين ادموند هسرل و مارتن هايدجر، أسّسا في تلك الأثناء مفاهيما جديدة للتجربة في فهمهم الفيمونولوجي للواقع، فكانت النتيجة ان اثّروا بعمق على اتجاهات صناعة المعنى لسارتر وسيمون دي بوفوار واستجابة كامو للعبثية، وذلك عبر تشجيعنا لغرس روح القبول الشجاع، بينما يقترح توماس ناجل اننا نتعامل مع موقفنا الوجودي بروح من المرح بدلا من اليأس.

ختاما، ونظرا لتأثيرها البعيد المدى، يبقى السؤال هو كيف سننظر للتحليلات الاولى لكيركيجارد؟ هل ان التوضيحات العلمية للواقع قادرة على تزويدنا بأسباب للنهوض من السرير في الصباح؟ ام اننا نتفق مع كيركيجارد بان مثل هذه الأسباب يجب ان تأتي من الذات؟.

***

حاتم حميد محسن

تُمثِّل الروابطُ الاجتماعية بين الأفرادِ هياكلَ مَعرفيةً تَستمِد مشروعيةَ حُضُورِها الفِكْري مِن سُلطة الظواهر الثقافية، وتَستمِد شرعيةَ وُجُودِها العملي مِن هُوِيَّة الفِعْل الاجتماعي الذي يَتِمُّ تكريسُه على أرض الواقع سَبَبًا وغايةً . وبُنيةُ المُجتمعِ الوظيفيةُ التي تَتَكَوَّن مِن الحُضُورِ الفِكري والوُجُودِ العملي لا تَمتاز بالكثافة اللغوية الرَّمزية فَحَسْب، بَلْ أيضًا تَمتاز بِسُيولةِ المعاني الشُّعورية المُستمدة مِن صَيرورة التاريخ، بِوَصْفِه وَعْيًا مُتَجَدِّدًا بِتَحَوُّلات شخصية الفرد الإنسانية زمنيًّا ومكانيًّا . وإذا كانَ الزَّمَنُ هو فلسفةَ مصادرِ المعرفة، فَإنَّ المَكَانَ هو كَينونةُ الحياةِ الواقعية، وهذا الارتباطُ الوثيق بين الشُّعور والوَعْي مِن جِهَةٍ، وبين المعرفة والواقع مِن جِهَة أُخْرَى، يُجسِّد جَوْهَرَ البناءِ الاجتماعي في مَساراتِ التاريخ المُتشابكة معَ إفرازات البيئة معنويًّا وماديًّا، ويُؤَسِّس التَّجريةَ النَّقْدِيَّةَ في الأحداث اليومية فرديًّا وجماعيًّا، ويَستعيد مَركزيةَ الوَعْي الحضاري مِن أشكال الغِيَاب التي تتكاثر في الأنظمةِ الفِكرية، والمعاييرِ الأخلاقية، والأنماطِ السُّلوكية، والنماذجِ الاستهلاكية، مِمَّا يُؤَدِّي إلى تَكريس الحقائق الاجتماعية كزوايا رُؤية للأنساق الثقافية، فَيُصبح المُجتمعُ تَوظيفًا مُستمرًّا للثقافةِ، لَيْسَ بِوَصْفِها إجراءً رُوتينيًّا، بَلْ بِوَصْفِهَا إعادةَ اكتشافٍ للإنسان بكلِّ إنجازاته المكشوفة، وأحلامِه المكبوتة، وتُصبح الثقافةُ تأويلًا دائمًا للمُجتمع، لَيْسَ بِوَصْفِه تَجَمُّعًا سُكَّانيًّا، بَلْ بِوَصْفِه إعادةَ اكتشاف للحياةِ بكلِّ تفاصيلِها العميقة، وأسرارِها الدقيقة . وكُلَّمَا تَعَمَّقَت الصِّلَةُ بَين المُجتمعِ والثقافةِ، تَجَذَّرَت العلاقةُ بين مَركزيةِ الوَعْي ومَصدريةِ المَعرفة، لأنَّ الوَعْيَ هو الحاملُ لشرعيةِ المُجتمعِ فِكْرًا وسُلوكًا، والمَعرفة هي الرَّافعةُ لوجود الثقافة نَصًّا ورُوحًا .

2

الدافعُ الجَوهري للأفكارِ في المُجتمع مُرتبطٌ بِعُمْقِ الذاكرةِ الجَمْعِيَّةِ في تقاطعاتِ الحياةِ الواقعية معَ الوَعْي والإدراكِ والسُّلوكِ . والذاكرةُ الجَمْعِيَّةُ تَحْمِي التُّرَاثَ الحضاري مِن التَّدمير الذاتي، كَمَا تَحْمِي إنسانيَّةَ الفردِ مِن تَشَظِّي الهُوِيَّاتِ الناتج عن ضغط النظام الاستهلاكي القاسي . ولا يُمكِن للروابط الاجتماعية بين الأفراد أن تَتَجَذَّرَ في السُّلوكِ اليَومي إلا إذا صارَ الفِعْلُ الاجتماعي نَسَقًا عقلانيًّا مُتَّزِنًا ومُتَوَازِنًا بلا أحلامٍ مَكبوتة ولا ذِكرياتٍ مَقموعة، وكُلُّ فِعْلٍ اجتماعي هو ابنٌ شَرْعِي للمَرجعيةِ الثقافية، وكُلُّ نَسَقٍ عَقلاني هو إفرازٌ طبيعي للذاكرة الجَمْعِيَّة . وجُذُورُ الفِعْلِ الاجتماعي ضاربةٌ في تاريخِ الأفكار الذي يُسَاهِم في بناءِ المُجتمع المُتجانِس ثقافيًّا وحضاريًّا وأخلاقيًّا، وتأثيراتُ الذاكرةِ الجَمْعِيَّة مُتغلغلةٌ في مَصادرِ المَعرفةِ التي تُسَاهِم في تأسيس هُوِيَّةِ الفرد كَكِيَان مُتَصَالِحٍ معَ إنسانيته، وقادرٍ على تحقيق مَصلحته . وبَين المُصالحةِ والمَصلحةِ تَتَعَزَّز قُدرةُ الفردِ على تأكيدِ ذَاتِه في اللغةِ، وتَكريسِ وُجوده في الواقع، وهذا يَحْمِي الفردَ مِن الاغترابِ اللغوي والغُربةِ الثقافية، وبذلك تُصبح اللغةُ رمزيًّا وتواصليًّا خريطةَ طَريقٍ تُفْضِي إلى صناعة التجارب الإبداعية شخصيًّا وجماعيًّا، مِمَّا يُؤَدِّي إلى إحداث حالة تَوَازُن بين هُوِيَّةِ الفِعْلِ الاجتماعي وسُلطةِ الظواهر الثقافية. وأيضًا، يُصبح الواقعُ معرفيًّا وماديًّا بُوصلةً تُرشِد تاريخَ الأفكارِ إلى مَركزية الوَعْي الحضاري حِسًّا وحَدْسًا، مِمَّا يُؤَدِّي إلى إحداث حالة استقرار بين الحُضُورِ الفِكري والوُجُودِ العملي .

3

الإشكاليةُ الحقيقيةُ في الروابط الاجتماعية هي اتِّسَاعُ الهُوَّةِ بين الحُضُورِ الفِكري والوُجُودِ العملي، وهذا مَرَدُّه إلى ضَغطِ سُلطة المُجتمع على كَينونة الفَرْد، فَيَبدأ الفردُ في البحث عن ذاته خارج ذاته، وهذا أمرٌ شديد الخُطورة، لأنَّه يَعْنِي أنَّ الفَرْدَ مُقتنِعٌ أنَّه عُنْصُرٌ هامشي، ووُجُوده وَهْمِي، وكَينونته هُلامِيَّة، ولا يَملِك مَسَارَه ومَصِيرَه، لذلك يَبحث عن شرعية وُجوده خارج وُجوده . وإذا سَيْطَرَتْ عُقدةُ الشُّعورِ بالنَّقْصِ على الفرد فإنَّه سَوْفَ يَسعَى إلى عوامل خارجية تَمنحه الكَمَالَ، وتُشعِره بأهمية وُجوده، وجَدْوَى حَيَاته، والعواملُ الخارجيةُ زائلةٌ وَلَيْسَتْ مَجَانِيَّةً، لذلك يُضْطَر الفردُ إلى التفريطِ بِحُرِّيته ومَصلحته ومُستقبله بحثًا عن وُجُود مُؤقَّت في الحاضر، ومَن يَضَع مَصِيرَه في أيدي الآخَرِين فلا بُدَّ أن يَلعَبوا به، ويَمْتَصُّوه حتى الرَّمَق الأخير. ووجودُ الفردِ لا يَتَأسَّس على المصالحِ المُتضاربة، والخِيَاراتِ الثقافية الانتقائية، وإنَّما يَتَأسَّس على مَركزيةِ الوَعْي في حُقول المعرفة، وكيفيةِ تَوظيف إفرازات الذاكرة الجمعية في مراحل التاريخ، وعدم تَحويل اللايقين إلى يقين، وعدم اختراع تناقضات وهمية بين الحياة والحُرِّية . والمُجتمعُ لَيْسَ دوائرَ مُغلَقة، بَلْ هو أنظمة مَفتوحة، وهذا يَعْنِي أنَّ الحُضُورَ الفِكري هُوِيَّةٌ لتجذيرِ الانتماءِ إلى المعرفة كَحَالَةِ خَلاصٍ، وأنَّ الوُجُودَ العملي كِيَانٌ لإزالة الحُدود بين سُلطةِ المُجتمع وكَينونةِ الفَرْد .

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

يتجه الظل لصفات الحركة حسيا ولصفات البقاء والوجد معنويا ليحتل مكانة متباينة في نفوس الناس على اختلاف ثقافاتهم وميولهم الوجدانية لتنعكس على خيالهم وتصوراتهم وإلهامهم ليبدعوا في مجالات كثيرة ثقافية وفنية وأدبية وعلمية وأقيمت على أساس ذلك المعارض الفنية والحركات المسرحية القديمة والحديثة وقيلت في وصفه عشرات القصائد الشعرية وقد لا تخلو رواية من ذكره إلا ما ندر لأننا حين نتأمله سنجده يوائم بشكل ما مزاجنا التأملي ويلازم خيالنا فنجد في مساحات الظل الرمادية أو المعتمة شيء من الوجد وتأمل في الوجود وكأنها صدى لهذا الوجود .

رغم أن الظل كائن متغير تابع بطبيعته فلا وجود له قبل وجود مصدر الضوء ويتكون بحجب الضوء عن منطقة معينة فتتباين شدة الإضاءة بين منطقتين ويكون الضوء والظل.

قد يفتقد الظل مقومات الحياة المادية التي تختص بها جميع الكائنات الحية إلا أن بعده المعنوي يتمتع وبشكل قطعي بمقومات هذه الحياة ورغم انه لا يرى إلا من خلال العين حيث أن مستقبلات الحواس الخاصة عند الإنسان كالسمع والشم والذوق واللمس لم تستطع من إثبات وجوده إلا أن العين انفردت بهذه الوظيفة والمسؤولية والشرف وتميزت بقدرتها على إدراك وجوده وخلق هذا الشعور بالانسجام والاتِّفاق والتفاهم بين الظل والعين كما أشار الى ذلك العالم والفنان الإيطالي ليوراندو دافنتشي صاحب لوحة الموناليزا بقوله:

ـ إن الألوان مصنوعة من ضوء وظل تمثيلا للكيان الإنساني المكون من جسد ونفس.

وقيل:

" الألوان هي شكل الأشياء ولغة الضوء "

واللغة كلام مسموع مثل لغة الكلام ولغة الموسيقى ولغة مرئية مثل لغة الإشارة والإيماء ولغة وجدانية مثل لغة الهوى فقال أمير الشعراء أحمد شوقي:

ـ وتعطلت لغة الكلام وخاطبت عينيَّ في لغة الهوى عيناك.

وهناك أيضا لغة الصمت والحدث الذي تعجز الكلمات عن تبيانه ويُدْرَكُ بالصمت والصمت لغة الفكر ولسان الحكمة وموقد العشق...

ولأن الظل كائن يمتلك مقومات الحياة برمزيته ومفاهيمه الفكرية والشعورية والإيمائية ومستويات عمقه فأن َ الفيلسوف الألماني Gute   حَدَّثَ عن العلاقة والتناسب الإيجابي الطردي بين كم الضوء الساقط وعمق الظل فقال:

" حيث يكون الكثير من الضوء يكون الظل عميقا "

وفي هذا القول الكثير من رقي الحكمة وهو قانون يدخل ويتجسد في مختلف مجالات الحياة والفكر فمثلا يمكن القول على غرار تلك الحكمة:

ـ حيث يكون الغدر يكون الألم عميقا

ـ حيث يكون التفاني يكون العمل

ـ حيث يكون النقاء يكون الإحساس عميقا والظل عمق والعمق من أهم عناصر الإبداع الذي يفوق الوصف وهو أمر بعيد الغور عصي ّ على الفهم وفِطْنَة واستدلال ودرب يسلكه  من رام وتاقَ ورجا  رحلة الكمال لإدراك كنهه وخفاياه .

قالوا:

" إذا وجدت الظل فاعلم أن الضوء أمامك"

وهنا درس آخر في التأمل والنظر الى الأمام صوب الضوء والأمل والسعي والتفاؤل واليقين بأن تقلب الليل يتبعه فجر وجانب مشرق بالتركيز على أول خطوة وتخطيها بالثانية والثالثة لنعيش اللحظة ونمتلك أسرارها ونروض قلوبنا لتتسع للحب و السَخَاء ويتحرك الزمن من خلال سعينا ونقترب من الحقيقة ويكون التيار والعطاء. أما اذا انكسرت النظرات ورضخ الإنسان الى السكون والنظر الى الأرض وفقد القدرة على رفع راسه فسيعيش هذا الكائن ببعد واحد خالٍ من المحتوى والجوهر بلا امل بلا فكر بلا عطاء أو نجده في موقف آخر مغاير ينتابه السأم ليعكس أزمة من أزمات الإنسان والزمان والتي عبر عنها الشاعر المصري صلاح عبد الصبور بقصيدة " الظل والصليب" فيقول: هذا زمن السأم  ويتابع فيقول:

لا عمق للألم

لأنه كالزيت فوق صفحة السأم

لا طعم للندم

لأنهم لا يحملون الوزر إلا لحظة

ثم يستحضر الظل بمضامين إيحائية رمزية فكرية والكثير من السأم الوجودي والرفض فيقول:

أنا الذي أحيا بلا أبعاد

أنا الذي أحيا بلا آماد

أنا الذي أحيا بلا ظل ... بلا صليب

أنا رجعت من بحار الفكر دون فكــر

قابلني الفكر، ولكني رجعت دون فكــر

أنا رجعت من بحار الموت دون موت

حين أتاني الموت لم يجد لدي ما يميته

وعدت دون موت

أبعاد الظل

1 ـ البعد التجسيدي

هو الانسجام بين الضوء والظل فمثلا رسم وجه إنسان كتخطيط سوف يعطينا وجه إنسان ببعدين خالٍ من الحيوية والجاذبية في حين إضافة الضوء والظل سوف تمنحه الحيوية والحياة بأبعاده الثلاث والتجسيد

البعد المعنوي المتمثل بقانون " الجذب الفكري "

وهو الأيمان بأن الطاقة الإيجابية تساعد الإنسان على العطاء والعمل والإبداع والصحة والكسب الصحيح أما الإنسان السلبي فهو كثير التشاؤم قليل الإنتاج يحيطه الملل والإحباط وفقدان الأمل فينعكس هذا السلب على صحته الجسدية والنفسية

2 ـ بعد التلازم والمصاحبة وحمل التناقض:

ملازمة الظل للضوء وبشكل دائم مبني على أساس التلازم والتضاد والتنافر في الاستعارات فالظل نقيض الضوء وهذا التناقض له دلالاته في الحياة كباقي تناقضات هذا العالم التي تمنحه الحركة عبر صراع الأضداد فلكل ضده يقيه أو يعارضه وكل نفس بشرية تحمل ضدها بل تحمل جميع المتناقضات في الكون وتنعكس هذه الرؤية على باقي مجالات الحياة كالأدب وأجناسه ، فقصيدة الشعر التي تحمل مثلا تضادا في المعنى أو في التوقيت والزمن أو في اللون أو في دواعي الوضوح والغموض أو التشبيه بذاك النقيض أو أن يكون التناقض والتضاد في النفس الواحدة كما جاء في أشعار أبي تمام ( نوافر الأضداد) وأشعار المتنبي وكلاهما اعتمد فن التضارب وجمع الأضداد وكلاهما ابدع:

يقول المتنبي:

"أعذب الشعر أكذبه"

والكذب هنا ليس عدم قول الصدق، بل يعني التناقض وخاصية التناقض هي التي تمنح الشعر تلك العذوبة فيقول:

وعقابُ لبنانٍ وكيف بقطعِها

وَهْوَ الشتاءُ وصيفُهنَّ شتاءُ

لبس الثلوجُ بها عليَّ مسالكي

فكأنَّها ببياضها سوداءُ

............

دانٍ بعيدٍ، محبٍّ مبغضٍ، بَهِجٍ

أغرَّ، حلوٍ ممرٍّ، لينٍ شرسِ

3 ـ البعد الديني والعقائدي

العيش في ظل الاله والإيمان به وكل إيمان يصحبه شك وهناك قصة المرأة العجوز التي مرت يوما بالإمام الرازي   وهو في الشارع وكان تلاميذه يمشون وراءه بالعشرات ما يقول كلمة إلا ويكتبوها ، فتعجبت العجوز من هذا الذي وصل إلي هذا المستوي ، فنادت العجوز علي واحد من التلاميذ وقالت يا ” يا بني من هذا ” فغضب .. غضبا شديدا

وقال أما عرفتيه؟ هذا الإمام الرازي الذي عنده ألف وألف دليل علي وجود الله تعالى .

هنا قالت العجوز قولتها العجيبة والشهيرة:

" يا بني لو لم يكن عنده ألف شك وشك ما احتاج لألف دليل ودليل، أفي الله شك؟

فلما بلغ هذا الإمام الرازي قال:

" اللهم إيمانا كإيمان العجائز"

4 ـ بعد الخلود:

ظل الأشياء والكائنات لا تنتهي إلا بموت الأشياء وتأتي هنا فكرة البقاء والخلود للظل فمثلا الشخصيات المؤثرة في التاريخ كالملوك والأنبياء والعلماء والحكام تموت ويبقى ظل اسمها وبصماتها خالدة فمثلا مات غاندي وبقي ظل اسمه في ذاكرة الهنود وكل العالم وكذلك مع جيفارا وهتلر بيكاسو وهكذا،

5 ـ البعد الأسطوري والخرافي:

الظل مقدمة للظلمة التي هي نقيض الضياء وخلق هذا المفهوم بعدا أسطوريا للظل في الوعي الإنساني فصار قرين الغموض والموت والأسرار عبر حضارات مصر وحضارات اليونان القديمة واستخدم مصطلح " ارض الظلال" للإشارة الى العالم الآخر السفلي الذي ينتقل اليه الموتى فعند اليونان كانت ارض الظلال مجمعا للأرواح الشريرة تعاني فيها أنواع العذاب، أما عند المصريين فأرواح الموتى تتجه صوب الغرب حيث تختفي الشمس هناك ويحل الظلام.

وفي العصور الوسطى كان الحكام وهم من طبقة النبلاء يحاكمون خيال النبيل (ظله) كأجراء تحايلي يجنب طبقة النبلاء الأذى الفعلي.

أما طبقة الكهان فظلهم الممدود على الأرض مقدس والخطو عليه خطيئة كبرى تستوجب العقاب حيث أن ظل الكاهن يمثل الامتداد الروحي لجسمه.

6 ـ البعد الفني والرمزي:

الرمز قبل كل شيء ومعنى خفي وإيحاء وانه اللغة التي تبدأ حين تنتهي لغة القصيدة كما يقول الشاعر " أدونيس" وان له القدرة على استفزاز فكر المتلقي وخياله للبحث عن الدلالات وما تخفي السطور.

أما قيمة الظل الفنية فقد ابتدأت بصنع ظلال على نمط حيوانات منذ سخر الإنسان يده وأصابعه وفكره لتتفاعل مع الضوء الساقط وصناعة ظل تشبه بأشكالها بعض الحيوانات لتتطور الفكرة عبر الزمن وتصل الى أفكار أكثر نضجا في مسرح الظل باستخدام الدمى لترسم بمضمونها قصص الصراع الأزلي بين الخير والشر ولتتطور من عروض تسلية الى رسم خطوط وصراع قوى كسلوك أخلاقي تعليمي .

هناك أبعاد أخرى للظل يمكن تعدادها باختصار:

ـ البعد الاجتماعي: العيش في ظل العائلة والمجتمع والحاكم

ـ البعد الاقتصادي: العيش في ظل الأزمات

ـ البعد القانوني والسياسي: العيش في ظل القانون والعيش في ظل الأحزاب

البعد الشخصي: العيش في ظل الأمجاد

إن الفتى من يقول ها أنذا

ليس الفتى من يقول كان أبي

***

الدكتور نجم السراجي

المدير والمؤسس لمجلة ضفاف الدجلتين الأدبية المستقلة 

لندن   31.07.2023

يبدو السؤالُ وارداً إزاء جوهر الرحمة، بعدما عرفنا بأية درجةٍ تطرحها النصوص الأساسية في الاسلام. وليس الجوهر ماهيةً قابلة للتراجع بحسب مركزية المعنى، لكنه حركة وتفضية spacing، أي خلق فضاءات متواصلة ومفتوحة على الدوام. لو تخيلنا الأمرُ أشكالا هندسيةً، فهندسة الرحمة ممتدة، وتتوالد منها صور لا نهائية كما الأشكال دخل مساحات حرةٍ، لا تُعرف بدايتها ولا نهايتها. لأنَّ الغاية هي تغطية كل مشاهد الرؤية وجميع عناصر الوجود. فالإسلام كونياً نوع من المسئولية عن الحياة، والفكر الذي لا يهب الحياة بإطلاق لا يستحق الحياة بأدناها.

الرحمة: وسعٌ بلا حدود

منطقياً، لا توجد هناك مفاهيم من غير حدود، فلكل مفهوم حدودٌ بعينها، تقنن دلالته وتبرز حقله التداولي. غير أنَّ الرحمة في الإسلام تصرُ على كسر منطق المفاهيم. بلغة الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز: إذا كان لكل مفهوم فضاء يتحرك فيه، فالرحمة ذات فضاءات متباينة ومختلفة، ولا تنسجم مع أُطر الاعتقاد الديني بمعناه المعروف. ومن ثمّ، ليس أقل من هدم المنطق التقليدي (دينياً وفكرياً) للتعامل مع المفاهيم التي انتجتها البشرية.

يتدرج مفهوم الرحمة على متصل لا نهائي، يوفر (أبعاداً تأويلية) تتجاوز حدود المفاهيم:

1- قد تبدأ الرحمةُ بحدود التخصيص:" يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ" (البقرة/ 105). ولكن الأمر برمته متروكٌ لله كمنبع ومرجعية للرحمة الخالصة، وفوق ذلك لا يُترك الأمر إطلاقاً في الإسلام لبشر. لأنَّ (التخصيص) طالما كان مجهُولاً، فهو يفيد التعميم والشمول والإحاطة. وطالما أنَّ الله هو الخالق المطلق، فإطلاق المعنى كونياً يتجاوز التخصيص بمدلول الحد أو الحرمان. إن الرحمة معطّاة لكل الناس من واقع كون الإله رحمة لجميع الكائنات فما بالنا بالإنسان!! وهذا يعنى أن (النّفسْ الإلهي) في كل رحمة لا يجعلها حكراً على أُناسٍ بعينهم.

قد تأخذ الرحمة حدَّ التخفيف والعفو:" تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ" (البقرة :/178). ولئن ظن الإنسان أنها مرهونة بغرض تقليل الخطايا والذنوب، فليس المعنى هو المقصود حصراً، ولكن ذلك التخفيف إنما يعني بذل الرحمة بوصفها قادرة على القليل والكثير معاً بصرف النظر عمن يكون متلقيها. وهي علاج يستطيع إنزال الإريحية بمن رأي في نفسه ثقلاً ينوء بوجوده.

3- تأتي الرحمة بحد المغفرة: " كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ " (الأنعام/ 54). وهذا المعنى يهدم حدّ المفهوم وأي حدود أخرى بالضرورة، لكن الكتابة كما مرَّ سابقاً تخص كل فعل صادر عن الله، وأنَّ رحمته من جنس الوجود الإلهي لا مجرد حال ولا مآل. وطالما أنَّ الله قد خطَّ وحدّد لذاته، فجميع الأسوار قابلة للهدم من فورها كما يتصورها البشر.

4-   ترتبط الرحمة بحد الإيمان:" " وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ" (هود / 28). ويبدو المعنى هنا إيماناً بلا موضوعاتٍ معينةٍ، فمن المعروف أن الإيمان العقدي يخضع لقوالب دينية صارمة، ومن المعروف أيضاً أن الإيمان الإيديولوجي تدخل فيه الكراهيات وعوامل التعصب والشحن النفسي. بيد أنَّ الإيمان كرحمةٍ في الآية يفُوق حتى الإيمان الديني الشائع، لقد غدا ايماناً من جنس الرحمة، هو الإيمان الحر free faith وقد اكده الارتباط بمعنى الإله الذي لا ينحاز لبشر ولا يتواطأ مع أية قوة خاصة ولا يقبل استعباداً لأحد.

تتحقق الرحمة بحد الوحي القرآني (الرسالة): " قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ" (يونس: 58). لكن الحد لم يقل شيئاً معيناً، كأنَّه يحُول دون الرحمة، بل وسع الوحي هو الرحمة نفسها. وتدل الكلمة على الفضل الكبير الذي يعم كافة البشر وينتظرهم دون شقاءٍ. والوحي مصدر الغبطة والمسرة بلغة المسيحية لكل ذي مخلوق، والآية تقرر المصدر (الإله) والرحمة (الوحي) والفرح (المتلقي)، إنه الخط الذي يصل القرآن بالإنسانية. إن القرآن بما هو موجّه إلى الإنسان يحتاج إلى ثقافة الرحمة والتعامل بمنطقها مع الآخر، كل آخر.

ترد الرحمة بحد العطاء: " آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً" (الكهف/10). والعطاء ممنون ومتواصل، أي لاممنوع ولا مقطوع، أي العطاء الرحماني بعبارة ابن عربي[1]. ونظراً لأن الرحمة مجهولة الصيغة في الآية، فلتكن كما هي تفيد الكثرة والتعدد والنجاعة والقوة. والعطاء بحكم تعريفة لا مقابل له، وعادة لا ينتظر منْ يعطي أن يأخذ، ولاسيما إذا كان العطاء رحمةً. وذلك لا يعترف بخطوط العطاء والاستمرارية فيه. وهو بذلك يحدو البشر للتشبه بالعطاء من لدن الإله الذي يعطي بلا حسابٍ. والعطاء هو القاعدة التي تستحدث الناس على البذل، لا لأنَّ الآخر يستحق فقط، بل لأنَّ المُعطي هو أهل لذلك بحكم إنسانيته.

تتبلور الرحمة في حدود النعم والهبات: "آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا" (الكهف/ 65). أي تأخذ شكل النعم التي تفتح آفاقاً للإنسان، فيكون ذا قدرات خاصة، والقصد لا يفيد الحصر لكنه أحد اشكال النعمة عندما تتجسد في الواقع. وليس ثمة مجال أوسع من ذلك، لأنَّ مطلق الرحمة تحتاج أنْ تتشكل في صورة بالغة العمق والتنوع بالمثل. وكأن الآية تقول: فلينظر القارئ إلى ماذا تعمل رحمة الله في الإنسان (العبد الصالح في سورة الكهف)؟

تعبر الرحمة عن حد المنّة: " وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ" (القصص: 46). والاشارة لطيفة في كون الحديث عن الرحمة آتياً من مصدرها (الرب)، وهي التي تجعل الأفضلية فيها لذات المصدر، ولذلك يتجاوز المعنى أية حدود بالدرجة التي تفوق إمكانيتها. لأن البشر هم من يضيقون الحدود في كل زمان ومكان، فالأنظمة السياسية والدينية ترسم تقاليد الاعتراف بالآخر. ثم يقوم المجتمع بنسخ الرحمة من نظام مفتوح إلى طريقة للضبط الإجتماعي السياسي.

تعبر الرحمة عن حد الرأفة والرقة والعطف: " رَأْفَةً وَرَحْمَةً" (الحديد/ 27). والرأفة هي بلوغ مرحلة التفهم للوضع والأخذ بيد المرءوف به، لدرجة تجاوز الحدود الموضوعة أمام ذلك. وقرنت الآية الرحمة مع الرأفة، حتى تظل الرأفة مفتوحة ولا تُوضع لها نهاية متوقعة. لأن قوة احتمال المفهوم الخاص بالرأفة تتوقف على القائم بها، بينما طاقة الرحمة هي الوسع والعلم اللانهائيان. فليس الوسع حجماً ولا افتراضاً، لكنه علم وهذا يجعل الرحمة عجيبة التكوين والاستمراراية بقدر وجود المجهول والمعرفة.

تمثل الرحمة الوفرة والفائض غير المحدود: "قُلْلَوْأَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ" (الإسراء:/100). والقرآن يؤكد لانهائية الرحمة إزاء محدودية البشر، وكأنَّ المقارنة لا تعترف بأية حدود. والإفتراض في الأية يفيد الشرط والانفتاح بأثر رجعي وفقاً لكون الرحمة لا تُمتلّك. والإشارة لا تخطئها العين في التعبير عن الرحمة بمصطلح (خزائن رحمة الرب)، فهي أصيلة أصالة المطلق والخلوص التامين، وأن الخزائن جمع يعبر عن الوفرة والنماء والفائض والزيادة. وأنَّ خزائن الرحمة لايمتلكها غير الله، ونسبة الخزائن إلى الرب توضح كونها موهوبةً للبشر.

وسواء أخذت أشكالا مادية أم إنسانية، فالرحمة نوع من الإغداق الإلهي دون حساب. والحث الضمني على إطلاق العنان للرحمة يكسر قيود الشح النفسي والإنساني. فلو كانت الرحمة مطلقة، فأحرى بنا الانفاق بكل تبذير دلالي ومفهومي ممكن. إنَّ إقتصاد الرحمة اقتصاد مفتوح لا ينضب ويفيض بما يكونه باستمرار. ويقر القرآن بهذه اللاحدود: " مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا " (فاطر/ 2). فلا تجدي أية سدود أمام الناس، شريطة أنْ يكونوا جميع الناس.

حد المودّة والرفق والتراحم: " رُحَمَاء بَيْنَهُمْ" (الفتح/ 29). وهذه آثار الرحمة التماساً لمضمونها الأوسع، لأنَّ الأية تقرر كون المؤمنين رحماء، أي يتصفون بالرحمة التي تتسع للجميع وتفيض أيضاً. و (البينية) الواردة ليست على المقاس، كما يُقال في هذه الحالات التي تقبل توزيعاً حيادياً. فالرحمة غير قابلة للتقنين، كما أن الجانب الخفي الرمزي منها أكبر من المادي. وبهذا تعد الرحمة ممارسةً جمعية في صورة نظام للعيش معاً. وتلك هي قضية القضايا السياسية والاجتماعية في المجتمعات متنوعة الأديان والأعراق والثقافات. واطلق القرآن الرحماء على الناس وإنْ كانوا داخل دين معين، لأن الرحمة لا تتجزأ حتى أزاء المخالفين أو أصحاب المواقف النقيضة.

وترجمت الرحمة في الدولة المعاصرة كأطر وآليات للحفاظ على حالة الثراء الثقافي والسياسي. وهو ما تسميه لندا ماير"الدولة الرحيمة " Merciful State، وهي الدولة التي ترى أن سياسات العفو والصفح موقف عقلاني حر، وهي سياسات يمكن تعميمها في إطار الولاء والمسئولية وكذلك تتماشى مع العملية الديمقراطية في المجتمعات[2].

تتجاوز الرحمة حدود الزمن، فقد تكون بمعنى الجنة والفردوس في الآخرة، من ذلك قول القرآن: "أولئك يرجُون رحمةَ الله" (البقرة/: 218). والرجاء قرين الأمل فيما هو قادم، والرجاء يفتح الزمن الإنساني نحو المستقبل. وكلُّ ايمان حُر ينتعش وحده مع الرجاء ومع كل إيمان آخر، وليس بإمكانه أنْ يغلق النوافذ حول نفسه فقط. والرجاء قوة إنسانية لا تُميّز غير الآدميين. ولنلاحظ أنَّ الرجاء نُسِبَ إلى المجموع (أولئك)، لأن كلَّ رجاء يفيدُ- من واقع الرحمة المنتظرة- الآخرين، لا رحمة مع الذات فيما هو آتٍ. ولكن الرحمة خاصة بالآخر، وتلك الفكرة تعلِّق (إن لم تقضِ على) الصراع والتنابذ. وكأنَّ المصير يتشكل بواو الجمع.

ولعلّنا ندقق القول بأن الرحمة بالمعاني السالفة هي المتجاوزة للحدود أصلاً، فلن تكون كذلك من الأهمية سوى بانتهاك كل قاعدة تُوضع للتقليل من الآخرين سواء أكانوا مخالفين أم أغياراً. وربما الحد الذي تستهدفة الرحمة يتماس مع موضوع الحدود في الإسلام. فتطبيق الحدود الشرعية يحمل معاني العقاب وإيقاع أثر المخيف من المصير ذاته بالنسبة لأفراد المجتمع.

بينما تتفلت الرحمةُ من الحدود العقابية، لأنها تشكل عملاً بلا عقابٍ، كما أنها ليست مطروحة من الأساس بهذا القصد. فهي رحمة خالصة وكفى. بل وتبدو منطلقةً للقضاء على الأثر الحاصل من أي خوف ومن أي توجُس. وحتى الأثر الشعوري الحاصل لهاـ فهو أثر حياتي بالوقت عينه. فالعقاب يأتي في المجتمعات من إيقاع الضرر بالآخرين، من إضمار النوايا الخبيثة، ومن استئثار الأنا الجمعي بكل ما يجلب الصراع والكراهية.

ومن هنا تكون (الحدود العقابية) هي الأسوار الخطيرة التي لا يعلوها إنسان دون إيقاع العقاب به، وكذلك إيقاع الخوف بالآخرين. لكن الرحمة تستأصل تلك النوايا المسئولة عن الجرائم وانتهاك الحقوق. ولذلك، فإنَّ وسْع القصاص في الإسلام يعود بالرحمة على المجتمع من جهة السكينة والهدوء والإطمئنان[3]. وهي (الوضعية الرأسية) التي تمكثُ فيها الرحمة من السماء إلى الأرض ويتطلع إليها الناس، وكذلك الرحمة بـ (الوضعية الأفقية) التي تتحدى حدوداً مصطنعة بين البشر باختلاف الأديان والمعتقدات.

كيف تكون الرحمة بلا عنف؟

يضمر المفهوم عنفاً عندما يرتبط بمرجعيةٍ صارمةٍ تمارسُ إكراهاً على الآخر مثل المرجعيات الأيديولوجية والسياسية والدينية. وهي تتميز أول ما تتميز بالقمع، لأن كل مرجعية تمثل (نواة صلبةً) غير قابلة للتفاوض حول نفاذها التام، فما بالنا بآثارها على الآخر؟! والدين في ممارساته التقليدية هو الأقرب إلى تحديد مساحة المفاهيم، من جهة كونها معبرةً عن الأوامر والنواهي الخاصة ليس أكثر.

ومفهوم الرحمة كتعاطف ورأفة وعفو وغفران كان مفهوماً حذراً تجاه المرجعيات الدينية. لماذا لا نقول إن خروجه على كافة المرجعيات والأعراف والتقاليد هو سبب إبطال العنف من الجذور؟ لأنَّ المعنى دالٌّ على كون الرحمة لو وُهبت للإنسان، فشرطها الأول أنْ تصبح بلا إكراهٍ ولا قسْر. هو شرط تأسيسي بوصفها رأفة وعفواً دون مقدمات. ولذلك كانت مفاهيم الرحمة في عالمنا المعاصر اشكالية مع وجود الأنظمة الرأسمالية الديمقراطية حول سؤال القانون والعدالة[4].

وذلك هو ما يجعل (مفهوم الرحمة) بين قوسين على الدوام، لأنَّ الفكرة الخطيرة أنه مفهوم يشتبك مع أنظمة الحكم وتراث الدين السياسي وتراث الفرق والطوائف والمذاهب. وليس هذا وحسب، لكنه مفهوم يكشف كمْ هي تراثات قمعية في صلب الأديان ذاتها، وأنها لم تكن لتؤدِ إلى التنوع والحرية الدينية التي نصَّ عليها الاسلام نصاً صريحاً، طالما هي بعيدة عن جوهر الرحمة بمعناها الإنساني.

الرحمة كما رأينا تتدرج مع الخلْق الذي هو جزء منها مروراً بمعاني الإيمان والنعمة والحياة والإقتصاد (الرزق) وانتهاء بالجنان والثواب في الآخرة. وكل ذلك ليس متوقفاً على شيءٍ قدر توقفه على إرادة إلهية لا تساوم بشراً في منطلقات الرحمة، وهي تبلغ في هذا مرتبة الأسرار الكونية المخبأة في كافة تفاصيل الإسلام.

تمثل الرحمةُ أبلغ درجةٍ من اللاعنف non- violence، فهي حتى تبطل ذاتها وباسمها لو كان ثمة من يراها منّةً أو استحواذاً. والقرآن واضح في هذا الفهم للمسألة: "وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا" (الأسراء/ 28). فهناك مخاطبة حاسمة للنبوة في شخص النبي: أنه لو اعرض عن الآخرين والمخالفين ابتغاء الرحمة (أي باسمها)، فلن تكون غاية الرحمة متاحة من أول وهلة وكأن الله يخضع (في أفعاله) لما يشعر به البشر. وسلوك النبي حين أخذَ شكل الاعراض والأزورار عن الآخرين فإنما يتخذ موقفاً بشرياً خالصاً. ولكن النظرة الإلهية الواسعة انطلاقاً من الرحمة كذات وفكرة كونية أشار بالأية إلى أن ذلك الإعراض بملابساته النفسية والحياتية لا يجب أن يخرج عن الرحمة المتمثلة في القول الميسور اللين (والرحيم).

وتبلغ الرحمة مبلغاً متعالياً، إذ يشكل القول الميسور أمراً إلهياً، والقول نوع من العودة إليها مرة ثانيةً كلما أراد النبي بوضعية البشر الخروج عليها. والأمر موجّه إلى بشرية الإنسان المرتبطة بالجوانب النفسية والغرائز والتفضيلات والأهواء. وهو التمييز الذي تعول عليه كلُّ رحمة خالصة لذاتها دون عنف.

والمعنى ثري إنسانياً، لأن الرحمة حتى في تجسدها العيني تميز بين البشري (الغرائزي) والجانب الإلهي فيها، ولكن الأهم أنَّ الجانب الإلهي يلتقي في النهاية مع الجوانب الإنسانية لدرجة التطابق. والرسالة الإلهية (الوحي) التي هي رحمة لا تتعارض مع الإنسان نفسه كرسالة أنطولوجية لكل الكائنات. ولذلك تبدو التفرقة القرآنية الضمنية فيما بين الكلمات بالغة التأثير في منع القمع باسم الرحمة.

ويتضح التواضع الثقافي أكثر على المكانة الإنسانية للآخر من سواه. فالثقافة تنطوي على عناصر الهيمنة والتسلط والإقصاء، وعندما يقول القرآن إذا كانت ثمة نوازع ثقافية للاعراض عن الآخر، فهذا لا يحول إطلاقاً من إبالغهم مضمون الرحمة التي هي أوسع من الطرفين. وبالتالي سيظل مفهومها نقياً من ترسبات الثقافة الشائعة.

ولتأكيد معنى اللاعنف فأنَّ الإنسان داخل كيان النبوة (أي الإنسان النبي) قد يقول بأن المجتمع يمارس اقصاءً بدوره مع النبي تجاه إنسانه (أي النبي الإنسان)، وبالتالي قد يبرر ذلك بموقف النبي المتجنب لهؤلاء المعارضين لدعوته، غير أنَّ الله لم يعتب على النبي ولا يتحدث بخطاب التبرير انحيازاً لموقفه غير المريح من هؤلاء. لكن ذروة الحياد اللاعنيف: أن يُذَكِّر (هؤلاء وأولئك) بأن ربهم الذي هو أكبر من المجتمع ومن صاحب الدعوة هو صاحب الرحمة الواسعة. "فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ" (الأنعام/ 147). وتلك الغاية ستنقي من فورها أي عنف محتمل سواء من النبي أو من المجتمع.

إذن المبدأ وراء الرحمة كل لا يتجزأ، فما هو ذلك المبدأ؟ أنّ الرحمة معيار وجود إلهي لا يخضع لمقاييس البشر ولا لحدود المجتمعات. وهذا هو السر وراء كونها (الرحمة) لا تتواطئ مع بقايا القمع والإقصاء ولا مع رغبات البشر. وتصل هذه المعيارية أن الله لا يسمح بقانونه الكوني على لّي عنق الرحمة حتى ولو كانت في إطار رسالاته (الأديان).

ومعنى الرحمة الكلية ثري فلسفياً بالمثل، من حيث أنَّ مفهومها يشكل مفارقة دينية religious paradox عصية على الحل إلاَّ بوجود معانٍ عليا ترفع الاحراج المنطقي. دوماً البشر يبررون أفعالهم بشكل تجزيئي برجماتي. وقد لا يمتثلون للمنطق الكوني cosmoc logic وراء المفاهيم الذي هو شرط لكل رحمة وصفح. كما يقول الفيلسوف الفرنسي فلاديمير جانكلفيتش Jankélévitchإنَّ العفو أو الصفح forgiveness يتم بضربة واحدةٍ غير قابلة للتجزئة indivisible ويجري بشكل قاطعٍ، في حركة واحدةٍ غير قابلة للفهم incomprehensible، فالصفح يمحو كل شيء، يكتسح كل شيء، وينسى كل شيء في غمضة عينٍ، الصفح يصنع صفحةً بيضاء من الماضي tabula rasa of the past [5].

ولذلك ستمثل الرحمة نقطة قلقة لدرجة الخلخلة في جميع خطابات الإسلام السياسي والهوس الأيديولوجي لدى التنظيمات الإرهابية. وليس مفهوم الرحمة من تلك الزاوية معترفاً بالإرهاب من الأساس، بل يقف حائلاً دون تكوين الأيديولوجيات الدينية العنيفة. الرحمة بهذه المفارقة تقف كتحصين (كلقاحٍ إنسانيhuman vaccine) ضد الإنغلاق باسم الإله وبأي عنوان آخر. فالفكرة أنَّ المفارقة لا تُحل عقدتُها من أول وهلة، لأن المطلق واللاحدود فيها أعقد من أن تتحملهما الخطابات المؤدلَّجة. فالإنسان والإله أكبر شفرتين في أفق الحياة والتاريخ مع هذه المساحة الشاسعة من الرأفة والعفو.

وإذا كان الفيلسوف المعاصر إيمانويل ليفيناس يرى في الخطابات الميتافيزيقية بذوراً للعنف، نظراً للقمع الحاصل بإسم مفاهيم الوجود والمقدس والإله ونتيجة المصطلحات الأنطولوجية التي تترك ظلالاً من الإقصاء، فإنه يحبذ نوعاً من التعالي نحو المطلق لتذويب العنف ومحو آثاره. هو يؤكد أنَّ عنف المحدود لا ينتهي إلاَّ بالانفتاح على اللامحدود. بلغة القرآن، فإن الاعراض عن الرسالة يتم تذويبه بعملية الوسع التي هي قاعدة الرحمة. يشير القرآنُ بصريح المعنى غير العنيف: "قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً" (هود/ 63)، أي لا داع لنشوب الصراع على شيء لا نملكه ، شيء أعظم من الانهماك في مواقف جزئيةٍ، لأن الله هو الإنفتاح الخاص بالرحمة لدرجة أن إتيانها منه كفيلة بالرجوع إليها في مستواها الكلي دون التمسك بتلابيب الحالات الجزئية حيث تبرز النزاعات والمبررات الواهية التي لا تبلغ تلك المرامي الكبرى.

كل رحمة لون من الانفتاح على وجه الكل لا الجزء. فالانفتاح لا يمكن أن يكون خاصاً وإلاَّ لسقط مرة أخرى في دورة الاستقطاب والعنف. ولذلك كانت الرحمة كاشفة لطبيعة الإنسان الجزئي الذي لا يعيش انفتاحاً بملء الكلمة. يقول القرآن موضحاً: "وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ" (هود / 9). وكأن الرحمة نوع من (تذوق الانفتاح) على الحياة والعالم والتاريخ، وهو ما لخصه القرآن بالاريحية كمعنى كامن وراء التشبع بمذاق الرحمة. ولكن الآية أرادت أن تثبت ذلك بالنقيض (منطق قياس الخُلف)، أي اثبات صحة الحالة المراد تأكيدها باثبات صحة العكس. فالإنسان (وهو المستحق للرحمة) لا يعدو أن يكون دون الإنسان إذا ما سُلبت منه الرحمة ولم يكن على مقدارها. بل قد يتحول فجأة إلى يئوس كفور، في حين إن الرحمة لا تعطي الإنسان مساحة لليأس ولا الكفر والقنوط بلغة الإسلام. والكفر هنا ليس شرطاً بمعناه الميتافيزيقي تجاه الله. أي إعلان إنكار الاله، بل إنكار التسامح والعفو والرأفة بالآخر.

وإذا قلبنا الموضوع على وجهته الصريحة، ستكون الرحمة هي مصدر الفرحة التي يتلقاها الإنسان كما لو لم يتلقاها من قبل: "وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً، فَرِحُوا بِهَا" (الروم/36). ولأنَّ الرحمة حرّةُ الإنفاق والعفو والإحسان، فهي مصدر سعادة بلا ريب. ويا حبذا لو كانت تلك الفرحة لها عمق يواكب مضمون الرحمة. أما لو كانت فرحة نتيجة الشكل العيني للرحمة (مثل النعمة والرزق) ، فهذا أمر دال على كيفية التعامل معها. إن ردود الأفعال على الرحمة قد لا تواكب ثراء فعلها وزخمه المصدري باعتباره من الله. لكن المنّة والإحسان ليسا منطويين على تبذير، حتى تكون الفرحة ظاهرية ولا على إغداق فارغ من محتواه. ولذلك فالرحمة استحضار لمعاني الجُود الإلهي الذي يبرر ذاته بذاته.. رعم إنكار البشر له بين يأس وفرحٍ.

***

د. سامي عبد العال

..............

[1]- محي الدين بن عربي، فصوص الحكم، شرح عبد الرازق الكاشاني، (القاهرة: دار آفاق للنشر والتوزيع، 2016)، ص 64.

[2] - Linda Ross Meyer, The Merciful State, In: Austin Sarat and Nasser Hussain (Editors), Forgiveness, Mercy, and Clemency (Stanford, California: Stanford University Press 2007), PP 85-86.

[3] - إن أمر القصاص نوع من الزجر الذي تحل به الرحمة على المجني عليه وزجر ورادع للجاني عن القسوة ودفع الناس الآخرين لاختيار طريق الرحمة بدلاً من الجرائم والعقاب. راجع: محمد الطاهر بن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، تحقيق محمد الطاهر الميساوي، (عمان: دار النفائس، الطبعة الثانية 2001)، ص ص 516- 518. وكذلك: علي بن محمد الماوردي الأحكام السلطانية، (بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 2004)، ص 443.

[4] - Stephen P. Garvey, As the Gentle Rain from Heaven: Mercy in Capital Sentencing, In: Cornell Law Review- 989, Volume 81, Issue 5 ,Jule 1996, P 995. See also: Bryan Stevenson, Just Mercy: A Story of Justice and Redemption, (New York: Random House, LLC, 2014), P86.

[5]- Vladimir Jankélévitch, Forgiveness, Translated by Andrew Kelley, (Chicago and London: University of Chicago Press, 2005), P 153.

في مقال له عام 1988 حول الفلسفة السياسية بعنوان "السعي وراء المُثل" ينظر الفيلسوف اسحق برلين (1909-1997) بالنزعة الحالية للبحث عن نوع من "الخير المطلق". من خلال ملاحظاته في الاخلاق والسياسة، وجد ان العديد من الناس يسعون لتأسيس مُثل. ما هو الخير؟ ما هو النظام الاخلاقي؟ ما هو المجتمع المثالي؟. يجادل برلين ان هذا الاتجاه هو في الحقيقة مضلل: المُثل غير موجودة. لا توجد هناك طريقة واحدة لقيادة الناس بشكل تام او قيادة حياة عقلانية تامة.(1)

من الخطأ مثلاً تصوّر أوقات تنويرية في تاريخ اوربا – اليونان القديمة، النهضة، التنوير – باعتبارها تمثل مجموعة مشتركة من القيم، تشبه خيطا واحدا من التفكير في الكفاح ضد الجهل. يرى برلين، ان هذه الأزمان التنويرية "البُقع المشرقة للتقدم" جميعها غير منسجمة في الأساس مع بعضها البعض. وبينما نحن ننظر باعجاب للاعمال العظيمة لليونان القديمة، لكننا لا نستطيع مقارنتها مع أعمالنا لأنها كانت نتاجا لمجموعة مختلفة كليا من حيث القيم واللغة والناس.

اذا اردنا فهم نتاجات الثقافات الماضية، نحن لا نستطيع القيام بهذا من خلال عدسة قيمنا الحالية. نحن لا يجب ان نجبر الثقافات الماضية وقولبتها ضمن اشكال من "الدولة الجيدة" مقابل "الدولة السيئة". بدلا من ذلك، نحن يجب ان نعترف بان هناك طرقا متعددة لتنظيم المجتمع وحيث الناس في تلك المجتمعات يعتقدون انهم عموما يعيشون حياة عقلانية.

هذه ليست أخلاقية نسبية، حسب برلين، انها تعددية أخلاقية. هناك عدة طرق مختلفة لنعيش حياة جيدة، الفكرة بان هناك طريقة تامة واحدة للخير هي غير متماسكة. الإعتراف باننا نستطيع تجسيد الكثير من مختلف القيم هو جزء جوهري لما نعنيه بحياة انسانية حرة وعقلانية. اولئك الذين يستسلمون للدوغما ربما يجعلون أنفسهم افضل، لكنهم ليسوا عقلانيين. فكما يقول برلين:

"سعداء اولئك الذين يعيشون تحت نظام يقبلون به بدون سؤال. منْ الذي يطيع بحريته أوامر القادة الروحانيين او الزمنيين، الذين تُقبل كلماتهم كقانون ملزم، او اولئك الذين وصلوا، بطرقهم الخاصة، الى قناعات واضحة لا تهتز حول ماذا يعملون و ماذا يجب ان يكونوا . انا استطيع فقط القول ان اولئك الذين يستلقون على أسرة مريحة من الدوغما هم ضحايا لأشكال من قصر النظر الذاتي، ومضات من الرضا ولكن ليس لفهم ما يجب ان يكون عليه الانسان".

لا وجود لليوتوبيا

انطلاقا من التعددية الأخلاقية، يتبع ذلك ان الطموح لخلق دولة طوباوية مثالية ليس فقط سخيفا وانما مؤذيا. لا وجود هناك لدولة تامة، لا وجود لحل نهائي. لماذا؟ لأن كل جيل انساني يواجه مجموعة جديدة من المشاكل ويستجيب بأنواع جديدة من القيم والحلول. يكتب برلين:

"الأطفال حصلوا على ما اشتاق اليه آبائهم وأجدادهم من حرية اكبر ورفاهية مادية اكبر ومجتمع اكثر عدالة، لكن الامراض القديمة نُسيت، والاطفال يواجهون مشاكل جديدة نجمت بفعل حلول المشاكل القديمة، وهذه، حتى لو كانت حُلّت بدورها، لكنها تولّد مواقفا جديدة ومعها متطلبات جديدة وهكذا الى الأبد وبشكل لا يمكن التنبؤ به".

المجتمع باستمرار يجب ان يتكيف مع التحديات الجديدة طبقا لبرلين. لو دخلنا الى دولة "مثالية" قاسية، نحن لانزال غير مهيئين جيدا للاستجابة لهذه التحديات. "الطوباويات لها قيمها"- "لا شيء يمدد بشكل رائع الآفاق التصورية لإمكانات الانسان – لكنه كمرشد للسلوك يمكنه ان يثبت انه قاتل تماما".

لماذا قاتل؟ كل شخص يخدع نفسه بالتفكير ان هناك نسخة "نهائية" لمجتمع تقود جميع افراده للازدهار– وهو ما لا يقومون به للحصول على مثل هذا الهدف؟ اذا كانت المكافأة هي "كل الناس سيكونون سعداء الى الأبد"، أي فظاعة لايمكن تبريرها للحصول على ذلك؟ رعب القرن العشرين يوفر اجوبة لمثل هذه الأسئلة حسبما يذكر برلين.

وعد بمستقبل مجيد لتبرير حاضر مرعب

يتذكر برلين مقال عام 1848 للراديكالي الروسي الكسندر هيرزون بعنوان (من الشاطئ الآخر)، فيه ينتقد هيرزون اولئك الذين يدعون الى مستقبل مجيد لتبرير حاضر مرعب. هو يكتب:

"اذا كان التقدم هدفا، فلمنْ نحن نعمل؟ هل انتم حقا ترغبون بلوم الناس الأحياء اليوم على الدور المحزن للنصب المنحوتة في قواعد بنايات المسارح للرقص فوقها في يوم ما .. او لعبيد في سفينة بائسة يغوصون الى ركبهم في الوحل، يسحبون قاربا مرددين كلمات متواضعة "التقدم في المستقبل"؟ .. الهدف البعيد الى ما لانهاية هو ليس هدفا، انما فقط خداع، الهدف يجب ان يكون أقرب – او على الأقل اجور العمل او متعة العمل المنجز ...".

برلين يعلق على هذا المقطع بالقول:

"الشيء الوحيد الذي نحن متأكدين منه هو حقيقة التضحية، الموت والميت. لكن المثل الذي لأجله يموتون يبقى غير مدركا. البيض يتكسر، وما يتكسر منه عادة يكبر، لكن صحن البيض يبقى غير مرئي. التضحيات لأهداف قصيرة المدى، والإكراه، ربما تكون مبررة اذا كانت محنة الناس شديدة بما يكفي وتتطلب حقا مثل هذه المقاييس. لكن الهوليكوست كانت لأجل اهداف بعيدة، انها سخرية قاسية بكل ما يعتز به الرجال، الآن وفي كل الأوقات".

كيف يجب ان ننظم المجتمع؟

اذا لم تكن الطريقة طوباوية، فما هي؟ هل نتخلى عن جميع المثاليات؟ هل يجب ان نطمح للكثير؟ يعتقد برلين ان أفضل ما يمكن الكفاح لأجله هو المحافظة على "توازن غير مستقر"، فيه نبني مجتمعا بطرق تساعدنا في ضمان عدم قدرة أي شخص او حزب في السيطرة الكلية على السلطة وفرض رؤيتهم الطوباوية على مواطنيهم.

قد لا تبدو هذه نسخة مثيرة كحالة مثالية، لكن برلين يعتقد انها شرط مسبق لإنتاج مجتمع لائق وسلوك مقبول أخلاقيا. السؤال متروك للقارئ هل يؤمن بالتعددية الأخلاقية وأخطار اليوتوبيا ام انه يؤمن بان الصيغ المثالية توفر زخما للتقدم الانساني؟.

***

حاتم حميد محسن

..................

الهوامش

(1) اسحق برلين فيلسوف ومؤرخ روسي- بريطاني، عُرف بافكاره المدافعة عن الليبرالية والتعددية، ومعارضته الشرسة للتطرف السياسي.

(نعم، يضغط الناس على الزناد – لكن البنادق هي أداة الموت. السيطرة على السلاح ضروري، والتأخير يعني المزيد من الموت).. إليوت سبيتزر

(بكل الوسائل خرق القواعد).. روبرت برينجهيرست

السؤال مخيف حقا. ويستدعي ضبط وتحوير أجهزة مفاهيمية ثقيلة، على الرغم من وجودها الافتراضي اليومي، ضمن العلاقات التواصلية الشاسعة بين المتفاعلين والمؤثرين وخلافهم.

المفهوم الإشكالي ل"الذكاء الاصطناعي"، يتاخم في مدلوله الواقعي والهوياتي، شكل تدبير "إعلام الجمهور" الموسوم بصفات التثقيف والترفيه، متجاوزا بذلك كلاسيكية التواصل المبني على مجال التأثير المجتمعي، وتحولاته التقنية والفنية، وحمولاته السياسية والإيديولوجية والاقتصادية والثقافية وغيرها.

هذا البعد المركب لظاهرة بروز الذكاء الاصطناعي، في باراديجمات الإعلام ووسائط الميديا، يبرر التركيز الأفقي على ثورة العقل الإعلامي وانحيازه الجديد لنسق مغاير ومتناغم واكتشافات المعرفة وحاجيات المجتمع.

يعتني خبراء المجال اليوم، بكيفية إعادة مفهوم الذكاء الاصطناعي، تعريف النهج الحديث لإدارة المحتوى. وبالضبط مشكلة ضبط استخدام الذكاء الاصطناعي في الإدارة المسؤولة لوسائل التواصل الاجتماعي ، معتقدين أن ذلك سيؤثر بشكل عميق في حياة المستخدمين وارتباطاتهم بالرؤى الحديثة لقطاع الإعلام وتأثيراته على الثقافة والوعي.

وعند رصد أدوات الإنتاج التقني والمعلوماتي، على سبيل استدراج بعض مصادر الإعلام وامتداداته في حياة المواطنين، انطلاقا من الأجهزة المستخدمة إلى فضاءات الشوارع والأماكن العمومية، يظهر أن التأثير الملموس والحتمي على المجتمع المعاصر أضحى أكثر تعقيدا، بعد أن شكل الذكاء الاصطناعي عموده الفقري وأحد الأصول الأساسية التي تتحكم في هذا التأثير وتحافظ على وسائل الإعلام .

وزاد من تغول هذا التأثير، الإعلان الرسمي عن تأسيس نموذج  GPT-3، الذي ساهم في التشكيك في وجود نظام قيمي للذكاء الاصطناعي نفسه، الشيء الذي تضمن حدوث فوارق غير طبيعية في قياس هذه الأخلاقيات، ومدى مواءمتها للممارسة الإعلامية والحس النقدي السليم؟.

هناك دعوات ملحة للاحتفاظ بضرورة السيطرة على المحتوى الذي تم إنشاؤه بواسطة الذكاء الاصطناعي. وهذا أمر مستحيل، إن لم نقل معجزة، إذ إن ارتدادات ذلك على وسطاء المحتوى وصناعه، يخالف في التصور العام وجود تباعدات في استعمال خصوصيات الذكاء الاصطناعي، على مستوى السرد الآلي مثلا، وانحساره في بيئة تفاعلية مندمجة بآفاق متعددة، مثل ما يمكن حدوثه في الكتابة والتكنولوجيا والألعاب على وجه خاص.

علاوة على ذلك، يطرح مشكل استلهام نصوص سردية من روايات وقصص رقمية مبتكرة بمساعدة الذكاء الاصطناعي، وتمكين تجزئة الصوت والتجارب التفاعلية والافتراضية متعددة الوسائط بالسبب ذاته، في مرحلة إنتاج المحتوى، (يطرح) تأويل البعد الأخلاقي والقيمي في الإعلام الحديث، وتطبيعه الشاذ والانتقادي لفواعل التطوير وتبرير المحتوى المنظور ، وهو ما يطرح فعلا قدرة الذكاء الاصطناعي على "نمذجة" سلوك الإعلامي ومهاراته وحالته العاطفية. واستتباعا، تفكيك بنية الدال الأخلاقي في أسلوب النشر واختيار التيمات الأكثر تداولا وتفاعلا.

صحيح أنه أصبح انتقال الذكاء الاصطناعي، من تدبير قوة الحضور كأداة لتحقيق محتوى واع بالقيمة والاعتبار، على مستوى وسائل الإعلام الإخبارية، على اعتبار تسهيل التحقق من الوقائع والأحداث المتوصل بها، بالاضافة إلى إمكانيات التحليل والفحص المتقاطع لمصادر المعلومات. لكن بموازاة ذلك، هناك أيضا توتير إبدالات المحتوى، وما تستثمر بإزائها علاقات التقابل بين دوال التزييف والبحث عن الحقيقة، وأيضا تحليل الشبكة الاجتماعية (اكتشاف المعلومات المضللة)، والتوليد الآلي لملخصات إخبارية موثوقة.

ويعتبر هذا النهج المحدد لأدوار وخلفيات الذكاء الاصطناعي، مشتلا لتوجيه ملفات تعريف المستخدم وأنظمة التوصية المدرجة ، والحلول الذكية لتقييم مصداقية المعلومات في الأخبار، والأدوات لتحسين جودة الصحافة التشاركية. وهو ما يسهم في تمكين آليات تجميع الأخبار الآلي مع تلخيصها وإعادة صياغتها بالشكل المطلوب، وجها مركزيا في صناعة الإعلام الإخباري المدعوم بالذكاء الاصطناعي.

إن انتشار المعلومات المضللة والتطرف والكراهية والعنف عبر الإنترنت، يكرس لدى الجمهور وصناعة الأخبار وقطاع التكنولوجيا، نوعا من التصادي مع أخلاقيات العيش المشترك والتلقي الآمن للمعلومات، ينتج عن ذلك كله، صراع وجود وتفكيك خصوصية المجتمعات، واندثار آثار الثقافة والأعراف على قاعدة تاريخ البناء الإنساني والعمراني.

ورغم تشكل معالم فلسفات مفارقة لمؤسسات صحفية تعمل على ابتداع أساليب ومبادئ متفق عليها، تنحو إلى البحث عن الحقيقة والدقة والموضوعية والحياد والتسامح والمسؤولية أمام قرائها ومهتمي الميدان. إلا أن أنظمة احترام الأخلاقيات في الإعلام لازالت تؤمن بمبدأ "إلحاق أقل ضرر"، هروبا أو تدافعا أو قطعا للطريق، وهو ما يبرز كعقبة كأداء لتغول الغامض في فائض "الذكاء الاصطناعي" ومخلفاته التي تعني من ضمن ما تعنيه، تدمير الذات وتشويه صورتها، في مقابل تدوير وجودها كصفة مغلقة وليس كوحدة مستقلة؟

***

د. مصـطَـفَى غَـلْمَان

لنبدأ من سؤال مهم، ونسأل ما هي مقتضيات العقل في مبدأ التفكير؟، واشدد هنا على كلمة – مبدأ – فهناك اصول تعقبها مستحدثات، واصول التفكير الثوابت التي يستند اليها العقل، وينطلق منها لكسب مناطق جديدة، ولن ننكر هناك دوران زمني للتفكير، وهذا الدوران الزمني فيه سبل لإيقافه عند فكرة ملحة، وفي سبل اخرى يتاح للمعرفة بدء النشاط الاستكشافي، ومن ثم يكون دور المعرفة كنشاط تواصل واكتساب، فهي سيرورة الاكتشاف لا تتمحور في مفهوم حتى اذا تبلور بشكل تام، والجدل الذي يقف عنده التفكير يأتي ما بعد ذلك، والعقل في مدار الفكرة ليس هو ذات العقل في مدار الحرية، والمبدأ العقلي اما في الخيار الإنساني، وهنا نؤمن بهذا العقل وافق المثالية، واما يكون في اما في الخيار الفكري، وهذا مهم ايضا حتى في افقه الجدلي، لكن الفلسفة لا تنحدر الى ركن الايديولوجيا والبعد الشخصي، فالفلسفة في افقها الاساس هي اخلاق عليا وترتفع بأفق الإنسان الوجودي، (واكثر الفلسفات تعبيرا عن الطابع الوجودي هي اكثرها حيوية، فقد اتجه الفلاسفة في اغلب الاحيان الى تجاهل حقيقة وجودهم الخاص باعتباره شيئا مستقلا عن قواهم الذهنية)1، وطبيعي هناك فارق ما بين العقل والوعي والذات الشخصية، فالشخصية هي الذات البشرية او الكائن الاجتماعي، والوعي هو النشاط التفكيري، واما العقل فهو السلطة التي تحكم مناحي التفكير المتعددة .

التفكير هو إحدى نعم العقل البشري التي تخفف فينا عناء ذلك التواصل المباشر البياني ومنع أن يكون الإنسان آلة، أو يكون في متاهة تؤدي بزمنه الميلان إلى العدم، فيفقد العقل البشري طاقته التعريفية والتفكيرية ، وصراحة في إطار الفلسفة الموضوعية ترجح لنا عقل أسميناه الكامن وقبالته عقل آخر أسميناه النشيط، والعقل الكامن هو عقل أرسطي فيما العقل النشيط هو عقل أفلاطوني، والعقل الكامن هو غير منتج بل مستهلك، وتلك سمة تاريخية في نمط ونوع هذا العقل، وقد نقف بشكل محايد أكثر حين ننصف أحد أبعاد هذا العقل الكامن، حين تكون هناك مسببات خارجية تمنع نمو هذا العقل وتطور الوعي فيه، وهذا عادة ما يكون في فضاء بدائي غير فعال وغير محفز أيضا، لكن لا نقر بأن ذلك العقل جمعيا على الرغم من  الظروف البدائية التي تحيط به، وكسل ذلك النوع من التفكير واسع تاريخيا، لكن ينعدم مستوى التحديد إلى أقصى الحدود، ولكن ذلك التفكير الكسول نؤمن بوجود ثمة بيئة حاضنة له، والبيئة المغلقة حسب شتراوس منتجة لعقل بدائي1، وهي على عكس البيئة المدنية التي ينمو ويكون فاعل فيها التفكير، وبتعدد نشاط من جهة يحتمل أفق المنطق الصوري في الإدراك، ومن جهة اخرى يكون جدليا في ابعاد نفسية خصوصا، والافق المدني هو بيئة العقل الفاعل والنشيط والمنتج، وهنا اهمية هذا العقل، وجانب الانتاج من جهة اولية يعني تطوير ابعاد الحياة، ومن جهة ثانية يكون بصفة ابداع وتجريب، ومن جهة ثالثة يكون طابع انساني مهما.

من الطبيعي العقل العلمي يفصل بين التفكير المقيد والتفكير النشيط، فالتفكير المفتوح هو علمي ومعرفي وفلسفي، وينتج قيما فكرية حتى المضادة، وكما يرى ابن سينا تثمر قوة الفكر قادرة على إحداث المرض والشفاء منه، وهذا يحيلنا إلى أن العقل النشيط يتمثل بسمة الجدل، والخطاب والواقع هما صفة تأكيد لسمة الجدل، وهي ليست سلبية إلا في التفكير الدائري المتعصب والعدائي، وفكر التجريب هو نتاج العقل النشيط، فيما انعدام التجريب يؤكد لنا بأن هناك عقلا خاملا قانعا بظروفه العامة والخاصة ولا يهتم لتطويرها، والعقل الخامل ممكن وجوده في أفق حضاري، ولا يمكن تحديد وجوده بالأفق المعزول، فأديسون يرى التفكير في العزلة أفضل من الوجود المشترك، وفي تفسير فضاء التفكير يكون الرأي مقبولا، فالضوضاء تشتت التفكير وتمنع تطوره، والتفكير الإدراكي يتصل بالوجود المشترك على عكس التفكير الحر النشاط، والذي يبحث عن نتيجة.

هناك فكرة يطرحها برنارد شو يرى المحاولة عن التوقف عن التفكير لعدة دقائق تنقلب ويكون الفرد محاصرا بالأفكار من جميع الجهات، وهذا ما ينقض صفة فالتفكير المقيد، لكن لا يمتلك منطق عام ضدها، ومن ثم هناك جانب بنيوي، والذي هو فيه مشتركات بين التفكير الخامل والتفكير النشيط، حيث الذاكرة والتاريخ تهدفان إلى تحقيق ذات النتيجة الحتمية، والعقل البشري لديه مؤشرات بلوغ النتيجة في إطار تقييد التفكير فقط، وأما التفكير المفتوح فالفكرة مقبولة نسبيا، فالتفكير النشيط يكون بلا حدود سيوسولوجيا الخيال، وقد تصاعد من الأنا الأدنى إلى الأعلى في حالة اغتراب التفكير وامتناع تقييده وذلك يسهل التفسيرات الرمزية العصيبة، وكذلك نظرية القراءة أيضا هي تمتلك دعما نوعيا لتطوير التفكير في نشاط التعرف أولا، ومن ثم في التجريب، وهذا قد تحقق في الكتابة الأدبية خصوصا ببعد التأثر والتأثير، فجيمس جويس يعترف بأن ما بلغه من إبداع مثير للجدل، بعد التأثر الخالص بطريقة الكتابة من خلال تجريب رودريكن في القرن التاسع عشر، وذلك استثمار لقول جون لوك حيث يرى بأن  العقل تمده القراءة بالتخصيص بلوازم المعرفة، فيما التفكير فيجعلنا نمتلك الافكار التي نقرأ لها،  وبالرغم من نسق  هذا الرأي فلسفيا لكن الفكرة مهمة وجديرة.

لا يمكن قبل التجربة تحديد مهمة العقل، فالعقل مركز جوهري لا يستند على قاعدة ثابتة، وهناك افكار طرحت ازاء تلك الفكرة، لكن كل منها ينطلق من زاوية، وليس هناك اتفاق على إن مركزية العقل تحسب ايديولوجيا بحد ذاتها، والعقل الحرة من يضع الفكرة في ركن نسبي وغير ثابت تماما، فالأفكار ليست تلك الحقائق الملموسة التي نتفق عليها جميعا، فمن المعقول والمنطقي من يعرف نيتشه لا يمكن ان يقول ذلك الفيلسوف شوبنهاور، لكن اذا قرأ افكار نيتشه دون اشارة مباشرة او وحدة دالة عليها، أن يفكر بأنها افكار شوبنهاور، والفارق كبير ما بين المسميات وبين التفكير فيها، وهناك فطنة وجدارة محتملة من خلال الاستمرارية والتجربة، بأن تحيل خطاب غير معنون الى عنوانه، لكن ذلك ليس بقاعدة تجريب واستمرار، بل هو نشاط فطنة ودراية، يمتلك الدقة في تحديد الخطاب، وفي اطار حركية العقل ومركزية الفكرة، فالعقل في استمرارية الحركة ليس يزعزع مركزية الفكرة، واذا كانت تلك المركزية كخطاب دال ومدلول، فالعقل بكل طاقته الحركية  لا يمكن له من اخراج الفكرة من ذلك السكون، فالمعادلة الاقليدية الثابتة في سيرورة التاريخ تبقى في الثبات خلافا لحركية العقل ووظيفته الاعتبارية في المعنى وليس في الثوابت والمسميات واليقين .

في تفسير او تحديد افق اليقين العقلي، فذلك في المجالات التي دخلت في افق التاريخ، وتحولت الى مسميات، فمن المعقول أن نفرق ما بين هيدغر كشخص وبين طروحاته في الاطار العام، لكن عندما نقرأ احد الكتب نكون في وضع بيني، فنحن نحمل اليقين لشخص هيدغر ولا نملك لما نقرأ اليقين المناسب، لكن علينا هنا ايضا تجنب سوء الفهم، الذي يقود الى متاهة، او تعدد افكار من زاوية وجهة نظر واحدة’ ونظم التفكير المتعددة تختلف عن الثوابت الفكرية المحددة، وكما اختلاف الرياضيات عن الأدب او الفنون، والفلسفة هي بحد ذاتها ذلك الفضاء الواسع المترامي، والذي يمكن تحديده الا من خلال ما حدد نفسه، ومن الطبيعي هناك نسب احتمال، ففكرة أن درب التبانة تضم الملايين من النجوم، وهذا اطار الفكرة، والنجوم التي تتجاذب فيما بينها يكون ذلك عبر الاف السنوات الضوئية، ولكن علم الفلك يرى هناك تماسك وانشداد من الجزيئيات، (سيخبرك عالم الفلك ايضا أن الكون، على عكس هدوء سماء الليل ومظهرها شبه الثابت، يموج بنشاط عنيف، فأي نجم عادي يحول ملايين الأطنان من الكتلة الى طاقة في كل ثانية)2، ويكون كل غرام مطلق يعادل الطاقة المنبعثة من قنبلة نووية، وهنا دخلنا في فكرة معقدة ما بين ما نشاهد من الاحتمالات  وما يكون من حقيقة عضوية خارج حدود المستوى البصري ومدار الزمن العضوي .

مثلما هناك احتمالات للفكرة متعددة الوجوه، فالعقل ايضا هناك احتمالات له لكنها تأتي متسلسلة، وليس كما في طبيعة الفكرة واحتمالاتها، فالعقل اولا ينطلق مركز التفكير، والذي هو في اتجاهات فكرية وادبية ومن الجهة الاخرى علمية ومنهجية، والمركز ثابت في ذاته ومتحرك في الافكار، والتفسير العضوي لا يرتبط بالعقل موضوعيا بل في اطار المنطق الصوري، وزاوية وجهة النظر تخلف تلك القاعدة، فهي في الاصول البيانية، الوعاء يختلف عما فيه، فزاوية وجهة النظر هي بحد ذاتها وعاء فارغ، لكن الاستخدام العقلي يجعلها تبدو بصيغة اخرى، وفارق كبير ما بين وعاء فارغ واخر هو مملوء، ولسنا هنا ازاء المقارنة ونضع الفارغ على جهة والمملوء في الجهة الاخ، بل نهدف الى تحقيق ثنائية متناقضة كما ذهب ذلك ديكارت وبرهن على تشكل ثنائي ما بين المظهر والجوهر، وهنا وظيفة العقل تختلف، فلابد من سبل اقناع للبرهان عند ديكارت، ونحن ايضا في تلك نحتاج الى بصيرة عليا في خلق فكرة مقبولة ازاء ثنائية الفارغ والمملوء، فالمملوء نتفق جميعا على أنه كينونة، وهيدغر يرى الفراغ ذلك ليس بعدم، والمنطق العلمي يحيل الى طرد الهواء من ذلك الاناء الفارغ، في حالة وضع اي شيء فيه، والفراغ لا يعني هنا حالة لا نهاية، بل فراغ نسبي يمكن تغييره بيسر، ومن هنا نستبعد الدلالة الفيزيائية، ونضع للدلالة العقلية اهمية اوسع .

***

 محمد يونس محمد

.................

1- العزلة والمجتمع – نيقولاي برديائف – ترجمة فؤاد كامل – دار الشؤون الثقافية – ص 59.

1- بداية اللانهاية – ديفيد دويتش- ترجمة دينا احمد مصطفى – مؤسسة هنداوي - ص12

(أعتقد ببساطة أن جزءًا من الذات أو الروح البشرية لا يخضع لقوانين المكان والزمان)... كارل يونج (1961-1875)

مع نهاية شهر جويلية تمر مائة وثمانية وأربعين سنة على ميلاد عالم النفس كارل جوستاف يونغ و وأربع وثمانون سنة على وفاة استاذه سيغموند فرويد والعلاقة بينهما اكبر من  حصرها في علاقة الأستاذ والتلميذ  فقد تميزت بأشكال من التجاذب والتنافر، والقرب والتباعد والتوافق والاختلاف. هي بالمحصلة علاقة صداقة وحب متوترة وقلقة، جسدت سينمائيا من خلال فيلم طريقة خطرة هو فيلم دراما أمريكي لعام 2011 من إخراج ديفيد كروننبرغ. حيث تدور أحداث الفيلم بين زيورخ وفيينا عشية الحرب العالمية الأولى، ويستند الفيلم في مشاهده إلى العلاقات المضطربة بين الطبيب النفسي كارل غوستاف يونغ ومعلمه سيغموند فرويد.

كان سيغموند فرويد وكارل يونغ من اهم علماء النفس في القرن العشرين كلاهما وضع منهجا لدراسة وعلاج الامراض النفسية الأول هو مؤسس مدرسة التحليل النفسي  من أصل نمساوي تخصص في علم الأعصاب اشتغل على فكرة اللاشعور واعتبره حقيقة علمية مؤكدا على ان الحفر والنبش في العقد والمكبوتات اللاشعورية من خلال منهج التحليل النفسي شرط لابد منه لعلاج المرضى نفسيا. ولد سيغموند فرويد في 6 مايو 1856. كان والده تاجر صوف وذو عقل حاد وروح دعابة جيدة. كانت والدته امرأة نشطة ومفعمة بالحيوية، وكانت الزوجة الثانية لوالد سيغموند ويصغر زوجها بعشرين عامًا. كانت تبلغ من العمر 21 عامًا عندما أنجبت طفلها الأول، سيغموند فرويد  اما الثاني فقد ولد في سويسرا وبصفته طبيبًا نفسيًا وعالمًا نفسيًا أسس مدرسة التحليل أو علم النفس العميق ولد في 26 يوليو 1875 في بلدة صغيرة على الساحل السويسري لبحيرة كونستانس، كيسويل، حيث كان والده قسًا بروتستانتيًا. و بعد أن درس كلاهما الطب، اختاروا تخصصات مختلفة، يونغ للطب النفسي وفرويد لطب الأعصاب، على الرغم من فارق السن حوالي 19 سنة، التقيا شخصيًا في عام 1907 كان لديهما اختلافات كبيرة في تاريخ حياتهما. بينما جاء فرويد من عائلة فقيرة وعمل بجد لإعالة أطفاله الستة، جاء يونغ من عائلة ثرية سمحت له بالعيش دون هموم. وفي شهر ماي 1908، اعترف سيغموند فرويد لكارل أبراهام بأنه "فقط من خلال ظهور يونغ على الساحة، نجا التحليل النفسي من خطر التحول إلى علاقة قومية يهودية".

ويقال إن الفترة الأكثر تعقيدًا للعلاقة الخاصة بين فرويد ويونغ كانت حوالي عام 1912. حيث حاول فرويد دحض نظريات يونغ بطريقة ما، كما فعل مع نظريات تلميذه  أدلر . كانت هذه بداية واضحة للجدل بينهما حيث اكد فرويد انه غير موافق على نظرياته، وأشار إلى مساهمات يونغ على أنها غير ضرورية. في وقت لاحق، حوالي عام 1920، قطع فرويد ويونغ العلاقة بينهما حيث صرح فرويد أن يونغ كان خطيرًا على التحليل النفسي بسبب التوجه الذي اتخذه.

وبعد الانفصال عن فرويد، استقال يونغ من جمعية التحليل النفسي، من منصبه  وقطع علاقاته مع جامعة زيورخ وبدا رحلته في اللاوعي والتي استمرت من 1913 الى 1918 وبدأ يتحدث عن الروح والذات والنماذج البدائية واللاوعي الجماعي. بالنسبة له، كانت حقائق نفسية موجودة مثل العالم المادي من حولنا. إضافة إلى ذلك، أسس مدرسته الخاصة: "علم النفس التحليلي"  متوجها أكثرالى الفكر الفلسفي، تارًكا إطار التوجيه العلمي الطبيعي للتحليل النفسي. في هذه السنوا ت أصبح مهتًما جًدا بالكيمياء، وفي عام  1944نشر كتابًا بعنوان علم النفس والكيمياء. وجاء في مقال بعنوان " القطيعة بين فرويد ويونغ: همومهم ومواقفهم تجاه اللغز"  لبلانكا أنجويرا ودومينجو جامعة برشلونة 2007

:" على الرغم من الانقطاع في عام، 1913كانت هناك أشياء مشتركة بين فرويد ويونغ لأنه، إلى جانب صراعاتهما واختلافهما، كان هناك  اهتمام مشترك بينهما: استكشاف الغامض، واللاوعي، والذهان، والأحلام، وفتح الفضاء العقلي أمام المجهول"

في وقت لاحق، حوالي عام 1920، قطع فرويد وجونغ استراحة واضحة للغاية. صرح فرويد أن يونغ كان خطيرًا على التحليل النفسي بسبب التوجه الذي اتخذه.

كارل يونج ومعارضته للعقيدة الفرويدية

كانت العلاقة التي كانت تربط يونغ بالطبيب النفسي فرويد  في بدايته هي علاقة المعلم والتلميذ علاقة مشبعة بقيم الحب والاحترام والصداقة، حيث شعر فرويد أن كارل يونغ سوف يديم نظريته وبدوره رأى  يونغ معلمه كشخص حكيم للغاية ومليء بالخبرة، ولكن الاختلافات بدأت عندما انتقد تلميذه الشاب نظرية التحليل النفسي للمبالغة في استخدام الجنس كأساس لتنمية الطفولة. ومن المعالم الأخرى التي ميزت الفصل النهائي بينهما اختلافاتهما في التفكير، حيث كان فرويد يتمتع بعقلية مغلقة، وبالنسبة له، كانت نظرية التحليل النفسي هي حقيقته المطلقة لا تقبل النقاش وعقيدة لا يمكن التنازل عنها. كما انتقد يونغ لإيمانه بالأسرار والخوارق والتنجيم والعقائد بشكل عام حول نظريته.  و بدأ كل من فرويد وزملائه المحللين النفسيين مثل فيرينزي في التحدث بشكل سيء عن يونغ:"  إنهم يعتبرونه "صوفيًا غير مفهوم، وعالم تنجيم"

سيغموند فرويد، اقترح أن نمو الإنسان يبدأ من الطفولة حيث قال إنه لهذا يجب أن يمر بعدة مراحل تتعلق بالمؤامرة الجنسية وأنه فقط من خلال تحقيق هذه الأهداف، سيكون للرجل في مرحلة البلوغ توازن جسدي ومعرفي ونفسي اجتماعي، ومن ناحية أخرى، من خلال عدم تلبية أي من هذه المراحل، سيواجه الشخص صعوبات في مرحلة البلوغ ؛ وقد استندت نظريته في التحليل النفسي إلى ثلاثة عوامل مثل التفسير والملاحظة وذكريات الطفولة.

منهج التحليل النفسي جذب في البداية  كارل يونج  حيث اصبح مهتمًا بعمل فرويد وواحد من ابرز تلامذته، وفي وقت لم يرغب فيه الأطباء في معرفة الكثير عن التحليل النفسي، معتبرين أنه غير علمي. قدم يونغ لفرويد ورقة بحثية عن الخرف المبكر، سميت فيما بعد بالفصام، وفي المؤتمر الدولي الثاني للتحليل النفسي في نورمبرج بألمانيا في عام 1910، اقترح فرويد على يونغ منصب الرئيس. بعد سنوات، أعرب فرويد عن أسفه لأنه اقترح يونغ لهذا المنصب، لأنه بدأ في التحرك نحو اتجاه آخر، وإنشاء اختلافات في المبادئ الأساسية. وبعد ان اكتسب يونغ شيئًا فشيئًا أهمية بين تلاميذ فرويد وأصبح يده اليمنى تم تعيينه رئيسًا لجمعية التحليل النفسي الدولية ومحررًا للكتاب السنوي لأبحاث التحليل النفسي والمرض، أصبح يونغ مهتمًا بنظريات فرويد بعد دراسته في الطب النفسي، حيث كان يبحث عن نموذج لمحاولة فهم المرضى الذين يعانون من أمراض عقلية ووجد في نظرية فرويد للقمع إطارًا لتطوير دراساته. نشر في عام 1906 "دراسة حول ارتباط الكلمات". مع مرور الوقت وعلى الرغم من ارتباطهم الأكاديمي، فإن آرائهم حول قضايا مثل الجنس والدين والاختلاف في تاريخهم الحيوي جعلت مساراتهم منفصلة إلى الأبد بين عامي 1912 و 1913.

بدأ الخلاف عندما حدد فرويد أنه يوجد في الإنسان طاقات دافعة ذاتية مثل الرغبة الجنسية، أي موجهة نحو الواقع أو تلك التي تربط الموضوع بالأشخاص المحيطين به. هذه المحركات موجودة دائمًا في الموضوعات. قال يونغ إن هذه ليست ضرورية لتعريفهم. بالنسبة له، كان الدافع هو طاقة نقية ومجردة وعالمية يمكن أن تكون جنسية أو لا جنسية.

يقول عالم النفس الإكلينيكي صموئيل ميرلانو: "ما هو مركزي بالنسبة لفرويد هو الطاقة الجنسية حيث يمكن إظهارها أو قمعها أثناء نمو الفرد، وهي أساس علم الأمراض أو الصحة العقلية"

من منظور فرويد الدوافع الجنسية تشبه محركات الحياة التي تدفع الشخص للعيش أو البقاء على قيد الحياة كل يوم. أنهم يسيرون جنبًا إلى جنب بطريقة متناقضة مع محرك الموت، وهي نظرية لم يوافق عليها يونغ، لأنه لم يكن لديه سوى طاقة دافعة عامة واحدة.

يشير ميرلانو إلى أن "هذه الطاقة العامة أو التي تسمى أيضًا القوة الحيوية المحايدة تتكيف مع ظروف أي رجل، سواء كانت ذات طبيعة فنية أو دينية أو عاطفية أو جنسية".

من اللاوعي الفردي الى اللاوعي الجماعي

أجرى يونغ مناقشات داخل جمعية المحللين النفسيين، بدأ يسافر كثيرًا ويقوم بأبحاثه حول الأساطير القديمة. وسرعان ما قدم فكرته حول  اللاوعي الجماعي، والذي يشبه  "تراثنا النفسي" إنه خزان تجربتنا، وهو نوع من المخطط الذهني الذي نولد به جميعًا ونتشارك فيه.

تسمى محتويات اللاوعي الجماعي بالأنماط البدائية، والتي يوجد منها الكثير. وفقًا لميرلانو، فهي عبارة عن نظام أفكار أو نماذج أو كلمات تجعل المجتمع يفهم القيم الثقافية والطقوس وجميع أشكال الاتصال. على سبيل المثال، المفاهيم الدينية مثل خلق آدم وحواء. بالنسبة ليونغ، الأديان هي جزء من اللاوعي الجماعي.

في مقابل ذلك أكد فرويد أن اللاوعي فردي، أي مناسب لكل واحد. بالطبع يتكون من جميع تأثيرات العلاقات التي أقامها الشخص منذ ولادته مع أشخاص آخرين. كما فصلهما المجال الديني. لم يعطها فرويد للدين أهمية كبيرة، لكن يونغ أعطى الله دورًا أساسيًا في تطوير الناس ليضعوا أنفسهم في الكون، وربما مستمدًا من التعليم الذي قدمه له والده، وهو القس اللوثري.

من مواطن الاختلاف بين فرويد ويونغ موضوع الاحلام وبنية الجهاز النفسي. ففرويد في تفسيره للأحلام فرّق بين المحتوى الظاهر، وهو ما نتذكره، وبين عمل الأحلام الذي يتجلى به المحتوى الكامن. وقسم الجهاز النفسي الى ثلاثة (الانا، الهو، الانا الأعلى) مؤكدا ان العمليات العقلية التي لا تصل إلى الوعي بسبب حجب الرقابة أو القمع. يمكن أن تظهر في شكل أمراض. ويعتقد أن هناك سلوكًا حيوانيًا تحدده الوراثة ويتم تنظيمه حول كائن معين من كل نوع يسمى الغريزة. وهو يميز بين محركين: محرك الحياة، ويسمى أيضًا إيروس ومحرك الموت ويسمى ثاناتوس أو الموت تنشأ ثلاثة افتراضات نظرية من نظرية المحركات: النشاط الجنسي في الطفولة ومراحل التطور النفسي الجنسي وهي على النحو التالي  المرحلة الفموية: السنة الأولى من العمر. يتركز التوتر وتفريغ المحرك في الفم كمنطقة مثيرة للشهوة الجنسية. المرحلة الشرجية أو السادية الشرجية: حتى السنة الثالثة. وظيفة الإخراج والاعتداءات تسبب الرضا المطلوب. المرحلة القضيبية: من السنة الثالثة إلى السادسة. يمر عبر عقدة أوديب (الطفل يرغب جنسياً في والد من الجنس الآخر وموت الوالد من الجنس الآخر). مرحلة الكمون: حتى سن البلوغ. الدوافع الجنسية نائمة. المرحلة التناسلية: في مرحلة المراهقة. تظهر الرغبات الجنسية مرة أخرى تتمحور حول الأعضاء التناسلية. يمكننا التحدث عن الانحدار إذا عاد الموضوع إلى مرحلة سابقة والتثبيت إذا ركود في مرحلة. النرجسية وفقًا لهذه النظرية، يكرس المولود طاقاته الشهوانية لتلبية احتياجاته الفسيولوجية. إنها النرجسية الأولية أو النرجسية أو الرغبة الجنسية. في وقت لاحق هناك كائن الرغبة الجنسية الموجهة نحو الأم. إذا كان يعاني من بعض الصدمات التي تسببت بها الأم، فسوف يعاني من تراجع نحو الرغبة الجنسية للأنا وستكون نرجسية ثانوية. مبدأ اللذة ومبدأ الواقع. يحكم الأداء العقلي عدة مبادئ: مبدأ المتعة. تجنب الاستياء والبحث عن المتعة كنهاية للنشاط العقلي. مبدأ الواقع. العالم الذي يحيط بنا يشترط البحث عن اللذة والقدرة على تأجيل النتائج.

في مقابل ذلك نظريات كارل يونج اشتغلت على تطوير سلسلة من المفاهيم: اللاوعي الجماعي. إنه أعمق مستوى من اللاوعي حيث يكون لخبرات الأسلاف مكان. إنه تراثنا الروحي ويتم تنظيمه حول الرموز أو النماذج الأصلية هناك أنواع مختلفة من الشخصيات عند كارل يونغ، الانبساطي: وهو شخص يتكيف مع الخارج. الانطوائي:  وهو شخصية تعطى الأولوية للعناصر والأفكار والأحاسيس الداخلية ... عندما نخصص أحد هذه المصطلحات للشخص، فإنه يحدد أي من الوظائف النفسية الأربعة تسود: الأحاسيس: هي المعلومات التي يتم جمعها عن طريق الحواس. الحدس: إنه غير عقلاني مثل الأحاسيس، ولكن يتم الحصول على المعلومات الخارجية من معالجة كمية كبيرة من المعلومات. الفكر: إنها المعلومات التي نجمعها من خلال العقل. الشعور: يعتبر أيضًا عقلانيًا وهو استجابة الانفعالات بشكل عام.

إحدى النقاط الأساسية من حيث الاختلافات هي التركيز المفرط الذي يضعه فرويد على النشاط الجنسي للأطفال. بينما يرفض يونغ عقدة أوديب، وبما أننا تمكنا من التحقق من مفهومه عن الطاقة النفسية، فإنه يعطي الرغبة الجنسية دلالات مختلفة عن تلك التي كان لديه مع فرويد، والذي أعطاها معنى جنسيًا حصريًا. بالنسبة لكارل يونغ، إنها طاقة أكثر حيوية وبمفهوم أكثر عمومية. إذا انتبهنا لمفهوم اللاوعي،وفقًا لفرويد، فإن معظم الدوافع الأساسية وما يتم قمعه كانت موجودة في اللاوعي، ومع ذلك، أكد يونغ أن الإبداع وركائز تطوير الذات كانت في اللاوعي. يختلف أيضًا التقسيم الذي يفرضه كل من البنية النفسية، وفقًا لـكارل يونغ لدينا اللاوعي الشخصي والجماعي، وبالنسبة لفرويد فإن التصنيف ينتقل من الواعي إلى اللاوعي من خلال اللاوعي. يفترض فرويد أنه بالنسبة لفردية اللاوعي، قد تكون هناك سمات مشتركة، لكنها شيء سيكون دائمًا شخصيًا. ومع ذلك، يراهن كارل يونغ على جزء مشترك وموروث من مقدمة اللاوعي. ومن ثم، بالنسبة لفرويد، الشخصية مشتقة من تراث الأجداد والأهداف التي يمتلكها كل شخص، وبالنسبة لتجارب فرويد الشخصية، خاصة في مرحلة الطفولة، حدد المبادئ التوجيهية لسلوكنا.

لم يعتبر فرويد الدين مجرد عصاب آخر، بل هو تعبير عام ونمطي اعتبره خطرًا، على الرغم من أن فكرة الدين بالنسبة ليونغ ولدت بالإنسانية ومن خلالها يمكن للإنسان أن يعبر عن نفسه ويتطور. عمل كلا المؤلفين على العصاب مختلف. وفقًا لفرويد، فإن أصل هذا الاضطراب هو الإحباط من الشعور بالرضا عن القيادة. كل العصاب سلبي. يظهر صراع بين الغرائز والواقع، ويستبدل الواقع بالخيال. إذا لم يتم حل النزاع، فإن آليات القمع والدفاع تبقي الرغبات بعيدة عن الوعي، وفي هذا الوقت يظهر اللاوعي في شكل أعراض. يدافع يونغ عن أن العصاب يمكن أن يوفر لنا إمكانية التغيير الإيجابي في حياتنا.

يفترق فرويد عن يونغ أيضا في مسألة خوارق اللاشعور والظواهر الخفية حيث أولى يونغ أهمية كبيرة لعلم التخاطر وأصالة ما كان يسمى حينها "ظواهر غامضة"، كما يظهر من عمل نشرته مجلة تاريخ علم النفس . من ناحية أخرى، كان فرويد يعارض دراسة هذه الأسئلة وربطها بالتحليل النفسي. لقد اعتبر أنهم سيلحقون الكثير من الضرر بالتحليل النفسي.

***

علي عمرون

لا يعني وجودُ تأسيسين للإسلام: (الإسلام كدين عالمي) وإسلام الرحمة (كمفهومٍ كوني) أنهما متصارعان لا محالة. فبخلاف أية نبرةٍ صارمةٍ أخرى، ليس التأسيسان المُشار إليهما منفصلين بالضرورة. طالما وُجدت الرحمة، فبإمكانها إعادة تفسير (إعادة تفهُم) كل متعلقات الإسلام المُؤرّخ، وبإمكانها كذلك أنْ تُغير أنماط الأفكار والتدين. التأسيسان متداخلان لصالح الإنسان ومن أجل إيجاد صيغةٍ أكثر رحابةً لفهم قضايا الحياة والإعتقاد والدين.

إن الجانب المعياري المفتوح يُوجد داخل الرحمة وملحقاتها بطريقة حرةٍ. فهي الأكثر انفتاحاً، وتستطيع أن تبطل عنف الأفعال والممارسات غير المقبولة إنسانياً، وتستطيع أن تنقّي اتجاهات الكراهية، وتغربل المواقف الحدية، وتُحلل انحرافات التاريخ، وتعدل التوجُهات أيضاً. وكذلك بإمكانها أنْ تقدم تأويلاً حُراً لنصوص الإسلام ومصادره.

إنَّ انتشال الرحمة من بعض تشوهات التراث الاسلامي يتم بمساءلة الأخير وتطويره وفقاً لمعايير الرحمة ونظامها الكوني ميتافيزيقياً وبشرياً. انتشال يجري من خلال تاريخ الإنسانية وداخله بالدرجة الأولى، فمفهوم الرحمة يُظلّل كافةَ جوانب البشرية، ولا يستغني عنها، ولا ينظر إليها بإزدراءٍ. إنَّه يدرك (الأخطاءَ البشرية) تمام الإدراك ويعالج القضايا بالوسع والفهم لا بالحذف والإنكار. ولعلَّ جغرافية هذا المفهوم هي نفسها جغرافية العالم بما في جوفه من معتقدات ومجتمعات وثقافات وأديان وفي مقدمتها الإسلام. وعندما تكون الرحمةُ منظوراً كاشفاً لتنوع الحياة، فهذا فحواه إضاءة الدروب الوعرة والطرق المتعرجة لأجل المستقبل. ولا يجب أنْ يكون الحد الفاصل هو العنف، لكن الحد الفاصل هو الفهم والحرية.

كلُّ ذلك الرهان الفكري وارد ببساطة مع شديد الاحتراز من السقوط في نزعة ساذجة أو استسلامية أو تبريرية. لأنَّ القرآن من زاوية الرحمة- وهو النص المصدر- لم يَقُل بذلك العنف. وهذا يعني التعامل الفلسفي الرصين مع القرآن كنصٍ قابل لانتاج مفاهيم إنسانية كبرى. ولئن كان البعض يلتزم تجاهه بنزعىة سلفية صرف، وإذا بدا أنَّ هناك آيات تمس العنف، فالرحمة ستعيد تأويلها ضمن آفاق القرآن. وأكثر من هذا، فإن كل أعمال العنف التاريخي وتنظيراته غير منصوص عليها في المصادر العملية والدينية الرصينة. وأنَّ ارجاع الرحمة إلى (مقولة الله) في الاسلام هو تدمير جذري لكل ما بُني عليها وتراكم من دلالات تكفيريةٍ واقصائيةٍ. وأنَّ الرحمة تدير عقارب الزمن إلى (نقطة بيضاء) تجاه البشر والخلائق جميعاً، تمثلُ دعوةً من الخالق إلى إزاحة ما علق بالأديان، إلى كشط الترسبات الثقافية بسكين كوني حاد.

الرحمة في القرآن

ورد لفظُ "الرحمةِ" في القرآن قرابة مئتين وثمانٍ وستين مرةً (268) بأشكال مختلفة وفي سياقات متنوعة. ولكنها تُغطي مساحةَ الدلالة الكونية والإنسانية والزمنية والاجتماعية إلى أقصى درجةٍ ممكنةٍ. وقد ذُكر اللفظ في أكثر مواضعه بصيغة (الاسم) تحديداً. حتى لا يكون ثمة جدال أو تردد من المتلقين تجاه ما يطرحه مباشرةً. فالاسم ينطلق مرتبطاً بمدلوله بألف ولام التعريف أو بمصدرية المعنى مع حقيقة المسمى.

ونحن نعرف أنَّ القرآن نصٌ مؤسِس لجوانب الإسلام، وأنَّه يقرر مفاهيم مختلفة كل الاختلاف عما هو شائع، وحتى إذا كانت مفاهيم متواترة، فإنه سرعان ما يفرغها من حمولاتها الثقافية، ويعيد إدراجها وفقاً لنظام الدلالة ورؤى الحياة العامة له. وكذلك عندما يُرسخ القرآن مفهوماً، فدلالته ترتبط بإستعماله وما يهدف إليه ربطاً بمرجعيته الكونية. ومن ثمَّ، يبدو أنَّ المعاني التي يطرحها تمثل المعاني عند الدرجة الصفر للتفكير، حيث يستند إليها جُل التفكير المسمى إسلامياً.

وهذا فحواه أنَّ الأمر بالغ الأهمية إزاء (البُعد الكوني) للرحمة، نحو قول القرآن إسماً عن الله .." إنَّه هو التوّاب الرّحيم" (البقرة/ 37) . لأنَّ الاسم يشيرُ إلى دلالة الكلمة بأصالة المُتصف بها (الإله) ، حيث لا تمْر الدلالةُ عرّضاً، بل هي عين المُسمّى الفاعل. فحينما يعْلم البشر أنَّ الإله الخالق توابٌ رحيم، فهذه الصفات هي التي تمثل (حقيقة الإله) ، لا حالة عابرة تستوجب التغيُر كما في عرف البشر مع تقلب الأحوال، إنما تستلزم اليقين بوجودها من طبيعة الإله نفسه[1].

وكذلك وردت الرحمةُ في أربعة عشر موضعاً من القرآن بصيغة (الفعل) تطبيقاً لدلالة الإسم، وكونّه ممارسةً خارج حدوده أو بالأحرى تكسر الحدود عن وعي وتروٍ، نحو ذكر القرآن بوضوح: " قالوا لئن لم يرحمنا ربُنا " (الأعراف/ 149) .

هكذا توزعت آياتُ " الرحمة" كما جاءت بالقرآن على كلّ شيءٍ في الكون:

1- الله رحمة (عين الذات) :

الرحمة هي المعادل الميتافيزيقي - الأنطولوجي لمعنى (الوسْع الذاتي الإلهي) "رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً" (غافر/7) . والوسْع ليس مجرد معنى فحسب، ولكنه وجودٍ وإرادة وفعلٍ أيضاً. وكأنَّه لا توجد أيةُ رحمة نافذةٍ إلاَّ بقدر ما هي نوع من الوسْع. أي أنَّ الرحمة تمثل الوسع بإطلاق، وتظل كذلك بضمان الخالق الواسع. هذا هو الطرح الجديد بخلاف تاريخ الرحمة ارتباطاً بمفهوم التبادل والمقايضة في بعض الأديان والثقافات. وليس مرتبطاً بالأفعال الإنسانية - خيرةً أو شريرةً- حتى تصدرُ الرحمة عن الله. ولذلك كلما تقوَّت فكرة التوحيد تقوَّت بالتبعية الرحمة، لأن الإثنان شيء واحد.

ونظراً لأنَّ الله واحد، فهو رحيم رأساً. وليس هناك إله رحيم بإطلاق في حالة تعدد الآلهة، فقد يكون الوضع مهيئاً في حالة التعدد إلى الصراع والانتقام والثأر. كما أنَّ من يستطيع أنْ يقول أنا الإله من غير منازع هو من يرحم بإطلاقٍ ويعرّف نفسه بهذه الهيئة إلى البشر ويعرّف البشر والكائنات إلى نفسه. والتسميّة هنا تسميةُ خلق لا تسمية مُسمى وحسب.

تلك لفتة في غاية الخطورة للأديان، لأن وصف الله ذاته بالرحمة يعني أنه لا يمكن لإنسان أنْ ينكرها، وفوق ذلك غدت عقيدة. الأمر يخاطب المؤمنين هكذا: مثلما تؤمنون بالله، فعليكم الايمان والامتثال للرحمة، والأدق أن الرحمة بهذا التكوين الميتافيزيقي بإمكانها أنْ تعود إلى الجذور وتشق عصا العنف والتشدد مرة واحدة. وتعطي الممتثل لها قوة إزاحة التراكم حول رؤيته وأفكاره وصولاً إلى المصادر الأولية، وهي بهذا المعنى إعلان عن حياة جديدة، رغم كون الإنسان قد بلغَ من الكراهية عتيّاً.

وهذا المعنى الفلسفي الخاص بالرحمة عبارة عن تعريفٍ وهُويةٍ وقدرة ميتافيزيقيةٍ على الفعل. لأنَّ الرحمة في الإسلام معبرةٌ عن وجود الإله في مقابل جميع الأشياء والكائنات. فلولا الله ما كان شيءٌ، إن المعنى يجري بحد الضرورة التي تعود إلى رسم المشهد من تلك البداية. والرحمة كوسعٍ هي الكفيلة بوضع الخلائق في معيِّة الإله ووجوده. والآية تقول بالرحمة على سبيل الرعاية والعناية والقيام والجُود دون إنتهاءٍ.

وطالما ظهرت تلك النقطة القصوى للوسع الإلهي، فإنَّ الله هو عين الرحمة، إذْ لو تصورنا وجوداً بلا قسوةٍ ولا انتقام فهو إثبات أنه إله. يردد المؤمنون في كافة أمورهم الحياتية: " بسم الله الرحمن الرحيم" (الفاتحة /1) . هي عبارة الإبتداء النصي والوجودي، الفاتحة للمعاني والكلام والأعمال والحياة[2]، كأنَّه لا توجد ثمة فاتحةٌ سوى بالرحمة. ولم تكن هنالك عبارةٌ انطولوجية مثلها في القرآن تبرز درجة التسمية بهذا الانفتاح.

وتأكيداً لدلالة الوسع، رَجع القرآنُ إلى أصل الإنسانِ، وهو حادثة آدم المنطوية على ذاكرتها الخاصة حين عصى الأمر الإلهي. كان رد فعل الله واضحاً داخل إطار الرحمة أيضاً: " فتلقى آدمُ من ربِّه كلماتٍ فتابَ عليه إنَّه هُو التَّوابُ الرَّحيمُ" (البقرة/37) . وآدم هو الذي تلقي التوبة، أي كانت المبادرة الإلهية بدرجة الرحمة أسبق من تفكير (آدم) في أثر المعصية. لأنَّ وسعاً إلهياً قد شمل- بحكم الخلق والإيجاد- حياة آدم وأفعاله وما لا يمكن تصوره. فكان منطقياً أنْ تمارس الرحمة دورها في جوانب حياة أبناء آدم:" ذلكُم خيرٌ لكُم عندَ بارئكُم فتَابَ عليكم إنَّه هو التَّوَّاب الرحيمُ" (البقرة/ 54) .

الرحمة بهذا المستوى تتعلق بكل معاني البارئ، أي الخالق المبدع الذي يوجد الأشياء من عدمٍ وواهب الحياة. هو مبدع الأكوان، حيث لن يُسقط أحداً من رحمته، فالرحمة من ثمَّ تُساوي الخلق كل الخلق وجه لوجه. ونظراً لأنَّ الله في الإسلام لا يتخلى عن مخلوقاته، فالمصير الذي ينتظرهم هو الخيرية انطلاقاً من التوبة. فالخير في مقابل التوبة أمرٌ إلهي بموجب كون الإله ذاته توّاباً رحيماً. اللافت أنَّ البارئ هو المسئول عن محو خطايا مخلوقاته نتيجة الرحمة التي هي منه ارتباطاً كما يقول الراغب الاصفهاني بـ (الإحسان المجرد) ، لأنها من الله إنعام وإفضال ومن الآدميين رقة وتعطُّف[3].

والخط الواصل بين البارئ والرحمة هو المناجاة، التطلع إلى الأعلى فوق الأشياء. بالطبع فإن مجرد الدعاء هو تذكير برحمة الخالق (أو الخالق كرحمة)، "وأَرنَا مَناسِكنا وتُبْ عَلينَا إنّك أنْتَ التَّوَّاب الرَّحيمُ" (البقرة/ 128) . إذ يعبر الدعاءُ عن علاقةٍ مباشرةٍ بين الله والمخلوقين، ولكن كون الله تواباً (كثير التوبة) وكونه رحيماً (كثير الرحمة)، فقد أسسا العلاقة بعين الرحمة. علماً بأن التوبة تحمل داخل طياتها فعلَ الخطايا من البشر، والرحمة تعبرُ ضمناً عن جوهر الذات الإليهة بما هي كذلك. فلو لم يعرف المؤمنُ أنَّ الله هو الرحمة، ما كان ليخاطبه بالمعنى نفسه!!

يؤكد القرآن الإعتراف الإلهي بالرحمة قصداً: " فأولئك أتُوبُ عليْهم وأنا التَّوَّاب الرَّحيمُ" (البقرة/160) . والآية تنطوي على إعترافٍ بالتوبة من قبل الله على أولئك الداعين إياه بالمغفرة. وتبدو الرحمة نوعاً من الغفران والتوبة كحالةٍ لمحو الخطايا، حتى لا تكون كلُّ رحمةٍ خاليةً من استحقاق إلهي. فهي هنا (مقدّرة واستحقاق) من عين الذات. وكأنَّ الآية تحدد نموذجاً متماسكاً للرحمة مهما كانت الخطايا لأولئك الذين يطلبونهما. وربما من المرات النادرة التي يعبر فيها الله بـ (الأنا) عن وجوده مقروناً بكونه توّاباً رحيماً خاصةً، أي أنه مَيّز وجوداً ذاتياً له هو الأولى بالتجلي الدائم. والأنا هو الفيصل لاعتبار الرحمة بالغة الفعل من باب: أنَّ الأنا الإلهية مطلقةُ التحقق والمعنى. والله يحُول دون تطفل القضايا الإنسانية المُضافة إلى وجوده عرضاً مثل: الشفقة واللين والموائمة والتصالح والتساهل وغيرها، فجاء الله رحمةً. إن الله هو جوهر الرحمة، والرحمة هي جوهر ذاته دون مبررات أخرى.

ولا يخفى على القارئ أنَّ الذات الإلهية من تلك النقطة تتصل بوحدانيتها في الإسلام. يعبر القرآن: " وإلهُكُم إلهُ واحدٌ لا إلَه إلّا هو الرَّحمن الرَّحيم" (البقرة/ 163) . إذ تستبق الرحمة دوماً إساءةَ الفهم أو التقدير في شكل بذلها دون مقابل، وأن المقدّس المانح للرحمة قادرٌ عليها بلا مقدماتٍ ولا شروط. ولذلك تعدُّ الرحمة من جنسْ التوحيد في الإسلام. إنَّ الرحمن هو الواحد ولا شيء سواه، وهنا تأتي المسئولية بالنسبة للأفراد من واقع الإيمان. لأنَّ كل فعل إيمان يستند بطريقةٍ أو أخرى إلى فعل رحمة الذي هو فعل توحيد. وينسب القرآن (حد الإله) إلى البشر (إلهكم) من باب الإطمئنان، ومن ثمَّ ينسب الله الرحمةَ إليه بالمثل (الرحمن) .

المقصود أنه لا تظنوا أنَّ ما تؤمنون إلهاً غير رحيمٍ، وأنه سينزل بكم العقاب لا محالة. فالأمر بالعكس، يؤكد القرآن" يُحببكُمُ اللهُ ويَغْفر لَكُم ذُنُوبكُمْ واللهُ غفُورٌ رَحِيمٌ" (آل عمران/ 31) . والحب بمثابة (النسغ الأصيل) الذي تنهل منه الرحمة معينها الذي لا ينضب. فالحب يصلُ إلى شفافية الوجود إزاء الآخرين. ويرفع الله مستوى التوقُع لدرجة مبادرته هو ذاته بالحب تجاه الناس، فالرحمة من تلك الجهة تكسر (التراتب المطلوب) لفعل الغفران بمعناه اللاهوتي، حين كان تاريخُ الرحمة لوناً من التذلل والتمسكن واستعطاف سلطة أعلى. لكن الآية القرآنية تضع فعل الحب خلفية ًكمصدرٍ للرحمة، وكأنَّ الرحمة فعل (حُب حر) ، فعل هبة للوجود، وذلك لمجرد وجودنا في نطاق أُناسٍ ما، أناس يقفون مع الرجاء صوب الآخر جنباً إلى جنبٍ.

2- نبي الرحمة:

أبلغ توصيف لعلاقة السماء بالأرض أنها علاقة رحمة بالدرجة الأولى. وليس يدركُ ذلك إنسانٌ قدر ما يدرك صاحبُ الرسالة، فما بالنا بمصدر الرسالة (الله) .. "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِين" (الأنبياء/ 107) . ما يهمنا بجانب ما قيل: أنَّ القرآن ترك بصمة القائل (الله) في الكاف بنهاية أرسلنا (ك) مع ورود الرحمة كغاية حصرياً (أي تفيد الحصر والتأكيد بالوقت عينه) .

لقد حرص الله أنْ يكون ذاته موجوداً لغوياً هو الفاعل بالخطاب الرحيم، وترك النبي في الخلفيةِ على هيئة مخاطب غائبٍ (أرسلناك) ، وكانت الرحمة هي القصد الكلي للقول والرسالة. والمغزى أنَّ الرسالة هي الرحمة بعينها لا غير، وأنَّ النبي يجب عليه أنْ يتمثل دائماً كونّه رحمةً، وأنَّ الرسالة التي يحملها خارجة من هذا المصدر لكل الناس حتى الأعداء[4].

الأخطر في الآية أن الرحمة تتجاوز الإختلافات الطبيعية والبيولوجية والثقافية بين البشر، أي أنَّ مفهوماً للدين لا يستوعب (عن قصدٍ) معنى الرحمة وطرائقها وبنيتها وغايتها حتى وإن كان مفهوم الدين هو الإسلام نفسه. والآية تقول إنه ربما سيكون الإسلام فريسة للأيديولوجيات والطوائف والنحل والمذاهب، ولذلك فدلالة الحضور الإلهي (الكاف) تُعلِّق إمكانية التحكم في الرحمة، ولن يترك فرصةً لوضعها في شروط خاصة وأنَّها تعلو كونياً على كافة ترتيبات المذاهب. والآية تؤكد حرصاً على كونية الرحمة بقدر حرص الإله عليها، حتى وإنْ كان الوسيط (النبي) موجُوداً ويجسدها.

ولكمْ صوَّر أصحاب المذاهب أنَّ الرسالة مشروطة إيمانياً في التاريخ، غير أن المعنى الخاص بالآية يحطم هذه الصورة أو تلك. وبمجرد ذكر العالمين يأخذ المعنى قوسّه الأوسع دوماً، ولن يعود على مطية الأيديولوجيا أو السياسة، إنما سيذهب لكل "آخر كوني". و هذا المعنى هو معنى يعرفنا أنّ هناك عالمين لا عالم واحد، عالم ظاهر وآخر باطن. فلئن كان البعض يتحيّن رؤية الشفقة في عيون أقرانه طلباً للرحمة، فما بالنا بمن لا نعرف ولا نُدرك من كائنات، وهم جزء من كوننا الفسيح الخارج عن نطاق السيطرة البشرية.

تبلغ الرحمة شأنا كونياً خطيراً، لدرجة أن الله - بلفظ القرآن- يُخرج الرسول من معادلة الرحمة لو وَجَدَ في نفسه شيئاً من الناس. وهذا ذروة الاقرار الإلهي لمعنى الرحمة إجمالاً، " فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ " (الأنعام / 147) . والفكرة تعالج هواجس المخالفين في الإعتقاد أيضاً، وليس المخالفين في التوجهات داخل الدين الواحد فقط. وبخاصة أنه ليس من حق أحدٍ أنْ يمنع رحمة الله حتى وإنْ كان رسولاً حامل الرسالة. فلا يمكنه أنْ يتدخل في المعنى الكوني للرحمة، لأنّها أكبر مما يحتمل بمنطق ما يُحمّل أيضاً. والمفارقة أنَّ نبي الإسلام هو الصاحب الرسالة، ولكن رسالته تقول بالرحمة التي لو اقتضى الأمر أنْ تخرج عن مسارها الاعتيادي لفعل اللهُ ذلك. أي أنه يمكن للرحمة أن تهدم أي شيء يقف في طريقها ولو كان منصوصاً عليه في رسالة السماء، وهذا شرط يُقدم نفسه على أية شروط أخرى مهما كانت من صميم الرسالة الإلهية.

ولئن كان النبيُ قد شعر بغُصةٍ من صدود الناس، فعليه أن يتذكر أن الرحمة سابقة على ما يشعر به، وأنه ليس مرجعها الخاص، ولكنها تعود إلى الله "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ" (آل عمران /159) . والرحمة تمثل فعلاً نبوياً وسيطاً، لكيلا يظن ظانٌ أن الرحمة قد تتقهقر عن كونيتها في وقت من الأوقات. وتلك الفكرة بعيدة الجذور فيما يطرحه الناس من تصوراتٍ، وتبدو كأنَّها مادة إنسانيةً خالصة بالفعل. فالله يقول: إنه حتى ما جادت به (النبوة) في شخص الرسول، إنما كانت نتيجة الرحمة التي هي مصدرها الله. وأين تكون؟ إنَّها موجودة في داخل النبي ذاته؟ أي حتى أن ما يمتلكه النبي من أخصِ ما يملك، سيكون هناك وجود لرحمة إلهية داخله.

واتساقاً مع ذلك،" فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ" (النساء /175) . وفي هذا الصدد، يُحيّد القرآن الرسول نفسه كي يلتقي الإنسان بالله مباشرةً، فلم يأتِ على ذكر الرسول، ولكن الإيمان يفتح المجال مع مصدر الرسالة بخلاف أي شيء آخر. والرحمة لا تحتاج استئذانا ولا تقتضي توقيفاً تحت المساءلة، لأن الإيمان يجعلها في هذا السياق صلاحية كونية مفتوحة.

والنبي (مثل سائر المؤمنين) عليه أنْ يتحيّن معنى الرحمة: "رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إنك أنت الوهاب" (آل عمران/ 8). فطلب الرحمة يأتي من نقطة قُصوى تعلو كافة الكائنات والأشياء مثلما كانت إنطلاقتها. تعلو بالمنطق نفسه مع قدرتنا على التمييز، لكونها أوسع مما نتخيل ولكونها مادةَ الإيمان الأولى فيما تقول الآية. وهي الدرجة المؤشرة إلى لون من الهداية دون زيغ. وتعلن الآية أنَّ الرحمة mercy هبة gift، والهبة من تلك الجهة تجري دون مقابل ولا ترقب النتائج. أي أنَّها منحةٌ لا ترد ولا تقدر إلاَّ بذاتها المعطّاه للإنسان[5].

والإشكالية أنَّ الرحمة والهبة لا تُصنفان عادة على أساس العلاقات الإنسانية أو على قاعدة المقابل الذي يوازيها، هما كلمتان خارج حدود الهيمنة أيا كانت عناوين الدجما التي ترعاها. ولذلك حرصت الآيةُ على تسمية الله بالوهاب كواهب للرحمات والنعم دون حدود. والتسمية نوع من الإقرار إلى كلية الرحمة طالما كان هو الله. وليس يوجدُ لدى البشر ما يُسمى بالوهاب حصراً، لأنَّ الإنسان ينخرطُ في بذل الرحمة طالما يستطيع. والأية تستحثه أنْ ينتظر الهبة المطلقة في معانى الرحمة: عليك أنْ تكون لديك قدرة هبة لا قدرة استئثار، قدرة بسط لا قدرة قبض.

3- كتاب الرحمة:

لأول وهلةٍ في تراث الأديان أنْ يكون الكلامُ رحمة بين دفتي كتاب. قد نعرف أن سلوك الرحمة يبدو كحالة بين قوسين في رتم الحياة المشتركة، وقد يكون حثاً على حالة من التعايش بين البشر المختلفين، ولكن أن يكون النص الإلهي ذاته رحمة، فهذا مفهوم جديد ليس ينال منه أيُّ تأويل عنيف لعباراته وآياته. يقول القرآن: " وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَىٰ إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ" (القصص /86) .

وهذا أقصر تلخيض لكل كتاب وحي، فمن باب الرحمة جاءت الكلمات والمعاني والمبادئ والتعاليم والشعائر. ويقف القرآن مباشرةً منذ لحظته الأولة في وجه الاستحواذ على الكتاب. سواء أكان القائمون بذلك هم المسلمين العاديين أم المؤدلجون أم الفقهاء[6]، فلن يكون مشروعاً ناجحاً بحال، لكونه يخالف نقطة الإنطلاق. والمعنى هنا كوني وأصيل، لأن الكتاب جزء من الرحمة بصيغة المجهول هكذا. والكتاب دال يعبر عن القراءة كفعل رحمة ومعرفة وفهم معاً.

والمدهش أنْ تصبح القراءة رحمة هي الأخرى وربما تعد الفكرة (أقصى تحول) قد يحدث في مفاهيم التعايش والحب وقبول الآخر. وهو تحول يقطع الطريق على توظيف النصوص المقدسة لقطع الرقاب وتمزيق الأجساد والإرهاب والتنابذ بالهويات الدينية. وليس هذا خطأ في الطريقة والأسلوب، بل هو خطأ في المبدأ ذاته، وهو يساوي التعارض مع دلالة الله وقدرته الوجودية في الاسلام. "مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ، فَلَا مُمْسِكَ لَهَا" (فاطر/2). فالرحمة التي يصعب إمساكها، ولاسيما أنَّ الكتاب مستمر في التاريخ بحكم اللغة وبحكم قدرته على تأويلات الرحمة مادام هناك إنسان وعوالم مختلفة.

قد يُقال: لماذا تكون الرحمة كتباً مقروءاً ومنظوراً؟ وهل ثمة أمر ما يستوجب الرحمة؟ هذان السؤالان استفهامان منطقيان تماماً، بحكم تفكير الإنسان وشعوره الطبيعي بالاحتياج للرحمة. وهذا ما يستند إليه القرآن في إطلاق إنسانية المعنى لكل البشر لا يتوقف على الخطايا: "رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًاً" (الكهف/ 10) . فطلب الرحمة والإنتظار المعقود لها أمران مهمان لتلقي الهبة. وليس الطلب هنا استعطافاً ولا إثارة للشفقة، لأن كتاب الرحمة مفتوح للجميع وليس متوقفاً على استدرار الرحمات من الله.

تختلف الرحمة (بهذا المعنى) عن الرحمه في تاريخ اللاهوت، لأنها في القرآن كتاب موثوق لا حادثة، نص لقانون كوني لا استثناء، ورغبة من المؤمنين والتقاء مع هبات الله لا تذلُّل، وتراحم حُر لا استعطاف وتملق. والمعنى هنا لا يلوي على نقيضة (القسوة والعنف) . لأنه لو فعل ذلك، لكانت للرحمة قيودٌ تتكبل بها في غير حالةٍ، ولن يستحقها أناس بخلاف غيرهم. فكل قيد سينعكس على صاحب الرحمة وسيحد من قدرته، وهذا أحد أسباب أن الله قد أطلق معنى الرحمة.

تلك هي الرحمة التي يستحقها في الزمن: (من يكون ومن كان ومن سيكون) على امتداده: "قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ" (56:/ الحجر) . ذلك لأنها مرتبطه بالمصدر وكما أن الكتاب يحتاج قراءة حقيقية ومثابرة، فكذلك لن يقنط أو يحبط من عدم بلوغ الرحمة إلاَّ من لم يستطع القراءة جيداً، إلاَّ هؤلاء الذين لم يفهموا الرسالة جيداً، وإلاَّ من لم يتمكن من فك شفراته الإلهية الإنسانية. وأن تجنب الرحمة أو إساءة القراءة يعدُّ ضلالاً لا يحول مع ذلك دون استحقاقها.

" كَتَبَ على نَفْسه الرَّحْمةَ ليَجْمعنَّكم إلى يَوْم القِيَامَةِ لارَيْبَ فيهِ" (الأنعام /12) . ماذا تسمى الكتابة على النفس وبخاصة من الله؟! هل هي ضرورة وجودية؟ كيف يكتب الله المطلق شيئاً ذاتياً يخص به ما هو نسبي؟ الرحمة هي الشرط الوحيد تقريباً الذي يضعه الله على نفسه، كأنه يبطل تصوراتنا العنيفة حول ذاته لصالح رحمته التامة. والشرط من قوة الشارط وقدرته على انفاذه كقانون إلهي، فليس معقولاً في الإسلام أنْ يشرط أيُّ مخلوقٍ الرحمةَ على الله، ولكن الرحمة بمثابة القوة التي تمثل (قدرة القدرة الإلهية) ، لأنَّها تكتب وجودها على خالص الأكوان.

وفعل كتب فعل ماض، أي أمر محتوم بالرحمة منة حيث لا يكون حتم على الذات الإلهية من أية كائن كان أو سيكون. فلو قال الله يكتب الله على نفسه الرحمة لكانت أمراً طترئاً ولوقال سيكتب على نفسه الرحمة، لكانت الكتابة خاضة للظروف والأحوال. ولكنه أكدها بصيغة الماضي ارتباطاً بالذات وقدمها.

وفي سياق آخر ربط الله الكتابة بفعل وتحقيق السلام والتواد والتسامح إزاء الآخرين: " فقُل سَلامٌ عليكُم كَتَبَ ربُّكُم على نَفْسه الرَّحمة" (الأنعام /54) . وفي الآيتين (كتب على نفسه) ، وذلك أمرٌ دال على منتهى التوحيد بين المعنى والفكرة، كأن الله من حيث الكتابة على نفسه لم يتح فرصة للتفكير فيما دونه، وكذلك لاعتبار الناس جزءاً حيوياً من وجوده. ومن ثم قضى الله بالرحمة على خلقه، حتى وإنْ أخطأوا وأذنبوا بقول الطبري[7]. فما مدلول أنْ يكتب على نفسه رحمة جامعة لغيره؟! أنَّ فعل الكتابة عمل خالق، أوجد الناس وقد تمت الرحمة بهم رأفة بالبشر كل البشر. لأنَّه لم يحدد أُناساً بعينهم يستحقون ذلك، لكنه كتب الرحمة لمنْ يكون وكفى.

***

د. سامي عبد العال

............

[1]- لو ثمة مقارنة باليهودية، سنجد أنَّ الذات الإلهية في اليهودية مثلاً كثيراً ما وُصفت في حالة صراع مع الشعوب الأخرى: " اِقْتَرِبُوا أَيُّهَا الأُمَمُ لِتَسْمَعُوا، وَأَيُّهَا الشُّعُوبُ اصْغَوْا. لِتَسْمَعِ الأَرْضُ وَمِلْؤُهَا. الْمَسْكُونَةُ وَكُلُّ نَتَائِجِهَا. لأَنَّ لِلرَّبِّ سَخَطًا عَلَى كُلِّ الأُمَمِ، وَحُمُوًّا عَلَى كُلِّ جَيْشِهِمْ. قَدْ حَرَّمَهُمْ، دَفَعَهُمْ إِلَى الذَّبْحِ. فَقَتْلاَهُمْ تُطْرَحُ، وَجِيَفُهُمْ تَصْعَدُ نَتَانَتُهَا، وَتَسِيلُ الْجِبَالُ بِدِمَائِهِمْ. وَيَفْنَى كُلُّ جُنْدِ السَّمَاوَاتِ، وَتَلْتَفُّ السَّمَاوَاتُ كَدَرْجٍ، وَكُلُّ جُنْدِهَا يَنْتَثِرُ كَانْتِثَارِ الْوَرَقِ مِنَ الْكَرْمَةِ وَالسُّقَاطِ مِنَ التِّينَةِ".. (التوراة، سفر أشعياء، الإصحاح الرابع والثلاثون) .

[2]- أبو الفرج الدمشقي الحنبلي، تفسير الفاتحة، تحقيق سامي بن جاد الله، الرياض: دار المحدث للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1427، ص ص 22-23.

[3]- الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن، تحقيق وضبط محمد سيد كيلاني، (بيروت: دار المعرفة للطبع والنشر والتوزيع د. ت) ، ص 191.

[4]-Haya Eid, Muhammad: the Prophet of Mercy, New Vision for Translation and Culture, (Cairo, Egypt, 2012) , P41.

[5]- لعلنا نلاحظ أن عطاء الرحمة يخالف نمط الهبات المتداولة في المجتمعات البدائية القديمة، حيث كانت الهبات تقتضي رد الجميل في نسق رمزي يحكم المسألة اجتماعياً، وأحياناً يكون الإنسان المتقبل للهبة مديناً روحياً وجسدياً لصاحب الهبة ويقع تحت سيطرته السحرية والدينية.

Marcel Mauss, The Gift: The Form and Reason for Exchange in Archaic Societies, Translated by W.D.Halls, With a foreword by Mary Douglas, (London and New York: Routledge, Firest Edition, 1990) , P16.

[6] - وحتى على مستوى التشريع والفقه كانت الإجتهادات الفقهية في الاسلام باباً للرحمة، وأن الاختلاف حول الأمور الحسنة والقبيحة ومناط الحلال والحرام أحد موجبات الرحمة والرأفة والأخذ بيد الناس إلى الخيرات. وتوضيحاً لذلك، ناقش أبو عبد الله الشافعي الاحكام الفقهية باختلاف المذاهب في مسائل العبادات والاجتماع والسياسة والحدود وغيرها وبيان الرحمة فيها.

راجع: أبو عبد الله العثماني الشافعي، رحمة الأمة في إختلاف الأئمة (بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1987) .

[7] - محمد بن جرير الطبري، تفسير الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، الجزء الحادي عشر، تحقيق وتخريج الأحاديث محمود محمد شاكر، راجع الأحاديث أحمد محمود شاكر (القاهرة: مكتبة ابن تيميه، الطبعة الثانية د.ت) ، ص 392.

إن مهمة الفعل الثقافي تتمثل في عملية صناعة الحراك (الديوجيني) ـ نسبة إلى الفيلسوف ديوجينس ـ (والزوربوي) ـ نسبة إلى بطل رواية نيكوس كزانتزاكي التي تحمل الاسم نفسه ـ الغاضبين، والقدر نفسه من (تشاؤميتهما) الهادمة والفاعلة، وليس وفق تسلطية الأكاديميات الخاملة والكابحة، بسبب روح (النظام/ الاقتصادي) الذي أسست على مفهومه وأودع فيها أو في روعها، إن توخينا الدقة.

ومثلما يمكننا أن نقول إن الأكاديميات أو الجهد الأكاديمي عجز عن تخريج شعراء وروائيين وكتاب مسرحيين محترفين، عبر تدريسه لتقانات وأشكال وشروط هذه الأجناس، الفنية والمعرفية والنقدية، وهي تعد - الأجناس الأدبية - أحد أهم عناصر وأدوات الفعل الثقافي، إلى جانب الفن والموسيقى، فإنه يمكننا القول إن تلك الآداب والفنون جاءت من حراك ثقافي (فطري) أنتجه شعراء وكتاب لم يكملوا تعليمهم ولم تتوفر لأغلبهم حتى طاولات للكتابة عليها. وهذا يعني، بطريقة ما، أن الفعل الثقافي ليس عملية تنظيم أو عملية خلع معنى على وضع ما، كالذي تحاول عجلة التصنيع فعله عبر سلسلة تجديدها للحاجات وسد فراغاتها عبر إنتاج الحاجات الاستهلاكية لها، إنما هو عملية ارتكاب حرة ومقصودة في جسد الأنظمة، مهما كانت مصادرها، وإحداث (التشوهات) الواعية فيها، بعد سلخ جلودها التي تقرأها بصيرة الإرادة الإنسانية الواعية، على أنها جلود أفاع مستهلكة أو منتهية العمر أو الصلاحية ولا بد من استبدالها… أو حان وقت استبدالها، على وجه الدقة.

ولنبقى في فكرة جلود الأفاعي هذه لنقول، تأسيساً عليها، إن فعل الإزاحة الفطري، الذي تمارسه الثقافة، يأتي كعملية نقض لخلل في النظام، وإلا فإن أغلب الكائنات تولد بجلود واحدة وتموت فيها وبدون تغيير، فلم الأفعى من بين القلة القليلة، وربما الكائن الوحيد، الذي يحتاج لنقض قانون أو نظام جلده؟

وتسعفنا الأفعى هنا بفكرة التهشيم الاقصائي والتحرر من أعباء القديم البالي وتحشرنا ـ مرغمين ـ تحت قوس الرؤية أو في زاويتها الوحيدة لنمارس حريتنا في فعل الخلق، الذي في متناولنا أو متناول إمكاناتنا العقلية الحالية. وهذا هو الوضع الذي فطر عليه العقل الانساني، منذ لحظة خروج (جلجامش) ـ في الأسطورة القديمة ـ للبحث عن عشبة الخلود.. لم تكن في توديعه لتلك الرحلة كاهنة المعبد وإنما (سيدوري) صاحبة الحانة، وهذا يدل على أن صولة التطلع كانت لما هو ثقافي/ تشوفي وازاحي، وليس لما هو تكريسي وترهيبي/ قمعي (لاهوتي).

ولكن، ولاصطدام (المثقف، الأديب، الفيلسوف) بـ (جدار اللانفاذ) منذ تلك (اللحظة القديمة للعقل البشري)، تحول الدور (القيادي/ التفسيري) واللاثوري إلى كهنة اللاهوت الذين أزاحوا المثقف وجهده الثوري إلى جبال التطلع وعزلة الرفض.

ولكن ما هو (جدار اللانفاذ) هذا الذي اصطدم به الفعل الثقافي ولماذا عجز عقل الإنسان أمامه وعن اختراقه؟ هل هو جدار عجز فعلاً؟ لماذا استطاع العقل الإنساني النفاذ عبر ممره العلمي وعجز عن النفاذ عبر ممر (الحاضنة التهذيبية، الفعل الثقافي) لهذا العلم؟ ربما لأن هذا الثقافي هو حسي ومشاعري صرف وغير قادر على الانسجام مع قوانين العقل أو مقاوم لها ولاشتراطاتها الحسابية ـ المادية؟

بمعنى أن الشجرة التي خصف منها آدم وحواء على عورتيهما، يجب أن تبقى شجرة وأن تنتج بذرة شجرة لكل واحد من ذريتهما، وبغرض الأوراق نفسه، وأن تبقى الغابة من وراء تلك الأشجار مراحاً (للخصف) ولما قبله، وليبقى شيطان وأفعى الغواية يجولان في أطرافها بكل عبثية ولا مسؤولية! أليس هذا هو ما تأسست عليه الايديولوجيات الدينية واستمدت منه مشروعيتها وديمومتها؟، فلم لا يكون (الثقافي) بالدورة نفسها ويلبي بالطريقة نفسها، جانب الحاجة له: الطفو على قوانين المنطق أو اتباع قوانين الطبيعة، التي سمحت لبعض كائناتها بالتطور وأهملت البعض الآخر ليواصل بقاءه بالآلية نفسها، كبعض العظاءات والحشرات المغرقة في الغباء والتخلف، على صعيد الشكل وطرق الإداء، وغير قادرة على التعلم والتكيف، كالإنسان وأصناف الطيور والحيوانات المفترسة والقرود التي تطورت؟

وهنا نحن بصدد تحديد ملامح الجهة التي قررت تلك الارتباكات ورسمت أشكالها، واستناداً إلى الشكل الأسطوري الذي رسم قصة الخطيئة الأولى، وأصناف الارتباكات التي رافقتها: إغواء تتبعه خطيئة، يترتب عليها غضب وطرد، ثم سقوط من حدائق نهر العسل لتتبدى للإنسان، وللمرة الأولى، سوءته، في غابة وفي عصور ما قبل يقظة العقل البشري، أي قبل اختراع الأقمشة ومكائن الخياطة، فيضطر إلى الاستعانة بأوراق الأشجار ليغطي بها، أول خطوات وعيه بكينونته: عورته، مصدر لذته الجنسية ومصدر بقائه في حياته الجديدة (آلية وأدوات تناسله).. لم لم تكن لحظة ذلك الاكتشاف لحظة وعي وكشف معرفي وثقافي، خاصة أن العقل الإنساني كان مازال بكراً ونقياً ولم يكن مكمماً (بالسلطات والمحددات الايديولوجية والسياسية على وجه التخصيص)، بدليل بحثه عن بديل للقماش في أوراق الأشجار لستر عورته؟

أن يكون الإنسان قد عاش قبل الخطيئة الأولى عارياً في الجنة، من دون أن ينتبه إلى خجل عورته، لا يعني أن حس غرائزه كان منوماً أو غير معروف لديه، وأن أحاسيسه الغريزية قد استيقظت فجأة كنوع من العقاب الذي تبع الخطيئة، لأن هذا سيعني أن الإنسان كان مسلوب الوعي، وأن وعيه وثقافته قد تكونت فجأة وفي لحظة واحدة. وقبل خطيئته والوعي الذي تبعها، ماذا كان يعمل وبأي وعي كان يتصرف؟ كان يعيش ليأكل كالبهائم؟ من أين جاءه الوعي الذي يؤهله إذن لتقبل إغواء وإغراء منافع أو امتيازات ما بعد الأكل من شجرة الحكمة أو المعرفة؟

هذا هو مصدر الارتباك (الثقافي) الحاصل، وهو انقسام أو توزع الوعي والبنى الثقافية ما بين فروض أو احتياجات الحس الغريزي وقوانين العقل واشتراطات منطقه؛ وهذا الارتباك ناجم عن أن كل جانب من الجانبين متمسك باحتياجاته ويسعى إلى إشباعها، وأن غلبة أي جانب على صاحبه تعني، بالضرورة، حالة عدم استقرار تدفع باتجاه العودة إلى الجانب المغلوب من أجل إحداث حالة من التوازن بين حضورهما في سيرورة (الوجود الذاتي وكينونته) في الانسان.

ولنأخذ هنا فكرة، الروائي اليوناني، نيكوس كزانتزاكي، التي طرحها في روايته الشهيرة (زوربا)، وبشكلها المجرد كفكرة، لا بمدلولها المباشر، إذ يقول زوربا لمعلمه مستثمر المنجم:  دعهم نياماً ولا توقظهم يا أستاذي.. فماذا ستعطيهم إذا ما أيقظتهم وأشعلت النار في أفكار تطلعاتهم؟ ديمقراطية وحقوق إنسان ونقابات عمال وعدل اشتراكي في توزيع الثروات؟ سيتمرد الجميع على الجميع وعلى كل شيء، وستطمح الدجاجات إلى التحول إلى ديكة… والسؤال هو ـ بمعناه ومقصده المجازي طبعاً: ما جدوى أن تتحول الدجاجات إلى ديكة مادام الحقل لا تنقصه الديكة؟ وعليه يصبح سؤالنا الثقافي وبالمقصد نفسه من المجاز: لماذا تتحول الدجاجات إلى ديكة، مادامت الديكة تصرخ في كل زوايا الحقل، ومادامت الدجاجات المتحولة لن تزيد بشيء على ذلك الصراخ، وربما حتى لن تصل إلى طبقته الصوتية أو نغمته من الأساس؟

والآن يكون عرضنا هذا قد أوصلنا لبداهة السؤال: ما هي الإشكالية الثقافية التي نعانيها وتشدنا بعيداً، وتسرف في إبعادنا لتحيلنا إلى أشباه لمساح قصر (فرانز كافكا)، وهو يدور متبدداً تحت سلطة القصر والمحكمة؟

لقد أضحينا نعيش حالة توزع ثقافي ـ بلا وجه ـ بارد إلى الحد الذي لا يستجيب فيه لأي متغير أو أثر، رغم أن ظاهر (ملمسه) لا يدلل على حالة موت يستوجب كتابة نعي أو إصدار شهادة وفاة..، وهذا التوزع (أو حالته) لم يعد يؤهلنا لإنتاج فلسفة تصنف مشاكلنا، على أقل تقدير. وهذا يعني، في المحصلة، أن الجهد الثقافي يجب أن يتأسس على جهد فلسفي بالأساس، وهذا ما حصل بالحراك الثقافي الفطري، في عصور الإنسان الأولى (عهد الأساطير الأولى التي تولت تفسير الوجود ووجود الإنسان)، وعليه فهذا هو ما يعاني نقصه المشروع الثقافي العربي: ركائز الفلسفة، ولكن ركائز الفلسفة (الفطرية)، أي غير المؤدلجة أو المنسوج لها (خصف العورة) المسبق: أي حرية التفكير والفكر والتأسيس المعرفي والثقافي.

***

دكتور سامي البدري

كان سقراط أوقع نفسه في ورطة بتحقيقاته وأسئلته المتواصلة عن السلطة. هو أزعج  زملائه المواطنين كثيرا حتى انتهى به الأمر الى المحاكمة. وبالنهاية هو قبل بعقوبة السم بدلا من التهرب من القانون والذهاب الى المنفى.

وبينما هناك القليل من الفلاسفة تحلّوا بنفس شجاعة سقراط، لكننا عموما نبقى في شك حول مسألة اللجوء الى السلطة. نخشى ان هناك الكثير من مدّعي السلطات هم من المخادعين الذين أوكلوا لأنفسهم هذه المهمة دون معنى. لابد من تسليط الضوء والبحث الدقيق والتحقيق في الحكمة المعطاة. لابد ان نسأل عن أسباب، عن دليل، عن حجة. الحجج يجب موازنتها مع مزاياها وليس مع اصولها. الناس السيئون يمكن ان تكون لديهم آراء جيدة، والناس الجيدون يمكن ان تكون آرائهم سيئة. السؤال المشكك بالسلطة "منْ له سلطة القول" هو شائع جدا بين النسبيين الأخلاقيين.

في بعض السياقات، يبدو من المنطقي الإجابة بنعم  وافتراض ان هناك شخص ما لديه سلطة "القول"، او إملاء الحقيقة. فمثلا، المحكمة العليا قد تكون لديها سلطة القول فيما اذا كانت بعض القوانين دستورية. وببساطة اكثر، الوالدان لهما القول في تقرير وقت النوم عند الساعة الثامنة مساءً. في هذه الحالات، يتم القرار من جانب سلطة ملائمة. لكن الأسئلة الفلسفية تختلف عن هذا. نحن غير قادرين ان نقرر،مثلا، ما اذا كانت لدينا رغبة حرة او البت في مسألة وجود الله. ومهما كانت الحالة، لا توجد هناك سلطات ملائمة نفوض لها اتخاذ هذه القرارات. اذا كان لدينا زملاء فلسفيين رائعين، اكثر اطلاعا واكثر أناقة وفضيلة. لكن من المؤسف ليس لدينا زملاء لديهم السلطة في تقرير ما اذا كان الذهن هو الدماغ ذاته.

ربما لدينا سبب كاف للتشكيك في مصدر السلطة الاخلاقية. القلق الواضح هنا هو ان هناك اسبابا ذاتية هائلة تجعل من ادّعاء أخلاقي لشخص ما مرشدا لسلوك الآخرين. لنسمي هؤلاء اصحاب السلطة الاخلاقية  بـ معلمي الاخلاق. ليس من الصعب الاعتقاد بان هؤلاء معلمي الاخلاق الذين يتحدثون عن أهميتهم الاخلاقية هم يهتمون كثيرا بزيادة سلطتهم وثروتهم ومكانتهم. هم ربما ميكافيليين مستغلين. هؤلاء اساسا، يفتقرون لمعرفة كافية بالذات. ربما من المغري تجسيد الأحكام المسبقة للمرء عبر تفسير حياته وقيمه الخاصة كانعكاس لحقيقة أخلاقية عميقة.

نظرا لهذه المخاوف، نحن يجب ان لا نقبل دون نقد تصريحات معلمي الاخلاق. الأفضل ان نتبع مسار سقراط في التساؤل المستمر: لماذا يجب عمل هذا الشيء؟ ما الاسباب التي لديك لهذه السياسة؟ ما الحجة، ما الدليل؟ انا لا أقبل مجرد القول لي. العديد من الاخلاقيين النسبيين يشتركون بهذه الشكوك. ما الذي اذاً يقودهم للسؤال عن "صاحب سلطة القول" كطريقة لرفض حقيقة أخلاقية موضوعية؟ الاخلاقيون النسبيون عادة يبدأون من ملاحظات واقعية بان مختلف الثقافات تجيز مختلف العادات والقوانين والقواعد الاخلاقية. هناك اختلافات ثقافية واضحة بشأن قضايا مثل العبودية، عقوبة الإعدام، علاقات المثلية الجنسية واستعمال الكحول. الشخص المطّلع على هذه الاختلافات بالطبع يبدأ بالتساؤل منْ هو على صواب، ومنْ هو صاحب سلطة القول؟ سيكون من غير الحكمة الإفتراض سلفا اننا على صواب. ربما، لا أحد على صواب، واننا يجب ان نشكك بفكرة الحقيقة الاخلاقية. ربما لا وجود لحديث معقول عن الخطأ والصواب في مسائل الأخلاق. البعض يفضل آيس كريم عادي بينما الآخر يفضله بالفواكه. الاسبارطيون احيانا فضلوا وأد الاطفال، بينما نحن لسنا كذلك.

الحديث النسبي

من المثير للاهتمام حاليا ان معظم النسبيين الاخلاقيين لايسلكون هذا المسار المشكك. لنبدأ بحالة من الاختلاف لكي نرى منطق افتراضاتهم. ربما انت تعتقد ان الارض كروية. وانا ارى ان الارض مستوية. من حيث المنطق البسيط يبدو ان هناك ثلاثة احتمالات : اما انت لديك عقيدة زائفة، او انا عقيدتي زائفة، ام كلانا عقيدتنا زائفة. نفس الشيء، في حالة عدم الاتفاق الأخلاقي، يبدو انه اما انا على صواب، او انت على صواب، او لا احد منا صائبا. النسبيون، يلجأون لحالات لا تتبع هذا النمط. دعنا نقول انك تعتقد ان هناك وحش على جهة اليمين، بينما انا ارى ان نفس الوحش هو على اليسار. في هذه الحالة،من الممكن اننا كلانا لدينا عقيدة صادقة. ربما نحن نواجه بعضنا، نحدق بعيون بعضنا،نبحث عن شجاعة واطمئنان. او ربما ان الوحش انتقل اثناء حديثنا. في حالات اخرى يبدو ان الجملة "الوحش على اليسار"هي لا صحيحة ولا كاذبة: انها غير كاملة الى ان يتم تحديد اطار مرجعي – مثل "الوحش هو على اليسار لحد الان".

هنا ايضا نموذج يفترضه النسبيون للحقيقة الاخلاقية: هم يقولون ان القول "س هو صائب اخلاقيا" هو غير تام بنفس الطريقة في القول ان "س هو على اليسار". فمثلا،لو ان (ص) يؤمن ان العبودية مقبولة اما (د) يؤمن ان العبودية غير مقبولة اخلاقيا. يبدو كما لو ان جانبا واحدا يمكن ان يكون صحيحا. لكن الاقتراح النسبي هو ان كلا الطرفين هما صائبان قياسا لمنظورهم الثقافي: العبودية جائزة اخلاقيا لـ (ص) وغير جائزة اخلاقيا لـ (د).

من جهة، هذا النموذج للاخلاق يبدو اكثر تسامحا. ومن جهة اخرى، انه يعني ان المكانة الاخلاقية للعبيد لا تعتمد مباشرة على حقائق، مثل، رفاهية الانسان، المساواة، الكرامة، والاستقلالية. بل، ان أخلاق العبيد تعتمد على مواقف سلطة ملائمة، أي، المواقف الاخلاقية السائدة بين (ص) و (د).

الاستنتاج المدهش هنا، هو الخوف الواضح من ان المواقف الاخلاقية السائدة تفشل احيانا امام التمحيص الفكري الدقيق. ببساطة، يبدو كأن كل ثقافة وكل فرد يصل الى أشياء خاطئة أخلاقيا. هذا الفشل من السهل تحديده من بُعد، مثل عندما ننظر رجوعا في الاخطاء الاخلاقية لأسلافنا. هذا احد الاسباب يفسر لماذا من المفيد النظر في معتقدات اخلاقية بديلة والانتباه للنقد الخارجي. بالتأكيد، ثقافات اخرى تقوم باشياء افضل مما نعمل. عندما نخبر اجدادنا حول حياتنا الان، أي شيء يجعلنا خجلين؟، تعاملنا مع الحيوانات؟ موقفنا الرقيق تجاه تخصيب اليورانيوم؟ عدم احترامنا للبيئة؟ او شيء اصعب مما نتصور، هذه لا تبدو مجرد تقلبات للموضة مثل شكل البدلة او القبعة. انها تبدو مسائل يجب ان نفكر بها.

في الحقيقة، النسبيون عادة يبسّطون او يتجاهلون التفكير الاخلاقي من خلال عدم النظر في الاسباب الاخلاقية كلها، ويركزون على المعتقدات الثقافية. هناك مقارنة مفيدة مع فكرة المؤمن بان القانون الاخلاقي يتطلب واهبا للقوانين. طبقا "لنظرية الأوامر الالهية"، الفعل يكون صائب اخلاقيا اذا كان مطابقا لاوامر الله.  سقراط  يسأل ما هي الاسباب التي تجعل الله يأمر بافعال معينة. هذا يقود الى ما يسمى "مأزق ايوثيفرو"،في حوار افلاطون(1): اذا كانت هناك اسباب مستقلة تفضل الفعل كخيّر، عندئذ نحن يمكننا اللجوء مباشرة لتلك الاسباب، وعليه لماذا نجلب الله؟ وبالعكس، بدون اسباب مستقلة تجعل الشيء خيّرا، ستبدو اوامر الله اعتباطية. بالطبع قديس مثل اوغستين يلجأ الى شخصية الله الجيدة وانها ذاتها المعيار النهائي للخير، ويقول انه بهذه الطريقة تكمن الخيرية في الله او تأتي منه. لذا في هذه الطريقة فان المعيار الاخلاقي يقف مع خالقنا، وهذا يكون مفيدا ضمن الاطار الديني. اللجوء الى السلطة الثقافية بين النسبيين الاخلاقيين العلمانيين هو اكثر ارباكا. لماذا نعتقد ان عبء التبرير الاخلاقي يتوقف على المعتقدات الثقافية السائدة؟ ما الذي يعطي الثقافة سلطة شبيهة بالله لتقرير الحقيقة الاخلاقية؟

السؤال النسبي "منْ صاحب القول؟" يفترض سلفا سلطة اخلاقية شبيهة بنظرية الاوامر الالهية. كذلك، منطق حجتهم يتضمن جوابا واضحا لسؤالنا – أعني، المواقف الاخلاقية السائدة. رغم هذا، العديد من النسبيين هم مشككون بقوة بفكرة ان هناك موقف مفضل لسلطة تحترم الحقيقة الاخلاقية. فمثلا، هم عادة صدى للمابعد حداثي مايكل فوكو ورؤيته بان الادّعاءات بالمعرفة الاخلاقية يمكن استخدامها كوسائل للسيطرة والاحتفاظ بالسلطة. وهم بوضوح صائبين حول ذلك. في الحقيقة، هناك تاريخ كبير ومروع للأقوياء يفرضون طريقتهم بالحياة على الضعفاء والأقل قدرة باسم الحقيقة الاخلاقية. الفاتحون عادة لديهم معلمين اخلاقيين يقفون بجانبهم، يعملون على خنق المعارضة. هم يمكن ان يكونوا مخلصين دائما ومليئين بالحماس.

الرؤى الاخلاقية

يبدو ان استراتيجية النسبيين في ربط الحقيقة الاخلاقية بالمعتقدات الاخلاقية يخلق لهم مشكلة في الوقوف مع اخلاق السلطة دون ان تكون لهم رغبة بذلك. فهل يمكن العمل بطريقة افضل؟

هناك ثلاثة تصورات تأتي الى الذهن عندما نحاول التفكير بالسلطة الاخلاقية. الاول يتعلق بالمعلم الاخلاقي الذي ينقل ما يعتبره حقيقة اخلاقية مطلقة من موقع السلطة. هو ربما ينظر نزولا من منصة بالكنيسة لأغراض العبادة او من منبر استاذ جامعة او من حملات انتخابية للسياسيين. هو ربما يعتبر نفسه في مهمة تثقيف المواطنين. هذا التصور هو نوعا ما مخيف. في صيغته المتطرفة هو يستلزم مركب سام من السلطة واليقين الاخلاقي الذي هو مقدمة للسلطوية والتوتاليتارية والاضطهاد وحتى التطهير العرقي. اذا كان المعلم الاخلاقي لديه ما يقوله، عندئذ دعه يقف الى جانبنا بدلا من تسليم حقيقته من الأعلى. دعنا نناقش اسبابه لكي نستطيع النظر بها مجتمعين بروح من عدم التأكد.

البديل النسبي يبدو على الأقل خطوة نحو الأفضل. هنا يمكن ان نتصور أعضاء ثقافة مشتركة يتجمعون حول حقائقهم الاخلاقية مثلما يتجمعون في مخيم حول النار. هناك قياس للانسجام، و قبول بان مخيمات اخرى التي لديها نار اخرى يبدو تجعلهم متساويين في الدفء. هناك الاف المخيمات تشعل النار وهناك ايضا رؤى محافظة معقولة نتعلمها نزولا من الأسلاف – افكار عملت لهم بنجاح او على الأقل للغالبية منهم في وقت ما.

الخوف هنا هو حول أصوات معارضة عند حافات الجماعة، يحتشدون ضد البرد، و يشكّون بان ثقافتهم ضلّت الطريق. دعنا نأمل انهم ينتمون لثقافة تجيز هكذا معارضة لو تجرأوا للتعبير عنها. في الحقيقة، دعنا نأمل ان ثقافتهم مستجيبة للجدال العقلاني. ايضا، وان لا نفكر كثيرا حول الجماعات الاخرى من المخيمات الذين ينوون نشر نيرانهم بالقوة عند الضرورة. بالنهاية،التسامح ليس عقيدة أخلاقية عالمية.

التفكير الاخلاقي المفضل هنا لا يستلزم معلمين اخلاقيين يسلّمون الحقيقة نزولا. ولا يستلزم قبول المعتقدات التي صادف ان تكون سائدة لدى جماعة معينة. بل انها تستلزم تشجيع اعضاء جماعات اخرى مع افتراض مسبق بالمساواة والاحترام والجهل المشترك. لذا دعونا نتجول بعيدا عن مخيمنا الاخلاقي ونحاول النظر بافضل ما نستطيع في الكيفية التي يعيش بها الآخرون حياتهم، فرديا وجماعيا. لنقوم بهذا بدون اعتبار لأي سلطة اخلاقية مفترضة، وبدون افتراض ان أي شخص يعرف سلفا بالضبط ما يقوم به. في الحقيقة، الافتراض بان أي ثقافة تمتلك احتكارا للحقيقة الاخلاقية او للتفكير الاخلاقي الواضح يبدو كأنه شيء ما بين الساذج والمضحك. يبدو من المحتمل جدا اننا جميعا مخطئون بشكل ما، وصائبون بأشكال اخرى. دعونا نحاول اكتشاف أي العقائد هي تلك. نسأل لماذا الآخرون يعيشون كما يريدون ودعونا نفهم لماذا نحن نعيش كما نعمل. نحن ربما نتعلم شيئا ما جيدا وقد نتغير نحو الافضل.

اذاً، منْ هو صاحب القول؟ الجواب هو "لا أحد". لا مصدر متعالي ولا ثقافة س او ثقافة ص. ليس معلمو الاخلاق. نحن يجب ان نقاوم الافتراض بان أي شخص لديه سلطة خاصة فوق الشك تحترم المسائل الاخلاقية. الأسئلة الاخلاقية لم تتقرر بسلطات او بأوامر عشوائية. بل، في الحقيقة، نحن جميعنا نجلس حول ضباب اخلاقي، محاولين شق طريقنا بأفضل ما يمكن. هناك ضوء من مخيمات اخرى حولنا، لكنه عادة ضعيف. احيانا نحن علينا ان نغلق عيوننا مؤقتا وننتبه للمنطق والدليل بصرف النظر عن اصوله. نفس الشيء، دعنا نرفض الافكار التي لا تصمد للتمحيص النقدي بصرف النظر عمن يفترضها.

ربما احد يعرف أين تكمن الحقيقة الأخلاقية. بينما الآخر ليس كذلك. ان رهاننا الأفضل هو ان نفكر بهذه الاشياء مجتمعين بدون اللجوء للسلطة. لا أحد يستطيع القول لكننا جميعا نستطيع التشاور على قدم المساواة.

***

حاتم حميد محسن

............................

Who’s To Say? Philosophy Now, June/July2023

الهوامش

(1) في مأزق ايوثيفرو يسأل سقراط هل اننا نقوم بالافعال الخيّرة لأن الله اراد ذلك ام اننا نقوم بها لأنها بطبيعتها خيّرة؟ اذا كنا نقوم بعمل الخير امتثالا لأوامر الله، معنى هذا لا توجد هنا اسباب منطقية للقيام بالعمل، فيكون العمل اعتباطيا، ليس له اسباب، فقط لأن الله اراد ذلك. اما اذا كان قيامنا بالفعل الخيّر لأن الفعل هو ذاته خيّرا، فستكون خيريّة الفعل هي المصدر الاخلاقي ولا حاجة لوسيط آخر.

في عام 1982 أصدر عالم الاجتماع الانجليزي "أنتوني جيدنز" Antony Giddrns كتابه الشهير علم الاجتماع، والذي تطرق من خلاله لتطورات المفاهيم الجنسية وأثرها الاجتماعي على الأفراد، فيقول أن: مفاهيم الحياة الجنسية قد تعرضت لتغيرات وتحولات مثيرة في العصر الحديث، فقد تبدلت بصورة جوهرية جوانب مهمة من حياة الناس الجنسية في البلدان الغربية خلال العقود القليلة الماضية، إذ أصبح النشاط الجنسي جزءا محوريا في اخوية الاجتماعية ما أدى بدوره لظهور العديد من السلوكيات والتوجهات الجنسية التي لا تنتهي والتي تعد النسوية التقاطعية intersectionality feminism واحدة من تطبيقاتها.

ويمكن تسليط الضوء على النسوية التقاطعية فبعد أن تلاشت موجة الثورة الثقافية في أوائل سبعينات القرن الماضي في العالم الغربي، أصبح من الواضح أن موضوع المرأة لا يمكن أن يكون وحده مطلبا موحدا ووحيدا للنضال من أجل التغيير، حيث أثارت النسويات الأمريكيات من أصل أفريقي واشتراكي ونسوي قضايا مختلفة من الاضطهاد والقمع وعلاقات السلطة من قبيل العرق والطبقة والجنس والجغرافيا السياسية والميول الجنسية.

ففي الولايات المتحدة الأمريكية تتعرض النساء بسبب هويتهن الجنسية (أنثى) وهويتهن الجندرية (امرأة)، بصورة أساس، لعنف قائم على النوع الاجتماعي، ولتمييز يصعب حصره في ٍشكل محدد، لأسباب عدة: لون بشرتهن، وهوياتهن العائلية والعشائرية والإثنية والطبقية والدينية والمذهبية... إلخ، أو بسبب ميولهن الفكرية والأيديولوجية والسياسية أيضا، وفي خضم الدفاع عن حقوقهن، غالبا ما تٌحصر في هويتهن الجندرية، وتحديدهن بوصفهن فئة واحدة تعيش التجربة نفسها، وتعاني الاضطهاد نفسه، وتقع عليهن النتائج نفسها، الأمر الذي يفضي إلى إعادة إنتاج الصور النمطية، وتكريسها ضدهن، وعدهن كتلة واحدة من الضحايا والمعتقدات والُمستغلات، ومن يستغلهن هو ”الرجل”، في تكريس لانقسام جندري معياري، يبسط القضايا، ويغفل الحالات التي تتراكب فيها عناصر التمييز المركب وتتقاطع.

وتعود بداية استخدام النسويات المعاصرات لمصطلح التقاطعية إلى عام 1989، عندما صاغت الناقدة الأمريكية والرائدة في نظرية العرق النقدية " كيمبرلي كريشنو" المصطلح لوصف وتحليل ما تواجهه النساء السود في أمريكا من تجارب فريدة ومتنوعة من الاضطهاد والتمييز.

وقد طرحت "كيمبرلي كرينشاو" عبر نظريتها "التقاطعية" كما يقول الأستاذ سليم سوزا أغلب المفاهيم والإشكاليات الرئيسة التي كانت قد ركزت عليها كاتبات نسويات ملونات من أصول أفريقية قبلها بسنين طويلة، لكن من دون أن يبتكرن مصطلحًا خاصًا بهذا الأمر. طُرحت هذه الإشكاليات من قبل من دون أن يتم تعريفها نظريًا، حتى جاءت كيمبرلي كرينشاو وصاغت هذا المفهوم (التقاطعية) في ورقتها التأسيسية الشهيرة (استكشاف الهامش: التقاطعية، سياسات الهوية والعنف ضد النساء الملونات) التي نُشرت لأول مرة في عام ١٩٨٩. قدمت كرينشاو للمرة الأولى مصطلح التقاطعية ليكون عنوانًا للعمل النظري وللممارسات العملية التي تحاول النسويات من خلالها فهم التجارب المركبة لبعض النساء، تلك التجارب التي كانت نتاج ظلم متعدد الأبعاد لم يقع عليهن بسبب كونهن نساءً فحسب، وإنما لأنهن يحملن انتماءات وهويات أخرى في آن واحد: العرق والدين والطبقة... إلخ.

وتشير التقاطعية عند كيمبرلي كرينشاو كما يقول الأستاذ سليم سوزا إلى تداخل الهويات الاجتماعية وأنظمة القمع والهيمنة و/ أو التمييز ذات الصلة. الفكرة هي أن الهويات المتعدّدة تتقاطع لتكوّن مجموعة مختلفة عن الهويات المكونة الأساس. التقاطعية أداة تحليل لدراسة الطرق التي يتقاطع فيها الجنس والنوع الاجتماعي (الجندر) مع الخصائص/الهويات الشخصية الأخرى وفهمها والاستجابة لها، وكيف تساهم هذه التقاطعات في صنع تجارب فريدة للتمييز.

وكيمبرلي كرينشاو ليست أول من أوجدت فكرة التقاطعية، وإنما الفكرة كانت موجودة في الموجة الأولى وما بعدها أيضًا كما يقول الأستاذ سليم سوزا، حيث بدأت النسويات السود في الموجة الأولى وما بعدها، بسبب تأثير خطاب ما بعد الكولونيالية وما بعد الحداثة، تركز على أن المرأة السوداء لديها تجربة مختلفة وفريدة عن بقية النساء، سيما المنحدرات من العرق الأوروبي الأبيض. فمثلاً، التقاطعية كفكرة (وليست كمصطلح) كانت موجودة في كتابات الشاعرة المكسيكية ذات الأصول التي ترجع إلى سكان قارة أمريكا الأصليين، غلوريا أنزالدوا (١٩٤٢-٢٠٠٤)؛ وقبل ذلك، في محاججات سوجيرنر تروث ضد فريدريك دوغلاس، كما تطرقنا إليها في بداية الحديث. لكن كرينشاو هي من طورت هذه الفكرة وهذّبتها ونظّرت لها أكاديميًا ومنهجيًا وصاغت مصطلحًا مناسبًا لها في مقالتها التأسيسية المذكورة آنفًا، أي مصطلح "التقاطعية".

ما التقاطعية في بداية ظهورها؟.. تشكّلت التقاطعية في البداية من ثلاثة أشياء تخص بالأساس تجربة النساء السوداوات في المجتمع الأمريكي، الأولى: الطبقة، والثانية: العرق، والثالثة: الجندر (النوع الاجتماعي). انظر الشكل التوضيحي أدناه كما يقول الأستاذ سليم سوزا:3522 النسوية التقاطعية

تقع "المرأة السوداء" في مركز تقاطع الدوائر الثلاث تلك: الطبقة والعرق والجندر، إذ تُهمَّش وتُضطَهد بشكل مضاعف بسبب هوياتها المتقاطعة الثلاث هذه. التقاطعية مصطلح يُستخدم بشكل عام لوصف وجود أشكال متعددة من الاضطهاد التي تتداخل وتتقاطع لتشكيل تكوينات مختلفة لكل فرد، والتي تخلق تجارب وعوائق اجتماعية فريدة. فنجد عبارة "الحاجة إلى أن تكون تقاطعية" عبارة شائعة داخل الطبقة والجندر والعرق، مما يعنى أن أي صراع يجب أن يكون شاملاً وممثلًا للأفراد الذين يعانون من اضطهادات متداخلة مختلفة، بدلاً من فكرة التركيز ببساطة على مجموعة واحدة أو شكل واحد من الاضطهاد. في كلام آخر، أن المرأة السوداء على سبيل المثال ليست مضطهدة بسبب أنها امرأة، بل لأنها امرأة ومن طبقة فقيرة ومن عرق أسود (ظلم متعدد الأبعاد نتيجة تداخل وتقاطع ثلاث هويات في آن واحد: جندر، طبقة، عرق). بدأ هذا المفهوم "التقاطعية" يتجسد بوضوح في كتابات كرينشاو واستُخدِم كعدسة تحليل في النسويات (وفي العلوم الاجتماعية فيما بعد). تضرب كرينشاو مثلاً بحادثة شهيرة وقعت في إحدى المحاكم الأمريكية، إذ تعرضت مواطنة سوداء إلى الاغتصاب على يد رجل أبيض. حكمت المحكمة بعقوبة ما هي ذاتها العقوبة المنصوص عليها قانونًا مع جرائم من هذا النوع. إلّا أن كرينشاو هنا تنبّه إلى نقطة خافية عن الكثيرين من أن هذا الحكم لا يمكن أن يكون عادلاً هنا لأن هذه المرأة السوداء لم تُغتَصَب لأنها امرأة، بل لأنها امرأة وسوداء ومن طبقة فقيرة. يجب أن يُحاكم المغتصب ثلاثة أضعاف هذا الحكم القانوني الموجود لأنه ارتكب ثلاث جرائم سوية، اغتصب امرأة، وانتقم من عرق، واستغل فردًا من طبقة اجتماعية فقيرة. بالتأكيد، لا يعني هذا أن كرينشاو تريد حكمًا من هذا النوع، فهي قانونية وتعي تمامًا صعوبة تطبيق مثل هذا الأمر في الواقع، ثم أنها غير معنية بالجدال القانوني هنا وباعتراضات سطحية من هذا القبيل بقدر ما أنها تحاول إثارة موضوع أخلاقي وثقافي يسلط الضوء على ظلامات متعددة تتعرض إليها بعض النساء جراء تقاطع عدد من الهويات لديهن. جدالها تحليلي ثقافي وليس قانونيًا سطحيًا.

ومن هذا المنطلق تمثّل النسوية التقاطعية طريقةً لفهم واستيعاب العلاقات الاجتماعية، وتعدّ تأكيداً على تداخل أنواع التمييز في جميع أشكال الهويات الاجتماعية والسياسية. وهذا يعني الاعتراف بتعقيد النظام الاجتماعي، وأن الإنسان قد يكون معرضاً للكثير من أشكال الاضطهاد كالتمييز العنصري والجنساني والعمري. ويتم استخدام مصطلح التقاطعية غالباً لتوصيف ضرورة التصدي لكافة أشكال الاضطهاد وتقاطعاتها المتعددة.

وعلى الرغم من أن النسوية التقاطعية تعني القدرة على التعامل مع جميع العقبات المحتملة التي تقف عائقاً ضد السلامة الفردية والجماعية، لكنها ليست مجرد اعتراف بتعدد أشكال التمييز والتعامل مع كلٍ منها على حدة. فجميعنا ندرك حقيقة وجود التمييز العنصري والجنساني، والتمييز ضد الأشخاص ذوي الإعاقة، ولكن عندما تجتمع هذه الأشكال معاً فإنها تتضاعف وتتحول إلى اضطهاد، وبناء على ذلك فإن التقاطعية النسوية تؤمن بوجود اضطهاد استثنائي وتكرّس جهودها لمعرفة آلية التعاطي مع هذا المزيج المتعدد والمعقد من أشكال التمييز.

خلاصة القول: إن التقاطعية هي مقدرتنا على الإصغاء إلى الآخرين ومعرفة مزاياهم المختلفة، وتحديد الأشخاص المهمشين الذين تتم ممارسة التمييز تجاههم ضمن أماكن العمل وفي المجتمع؟ والأهم من ذلك، فهي الرغبة بتغيير هذا السلوك. واتّخاذ الإجراءات المناسبة لدعوة وتضمين جميع الأشخاص والعمل معهم للحصول على جميع حقوقهم وتخطي جميع أشكال التمييز والتعصّب التي يتعرضون لها.

***

أ. د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة – جامعة أسيوط

.................................

المراجع

1- أسماء مقري: التقاطعية.. رؤية نسوية جديدة، موبريس، السبت 2-4-2022.

2- ندى مصطفي: النسوية التقاطعية: ماذا تعني؟، أوفيد، 07/01/2022.

3- أنظر محاضرة الأستاذ سليم سوزه عن مفهوم التقاطعية في دراسات العدالة الاجتماعية، منشورة يوتيوب ضمن الصالون العراقي بلوس أنجليس.

4- علياء أحمد: النسوية التقاطعية: معناها، تطبيقاتها، نقدها وإمكان استخدامها في السياق السوري، المجلة السورية للعلوم الإنسانية، العدد السادس عشر- تموز/ يوليو 2022.

مدخل عام: في شهر اوت 1909 الطويل والحار، وفي سن الثالثة والخمسين، أتيحت الفرصة لفرويد برفقة تلميذه وصديقه ساندور فيرينزي، للذهاب إلى السينما لأول مرة. وحدث ذلك في نيويورك خلال زيارته للولايات المتحدة حيث تم إلقاء خمس محاضرات في جامعةClark University  في Worcester رغم انه لم يكن منجذبًا جدًا للأفلام، باستثناء إبداعات تشارلي شابلن. ويؤكد الكثير من المهتمين بحياة فرويد وافكاره العلمية بأنه سيصاب بخيبة أمل كل من يبحث في نصوص فرويد على أمل العثور على بعض المراجع التي تشهد على اهتمامه بالسينما أو نقطة التقاء محتملة بين نظريته في التحليل النفسي والفن السابع فهل رفض فرويد كان نابعا من إمكانية تحويل التحليل النفسي الى سجل تجاري في ظل ثقافة غربية يغلب عليها الطابع المادي النفعي والاستهلاكي؟ وهل هذا الرفض ينفي وجود تقارب ونقاط تلاقي بين التحليل النفسي والشاشة السينمائية؟

لقد بدأ عالم السينما يهتم بالتحليل النفسي في منتصف العشرينات من القرن الماضي. ففي ديسمبر عام 1924 سافر المنتج صامويل جولدوين إلى أوربا وهو مؤسس شركة Goldwyn Pictures  Corporation  وفي تقرير أرسل إلى نيويورك تايمز على متن الطائرة، أعلن عن نيته زيارة فرويد والحصول على تعاونه في فيلم حب مبني على المشاعر الغرامية ، وانه مستعد لتقديم مائة ألف دولار لفرويد مقابل قبول عرضه. وكان رد فرويد على طلب المقابلة موجزا ونهائي: "ليس لدي أي نية لرؤية السيد جولدوين". رفض فرويد لعرض صامويل جولدوين تسبب في إحداث ضجة في نيويورك أكثر من نشر "تفسير الأحلام" والذي صدرت الطبعة الأولى منه سنة 1900 وقد اشارت الى ذلك صحيفة نيويورك تايمز  وكتبت قائلة ان هوليوود تفشل في إغواء مؤسس التحليل النفسي. على الرغم من وضعه الاقتصادي الضعيف، بل ان فرويد لم يوافق حتى على مناقشة الاقتراح.

هذا الرفض نجد له امتدادا عند بعض المشتغلين بالفلسفة على الرغم من ان السينما بوصفها شكلا من اشكال الفن لها قدرة على التأثير في نظرتنا لأنفسنا وللعالم الخارجي  فهي تمنحنا كنقطة انطلاق إمكانية التحرر من الواقع ورتابته وصلابته والسفر في امكنة وزوايا متخيلة ذلك ان الأفلام السينمائية على تنوعها وتعدد اشكالها تمثل جسرا نعبر من خلاله الى ذواتنا فهي لا تتحكم في عواطفنا وانفعالاتنا فحسب بل و تسلب في بعض الأحيان منا ارادتنا الحرة والفاعلة وتحولنا الى كائنات منفعلة فسحر الموسيقى وقوة الصورة وبلاغة الكلمة عوالم سحرية لا يمكن مقاومتها واذا كان هذا الانقياد يحررنا من رتابة وقسوة الواقع ويفتح امامنا أبواب التأمل فهل يمكن الثقة بقدرة السينما على تحريرنا وعلاجنا من امراضنا النفسية في غياب الإرادة الفاعلة؟  وهل يمكن لجمهور عاطفي منقاد ولا يتمتع بحس نقدي ان يدرك طبيعة اللعبة التي تراهن عليها السينما ؟الا يمكن ان تحولنا الأفلام السنيمائية الى قطيع من الخراف كما كان يعتقد ألفريد هيتشكوك؟

التحليل النفسي والسينما علاقة حميمية

العلاقة بين التحليل النفسي والسينما علاقة وظيفية تماما كعلاقة الكلمة بالصورة هي علاقة حميمة ومتنوعة. فالفن بأشكاله المختلفة، يلتقط المحتوى العاطفي والخيالي والشخصي  للإنسان السوي و للمريض النفسي وهذا المحتوى هو الذي يعمل الطبيب النفسي على التفكير فيه بطريقة حرة محاولا الصعود به الى مستويات الوعي بالحفر والنبش في اللاشعور.

وتاريخيا السينما والتحليل النفسي لا يمكن الفصل بينهما من حيث النشأة فقد بدأت السينما في ليلة السبت من ليالي الشتاء البارد، في اليوم الثامن والعشرين من شهر ديسمبر سنة 1895 حيث قدم الإخوة لوميير (أوجست ولويس) وهما من أبناء مدينة ليون عرضهما الأول لجهاز السينماتوغراف، في 14 شارع كابوسين بباريس، بمبنى (نادي جوكي) الذي يحتوي أسفل طابقه الأول على مقهى '' جراند كافيه '' هذا العرض الذي دام لمدة 20 دقيقة مقابل فرانك واحد من كل مشاهد حيث كان هذا الحدث مميزا ومنعطفا حاسما وشاهدا على تأثير الصورة. ولعل أول ما يلفت الانتباه في العلاقة بين السينما والتحليل النفسي ولادتهما المتزامنة، ففي السنة نفسها (1895) أصدر (سيجموند فرويد) بمشاركة الطبيب النفسي بروير أول مؤلف له بعنوان (دراسات حول الهستيريا).

وبما ان جوهر الفكر الفرويدي يقوم على منهج التحليل النفسي فانه يمكن فهمه من خلال الإحاطة ببعض الافتراضات الأساسية عن الطبيعة البشرية، وجميعها لها آثار ضمنية شديدة الأهمية على الطريقة التي يتم بها تفسير الأفلام ومنها:

1- الكائنات البشرية منذ الميلاد تتحرك مدفوعة برغبات أنانية (مثل الجوع ُ والجنس والعنف) بهدف جلب المتعة وتجنب المعاناة والبحث الاناني عن المتعة هو مما يكثر وجوده في الأفلام.

2- نحن نولد بدوافع أساسية، بطاقاتنا الحيوية الأولية المتمثلة في مايسمى (ال «هَو»). وحقائق الحياة تُعلِّمنا أنه لا سبيل لإشباع رغباتنا إشباعا كاملا ومن ثمة نقوم بالمساومات الضرورية في الحياة اليومية وهذا ما يشتغل عليه (ال «أنا»). وفي نهاية المطاف، نكتسب من والدينا ٍّحسا مدموجا بالصواب والخطأ  يتجسد في أوامر ونواهي (ال «الانا الأعلى»). بَيْد أنه ما لم «يتطور» هذا التنظيم الداخلي بطريقة سليمة، يبدأ الناس في الوقوع في المتاعب. وكثيرا ما تتبنَّى الأفلام الاعتقاد بأهمية عملية التطور في السنوات الأولى من العمر من خلال توظيف حبكات ِّ تغطي حياة الفرد بأكملها، أو الفلاش باك، أو الإحالات إلى أحداث هامة في فترة الطفولة من خلال الحوار على اعتبار ان الطفل اب الرجل.

3- ولأن ال «الهَو»، وال «الأنا»، وال «الانا الاعلى» ترغب جميعها في أشياء مختلفة، فإن تلك َّ البنى النفسية الثلاث تنخرط في «صراع» لا نهاية له بعضها ضد ِّ بعض. ويحدد فرويد ِ مركز ساحة هذه الحرب في ال «أنا» وهو «كائن مسكين يدين بالطاعة لأسياد ثلاثة ومن ثم َّ يتعرض لتهديد أخطار ثلاثة؛ العالم الخارجي، وظلمة (الليبيدو) ال «هَو»، وقسوة ال «الانا الأعلى » وقد قسم فرويد الجهاز النفسي الى ثلاثة اقسام (الانا،الهو،الانا الأعلى ) وقال :" يستمد الآنا طاقته من الهو، وقيوده من الآنا الآعلى و عقباته من العالم الخارجي انه يخدم ثلاثة سادة طغاة "

4- جميع السرديات السينمائية تقوم على صراع من نوع أو آخر ولأن الأفلام موضوعات رمزية، ِتتغذى من تلك العمليات يمكن اعتبار ملخص الحبكة هو َّ مجرد سطح؛ أما السْبر الرمزي فيَقُودنا إلى تلك الجوانب المظلمة.

صورة فرويد في السينما من السامي الى السخيف

على الرغم من أن سيغموند فرويد لم يكن مهتمًا بالسينما، حيث حضر العرض الأول أثناء إقامته في الولايات المتحدة، إلا أنه يوجد حاليًا مئات المقالات والكتب حول هذا الموضوع حيث لم تنل شخصية علمية هذا التميز والانفراد مثل شخصية فرويد وربما السبب يعود الى ان الاليات والمرتكزات على يقوم عليها التحليل النفسي هي ذاتها التي تشتغل عليه السينما تقول  إليزابيث كوي :" أن للسينما وظيفة مشابهة لوظيفة الأحلام، فعندما نشاهد فيلمًا، فإننا نشعر بنوع من الخيال، والذي سيُبنى عندما ينتهي الفيلم، بعد لحظات أو أيام من خلال استحضاره وإعادة التفكير فيه" وهكذا يتم عرض الأفلام على أنها حلم، والفرق فقط يكمن في أننا في السينما لسنا نائمين، ولكننا مهتمين بالمحفزات السمعية والبصرية و نواجه التحدي العقلي لخلق معنى في الشخصيات والحبكة. ومع ذلك فإن حالتنا المعرفية ليست حالة اليقظة العادية، لأنه على الرغم من أننا نحافظ على مهاراتنا الحركية، فإننا غير متحركين، صامتين، مضبوطين على هذه المحفزات، متجاهلين الآخرين الذين يتحدثون حولنا.

كمتفرجين ننخرط في عملية تحويل، حيث نتواصل مع الخيال، حتى للحظات القصيرة، "كما لو" كان حقيقيًا. نحن نرتبط بالأفعال والشخصيات "كما لو" كانت شخصيات في تاريخنا النفسي.  بالإضافة إلى ذلك، هناك عدد من الأدوات الجمالية - على سبيل المثال، الاستعارات - التي تُستخدم في الأفلام لدعوتنا إلى تفسيرها في عملية تحليل منظمة، بناءً على توقعات معينة حول القصة والأحداث. في السينما، بصفتنا جمهورًا، نحن حالمون ومترجمون للأحلام، وكذلك محللون ومحللون.

في عام 2019، صدر فيلم فرويد في السينما: من السامي إلى السخيف، وهو مقال سينمائي من إدواردو لاسو وخوان خورخي ميشيل فارينيا، نتيجة عمل بحثي جمع وعلق على جميع الأفلام والمسلسلات التلفزيونية التي ظهر فيها سيغموند فرويد كشخصية على الشاشة. من أول فيلم لجون هيوستون، العاطفة السرية لفرويد في عام 1962، مع مونتغمري كليفت في الدور الرئيسي، إلى أحدث إنتاجات Netflix، حيث نلمس الطرق المختلفة التي تم بها تصوير فرويد: من البطل الفكري مكتشف اللاشعور وواضع أصول منهج التحليل النفسي، بطل الحقيقة المدافع عن كون الانا ليس سيدا حتى في بيته ، إلى شخصية العصابي المهووس بالجنس. أو من رجل طموح متمسك بأفكاره حول اللاوعي الى شخصية مدمن على الكوكاين . وتجسد الطرق التي تم بها تمثيل فرويد في السينما النظرة الى التحليل النفسي التي كانت تحدث بمرور الوقت. منذ الأربعينيات من القرن الماضي، تم تعزيز التحليل النفسي في الولايات المتحدة، وبعيدًا عن أن يصبح معمما كما توقع فرويد، فقد تم دمجه في الثقافة الأمريكية و كانت النتيجة النهائية لهذا المكانة المرموقة أول فيلم عن فرويد في عام 1962. وحتى أواخر سبعينيات القرن الماضي، قدمت السينما صورة محترمة لفرويد، على الرغم من كونها صورة نمطية وغالبًا ما تكون بعيدة عن الحقيقة التاريخية.خلال الثمانينيات، هاجمته السينما أو صورته كاريكاتيرًا، بما يتماشى مع سلسلة من المنشورات التي تنتقد فرويد والتحليل النفسي. من عام 2004 فصاعدًا، ظهر فرويد كشخصية في الأفلام حيث يتم تهكمه أو تقديمه بطريقة متناقضة وسنتطرق هنا الى ثلاثة نماذج تتراوح بين الأعلى والادنى وهي:

1- فيلم "فرويد: العاطفة السرية" وبداية الفيلم  ترتكز على خلفية من الصور غير الدقيقة التي يتم تركيبها، يخبرنا صوت (صوت جون هيوستن ) عن الضربات الثلاث الكبرى لفخر الإنسان : الأول، إثبات كوبرنيكوس أن الأرض ليست مركز الكون ؛ والثاني، عندما أكد داروين أن الإنسان جزء من الطبيعة، وحيوان آخر، نتيجة التطور؛ والثالث، الذي وضعه فرويد، أن العديد من العمليات العقلية غير واعية، وبالتالي خارجة عن سيطرتنا ويأخذنا هذا الفيلم  في رحلة رائعة إلى أعماق العقل البشري، إلى جوانبه الخفية والمظلمة  في محاولة لكشف أسرارها.

يعتبر هذا الفيلم "سيرة ذاتية" تغطي خمس سنوات فقط من حياة طبيب الأعصاب والطبيب النفسي الشهير في فيينا فرويد  وهو الدور الذي لعبه مونتغمري كليفت تحديدًا من عام 1885 إلى عام 1890، عندما بدأ في تطوير أفكاره حول اللاشعور وبناء منهجه الجديد المسمى التحليل النفسي . يبدأ الفيلم ببطل رواية شاب (قريب من 30 عامًا) يرتدي زيًا جميلًا ومعبّرًا باللونين الأسود والأبيض، مليء بالوهم والفضول، لا يزال طالبًا يعيش في ظل افكار ثيودور مينيرت  وهو رجل لامع ومسيطر، لديه أفكار قوية. حريصًا على توسيع معرفته وحل الآليات الغامضة للهستيريا ، يسافر فرويد إلى باريس ويكتشف الاحتمالات الهائلة للتنويم المغناطيسي للوصول إلى جزء من العقل اللاوعي  والذي على الرغم من أنه يتجاوز إرادة الشخص، يمكن أن يؤثر عليه بقوة.وبالعودة إلى فيينا، وهو متزوج حديثًا، يتعرض فرويد للانتقاد والسخرية من قبل زملائه الذين يصفون التنويم المغناطيسي بأنه "سحر". فقط جوزيف بروير  يثق بأفكاره، لكنه يفعل ذلك في الخفاء خوفا على سمعته. بفضل دعم شريكه الجديد، بدأ فرويد  في العمل مع بعض المرضى وتطوير نظرياته حول أهمية وعمل اللاوعي. هذه هي الطريقة التي يلتقي بها سيسيلي من خلال شخصية سوزانا يورك، في دور مخطط لمارلين مونرو، وهي أرستقراطية شابة تعذبها حلم متكرر لا تستطيع رؤيته وترفض شرب الماء. من خلال هذه القضية وغيرها من القضايا الغامضة،سيحقق فرويد اكتشافات مذهلة ومقلقة تعزله وتواجهه مع المجتمع العلمي. فقط زوجته مارثا وشجاعتها التي لا تلين تشجعه على مواصلة بحثه ...لم يكن إنتاج الفيلم يخلو من الصعوبات، رغم أنه تم حلها جميعًا بنجاح. في عام 1958، لجأ هيستون إلى جان بول سارتر لكتابة سيناريو "فرويد"، ولكن كان لا بد من تصحيحه ووضعه في صيغته النهائية من قبل تشارلز كوفمان وولفجانج راينهارت.، لأن سارتر لم يكن قادرًا على تقليص نص تجاوز على ما يبدو 400 صفحة (يُفهم أن الصفحة الواحدة هي حوالي دقيقة واحدة من الفيلم). أخيرًا، كان الفيلسوف الفرنسي المرموق غير سعيد جدًا بالنتيجة النهائية لدرجة أنه طلب عدم ظهور اسمه في الاعتمادات، على الرغم من حقيقة أن قاعدة الحبكة والعديد من الحلول السردية لا تزال سليمة (مثل تمثيل سيسيلي لثلاثة مرضى حقيقيين من فرويد). على الرغم من الاندفاع والقص في بعض الأحيان، تمكن السيناريو من الفوز بجائزة الأوسكار .

2- مسلسل فرويد: والذي يعرض على منصة نتفليكس سنة الإصدار: 2020 وجاء في تقديمه :

سعيًا لتحقيق شهرة في "فيينا" خلال القرن التاسع عشر، ينضمّ الشابّ المتعطّش "سيغموند فرويد" إلى وسيطة روحية ومفتش لحلّ لغز سلسلة جرائم دموية. يتكون من ثماني حلقات الأولى بعنوان الهستيريا بينما يواجه "فرويد" تحدّيات في عمله ويسرف في تعاطي الكوكايين، يجد نفسه في خضمّ جريمة مروّعة، ثم جلسة استحضار أرواح خاصّة تقودها وسيطة روحية. والحلقة الثانية بعنوان الصدمة النفسية ُحيث يقدم “فرويد"، الذي قوبِلت نظرياته بالمعارضة، معلومات للسلطات التي تبحث عن فتاة مفقودة، لكنه يضطرّ للتعاون مع شخصية غريبة ليصل إلى الحقيقة. وباقي الحلقات جاءت على النحو التالي : السير أثناء النوم، الطوطم والحرام، الرغبة، الانتكاس، تطهير الفكر، الكبت ومدة كل حلقة حوالي 55 دقيقة تدور أحداث سلسلة فرويد في فيينا عام 1886، وتقدم لنا سيغموند فرويد الشاب الذي بلغ الثلاثين من عمره ولا يزال بعيدًا عن كونه الشخصية الراسخة التي نعرفها اليوم. في محاولة لإنشاء مكان احترافي لنفسه، يجب عليه التعامل مع سوء الفهم الطبي للوقت ومع تعقيد ما يمكن أن يكون اكتشافه العظيم: اللاوعي. في هذا السياق، تقترح الحبكة عقبة جديدة: مواجهة والد التحليل النفسي بسلسلة من الجرائم الغامضة التي يجب أن يكشف النقاب عنها مع وسيط ومحارب قديم. يلعب الممثل النمساوي روبرت فينستر دور سيغموند فرويد، وبذلك انضم إلى الثلاثين الذين لعبوا دور البطولة فيه بالفعل على الشاشة، بما في ذلك مونتغمري كليفت وكورد يورجنز وماكس فون سيدو وفيجو مورتنسن وبرونو غانز.هل يمكن أن تعوض متعة الاستماع إلى Unbebuste بلغتها الأصلية عن التراخيص الفاضحة للسيناريو؟

3- فيلم «Freud’s Last Session» للمخرج ماثيو براون والذي يعتبر سيرة ذاتية عن عالم النفس النمساوي الشهير سيجموند فرويد، يقوم ببطولته النجم أنتوني هوبكنز، من المقرر أن يبدأ تصويره خلال الربع الأخير من عام 2022، في لندن.وكشفت تقاير صحفية، أن الفيلم لا يقدم السيرة الذاتية للعالم الراحل، ولكن يركز على جزء فقط من حياته، حيث تدور أحداث الفيلم في عشية الحرب العالمية الثانية، في الفترة الأخيرة من حياة مؤسس التحليل النفسي، عندما يدعو عالم اللاهوت المسيحي الشهير سي إس لويس لمناقشة وجود الله، كما تتطرق أحداث الفيلم إلى علاقة «فرويد» بابنته، وعلاقة «لويس» مع والدة أقرب أصدقائه.ومن جانبه، قال المخرج ماثيو براون، «بعد فضولي العقلي وميلي نحو اتجاه، كان هناك إدراك عميق لمدى أهمية هذا الفيلم في التوقيت المناسب، نبقى في عصر شديد الاستقطاب أيديولوجيًا، حيث يبدو أن الجميع عالقون في أفكارهم الخاصة دون حوار حقيقي وأضاف: " أرغب في صنع فيلم لجميع الجماهير يكون عاطفيًا ومحفزًا للفكر وفنيًا، فيلم يطرح الأسئلة الكبيرة، أثناء التحقيق في ما يدور في القلب البشري ما بين الحب والدين والفناء"

لماذا رفض فرويد السينما؟

في 7 يونيو من عام 1924  استقبل كارل أبراهام في برلين زيارة من مدير UFA وهي أهم شركة إنتاج أفلام في ألمانيا. يقترح أن يصنع فيلمًا علميًا شائعًا عن التحليل النفسي، بإذن مناسب من فرويد وتحت إشراف تلاميذه المعروفين. بعد يومين، لم يستغرق فرويد أكثر من ساعة لإرسال إجابته: "المشروع المذهل لا يرضيني." ويحذر من مخاطر ترك المشروع في أيدي محللين متوحشين، لكنه في الوقت نفسه يقر بأنه "لا يمكننا منع أي شخص من صنع فيلم من هذا النوع دون موافقتنا"

بالنسبة لجولدوين، كان تعاون فرويد ضمانًا لنجاح شباك التذاكر: لقد راهن على أن اكتشافاته عن الحب "ستنير قلوب المتفرجين.

و مخطط الفيلم كان على النحو التالي الجزء الأول كمقدمة، مع "أمثلة بليغة" توضح الحلم، وعملية القمع، واللاوعي. الجزء الثاني يعرض حالة سريرية توضح  الأعراض والشفاء في ضوء التحليل النفسي.

في المؤتمر الذي عقد في جامعة كلارك في ورسيستر، عبر فرويد عن نفسه على النحو التالي:

ربما يمكنني أن أقدم لكم وصفًا حيويًا للقمع وعلاقته الضرورية بالمقاومة عن طريق تشبيه فج مشتق من وضعنا الحقيقي في هذه اللحظة بالذات. لنفترض أنه في غرفة الاجتماعات هذه وبين الجمهور، الذين لا أستطيع أبدًا أن أشيد بصمتهم وانتباههم المثاليين، هناك شخص ما، بعباراته المتعجبة وضحكاته وحركاته، يصرف انتباهي عن مهمتي. علي أن أعلن أنني لا أستطيع مواصلة المؤتمر. بعد ذلك، يقف ثلاثة أو أربعة رجال أقوياء منكم وبعد صراع قصير يطردون هذا الشخص  من الغرفة. وبالتالي، فهو "مكبوت" ويمكنني أن أكمل محاضرتي. ولكن حتى لا يتكرر الانقطاع في حال حاول المطرود العودة للغرفة، السادة الذين حققوا أمنيتي وضعوا كراسيهم على الباب وبالتالي أقاموا "مقاومة" بعد تحقيق القمع. إذا قمت الآن بالترجمة إلى مصطلحات نفسية، فإن التعريبين المعنيين هما "الواعي" و "اللاوعي"، فستكون أمامك صورة تقريبية إلى حد ما لعملية القمع.في الواقع، فإن التمثيل، أو حتى الصورة المتحركة لمجموعة من الرجال المزدحمين بالكراسي أمام باب "يقاومون" دفع شخص آخر يكافح للدخول، يوحي بإيقاع شبلينسك أكثر من آلية القمع اللاواعي. هذا التشبيه، التعليمي في سياق المؤتمر، عندما يتم وضعه في الصور يصبح ببساطة سخيفًا.

في نفس الشهر، أعلن في امريكا عن بدء تصوير فيلم "ألغاز الروح"، مشيرًا إلى أن تحقيقه سيحدث "بناءً على دراسة حالة سيغموند فرويد". و ذهبت مجلة تايم إلى حد التأكيد على أن فرويد نفسه خطط وأشرف على كل متر من الفيلم.

توفي كارل أبراهام في عام 1925 بسبب ما يُفترض الآن أنه سرطان الشعب الهوائية. في الشهر التالي، عُرض فيلم "ألغاز الروح" لأول مرة في برلين.

شكك فرويد في أي إمكانية للتمثيل البصري لأي من مساهماته النظرية. ومن النية التعليمية المزعومة، لم يلمح إلا إلى خطر السخرية. كانت جهود إبراهيم لإقناع فرويد بوجهة نظره غير مجدية. نظرًا لحماس تلميذه للمشاركة في النص، اختار فرويد ببساطة مشاركة اعتراضاته وإخطاره. من الناحية العملية، تم حذف الجزء الأول من الفيلم وتمسك النص بقصة التاريخ السريري. وبالمثل، قرر فرويد رفض ترخيصه لهذا الفيلم أو أي فيلم آخر.

يعتبر المهتمون والباحثون موقف فرويد غريبا لسببين على الأقل:

- الأول أن اللقاء بين التحليل النفسي والسينما، سواء على المستوى الإبداعي أو على مستوى الدراسات التنظيرية، قد أثمر أعمالا سينمائية غنية، خصبة، وطلائعية.

- والثاني أن هناك تشابها كبيرا بين الفيلم والحلم، بما يعني أن الفن السابع يعمل على تفعيل اللاوعي وإخراجه سينمائيا، لكن بطريقة مغايرة لطريقة التحليل النفسي.

لذلك انطلقت التأويلات لمحاولة فهم الموقف الفرويدي من السينما:هناك مَن فسّر الأمر بالانتماء الثقافي اليهودي لفرويد، وهو انتماء يحضر فيه الدين بكامل ثقله، مثلما تحضر فيه الصورة بوصفها ممنوعا أو محرما خاصة إذا سعت إلى الاقتراب من الإنسان نفسه ومن روحه.ويرجح الباحث السينمائي روجيه دادون في دراسة له بعنوان (اللاوعيان المتوازيان) تفسيرا لموقف فرويد الرافض للتعامل مع السينما بوجود تنافس شديد بين السينما والتحليل النفسي من حيث قدرتهما على التعبير والتمثل، أو من حيث قدرتهما على إخراج اللاوعي.ومرد هذا التنافس إلى أن التحليل النفسي يستطيع الوصول إلى عالم اللاوعي ورموزه وخباياه عن طريق الكلمة بالأساس، بينما تبلغه السينما أساسا عن طريق الصورة، التحليل النفسي يقترح علينا لاوعيا كلاميا، أما السينما، فهي تقترح بالمقابل لاوعيا صوريا (نسبة إلى الصورة)، وطبعا هناك بون شاسع بين الكلمة والصورة من حيث علاقة كل منهما بالواقع، تشكّل الكلمة دوما انزياحا عن الواقع، إنها تقول باستمرار أكثر مما تود قوله، وعبر إفراطها في القول تتجاوز الواقع نحو اللاواقع، أي نحو الخيال.

أما في الصورة، فإن الواقع حاضر بكامل ثقله، ومن هنا مقولة (الانطباع الواقعي) في السينما، وهي مقولة تؤكد القدرة الكبيرة للسينما على استنساخ الواقع. وقد استغلت الأديان هذا الاختلاف لتحريم الصورة وللتحذير من مخاطرها.

***

عمرون علي - أستاذ الفلسفة

المسيلة – الجزائر

تعد مشكلة الخوف من الموت وطبيعته تقليدياً من  دائرة اختصاص الدين، والدين ينكر عادة الطابع المتناهي للموت، إذ يؤكد استمرارية الشخصية الانسانية سواء في شمولها النفسي – البدني او كنفس متحررة من البدن، مؤكدا على طابعها الممّيز المألوف. ومن ثم فأن الفلسفة لم تشرع في الاهتمام بالموت الا حينما اصبح التأكيد الذي يطرحه الدين مشكوكا فيه وموضع ريبة، او حينما بدا هذا التأكيد في تناقض لا مفر منه مع شهادة حواسنا المباشرة التي لا جدال فيها.(1)

وحينما اصبح الرد الديني على الموت موضع تشكك سعت الفلسفة الى دعمه بحجّة عقلانية، وعندما غدا الامر متعلقا بالتناقض راحت الفلسفة تسعى الى الوصول من خلال النظر العقلي الى رد مؤكد مماثل لذلك الذي طرحه الدين منذ وقت طويل، او تصدت للوصول الى التصالح مع الموت منظورا اليه باعتباره نهائيا او بحسبانه خلودا غير شخصي، خلود الانسان كنوع.وهناك امكانية ثالثة، فالعجز عن تقبل الحل الديني يمكن ان يؤدي بالفيلسوف الى الاهمال الكلي للمشكلات التي يطرحها الموت، والى انكار انها تقع في دائرة اختصاص الفلسفة.(2)

وفي غياب اقتناعات دينية محددة تماما، كما كان الامر في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد في بلاد الاغريق على سبيل المثال، وفي القرنين الثاني والاول قبل الميلاد في روما، نجد الموت لا كموضوع للفسلفة فحسب، وانما كمحرك لها ايضا، لكنه مع مجيء المسيحية، ووعدها بالبعث والحياة الخالدة، في العالم الاخر تقلصت الضرورة الحيوية لقيام الفلسفة بتناول الموت.حيث غدت الفلسفة ذاتها تابعة للاهوت لاسباب عديدة. لكن سيكون من الخطأ الاستنتاج بأن الانشغال بالموت قد اختفى في العصر المسيحي فالظهور التدريجي لتصور محدد للحياة الاخرى، التي طورها اللاهوت وجعلها الشعر، والنحت، والتصوير، واقعية بصورة مرئية.(3)

وخلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر التي سادت فيهما نوبة تسلط الموت على الاذهان والقلوب، اصبح حدث الموت بالاضافة الى المخاوف المعتادة المرتبطة به، اكثر اثارة للفزع، لان لحظة الموت اكتسبت معنى خاصا ومشؤوما، حيث ان لحظة هروب النفس من الجسد المحتضر، هي الفرصة الاخيرة لقوى الجحيم للسيطرة على هذه النفس.

ونجد مع استئناف التفكير الفلسفي المستقل في عصر النهضة ان الفلاسفة يميلون فيما يتعلق بمشكلة الموت الى انكار الخلود الشخصي، ويمكن ان يقال انه منذ اللحظة التي انحاز فيها بيترو بومبونازي P.Pomponazzi الى صفوف القائلين بانكار الخلود، اصبح انكار خلود النفس بصورة تدريجية الموقف الفلسفي غير المنازع في كل من فرنسا والمانيا في القرنين الثامن والتاسع عشر. ولم تهمل الفسلفة مشكلة الموت، فحتى الماديون الفرنسيون في غمار انكارهم لخلود النفس ووصفهم بانه (كذبة كهنوتية) وانه عقبة في وجه تحسين الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، لكنهم تناولوا الموت بالدراسة. وكان هناك دائما جهدا دائبا من جانب بعض الفلاسفة لاثبات خلود النفس. وفي الضرب الاول أي الفلسفات التي تتناول مشكلة الموت تظهر العلاقة بين واقعة الموت والبحث الفلسفي في ثلاثة جوانب هي:

1- يمكن ان يكون الموت مصدر الهام للفلسفة وقوة الدفع الكامنة وراء التفلسف الذي يهدف اساسا الى السيطرة على الخوف من الموت والتصالح مع حتميته. وكانت هذه فلسفة شوبنهاور.

2- يمكن ان يكون الموت اداة للفلسفة التي تزعم انها وحدها التي تناسب الوصول الى فهم الوجود والكشف عن طبيعته الحقة التي يتخللها اللاوجود على حد تعبير هيدجر.

3- اخيرا الموت كما يقول افلاطون يمكن ان يكون الوضع المثالي للتفلسف وحالة يمكن فيها وحدها ان يتحقق سعي الفيلسوف وراء المعرفة الحقة.

ان مهمة الفلسفة هي التيّقن من طبيعة الموت والبرهنة على انه ليس فناءا نهائيا، او اظهار الاسباب الكامنة وراء موقفنا من الموت الذي يذهب الى انه رغم الموت هو (النهاية) فانه لاينبغي ان يكون موقفنا هو الخوف بل اللامبالاة والاذعان بل التقبل والابتهاج (4)

 لقد سهّل استبعاد مشكلات الموت عن الفلسفة تحت ضروب التقدم المذهلة التي أحرزتها العلوم الدقيقة، الى ترك الموت ومشكلاته على قارعة الطريق. وعلى اية حال فقد أعلن انصار النزعة العلمية حماس احتضار الموت، بينما اعترف به بأسى ممثلو الدين التقليدي فقد كتب احدهم (ان الموت المجرد كمحرك قد احتضر... لقد فقد الموت ضروب افزاعه). وكتب اخر (ان القرن العشرين اكثر انشغالا من ان يشغل نفسه كثيرا بالمشكلات التي يطرحها الموت، وما يعقبه فالرجل المحنك يكتب وصيته، ويؤمن على حياته، ويزيح موته جانبا باقل صور التأديب...  الموت كمصير يلقي بظلاله وكموضوع كان الخلاف حوله شاملا).(5)

غير ان آرثر شننتزلر يجد انه ما من شخص جدير بالاحترام لايفكر في الموت، وبينما انسحب الفلاسفة المحترفون الى البحث المتخصص. اعرب كتاب وشعراء من امم عديدة عن ادراكهم للموت وأساهم ازاء الظل المعتم الذي يلقيه على كل ما يحيا ويتنفس، وعلى وجودهم بصفة خاصة، وهناك تولستوي الذي كانت فكرة الموت تطارده دونما توقف والذي واصل التساؤل في يأس (أي حقيقة يمكن ان توجد اذا كان هناك موت؟).

وهناك اونامونو (1864-1936) فيلسوف وجودي اسباني تأثر في مذهبه بابي الوجودية سورين كيركارد، الذي كانت شهوته للخلود، وشكهّ في الحياة بعد الموت يجعلانه ينشد عبثا الهروب من المعنى المأساوي للحياة، بان يكرر لنفسه دونما توقف ان على المرء ان يؤمن بالايمان ذاته، وهناك ريلكة الذي اصيب بعذاب الزوال وناضل ببسالة ليحول الموت من شبح مفزع الى اعظم حدث في الحياة ، وهناك بروست الذي سعى للوصول الى مهرب من المرور الفاني للزمن من خلال محاولة استرجاع الماضي بأمل باطل هو انه اذا كان بوسعه القيام بذلك، فان كلمة الموت لن يعود لها معنى بالنسبة له.(6)

ومع بداية القرن الحالي على وجه التقريب فحسب حدث رد فعل في الفلسفة ضد استبعاد الموت من التأمل الفلسفي، فتمرد وليام جيمس، وهنري برجسون على استبعاد جميع العناصر الشخصية من الفلسفة ، ولاحظ جورج زمل بأسى (بأن جانبا بالغ الضآلة من المعاناة الانسانية شق طريقه الى الفلسفة).(7)

وحدث انقسام حاد بين الفلاسفة المعاصرين فيما يتعلق بما اذا كان من الضروري اعتبار الموت موضوعا مناسبا للفلسفة من عدمه، وانفصال الفلاسفة التحليليون عن اولئك الذي يتعاطفون مع تصور اوسع نطاقا لمهمة الفلسفة باعتبارها تعنى كذلك بمسائل المصير النهائي للانسان ولكن هناك كذلك اشكالا اخرى للانقسام فقد هاجم بشدة، برونشفيك جبرائيل مارسيل احد اقطاب الوجودية الحديثة وهو لاهوتي التفكير. وعند نيكولاي هارتمان (1882-1950) وهو فيلسوف الماني وضع مذهبا يدور حول الانطولوجيا النقدية، كما وضع مذهبا للاخلاق ونظرية القيم وعلم الجمال ونظرية المعرفة، فهو يتحدث عن رجال الميتافيزيقيا الذين يعذبون انفسهم، وينكر اهتمام الفلسفة بالموت، لان تعذيب الذات امر لا اخلاقي ، ويذهب قائلا: اذا لم يكن الموت الا عدما، فانه لايمكن ان يكون شرا.(8)

غير ان شيلر يسخر من العبث الميتافيزيقي للفلاسفة الذين لا يرغبون في معالجة المسائل المطلقة، ومشكلة الموقف بشكل خاص، وفي غمرة نظر راسل الى الانسان باعتباره محكوما عليه بان يفقد احب الناس اليه وانه يمر هو ذاته في الغد عبر بوابات الظلام، فانه يدرك بصورة ملحة الحاجة الى شيء (يلوح للخيال وكأنه يحيا في سماء بعيدة عن فكي الزمان المفترسين).

ويكتب بردياييف: (انني لا اميل الى الخوف من الموت على نحو ما كان يفعل تولستوي على سبيل المثال، لكني شعرت بألم حاد ازاء فكرة الموت وبرغبة جامحة في اعادة الحياة لكل من ماتوا، وبدا لي قهر الموت المشكلة الاساسية للحياة، فالموت حدث اكثر اهمية وحيوية للحياة من الميلاد).(9)

وفي عبارة كونفوشيوس المعاكسة (اننا لانعرف أي شيء عن الحياة، فكيف نستطيع ان نعرف شيئا عن الموت؟) فما لانعرفه عن الحياة أي معناها وهدفها المطلقين، يرتبط ارتباطا وثيقا بالموت، ومشكلة هذا الاخير اننا لانعرفه خير المعرفة.

الفلسفة تعنى بامور كثيرة منها الموت والامر يرجع الى الفيلسوف الفرد في متابعة المشكلات التي يعتقد انها هامة، لكن الفلسفة باهمالها لمشكلات الموت كلية انما تفصل نفسها عن احد ينابيعها الرئيسية التي تنشّط البحث الفلسفي بقوة تضاهي الفضول العقلي والدهشة.

وان الحجة القائلة بان الاهتمام بالموت يؤدي الى اهمال المهمة المحددة والملحة المتمثلة في تحسين الوضع الانساني والاهتمام بالرخاء والسعادة، تتجاهل واقعة ان الموت بدوره ينتمي الى الوضع الانساني العام، وان الابحاث التي اجريت في السنوات الاخيرة مقنعة بما يكفي لاظهار ان الشخص العادي يفكر في الموت اكثر بكثير مما يفترض عادة. واذا كان الادب ذو المعنى في عصرنا يصلح كمؤشر للمزاج الحديث، فيكفي ان نشير الى هيمنجواي، فوكنر، مالرو، كامو، ت.س، اليوت، وديلين توماس، فالموت يثقل كاهل شريحة هامة من الانسانية المعاصرة( ). كما يجد البعض امكانية الاقتناع بان الحياة عبث، وانها مجردة من المعنى ولايحملها القلائل أي معنى آخر، وضروب الموت العبثية تبدو سطحية وموضع تشكك طالما انها ليست قابلة للتطبيق على ضروب الموت الاخرى.

ويقدم مالرو صياغة بليغة لذلك حينما يقول ان الحياة رخيصة في الوقت نفسه ما من شيء غال كالحياة، ويشير براتراندرسل قائلا: (ان اولئك الذين يحاولون ان يجعلوا من النزعة الانسانية التي لاتعترف بشيء اعظم من الانسان دينا، لايرضون عواطفي، رغم اني عاجز عن الايمان بان هناك في العالم على نحو ما نعرفه ما يمكن ان اقدره خارج نطاق الموجودات البشرية). (10)

ننتقل الى احد اقطاب البراجماتية وليم جيمس (1842-1910) وما يميزه عن غيره من فلاسفة البراجماتية هو رؤيته الخاصة الى قضايا الاعتقاد الديني، والحقيقة ان رؤية جيمس الدينية لا تصدر عن قناعة فكرية ولا تقوم على ايمان راسخ محدد، فهو في الحقيقة لايؤمن بالدين والديانات السماوية التوحيدية وهو ما نجده واضحا في قوله بان البراجماتية يمكن ان تكون دينية اذا ما كانت تؤمن بالتعدد والتطور.(11)

ان البحث في الجانب الديني من براجماتية جيمس تكمن اهميته عن حقيقة موقف جيمس من الاعتقاد، والمعتقدات الدينية ويعدها نوعا من التجريبية النفسية الواقعية، وفي تأكيده على النفعية فقد جعل من الدين بضاعة تباع وتشترى على اساس الرغبة ومقدار نفعها وقيمتها المادية العاجلة.(12)

يؤكد جيمس على الارادة انها حق الاختبار والاعتقاد يقوم على الرغبة الذاتية والمنفعة الشخصية، والاعتقاد لدى جيمس احد القوى النفسية ولابد ان يبقى عنصرا ثابتا من عناصر البناء الفلسفي، وخاصة لانه يحمل معه في كثير من الحالات براهينه، عليه فالدين عند جيمس اعتقاد فردي وموقف شخصي لايقرره منطق العلم، ولا يدعمه مصدر سماوي فالدين عند جيمس مجموعة وجدانات وافعال وتجارب يعانيها الافراد في وحدتهم كلما ادركوا انهم على علاقة مع أي شيء يعتبر الهاً، وان جوهر مثل هذا الدين الشخصي هو الاعتقاد. (13)

ان جيمس لا يقر دينا معينا وبخاصة الاديان السماوية، التي يرى جيمس ان الايمان بها في طريقة الى الزوال قائلا: (انه لم يهتم بالاديان السماوية، وسيوجه همّه الى الديانة الشخصية، وان لكل متدين دينه الخاص). فاساس الدين عنده امر واقعي وشخصي وليس الدين في ذاته، الدين الواحد الثابت حقيقة مدرسية فارغة، فهناك من الاديان بمقدار ما يوجد من افراد، ولم يكن عبثا ان يضع وليم جيمس على كتابه عنوان (تعدد التجربة الدينية)، وعن القضايا الروحية يقول جيمس (لم يحتقر العلم على العموم شيئا من تلك البواقي غير المنسقة كما احتقر تلك المسائل الروحية الغامضة. اذ ان علم النفس المحافظ يعرض عنها، واما الطب فيبعدها كلية، ويصفها بـ (عمل الوهم والخيال).

ومن المسائل الروحية التي يذكرها جيمس هي: (التفكير الديني، والتفكير الاخلاقي، والخيال الشعري، والتفكير الغائي، والتفكير العاطفي والانفعالي، وكل ما يصفه الانسان بانه افكار شخصية ليميزه بذلك عن الاراء الآلية الميكانيكية، او كل ما يصفه بانه افكار رومانتيكية، كل هذه الافكار كانت ولا زالت خارجة عن الدائرة العلمية، وهي في نظر الميكانيكية العقلية، حديث خرافة). (14)

ويؤكد جيمس: (لكننا لا ندري من اين أتت تلك الحاجة النفسية الى الاعتقاد في ان هذا العالم المشاهد ليس الا مجازا لعالم اخر اكثر منه روحانية وابدية. من القدرة والسلطان على النفوس هؤلاء الذين يشعرون بها مثل ما للحاجة النفسية الى الاعتقاد المطرد في قوانين السببية من قوة وسلطان على عقول العلماء)، ويعتبر جيمس حرية الاعتقاد ركيزة مهمة في تكوين قناعات الافراد، ويقول: (لنا الحق في ان نعتقد في بعض الموضوعات الدينية، على الرغم من انه قد لايكون لنا من الادلة المنطقية ما يكفي لاقناع قوانا العقلية). وفي تأكيده على حرية المعتقد الديني يتبين بحسب جيمس:

- حق الانسان الفرد في الاعتقاد بأن يؤيد فكرة مهما تبدو غير مناسبة لغيره من الافراد وتحقق المنفعة الذاتية له.

- الاعتقاد بالشيء ممكن، وان لم يدعمه دليل منطقي علمي.

- الاعتقاد قضية فرضية تصدر من تجربة نفسية ذاتية، و تخضع لقواعد المنهج العلمي في الفروض العلمية.

- الاعتقاد في موضوع من الموضوعات الاعتقادية ، يصدر عن ارادة المعتقد في السلوك ، وباصراره على الفعل دائما، ويدوم الاعتقاد اذا استمرت ارادة فعل نحوه عند الفرد.

- الاعتقاد لابد ان يكون نافعا، محققا رغبات الفرد في حياته.

ويرى جيمس: اذا كان الاعتقاد بالدين حقا فرديا، ولم تكن براهينه كافية، يكون الاعتقاد فرض يعتمد على المخاطرة، كما ان عدم الاعتقاد يقود الى المخاطرة ايضا. والاثنان ميل نفسي لا دليل قاطع يفصل بينهما. لذلك يدعو الى الاعتقاد الديني على وفق رؤية براجماتية خاصة تؤكد على ما هو عملي نفعي، يناقضه في ذلك البابا حين يدين الدفاع البراجماتي عن الدين، ويبين الرؤية الدينية القائمة على الايمان الراسخ بوجود الله دون تفكير في منفعة دنيوية عاجلة.

***

علي محمد اليوسف/الموصل

.......................

الهوامش: المصدر كتاب (الموت في الفكر الفلسفي الغربي) جاك شورون، سلسلة عالم المعرفة.

   

نبدأ من سؤال نوعي ونستفسر، فأليس الوضع البشري محاطا بالحياة من كل جانب، ونحن في هذا السؤال لا نسعى إلى إجابة، وإذا كانت الحياة معنى وجودنا، من خلال المعنى الحرفي لكلمة – حياة-، فهي الإطار العام لوجودنا البشري، ونحن نمثل الموجود فيما هي تمثل الوجود، ولكن لا نملك غير محور تكهنات فقط للحياة ووجهات نظر فلسفية، وأما الإطار العلمي فغير راجح تماما، حيث اعتمد المنهج العلمي على أطر فيزيائية، ومؤشرات بداية التكون والكيفية التي أشرها خلق الحياة والعالم المشترك، ومؤكد العالم سبق الحياة، وفي التفسير الموضوعي العالم لا يقترن بنا تماما ولكن الحياة تقترن بنا بشكل مؤكد، فوجود العالم كان وجودا بلا حياة، يعني لا فائدة منه، لكن الحياة هي ذلك النفس المتعدد الإيقاعات والتردد، وإذا كانت الحياة قد وجدت قبل أكثر من ثلاثة مليارات سنة، فالعالم أقدم من ذلك، والعالم هو كوكب الأرض أما الحياة فهي الأنفاس التي شهقت داخله، وهنا تداخل ما بين العالم والحياة والوضع البشري، فالحياة من خلال البشرية تؤكد العالم، فالعالم هو الكينونة ونحن واقعها والحياة هي معنى الوجود ونحن فيها الموجود، والكينونة ساكنة حسب التفسير العملي فيما الوجود متبدل، وأما الموجود متحرك، وذلك المثلث في التفسير يختلف كل مكون منه، فيما في التفسير المعنوي هناك تقارب بنسب غير معينة، وعدم تعيين النسب يعود إلى تغير الوحدات الزمنية، والتي تتبدل بشكل مستمر، والاختلاف والتبدل يشمل كل ركن من أركان المثلث، وهذا هو من نبحث عنه، فسكون العالم وتبدل أفق الحياة من نهار إلى ليل وحركة الوضع البشري أمور مدركة في الإدراك المباشر.

تفسير علاقة الحياة باعتبارها تتبدل وتتغير سجنتها، ونحن نحيل الأجواء والطقس والجغرافيا إلى الحياة وليس للعالم، فالعالم تكون والحياة صيرورة تتبعها سيرورة، وقد بلغت من الأنطولوجيا حدا هائلا، في التفسير له يحيل الحياة إلى المعنى السرمدي، فالحياة التي يلغيها البعض ويسميها الأرض اختصارا، على اعتبار إن للأرض صيرورة تلتها مباشرة سيرورة سرمدية، وإلغاء السماء يعني إلغاء جزء أساس ومهم من أفق الحياة، وذلك غير ممكن فالسماء هي التي هي تقابل أختها الأرض من الجهة العليا، وتلعب الدور الأساس في التغير المناخي، والعقل الذي يقصي أسسا من أسس الحياة هو عقل سياقي في اتجاه وسبيل واحد ولا يمر بمنعرجات، ونحن لا تهتم بالتفاصيل بل نهتم بمعنى الحياة وعلاقته بالوضع البشري، ونوع التأثير الذي من الممكن أن يمر به الوضع البشري، وفي المتعارف العام الوضع البشري هو من ينتج للحياة معناها، وهذا ممكنا في الشكليات الكبرى من مثل الحرب التي مر بها الوضع البشري في أربعينيات القرن الماضي وفقد الملايين من الأبناء من أمم عدة، وهذا لا تتحمل الحياة الذنب المباشر فيه، وكما هي ليست تمتلك فؤادا لتحتج ضد الحرب، وفي ذلك أنا من ننوب عنها، لكن مدى تأثير الحياة على الوضع البشري يكمن في الجو العام، فالجو العام للحرب مثلا هو متلبد وبشع وليس فيها نور أو ضياء، وكما الليلة الظلماء لا تسر النفس أو تبهجها، والحياة تتلبس ذلك الجو الكئيب، وبذلك يكون انعكاس الحرب شاملا، وليس فقط في البقعة التي قامت عليها الحرب.

الحياة أنثى العالم الساكن والوضع البشري هو الابن إذا جازت التوصيفات، وعلي وجه الخصوص ما تقره الميثولوجيا الدينية، فتشكل أسطورة خلق آدم صورة جانبية وليست مباشرة في خلقه من تراب الأرض، وإذا خلق من تراب الأرض فما الذي كان يفعله في السماء، وترى أكانت تلك ذاته المعنوية التي خضعت للتمحيص والتفسير والتعيين، ولكن لسنا إزاء فكرة خلق آدم وملابساتها، ونحن نحصر أفكارنا في البعد الآني للوضع البشري والمشكلة الكبرى التي تعيشها البشرية، ولا نريد التفريط بالهدف السامي الذي نسعى إليها، ونحن نشعر أننا إزاء مسؤولية عميقة، وتحتاج إلى حد كبير الاهتمام من أكثر من وجه بها وهذا هو ما نسعى إليه، والعالم الرحب المعنى تقابله الحياة برحابة شكلية وسطحية، فالخيانة هي في الدور بالحياة أكثر ما هي في صمت العالم على ما يجري، وإذا افترضنا بأن مفهوم الإنسان الخلاق قد استهلكته الحداثة، وفكرنا بما بعد الإنسان، وتركنا خيانة الحياة جانبا، وفكرنا بمقومات إعادة إنتاج الذات بما يلائم المعنى الخلاق، وإعادة التعويل على الوضع البشري في امتلاك الشعور بالأمل والتفكير بالمستقبل بجدية، وتلك العوامل التي تحطمت إلى أقصى حد ممكن، تحتاج منا السبيل المناسب إلى إعادتها إلى جوهر الحياة العام ونشعر بها من خلاله، وإذا كان الماضي حافلا بالمثل والمعاني السامية، وكانت النفس البشرية بمؤشر استقرار مدهش، فالسرعة التي تخلينا فيها عن ذلك تكاد تكون أكثر دهشة.

لنا وجهة نظر إزاء التغيرات التي مرت بها السينما، وعلي وجه الخصوص في تغيير الرؤيا ووجهة النظر والبؤرة السينمائية من أمثلة حية إلى أخرى جامدة، والمعنى الإنساني الذي كان يرتبط ارتباطا وثيقا بالمثل الحية، ومن خلال وعي ومشاعر الشخوص، وانتقل إلى المثل الجامدة في ظروف ما بعد الحداثة، وبدلا من البشر صارت الآلة البديل النوعي، وأتاحت لها ميتافيزيقا ما بعد الحداثة بتلبس المشاعر البشرية، وما هو شعورك وأنت ترى قطعة حديد تبكي بعد هزيمتها وخذلان الناس، ونقر هنا بوجود متعة جديدة تتناسب مع روح العصر، لكن مديات ذلك الأنطولوجيا العميقة تاريخيا، قد أزالتها ما بعد الحداثة السينما في لحظة إدهاش وغرابة، وربما تقصد ما بعد الحداثة أن تجاهنا لمعنى ما بعد الإنسان، على اعتبار إن الإنسان في حضوره وتاريخه ومعناه قد استهلك تماما، وصراحة (يعادل اهتمامي بما بعد الإنسان شعوري بالإحباط حول الموارد والقيود الإنسانية المفرطة في إنسانيتها التي تحدد قدراتنا المكثفة والإبداعية شخصا وجماعة)1، وإذا نفر بوضعنا البشري من قيود زائفة نجد أمامنا القيود الأخرى بطريقة ملتوية تواجهنا، ويقدر ما خططنا لحفظ ماء وجه الإنسان نواجه أيضا ذلك التخطيط الماكر في عالم ما بعد الإنسان لا يسعى إلا إلى استغلالنا، وكما كانت السياسة تستغل الناس بالمبادئ صارت اليوم تستغلهم بالاقتصاد، وتتفنن في خلق قطيع يتوجه إلى السبيل الذي تريده السياسة وتسعى إليه.

نحن لا نهدف أبدا السعي إلى قولبة الحياة، لكن نحن أيضا ضد عدم التوازن، وإذا فقدنا بشكل واضح توازن القوى، والذي كان يجعل العالم يتمثل في كتلتي الناتو ووارسو، وصرنا في عالم يسمى عالما أحادي القطب، وصرحت النظرية الأحادية قد سبق التحول السياسي إلى القطب الواحد، فقبل أن تكون روسيا زعيمة حلف وأمريكا زعيمة الخلف المعاكس، انتقل الفن من تعدد الأبعاد إلى البعد الواحد، وثورة كاندنسكي الروحية للفن غيرت المعنى العام إلى معنى خاص، وكان سابقا يشعر الوضع البشري بأنه القرين إذا لم يكن هو المثل الأساس للفن، وصراحة انخفضت طاقة الذوق الفني كثيرا، وابتعد الفن عن المجتمع مثلما ابتعدت السينما عن الإنسان ومفهومه، وذلك التغير ليس بالهين، بل له تأثيرات مباشرة، وهذا ما جعل الحياة العامة تتأثر بتلك الصيغ الفنية البديلة، حارت في إيجاد تفسير مقبول، وبالتدريج انخفض مؤشر الحس الاجتماعي بالفن، وارتفعت قيمة الفن لتنحصر في الوعي الموازي أو وعي النخب، ونظرية الحداثة للفن ترى بأن وجود الضفة ملزم، ولا يمكن للفن التخلي عن البعد الأول، فيما ما بعد الحداثة نحت إلى إدخال أفكر حرة في تحليقها، وعلى الرغم من عدم جدارتها، لكنها صارت توازي ذوق النخب والتلقي المشترك معنويا، وطبعا البعض يرى ذلك لا تأثير مباشر له على حياته، فيما تجد في بيته لوحة لا يجد لها أي معنى مقبول.

نسب خيانة الحياة ليست بتلك التي يمكن تقديرها، والحياة التي شهدت منا البشر خيانة لأنفسنا أكثر من تلك الخيانة، فنحن نمتلك مسؤولية كبرى في تنمية روح الشر والخيانة، وصراحة قد تأصل الشر في نفوسنا، وصارت الكراهية شعار أساس لحياتنا بدل من المحبة، ونحن نتحمل أعلى المسؤوليات في ذلك، فبداية لا بد من أن نقر بأننا تحولات من اعتقاد مؤكد إلى حال تجاوز أهمية الاعتقاد، وصرنا نتصور وجودنا من جديد بصورة مختلفة عما كان في الماضي، وبعدما ضاق ذلك العالم الواسع المترامي وأصبح قرية عصرية كما يوصف، تغيرت أحوالنا النفسانية، فبدلا من تأكيد ذواتنا صرنا نفتش عنها ونبحث بلا استدلال، وصراحة ذلك البحث اللامجدي أحيانا يمكن تفسيره كمتاهة بروح معاصرة، وستتسع تلك المتاهة في المستقبل القريب أكثر، وكما سيتغير المعنى الاجتماعي أو ما تبقى منه ذلك الذي كان في ظروف وعهد الحداثة، وفي الحقيقة صعب على الوضع البشري بعد نبذه مؤشر الواقعية والتاريخ العيش في مواجهة متاهة اجتماعية من جهة ومتاهة شخصية من جهة أخرى، وسيكون الوضع البشري أصعب بكثير مما مر به بظروف الماضي، فحسنة الحرب في إيقاظ الضمير العام والخاص على السواء، كم نحن بحاجة لها الآن، وإذا كانت الحرب وجها للشر، فإن أثرها على البشرية فيه إعادة للصحوة الإنسانية المفقودة، وهنا لا بد من أن نقف بأن نقر نحن أبناء البشرية فينا وجوه عديدة للحرب ومعناها، مثلما فينا وجوه لتلك الصحوة التي قد تجدين في ظرفا معينا فقط وبعده تنتهي صلاحيتها.

إذا قد انتقلت الفلسفة الحديثة من الموضوعة إلى الذات في عهد المثالية وما بعدها من مفاهيم الوجودية التي سادت من خلال مقولة – أنا أفكر إذن أنا موجود – لديكارت، فهناك سبب وجيه استوجب ذلك الانتقال، فبعد تطور مفهوم الإنتاج العضوي، والتماس الحاصل ما بين البشر والآلة، تبلورت فكرة مهمة جدا للمعنى الإنساني على الرغم من عظم الشقة، فلقد أصبح الإنسان مركز الوجود وهرمه، وصار فعليا يسعى الوضع البشري إلى إيجاد حل ذاتي، وعلي وجه الخصوص للتضاد القائم تاريخيا ما بين الذات والموضوعة، وإذا صار العقل هو الفيصل في هو أعلى من النفس البشرية التي فيها نسب للشر ربما أكثر من النسب التي للخير، ولكن العقل ليس منزها بالشكل التام، فهو ما بين ذاكرة ولا وعي ومبادئ يكمن أو في دائرة تلك المقومات يدور، ومن الطبيعي أيضا أحيانا أن تجبره النفس البشرية أن يتنازل عن قمته وينحدر نحوها، وذلك جائز خصوصا في المسائل المتعلقة بوضع نفسي، ولكن رجاحة العقل هي التي جعلت الحياة بهذه الامتيازات من التطور، لكن العقل لم يصمد طويلا، وخصوصا بعد عصر ما بعد الحداثة، والذي فيه استبدلت الذات بالشخصية، وصار الأفق التاريخي للتدرج من الموضوعة نحو مثال الواقعي وهو الذات، وهذا الأمر طبيعي جدا، لكن التحول من الذات إلى الشخصية حدد على أنه انتقال للمسؤولية من الاعتقاد إلى الالتزام، لكن تحولت المسؤولية في صيغة الالتزام والغاية المرافقة له، ومن ثم دفعتها السياسة نحو المصلحة وهناك استقرت في عصرنا الحالي دون رجوع.

الرجوع إلى القاعدة المثلى صار مستحيلا، فلم يعد من الممكن رجوع البشرية إلى عالم المثال والمثال والمبدأ، فقد تغيرت الصيغ وتحول العالم البشري من صيغة العطاء إلى صيغة الاستحواذ، وفي صيغة الاستحواذ هناك نفس بشع الرائحة جدا، حيث لم تفسد القيم فقط وتتشوه بل انحدرت بها البشرية نحو الحضيض، وخسر العالم رهانه الرأسمالي بنسب كبيرة، وإذا كان سابقا نستطيع تحديد الأمور، فاليوم لم نعد نمتلك طاقة لمواجهة أي أمر، وخصوصا بعدما صرنا أمام كم هائل من الأمور المختلفة، والاختلاف في سرعة إيقاع العصر قد غير ملامح العصر عن الظرف السابق، والحياة لم تعد تلك المرجوة للتأمل والنظر من خلالها للمستقبل، فلم يعد اليوم يمكننا من النظر خلالها إلى الغد، وحتى ذواتنا التي كانت ذوات عينية أصبحت اليوم ذوات وصفية ليس إلا، وتقدير الأمور لم يعد كما كان، ولا بعد هناك تفكير جدي لخلق نتائج، وإذا نقر بوجود استثناء لخلق النتائج فهو نادر جدا، فمثلا تجد طالبا متفوقا جدا ويطمح إلى نيل شهادة عليا، لكن التميز الذي نهدف إليه هو ليس عبر الشهادة بل عبر العطاء، والعطاء إذا لم يكن يمتلك الرخاء الاقتصادي وقوم المال للتحويل إلى فعل وتكريس الجهود عمليا، سيكون ليس سوى برواز لتلك الشهادة اليوم، وسيكون لتلك الذات البشرية أما أن تستعبدها أيديولوجيا أو تتحول إلى سلعة مصيرها الاندحار والاستهلاك.

العالم إذا كان هو هوية الوضع البشري وكانت الحياة هي الانعكاس الإجمالي له، فما الذي يمثله الوضع البشري لنفسه؟، وهذا السؤال ليس بغاية أو بهدف نفسي أو أيديولوجي، بل بطموح فكري للبلوغ إلى نتيجة مقبولة من قبل العقل نفسه، ومن حق العقل أن يقوم بتوجيه السؤال لنفسه، وإذا كانت حرية العقل أوسع من حرية الذات والبديل لها الشخصي، فإن العقل في حريته لا يمثل هنا الخطاب المرجو، والذي يجد قبالته جهة تلقي، وذلك ممكن عندما يتحول العقل إلى خطاب، لكن العقل بنفسه يختلف تفسيره، وهناك من يرى على أنه مجموعة الأفكار المتجانسة، وآخر يطور الفكرة خصوصا حسب ما أتاحته ما بعد الحداثة، فيكون العقل أوسع، وأصبح إضافة إلى الأفكار المتجانسة أفكارا مختلفة، وهنا وجه الأشكال فالعقل المعاصر قد يختلف مع نفسه، وذلك بالنسبة له يحتمل حصوله بيسر في أفق ما بعد الحداثة أو ما بعدها، وإذا اتاحت ما بعد الحداثة للعقل بلوغ ذلك الحد العصيب، فلا بد من اسباب ترجوها الجهة التي روجت لمفهوم ما بعد الحداثة وما بعدها، واختلاف العقل مع نفسه يعني اختلاف العالم مع نفس، فالعقل هو الوحدة الجوهرية التي يعتمد عليها النشاط الروحي للعالم، والاختلاف يعني التغير في كينونة العقل، وبالتالي لا بد من وجود مظاهر عقلية جديدة يواجهان العقل نفسه، وتفسير العقل النشيط في مجال يختلف عن تفسير العقل الكامن، والذي يستجيب مباشرة للمظاهر العقلية الجديدة.

اليوم نواجه ذلك النوع الجديد من الجهل، فبعدما واجهنا الجهل بصفته الأساس في الحدود المتاحة له نواجه ذلك النوع الجديد الذي نطلق عليه الجهل المتعلم، حيث هناك كم هائل من الشهادات التي يقف خلفها ناس جهلة بالمعنى الحياتي، ولا يمكن درجهم بأية صورة حتى كأنصاف متعلمين، وهذا ما نقصده بمواجهة العقل لنفسه، فهؤلاء وجودهم ليس منعزلا تماما عن الوجود العام، ولا يمكن أن نصف المدنية قد تخلت عنهم وأبعدتهم عن أفقها، بل هو جزء من النسيج الاجتماعي في إي بلد من بلدان العالم المعاصر، والعالم المعاصر نقصد به عالما ما بعد الحداثة والذي يختلف جزم عن عالم الحداثة الواسع والعميق تاريخيا، ففي الحداثة انعدمت مواجهة العقل نفسه بشكل كبير ولم نشهد وجود صراع بين الجهل والمعرفة، بل كانت ناصية الجهل تتوسم بناصية المعرفة أن تمدها بالمعلومات وتحقق لها تواصل التعلم، والغريب أن وسائل التعلم وتطوير العقل متاحة بشكل أوسع بكثير مما مضى، فاليوم الفضاء الإلكتروني ينقلك إلى أي معلومة بسرعة كبيرة ويختصر لك الزمن لبلوغها، والنجاح النوعي صارت اليوم سبله يسيرة، لكن تجد كما كبيرا يترك فائدة المعلومات التي من الممكن أن يملأ بها خانة فارغة من خانات العقل، لكن الجهل وجه البشرية إلى اللهو، بل تمادى أكثر فتحولت البشرية إلى الألعاب غير المسلية، والتي منها ما يحول الإنسان إلى قاتل متوحش، ولا بد ذلك العمل غير تام البراءة في تقديمه بتلك الميزة الدموية.

لابد من فصل شعورنا البشري عن معنى الحياة، واذا لا نقوم بالفصل فسنقف على فكرة أن الموجود البس الوجود قناعه وبالتالي راح يتهم الوجود على بشاعة ذلك القناع، والصراحة النفسية مفقودة وكذلك الصراحة الموضوعية بنسب اقل، ولم يعد هناك مورد عقلي نعول عليه (لم تلق الفلسفة بعد ضوء كاف على المضمون الاجتماعي للمعرفة ومن الروابط العقلية التي تربط بين الناس وتجعل التفاهم بينهم ممكنا)2، واذا انعدم سبيل الاتصال ما بين المعرفة والناس وانعدمت الدرجات المؤهلة، وتصاعد انطواء الفرد البشري على شخصه وليس ذاته النشطة عقليا، وازدادت نسب انفصاله عن النسيج الاجتماعي الاصغر وهو الاسرة، وهذا بدوره سيوسع مساحة الانفصال عن النسيج الاجتماعي الاكبر، وهذا الضياع الملموس لا ندري ما الذي سيأتي بعده، والفرد منا نحن جميعا لو حرك الساكن من حياته بعزم إزاء بشاعة ذلك القناع، وامتلكنا إرادة فاعلة إزاء علة ومشكلة ذلك التشويه وبحثنا في وقعنا وفي أنفسنا عن السبب المقنع، وبالتالي نحصل على نتيجة تستوجب علينا التفكير والتخطيط للمعالجة وحل المشكلة، لكن اعتقد جازم أن أحدنا لا يقف أمام المرآة طويلا ويبحث في نفسه عن السبب المباشر لتشويه حياتنا، بعدما تمكنت من أن تتنفس برضا بعد حرب عالمية أزهقت أرواح ملايين الأبناء، والحرب التي كانت تهرول بالموت تجاه أرواح الجند إذا همدت في أفق واقعها ومظهرها البشع، فهي قد عادت من جديد داخل نفوسنا البشرية.

إذا أردنا أن نفسر النزعات النفسية فمن الطبيعي لا نجلب ذلك الطبيب النفسي إلى الحياة ليكشف عنها، ومن المعتقد التاريخي بمقدرة علم النفس هناك مؤشرات عامة ليست لصالحه، وأقول صراحة علم النفس إذا عالج أحد المرضى فسينتج لنا مريض آخر، وتلك إحدى مشاكل الحياة البشرية، ولا أفصل البشرية عن الحياة ولا الحياة عنهم، ففي التفسير الموضوعي للفلسفة، إن الحياة هي الكيان العام للبشرية وحيواتنا هي الكيان الخص، ووفق هذا المعنى ننطلق لدراسة العلاقة بين الحياة والوضع البشري، والمفاهيم الأخرى الضيقة التفسير العام تجاوزنه جميعا، في مفاهيم ذاتية ونحن نسعى إلى مفهوم مشترك ما بين الفلسفة والمجتمع، لكن ليس على طريقة فلسفة ما بعد الحداثة، والتي لم تختلف عن مسعى علم النفس الإجرائي إلا بالمسميات، فدراسة التفاهة اجتماعيا لا تنتج نتائج ولا هي بفائدة ولا يمكنها تحسين حال المجتمع، ونحن لا نعيب على العقل الفلسفي الجديد، لكن لا نجد في مساعيه ما يفيد البشرية، وليدرك ذلك العقل أن مستويات اليأس الإنساني داخل الوضع البشري بلغت أقصى حدودها، فما الذي يضيفه الفكر الفلسفي من خلال مفهوم التفاهة للوضع البشري، ونحن ندرك تمام انحدار الحياة البشرية نحو التفاهات الموضوعية، ونفصل صراحة بينها وبين التفاهات غير الموضوعية، فالتفاهة الموضوعية تدخل في خضم الحياة فيمما غير الموضوعية لا تبلغ ذلك الحد إلا عند العقل البسيطة والساذجة، ولا تبلغ العقل العملي ولا العقل العلمي.

إذا قمنا بترجيح العقل النشيط كمتمكن من خلق جدوى للوضع البشري المنهار حضاريا وأخلاقيا ونفسيا، وتصاعد مؤشر انحسار الإنسان داخل وجودنا البشري، وإذا فصلنا البعد المفاهيمي للحياة وأبقينا على المقومات الواقعية فيها، فتلك المقومات هي نتاجنا وليست أنتجتها الحياة بمعزل عنا، ومن ثم هي ترد إلى مرجعيات بشرية، فكل فعل بشري له فاعل، فلم نقل ذلك من مقومات الحياة، وصراحة نحن نحتاج إلى فصل لساني وعضوي بين أفق وآخر، فأي أفق لأفعالنا تقع مسؤوليته مباشرة علينا، وإذا قبلنا أن تكون الحياة هي ذلك الانعكاس الذي يشعرنا بما فعلنا، أو هي تلك المرآة غير البيانية، وصراحة يا ليتها كانت بيانية ونشاهد أفعالنا كما نشاهد المشاهد إلا إنسانية في فيلم ونقوم بنقدها، وقيامنا بنقدنا بشكل عير مباشر هو إحدى المهمات المطلوبة منا، والتي تخلينا عنها بعدما كانت إحدى الطبائع الأسرية المثلى، وصراحة صرنا نقوم حتى بخيانة أنفسنا، ولسنا فقط اجتحنا الغير وصرنا ننقده بلا حق إنساني، وتجاوزنا الحدود صار أوسع بكثير ما كنا عليه، فاليوم تشهد المواقع الاجتماعية ليس بيان رأي إزاء فكرة معينة، بل تجاوز الحدود الشخصية بالشكل المستمر، ونحن لسنا نقصد تشخيص الأمور والأفكار هنا بالقدر الذي نسعى فيه إلى دعم الأفكار، وصراحة أجد اليأس بلغ أقصى حدوده من إمكان العودة إلى العقلانية، ولم نعد نملك الحلول المقبولة، وإذا لم نعد نمتلك الحلول المثلى لأنفسنا، فمن الطبيعي أن نتخلى عن مشاركة الغير.

ما هي السبل إلى السير؟ طبعا السؤال لا يحتاج إلى إجابة، فالصبر ينبع من داخلنا نحن البشر، ولن تجد في إي صيدلية وصفة مناسبة للصبر، إذن نحن أمام معضلة وعلى وجه الخصوص في وضعنا البشري المعاصر، وتلك المشكلة لا حلول واقعية لها تماما، وكذلك من الندرة أن تجد لها الحلول الجوهرية، وطبيعة الحياة حياتنا تلك الأم البائسة هي لا تهتم لعوامل الصبر إلا ما ندر، فمن الصدفة أن نعثر على إنسان صبور دون اكتراث، فتلك العصامية النادرة هي وجه رجعي في الأفق العام، والذي لم يعد يعرف معنى للصبر، حيث لقد اعتاد الوضع البشري في ما بعد الحداثة وربما ما بعد بعدها أيضا، أن يضع الصبر على الطاولة ويخرج، فالحياة في نمطها الجديد هي بلا أي معنى للصبر، وهناك في نمط الحياة الجديد هذا صرحت صيغة الزمن ونمط سرعتها أبعد الحياة بعيدا عن الصبر، ومن ثم تطبع الفرد البشري على صيغ الحياة الجديدة وتداولها جعله ميالا لعدم الاكتراث إلا بما تطبع عليه، ومن أكثر الأمور التي اعتاد عليها الفرد وتطبع هي استهلاك الأشياء، ودون إحراج نجد الفرد لا يصبر حين تنفد سجائره ويقوم على الفور بشراء السجاير بعد استهلاكه ما سبق، وليقوم باستهلاك تلك ويستبدلها بغيرها، وإذا قيل في الأمثال بأن الصبر مفتاح الفرج، فالفرد يصبر على سياسة بلد رعناء، لكن لا يصبر إذا نفدت شكائره .

***

محمد يونس محمد

..........................

1- ما بعد الإنسان – روزي بريدوتي – ترجمة حنان عبد المحسن مظفر – عالم المعرفة – ص 25

1- العزلة والمجتمع – نيقولاي برديائف – ترجمة فؤاد كامل – دار الشؤون الثقافية – ص 83

في تفسير الخطاب الذي يمتلك ارادة وحرية خالصة، يكون سهم الموقف يتجه اليك، مهما ابتعدت عنه، وتلك السمة الاساس التي تمثلت في موقف الحسين في كربلاء، حيث تحدت الحرية الخالصة ذلك الكم الهائل المستعبد، والحسين ليس فقط المثال المتفرد في اطار الحرية، بل هو المثال الأول على مستوى الواقع طرح حرية الانتخاب، ورسم صورة مثالية لجدارة الموقف وحرية الرأي، وتحول موقف الحسين الى نص الحرية في التفسير الفلسفي، وبنس كبيرة على مستوى الفكر والمعرفة، وفي التفسير الموضوعي لتجسيد الأمة، نجد بالتحليل الخالص تمثل الحسين المثال الاجدر في تأسيس امة الشدائد وليس امة الرخاء، ولابد من جعل المواقف دلالة للبراهين، والبرهان في تفسير مفهوم الأمة على مستوى الفكر والواقع، لدينة امة تاريخية للإسلام، تعيش وتتنفس الاختلاف المقبول حسب تفسيرها، لكن في اطار الفلسفة الموضوعة هي تعيش اعلى نسب الخلاف، ونمت تلك الكراهية التي كانت بين جنبات ماكبث، وازدهرت عند دين الطائفة البغيض، مخالفة تلك الروحية الباهرة والتفاني والاخلاص التام، الذي تمثلت به امة كربلاء، والتي اتجهت الى الموت لتخلد ولا تزول .

اهم مفاهيم الأمة هي الارادة، ولا نعني بها تلك الارادة الالية، والتي تكون بتراكب ما بين مثلث – الدولة – المجتمع – الفرد -، فهي بحد ذات وجه غير نقي للإرادة، ولا يمكن أن تبرهن على وجود ارادة خالصة، وفي التفسير الفلسفي لا يمكن لمن لا يملك الحق أن يعطي الانصاف، ومن لا يمتلك الحرية هو يعيش في قفص الدولة والاعتقاد والاعراف، وتاريخ الامة العربية الاسلامية لا يخرج ولا يبتعد ابعد من هذا التوصيف، والتاريخ المزيف صريح اكثر من الحقيقة التاريخية، وصراحة تلك الأمة بلا نص، ولا تمتلك غير وثيقة مزيفة، واما مثال اساس الفلسفة ودهشة المعرفة وتمام الارادة الحرة، وذلك الذي وصف بالخارجي العظيم  اعطى للبشرية اعظم درس، وبرهن بالتضحية الشجاعة على وجوب اعادة انتاج الدين كافلا لمعنى الحرية الفردية بأقصى المستويات، وبالرغم انحراف الوعي الاثني وارتداده، وبث السموم الرجعية لحفظ ماء وجه اليمين الدعي، وتسخير ذلك التاريخ المزيف ضد تلك الحرية الخلاقة، وبالرغم من تقديم اوثان الجاهلية كوكلاء للرب على الارض، وأية اراضي، والتي اغلبها حسب النص القرآني مغصوبة، فجاء في الذكر الحكيم – اوحينا اليك قرآنا عربيا لتنذر ام القرى وما حولها - ، وصراحة النص العلوي لا غبار عليها، وحدد النص المواقع الموجب حريتها، فهي مكة وما يحيط بها، وما كان ابعد من ذلك، فهو احتلال حسب المؤشرات التي اوردها القرآن .

من الاسهل تفسير الحرية في حدود المفهوم، ومن الصعوبة أن نتمكن من تفسير الحرية في مستوى الواقع العملي، والحرية حسب التفسير الفلسفي الذي نؤمن به هي انتاج وليس اكتساب، ونرى لا حرية بلا ارادة، وكما نقر بانعدام الارادة اذا انعدمت الحرية الحقيقية، ولا اجد في تلك السيرورة الواسعة من التاريخ الا ذلك الوجه المشوه للحرية والارادة، وكما لا تلمس في كيان الآمة غير ذلك النفس المنفعل من خلال التزام الاعتقاد الطائفي، والتي لا توصف الا بالدين السياسي، فالنص قد تم الاسراف في تزويقه، والذي هو نتاج رجال تحكمهم النوازع النفسية، واذا كانت المسيحية بوجه اساس اسهم ذلك العدد الذي لا يتجاوز اليد الواحدة، فيما تجاوزت ذلك امة الاسلام ذلك العدد، وامة بتزويق وانعدام الحرية والارادة،  والاف من مصححي المسار العقلي والعملي للدين .

النص الحقيقي هو حرية الاختيار، وحرية الاختيار هنا هي من يوازن ما بين الدوافع النفسية والاحتكام العقلي، والحرية التي تحليلنا الى الدوافع النفسية، هي ليس الا ذلك التهور او الفوضى التي تسمى بالخلاقة اليوم، والحرية من جهة اخرى التزام بالمعنى الإنساني من خلال ارادة حرة، والتي تعمل على تنظيم الجانب العقلي والجانب النفسي على السواء، ويمكن لتلك الارادة من انتاج بلاغة سلوك تسمو به وتصل الى حد الاستثناء، لكن ذلك كله لابد أن يصب في اطار العامل الإنساني، ولا – ابدا – أن يصب في مصلحة شخصية، بل السمو على الغرض الشخصي احد السبل الاخلاقية، والتي لمسناها في الترجي من قبل نص الحقيقة المعنوية وهو الحسين للرجال بأن يتخذا من الليل الجمل الذي يوصلهم بأمان، وكما يبقي لهم ماء وجوههم، لكن جاء الجواب من جهة التلقي المثلى للنص بالصورة الابداعية الموازية للدعوة النبيلة، وقبالة ذلك الأمة بلا حرية ولا ارادة تدافع عن السجون اللغوية، والتي ارتفع ايقاعها من التلقي الموازي الى صفة القداسة، ولكن يبقى الادعاء يصب في جهة اخرى، والاصول الفلسفية ترى بأن الدين فطرة سليمة وليس وثائق مكتوبة، والتي مهدت للتمايز والتفاضل ما بين المذاهب السياسية للدين، وعدم اتباع الفطرة واتباع الوثائق المكتوبة بأيدي ونوازع بشرية هو مسار ايديولوجي، ولا يختلف عن اتباع الماركسية والاعتقاد بها، وتلك مواقف جزئية وليست مواقف تامة الا في حدود نفس الاعتقاد .

النص الذي نعنيه في تفسيرنا الفلسفي لا تصل الى حدوده الوثيقة، فهي من جهة اشتركت في انتاجها النوازع النفسية اثناء ظرف الكتابة، وكما هناك جهة ثانية تشير الى حمية الاعتقاد، والتي برع  المفكر الدكتور علي الوردي في تحليل مضامين الذات البشرية التي انتجت الوثائق، والوثيقة الحقيقية هي من تكشف الزيف وليس تستره وتزوق ما يهدف اليه، حتى رسمت صور مهينة للنبي، فمرة يتسابق في الجري مع زوجة له، واخرى تكشف الاوضاع السرية، والتي تتنافى مع الاخلاق العامة، فيما النبي جاء لإتمام  مفهوم الاخلاق، الذي قدمه لنا الفيلسوف سقراط عبر صورة فقدمت تماما في تاريخ كتابة الدين، وسقراط هو الدرس الامثل للإرادة وحرية الاختيار، وجاء الحسين ليكون ذلك المثال الابلغ جدارة في اختراق سلطة الزمن العضوي، والخروج من مسار الزمن الى مسار المعنى وبلوغ افق الرمز، فكان ذلك النص الذي انجذبت لها اللغات، فجون اشر احال الحسين الى ركن العدل الاجتماعي، فيما الالماني ماربين يرى بالحسين الدرس الامثل، اما براون الانكليزي يرى نسب الالم الجبارة يمكن أن تسقط اي بناء مزيف، وتوماس كارليل يرى ذلك الايمان الفطري بالحرية راسخ ولا يمكن فصله عن الكيان البشري للحسين، والسؤال اليس الحسين هو النص الذي استعاره التاريخ لتكون هناك قيمة مضافة للتاريخ  وبلغات شتى، لذا (إن الرجال الذي مثلوا أعظم الأدوار في العالم، كانوا رجالا قويي الإرادة، مقدرين قدر نفوسهم، ولهم الجرأة أن ينسحبوا من جمهرة الناس ويخطون لهم طريقا)1. وتفرد تفرد النص، الذي انجذب اليه التاريخ برحابة صدر، وبقي يدور في مداره الزمني .

اذا كانت الحقيقة الدينية لا تحتاج الى اقنعة او تحسين، فلماذا كل تلك الاقنعة التاريخية، والتحسين المرتجى قلبه الصولجان على قفاه، وتلك التحسينات التي ذهبت لصالح السلطة الدينية او الدنيوية، قد فصلت النظرية الدينة عن الواقع البشري لها، وكما استبدلت قيم الصلاح الإنساني الى التزامات بالعبادات، على اعتبار عالم العبادة هو عالم الزهد، والعالم العملي للدين عالم الانجذاب للدنيا، وهذا ما انتج مجتمعات للدين في خمول تام، فالواقع العملي للدين هو الرهان، لكن الفقاهة وعسس الدين حولوا المسار، ونستذكر هنا عندما بنى ابراهيم بيوتا لله، سأله الرب كم من الجياع اشبعت، وهذا ما يعني دور العبادة  للخمول الديني وللزهاد، فيما الواقع العملي لخلق قوانين صارمة للتعامل البشري، وصراحة السلطة الدينية هنا قد تجاوزت عقبة عصيبة، فلن يكون هناك الا ذلك الالتزام العبادي، والذي قد انتج له ذلك الكم من الاحاديث والروايات، والصلاة في الجامع اصبحت البديلة لصكوك الغفران، واصبحت النص الديني الذي تستقبله السماء مباشرة، وتلك الشكليات استهلكت اوقات الافراد، وتقريبا انعدم الاستعداد الى الواقع العملي، وانعدمت الارادة نتيجة لوجود الية حكمت الحياة البشرية، ويقول لنجلس (يجب ألا ينظر للعالم ككيان من اشياء جاهزة، بل ككيان من عمليات)2، وهذا الرأي اعتقد يضعنا في مواجهة حتمية مع الدين الجاهز، الذي هو وثيقة وليس بنص، وتطرفها هذا استوجب الرفض والاعتراض والاحتجاج والنهضة .

ثمة فارق هائل ما بين الوثيقة والنص، فالوثيقة هي تكفل ذلك الافق الزمني المحدد الزمان، قبل أن تدخل في متن التاريخ بعد ما يقارب مرمر قرن على صيرورتها، واما النص فهو الوجود والموجود، والنص خارج التحديد الزمني يكون، فنحن نقرأ اليوم الالياذة ويفصلنا عنها ما يزيد على خمسة قرن، وكذلك نجد في مكتبة كتاب دانتي، وفي تلك العملية الدلالية نقف على مغزى فلسفي جعل المنحى العلمي سبيل التأهيل، والنص ديالكتيك لكن ليس وفق ذلك السياق المشترك للديالكتيك، وعملية التلقي تشعر بأنها امام فعل، وهو سلطة نفسه، وليس كالسلطة الدينية او السياسية التي تحكم الناس، والدخول الى  النص يحتاج الى فطرة سليمة، ولا يحتاج ارصدة او ممتلكات ثمينة، فتلك تفنى وتزول، وكم ازيلت من شواهد عظيمة كما يصور للناس، وكذلك ممن البس ثوب العظمة والمهابة، ارتحل عاريا ويرتحلون عراة الا من الكفن، والنص بسلطته يدور ويدور التاريخ معه، وتلك الارادة التامة ما احوجنا اليها نحن من تسير اراداتنا عرجاء، وحريتنا التي تحتاج الى ما لا يحصى من التبريرات لكي تستقيم، وحرية النص الازلي كانت ابلغ صورة، وهنا وجه الاشكال، فالبشرية تحتاج الوجه العقائدي من الحسين ولا تحتاج الوجه الإنساني، فمفهوم الإنسان ليس قائما على وجه الحاجة، بل على وجه التضحية الباسلة، ونحن ابناء الظروف ولسنا ابناء الارادة التامة الاشتراطات، وكما لسنا نحن ابناء الحرية المسؤولة المنتجة من عزيمة فطرة سليمة .

اتوسم بنا جميعا انزال لافتة الامام، واعلاء لافتة المعنى، ومن يشكل موقع الامامة هو رجل تجري عليه ما يجري علينا، لكن المعنى حتى من الصعب أن نلمسه كما نقوم بلمس الامام، وامام الامة فرصة في التحول الى عقلي عملي فاعل، وبذلك نزيح عنه الكاهل العظيم، ويستعيد ما فقد في مرحلة التقديس، وتجاوز التكريس الروحي للدين، ولابد من التحول من مفهوم ترفيه النفس الى مفهوم محاسبة النفس، وصراحة محاسبة النفس هي اخر الامور، ومحاسبة الاخرين هي التي تحتل الزعامة في حياتنا، وكذلك امتلاك رد فعل يتجاوز الفعل بكثير، والنص يشير- لا تستوي الحسنة والسيئة ادفع بالتي هي احسن – ونحن نذهب باتجاه معاكس، ولو تطلبت الظروف والحتميات والموقف العام الذهاب في اتجاه معاكس لأنسحب الجميع، وهذا ما يجعل الدين في حرج، وكذلك الإنسان الذي بداخلنا لا يجد النفاد الى الحرية التي قد تتاح له، فعالم العبيد هو السائد صراحة وعالم الاحرار نجده مفقودا الى حد كبير، وهذا ما فصلنا عن النص وطاقته الكبرى، حتى فقدنا الارادة المناسبة الاشتراطات المهمة للجهتين، وفقدنا نسبيا حرية الانتاج  .

في النظرية الدينية لابد أن نفرق ما بين العقل المنفتح او الحر بما يمتلك من مخرجات، والعقل المقيد او المغلق الذي لا يخرج عن حدوده، والمخرجات التي يمتلكها غير مؤهلة لأبعد من حدود الاعتقاد، وكذلك في النظرية العلمانية المقابلة ذات الطرح نجده متوافقا، ولا يقول لي العقل العلماني هو المؤسس لنظرية العقل المنفتح، ونشير هنا مباشرة الى مفهوم الحرية ومديات تشكله في العقل العلماني، فالعلمانية الرشيدة تضع نسب للأيمان بالطروحات الفكرية، ولكن النسب الاكبر للنزعة الإنسانية، والعلمانية المغلقة تقابل التدين، فكلاهما لا يصل من جهة الى الدين الحر، ومن جهة اخرى الى العمانية الحرة، وثمة مشتركات ما بين معنى الحرية في الدين ومعنى الحرية في العلمانية، ومحور المشتركات هو العامل الإنساني، لكن ذلك يوجب الانطلاق من حرية تامة، وليس هناك تأهيل اذا قدمنا الايديولوجيا الدينية او العلمانية، ونحن ازاء المعنى ولسنا ازاء الذوات، ولابد أن تسمو العلمانية والدين نحو ذلك المعنى، فدين الرجال في التفسير الموضوعي يعكس لنا ايديولوجيا من نوع المغلق، والكنيسة حرقت البشر وهم احياء لمعارضتهم لها، والاسلام السياسي خلف ماسي وضحايا، بل بلغ الى الحد الذي يوصف به بأنه قتل نفسه بنفسه، وعجيب دين الرجال يشترك به الابرياء مع الطغاة والظلمة، ودين المعنى هو ليس باعتقاد الا  عبر الفطرة السليمة، وهو حس وشعور، ولا يضع فيه العقل خانات للخصوم في الجهة المقابلة .

النص يكون افق الطرح فيه عبر الممكنات الحسية والاحتمالات العقلية، التي ليست التبريرية ولا المغلقة الاعتقاد، بل عبر القيمة والموقف، وطبيعة الحياة الحرة تحتاج الى المحفزات من جهة تصعيد الحس الإنساني، وفي المعنى الديني من اجل رفع مستوى العرفان، وهيدغر يجد العرفان هو الجوهر، الذي يعطي للنشاط العضوي طاقة خلق وابداع، وهل هناك اجمل من الابداع الإنساني، وكم هو عظيم من ابدع وبكى، كما بكى الحسين بن علي على الاعداء، فرسم لنا صورة بهية للسيد المسيح، تركناها خلفنا في دين الاعراف والتقاليد، وكما العقل الرجعي اعتبرها نمطا للأيديولوجيا الدينية، ولا تغادر ذلك التوصيف، ولا ادري حتى يقبل دين العبيد أن يفنى الاحرار جميعا، ولا يبقى اثر لسبارتكوس، ولا يرسخ ذلك المعنى الابداعي، وتلك الشجاعة والارادة الحرة، التي لا تشترط الا العامل الإنساني، ولن يكون هناك أي تأثير غير ارتداء الملابس التي تحمل صورته، واما اثره فلا وجود له في النفوس، ويبدو المجتمعات اعتادت على دور العبودية، ولم تعد تهتم لقيمة الحرية، ولا يوجد لمعناها أي اثر، والدين المغلق والعلمانية المعادلة له استمرا في التسابق لكسب مساحات اجتماعية اخرى، فالناس اليوم عبيد الاستهلاك، وما نفد يكرر بشكل مستمر، ومن يصلي بتلك الارادة الهشة يستمر في تكرار ذلك، دون أي تطوير معنوي على اقل تقدير، وكذلك من اعتاد على احتساء الخمر يوميا ايضا يكرر ويستهل حياته بلا ابداع انساني، وارضاء النفس ذلك كم نود أن يستبدل، ويكون هناك ذلك الارضاء للعقل، وحسب تلك المؤشرات البشرية فإن على المستوى الإنساني لا وجود لنتائج مرضية، وما دام افق الاستهلاك يتكرر وقدر له البقاء مستمرا، فالحياة ستكون في توصيف فلسفي اشبه بنقطة تنمو ومن جديد تتخصر نفسها، وتعاد تلك المعادلة باستمرار، واي قدر كتبت البشرية لنفسها، قدر الاستكانة والاستسلام، وكونت اكبر مجتمع للاستهلاك في التاريخ .

***

محمد يونس

............................

1- قوة الإرادة – اوريسون سويت ماردان- ترجمة يوسف شديد أبي اللمع- دار صادر- ص 46 و47

2- الفن والإنسان – محمود صبري – مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية- ص 83

سخر العلماء من الفلسفة كونها ليست أكثر من تأملات نظرية تفتقر الى التجربة، حيث وصفها العالم البريطاني الراحل ستيفن هاوكنك بانها "ميتة". لكن من المؤسف ان يكون الوصف هكذا لأن الطريقة العلمية ذاتها هي تجسيد لتفكير فلسفي برز من حقل فرعي يُعرف بـ الابستيمولوجي. تاريخيا، عملت الفلسفة مع العلوم جنبا الى جنب لتطوير فهمنا للعالم. في الحقيقة، اتخذت "العلوم" اسم "الفلسفة الطبيعية" في الشطر الأكبر من التاريخ، والعلماء يجب ان يكونوا اكثر امتنانا للفلسفة. التقدم في الفلسفة السياسية والاجتماعية ربما حال دون تصفية العلماء الذين أثاروا الاضطراب للنظم القائمة . هنا، سنفحص ثلاث رؤى فلسفية قادت مباشرة الى التقدم في الكيفية التي يعمل بها العلم.

1- فرنسيس باكون واستدعاء البيانات التجريبية:

سؤال "ما الذي يجعل العلم مختلفا عن كل شيء آخر؟" هو في الأصل سؤال فلسفي. ذلك يعني ان الفلسفة تساعد في تعريف ماهية العلم. وهذا شيء هام، لأننا لكي نتعلم حول العالم، نحتاج ان نتأكد من صلاحية الطرق التي نعمل بها. في الجزء الاكبر من تاريخ الفلسفة الغربية كانت أفكار ارسطو هي الأكثر أهمية. كانت فكرة ارسطو في العثور على الأسباب في العلوم مرتكزة اساسا على المنطق الاستنتاجي، ولذا فان التجريب لم يكن جزءاً حيويا من العلوم.

فرنسيس باكون، الفيلسوف الانجليزي والمستشار المالي لجيمس السادس  كان مختلفا عن أسلافه، حيث اعتقد بقوة البيانات التجريبية. في كتابه Novum organum وترجمته من اللاتينية (وسيلة جديدة للعلم) (1)عرض باكون بديلا للفكر الارسطي من خلال الجدال عن أهمية البيانات التجريبية. ومع ان طريقته لم تعد تُستعمل على وجه الدقة، لكن كتابه يوفر الأساس للطريقة العلمية.

فكما يتضح، باكون ذاته لم يكن جيدا في التجريب حيث (ان الالتهاب الرئوي الذي قتله ربما نتج عن تجربة تبريد استلزمت حشو الدجاج النافق بالثلج). هو احيانا قورن خطئا بنيوتن الذي راجع طرق باكون ووضعها في استعمال أفضل. غير ان أعمال باكون وجدت جمهورا متحمسا للتلقّي أثناء فترة التنوير. فولتير أطلق عليه "أب الفلسفة التجريبية".

2- اطروحة تشرتش- تورينج church-Turing والتمهيد للكومبيوتر

الحوسبة الحديثة ارتبطت بمحاولات فلسفية لتقرير أي المشاكل الرياضية يمكن حلها.ومع ان كل شخص عرف عام 1936 ما يعنيه الكومبيوتر – كائن بشري يهيء الجواب لمشاكل رياضية صعبة – ولكن ما هي المشاكل التي كان يمكن حلها بهذه الطريقة بقي سؤالا مفتوحا.

آلن تورينج أنجز أحد الحلول للمشكلة عام 1936. ورقته التي غيّرت العالم كانت بعنوان مرهق "حول الأرقام القابلة للعد، مع تطبيق لقرار المشكلة Entscheidungsproblem". من هذه الورقة، نحصل على العديد من الأفكار الجريئة، بما في ذلك "اطروحة تورينج"، التي تقول، اذا اعطيت وقت كاف، فان أي شيء يمكن تمثيله كخوارزمية يمكن حسابها. هو يجادل بان "ماكنة حساب عالمية" يمكنها القيام بهذا بدلا من الانسان.آلن تورينج كتب حله للمشكلة مباشرة بعدما قام الرياضي والمنطقي الونزو تشرتش Alonzo church بكتابة اطروحة خاصة به حول هذا الموضوع. نسخة تشرتش هي "تكامل لامبدا" lambda calculus ،وهي طريقة يمكنها ان تحاكي كل الطرق الاخرى للحساب. الاطروحة هي بالاساس ذاتها. هو ايضا وجد ان كل شيء يمكن حسابه بواسطة الانسان (او الماكنة باستعمال عمليات مشابهة) يمكن حله في عدد محدود من الخطوات يُعبّر عنها بعدد محدود من الرموز.

اتجاه تورينج يُعتقد بشكل عام هو الأكثر تفوقا – حتى بموافقة تشرتش. والأكثر اهمية هو حقيقة ان عمله اتخذ اتجاهات مختلفة للوصول الى نفس الجواب بما يؤكد صحة الاطروحة . الجدالات اللاحقة وفرت دعما آخراً. اليوم، اطروحة تشرتش- تورينج هي فرضية أساسية لعلوم الكومبيوتر التي قادت للعديد من التقدم.

تقريبا كل كومبيوتر صُمم باعتباره "ماكنة تورينج عالمية" بما يعني يستطيع إجراء أي خوارزمية يمكن حسابها. ايضا، فكرة خزن التعليمات التي سيتبعها الكومبيوتر  بشكل الكتروني وليس مادي (مثل رموز لوحة الحروف او المقابس) ايضا تعود تاريخيا الى صياغة تورينج في الاطروحة.

3- نعوم تشومسكي بدأ ثورة الادراك:

في اواسط القرن العشرين، ركزت العديد من الطرق المهيمنة على التفكير حول الذهن والدماغ على السلوك كليا. مدارس الفكر مثل السلوكية ركزت على استجابات الانسان للمحفزات والعقوبات. فمثلا، في حالة اللغة، كانت النظرية الرائدة في بداية الخمسينات من القرن الماضي هي ان الأطفال سمعوا عدد كبير من الكلمات وتعلموا استعمالها عبر التعزيز الايجابي، وعندما استعملوها بشكل صحيح، حدثت اشياءً جيدة.

هذه النظرية فقدت مصداقيتها بعد ان كتب نعوم تشومسكي أول كتاب له. هو تخلى عن النموذج السلوكي عبر الاشارة الى ان الاطفال لم يكونوا قد حصلوا على أمثلة كافية للّغة في سنواتهم المبكرة لتوضيح كم السرعة التي تعلّموا بها. بدلا من ذلك، هو يجادل ان الناس وُلدوا مع قدرات فطرية ليتعلموا لغات جديدة، وهو ما يسمى "وسيلة اكتساب اللغة". وبسبب افتراض قدرات تعلّم اللغة الطبيعية، كان الاطفال قادرين على تعلّم لغة جديدة بسرعة.

وبينما يستمر اللغويون في النقاش حول مدى ملائمة الصياغة الأصلية للنظرية، لكن النظرية أطلقت الثورة الادراكية وقادت مباشرة لما يُعرف الآن بعلوم الادراك. هذا الحقل يستخدم اتجاها متعدد الحقول لفهم الذهن الذي يحوّل الطريقة العلمية باتجاه فحص ما يجري داخل الجمجمة. وبالتالي، اثّرت علوم الادراك على العديد من مظاهر علم النفس بالاضافة الى الذكاء الاصطناعي.

***

حاتم حميد محسن

.............

الهوامش

(1) في Novum organum يضع باكون تفصيلا لنظام جديد للمنطق يختلف عن النظام القديم لارسطو. هذا يُعرف الآن بطريقة باكون. يأمل باكون ان التحقيقات التجريبية سوف تحطم الافكار العلمية القديمة وتقود الى فهم اكبر للعالم وللسماء. هو اتخذ موقفا مضادا من اتجاه ارسطو القديم في العلوم، مجادلا بوجود حاجة لطريقة جديدة بسبب التحيزات الطبيعية والضعف في الذهن الانساني، بما في ذلك التحيز الطبيعي للبحث عن توضيحات ميتافيزيقية لا ترتكز على الملاحظات الواقعية. اعتقد باكون  بالطريقة التجريبية المرتكزة على الملاحظة والتجربة في السعي للمعرفة. هو رفض اتجاه ارسطو في الوثوق بالعقل وحده، بدلا من ذلك هو دعا اكثر لنهج عملي لفهم العالم الطبيعي. ارسطو من جهته اعتقد بأهمية العقل والمنطق في فهم العالم وأبدى اهتماما قويا باستعمال المنطق الاستنتاجي للوصول للمعرفة.

ثمة فارق كبير جداً بين كوْن الإسلام (ديناً عالمياً universal religion) وإسلام الرحمة (كمفهوم كوني cosmic concept). لأنَّ عالمية الرسالة جاءت في المواعيد السياسية والإجتماعية المنتظرة لكل مُتطلِّع لفرض الاسلام (بالدعوة أو السياسة أو التنظيم أو التطبيق). وهذا التعميم هو أحد (الأشكال المقلوبة للصراع) والتي تعدل الأوضاع فيما بعد لصالح منفذيها. أي هي تستحوذ على صورة الإسلام مدعيّةً (نموجاً خاصاً) فوق كل اختلافات البشر. فشعارات العالمية بُذلت وتطايرت هنا وهناك لصالح الأفكار المحلية القُح، وغدت لوناً من التبرير الخاطف لممارسات القمع والاستعلاء. وقد باتت الأديان في هذا المضمار تتزاحم وتحشُر أقدامها محل الأخرى داخل المشاهد العالمية.

بالفعل لقد استعمل رجالُ السياسة موارد الدين لأغراضهم الخاصة، منذ حقبة الإسلام المبكر حتى اللحظة. والأمر هنا ليس مصادفةً، لكون الإسلام قد استمر متجذراً في الثقافة الشائعة، وعندما كان الحاكم يريد غلبةً إزاء الجماهير، كان عليه أنْ يتقوّى لاهوتياً من هذا الجانب. وكان عليه أنْ يستثمر الثقافة الدينية في ترويج صورته وسياساته. وحدثَ أنْ وجدَ أصحابُ السلطة تراثاً زاخراُ - لكل ما ينتوون فعله- من التفسيرات والتأويلات، وصولاً إلى استعمال المذاهب وتغليب مكانة الفقهاء على سواهم من المفكرين والفلاسفة والمتصوفة.

جميع ذلك كله كان (خدمةً مقدّسة) في بلاط الحكام المسلمين، حتى تبناها البعضُ لإدامة عمر الأنظمة السياسية أطول فترة ممكنة. يعلمنا التاريخُ العربي أنه لا يبقى أيُّ نظام حاكم صامداً من غير (حزام من التفسيرات والأحكام والفتاوى  والشروح الدينية) حول أركانه ومصالحه، حزام يوثق الأدمغة والأفكار ونمط الرؤى السائدة تجاهه، بحيث يجد النظام دعماً من الحزام الديني حائلاً دون إنهياره. وطوال الوقت، يتحكم رجال السلطة في هذا الحزام الديني تضييقاً واتساعاً، بحسب ما يرتئون منه، وقد يحولونه وقت اللزوم إلى (حزام ناسف)، حين يستشعرون تهديداً لوجودهم على رأس السلطة!!

في هذا الاتجاه، خاضت كل الأنظمة والفرق والتنظيمات الاسلامية عملية تبرير لممارساتها بالرأسمال الديني (النصوص والمصادر والأدبيات المذهبية والرموز والسير الذاتية والمعارف والتأويلات...) وتسلّحت بالأيديولوجيا وطغت عليها صور "الغلبة والغنيمة" المعروفة. تلك النزعة التي كانت ذات طابع قبلي موروث حتى الثُمالة. عندما كانت القبائل البدوية تشن غارات حربية إزاء بعضها البعض سالبةً أموالها ونساءها وممتلكاتها الخاصة. وليس هذا فقط، بل كان  الغالبُ ضمن هذا الصراع يُشّهر بالمغلوب في إطار ما يُسمى(لاهوت الحروب). وهو اللاهوت الذي ظل سارياً في بعض تفاصيل الفقه وتفسيرات القرآن ومعتقدات العامة وأنظمة المجتمعات الإسلامية.

الغريب أنَّه عبر كل مرحلةٍ كان يمر بها الإسلام، قادت (سمة العالمية) أصحاب الدعوة إلى نشر الإسلام بهذه الصورة، سواء أكانت شعارات المرحلة "الإسلام دين عالمي" أم " الإسلام دعوة عالمية" أم "  الإسلام جماعة عالمية" أم "الاسلام في الغرب" أم " الإسلام والنظام العالمي" أم " الإسلام والعولمة" أم "الإسلام وأستاذية العالم"  كما مارسَ الإسلام الساسي. وهذا ما جعل الآخرين(غير المسلمين) يحتشدون – مؤامرةً أو غيرها- ضد زحف اللاهوت الإسلامي المسيَّس. وفي المقابل تلقائياً، نشأت توجهات الإسلام فوبيا Islamphobia بين شعوب الأرض بفعل العمليات الترويج المضادة للإسلام ككل.

وهذا للدقة كان خطّاً قد اخترقَ الخطابات والممارسات الدينية، حين كانت تُستنفَر كردود أفعال نتيجة وجود الغرب على أراضي الاسلام، وكانت كذلك أشد ضراوة بصدد التعامل مع المختلف دينياً. وقد انساقت حتى أغلب خطابات التجديد وراء تلك النبرة الحماسية إن لم تكن صراحة، فإضماراً. ولنراجع كتب الأمام محمد عبده وتلميذه رشيد رضا وكذلك مؤلفات رفاعة رافع الطهطاوي على (الإيقاع العالمي) بين الشرق والغرب، لأن التجديد الفكري الديني يردد أصداء العصر وآفاق الثقافة الجارية شاء أم أبى أصحابه. إذ سنجد خط التمايز بين الإسلام وسواه من الأديان، وسنجد محاولة المقارنة مع صور الحكم وأنظمة القوى العالمية مؤكدين على الصحوة أو التجديد بمنطق العالمية. وهي الثقافة التي ورثت طابع الجذور الاجتماعية والمعرفية للمجتمعات العربية الاسلامية، ثم اندمجت في الطابع العام للعصر ليس أكثر. ولذلك عندما يمتد الفكر الإسلامي إلى تلك المساحة، لن يجد مرجعية مفتوحة تدعمه غير الصور الأولى من التعايش بين المسلمين والمسيحيين واليهود وأهل الأديان الأخرى.

أمَّا الرحمة كمفهوم كوني، فهي أولاً: تتحلل من تلك الموروثات المقيدة مرةً واحدةً. وثانياً: بجرة قلم وحكمةِ وجود، لن تكون الرحمة مثل المفاهيم الأخرى (كالجهاد والآخر الديني والحقيقة ودار الحرب ودار السلام) التي اجترّت العنف، فالرحمة ودوائرها الكونية قائمة على قدرتها الذاتيه خروجاً من هذا المناخ كله. وكأنَّ الإسلام ظل يقول سلفاً إن طريق (عالمية الدعوة) بممارساته الخطابية طريق مسدود، وأنَّ عصوراً لاحقة للإسلام المبكر لن تكون مفتوحة كما يظن الناس. وأن هناك إنسانية أخرى لكل عصر، تليق به مفاهيم جديدة ومختلفة خارج لاهوت الدعوة بمعناها الأيديولوجي والوظيفي. إن الله في الاسلام وضع الرحمة التي تخلق فضاءً مختلفاً، لا الرحمة التي تنزع الفضاءات المتنوعة. فالجانب الكوني من الرحمة جانبٌ قد بُسطَ إلى أقصى نقطة مفترضة. وليس هذا فقط، بل وكانت هذه النقطة داخلة في صلب الإسلام، صلب الوجود الإلهي من تلك الحدود البعيدة.

والمعنى الكوني دوماً يزيح تراكمَ التاريخ الذي تشكّل وأصبح غطاءً سميكاً حول الحياة، ويمثل بداية جديدة مع إنسانية كونية تجدد الفكر واللقاء مع الآخر. وكأنَّ الله يقول ضمنياً: إذا كان المسلمون لم يكونوا على مستوى الإيمان الحُر، فالرحمة هي التي تجُب ذلك صراحة، هي (القيامة الفعلية الحانية) لكل ترسانة الكراهية الموروثة وإساءة استعمال الإسلام من أصحابه قبل أغياره. وكان الله قد أدخل الرحمة في متن الإعتقاد، لا بطريقة التأثيل ولا التخريج لمفاهيم ونصوص التعامل مع أهل الأديان الأخرى، لكن بالاستناد إلى (ذاته الخالقة) رأساً.

ولو نلاحظ، فإنَّ الفارق السابق ليس قليلاً على الإطلاق، لكنه فارق ضخم بقدر الإلتقاء مع كل إنسانية ممكنة، لا وفقاً لمعتقدات سابقة، إنما بحسب القطيعة التي قد تحدثها الرحمة عندما تقتضي الضرورة. وهذا في الحقيقة هو أحد أسباب الاختلاف بين أنماط التدين بالإسلام من داخله، فلو تمَّ التمسُك بحرفية المعنى ومراسم الشريعة والتأصيل الفقهي، فغالباً سيكون هناك إسلام الاعتقاد الذي يخضع لمبررات المرجعيات ويظل دائراً مع تخريج النصوص والأحاديث وإعادة كتابة الأفعال والأعمال وفقاً لأصول ثابتة لا يبرحها المتدينون. وهذا النمط الغالب من التدين الإسلامي أحكم سيطرته مع ظهور المذاهب السنية والشيعية... وغيرها، فالمذاهب بمثابة آليات ومبررات فقهية لرسم صورة لكيفية التدين في حياة الناس. كما أن هذا النمط يحمل نموذج حياته الخاصة منذ بواكير الإسلام ويصعب لمتدين أن يخرج عنها إلا جزئياً.

ولكن لو كان ثمة تمسُك بالرحمة، وما يتكون حولها من أفكارٍ ومفاهيم وعلاقات وآفاق وأنماط حياة وآمال حرة، فالإسلام هو الاسلام الكوني عندئذ، إى لن يكون إسلاماً معتاداً وخاضعاً لصور بيئية ثقافية متواترة. ولن يكون إسلاماً لاهوتياً خاص بهيكل بعض المؤدلجين ولا الذين يتخذونه حربةً سياسية بمسميات شتى.

تأسيسان للإسلام

بدا الوضعُ تباعاً كالتالي: أنَّ الاتجاهين (الإسلام كدين عالمي وإسلام الرحمة كمفهوم كوني) قد خرجاً من متن الاسلام المعروف نفسه. بل التأسيسان  tow foundations قد أتيّا من مصدرٍ واحد، وقال بهما الوحي الإلهي وأكد عليهما القرآن في أكثر من سياق، ولكن الرؤية وجوهر انطلاق التأسيس مختلفان إلى حدٍ ما. وبالتالي، ستختلف المسارات والتوجهات وطرائق العمل والأهداف البعيدة. فالتأسيس الأول (الإسلام كدين عالمي) ظل معمولاً به طوال التاريخ وطوال التحولات الاجتماعية والحضارية التي كانت مهمة لتكوين الثقافة الحاضنة للإسلام كما وصلت إلينا.

كانت كل نقطة ينطلق منها الاسلام كدين عالمي تجعله وثيق الصلة بجوهر المصادر المتداولة للإسلام، وبجوهر الفهم المتداول والرسمي للقرآن وكتب الصحاح المعترف بها وكتب المذاهب الفقهية التي تشتغل على ما سبق.  وهذا ما جعل (تغيير وتطوير) طابع الفقه والتفسيرات السادة للقرآن وكتب الفكر الإسلامي بطيء جداً، بل لا يكاد يكون هناك تغيير من المنبع حتى أخر نقطة ممكنة. وعلى ذلك، فقد تكوّن سياق الفكر الإسلامي وظل يناقش قضايا التراث والمعاصرة وقراءة التراث على طريقة الكتاتيب وبأساليب الطلاء الخارجي للبيت المتوارث. وإذا حاول أحدُهم – أي من المفكرين- أنْ يخرج عن السرب، فإنَّه يناقش الموروثات في ضوء الاتجاهات الفكرية والفلسفية المعاصرة بحسب وقتها.

وهذا التأسيس (اسلام الدعوة العالمية) ظل مرتهنا بالماضي رغم استعماله لمنتجات العصر، وكذلك ظل منشداً لمرجعياته كلما شعر القائمون عليه بأن هناك انحرافاً عن الأصول. بل بقيت مقولة الانحراف عن الأصول مقولة في ماهية التأسيس نفسه من تلك الزاوية. وعندما كان يحدث شيء جديد أو ما يسمى بالبدعة (كما في عرف السلفية)، كانت مقولة الانحراف تستدعي ذاتها من غير استئذان، وتظل بمثابىة الرقيب التاريخي على ربط الإسلام بمصادره الأولى. وحتى مصطلح المصادر الأولى، لم يخلو معناه وتاريخه من تماهٍ مع الثقافة والفكر الغالب بشكل عام. لأن المصادر الدينية المبكرة لم تحضر عارية وخالصة دوماً بعد هذه القرون الطوال من وجود الاسلام، فهناك تراكمات تأويلية علقت بها وحرمتها من التعبير المباشر عن نفسها. ولم تترك لها فرصة التنفس الحي بين أنفاس الناس، وبحسب تغير الأحوال والظروف المستجدة. وهذا ما يعرف بكون المصدر ينطق بالرجال كما قال الإمام على بن أبي طالب إن القرآن لا ينطق بنفسه ولكن بلسان الرجال.

وهو مبدأ غاية في الخطورة لما ينطوي عليه من معانٍ مهمة، وقد قاله علي بن أبي طالب في رده المشهور على الخوارج حين قالوا: " لا حكم إلاَّ لله " رافعين المصحف على أسنة الرماح، فقال الإمام على رداً عليهم: " القرآن بين دفتي المصحف لا ينطق، وإنما يتكلم به الرجال". والدلالة الواضحة لهذا المبدأ أنَّ عقول الرجال ومستوى وعيهم و قدراتهم المعرفية وفهمهم للآيات والنصوص هي التي تحدد الدلالات القرآنية، وهي التي تعطي النص الصامت لساناً فصيحاً أو غير فصيح للتكلم بحسب ما يريدون.

جاء هذا التأسيس التاريخي من الخلف إلى الأمام، أي انطلق من المرجعية الغالبة في كل عصرٍ إلى الفروع التي تتلقى دعماً رمزياً، وتحققُ ما تقول به المرجعية المهيمنة. وهو الشأن الذي ساد داخل كل بلاد الإسلام على اختلافها وتباعدها اتساقاً مع حركة التاريخ من الأقدم إلى الأحدث. إنَّ الحركة التأسيسية جرت مثل مجرى النهر الذي يسير من المنبع إلى المصب، ولكنها حركة لا تضمن نقاءَ مياههِ تجاه الممرات والحُقول التي يرويها. وهذا ما حدث مع الإسلام حيث حدث تلوث لمصادر الإسلام من خلال البيئات التي انطلق منها، لأن منتجي الخطابات الدينية وأصحاب الأفكار إنما يعبرون عن تجاربهم الدينية مع رؤيتهم للأصول التي تلقوها كما هي.

لعلَّ ظهور بذور التعصب والإقصاء بإسم الإسلام جاء مع هذا المجرى الطول، وإذا كان البعض يجادل دوماً بكون الإسلام لا يدعو للتعصب والعنف، فمن أين أتى العنف إذن؟! ... الإجابه أنَّ كل الأديان - وليس الاسلام فقط - لا بد أن تتفاعل مع الثقافات، وتترك عليها الأخيرة فهماً معيناً بحسب محدداتها التاريخية. والعنف جزء من طبائع الثقافة، حتى تواصل الحياة وهي البقايا التي تظل سارية رغم مرور السنوات. وسبب انتشار العنف والطابع التكراري العام للفكر الإسلامي أن الناس لا يلتفتون إلى تلك الحقيقة البسيطة جداً!!

فقد يكون ما تؤمن به أنت ليس معتقداً عنيفاً. ولكن عندما يصبح جزءاً من جهازك النفسي والعصبي وبالتالي الثقافي، سيخرج على هيئة أفكار لا تخلو من توتر وتشدد. وشئت أم أبيت، لن تستطيع القول بكونه إيماناً خالصاً، إنه عندئذ معبر عن رواسب ثقافية هي ما تتحكم فيها وفيك قبل أن تتكلم في حضورها، وهي التي تسبقك قبل أن تجيء إلى أي موقع ثقافي جديد، وهي المختزلة في أدق التفاصيل بجانب وجودك، وهي التي ستحيلك إلى علامة من واقع نظامها السابق والمهيمن عليك وعلى غيرك.

وهنا تظهر خطورة التأسيس الآخر في الإسلام (الرحمة كمفهوم كوني)، وهو جزء من تأسيس كوني قال به الله في القرآن، وينتمي إلى بنية الإسلام نفسه، ولكنه ذو طبيعة كلية عابرة لكل الحدود، ولم يسقط من علٍ ولا من موقع مجهول الهوية. وهذا التأسيس لا يخضع لمحددات الثقافة النوعية، ولم يترك فرصةً لأن يجادل المسلمون بكونه مختلفاً عما يعتقدون، لأنَّ الله حصراً ينسبه إلى ذاته قبل أي بشر: " كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ "(الأنعام/ 54).

هو النسب إلى النفس الذي يدرك تاريخ البشر، وهو نوع من الحوار الصامت حين يقول أحدهم كيف تكون الرحمة مع المختلفين وغير الدينيين، فسيكون الرد أن الرحمة شرط وضعه الله على ذاته، أي أن الله بإرادته المطلقة وضع شرطاً مطلقاً على نفسه. وتلك الإشكالية تثبت إطلاق الإرادة الإلهية من جهةٍ، وتثبت إطلاق الشرط (الرحمة) من جهةٍ أخرى. وأن الرحمة رافعة ضخمة لمعان وجوانب أخرى من الإسلام. إشكالية لا تدع لأي كائن وليس المسلم قصراً أن ينساق وراء دعاوى التعصب ومنع الرحمة عن مجالها الكوني الخالق. وفعل كتب الوارد بالآية، يعني : فرض وحدد ووضع ميثاقاً غليظاً: أنه لا مفر مما لا مفر منه بحكم خطورة المخلوق أيا كان وبحكم رحمة الخالق.

وتأسيس الاسلام من النقطة الكونية تأسيس جدير بالإنسانية قاطبة، وكأن الاسلام يقول إن نقاط التأسيس متحركة ومتنوعة ومازالت مفتوحة من عصر إلى آخر، ولن يضع  أصحاب العنف قيداً على الإسلام أيا كانت صورته. وهو تأسيس تفكيكي لكل تاريخ الإسلام التأصيلي بمعناه الثقافي والبيئي. وكأن الرحمة تجري حواراً أصيلاً بين جنبات الإسلام، بين ما تحقق بالفعل وما ينبغي أن يكون، بين ما جرى تشويهه وما ينتظره في الآفاق الرحبة، بين ضيق المذاهب و وسع الإنسانية الكونية.

وليس أكثر دلالة من إتيان التأسيس من دائرة الكونية، وهي الفضاء الآخر الذي تعد به صلاحية الإسلام خارج ذاته بالمعنى الأول. وليس هناك دين يمكن أنْ يتأسس على هذا الضمان المرتبط بموضوعاته الكونية التي لا يمكن لأحدٍ أن يمسكها حصراً. ولا يمكن لأحد بالتبعية أنْ ينال منها أصلاً كما يستحيل على الناس إدراك سرها. والقرآن في هذا الصدد، عندما يربط الرحمة بالذات والوسع الإلهيين، يضع دلالة الضيق في إحراج منطقي لاهوتي. وهو إحراج من صنع البشر، لأنهم عجزوا عن مواكبة مضامين نص القرآن ومعانيه.

وهذا التأسيس لا يشكل تناقضاً مع التأسيس الأول، بل يمثل أحد أساليب التجديد والرؤى المختلفة الكاشفة عن آفاق الفكر الإسلامي. فلو كانت مرجعيات الصراع قد أغلقت مجال التلاقي مع الحياة، فإن المرجعية الكونية هي الملائمة لعصر الانفتاح والإختلاف بإمتياز. باتت عملية التأسيس للإسلام من الرحمة الكونية أمراً لا مناص منه، نظراً لكونها ستقدم أفكاراً جد مثيرة للعقول التقليدية وغير التقليدية، وستضرب موعداً مع الحقائق الإنسانية. وبخاصة أن الله (وضع ذاته) مع هذه الحدود القصوى واللانهائية. لقد استبق واقع الحال إلى ما لا يتصوره إنسان.

إنَّ معاني الرحمة نقلةٌ خيالية غير متوقعةٍ في تاريخ الثقافة الإسلامية، خطوة غير مسبوقةٍ وتشكل مركزاً لثقل الحياة الحرة وزخمها. وبصريح العبارات، نصَّ عليها القرآن بشكل قاطع لا هوادة فيه، وأتى على تنويع سياقاتها ومعطياتها الإنسانية والوجودية. وليس ذلك أمراً طارئاً بحسب الظروف، لأنَّ كل ما يتعلق بالكون والإله لا طارئ فيه من الأساس. فهنا المسألة تخص الخلقَ والوجود مباشرةً، ومنطق الألوهية هو الذي يتكلمُ في تلك اللحظة الفارقة. وهو ما يجعل الرحمةَ مرجعيةً أخرى للإسلام ظلت متوارية جانباً في تاريخ المسلمين.

وتكمن الأهمية كل الأهمية في تحويل الرحمة من لاهوت الجماعة إلى أنظمة الحياة المعاصرة، ومن أنياب التوظيف إلى دلالة الحياة، ومن التماثل إلى الاختلاف، ومن الهبة والتفضُّل إلى الحق، ومن المقايضة إلى المساواة والعدالة، ومن الاحتكار إلى الإنفتاح. ولكن هل ستواصل الرحمة دلالتها متجاوزةً الخلفيات التاريخية لنشأة المفاهيم والثقافة؟! ولو حدث ذلك، فبأي معنى كوني ستعبر، وما (الرافعة القوية) التي ستنتشلها من هذا التراث؟!

***

د. سامي عبد العال

إذا كانت الحداثة بمجمل آفاقها كانت تضيع قيمة الإنسان أولا، وهو مركز وجود العالم، وأيضا هرمية الوجود البشري، وهو مثال الأخلاق العامة، على الرغم من  بعض الحيوانات قامت تنافسه، ومن مثل الكلب في الوفاء، بل أصبحت الفقمة تسألين الصغار والكبار أيضا، ونحن استثنينا الحيوانات الشرسة، والتي بعضها في السيرك يكون يمثل ويلعب أيضا، وتلك القيمة التي قد مثلها الإنسان كدور فاعل في روح الحياة ومظهرها، وكانت الحياة فيها نوع من الأمل، والأمثلة الإنسانية كثيرة، والكل يقف احتراما لها، وتلك الفلسفة المكتسبة من الفلسفة القديمة، حيث اعتبر الفرد البشري حيوانا متكلما، ولم تقل الفلسفة يمتلك عقلا راقيا في ظروفها واعتبرت أن الكلام وسيلة عقلية، وفي هذا الجانب تجاوز البشر الصفة الحيوانية، وبالتدريج صار يكتسب الصفة الإنسانية، ووقف كثيرا يدافع عنه، وفي الثقافة اهتم بها من خلال الفن والأدب، واجتماعيا يدعمها ويشير لأي فعل إنساني، لكن الحداثة عندما وصلت أقصى آفاقها، والذي هو آخر عصر للحداثة، وقد سبقت بعض الموضات التي تمثل عصر ما بعد الحداثة عصرها، وقد أثرت تلك الموضات في جعل فكرة الإنسان أن تخرج من إطارها للتحول إلى إطار آخر، والإطارية لا نقصدها بنفسها، بل في تمثيل جوهري، وصراحة اثرت تلك الموضات في اطر شخصية، وليس في الافق العام، والذي هو مثال، ولا وجود لشخصية تمثله بشكل كامل، والتغير لا بد من أن  يؤثر على المبدئية الإنسانية المتعددة، والتي تشابه الافق الغيبي، لكن هي اطارها بشري، ولم تتمكن الحداثة بذلك حفظ المعنى الإنساني، وتشابه المعنى بالأفق الغيبي جعل الحداثة عاجزة بشكل نوعي.

هل نقر بأن المعنى الإنساني اختفى تماما في عصر ما بعد الحداثة وزال مفهومه، واعتقد رضينا أو لا نرضى الأمر أصبح بصيغة مختلفة كثيرا، ففقد الفرد البشرية الهرمية التي كانت تميزه، وأيضا فرضت الظروف الجديدة عليه التخلي عن مركزه والذي هيمنت عليه الأشياء والحاجات، وصارت هي البديل للفرد البشري، حيث إن العالم اختلف بعدما كان عالم الإنسان أصبح عالم الحجات والأشياء، والحاجات نفسه تغيرت بعدما امتد إليها أفق العولمة، وصارت الشركات مثال الإنتاج بدلا من الدول الأساس التي كانت صيرورة الإنتاج فيها، وإذا فقد الفرد البشري قد فقد هرميته، وأصبح موقعه كمركز للوجود يخلو منه، والحاجات هي التي تقوم نيابة عنه، واستبدال البشر بالحاجة هو بحد ذاته أمر مهين، لكنه قد تحقق وبسهولة نستدل عليه، والحاجة إذا تكون ليس توازي قيمة الإنسان، بل أصبح الإنسان أدنى منها قيمة، فالحياة أصبحت بصورة مختلفة، وصراحة هناك آثار سلبية عاشتها الحداثة، وهي أصلا ضد المعنى الإنساني، فجريمة قتل حيوانات برية تسمى رياضة، فذلك الامر مثير للأسى، والطبيعة المنعدمة اخلاقيا في هكذا نوع – رياضة-، التي (مقبولة شعبيا يبرهن على الصفة الفطرية للذة في القتل يقدم شهادة على الموقف الساذج الى حد كبير في السلوك الاجتماعي)1، وطبعا تنحدر القيم الإنسانية الى ادنى الحدود، اذا يعتبر ذلك القتل اللذيذ رياضة، ولا يعتبر جريمة اخلاقية تتنافى تماما مع اصول اخلاقيات المجتمع، وتتنافى مع القوانين والاعراف في حماية الحيوان، وكان الاجدى أن يكون بدلا من حماية الحيوان من الانقراض، أن يقدم معنى حماية الحيوانات من القتل، وبالرغم من قيام  بعض الدول بتنفيذ حمالات نسبية لمنع صيد الحيوانات، والامر يقودنا الى ما اخزى واكثر الما، حيث اليوم البشر يقتل البشر بدم بارد لوجود اختلاف ايدولوجيات سياسية او دينية.

من الطبيعي أن نؤمن بوحشية الحرب، وندرك أن الحرب آفة مشوهة لا تبرد نارها حتى لو استعلت نار الألم البشري بين الجنبات، وتصرخ الحياة مستغيثة أن تتوقف وتهمد نيرانها، لكن الدول نتتبع خيط الأيدولوجيات لوجدناه فتيلا وليس بنسيج أفكار مقبولة في الأفق العام، فالسياسة صراحة جحيم لا يحتاج إلى عود ثقاب في وجه الانفعالات السياسية، وأخط ما يكون من تأثيرات لذلك الجحيم البارد أحيانا هي اختراقه لبنية المجتمع الطبيعي، وصراحة تفسير مدى خطورة ذلك ليس بالسهل، لكن كمن يضع في قنينة عسل أحد السموم، فالمجتمع الطبيعي أولا هناك فطرة عامة تلزمه، وثانيا هناك قانون اجتماعي يفرض عليه الالتزام به، وثالثا هناك أعراف عامة تمنع المجتمع الطبيعي من الانهيار، وتلك أركان المجتمع العام أو الطبيعي، وإذا انهار أحدها تأثرت الأخرى بشكل بالغ، والحمية البشرية هي فطرية وليست كما الحمية السياسية فهي ملوثة، وهذا الاختلاف لا بد من أن  يستمر ولا يتوقف، فهو إحدى سمات عزل سبيل أمثل إنسانيا عن سبيل التلوث والاستغلال والهدم، فتداخل المتناقضات يعني أن يكون المعنى الإنساني استغل ببشاعة ووضاعة، أو هدمت مقوماته الأصيلة الحيوية في عدة وجوه إنسانية، والتي بوجودها تقل آفاق العنف وتنخفض نسبة تضخم الذات، وينحدر انفعال النفس البشرية السلبي حتى الحدود التي يمكن من خلالها يكون البشر بصفاء روحي مقبول، فيما العكس يعني أن العامل الإنساني في خطر، والحياة لا تحتمل إلا التوافق والتالف والمحبة الصافية والعرفان والإيثار، ومن دون ذلك تكون في حساسية شديدة، وتجد هناك ركنا سينهدم، وحتى لو كان في شخصي فنحن لا نرضى أو نقبل بانهياره، فالفرد مثال للحياة، وهو شبكة من علاقات متعددة، وجميعها ستتأثر طبعا، ونحن كما نراهن على المعنى العام، كذلك نهتم بأفق خاص، فذلك الأفق الخاص عبارة عن شبكة علاقات متعددة المعنى، ولا يمكن أن نجزم بأن المعنى الإنساني مفقود كلي في مجمل العلاقات ولا اثر له، ولا بد من أن نتجاوز فكرة العام والخاص في تفسيرنا.

العالم الواسع المترامي في أفقه العام إلى أقصى الحدود من التضاريس كان في التفسير الموضوعي للوضع النفسي بين الإيجاب أو على العكس، ولكن هناك نموا للعامل الإنساني في بعض الحالات، فشخصي قريب إلى نفسك قصي وبعيد يحضر وتلتقي به، من الطبيعي هنا يرتفع المؤشر الإنساني، وهذا ما يعزز في النفس الراحة النفسية، ومن الطبيعي أيضا المسافر بالقطار أو بالحافلة يشعر بأناسه حين يواجه الطبيعة الجذابة بصريا، والنفس البشرية تشعر براحة كبيرة تعزز جوهرها الإنساني، وأما في إطار ما بعد الحداثة فقد تغيرت الأمور فقد أصبح ذلك العالم المترامي قرية عصرية، وصار من خلال التطورات الإلكترونية الهائلة التحول من أفق المشاهدة العضوية إلى مشاهدة مرئية، وطبعا لسنا مع الوضع السابق للبشرية وأيضا لسنا ضد الوضع الحالي، بل نحن نهدف إلى عرض وتحلي كل وضع وما هي امتيازاته وسماته وأثره، وصراحة محنة الإنسان أصبحت واسعة جدا، وهي ببعد شخصي، وأما في البعد العام فقد تختلف الفكرة فكريا، فالبعد العام هو بعد مفهومي وهو صراحة بلا معيارية محددة، ويتبدل حسب الموافق التي تمثل المفهوم في سلوكيات لا يمكنها رسم المفهوم بدقة، وذلك احد الاشكالات التي وقفنا عليه، ففي تفسيرنا الموضوعي ليس لدينا تأكيد على وجود توافق كلي بين المفهوم واثره في الواقع، والحياة هي بدورها تختلف من معنى الى اخر ايضا، وليس من الممكن تحديد المفهوم ولا حتى اثره في الواقع ايضا.

***

محمد يونس محمد

..................

1- تشريح التدميرية البشرية، أريك فروم، ترجمة محمود منقذ الهاشمي، منشورات أفكار، ص 221

الأنظمةُ الاجتماعية المُرتبطة بتاريخ الأفكارِ قائمةٌ على دَلالاتِ اللغةِ تَوَاصُلِيًّا وثقافيًّا ورمزيًّا، وهذا يَعْني أنَّ اللغةَ تُمثِّل شَرعيةَ الجَوهرِ الوُجودي للمُجتمع، وتُجسِّد مَشروعيةَ الفِعْلِ الاجتماعي الذي يَرتكِز على المعايير الأخلاقية في تفاصيل الحياة اليومية، مِمَّا يُسَاهِم في تَكوينِ مَنهج تحليلي للرابطة المصيرية بين الوَعْي بالماضي وإدراكِ الحاضر، ومُساعدةِ الفرد على أن يَكُون نَفْسَه بعيدًا عَن مَتاهةِ الأقنعةِ وشَظَايا الأزمنةِ. وإذا كانَ طريقُ الفردِ نَحْوَ تحقيق نَفْسِه يَمُرُّ عَبْرَ استعادةِ أحلامه المَقمومة، فَإنَّ طريقَ المُجتمع نَحْوَ الاندماج الثقافي يَمَرُّ عَبْرَ تفجير طاقة اللغة. وهذان الطريقان يَحْمِيَان الفِكْرَ الإنساني مِن التناقضات الحياتية الناتجة عن أنماط الاستهلاك المادي، ويُؤَدِّيَان إلى تَشييد مَصادر المعرفة على قواعد البناء الاجتماعي، بِحَيث تُصبح المعرفةُ سُلطةً حاكمةً على البُنى الوظيفية في مراحل التاريخ، التي يَتِمُّ تحليلُها وَفْقَ الرَّمزيةِ اللغوية، والدِّينَامِيَّةِ النَّقْدِيَّةِ، والعَقلانيةِ المُنفتِحة، وهذا يَدفَع باتِّجَاه إعادة صِياغة العلاقات الاجتماعية، كَي تُصبح مُنْسَجِمَةً معَ فَلسفةِ تَحرير الفَرد مِن الخَوْف، ومُتَوَائِمَةً معَ شخصية الفرد الإنسانية، بِوَصْفِهَا شَبَكَةً مَعرفيةً لِتَوليدِ التاريخِ بشكل مُستمر، وكُلُّ وِلادةٍ جَديدةٍ للتاريخِ على الصَّعِيدَيْن اللغوي والشُّعُوري، تُمثِّل هُوِيَّةً جَديدةً للفِعْلِ الاجتماعي، باعتباره بَصْمَةً وُجوديةً في إفرازاتِ الواقعِ المُعَاشِ، ولَيْسَ أداةً للهَيمنةِ على كَينونةِ الوَعْي الحُرَّةِ، وبيئةِ التفكيرِ الحَيَّةِ.

2

الجُذورُ الفلسفيةُ للأنظمةِ الاجتماعيةِ مُتَدَاخِلَةٌ معَ الفِكْرِ الإنساني، لَيْسَ بِوَصْفِه إفرازًا مِيكانيكيًّا للأحداثِ اليَوميةِ والوقائعِ التاريخيةِ، بَلْ بِوَصْفِه قُوَّةً دافعةً للعقلِ الجَمْعِي القادر على تَحويلِ سُلطةِ المعرفة إلى صِناعةٍ للواقع، الذي تَكتشِف فيه الرَّمزيةُ اللغويةُ آثارَ التفاعلاتِ الثقافية بَيْنَ تاريخِ الأفكارِ وجُغرافيا الحُلْمِ الإنساني مِن جِهَة، وبَين جَسَدِ المَعنى الوُجودي وتَجسيدِ هُوِيَّة المُجتمع مِن جِهَة أُخْرَى. وإذا تَغَلْغَلَت الرَّمزيةُ اللغويةُ في البِنَاءِ الاجتماعي، واندمجتْ معَ الشُّعُورِ والإدراكِ، فإنَّها سَتُؤَسِّس مَنَاهِجَ نَقْدِيَّةً قادرةً على تَحويل التجارب الشخصية إلى اكتشافٍ دائمٍ لِمَاهِيَّةِ الفردِ كّذَاتٍ إبداعية في الظواهر الثقافية، وكَوُجُودٍ مُتَحَرِّر مِن الانقطاعاتِ التاريخية الناتجة عن المصالحِ الشخصيةِ وسِيَاسةِ الأمْرِ الواقع. وإذا كانَ التَّحَرُّرُ بُؤْرَةً مَركزيةً للإبداعِ في الذاكرة الجَمْعِيَّة والمَصيرِ المُشْتَرَكِ للأفراد، فإنَّ الإبداعَ إعادةُ تَكوينٍ لِمَنظومةِ التَّحَرُّرِ مِن مَنظور العقلِ الجَمْعِي ومَنْطِقِ اللغةِ. وهذا التشابكُ يُوضِّح الدَّوْرَ الوظيفي للفردِ والمُجتمعِ في بُنيةِ التاريخ العميقة، لَيْسَ باعتباره مَاضِيًا لا يَمْضِي فَحَسْب،بَلْ _أيضًا_ باعتباره كَينونةً مُتَشَظِّيَةً لا تَنتهي، وصِرَاعًا مُستمرًّا على تأويلِ اللغةِ والواقعِ.

3

جَوهرُ الأنظمةِ الاجتماعية يَستمد أهميته مِن قُدرته على التمييزِ بَين المَعرفةِ والمَصلحةِ، وتَوظيفِهما ضِمْن مَسَارَاتِ العقلِ الجَمْعِي المُتَحَكِّمِ بالتَّنَوُّعِ الثقافي، والمُسيطِر على تأثيراتِ الفِعْلِ الاجتماعي، والمُهيمِن على آلِيَّاتِ التأويلِ اللغوي داخل هُوِيَّةِ المُجتمع. والعقلُ الجَمْعِي لَيْسَ انعكاسًا آلِيًّا لِسُلطةِ المَعرفة، وإنَّما هو إعادةُ إنتاجٍ لهذه السُّلطةِ بَين تأثيراتِ الفِكْر الإنساني وتفاصيلِ الحياة اليومية، مِن أجل بناءِ مراحل العملية الإبداعية على اللغةِ والذاكرة، باعتبارهما تحليلًا مُزْدَوَجًا لِصُورةِ المُجتمعِ وانعكاسِه في الأفرادِ. وإذا كانَ تاريخُ الأفكارِ تحقيقًا لِوُجودِ الفردِ نفسيًّا وسُلوكيًّا، فَإنَّ العقلَ الجَمْعِي تَحقيقٌ للواقعِ المُعَاشِ مَعْنًى ومَبْنًى. ويَنْبَغي عَدَمُ وَضْعِ حَدٍّ فلسفي فاصل بَين وُجودِ الفرد والواقعِ المُعَاش، فَكِلاهُمَا يَنتميان إلى وَعْيٍ مُشْتَرَكٍ بالزَّمَنِ وإرادةِ المَعرفة، ويَكشِفان كيفيةَ انبعاثِ الرَّمزية اللغوية في الفِكْر الإنساني، مِمَّا يُؤَدِّي إلى تَكوينِ فَهْمٍ لِتَعقيداتِ الحاضرِ ضِمْن مَركزيةِ الوَعْي بالماضي، وتفكيكِ أنساق المَاضِي ضِمْن مَرجعية إدراك الحَاضِر.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

يقال عنه بأنه عالم غريب لا يُعرف عنه الكثير حتى الآن، ولكنه بدأ ينتشر بشكل كبير في أوروبا وخاصة بريطانيا، حيث يريد عدد من الرجال البالغين أن يكونوا "كلابًا"، يرتدون أزياء الكلاب المصنوعة من اللاتكس والجلد ولديهم علاقات مع عمال من البشر، والمتحمسين لها يقولون إنها ليست دائمًا مسألة جنسية ولكنهم يريدون فقط أن يعيشوا حياة الكلاب، ووصل عدد المنخرطين بظاهرة "الكلاب البشرية" في بريطانيا وحدها 10 آلاف فرد.

والكلاب البشرية هم بشر على هيئه كلاب يلبسوا ويتعاملوا مثل الكلاب بالضبط معظمهم من الرجالة وابتدأوا ان يظهروا في الوطن العربي بكثره وبالأخص في مصر والسعودية ولبنان والأغرب أنهم بكامل قواهم العقلية والأكثر من هذا  يصل راتبهم الشهري لأكثر من 7000 دولار.

ففي عام 2016 أخرجت منصة Firecracker وثائقيا تحت عنوان " الحياة السرية للكلاب البشرية Secret life of the human pups لنرى وثائقيا فريدا من نوعه، فهو يرصد الروتين اليومي لحياة مجموعة من الكلاب، لكنه مع ذلك لا يشابه وثائقيات الحياة البرية والبحرية الشهيرة، فأنت هنا لن تشاهد أسدا يفترس غزالة، ولن ترى معاناة اصطياد سمكة التونة العنيدة، لكنك بدلا من ذلك سترى مجموعة من البشر يرتدون أزياء جلدية ضيقة، ويعتمرون أقنعة كلاب فوق رؤوسهم، ويشمون على أربع، ولا يصدرون إلا النباح.

هم بشر في الهيئة، لكنهم يعرفون أنفسهم بوصفهم كلابا، شأنهم في ذلك شأن بشر يعرف نفسه كإمراه أو امرأة تتفاخر بأنها تنجذب فقط للنساء، فما حكاية هؤلاء الكلاب البشرية ؟، ومن أي رحم خرج هذا السقط المقزز إلى عالم الإنسان؟

ففي حوار لصحيفة The Guardian البريطانية مع أحد المستكلبين، والذي يدعى " توم Tom  " أو سبوت Spot"، قال هذا الكلب البشري أنه يستمتع بعيش حياة الكلاب، ولو بشكل جزئي، فهو لا يقلقون بشأن المال أو الطعام أم العمل، ولا تشقيهم أي من مشكلات الإنسان المعهودة، مما دفعه لتعريف نفسه بوصفه كلبا، مرتديا بدلة جلدية بيضاء فيها نقط سوداء، وقناعا على هيئة رأس كلب.

إلا أن المفارقة الأكبر هي أن رعيته، كانت خطيبته التي رفضت إتمام زواجها به، ولكنها لم تجد غضاضة في رعايته ككلب، بل أدى ذلك للتقارب بيهم بصورة أكبر، كما يزعم هذا المستكلب، والذي لا يمثل نفسه وحسب، وإنما يعبر عن نفسه عن عشرة آلاف بشري، يعيشون حياة الكلاب في بريطانيا، فضلا عن آلاف آخرين يعيشون في أنحاء أوروبا ليشكل ظاهرة فريدة من طمس الفطرة، والتي لم تحظ بقبول واسع في أوروبا حتى الآن، بالرغم من قبول متحولين آخرين طمسوا فطرتهم واختاروا لهم هوية غير التي خُلقوا عليها.

والسؤال الآن والمهم: أين ومتي بدأت ظاهرة الكلاب البشرية؟، وما أسباب ظاهرة المستكلبين أو الكلاب البشرية؟، وما قصة الرجال مقطوعي الرأس وعلاقتهم بظاهرة الاستكلاب؟

إن البشر الكلاب والبشر مقطوعي الرأس، وأمة العيون الواحدة.. مخلوقات غريبة ما بين الأسطورة والتاريخ، وهناك روايات تاريخية عن هذه المخلوقات منذ العصور القديمة وإلى العصور الوسطى، تحديدا بالمناطق النائية وفي أماكن شتى من العالم. ولعل هذه الوفرة في الروايات من ناحية الزمان والمكان وتعدد مصادرها هي التي أسبغت على الموضوع نوعا من الواقعية بعيدا عن عالم الأساطير، أو بالأحرى دفعت الباحثين للتنقيب والبحث عن الأصل الواقعي للأسطورة.

ودعونا نبدأ رحلة حديثنا من العصور القديمة، فقد جاء ذكر الرجال مقطوعي الرأس ( Headless men ) على لسان هيرودوت في تاريخه، وذلك في معرض حديثه عن الأقوام الساكنة في ليبيا القديمة، فزعم وجود هذه المخلوقات في الجزء الشرقي من البلاد إلى جانب مخلوقات غريبة وقبيحة أخرى كالبشر الكلاب وإنسان الغاب المتوحش.

وفي السياق ذاته ذكر المؤرخ اليوناني "بليني الأكبر" في تاريخه الطبيعي قبيلة ( بليميا Blemmyae ) وعدّهم من قبائل شمال أفريقيا وقال: (ليس لديهم أي رؤوس، وأفواههم وعيونهم تقبع في صدورهم )، وقيل بأن هذه القبائل تقطن في أثيوبيا، وأما المؤرخ سترابو فقال جاء على ذكرهم أيضا، حيث قال بأنهم مسالمين ويعيشون في الصحراء الشرقية بالقرب من مدينة مروي في السودان. وفي الواقع كانت هناك بالفعل قبيلة تدعى بليميس عاشت جنوب مصر وخاضت حروب عدة ضد الرومان.

وهناك صورة من مخطوطة اوربية قديمة لعالم اللاهوت الفرنسي صموئيل بوخارت تطرق إلى كلمة (البليميا) وقال بأنها مشتقة من مصطلحين أو كلمتين عبريتين معناهما "بلا دماغ". مما يعني أن شعب البليميين كانوا بشرا بلا أدمغة.

وخلال عصر الاستكشاف، تحدث المستكشف والمغامر الانجليزي السير والتر رالي عن رجال مقطوعي الرأس أطلق عليهم أسم ايوايبانوما، وذلك في معرض حديثه عن رحلته الاستكشافية إلى مقاطعة غوايانا في فنزولا، وأستشهد كذلك بما ذكره بعض الرحالة الأسبان الأوائل في كتبهم.

أما البشر الكلاب، فشعب الأزتيك في المكسيك كان يؤمن أيمانا مطلقا بوجودهم، زعموا بأنها وحوش تقتل الصيادين، وآمنوا بأن هذه المخلوقات التي تسمى نجويل (Nagual ) تسرق الجبن وتغتصب النساء لكنهم لا يقتلون أحدا ما لم يتعرض لهم.

والسؤال الآن: هل ظاهرة الاستكلاب لها علاقة بأسطورة الاله انوبيس الفرعوني؟

أغلب الظن أن معظم تلك الأساطير مستمدة من أشكال الآلهة الفرعونية القديمة، خصوصا انوبيس، أله الموتى الذي يتجسد في هيئة إنسان برأس أبن آوى، وكذلك حابي، وهو أحد أبناء حورس الأربعة الذين يحرسون عرش اوزيريس في العالم السفلي، والذي يظهر بهيئة إنسان برأس قرد البابون، وهو شبيه بالكلب طبعا. ومن وحي هذه الأساطير المصرية القديمة ظهرت أسطورة البشر المستكلبين (Cynocephaly ) فذكرت المصادر الإغريقية القديمة أن هؤلاء البشر هم أقوام متوحشة تسكن الهند وتستوطن الجبال العالية، وقالوا بأن هذه الأقوام أو القبائل تتواصل مع بعضها عن طريق النباح وتعتاش على الصيد. أما المؤرخ الشهير هيرودوت فقد ذكر بأنهم من الأقوام التي تستوطن شرق ليبيا القديمة، وقد تطرقنا لهذا أنفا.

وهناك نقش قديم للقديس كريستوفر، فالكثير من الناس في العصور القديمة كان يؤمن بأن هذه المخلوقات موجودة حقا، لا بل هي كانت حقيقية في نظرهم إلى درجة أن جدلا طويلا ثار حول كونها من نسل آدم وحواء أم لا.

وثمة نقطة جديرة بالإشارة وهي أن بظاهرة الاستكلاب ربما لها علاقة بأسطورة المستذئب الاوروبية ؛ فالإيمان بوجود البشر الكلاب أستمر خلال العصور الوسطى في أوروبا، ولعل أسطورة الرجل الذئب (Werewolf ) مستمدة أصلا من أسطورة الرجل الكلب.

ومن الأساطير الغريبة الأخرى التي تطرقت لها المصادر القديمة هي تلك التي تحدثت عن مخلوقات ذات عين واحدة، وهي مخلوقات كان لها شهرة واسعة لدى الإغريق والرومان، وعرفت بأسم سايكلوبس (Cyclops )، وقيل بأنها من جنس العمالقة ؛  وهناك أسطورة أخرى عن ذوي العين الواحدة، وهي تتحدث عن الشقيقات غراييا، وهن ثلاث شقيقات ساحرات كن يتناوبن النظر بعين واحدة، كل واحدة منهن كانت تنتظر دورها لتأخذ العين وتنظر بها.

كذلك المصادر التاريخية القديمة تحدثت أيضا عن وجود أمم من ذوي العين الواحدة، قيل بأن قبيلة منهم كانت تعيش جنوب روسيا وتدعى اريماسبي (Arimaspi )، وهي قبيلة سكيثية من المحاربين الأشداء وكانت في حرب مستمرة مع جيرانها. في الفلكلور الألماني هناك أيضا محاربي الهاغين المرعبين. وفي ايرلندا هناك العملاق بالور الذي يموت في الحال كل من يجرؤ على النظر إلى عينه الوحيدة.

كذلك وردت العديد من الإشارات إلى وجود هذه الأمم الغريبة في كتب الرحالة والجغرافيين العرب والمسلمين. فلقد ذكر الشيخ الجغرافي العلامة العثماني محيي الدين أبن محمد الريس الذي تـ عام 962 هـ في خرائطه أن بأمريكا الجنوبية: (أمم من الناس وجوههم في صدورهم وليس لهم رؤؤس وطول الواحد منهم سبع أشبار وبين عينيه مسافة شبر وهم غير مؤذون وأمم أخرى وجوههم وجوه الثعالب والكلاب).

وقال العلامة زكريا القزويني في كتابه كتاب (عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات) في قسم – أمم غريبة الأشكال – قال منها – أمة (منسك) وهم في جهة المشرق لهم أذان مثل أذان الفيلة وكل أذن مثل كساء (وهم الذين طولهم وعرضهم سواء) –ومنها- أمة في جزائر البحر وجوههم مثل وجوه الكلاب وسائر بدنهم كبدن الناس يتقوتون بثمار الأشجار وأن وجدوا شيئا من الحيوانات أكلوه –ومنها- أمة لا رأس لأبدانهم وأفواههم وعيونهم على صدورهم).

وقد ذكر خبر هذه الأمم التي لا رؤوس لأبدانهم أيضا في كتاب (المعارف) وقال: (ثم ملك التُبع العبد بن أبرهة وهو ذو الأذعار سمي بذلك لأنه كان غزا بلاد النسناس فقتل منهم مقتله عظيمة ورجع إلى اليمن من سبيهم بقوم وجوههم في صدورهم فذعر الناس منهم فسمي ذا الأذعار وكان هذا في حياة أبيه فلما ملك أصابه الفالج فذهب شقه قبل غزوه وكان ملكه خمسا وعشرين سنة).

من كل ما سبق يمكن القول  بأنه لأجل هذا تباينت التفسيرات النفسية لوصف هذه الحالة، فبحسب تقرير لشبكة سكاي نيوز العربية، يرى العديد من الخبراء النفسيين بجامعة لندن، أن هؤلاء المستكلبين مصابون باضطراب شخصي الاجتنابي، والذي من أعراضه احتقار الذات وتعذيبها، إضافة بالشعور بالعجز والدونية، والشعور بعدم حب الآخرين بهم، والذي بدا جليا في تصريح أحد المستكلبين " كل الناس بحبون الكلاب فإذا أصبحت كلبا، فسيحبني الجميع ".

وإلى جانب ذلك فإن عددا من التفسيرات النفسية الأخرى برزت في هذا السياق، فوفقا للباحث " ليام ويجنال" فإن الداقع الجنسي المنحرف قد يؤدي بالمرء للعب هذا الدور، وهو دافع شديد الصلة بالمازوخية وحب الإهانة والإذلال، وفيه يمنح الشخص نفسه مملوكا كشريكه الجنسي يفعل به ما يشاء، إلى جانب تفسيرات أخرى، كالرغبة في الهروب من الواقع، فيما يًصطلح عليه بـ" مساحة رأس الكلب"، والتي يتخلى فيها المرء عن بشريته هربا من المسئولية، ورغبة في العيش كشيء لا يفكر ولا ينشغل بمشكلات.

وهي الحالة التي يعبر عنها أحد المستكلبين بقوله" إن كانت كلبا، فأنت لست ملزما بالتعامل مع أحد كإنسان أو بوصفك مكافئا له تحت مظلة القواعد الاجتماعية للبشر؛ كما يمكنك أن تقفز على المارة أو تتودد لهم للحصول على مكافئة، دون أن تشعر بالعار أو الخجل.

وبالنظر إلى هذا التحور المتطرف من المسئولية، فقد نجد أن التفسير النفسي وحده ليس كافيا لفهم هذه الظاهرة، وأننا بحاجة إلى نظارات أخرى ذات عدسات أكثر ارتفاعا، حيث يرى الفيلسوف العدمي الكبير " أرثر شوبنهور في كتابه " الحياة إرادة وتمثلا"، أن الحياة تتأرجح كبندول بين الألم والملل، فلا شيء أكثر ولا شيء أقل، وكل شيء آخر محض عبث، وفي حياة كتلك تكون اللذة هي مركز الحياة ومحورها، فهي المهرب الوحيدة من وطأة الألم، والمنقذ الوحيد من دوامة الضجر.

لكن الحقيقة أن الحياة التي عبر عنها شوبنهور لم تكن إلا حياة الإنسان العلماني الحديث، ذلك الإنسان المتحرر من الدين، المفارق للإله المنغمس في الطبيعة حتى النخاع، فهو وحده إله نفسه، ولا شيء فوقه، وهنا  تحديدا ينتهي الإنسان.

يذكر الدكتور سامي عمري في كتابه " العلمانية طاعون العصر" أن هذا التغيير الجذري في هوية الإنسان المتعلمن كسر في الإنسان تركيبته وحوله في زمن سيطرة اللذة إلى شيء بسيط ذي بعد واحد أملس بلا تنوءات، باهت بلا ألوان، مكرر بلا تميز، يعيش في خديعة كبرى اسمها الحرية ؛ حيث يفعل ما يريد وينمغس في كل جديد، بينما هو في الحقيقة إنسان مدجن تجذبه اللذة وتحركه.

من هذه النظرة يمكننا أن نفهم لما نجد أن كثير من المستكلبين مثلي الجنس، وثنائي الجنس، فبحسب تقرير " ليام ويجنل Liam Wignall بمنصة " Discovery Society فإنه خلال مقابلاته مع المستكلبين وجد 30 شابا مثلي الجنس أو ثنائي الجنس مما دفعه ليرى أن الاستكلاب نوعا من النشاط الجنسي الغريب، وكأنه امتداد لخط الشهوة واللذة الذي لا نهاية له، والذي يتطلب  تجربة كل جديد بحرية لا سقف لها، فما دامت القيمة مفقودة والمعنى من الحياة مسلوبة، فإن اللذة هي المسعى والملاذ.

ومع ذلك فإن محاولة تفسير الاستكلاب على أنها اضطراب نفسي تضعنا أمام سؤال مهم: ما الفارق بين إنسانا يعرف نفسه كلبا وبين رجل مكتمل الذكورة يصر على أن إمراه ؟، ولماذا يرى المجتمع الغربي هؤلاء مرضى ومضطربين واعتبر الآخرين أحرارا يمارسون حقوقهم ؟

في الوثائقي الكبير المثير ما هي المرأة ؟، حاول الباحث "مات ولش Matt Walash " طوال ساعة ونصف أن يقدم بنا تعريفا محددا وواضحا للمرأة، إلا أنه أراد تقديم ذلك من خلال المجتمع الأمريكي، وذلك من خلال العديد من المختصين الطبيين والنفسيين والاجتماعيين ليجد أن الحصيلة النهائية صفر ؛   نضاب تام، بل وهجوما شديد في بعض الأحيان، فلا أحد يريد تعريف المرأة ولا الرجل، بل ربما لم يصبحوا قادرين على هذه التفرقة من الأساس.

كان هذا الأمر مغايرا تماما عندما نقل " مات والش" بعض دقائق من رحلته لقبيلة بدائية بأفريقيا، فلم يحتاج سؤاله أكثر من ثواني ليجد إجابته واضحة بينة على لسان الجميع، فالمرأة هي من خلقت أنثى، الأمر بهذا الوضوح.

خلال هذا الوثائقي يمكننا أن نعود مرة أخرى إلى ظاهرة الاستكلاب، ونعيد السؤال: لماذا هؤلاء مرضى ؟، بينما الآخرون أحرار؟، هل لأن الهوية البشرية ما تزال صلبة وواضحة حتى في الغرب السائل، بينما الهوية الجندرية والجنسية  تكمنت منها السيولة بشكل تام ؛ هل لأن ظاهرة الاستكلاب صدمة عنيفة لهذه العلمانية السائلة، وكأنها صفعة على وجهها تخبرها إلى أي مدى دمرت العالم، وهتكت معايير الحياة، فيكون رصدها هنا محاولة لتبرئة جنابها؟

لا بأس، فقبل عقود، كانت المثلية جريمة ذات عقوبة، وبيست محض مرض يوصم صاحبه بالاضطراب، والآن هي في أعلى هرم الحقوق والحريات، وفي هذا يخبرنا " Zygmunt Bauman أن الحياة الاستهلاكية السائبة، قد جعلت العالم كله موصوعا للاستهلاك، وهنا تنقلب الحياة إلى ركب متسارع على الرمال المتحركة، فكل استهلاك يصحب وراءه استهلاكا آخر، وما دامت القيمة فإن ما هو مستقبح اليوم، سيكون مقبولا غدا، الأمر يتوقف فقط على عدد الداعمين له، فالإنسان الغربي صار إله نفسه وكلما كثرت الإلهة غلبت بعضها بعضا، وبهذا يكون التغير هو الثابت، ويكون اللايقين هو اليقين الوحيد كما يقول باومن Bauman أيضا، فالفارق بين ضبابية تعريف المرأة في المجتمع الأمريكي المعلمن ووضوحه في المجتمع الإفريقي التقليدي هو الفارق بين مجتمع تأخذه العلمانية رويدا رويدا إلى الهاوية رغم حضارته المادية، ومجتمع تحافظ عليه الفطرة من الخواء والاندثار، إلا أنه ليس ثمة ضامنا لهذه الفطرة إلا الدين، فلو ضربت تحديث هذه القبيلة البدائية، فربما تسيل مفاهيمهم ونراهم يرتدون أزياء الكلاب يوما، فلا مانع من اللذة إلا القيمة، وقيمة في العالم يغير الله.

***

أ.د محمود محمد علي

أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بجامعة أسيوط

....................

المراجع

1- عبدالله صلاح: المستكلبون... ظاهرة غريبة تغزو أوروبا، النيل اليوم للنشر 57:45 م

2- مركز رواسخ:  !الكلاب البشرية.. انحطاط جنسي لم يكن في الحسبان، يوتيوب.

3- مريم بدر الدين: سر ظاهرة "الكلاب البشرية"فى أوروبا، اليوم السابع، الثلاثاء، 29 ديسمبر 2020 12:18 م

4- أحمد السيد: البشر الكلاب، والبشر مقطوعي الرأس، وأمة العيون الواحدة.. مخلوقات غريبة ما بين الأسطورة والتاريخ، نوفمبر 15, 202162845

متى تتحقق كونيّةُ المعنى في الاسلام؟!.. استفهامٌ بالغ الأهمية إلى درجة كبيرةٍ، لأنَّه قد يأخذنا بعيداً عن تنظيرات العقائد والمذاهب، وكذلك يمثل سُؤالاً مختلفاً يبحث عنه الآخرون. إذْ كثيراً ما تساءل أهل الأديان عن الجانب الذي لا يخصُ المسلمين من أنفسهم، وعما يُعطّىَ من حياتهم إلى الحيوات المغايرة لدى كافة البشر. أي أنَّه إذا كان الإسلام قد ترك تراثاً وفهماً معيناً للحياة وقد أخضعهما البعضُ للتوظيف، فماذا عن الحقائق والمعاني المعطّاه منه للإنسانية قاطبةً؟ وبخاصة أننا داخل عصر يُجري (جرداً يومياً) لما يرتبط بطابعه الكوني، ولما يعتمل في توجهاته النوعية نحو الإنسان.

لأول وهلة، الرحمة في الاسلام موضوع مضمخ بإمكانيات إنسانية واعدةٍ، هي مفهوم طارد لكل نزوع نحو التسلط والعنف إنْ وجدا. تقع الرحمةُ في الإسلامِ خارجَ حُدود الجماعةِ والسلطة والحياة التقليدية، حتى أنَّه يستحيل لمفرداتٍ كهذه أنْ تتحكم فيها بسطّاً أو قبضاً. وكذلك تُمارس الرحمةُ دورها خارجَ (وضعية الدين ذاته) في واقع البشر. لدرجة كونِّها تغدو فكرةً مثيرةً للتعجب والإدهاش إذا ما تمت مقارنتُها بأية مفاهيم دينية غيرها، لأنَّها تخالفُ المعتقدات العامة كأجهزة إنسانية ذات طابع رقابي وفقاً لطبائع الثقافة، ولأنَّ الرحمة تناقض صراحةً ممارسات المسلمين وأيديولوجيات الاسلام السياسي على السواء. وستزداد الدهشة إتساعاً في حالة لو قُورنت دلالة الرحمة بتصورات البشر وطرائق تفكيرهم تجاه الآخر.

هذا الوضع للرحمة بمنطوق القرآن: "وما أرسلناكَ إلاَّ رحمةً للعالمين" (الأنبياء/ 107) يعني وحدةَ الرسالة والغاية ارتباطاً بالإنسان أيّا كانَ دون تفرقةٍ. إذ يؤكد القرآن على هدف الوحي قصداً: هذه الرسالة التي تخرج من نفسها إلى غير ذاتها. تخرجُ من بيئتها التي نزلت فيها إلى فضاء الحياة الرحب بألف ولام التعريف، بل وستقف -متى انطلقت- ضد معقلها لو حاول اجراء القيود إزائها. إنَّها عندئذ رحمةٌ ذات طابع كوني لكل الحيوات المتحققة والمتخيلة، ولا أقل من ذلك. وربما وجه الإدهاش أنَّه في آفاق الرحمة الكونية، يُوجد مَنْ ليسوا بمسلمين ومَنْ ليسوا بمؤمنين، ويوجد كذلك مَنْ ليسوا حتى بشراً مثل: الحيوانات والكائنات والأشياء المادية وغير المادية والأشياء الواقعية والمفترضة.

يفيد الإستثناءُ في الآية (...إلاَّ رحمةً للعالمين) إطلاقَ العنان للمعنى (كقاعدةٍ كليةٍ)، حتى أمسىَ قانوناً وراء (قدرة التراحم)، وقد وضعها في حيز الإمكان الدائم طالما هناك مخلُّوقٌ. بل والمُسلم مطالبٌ بها مادام يتنفس حياةً بين أقرانه وبين غير أقرانه، ذلك باعتبار أنَّ الرحمةَ mercy مُعطّاةً للإنسان كإنسانٍ وممنوحةً للكائن ككائن. وهو ما قد ترجُوه سلوكياتُنا العامةُ من (صلاحية كونيةٍ) تجاه العالم وأنماط العيش في المجتمعات المعاصرة. وحْدُها الرحمة يمكن أنْ تقدم جديداً لكل البشرية من تلك النافذة. إنَّ معانيها سَتُعرِّف العالمَ إلينا نحن البشر بمجمل اختلافاته الثقافية والدينية، كما لو لم يُعرف من قبل.

ليست الرحمةُ في الإسلام فكرةً مجردة، لكونها تكسرُ حدود العقلانية بمستوياتها المنطقية والصورية. وليست وسيلةً، لكونها لا تستهدف غاية معينةً إلاَّ الرحمة ذاتها، وليست إطاراً ثقافياً، لأنها تحطم الإطر الدينية والبشرية المعروفة. وليست الرحمة هبةً، لكنها قانون كوني ممنوح سلفاً من الله، وليست موضوعاً خاصاً، لأنها لا تشترط ذاتاً يراها أو يقوم بمنحها ومنعها إنْ أرادَ.

الرحمة: (الرؤية-الأسئلة)

في الاسلام، لا ترتهن الرحمةُ بحالة خطيئةٍ وخلاص (الديانة المسيحية)، ولا برفع اللعنة وإنهاء الشقاء الأنثروبولوجي نحو حياةٍ سويةٍ (الديانة اليهودية)، ولا حتى ترتهن بالرضا والقبول بعد غضبٍ إلهي مقدَّس (بعض الفقه الإسلامي)، وليست مشروطةً بالانتماء لجماعات دينية (علاقات الجماعات الاسلامية مع سواها). الرحمة عمل يُقارب (فعل الخلق والوجود) بالدرجة الأولى. ولذلك لا تقتصر الرحمة في الاسلام على خانةِ الآداب العامة ولا الواجبات المنتظرة من المؤمنين، إنما هي (العطاء الإلهي- الإنساني) بلا نهايةٍ، العطاء الآخذ لكلِّ المعاني الممكنة والمستحيلة في تاريخ العفو والغفران.

إنَّ الرحمة ممنوحة دون مقابل لجميع الكائنات باختلافها. وليس متصوّراً أنْ تهبط الرحمة أو أن تُمارّس بعيداً عن تلك الدلالة الكلية. فلا يعنيها الجزئيات هنا أو هناك، لأنَّ الأخيرة كوقائع أو أحداث تظل مشمولةً بكل رحمة تلقائياً. وإذا كانت الرحمةُ تلامس الحدود القصوى لوجودنا، فمن بابِ أولى أنْ تدخل فيها الحدود القريبة داخل المجتمعات الواحدة.

وبخاصة أنَّ (كلمة العالمين الواردة بالقرآن) كلمةٌ تقصد جميع المخلوقات الظاهرة والباطنة، القريبة والبعيدة، الماضية والقادمة. أي لا تستهدف الرحمةُ إنساناً هو الكائن الأبرز، بل تتوجّه إلى كائنات أخرى هي الأخفى. ومن ثمَّ، فالسؤال المُثير للتفكير: لماذا يوجد مفهومٌ (يَخصُ) ديناً بعينه، ثمَّ (يُعطّى) إلى الإنسانيةِ قاطبةً خارج أتباعه؟! ولماذا تكسر الرحمةُ (إطارها المقيّد تاريخياً) بخلاف المفاهيم الدينية الأخرى؟! حتى أنه جاء في دلالة الرحمة أنَّها تذهبُ إلى: الكافر والمؤمن، العاصي والطائع، الصديق والعدو، المحبُوب والمكرُوه، الأموات والأحياء. هكذا فإنَّ الرحمة مفهوم كوني سيهدِّم (بنص القرآن نفسه) الحدود الدينية والوجودية الموضُّوعة لهذا المفهوم ولمن يؤمن به أيضاً. يقول الله في القرآن منسوباً إلى ذاته: "وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شيءٍ" (الأعراف/ 156).

قولُ القرآنِ عن النبي (رحمة للعالمين) هو (إقرار واعتراف) بصفح مفتوح أمام الخلائق جميعاً. بينما الله كمصدر هو الرحمن بصيغة المبالغةِ، فالنبي بما يحمل من رسالةٍ ومن مرحلة ختام الأديان التوحيدية كانت مهمته: أنْ يكون رحمةً بتأكيد اللفظ. لدرجة أن ماهية الرحمة ستعبر عن النبي والفكرة والهدف في (صورةٍ كلية). وستضع أتباع نبي الاسلام حتى اللحظة أمام أنفسهم وأمام التاريخ الذي تحقق. فلو لم تكن الرحمة واردة على النحو الكوني، فما كانت سوى صرخة على العسف واساءة استعمال الدين. إنَّ الدين نفسه يحتج من داخله، الرحمة بذرة ذات قدرات خاصة لتفكيك ترسبات هذه الاستعمالات المضادة لمعناها.

وتباعاً ستقفُ الرحمة في الإسلام بمفردها (مفهوماً حُرّاً) ضد كل المذاهب وحتى ضد نماذج الإسلام الأخرى. وهذا يتم وفقاً لطبيعة الرحمة ذاتها المُشتقة من فكرة الإله الخالق (الرحمن) والفعّال لما يُريد. ومن ثمَّ، فهناك قاعدة تقول: إمَّا أنْ تكون رحمةً للإنسان والمخلوقات هكذا دون شروطٍ أو لا تكون من حيث المبدأ. لأن الرحمة مثل الإيجاد من عدم كفعل إلهي على الأصالة. أي تمثل (هبة الوجود) باطلاق المعنى، وهذا ما يجعلها تطال كافة الموجودات، فالوجود يعني الرحمة، لأنَّ الموجودات جميعاً بها فعل الإيجاد على نحو أو آخر. فالسر الكامن في الرحمة- هكذا يجب إقرار الفكرة – هو معنى الله (الرحمن الرحيم).

الرحمة في الإسلام تلامسُ المادة والحيوان معاً، إمرأة دخلت النار (في هرّة عذبتها حتى ماتت، لا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكلُ من خشاش الأرض)، ورجل دخل الجنة (بسبب كلبٍ قد سقاهُ، حينما وجده يلهث عند بئرٍ ويأكل الثرى من العطش)، وقد تبلورت هذه الفكرةُ راهناً في جمعيات (الرفق) بالحيوان وفي أخلاقيات البيئة والتنوع البيولوجي والطبيعي.

ومن طبيعة الرحمة، تأتي مستوياتُ المعنى[1]: الرفق والقبول والشفقة واللين والرأفة والحنُو والحب والإحسان والإنفتاح والحرية والتواضُّع والسمُو والتجاوز والنعمة والهبة واللطف والإنقاذ والإهتمام والمشاركة والرعاية والحماية (الرحم) والفيض بالجديد (الميلاد) والتلاحم والتراحم والتشارك. وليس ذلك بطريقة التدرج من (الشفقة) مثلاً إلى (الرفق) ومن (الحنو) إلى (الحب)، لكن الرحمة تُمارِس ما هو مستحيل impossible (فعل الرحمة كلياً من غير شروط without conditions)، حتى يتحقق كلُّ مستوى آخر. فالرحمة تَجمع (ما لا يُجمع بالضرورة) داخل فضاءِ عملها العام.

لقد عَرِف اللهُ أنَّ البشر لا يعطون إلاَّ بحدودٍ معينةٍ، فكان هو الرحمن بلا حدود، أي واهب الرحمة لكل البشر. وعَرفَ أنَّهم خَطَّاءون، فكانت الرحمة لا تُخطئ أية نقطة من مساحتها الكلية، وعرف أنهم يأثمون، فجاءت الرحمة فعلاً غير قابل لتأثيم أي عمل، وعَرِفَ أنهم سيعودون إلى الكراهيةِ، فكانت الرحمة غفراناً مطلقاً. فهي (فعلٌّ كليٌّ) قد خرَج لتوِّه من تحت سيف الأحكام الأخلاقية، ذلك لكونها تهدم عن قصد تصنيفات الأخلاق: (الخير/الشر، العدل/الظلم، الإحسان/ الحرمان، اللين/ القسوة) وأسسها الأوليّة.

وإذا كانت بأضّادها تتمايز الأشياءُ، فالرحمة لا ضدَّ لها إلاَّ الضد النسبي في جزءٍ من دوائرها فقط. الشقاء، البُؤس، الهم، القسوة، العدوانية، الاقصاء.. فهذه الكلمات نقاط جزئية في (معنى كلي)لها. وهذا نظراً لكون الرحمة شاملةً وغير مشروطةٍ، إنَّ إستثناء الدلالة الكونية هي القاعدة العامة لشيءٍ لا قاعدة له في الإسلام إلاَّ باطلاق فعل الرحمة. فالرحمة تقفُ في المطلق دون مكافئ ولا مقابل ولا معادل إلاَّ ذاتها من حيث كون الإله (الخالق الرحمن) بلا ضدِّ. ففي جميع السرديات الدينية، يمثل الشيطان عنصراً مخْلُوقاً من الوجود لا مساوياً لله، حتى وإنْ دخل في ثنائية (الإله/الشيطان). والتخابث والنفث في الروع وايقاع الشرور (الشيطان).. هي أمور مختلفة عن الخلق كنتاج للرحمة (الإله).

ثمة أسئلةٌ فلسفية إزاء الرحمة: هل تحمل الرحمة تقليلاً من شأن الشخص الذي يتم رحمته؟ هل الرحمة تضمر إهانةً نتيجة موقف مزري لشخص ما يستحق الرحمة؟ هل يعد استحقاق الرحمة إنسانياً خالصاً دون أثرٍ ملاصق؟ هل الرحمة تُعطي فرصةً للآخر لأنْ يعوض موقف الضعف (موقف الرحمة) بالانتقام والثأر لاحقاً؟ ما علاقة الرحمة بنماذج التعامل مع الآخر: الصفح، الغفران، التسامح، قبول الآخر، التعايش؟ وما علاقة الرحمة بالأيديولوجيات والمذاهب والنحل؟ لماذا يقال شعبياً للتعبير عن قوة شخص إزاء شخص غيره (إنّه تحت رحمة فلان)؟

لماذا ترتبط الرحمة بدلالة الخالق؟ وهل عندما يدعُو الله إلى الرحمة يجعل (القائم بالرحمة) جزءاً من وجوده الخالق؟ أي يغدو إنساناً خالقاً على مستوى خطير من الفعل الإستثنائي؟ فلا يقدر على الرحمة كلُّ إنسان مثلما لا يقدر على عملية الخلق إلاَّ الله. أنْ نرحم الآخرين معناه أنْ نملك (قدرة إلهية) معطّاة لنا، وربما هي المناسبة الوحيدة في الإسلام التي يسبع فيها الله على الفرد مكانته العُليا حينما يرحم أخاه الإنسان وأخاه الكائن.

هل الله في الاسلام ضمن الرحمة يعطي الأولوية لكونه خالقاً واجداً لا معبوداً فقط؟ وهل حين يصل العبادُ إلى درجة البؤس تكون الرحمة خالقة بالمعنى الوجودي والإلهي مرة ثانيةً؟ وإذا كان الخالق مطلقاً، فهل ستكون الرحمة مطلقة كذلك؟ هل دلالة الخلق (الخالق) في الرحمة مقدّمةً على دلالة الدين فيها (التكليف)؟

لقد غَيّر الإسلام (عامداً) دلالة الرحمة عن اليهودية والمسيحية، وهناك ثلاثةُ مستوياتٍ لكلمة الرحمة في هذا الإطار:

مستوى القانون- الطبيعة: فالرحمة تكون لجميع الكائنات (ظاهرةً وباطنةً) أو لا تكون رحمةً إطلاقاً. إنّها قانون كوني ذو أبعاد إنسانية طبيعية من واقع الحال، ورغم كونها تتجاوز (ظواهر التاريخ)، إلاَّ أنها تحريك أحداثه لأجل الإنسان. تعدُّ الرحمة بهذا (قانونية القانون legality of law)، فلا تخضع لقواعد في عُرف البشر ومعتقداتهم. أي ليس هناك نظام قانوني يؤكد أنَّ كل مبادئه غير سارية المفعول في موقف من المواقف. فما بالنا إذا كانت الرحمةَ تقف خارج هذه القواعد!!

ولذلك ستكون الرحمة في سياقات الإنسان موضوعة قيد العمل باستمرار، فعندما تغلق كل الطرق وتمتنع قدرتنا على القبول والتفاعل، ستحل الرحمة لفك عقدة الوجود الإحراجي بين الناس. فالتناقض قد يبلغ مداه ويستحكم بقوة، وليس ثمة طريق لرأب الصدع. هنا ستكون الرحمة من جنس الأزمة، وكما ستكون الأخيرة مستحكمة، ستأتي الرحمة بلا حد. إنها الحل الأخير باطلاق حيث تظل أعلى من أي شيء آخر. إنها بهذا الشكل الورقة الكبرى المطروحة.

مستوى المعنى: تقدم الرحمةُ معنى الإله الخالق (ارتباطاً بالله الأحد الفرد الصمد) على كافة المعاني الأخرى المتداولة مثل: الحسيب والرقيب والمنتقم والجبار والواثق والماجد والمتكبر والعزيز. أي أنَّ هناك مستوى وجودياً لكلمة الرحمة (أنطولوجيا الرحمة)، لدرجة أنه بالوقت الذي تعبر فيه عن العطاء، تشيرُ أيضاً إلى طفرة الوجود بامتياز. والمعنى هنا لا يتوقف عن التطور، فإذا كان الناس يصنعون آلهتهم كما يحبون على حد قول أرسطو، فالرحمة نوع من رفع اليد عن الجانب الإلهي. لأن معناها المفتوح لا يحتمله بشر وقد لا يتصوره الناس بالطريقة ذاتها. وستكشف الرحمة من هذا الصنف عجزاً عن العيش الآدمي، حيث ستضع الإنسان في مكانه الطبيعي لا أكثر ولا أقل.

مع أنَّ الفكرة بسيطة هي: رحمة بلا شروط، فهل يتصور إنسان أنَّ هناك شيئاً بلا شروط، أن هناك معلولاً بلا علةٍ!! العقل نفسه مصمم آلياً باحتمالات الشروط التي يفرضها على ذاته. ولكن التناقض أنه هو الذي يفرض الشروط وهو نفسه من يحاول التحلل منها.. فكيف يحدث ذلك؟ أما منطق الرحمة إذا كان لها منطق، فهو منطق يفترض التحلل من كل شيء سابق أو لاحق، إذن لن يكون مصدرها محدوداً ولن تكون لها غاية. والمصدر والغاية بالنسبة لعقول البشر هما شقا الرحى الحقيقيان اللذان يستنفدان طاقة البشر طوال الوقت. عليك أنْ تتصور مقدار طاقة من يقول بالرحمة دون هذين الشقين الإحراجيين. ربما التفكير في الرحمة كموضوع كوني يفتح المجال لإثبات أفكار ومعانٍ لم تكن معروفة، ولإثبات طاقات بشرية لم تكن قابلة للتفتح من تلك الجهة.

مستوى الفعل: الرحمة تعبر عن فعل بلا مقابل ولا عائد ولا استغلال ولا علاقات قوة، فمن يَرحَم لا ينتظر شيئاً من أحد. وهي تلغي فكرة المقايضة وانتظار المقابل، تعطل (عن إرادة) حدود الشرائع والقوانين والعادات والتقاليد بين البشر، لأنها تعمل خارج تروس الكراهية والصراع. فلكي تشتد الكراهية تحتاج كراهية مقابلة من أطراف أخرى، بينما الرحمة تذهب من غير كراهية إذن: ماذا سيكره الإنسان عندما لا يجد كراهية مقابلة؟!

إنَّ أخطر شيء في تاريخ المجتمعات البشرية هو وجود أطراف متقابلةٍ تتصور أنها مغروزة في وحل الصراع قبل أنْ تولد. وأنَّه لا محيص لها سوى السير في الاتجاه نفسه الذي سار عليه أسلافها. ويبقى الصراع ناشباً أظفاره في كيان هذه الأطراف، كأنَّه قدر تاريخي لا محل له من الإعراب، ولا مهرب منه سوى إدامة الاشتعال دون طائل.

***

د. سامي عبد العال

...................

1- ابن سيدة، على بن اسماعيل المرسي، المحكم والمحيط الأعظم، تحقيق عبد الحميد هنداوي، (بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 2000)، ص 336.

2- ابن فارس، أحمد بن زكريا، معجم مقاييس اللغة، تحقيق عبد السلام هارون، (بيروت: دار الفكر، الطبعة الأولى 1979)، ص 498.

"الانسان هو مقياس كل شيء" -  بروتاغوراس

واحدة من بين أكثر المعتقدات شيوعا بين الناس حول الأخلاق هي الفكرة بأن مختلف الأوقات والثقافات لها معايير أخلاقية مختلفة جذريا. هذا الافتراض يعطي دفعا قويا للنسبية الأخلاقية. النسبيون الاخلاقيون يعتقدون ان الثقافات والافراد والاوقات كلها تختلف في قيمها الأخلاقية الاساسية، وان النسبية هي أفضل توضيح لتلك الاختلافات. النسبيون الأخلاقيون ايضا يؤمنون بان كل الرؤى الأخلاقية هي متساوية في الصلاحية لأن كل ثقافة او فرد يخترع أخلاقه الخاصة به.

الافتراض بان مختلف الأزمان لها معايير أخلاقية مختلفة يمكن رؤيته ايضا في موقف يسمى الحاضرية الاخلاقية moral presentism(1)، والذي يؤكد اننا يجب ان لا نحكم على الماضي باستعمال معاييرنا الاخلاقية الحالية. فمثلا، الكوميدي الامريكي بل ماهر Bill Maher ذكر مؤخرا ان كولومبس ارتكب الفظائع، "لكن الناس في ذلك الوقت كانوا أغلبهم فظيعين". هو جادل بان حكمنا على كولمبس او واشنطن هو مثل "لوم نفسك لأنك لاتعرف ما تعرفه الآن عندما كنت في سن العاشرة". رؤيته هي انه من غير الإنصاف الحكم على الماضي من منظور حالي أكثر نضجا. وبينما هناك اختلاف بين النسبية والحاضرية، لكنهما كلاهما يطرحان هذا الافتراض الشائع والعرضة للتساؤل بان مختلف الثقافات لها مختلف المعايير الأخلاقية. هذا المقال يرفض هذا الافتراض عبر الجدال بان القيم الاخلاقية الاساسية لا تتغير مع الزمن والثقافة، ونحن الناس الحديثون لم نعد اكثر أخلاقا من أسلافنا. الطريقة الصحيحة للنظر الى التاريخ هي ليست برفض أخطاء الماضي من خلال القول انها امتلكت معايير مختلفة، ولا الحكم عليها باستعمال معايير أخلاقية جديدة. لدعم هذه الرؤية، سوف نطرح ثلاث مغالطات يستعملها النسبيون والحاضريون عند الجدال بان مختلف الثقافات لها مختلف المعايير الاخلاقية.

1- النسبيون والحاضريون يضخمون الاختلافات الاخلاقية ويقللون من قيمة التشابهات الاساسية بين مختلف الازمان والثقافات.

المشكلة الاولى بالادّعاء ان الاخلاق تتغير مع الزمن والثقافة هي انها ليست كذلك، طالما ان اسس الاخلاق لا تتغير. الناس الاخلاقيون في كل الازمان يسعون لتقليل المعاناة غير الضرورية، وخلق نظام، واشاعة الانصاف، والتعامل مع الناس باحترام. يسوع وبوذا،مثلا، يستحقون التقدير ليس لأنهما حديثون وانما لأنهما عاشا بانسجام مع معايير أخلاقية لازمنية.

الادّعاء الرئيسي الذي يمكن الدفاع عنه هنا هو انه من الخطأ الاعتقاد بان هناك اختلافات اخلاقية اساسية بين مختلف الاوقات والثقافات. في (أخلاق للمبتدئين،2022)، يتفق بيتر كريفت Peter Kreeft ويجادل بان المحتوى الضروري للاخلاق عبر الثقافات والازمان لم يتغير كثيرا.

"لا أحد نجح في خلق نظام للقيم كانت فيه العشوائية، الانغماس بالذات، الانانية، القسوة، عدم الانصاف، القوة، الكذب المتعمد، الغطرسة والسخرية والتعالي هي الفضائل، بينما الحكمة والتحكم بالذات، والتضحية والشفقة والعدالة والتعقل والصدق والتواضع كانت شرورا. من المستحيل سايكولوجيا ممارسة الالتزامات الاخلاقية لتجسيد مجموعة الشرور في القائمة الاولى او الشعور بالذنب عند العيش في مجموعة الفضائل في القائمة الثانية"(ص21). حتى نيتشة و اين راند لم ينجحا في تحويل القسوة والكذب الى فضائل او تحويل العقل والتحكم بالذات الى شرور. الشيء الاكثر أهمية هو اننا لا نستطيع الهروب من حقيقة ان تلك هي فضائل اساسية وشرور واسعة الانتشار، وان اولئك الذين يضخمون الاختلافات الثقافية بين الثقافات او الافراد يفشلون في الاقرار بذلك.

وهناك دليل آخر يدعم الادّعاء بان الاسس الاخلاقية لاتتغير مع الزمن. انه من المعروف جيدا ليس كل شخص في القرن الثامن عشر والتاسع عشر اعتقد ان العبودية شيء جيد، ولكن في الحقيقة هناك كان دائما مصلحون اخلاقيون يرفضون العبودية في وقتهم. ليس صحيحا القول ان كل شخص قبل القرن التاسع عشر اعتقد ان العبودية جيدة، بل انه ايضا من عدم الاحترام لدعاة إلغاء العبودية الذين جادلوا ضد العبودية في زمانهم. بعض الناس احتجوا دائما على العبودية واستمروا على ذلك اليوم(هناك الكثير من العبيد في العالم حاليا مقارنة بالماضي).

باختصار، معايير الاخلاق الاساسية لم تتغير. واذا كان صحيحا ان العبودية كانت عقيدة للغالبية في التاريخ، فان الالتزامات الاخلاقية الاساسية لتقليل المعاناة والتعامل مع الناس باحترام هي ليست جديدة. لكن فقط عدد قليل من الأبطال في كل فترة زمنية يتّبعون هذا القانون الاخلاقي الذي كُتب في قلب كل كائن بشري.

2- النسبيون والحاضريون يفشلون في التمييز بين القيم الاخلاقية الرئيسية والثانوية.

الخطأ الثاني الذي يرتكبه النسبيون والحاضريون عند الجدال بان مختلف الازمان والثقافات لها مختلف المعايير الاخلاقية، هو انهم يفشلون في التمييز بين القيم الرئيسية والثانوية. وبينما هم على صواب بان بعض القيم الاخلاقية تتغير، لكنهم يفشلون في ملاحظة ان القيم الثانوية فقط هي التي تتغير وليس الرئيسية. القيم الاخلاقية الرئيسية هي القيم الاساسية (والعالمية) التي توجد قبل ان ننطلق للتفكير منها، بينما القيم الثانوية هي نتاج القيم الرئيسية بالاضافة للتفكير . فمثلا، الناس الاخلاقيون يتفقون على قيمة الاخلاق الرئيسية في تقليل المعاناة الغير ضرورية، واذا ادركوا لاحقا ان لقاح بوليو polio يقلل من المعاناة، عندئذ هم يجادلون انه من واجب الاخلاق الثانوية الحصول على لقاح. يجب ملاحظة انهم لم يخترعوا الالتزامات الاخلاقية الثانوية بل هم اكتشفوها: هم اكتشفوا ان لقاح بولو يقلل من المعاناة غير الضرورية، وهكذا لديهم الان طريقة جديدة لإنجاز القيم الاخلاقية الرئيسية (اللازمنية) في تقليل المعاناة. القيم الاخلاقية الرئيسية لا تتغير مع الزمن او عبر الثقافات بينما القيم الاخلاقية الثانوية تتغير.

انظر ايضا في تضحية الانسان. العديد من الناس المنخرطين في التضحية الانسانية لديهم معتقدات مختلفة، وليست قيم اخلاقية رئيسية مختلفة. هل انت تعارض التضحية الانسانية لو انت اعتقدت في إله أمر بالتضحية،وان هناك العديد من المنافع الناتجة عن التضحية مثل المطر للغلات الضرورية لحياة بقية الناس؟ مرة اخرى، عدم اتفاقك مع اولئك الذين مارسوا التضحية الانسانية هو على الاغلب عدم اتفاق حول الحقائق الواقعية والقيم الاخلاقية الثانوية المرتبطة بها، وليس عدم اتفاق حول القيم الاخلاقية الرئيسية.

في (عناصر الفلسفة الاخلاقية،1986)، يستعمل جيمس راشيلز مثال الاسكيمو الذين احيانا يقتلون الاطفال الرضع.  يبدو كما لو ان الاسكيمو كانت لديهم اخلاق مختلفة، قبل ان نفهم بانهم في بيئة قاسية  ليس لديهم الموارد الكافية لإطعام كل شخص. المرأة في الاسكيمو تسمح بموت طفلها لأن البديل وهو – موت الاطفال الكبار – كان أسوأ. مرة اخرى، اختلافنا الاخلاقي الظاهر مع الاسكيمو هو ليس اختلاف في القيم الرئيسية، لأننا كلانا نشعر بالالتزام في رعاية الاطفال. الاختلاف يبرز بسبب مختلف البيئات والادّعاءات الواقعية الناتجة اثناء العمل. في هذه البيئة القاسية، انت يُحتمل ان تختار التضحية بطفل لتنقذ طفلين آخرين أكبر سنا.

ولو أخذنا مثالا حديثا، عندما لا يتفق شخصان حول التزام اخلاقي للحصول على لقاح، هما عادة يتفقان بانه من الجيد تقليل المعاناة غير الضرورية، لكنهما يختلفان حول الادّعاءات العلمية. فمثلا، جون يريد الأحسن لابنه، لكنه لايؤمن بالالتزام الاخلاقي في ان يحصل ابنه على لقاح لأنه يعتقد ان اللقاح سيؤذي ابنه. في هذه الحالة، مرة اخرى، الاختلاف الاخلاقي الظاهر بين المؤيدين والمعارضين للتطعيم هو حول الادّعاءات الواقعية، وليس حول ادّعاءات القيمة الرئيسية.

باختصار، معظم الاختلافات الاخلاقية بين الأزمان والثقافات هي ليست حول القيم الاخلاقية الرئيسية وانما هي حول الادعاءات الواقعية والقيم الثانوية. الحقيقة هي اننا نشترك بقيم اخلاقية اساسية مع أسلافنا. وهذا لايجب ان يكون مدهشا طالما نحن نفس المخلوقات على نفس الكوكب. ولايجب ان يكون مدهشا لو وجدنا انفسنا نشترك بجذور اخلاقية مشابهة مع انواع حيوانية اخرى.

3- النسبيون والحاضريون يعتقدون خطئا ان مختلف الازمان لها معايير اخلاقية مختلفة جذريا  لأنهم يعتقدون خطئا ان الحاضر اكثر تقدما اخلاقيا من الماضي. معظم الناس الحديثين يعتقدون ان العالم الحديث هو افضل اخلاقيا من الماضي لأن عدة دول ألغت رسميا العبودية وعمالة الاطفال والشرور الاخرى. لكن دعونا نعالج مشكلتين بالادّعاء ان الحاضر افضل اخلاقيا من الماضي.

اولا، في (الارثودكسية،1908)، يجادل شيسترون G.K.chesterton ان اولئك الذين يعتقدون بان الحاضر اكثر تقدما عادة يقولون ان الناس يجب ان "يفهموا ويتكيفوا مع الأزمان"، لكن هذا ليس اكثر فائدة من القول "انسجم مع الساعة الثالثة مساء الخميس بدلا من الساعة الواحدة مساء الجمعة". الزمن هو فقط رقم، ولا فائدة من الطلب للناس ان "ينسجموا مع الزمن". هل يجب ان تنسجم مع الالغائيين او مالكي العبيد في زمانهم؟ او في الزمن الحديث، هل تنسجم مع الاخلاقية النباتية او مع اخلاق آكلي اللحوم؟  كيف يمكن للمرء "الانسجام مع الزمن"، عندما يحتوي الزمن دائما على رؤى متناقضة؟

لذا بدلا من الدعوة لـ "الانسجام مع الزمن" التي تعني احيانا "الانسجام مع الأغلبية"، يجب على المرء ان يدعو الناس للانسجام مع الضمير، الذي يحاول تقليل المعاناة غير الضرورية والتعامل مع الناس باحترام . وعموما، يجب على المرء التحلي بتفكير جيد ومظاهر أعمق للاخلاق لا تعتمد على ثقافة المرء او أغلبية الرأي او الزمن الذي يعيش به الفرد. علينا الانسجام مع الاخلاق بدلا من الازمان.

ثانيا، يمكننا هنا الجدال  باننا عموما أقل أخلاقا من أسلافنا (حتى اولئك المالكين للعبيد). التكنلوجيا مثل وسائل التواصل الاجتماعي وأسلحة الدمار الشامل جعلت من السهل الشيطنة والتجرد من الانسانية وقتل الآخرين. الاقتصاد المعولم يساعدنا للانتفاع من عبودية العمل بحكم الواقع بدون الحاجة لرؤية وجوه العبيد. بدلا من ذلك، هناك عدة قوى حديثة تجعل من السهل لنا خلق معاناة غير ضرورية وشيطنة الاخرين وعموما نكون غير اخلاقيين قياسا بالعديد من الناس السيئين في العصور الماضية.

باختصار، انه انحياز ضيق القول ان الناس الحديثين هم اكثر أخلاقا من أسلافهم. اذا انت تتبع ضميرك في أي وقت، فانت سوف تتصارع مع زمنك حول بعض القضايا، و سوف يكون لديك الكثير من المشتركات مع المصلحين الأخلاقيين في الماضي (او في المستقبل) قياسا بما لديك مع أي اناس آخرين في زمانك. الناس الاخلاقيون في كل الازمنة يمارسون القانون الاخلاقي، ويواجهون الفشل لإنجاز ما متوقع. وهنا تبرز نقطتان:

1- لا احد يدّعي هنا اننا نتصرف بشكل مختلف عن الناس في الماضي الذين امتلكوا عبيدا او ساهموا بالتطهير العرقي لو كنا في نفس ثقافتهم. بالعكس، كلا التجربتين السايكولوجيتين (على سبيل المثال،تجربة ملغرام)(2) والدليل من التاريخ يشيران الى ان اكثر من 90% منا يذهب بانسجام مع ضغوط السلطات والزملاء(أي مع المعتقدات الاجتماعية) حتى لو استلزم ذلك التصرف ضد الضمير. لكن هناك ضمير انساني، وجذوره أقدم منا ومن أي ثقافة. انت ليس لديك ضمير افضل فقط لأنك تعيش في زمن حديث .

2- البعض سيجادل انه طالما هناك افراد وثقافات لايشتركون بأي قيم اخلاقية رئيسية، فان القول بان بعض القيم هي عالمية يجب ان تكون خاطئة. فمثلا، هناك من هم غير اجتماعيين تكون قيمهم الرئيسية هي ان يتسببوا بمعاناة غير ضرورية بدلا من تقليلها.

المشكلة في هذه المعارضة هي انها ترتكز على سوء فهم للاطروحة. الزعم هنا هو ان هناك قيم اخلاقية عالمية – قيم اخلاقية صادقة لكل الازمنة والأمكنة في تاريخ الانسان – لا يعترف بها او يتبعها كل شخص. مقارنة رياضية يمكن ان تساعد لرؤية الالتباس. الفرد الذي يعتقد ان 2+2=5 لايمتلك رياضيات مختلفة، ولا يثبت ان الرياضيات ليست عالمية، بدلا من ذلك هو عاجز رياضيا. وبطريقة مشابهة، الفرد الذي يشعر بعدم وجود التزامات لتقليل المعاناة غير الضرورية لايمتلك اخلاقا مختلفة وانما هو خارج ميدان الاخلاق. هذا الفرد لايرفض اطروحة الاخلاق الاساسية العالمية وانما هو عاجز اخلاقيا.

استنتاج

 مختلف الثقافات والأزمان لاتمتلك قيما اخلاقية مختلفة راديكاليا، ومن الخطأ الإعتقاد اننا متقدمون اخلاقيا لأننا حديثون. ومع اننا حقا نمتلك معرفة واقعية حول كيفية تقليل المعاناة (مثل نظرية الجراثيم او لقاح بولو)، لكن الالتزام الاخلاقي لتقليل المعاناة غير الضرورية هو قيم رئيسية لا زمنية نشترك بها مع أسلافنا والى حد ما مع الاجناس القريبة من الانسان.

من الصعب ان نكون أرقى اخلاقيا في أي وقت لأنه في كل الأزمان الناس يميلون لوصف الآخرين بالشر والتسبب في معاناة غير ضرورية عندما تكون لمصلحتهم. هذا يفسر لماذا الابطال الاخلاقيون في مختلف الأزمان لديهم الكثير من المشتركات مع بعضهم البعض قياسا بما مع الاكثرية في زمانهم. عندما يفهم شخص ما هذه المسائل سيكون من غير المحتمل ان يرفض الاخلاق ذاتها كنتاج لزمانه وثقافته.

***

حاتم حميد محسن

....................................

Right and wrong about Right and wrong: philosophy Now, June/July2023

الهوامش

(1) الحاضريون presentists في الأصل يعتقدون ان الحاضر وحده هو الواقعي وهو دائما صحيح بالضرورة. هم ينظرون الى الماضي بمنظور عقائد ومواقف الايام الحالية، اي، يستخدمون افكار الزمن الحالي في وصف و تفسير الماضي. بعض المؤرخين الحديثين اعتبروا هذا الاتجاه مغالطة، وهم سعوا في عملهم لتجنب الحاضرية لأنهم يعتبرونها شكلا من الانحياز الثقافي وانها تخلق فهما مشوها للموضوع قيد الدراسة.

(2) تجربة ملغرام هي دراسة سايكولوجية شهيرة قام بها Stanley Milgram من جامعة يال لاستكشاف رغبة الافراد في تنفيذ اوامر السلطات عندما تتعارض تلك الاوامر مع الأحكام الاخلاقية الخاصة بالافراد.

مدخل: لقد كانت قيم الليبراليّة التي أسقطت دولة الاستبداد، ممثلة بالملك والنبلاء والكنيسة، مشروعاً إنسانيًاً عظيماً، حمل بين طياته قيم العدالة والحريّة والمساواة، وتحرير المرأة واحترام الرأي والرأي الآخر والتعدديّة السياسيّة وتداول السلطة، واحترام الحقوق الطبيعيّة للإنسان وفي مقدمتها حق الحياة للقضاء على الفقر والجوع والظلم والاستلاب والتشيىء  والغربة.

ومع تحول الطبقة الرأسماليّة صاحبة هذا المشروع الليبرالي التقدمي إلى طبقة برجوازيّة احتكاريّة، ممثلة لليبرالية الجديدة في دول أوربا الغربيّة، ومع وصول الطبقة السياسيّة الحاكمة المشبعة بالطائفيّة والقبليّة والعشائريّة في دول العالم الثالث تحت مظلة أحزاب شموليّة دكتاتوريّة، سقطت القيم الليبراليّة النبيلة في الغرب خدمة لاقتصاد السوق الحر الذي تمثله الطبقة البرجوازيّة الاحتكاريّة، مثلما سقطت قبل أن يكتمل نموها في العالم الثالث ومن ضمنه عالمنا العربي، على يد قوى حاكمة أنانيّة أغرتها شهوة السلطة وتحكمت بالسلطة بقوة الحديد والنار، وباسم شعارات فضفاضة مجردة تدعوا إلى الديمقراطيّة والعلمانيّة والحريّة، وأيديولوجيات جموديّة أثبت الزمن هزيمتها فكراً وممارسة.

الأحزاب الديمقراطيّة الثوريّة وتحطيم القيم الليبراليّة النبيلة:

كثيراً ما قامت الأحزاب الحاكمة، وبخاصة من منظومة الأحزاب (الديمقراطيّة الثوريّة) المتبنية لمشروع الاشتراكيّة العلميّة في العالم الثالث ومن ضمنه عالمنا العربي بشكل خاص، في محاربة قيم الفكر الليبرالي، شأنها شأن القوى الأصوليّة الدينيّة الرافضة للآخر، وفي مقدمة ما حاربوا من هذه القيم النبيلة، الديمقراطيّة الليبراليّة وعلمانيتها في صيغتيهما التقدميّة اللتين تبنتهما الطبقة البرجوازيّة في بداية نشوئها ونضالها ضد قوى الاستبداد ممثلة بسلطات الملك والنبلاء والكنيسة، منطلقين قادة هذه الأحزاب من مقولة لماركس قد فهموها خارج سياقها التاريخي بالنسبة لتطور الطبقة البرجوازيّة بعد أن تحولت إلى طبقة احتكاريّة استعماريّة، وهي: (إن الطبقة العاملة في الأنظمة الرأسماليّة تختار من يقمعها في البرلمان كل أربع سنوات). لا شك أن هذه المقولة تنطبق تماماً على الطبقة الرأسماليّة الأوربيّة  بعد أن تحولت إلى طبقة احتكاريّة استعماريّة في مرحلتها الامبرياليّة، وبعد استلامها الحكم، وتحكم شهوة السلطة السياسيّة، وسلطة الربح الفاحش بها من خلال استغلالها لشعوبها واستعمارها لشعوب العالم الثالث. وهذا ما جعلها تتخلى عن كل قيمها ومبادئها الليبراليّة التي نادت بها في بداية انطلاقتها، وهي القيم المشبعة بالمفاهيم الإنسانيّة، كالحريّة والعدالة والمساوة.

نعم. لقد أخذت هذه القيم الليبراليّة تنهار في مجال الممارسة، وراحت الطبقة الرأسماليّة صاحبة هذه القيم تتحول إلى طبقة استغلاليّة فاق استغلالها لشعوبها الأوربيّة آلاف المرات  استغلال هذه الشعوب من قبل القوى التي كانت تسيطر عليها قبل وصولها إلى السلطة، أي استغلال الملك والنبلاء والكنيسة.

وبناءً على هذه التحولات العميقة التي انتابت الطبقة البرجوازيّة وقيمها، حوربت أيضاً القيم الليبراليّة المشبعة بالروح الإنسانيّة في جوهرها من قبل الأحزاب المتبنية للاشتراكية أو الاشتراكية العلميّة والقوميّة في دول العالم الثالث التي تبنت الخط الاشتراكي للتنمية طارحه البديل عن هذه القيم الليبراليّة، وهي قيم الديمقراطيّة الشعبيّة، التي لا تختلف من حيث المضمون عن هذه القيم الليبراليّة المشبعة بالروح الإنسانيّة. فمقولة لينين الذائعة الصيت: (مزيداً من الاشتراكيّة يعني مزيداً من الديمقراطيّة)، تشير إلى ذلك. فمزيداً من مشاركة الشعوب في تقرير مصيرها هي وسيلة لتحقيق عدالتها وحريتها ومساواتها، وما يدخل في نسيج هذه الأهداف العريضة من قيم ومبادئ إنسانيّة تهم الفرد والمجتمع معاً. بيد أن مشروع العدالة الاشتراكيّة القائم على فكرة (الديمقراطيّة الشعبيّة) ممثلة في المنظمات الشعبيّة والاتحادات والنقابات المهنيّة، التي تساهم في التشريع لمصالح الجماهير وتنميتها من خلال مشاركتها في إدارة أمور البلاد ومراقبة السلطة الحاكمة والدعوة لمحاسبتها، راحت هذه القيم الايجابيّة لمفهوم "الديمقراطيّة الشعبيّة" بدورها تتلاشى شيئاً فشيئاً مع وصول هذه الأحزاب إلى السلطة، وتحكم قادتها بها، وفرض سياسة الحزب الواحد، كصيغةً أساسيّةً في الدولة والمجتمع معاً، هذا عدا ممارسة هذه الأحزاب أيضاً لسياسة رأسماليّة الدولة في صيغتها الجموديّة، كأنموذج اقتصادي، أخذ مع مرور الأيام يُشكل من قادة وسياسيي هذه الأحزاب طبقة من البرجوازيّة البيروقراطيّة والطفيليّة، التي اغتنت على حساب أموال الدولة، الأمر الذي حول الحزب ذاته والمنظمات الشعبيّة والنقابات المهنيّة بناءً على هذه السياسة إلى حزام ناقل للسلطة، تعمل على نقل ما تقرره قيادة الحزب ومن يتحكم في قيادته الفعليّة إلى مكوناتها التنظيميّة وبالتالي إلى الشعب، دون أن يكون لها  أي الأحزب والمنظمات والنقابات - ذاك الدور الايجابي الذي رسمته لها نظريات هذه الأحزاب في المشاركة والمراقبة لسياسات الدولة ومحاسبة من يخل بهذه السياسة. أو بتعبير آخر فقدت مقومات الديمقراطيّة الشعبيّة وآليّة عملها، وتحولات إلى شعارات مفرغة من مضمونها العملي.

وتأسيساً على ذلك وغيره الكثير من الممارسات السلبيّة التي مورست من قبل قيادات هذه الأحزاب، تحولت هذه الأحزاب ذاتها بالضرورة وفقاً لسياساتها هذه، إلى أحزاب شموليّة استبداديّة تمارس دكتاتوريتها على أعضائها أولاً، وعلى الشعوب التي تحكم باسمها ثانياً، خاصة بعد أن سيطرت العشيرة والقبيلة والطائفة على سلطة الدولة، وحولت هذه السيطرة الأحزاب ومنظماتها ونقاباتها ذاتها إلى أداة بيد من هم في قمة السلطة أو المتحكمين بها فعليّاً من أجل خدمة مصالحه ومن يؤيد سياساته الأنانيّة الضيقة.

أمام هذه المعطيات يحق لنا أن نتساءل هنا: ماهي القيم الليبراليّة في صيغتها الايجابيّة؟، وهل تصلح قيمها كمشروع نهضوي لدول العالم الثالث؟.

ما هي القيم الليبراليّة  وتجلياتها:

الليبراليّة منظومة أفكار وقيم ذات طابع إنساني تحققت تاريخيّاً حصيلة تطور طويل، تخلله الكثير من التناقضات والصراعات بين القوى المُسْتَغِلِة والمُسْتَغَلة، وهي في المحصلة الوليد الشرعي للثورة التجارية والصناعية وحواملها الاجتماعية من الطبقة البرجوازيّة التجاريّة والصناعيّة ومن وقف معهم في بداية ظهورهم من أبناء الطبقة الرابعة الممثلة للقوى الاجتماعيّة المضطهدة تاريخيّاً، مثلما هي أيضاً التجلي النظري لعصر التنوير في القرن الثامن عشر، وما مثله هذا العصر من قيم إنسانيّة تدعو إلى الحريّة والعدالة والمساواة والوقوف ضد القيم والأفكار والمبادئ الداعمة لاستغلال واستعباد القوى الممثلة لعصر الإقطاع والنبالة.

لا شك أن منظومة القيم الليبراليّة، أو أيديولوجيتها وحملتها من كتاب ومفكرين وفلاسفة، قد ساهمت بشكل فاعل في تغيير قيم وسلوكيات حياة المجتمعات والدول الأوربيّة، من خلال نقدها العقلاني لكل ما هو غيبي وامتثالي ومطلق على مستوى الفكر الذي مثله رجال الفكر الميتافيزيقي واللاهوتي والسياسي القائم على التراتبية، ومن خلال نقدها أيضاً لتلك السلوكيات الاستبداديّة التي عملت وتعمل على الحط من القيم الإنسانيّة النبيلة التي تدل على إنسانيّة الإنسان وكرامته وحريته وإرادته ورغباته في تحقيق مصيره والحفاظ على حقوقه الطبيعيّة والقانونيّة المشروعة.

لقد تجسدت مع قيام الثورة البرجوازيّة ووصول حواملها الاجتماعيّة إلى السلطة، قيم الليبراليّة في المجتمع الأوربي وأصبحت منطقه الداخلي، وعلى أساسها نُظم المجتمع وانتشرت فيه قيم المواطنة والتعليم والإدارة والمؤسسات السياسيّة ونظم العمل وكل ما يحقق للإنسان (الفرد والمجتمع) كرامته. أي بتعبير آخر لقد أصبحت قيم الليبراليّة أنموذج حياة للمجتمع الأوربي، وعلى أساسها تم تحديد الموقف من الماضي والحاضر والمستقبل بما يخدم الإنسان وجوهره الإنساني.

إن الليبراليّة في المحصلة كانت عند انطلاقتها الأولى كما أشرنا أعلاه، ضد استبداد الملك والنبلاء والكنيسة، وضد الفكر اللاهوتي الغيبي الأسطوري والميتافيزيقي المثالي الساعي دوما لعزل  الفكر عن الواقع، والرافض لتطور الحياة، وفي مقدمة هذا التطور، تطور العلوم الطبيعيّة التي حطمت أسس المعارف الدينيّة الأسطوريّة في تفسير حركة الكون وتشكل حياة الإنسان والحيوان والنبات، وموقع الأرض من الشمس، وطبيعة دوران الأرض، والرفض لوجود قوانين موضوعيّة مستقلة تتحكم بسير أو حركة الظواهر الطبيعيّة والاجتماعيّة، وأخيراً وليس آخراً، امتلاك عقل الإنسان وإرادته القدرة على اكتشاف قوانين الطبيعة والمجتمع والتسلح بها وتسخيرها لمصلحته.

إن هذا الفكر الرجعي المثالي الوثوقي الاستسلامي الرافض لحركة الواقع وتطوره وتبدله، كان يَحولُ بين الإنسان وقدرته على تحقيق مصيره الإنساني، والفسح في المجال واسعاً أمام فكره العقلاني النقدي وحرية إرادته في تغير مصيره بيده، مثلما كان يعمل على إقصاء فكرة أن الإنسان ذاته ضرورة وحريّة.

حقيقة لقد حاربت القيم الليبراليّة التي حملتها الطبقة البرجوازيّة الوليدة، الاستبداد وقواه المستبدة، واعتبرت الديمقراطية والعلمانية وسيلتين من الوسائل التي تساهم في بناء المجتمع المدني والدولة المدنيّة، والفسح في المجال واسعاً للقوى المظلومة والمستلبة المشاركة في بناء هذه الدولة والمجتمع.

إن قيم الليبرالية التي أكدت على حرية الفرد وإرادته ودوره في التاريخ، لم تكن يوماً ذات نظرة أحاديّة، كأن تُختزل في الاقتصاد فحسب، بل هي ذات طابع شمولي تتغلغل في كافة مجالات حياة الإنسان الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة، وهي في بداية صعودها أو مرحلتها الأولى، قد عبرت عن قيم تقدميّة مشبعة بالروح الإنسانيّة المتعلقة بالعلم والمواطنة والمرأة والتربية والثقافة والفن والأدب كما أشرنا في موقع سابق.

إن مشكلة القيم الليبراليّة وتلاشيها تقع حقيقة في جانبها الاقتصادي (اقتصاد السوق الحرة) الذي انبعث من صلبها وعمل على تحرير وإطلاق العنان لتطور قوى وعلاقات الإنتاج، وفرض هيمنة اقتصاد السوق وسيطرة روح الربح المتوحش بإسم الحريّة. إن هذا الانبعاث الاقتصادي ممثلاً باقتصاد السوق الحرة، ساهم بالضرورة في نمو العلاقات غير العقلانيّة بين المالك والمنتج، وبالتالي خلق حالة واسعة من التفاوت الطبقي والاستغلال وما نتج عن هذه الحالة من غربة واستلاب وتشيئ وضياع  لقوى اجتماعيّة واسعة من أبناء المجتمع، وهي القوى المنتجة، وما يتعلق بحياة هذه القوى من فن وأدب وفلسفة وفكر. حيث راحت هذه القيم الإنسانيّة التي بشرت بها الطبقة الرأسمالية وثوراتها ضد الماضي وقيمه التقليديّة السلبيّة، تفقد بالضرورة سماتها وخصائصها الايجابيّة لتتكيف مع روح العصر الجديد الممثل لروح وجوهر الطبقة الرأسمالية في صيغتها الاحتكارية المشبعة بالروح الأنانية الفرديّة القائمة على المنافسة غير الشريفة والاحتكار.

إذاً إن قيم الليبرالية المشبعة بالقيم الايجابية  في مراحلها الأولى ممثلة بالحريّة والعدالة والمساوة والمشاركة الجماهيريّة في السلطة وغير ذلك من قيم، هي قيم صالحة لكل شعب ولكل أمّة في أي مرحلة تاريخيّة تسودها قيم الظلام والاستبداد والجهل والتخلف. ولطالما أن أمتنا العربيّة تعيش هذه الحالات المزرية من التخلف الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي تحت مظلة حكومات شعبويّة استبداديّة، فقيم الليبراليّة في مرحلتها الأولى التي كانت وراء كل الثورات التقدميّة في أوربا بكل تجلياتها التي قمنا بعرضها أعلاه، هي قيم صالحة لشعوبنا ومجتمعاتنا أيضاً، وهي قيم مشبعة من جهة أخرى بقيم الاشتراكيّة وعدالتها، وهي التي تشكل الرافعة الحقيقة لتجاوز واقع تخلفنا الذي فرض علينا لمئات السنين ولم تستطع القوى الحاكمة بكل مسمياتها أن تخلصنا منه، بل هي ساهمت كثيراً بسبب شهوة السلطة لديها،  أن تزيد من عوامل هذا التخلف وتعمق مساراته.

نعم... لكي نستطيع تجاوز هذا التخلف وتحقيق نهضتنا وتقدمنا والوصول إلى إنسانيتنا، لا بد لشعوبنا من تبني هذه القيم الليبرالية ومحاولة جعلها أحد العتلات الرئيسة التي ستدفع بالمجتمع والدولة معاً بعيداً عن روح الدولة الشموليّة واستبدادها، وما فرضته على شعبها من ذل وخنوع وتخلف خدمة لمصالح قوى سياسية اتخذت من الدولة وسيلة لتحقيق مصالح أنانيّة خاصة تهيمن عليها روح القبيلة والعشيرة والطائفة.

ملاحظة: بالرغم مما تخلفه ثورات الشعوب المضطهدة تاريخيّاً  من دمار للدولة والمجتمع، بسبب ما مورس عليها من تجهيل وقمع للحريات وإقصاء سياسي واقتصادي، إلا أن هذه الثورات تشير بهذا الشكل أو ذاك إلى أن الشعوب المتخلفة والمجهلة تاريخيّاً، قادرة أن تتعلم من تجاربها كيف تستطيع أن تتخلص من سيطرة الدولة الشمولية ومستبديها تجار الديمقراطيّة والعلمانيّة والدين، وتعيد ترتيب حياة الفرد والمجتمع في دولها ومجتمعاتها على قيم الليبراليّة أو الديمقراطية الشعبيّة لا فرق بينهما.. ليس عيباً أن تضحي الشعوب من أجل حريتها وعدالتها وكرامتها، والوصول إلى تحقيق طموحاتها. وهذه هي مسيرة الشعوب الحرة. والعيب في هذه الشعوب ان تسكت على مستغليها، ومن يمارس عليها القهر والتجويع باسم الوطن، وهم أكثر استغلالاً لهذه الوطن والمتاجرة به.

***

كاتب وباحث من سورية

د. عدنان عويّد

تمهيد: علاقة الزمن بالاشياء علاقة ادراكية محايدة بالدلالة المعرفية لا يقوم الزمن بها بل بدلالتهما معا "الزمن والاشياء" ندرك العالم والطبيعة والموجودات .

علاقة الزمن بالاشياء ليست علاقة جدلية ديالكتيكية. بل هي علاقة ادراكية معرفية فقط. ادراك الشيء موجودا حسيا او خياليا تسبق معرفته والوعي به عقليا. الادراكات الحسية هي نقل انطباعات ادراكات الحواس للاشياء في المرورالوقتي بالذهن وهذه الانطباعات الحسيّة هي مرحلة اولى على طريق المعرفة العقلية والوعي بالمدركات.....

الزمن لا يعي ادراك الاشياء بدلالته ولا الاشياء تدرك الزمن ذاتيا الا بدلالة ثالثة اخرى تكون وسيطا بينهما هو حركة جسم ما . حركة الشيء تعني ادراك دلالة الزمن ولذا يطلق سقراط على الزمن انه مقدار حركة جسم او شيء لكن الزمن في ماهيته الجوهرية غير المدركة عقليا ليس حركة.. الوعي يدرك ذاتيته من خلال محايثة موضوعه له والوعي لازمني بالنسبة لادراك موضوعه.

الوعي القصدي والموضوع

حين لا نستطيع تعريف ماهو الوعي الا بدلالة غيره من حلقات سلسلة المنظومة الادراكية العقلية التي تبدا بالحواس وتنتهي بالدماغ. فكيف يعي الوعي موضوعه ويدركه بالاحاطة به والتعبير عنه؟

مخترع الوعي القصدي يالفلسفة هو الفيلسوف السويسري هيرمان برينتانو 1831 – 1917 وهو عالم نفس ايضا. حاضر بالفلسفة وعارض النقد الكانطي وانصب اهتمامه على علم النفس. كان تاثيره شديدا على تلميذه ادموند هوسرل فيلسوف الظاهريات (الفينامينالوجيا) وبدوره اي هوسرل كان له التاثير الاقوى على فلاسفة الوجودية مارتن هيدجر، بول سارتر، ياسبرز، جبرييل، ميرلوبونتي واخرين جمعتهم الهجمة الشعواء التي شنوها على كوجيتو ديكارت انا افكر اذن انا موجود حتى اصبحت مقولة ديكارت تفلسف من لا شاغل له بالفلسفة.

ترك برينتانو اهتمامه باللاهوت المسيحي وغادر الكنيسة بافكارها وطقوسها الى غير رجعة. لكنه لم يتخل عن اهتمامه المركزي حول وجود الله بمحاضراته في جامعتي تورنبورغ وفيّنا.

العبارة التي استوقفتني واسعدتني لبرينتانو لانها تطابق ما انا اؤمن به تلك هي (الوعي لا يصنع موضوعه، بل موضوعه محايث دائم لوجوده) ما اروعك يابرينتانو في عبارة لم يتوصل لها الا القليل من نوادر الباحثين بفلسفة الوعي من الفلاسفة الاميركان جون سيرل وريتشارد رورتي وسيلارز إحتواهم مستنقع البحث في الوعي حتى قادتهم حيلة الخلاص من تعقيداته وتداخلاته مع فلسفة العقل وفلسفة اللغة وعلم النفس وعلم وظائف المخ لجوئهم الى الغموض في التناول البحثي حول الوعي.. وتناولت بدوري ذلك المبحث مع الثلاثة الاميركان وغيرهم في اكثر من مقال منشور لي خاصة جون سيرل..

الجميل في عبارة برينتانو الفلسفية انه وضع الباحثين في فلسفة الوعي بندول ساعة متأرجحين بين كيفية ادراك الوعي هل هو موضوعا مستقلا للعقل ام هو وسيلة العقل الالمام بمعرفة موضوعه.؟ ام هو اختراع علم النفس السلوكي.؟

ترجم برينتانو ربطه الوعي بعلم النفس بتأثير تخصصه الاكاديمي كي يجعل من الوعي موضوعا علاقته بعلم النفس السلوكي ولا علاقة تربطه بمجمل المنظومة الفكرية العقلية. هذا التوجه الفلسفي جعل برينتانو يحاول تطويع فهم الوعي بضوء مرجعية علم النفس لا غيره بحكم تخصصه الاكاديمي الجامعي كعالم نفس ما جعل اهمية برينتانو الفلسفية تكمن في اختراعه مصطلح (الوعي القصدي). بمعنى الوعي الذي يعي هدفه في الموضوع الملازم له.

كتابات الفلاسفة الاميركان الذين عنوا بفلسفة الوعي جون سيرل ورورتي وسيلارز وغيرهم لم ياخذوا عن برينتانو وجوب تفسير الوعي بعلم النفس السلوكي القائم على مرتكز الارادة الذاتية الفردية. بل اخذوا الوعي في مركزية فلسفة اللغة واللسانيات وفلسفة العقل ومباحث فلسفية اخرى معتبرين فلسفة برينتانو حول الوعي افل نجمها وانتهى تاثيرها مع افول نجم الوجودية بعد اكتساح الفلسفة البنيوية لها وازاحتها..

السلوك النفسي الذي ربطه برينتانو بالوعي لم يكن موفقا اذ السلوك هو ماتمليه حاجة الاشباعات النفسية المادية الخاصة بالعالم الخارجي وبحاجات الجسم الداخلية في تلبية اشباع احاسيس ما ترغبه الغرائز البيولوجية.

السلوك النفسي الذي جعله برينتانو دافع ومرجعية تصنيع انطلاقة الوعي جعله لا يهتم كثيرا بعلاقة ارتباط الوعي بسلسلة حلقات المنظومة الادراكية للعقل. ساعده هذا التوجه ان الوعي هو افصاح لغوي ادراكي تجريدي عن موضوع داخل الجسم او خارجه من دون ذكر اهمية مرجعية العقل في ارتباطه بالوعي. التي استبدلها برينتانو بمرجعية علم النفس السلوكي الذي تحكمه ارادة النفس في السعي لاشباع حاجات وغرائز الجسم..

لا بد هنا من التنبيه الى ان الوعي يختلف عن الادراك الحسي الذي هو نقل الحواس انطباعاتها عن العالم الخارجي للذهن عبر شبكة الاعصاب المعقدة. ويعتبر الادراك الحسي مرحلة اولى في تشكيل منظومة الادراك العقلية التي تنتهي بالدماغ في انتاجه الوعي القصدي المطلوب تجاه معرفة مدركاته.. الوعي هو رد فعل العقل بناتج مقولاته الواصلة اليه من الحواس على صورة انطباعات ذهنية يتولى جزءا خاصا من الخلايا العصبية في قشرة الدماغ تحليلها واعطاء ردوده الوعوية عنها.. لا الوعي ولا الذهن يمتلكان قابلية التفكير في معرفة ومعالجة الاشياء بدون الاستعانة بمرجعية العقل.

لا الحواس ولا الوعي ولا العقل يصنع مواضيعه المستقلة وجوديا بل المواضيع المحايثة لسلسلة منظومة العقل الادراكية موجودة باستقلالية في العالم الخارجي وعالم الجسم الداخلي قبل وصول الاحساسات والانطباعات الذهنية عن تلك العوالم للعقل والمخ تحديدا.

الوعي هو نتاج عقلي وليس نتاج نفسي منعزلا عن المنظومة العقلية البيولوجية للادراكات المعرفية. الشيء الاخرهيرمان برينتانو جعل معادلة الوعي- الموضوع ثنائية بالاسم فقط ولا وجود حقيقي في امكانية الفصل بين الوعي وموضوعه مثلما لا يمكننا فصل الفكر عن اللغة كموضوعين غير مستقلين احدهما عن الاخر.

ترجمة هذه النظرية لدى برينتانو تعود الى عبارته التي اشرنا لها بداية المقال ان موضوع الوعي محايث له ولا وعي بلا موضوع وهي مقولة فلسفية صائبة تماما.. لكن الوعي لا يمّوضع موضوعه المحايث له داخله كتكوين مادي. وتبقى مقولة الوعي هو موضوعه صائبة من حيث الوعي لا يعمل في فراغ وجودي كما حاوله ادموند هوسرل..

لكن طالما الوعي هو تجريد العقل عن موضوع يحدده العقل وينفذه الوعي ولا يصنعه الوعي عندها يصبح مساواة الوعي بموضوعه غير وارد. فالوعي تجريد يعبّر عما هو مادي بما يمليه عليه العقل. برينتانو رغم خلفيته كعالم نفس الا انه يعتبر الوعي لا يحتوي على احداث او حالات ذاتية سايكولوجية بل يتضمن ايضا موضوعية غير واهمة وليست من صنعه، لكنها في الوقت ذاته تنتمي اليه لانها تظهر فيه ناتجة عن مصدر الوعي. نقلا عنه نصا وهي عبارة معقدة.

فرضية برينتانو الفلسفية حول موضوعية الوعي (المادية) يعتبرها تصنيع سايكولوجي سلوكي وليس تصنيعا عقليا بيولوجيا غير صحيحة. فالوعي إلمام ادراكي تجريدي لغوي في التعبير عن مدركات مواضيعه المادية والخيالية ليس من اجل ادراكها كما تفعل الحواس بل من اجل معرفتها وتغييرها.. الوعي هو محصلة تفكير العقل النهائية بموضوعه.

كما اشرنا سابقا الوعي تصنيع عقلي لا نفسي وطالما الوعي نتاج تصنيع عقلي وليس نفسيا كذلك النفس هي تصنيع عقلي ايضا ولا فرق بين مرجعية الاثنين سوى بالسلوك او الارادة المترتبة على علاقة الوعي معالجة موضوعه عقليا وليس نفسيا. النفس لا تصنع وعيها القصدي في تلبية وتحقيق حاجات وغرائز الجسم دون مرجعة العقل.

عن هذه الحيثية يترتب التساؤل كيف يكون للوعي موضوعات وحاجات ورغائب هي غير حاجات الاشباعات الغريزية للجسم والنفس معا؟ الجواب هو بالتفريق هل الوعي في امتلاكه موضوعه يكون مصدر معرفة ام وسيلة معرفية؟ برينتانو يقر بعجز الوعي تجريده عن موضوعه حقيقة غير واهمة تمثّلها قصدية الوعي. صحيح جدا تثبيت حقيقتين لبرينتانو حول الوعي الاولى الوعي هو موضوعه كجوهرين مستقلين متلازمين في تبادل اعطائمها مشتركين معرفة الاشياء والتخارج التغييري لها.، والثانية لا يوجد وعي بدون قصدية ملازمة له تقوده تحو هدف ذهني مرسوم سلفا. اي بمعنى الوعي قصديا ليس اعمى خلفية التفكير العقلية..

هنا نتساءل كيف يجمع الوعي بين ان تكون قصديته ناتجة عن موضوعه وبين ان يكون الوعي وسيلة العقل في التعريف بمدركاته؟ الحقيقة يتم ذلك في واحدية مرجعية العقل للوعي. اذا اعتبرنا امكانية النفس بما تحتويه من تعبيرات نفسية مثل الفرح، الالم ، الحزن، الكآبة، السلوك وغير ذلك ان تخلق وعيها الخاص بها بمعزل عن بيولوجيا وظائف اعضاء الدماغ يصبح معنا الخطأ الشائع ان للذهن تفكير مستقل ينوب عن تفكير العقل ساريا لا اعتراض عليه.. وكذا نفس الحال ينطبق على قضايا خاطئة اخرى عديدة مثل علاقة الذاكرة بالاستذكار التاريخي وحول علاقة ترابطية الخيال والزمن. وعلاقة الزمن بالمكان رومانسيا كم فعل جاستون باشلار في كتابه الزمن والمكان.

مصنع الوعي

اخذ هوسرل عن استاذه برينتانو فكرته عن الوعي القصدي الذي كان رد فعل قوي على عبارة ديكارت الشهيرة تاكيده ان مجرد التفكير يعطي قطعية وجود الانسان الحقيقية كينونة واعية. هوسرل ارسى مقولة الوعي القصدي في اعتباره القصدية هي فعل الوعي المنتج للموضوعية، وبهذا اختلف مع برينتانو الذي اعتبره لم يقم بشيء عن القصدية سوى السلوك النفسي العملي نحو بلوغ هدف محبب لنفسه. كما اعتبر برينتانو لم يعط معنى الوعي بل ذهب الى ان القصدية تنتج الموضوع.

الحقيقة قبل مناقشة الاهم ان القصدية هي الوعي الذي يلازمه موضوعه لذا يكون تحصيل حاصل ان الوعي بقصديته يتجه نحو تحقيق هدف في موضوعه. قد يذهب البعض ان ملازمة الموضوع للوعي يعني تأبط هذا الاخير لموضوعه تحت ذراعه. لا الموضوع هو المتعيّن المستقل في ماديته وحتى في الخيال يكون متموضعا بتجريد يقوم على تجريد لغوي هو الوعي. عبارة برينتانو الوعي هو الموضوع لا تعني الانابة البينية المتبادلة بينهما بل تعني استقلالية مادية الموضوع عن تجريدية الوعي المصاحب له.

الان ننتقل الى ان القصدية هي فعل الوعي ليس الادراكي فقط بل المعرفي التغييري ايضا. الوعي ليس التوجه التجريدي الاعمى نحو موضوع متعيّن لادراكه بل الوعي القصدي هو ناتج تفكير تطبيق مقولات العقل التي يقوم بتنفيذها الوعي الذي هو اولا واخيرا تجريد لغوي في الافصاح الالمامي بموضوع مادي او خيالي للتخارج المعرفي معه..

الوعي كما نفهمه فلسفيا

القصدية هي فعل الوعي ناتج التفكير العقلي الذهني الواصل عبر شبكة المنظومة الادراكية للعقل الى الموضوع المراد التداخل المعرفي به بوسيلة الوعي. الوعي ليس مادة حتى حينما ينقل مقولات العقل تجريديا الى مدركاته من الاشياء ومواضيع العالم المحيط بنا. الوعي هو خلاصة الادراك الذي لا قدرة له ان يتحول الى فعل مادي يخلق موضوعا يعالجه تفكيرا تجريديا معرفيا متخارجا معه. الموضوع المادي او الخيالي وجود موجود قبل معالجة الوعي به وقبل ادراكه حسيّا ايضا..

هوسرل كان صائبا في اعتباره الوعي كالزمن مفهموم محايد بعلاقته مع الاشياء لا ندرك ماهيته. الوعي ليس تفسيرا توضيحيا حول موضوع معين، بل هو وعيا حياديته مستمدة من طبيعته التجريدية انه متخارج معرفيا مع مدركاته. الوعي وسيط توصيل مقولات العقل معرفيا عن مدركاته والوعي لا يتموضع تكوينيا بموضوعه بل كل منهما يحتفظ باستقلاليته المتلازمة في جمعهما الوعي مع – موضوعه.

هوسرل كان غير موفق فلسفيا ايضا اعتباره الموضوع المحايث وجودا للوعي هو الذي يعطي معنى القصدية. الحقيقة ان الوعي لا ينتج ولا يخلق القصدية وانما يقوم الوعي بتنفيذ قصدية العقل منتجه البايولوجي. والقصدية لا تنتج مواضيعها كونها هي موضوع ماهيته انه يحمل قصديته التي يروم الوعي معرفتها والتخارج معها حول الموضوعات المدركة ليس حسيّا فقط بل وايضا عقليا بالمرتبة الاولى..

القصدية هي هدف الوعي يفتقد "آلية" منظومة الادراك العقلي المعرفي في علاقتها مع اشياء العالم الخارجي وغرائز اشباع رغائب احاسيس اجهزة الجسم الداخلية.

هوسرل في عبارته (كل العالم الواقعي الموضوعي عبارة عن تمثّلات الوعي به) العبارة صائبة وصحيحة خاصة بعد اقرارنا بحقيقة الوعي بالشيء هو ليس ادراكه بل التداخل التصنيعي التخارجي معه. احكام الوعي القصدي عن عالم الاشياء والمدركات هو توصيف معرفي لها وتفسير توضيحي لمعالجتها وليس تخليقا ماديا لوجودها.

الوعي والمعنى

قصدية الوعي تحمل صفتين هامتين هما الوعي جوهر ذاتي منفرد كوجود مستقل لا علاقة ترابطية تجمع الوعي بموضوعه سوى باستقلاليتهما احدهما عن الاخر وتعالقها القصدي المعرفي المتخارج بينهما. الصفة الثانية بينهما ان الوعي قصدي بالضرورة التعالقية مع موضوعه في تحقق معنى الموضوع المحايث له.

اذن نلاحظ بجلاء واضح تشابه الوعي بالاشياء انه مرادف طبق الاصل بالادراك الحسّي لها من حيث آلية التنفيذ فقط وليس من حيث الجوهر الوظيفي. حيث نجد كلا من الادراك الحسي الذي يسبق الوعي يتلاقيان في تحقيق المعنى القصدي في الاشياء والمواضيع. ليس معنى ذلك الادراك غير منفصل عن الوعي الذي يحتوي الادراك بتفرد مختلف عنه. لا الادراك الحسي ولا الوعي قادرين على تخليق موضوعهما الذي هو الوجود المادي المستقل بذاته السابق عليهما.

نعود الى العلاقة التي اشرنا لها الوعي ملازم موضوعه المستقل وجودا عنه لكنه متخارج معه معرفيا. الوعي احاطة معرفية عقلية تخارجية لمدركاته وليس خالقا بيولوجيا مستقلا لها بعيدا عن مقولات العقل عنها الذي هو الاخر يعجز خلق مواضيعه الادراكية بيولوجيا بل يعبر عنها فقط بلغة الوعي التعبيري اللغوي المجرد .

الشيء الاخر انه لا وجود لوعي ادراكي قصدي لا يحمل ملازمة معنى تلك القصدية مسبقا يسعى تحقيقه سلوكا وتعبيرا لغويا. الوعي جوهر ذاتي والذات المجردة من علاقاتها لا تدرك ولا تعي ما لا معنى له. الوعي كما سبق لنا تكراره فعالية قصدية تحمل معها معناها السلوكي المرتبط بمنظومة العقل الادراكية. اي تفسير لمعنى فارغ لا يحمل قصديته التي يسعى لها يكون بالمحصلة لا وعي غير موجود ولا يقبله منطق العقل.

فرق الوعي عن الادراك

اذا اردنا تفريق الوعي عن الادراك من حيث قابلية امتلاك المعنى، يكون عندها المرجعية الداحضة في عدم وجود وعي لا يمتلك معنى انما تحدد خطله الزائف علاقة الذات بالدماغ وظائفيا بيولوجيا.

لكن اذا نحن اجرينا مقارنة بين الوعي والادراك ايهما اصدق في تعبيره الادراكي؟ نحن هنا نقع في اشكالية ان الوعي ناتج موضوع ادراك العقل. اما الادراك العفوي الطبيعي لموجودات العالم الخارجي فهو انطباع اولي في نقل الحواس للاحساسات الصادرة عن ادراكها لموضوعات وموجودات العالم الخارجي. ويطلق ديفيد هيوم على هذه العملية بنقل الحواس للانطبات الحسية للذهن وهي انطباعات وقتية تاخذ طريقها عبر شبكة الاعصاب وتراتيبية منظومة العقل الادراكية الى الدماغ ولا قيمة حقيقية تحسب لها كما اكد هذا المنحى جورج بيركلي ايضا.

ميزة الاختلاف الادراكي ان الحواس تنقل انطباعاتها الحسية الى الذهن بعشوائية غير منتظمة ليس كما هي في معالجة الدماغ لها. ادراك عشوائية موجودات العالم الخارجي عبر الحواس قد يفقد الاحساسات الانطباعية المنقولة عنها صدقيتها وعدم كونها خاطئة غير صحيحة.

بماذا يختلف الوعي الادراكي لعالم الموجودات عن الادراك الحسي الذي تقوم به الحواس وكليهما مرجعيتهما الذات؟ رغم اننا تحدثنا باسطر سابقة عن هذا الاختلاف نضيف هنا لما سبق استجابة على التساؤل، انه لا يمكن للذات ان لا تعي نفسها وجودا معرفيا مركزيا للجسم وعلاقة الانسان بالطبيعة والعالم الخارجي. ما يرتب على ذلك ان وعي الذات لنفسها يستتبعه بالضرورة انها تعي مواضيعها وعلاقاتها الارتباطية بالعالم الخارجي والخيالي الداخلي. اي نوع من التفكير لا يكون بلا معنى يحتويه عديم الجدوى ولا اهمية له والا كيف يحدد الوجود الانساني كينونته الذاتية بدلالة تفكير لا يحمل معنى ما يفكر به؟.

***

علي محمد اليوسف

مقدمة: نسمع كثيرًا هذه الأيام عن كيف تسعى المؤسسات جاهدة لتحقيق التوازن بين الحاجة إلى تحقيق أهداف ضخمة للإيرادات والربح وبين الرغبة في خلق ثقافة مبنية على أساس من الأخلاق والنزاهة. هذا يثير سؤالا مهما: ما هي بالضبط الثقافة "الأخلاقية"؟

إن المنظمات الأكثر أخلاقية هي تلك التي تكون قادرة على تطوير هذه القدرات الأربع في موظفيها: الوعي الأخلاقي، والشجاعة الأخلاقية، والتفكير الأخلاقي، والفعالية الأخلاقية . تنظر الثقافة الأخلاقية باعتبارها ثقافة قادرة على دمج نظامين متميزين: الثقافة الأخلاقية، التي تركز على تعليم الموظفين قيمًا تنظيمية محددة وأهمية "فعل الشيء الصحيح" ؛ والمناخ الأخلاقي، الذي يؤكد على تطوير المواقف والتصورات وعمليات صنع القرار المتعلقة بالأخلاقيات في جميع أنحاء المنظمة. بغض النظر عن كيفية تعريف المرء لمفهوم الثقافة الأخلاقية، فإن المنظمات التي تحقق أكبر قدر من النجاح في إنشاء بيئة قائمة على الأخلاقيات والحفاظ عليها تميل إلى الالتزام بأفضل الممارسات في المجالات العشرة التالية، على النحو الذي حدده كيرك أو. هانسون، المدير التنفيذي من مركز ماركولا للأخلاقيات التطبيقية بجامعة سانتا كلارا:

بيان القيم القوية

بيان القيم هو عبارة عن تلخيص قصير وموجز لما تمثله المنظمة والقيم التي يتوقع من موظفيها تجسيدها وما تهدف منتجاتها / خدماتها إلى المساهمة في العالم. في معظم المنظمات الأخلاقية، تصبح هذه البيانات مبادئ راسخة بعمق والتي تعمل بمثابة علامات إرشادية لقرارات وإجراءات الموظفين والتنظيمية.

قواعد سلوك جيدة الصياغة

مدونة قواعد السلوك هي مجموعة مكتوبة من المبادئ تعمل جنبًا إلى جنب مع بيان القيم لتكون بمثابة خارطة طريق أخلاقية للمؤسسة. أفضل قواعد السلوك هي الوثائق الشاملة والمنظمة جيدًا والتي تتم كتابتها بلغة واضحة ومفهومة بدلاً من اللغة القانونية. يعد تطوير مدونة قواعد السلوك عملية متعددة الخطوات تتطلب عادةً مدخلات مكثفة من جميع مجالات المنظمة.

القيادة بالقدوة: النمذجة التنفيذية

كثيرا ما يقال أن الأخلاق تبدأ من القمة. حتى بيان القيم المصاغة جيدًا ومدونة قواعد السلوك لن تستحق الورقة التي كُتبت عليها ما لم "يعيش ويتنفس" كبار المديرين التنفيذيين المبادئ التي يتبنونها يوميًا. تتمثل إحدى الطرق الممتازة للمديرين التنفيذيين والمديرين الماليين وغيرهم من المديرين التنفيذيين الرئيسيين في تحديد نبرة أخلاقية من خلال مشاركة أمثلة على المواقف التي واجهوها والتي شكلت معضلة أخلاقية، وكيف اختاروا المسار الصحيح عند اتخاذ قراراتهم.

تدريب أخلاقي شامل ومستمر

يقدم عدد كبير جدًا من المؤسسات تدريبًا على الأخلاقيات للموظفين الجدد فقط. التدريب المستمر ضروري أيضًا لترسيخ الأخلاق في الثقافة. يجب أن يتكون التدريب من أكثر بكثير من مجرد دورة عبر الإنترنت توفر مراجعة سريعة لمبادئ الأخلاق الأساسية. يجب أن يشمل مراجعة شاملة لمدونة قواعد السلوك وسياسات وإجراءات الأخلاقيات الخاصة بالمنظمة. يجب أن يتضمن أيضًا دراسات الحالة وسيناريوهات العالم الحقيقي التي تطلع الموظفين على كيفية اتخاذ قرارات أخلاقية وقيمية تتعلق بوظائفهم الوظيفية المحددة. يُنصح أيضًا بإجراء تدريب منفصل للأخلاقيات والامتثال.

تكامل القيم في عمليات العمل

يجب أن تتضمن أي عملية عمل تطورها المؤسسات إشارات إلى القيم وكيفية تأثيرها على القرارات المتعلقة بالنظام. تتمثل إحدى الطرق الجيدة لتحقيق ذلك في دمج عنصر الأخلاق / القيم في عملية تقييم أداء الموظف مع التركيز على كيفية تطبيق العمال للأخلاقيات في عمليات صنع القرار الخاصة بهم.

إنشاء آلية سرية للإبلاغ

حتى المنظمات التي تجعل الأخلاق أولوية قصوى من المحتمل أن تتعرض لانتهاكات أخلاقية وحالات من السلوك غير اللائق في مرحلة ما. يوفر إنشاء خط ساخن للإبلاغ من طرف ثالث مجهول للموظفين آلية سرية لإبلاغ الموظفين المعينين داخل المنظمة عندما يشهدون أو يقعون ضحية لارتكاب مخالفات. يمكن أن يكون الخط الساخن أداة فعالة للغاية لإيقاف سوء السلوك في المراحل المبكرة، قبل أن يتحول إلى مشكلة كبيرة.

عملية تحقيق شفافة لانتهاكات الأخلاق

سيحجم الموظفون عن استخدام الخط الساخن إذا اعتقدوا أن تقاريرهم ستختفي ببساطة في أسفل درج المكتب. تمتلك المنظمات الأكثر أخلاقية آلية لإجراء تحقيق سريع وشامل وشفاف في جميع تقارير الخط الساخن حتى يمكن حل المشكلة بطريقة منصفة وفي الوقت المناسب. إن إدارة الإجراءات التأديبية العادلة أمر بالغ الأهمية أيضًا. ستضيع بالتأكيد رسالة قيم المنظمة إذا تلقى كبار المديرين عقوبات أخف من موظفي الخطوط الأمامية عن نفس السلوك غير اللائق. إن توفير الحماية للمبلغين من الانتقام هو أيضًا عنصر أساسي في عملية التحقيق.

إدارة الأخلاق الفعالة

تنص أفضل الممارسات على تعيين مسؤول الالتزام بأخلاقيات الشركة، وهو مسؤول تنفيذي كبير يشرف على وظيفة الأخلاقيات ويلعب دورًا رئيسيًا في إنشاء البوصلة الأخلاقية للمؤسسة. يجب منح هذا الفرد مجالًا واسعًا لتطوير وتنفيذ السياسات والإجراءات الأخلاقية. يعد إنشاء لجنة الأخلاقيات التي ترفع تقاريرها إلى مجلس الإدارة خطوة أخرى فعالة في حوكمة الشركات.

المراجعة الدورية للمعايير الأخلاقية

من المهم مراجعة المعايير الأخلاقية على فترات دورية للتأكد من استمرارها في تلبية احتياجات المنظمة واكتساب منظور جديد حول الفعالية الشاملة لجميع مبادرات الأخلاقيات. يوصي هانسون بمراجعة شاملة للمعايير كل ثلاث سنوات تأخذ في الاعتبار أي تحديات أخلاقية جديدة تواجهها المنظمة. يجب أن يتضمن أيضًا تقييمًا لأي انتهاكات أخلاقية قد تكون حدثت منذ المراجعة السابقة.

تركيز لا يتزعزع على التحسين المستمر

من السهل على المؤسسة أن تشعر بالرضا عن الوضع الراهن فيما يتعلق بالأخلاقيات، خاصةً عند عدم حدوث انتهاكات كبيرة خلال فترة زمنية طويلة. ومع ذلك، عندما تتخلى المنظمة عن حذرها وتقليل مستوى التركيز الذي تضعه على الأخلاق، يكون لها تأثير غير مرغوب فيه يتمثل في تعزيز الثقافة التي تدعو إلى السلوك غير الأخلاقي. تبحث المنظمات الأكثر أخلاقية باستمرار عن طرق للحفاظ على الأخلاق والامتثال في طليعة كل إجراء تتخذه.

في الختام، تجدر الإشارة إلى أن إنشاء ثقافة أخلاقية ليس بالأمر السهل، ولا يحدث بين عشية وضحاها. ومع ذلك، فإن تلك الكيانات التي تواصل المسار وتسعى إلى تكييف هذه الخصائص العشر لديها فرصة ممتازة لتطوير وتنفيذ ثقافة الأخلاق التي تتخلل كل مستوى من مستويات المنظمة.

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

السبل التي تؤدي الى الفلسفة عديدة، وصراحة هي اكثر من السبل التي تؤدي الى المنهج العلمي، لكن في اشارة اولية نذهب الى فكرة توضيح، حيث السبل المعبدة هي التي نجدها في اطار المنهج العلمي، واما السبل العديدة التي تؤدي الى الفلسفة فهي اغلب تلك السبل يحتاج الى تعبيد، ومن هذه المسارات المرتبطة بالذاكرة البشرية، فهي اصبحت كما الطرق المهجورة، وهذا ما جعل الفلسفة تفقد احد الاركان المهمة، وفي اطار تصنيف الاجناس البشرية، فعنصر الرقي والحضارة لم يشكل ذلك الدافع النشط في تحريك العقل الاجتماعي نحو ركن الفلسفة، ومن هنا من الاولى أن نستبعد فكرة الاجناس، واذا ذهبنا الى المستوى الحضاري، فلم يعد ذلك الجانب ركنا اساسيا، واذا كانت الفلسفة الرومانية قد عاشت اولى مظاهر الحداثة، فالفلسفة العربية عاشت الظروف العصيبة والمعقدة، وعاش من الفلاسفة كما عاش سقراط، بل العقل المغلق تجرأ بتقولات على العقل الرحب المنفتح، واسهم في تجريده من القيمة المعنوية، وقدر على ابن رشد أن يواجه ذلك القتل المعنوي، وفي تصنيف الفلسفات الحديثة، تنوعت ايقاعات الخطاب، وكانت الفلسفة الانكليزية الاكثر وضوحا ورجحانا واهمية سياسية على وجه الخصوص، وبالرغم من رجحان افق الفكر وليس افق الفلسفة، وكمثال ما كان من تشخيص خطاب جون لوك كفكر وليس كفلسفة.

لقد تبنت الفلسفة الانكليزية من اكتساب احد اهم الافكار التي طرحت في الفلسفة الحديثة، لكن كانت هناك جدارة في صيغة التبني، فالمثالية كمفهوم بيني شكل الاهمية الكبرى في القرون الثامن عشر والتاسع عشر، واهمية طرح كانت لهذا المفهوم القديم، والذي استحدث بصيغة بينية لالا تميل الى الدين كليا ولا الى الفلسفة العضوية كليا، بل كان مفهوم المثالية كجلقة وصل جوهرية ما بين المعنى الدين المستحدث بروح ليبرالية، وبين ما اكتسبته الفلسفة الحديثة من حس علماني بنسب عالية، ونحن هنا نبحث في تطورات الخطاب الموازي للمفهوم من خلال دقة وعمق المعرفة اللسانية، ونهدف الى تحليل بنية الخطاب اولا منفردة، ومن ثم ثانيا نتمعن في طبيعة ما بين المفهوم والخطاب، ففلسفة المثالية التي انبثقت من افق الماني كميزة موضوعية في افق عصر التنوير، وكانت فكرة مفهوم المثالية بالاطار المركب معنويا ما بين حس علماني وحس ديني موازي له مهيأة للتناظر، واستقبل لوك وهيوم المثالية في صيغة مستحدثة، على وجه الخصوص في بنى الفلسفة التجريبية والفلسفة العقلانية، ونشير كما قد انتج الماركسيون ماركسا اخر، فقد انتجت الفلسفة الالمانية افقا جديدا للمثالية، ووسعت الفلسفة الانكليزية افق المفهوم وطورت الابعاد التي تتوافق مع الانثروبولوجيا من جهة، وقاربت بين المفهوم والسعي العلمي، فتجد خطاب راسل يدخل من جهة في ترسيخ المنطق العلمي، ومن جهة اخرى بالمنطق الاخلاقي الجديد، والذي بدت ملامحه تتوضح بوقت مبكر في القرن التاسع عشر  وما تلاه.

اهتمت الفلسفة الانجليزية بالمنطق العضوي، وقد انبثق ذلك من خلال فرنسيس بيكون، ثم جاء دور توماس هوبز، والذي طرح فكرة الميتافيزيقا المادية، والتي اثارت ورفعت من منسوب الجدل خصوصا ضد الكنيسة والنظام الملكي، لكن اسعفته علاقته الوطيدة بذوات رفيعة، وتفسير فلسفة هوبز التي تبلورت بشكل موضوعي في القرن السابع عشر، ونشير الى وجود شغف بالموسيقى والتي يجد فيها راحة نفسه واطمئنانها، وكما زيارة هوبز لغاليليو في العام  1636من السعي لتطوير المضامين الفلسفية، والنزوع الى تجديد تفسير الوجود، فكانت هناك حمية فكرية تدفعه إلى تفسير الكون على أسس ميكانيكية، وتلك تعتبر نقطة تحول مهمة في الخطاب الفلسفي الانجليزي، وشكلت ظروف الحرب الاهلية في بداية اربعينيات القرن السابع عشر اجد المعوقات، والتي فصلت ما بين جهة التحديد المدني وجهة قيم التراث، وذلك ما وسع افق الاشكالية حين انقسمت الأمة على نفسها، وهذا صراحة من الامور العصيبة، حين تتعارض الأمة مع نفسها، والانقسام وانتاج شعوب ذات توصيف ايديولوجي، وكانت الحرب الاهلية تؤكد من عنوانها المعنى الجدلي للأيديولوجيا، ونشير هنا الى انعدام المجتمعات من وضع دستور فلسفي لها، هو من جعلها لعرضة لمواجهات العداء النفسي والايديولوجي، والفلسفة هي الضحية الاكثر تضررا على المستوى العضوي، فإذا سنحت الظروف لهوبز للنجاة من الحرق، لم تتح لغاليليو من امتلاك الحرية الكافية، وذلك يعني وجود ظروف مشابهة لطروف الفلسفة الاسلامية التي ظلمت ابن رشد .

لقد اسهمت الحروب بشكل فاعل في انحسار الخطاب الفلسفي، فبدلا من أن يجد العقل ذلك النوع من التفاعل ما بينه وبين العقل الاجتماعي، شغلت الحروب التفكير البشري، وكان لنابليون بونبارت الاثر العصيب، في رفع مستوى القلق والخوف عند الناس، فأثار الحرب والمديات المروعة في تدمير الاقتصاد، او شله على اقل تقدير، وهذا بدوره سينجم عنه خمول القدرات البدنية، وعلى العكس من اثار الحرب المدمرة للقدرات البشرية والموجودات، والاثر النفسي المتصاعد خشية منها، كان هناك ما شهدت بريطانيا من ازدهار للفلسفة الوضعية، وقد اسهم خطاب كونت في رفع الروح المعنوية للتطور العضوي، والتي تعنى بتطوير الفكر الرأسمالي، ومن الطبيعي أن تشهد تلك الافكار ردود افعال لا تسير في اتجاهها، فقد وصف كونجريف في رده على كونت بأن الفلسفة الوضعي هي دين بلا تعاليم عقائدية، ودمجت بالمضمون العلمي لتبشر بوجود دين جديد، وصراحة كان ان نلمس ذلك الاثر البليغ في الافق العضوي للرأسمالية، وكما قد بثت طاقة روحية في كيان الرأسمالية ليبدأ بصيغة جديدة، وممن كان له رد فعل مضاد ضد فكر كونت، فطرح جون رسكين مقولته التي بها قد (احتج باسم الفن والجمال على عقيدة الآلات البخارية والمصانع، وعلى الاتجاه الى التصنيع والايمان المتعصب بالتقدم، وغير ذلك من الأفكار التي كان الوضعيون في رأيه هم دعاتها )1، لكن هاريسون تصدى لتلك الطروحات المعارضة، وضد سوء الفهم او تشويه الغايات الفكرية.

هناك فكرة جانبية نود عرضها، وهي ليست في اصول الفلسفة الانجليزية، وانما في كتاب يدرس الفلسفة الانكليزية في قرن او اكثر من قبل عقل الماني، وتلك اقرب الى المفارقة، ونحن لسنا ضد هكذا فكرة، لكن هي تفرض نوعا من التأمل، لكن نحن نشيد بالتتبع المتواصل لتاريخ الفلسفة الانجليزية، وبالرغم من وجود معرضة نسبية من قبل الفلسفة الالمانية لطروحات الفلسفة الوضعية، وهناك التزام كبير من قبل الفلسفة الانجليزية بالأصول والقواعد التي انبثقت من الفلسفة القديمة، لكن هناك تباين في قبول او رد الفلسفة المعاصرة، فقد وجه مانسل النقد لخطاب مانويل كانت، واعتبر في طرح له في جامعة اكسفورد بأن كانت بلا ارادة معرفية، والكتاب الذي نحن بصدده قد طرح تلك المقولة ولم يعلق عليها، وتلك الصيغ التي يكون فيها الخطاب بحيادية تامة، هي التي اكثر تفسيرا للأفكار بشكل موضوعي، وهي الافضل في الدقة والتركيز على صيغ الافكار، وكما في تفسير لنا نجد هنا توازي ما بين الغايات العقلية في الفلسفة الوضعية وما بين الطروحات التي قدمها لنا رودولف متس، واذا كانت مراحل الفلسفة الوضعية تنتهي الى تسيد العلم كنتيجة اخيرة، فأن صيغ الخطاب في الكتاب ايضا تتجه الى ذات المسعى العلمي، وتكون ايضا بتلك الروح البينية الحرة، فصيغ الخطاب كانت تتمحور بحرية ما بين التسلسلات التاريخية للفلسفة الانجليزية، والانصاف والموضوعية كانت هي الملامح الاساس التي انبثق منها الخطاب في الكتاب.

شكلت الكنيسة بتلك الصيغ الاستبدادية والعنف النفسي وتسخير اشد انواع التعذيب، وجميع المؤشرات التاريخية تشير الى وجود مؤشر للظلم هو بأعلى النسب في طرح نوع من الاقتصاص يتعارض مع روح السماء السمحة، والكنيسة استغلت

العقيدة بصياغة قوانين الرعب المتعاقبة لوضع الشعوب في زاوية الحرمان والخوف والطاعة، ووضعت جملة من خطوط الرعب التي احاطت بالوجود البشري، وكان نصيب وجزاء العقل الفلسفي تلك العقوبات القاسية، وما يملك الخطاب الفلسفي من قيم تحيد وفصل ما بين مفاهيم الخير والشر والعلم والضلال، والكنسية انبثق خطابها المتشدد من الضلال والجهل، وقد استعارت الكنيسة من جهة الصورة التي كان عليها سقراط، ولكن بدلا من أن يختار الفيلسوف التضحية، كانت الكنيسة تختار له العقاب الاقسى والاشد، بل تتجاوز الكنيسة كل القيم والاعراف، وابتكرت انماط من التعذيب لا تليق بالمعنى الإنساني مهما اختلفنا معه، فحرق الاشخاص وهم احياء كان ابشع الصور التي تليق بصولجان، فكيف تكون تليق بكنيسة دين، وكانت الفلسفة هي من قدمت الضحايا النوعية، وكان هناك فلاسفة لم يمنعهم الخوف من العقاب الصارم، قدموا البراهين على أن الدين هو المعنى فيما السلطة الدينية الوجه البشع لذلك المعنى الفطري، ونحن لسنا بصدد العلائق التاريخية للفكرة، بالقدر لتوضيح احد الامور، والفيلسوف نيومان قدم كناب – قواعد التصديق -  واقتصر تفسير فكرة الدين على أنها ذاتية، لكن الكتاب الثاني الذي عني بتطوير تعاليم الدين، والفكرة الاساس التي يطرحها نيومان، تبرز حالة اساس في هدم فصل الدين عن تاريخه، لكن اذا كانت الاشكالية هي احد مفاصل التاريخ، فقرون من التزمت الديني التي لم تنتج غير القسوة والعنف وحرق الناس وهم احياء، فحتى وباء الطاعون كان اكثر رحمة.

بدأت الفلسفة الانجليزية في بداية القرن السابع عشر على انتاج خطاب جديد لتفسير الدين بحرية اوسع، وتجاوز تلك السمات والمظاهر في تشديد العقاب، وتعتبر تلك اولى المحولات العقلية الجادة في رفع مستوى العزيمة الإنسانية للخطاب الفلسفي، وكان بلونت احد اهم الفلاسفة في تلك المرحلة، وفي تصعيد نفس المواجهة عبر التأليف، وليس عبر المواجهة المباشرة مع القسس، وبداية ترجم احد الكتب، وبلغ فكرة من خلال القراءة الى الفصل ما بين المعاجز التي تنتجها الوثنية بسيرورتها التاريخية، وبين اعتقاد المسيحية التاريخي، وبعد ذلك بسنوات قدم بلونت احد اهم كتبه، فيعتبر كتاب – وحي العقل – نوع من الاحتجاج على تلك الديانة الاثمة، وعلى العنف الديني في حرق الناس احياء، ورفض وامتناع عن سبل معاقبة العقل المنتج، والذي يسهم بتطوير العالم اضافة لدوران عجلة الحياة، ومن ثم كان كتاب – المعجزات وقانون الطبيعة – وطرح فكرة بطلان تلك العقائد الاسطورية التي تستغل العقل الساذج، والتي فيما بعد تلبسه ثوب الاتهام، اذا ما تجرأ ورفض، ويعتبر بلومنت ثورة فكرية وذلك الصوت المعرض لكل ما يتنافى مع العقل، لكن ما اشيع من ان بلومنت انتحر لفرض القانون الانجليزي من زواجه من اخت زوجته المتوفاة، ومن الممكن أن تقوم الكنيسة العاجزة عن مجاراته في الخطاب العقلي الى اتهامه والسعي لتشويه الموقف الاجتماعي له، ونحن نقف مع العقل والخطاب والفكر، ولسنا مع الوقائع بأي صورة كانت.

***

محمد يونس محمد

........................

1- الفلسفة الانجليزية في مائة عام، رودولف متس، ترجمة فؤاد زكريا، دار النهضة العربية، ص 210

لو ننظر تاريخ الأديان البشرية التي فقدت نقاء الفطرة بالتدريج، لنقف على أبشع الصور المنعدمة الإنسانية، وصراحة تاريخ الأديان مشوه إلى حد ما، حيث تصاعد حمى الأيدولوجيات في كيان الديانات، وتحولت إلى سلطات بشرية صلبة وفاقدة للرحمة، والتاريخ البشري اكتظ وتزاحم بالمؤشرات العديدة التي تحيلنا إلى أوضاع بشعة من أنواع القسوة التي تتجاوز كثيرا قسوة شريعة الغاب، فالقسوة البشرية الموجه ضد ذات النوع البشري أشد من قسوة الحيوان الجائع وتدفع غريزته لافتراس نوع آخر من الحيوانات، فيما النوع البشري هو يستخدم أشرس أنواع السلوك ضد نفس النوع البشري باسم الدين أو الطائفة، وفقدان الحلم والحكمة عند رجال الدين واستبدال ذلك بحمية شرسة وقحة وعنيفة بنفس وحشي، وخطابنا ليس بخطاب مضاد وعاكس اتجاه المؤسسة الدينية، بل هو يدرس ظواهر مرت بتحولات من أفق معنى إلى آخر، وتكون مخالفة لمعناها الأصيل، وأعتقد أن المؤسسة الدينية بتاريخ الأديان الثلاثة بلغت اقصى نسب البشاعة والعدوانية، ونحن هنا لسنا ازاء فعل او سلوكا شخصيا، بل سلوك جمعي مثله من رجال الاديان الثلاثة الكبرى، فلقد اقرفت جرائم باسم الدين، انحدر فيها السلوك البشري الى ادنى درجات الحضيض، ونحن في خطابنا لا نقر بأن الدين بذاته هو مشوه، بل نقصد السلوك البشري الذي من جهة هو المشوه المعنى الديني، وقتل فيه المعنى الإنساني.

لقد كون المعنى الديني هوية له، وتلك الهوية تقترب كثيرا من الفلسفة الأخلاقية، وكان هناك نوع من التقارب الكبير بين هوية الدين ذات الطابع المتعدد الوجوه من الحكمة إلى السرد ومن ثم الأحكام غير القسرية غالبا، والفارق بين هوية الدين وهوية الفلسفة هي في مرجعيات الخطاب، فهوية الدين هي نتاج خطاب علوي ومرجعية الخطاب هي سماوية، فيما مرجعيات هوية الفلسفة في بعد التقارب هي أرضية، وهنا هي تحتمل القبول أو الرد، وهي على عكس الهوية السماوية التي ذات أفق حتمي، لكن واقع الفلسفة أكثرا قبولا عند العقل الحي من واقع الدين، حيث هناك نفس بيروقراطي يسود الواقع الديني، بل حتى تجاوز تلك البيروقراطية إلى مستويات بشعة في التطبيق والسلوك، وقد شهد الواقع الديني خلال مراحله التاريخية أبشع الصور التي تترجم سلطة صولجان وليس بحكمة دين، وتناوبت الأديان الكبرى الثلاثة بمراحلها التاريخية في تصعيد خطاب القسوة والعنف أكثر وأكثر، ولم توجه تلك القسومي والعنف ضد أهل الإلحاد بالقدر الذي كانت فيه الممارسات العنيفة موجهة لذات الدين نفسه بشريا، وصراحة من انزلوا الدين من عليته إلى أغراضهم الشخصية لم يفسدوه فقط، بل قتلوا كل معنى للدين في أنفسهم وفي نفوس من تسيدوا عليهم باسم الدين، ولا دين للمؤسسة وإنما الدين لله، لكن تلك المؤسسة استغلت الدين وفرضت قوانينها على أنها منزلة من السماء وبطشت بمن يعارض تلك التعاليم المسيسة بخاشع صورة.

يشكل الدين في ذاته وكينونته نظرية وموضوعة، وتلك الموضوعة من الخلل أن تقابل بتأويلات بشرية تعاملت مع الدين من جهتها وليس عبر المشتركات التفسيرية والتأويلية، وهنا أهم نقاط الإشكالية تكمن، فالفرد العام في علاقته مع الدين يؤمن بيقينه حتى في الإطار النسبي، لكن فرد المؤسسة الدينية يمن بحتمية الدين بلا يقين، وعلى أنها مطلقة وتامة من خلالها ومن خلال تسيسه لها، والمؤسسة الدينية تتعارض التباين الاجتماعي والتحولات العقلانية، وتسعى المؤسسة إلى تسيس العقل العام، كي يمكنها فرض قوانينها عليه، وكي تتوسع الخبرة الاعتقادية في أفق العقل الجمعي، ويتم ذلك بشل مباشر ودون شعور تأمل أو ترجيح، كي يرجح في التفكير العام للفرد، لقد (كانت الديانة التي ينتمي إليها الفرد تفرض عليه أن يقوم باستجابة دفاعية)1، وتقوم المؤسسة الدينية بإشاعة حاجة الدين إلى القوة والفاعلية،

وتنمي في نفس الفرد سياستها من خلال تفاعله النفسي مع الدين، ويصبح واقع المؤسسة الدينية بهذا الوضع أشبه بفصيل فرقة إعدامات الجنود الهاربين من المشاركة في الحرب، وصراحة قد تتوافق البشاعة الفعلية والنفسية عند المؤسسة الدينية على هذا المضمون، ومن الصعب على الدين جدا موازاة هكذا سلوك ديني يتعارض معه، لكن صراحة لا صوت للدين إلا من خلال البشر، وإذا كانت المؤسسة ترفع حرابها بوجه أي صوت، حتى لو كان هذا الصوت صافيا دينيا ودون أي شوائب، فمن طلبوا من نبيهم مائدة طعام من المؤكد لا يطلبون في إي ظرف لهم أحد الكتب المفيدة في تزكية الانفس.

لا بد من أن  نعترف بأن الدين قد اخترق من الداخل بالشكل الذي وضع الدين في مأزق إنساني، فالنظرية الدينية غادرت عليتها حين تحولت إلى واقع، وذلك الواقع في تفسيره الموضوعي يتعارض مع روح الدين ومعناه الأصيل، فالدين لا يعارض حرية أحد ولا يعارض حرية أحد ما دام هناك نفس سلمي مشترك بينه وبين الآخر، وصراحة برزت فكرة خائبة كثيرا، وقد تبلورت وأصبحت مفهوما في القرن العشرين، وهي في ما يعنيه – الآخر – من علاقة مضادة حسب تفسير المؤسسة الدينية، فالدين في أصله وجوهره هو رحب ولا يتعارض مع معنى مضاد إذا كان بروح سلم وواقع سلمي، وكما هو في أصله لا يكره أحدا في مضمونه العقائدي، وما جرى من رسم صورة معاكسة في الأديان الثلاثة الكبرى، هي نتاج المؤسسة الدينية، وليس الدين نفسه، فالدين نفسه هو مجرد وليس بواقع، وإنما كان المفروض أن يكتسب الواقع من الأطر الفكرية للدين ويكون مثالها في الحياة البشرية، ولا يتعارض أبدا في جانب معها، وإذا كان هناك عدم هضم الأفكار أو عدم فهمها، فالأولى أن يرد ذلك إلى منطقة الفراغ، كي لا يكون هناك جدل عقيم، لكن المؤسسة الدينية، والتي على مدار التاريخ نجد من أدار تلك المؤسسة هم من النفعيين والبراغماتي وايضا فيهم من الديماغوجيين، وقد لجأ اولئك الى القسوة المفرطة دون اكتراث، فالدين بحد ذاته يجدونه يبرر تلك القسوة ولا يعارضها، وهي سلاح السدنة الذي يتملكون الدين لصالحهم، فهم سيسوا الامور ولم يعودوا كما البشر الاخرين، بل هم الاستثناء المتفرد بشكل مطلق.

لم يكن دور المؤسسة الدينية جاء وفق التغيرات الكبيرة لشكل الحياة والتي فرضتها أطر ما بعد الحداثة، بل نرد الأمر إلى التاريخ القديم، ونصل إلى أقصى المراحل في العمق البشري، ونؤكد بأن براغماتيا التدين تتيح للسدنة التحول من امتلاك ناصية الكفر إلى امتلاك ناصية الدين، ومن عارضوا إبراهام حين أطاح بالأصنام وأسقطها أرضا هم ليسوا سوى الوجه الآخر للسدنة، وفي تفسيرنا للتاريخ نجد أول استثمار واع للدين تم خلال حياة موسى، حيث يحيط به مجموعة تختلف علاقتها مع الدين، وهناك أكثر من موضع وإشارة للعلاقة النفعية بالدين عند هؤلاء، فهم قالوا أذهب قاتل أنت وربك ونحن سنقعد هنا، وطبعا هم قصدوا انتظار النتيجة، ومن الصعب تفسير الدين في اتجاه واحد، لكن الدين في تلك الظروف كان حاجة ليست قصوى، بل منفعة في الإطار النوعي ولا يزال، وقد أساءت البشرية فهم الدين أصلا، لكن البشرية عولت على الأمور التي تتصل بمنفعتها، وليس بما يتصل بالمفهوم الديني، والنفس البشرية إذا تبعت فطرة سليمة اتجهت نحو المفهوم الديني، وإذا اتبعت الغريزة اتجهت نحو الانتفاع من الدين، وعولت عليه في المكاسب المادية اكثر من المكاسب المعنوية.

إذا أشرنا إلى أن الدين معرفة، فسنتصل بمرحلة تاريخية أساءت فيها المؤسسة الدينية إلى أحد أرقى وأنقى الفرق الدينية، فالمعتزلة قدمت خطاب الحداثة في زمن مبكر جدا، لكن قد واجه رقيها المعرفي شرطة دينية، وما كانت تلك الشرطة إلا إحدى الصور البشعة للمؤسسة الدينية وبشاعة شعورها الديني الاستبدادي، من الطبيعي إن المعرفة هي نتاج العقل الراقي، وهذا الأفق البشري، أما المعرفة العليا فهي الأولى أن تكرس عبر وعي مدرك وقريب منها، وليس أن تحولها المؤسسة الدينية إلى أدوات براغماتي، وذلك الاستغلال للمعرفة العليا وجعلها مادة استعلاء حتى على أرقى العقول البشرية، والمؤسسة الدينية هي لا بد أن  تكون افقية واسطية، لكن هي تجعل نفسها يد الله وسلطانه على الارض، والواقع التاريخي للمؤسسة الدينية لن يخلو من صور استبداد او قمع للحريات الدينية، فيما قد جعلت السماء حدود سلطة الانبياء والرسل في التبليغ والنصح فقط، وفيما عدى ذلك يعتبر تعديا على الحريات الشخصية، فيما المؤسسة الدينية تجاوزت في الفقاهة حدود ذلك الابلاغ والنصح، واصبحت سلطة ارضية بديلة للسلطة السماوية، لكن على مستوى التحليل النفسي والوجداني والإنساني نجد اساءة المؤسسة لم يبلغ أي حد منها اهل الالحاد، فالدين في جوهر حقيقته يمتلك روح التسامح والصفح، فيما المؤسسة الدينية لا تمتلك غي اللوم او التعنيف لمن في جبهتها، ومن كان في الجبهة الاخرى فلربما اقامة الحد عليه بعد تجريمه هو عقاب عادل، وقسوة المؤسسة الدينية منذ بداية تاريخ الاديان الى اليوم قسوة المؤسسة الدينية قائمة ولم تتغير، وتحولت القسوة عبر سيرورة التاريخ الى سياق ملزم، ومن خلال ذلك السياق الذي انتجته اعراف المؤسسة الدينية، تحولت سلطة المؤسسة الدينية من اعراف الى حقيقة ملزمة.

من الطبيعي أن يكون هناك فارق ما بين النظرية الدينية والتطبيقات البشرية لها، وكان من المفروض الا أن يكون حتى دور العقل الراجح الحر مثال ارضي للسماء، حيث الطبيعة البشرية نفسيا هي في اطار نسبي في جانب العدل الاجتماعي، والعقل الراجح اذا تحرر من الاطر القبلية لا يمكنه التحرر من الاطر النفسية، وايضا لا يضع مرآة امام ذاته، وهنا نقف امام مفرق مهم، حيث لابد من إلغاء أي سلطة دينية أرضية، وخصوصا إذا نتفق ونقر بأن دور النبوات هو يحدد في التبليغ وأقصى حدا تبلغ به هو النص المجرد الحر، ولا يمكن هنا إلا جعل الفرد البشري هو من يملك حق الاختيار التام والكامل، ولا يشاركه أحدا في ذلك، وصراحة حرية الاختيار هي سبيل الحرية الشخصية، وما الذي تختلف به المؤسسة الدينية عن الأيدولوجيات إذا كانت هي من يرجح الحرية الدينية، لذا هي أكدت عدم اختلافها عن الأيدولوجيات عندما سيست النظرية الدينية وجعلتها آفاقها سياقا وثوابت، وعلى البشرية الالتزام بها، وجاهدت واجتهدت المؤسسة الدينية وقمعت وارعبت واذلت وبطشت كي تكتسب سلطتها البعد السياقية، وتكون المثال الذي لا يجد اي اعتراض عليه، وبكل ما تستطيع من سبل قامت المؤسسة الدينية بتقنين الدين بالسبيل الذي لا يحد فيه البشر الحق والعدالة الا من خلال المؤسسة الدينية، وساعد تاريخ الفقاهة تلك المؤسسة، والذي قام بتضيق سبل الوعي المقابل، فالكنيسة الكاثوليكية نفت تماما وجود اي سبيل غيرها للدين قبل عدة قرون، وقبلها وجد المعتزلة الطريق مسدود امامهم واما الاستسلام واما القتل بعد التجريم، وحتى مبدأ الاخبارية انحسر بالتدريج، بعدما اوهمت الفقاهة العقل البسيط بأن لا دين بلا تقليد، ونمت داخل المؤسسة الدينية عقول راجحة، لكنها اقرت بأن مبدأ التقليد يرتبط اساسا بالعقيدة، وكأنه احد اسس علم العقائد، وكما اسلفنا أن العقل الديني لا يقف امام المرآة، فهو يخشى أن تبدي له المرآة ما يكره، ونشطت المؤسسة من خلال الفقاهة، وجعلت كل حرية مشروطة لعامة البشر، ولن تتحقق تلك الحرية الا من خلالها.

نشأت الأديان منذ بداية التاريخ، لكنها لم تسبق أيديولوجيات الصولجان ولا الأعراف العامة، فالدين لا يأتي لفرد أو مجموعة أو جماعة، بل لا بد من أن يقابله ذلك المجتمع التام عرفا كما يسمى قديما، وكما اليوم هو ماثل أمام المنهج العلمي لعلم الاجتماع، والذي من خلاله يعتبر الدين منهجا تجريبيا، لكن الدين في جانبه الفكري هو خارج وحدة الزمان، وكما هو منهج إدراك عقلي وليس بادراك بصري، والإدراك البصري انحصر في الشواهد الكبرى وأساطير الدين، من مثل انفلاق البحر لموسى حسب المرويات الميثولوجي، فيما الواقع الديني هو المرآة الحية للدين، لكنه قد استغل وحرف، وتحول إلى سياسة مؤسسة مستبدة، وسلطة الغريزة التي يراها وليم جيمس نموذجا للطبيعة البشرية، مثلما يرى أفلاطون المنهج البدئي في الدين هو أفكار أو مثل، والتي يرى هيدغر أنها ليست بميتافيزيقا ولا هي دين، ويرى هيجل الدين هو ديالكتيك نظري الذي يخسره التطبيق، وستكون المؤسسة الدينية قاصرة حتما، فالقصد البشري سيسمو على القصد السماوي، ولم تتفق وترد كينونة الدين في تعاليها مع ذلك القصد القاصر نسبيا والعاطل عن الإطلاق، ومن الطبيعي أن يكون التفسير الموضوعي هنا أننا نفرق ما بين الخطاب الأرضي والسماوي، والذي هو (الرد المتعالي في الوقت نفسه من حيث هو منهج العلم الكلي؛ منهج تأصل وجود الموجود)2، وهنا لم نقدم الخطاب وفق الحكمة وعلم العقائد، بل عبر منظور فلسفي، وهنا يتسع الفارق إلى حد كبير ما بين النظرية الدينية وبين التطبيقات البشرية لها.

ثمة فرق كبير بين جهة الدين التي تستغل، وبين جهة الاستغلال البشرية، فالمعنى الديني هو حتمي في ذاته وفي استيعاب العقل له، ولكن جهة الاستغلال تحول المعنى الديني إلى سياق مستغلة تلك الحتمية، ولكن هي تستغل حتى تلك الحتمية حسب المقاصد والغايات البشرية، حيث هنا لا يمكن للعقل البشري نقض تلك الحتمية أو رفضها، وقد دفنت داخل تلك الحتمية رغبات تلك المؤسسة، والتي هي تلبس ثوب القداسة والتبجيل، وبذلك على أقل تقدير تضمنا لصالحها العقل البسيط والبشر منعدم الوعي، أو أصحاب العقل الساكن، وفي تفسير السعي البشري لتجنيد البشر لصالح المؤسسة الدينية شارك فيه حتى الفقهاء، والذين فيه من يقول – الله اعلم- وهناك من يقول – أنا أعلم –، فيما كل علم من جهة البشر هو نسبي، وهذا يشمل حتى الأنبياء والرسل، ولا يستثنى منه حتى أنشتاين، حيث مرة اثبت منظار التلسكوب على عدد من النجوم، وفي اليوم الثاني وجد أنها قد تغيرت بشكل لافت للنظر، وصراحة نحن في المنهج النسبي أما المنهج الحتمي ففي كليته موجود ولا موجود، فهو موجود في نفسه، لكن لا وجود لها أمام عقلنا البشري وإدراكه أو المستوى الإدراكي للنظر، حيث ينعدم تماما، لكن يبقى إيماننا به، فيما سلوك المؤسسة الدينية نحن نراه من جهة الإدراك البصري، ويراه الخالق من جهته، وليس حسبا ما ندرك أو نبصر.

***

محمد يونس محمد

..........................

1- سسيولوجيا المقدس، فيليب ميلور/ كرئيس شلني، ترجمة أحمد زايد، المركز القومي للترجمة، ص 27

2- نهاية الفلسفة ومهمة التفكير، مارتن هيدغر، ترجمة وعد علي الرحبة، دار التكوين، ص 65

(إن الثقافة إذ هي تؤول العالم، فإنها تغيره)... بول ريكور

(مصفوفة حقائبي على رفوف الذاكرة والسفر الطويل يبدأ دون أن تسير القاطرة!).. أمل دنقل

يستطيع الإنسان الكوني اليوم أن ينوجد في صلب المفهوم الجديد للذاكرة الثقافية، بما هي موضوع للتساؤل النظري الواعي بأولوية تأصيل التجربة الاجتماعية وموقعها في التاريخ والثقافة.

يقترح علماء الاجتماع في صلب هذه المقاربة الحديثة، الاتصال بالثقافة، كما هو الحال بالنسبة لجورج سيميل الذي يعتبرها مشروعا بديلا لتهذيب الأفراد من خلال فعالية النماذج الخارجية التي أصبحت عامة وموضوعية عبر التاريخ. وهي مواضعة يؤسس عليها جورج سيميل نظريته باعتبار أن أساس تدهور الثقافات يأتي بالدرجة الأولى من التسلسل الهرمي واحترام التقاليد . عكس بيير بورديو الذي يدمج الفئات الاجتماعية والاقتصادية ضمن هذه الرؤية، باعتبارها فئات مرتبطة ببعضها، ولا يمكن أن تختزل الثقافة داخلها.

القصد من إيراد هذه التقعيدة، هو الانفعال مع الأشكال المستحدثة لمجموع الثقافات الجماهيرية وتكورها على نطاق واسع، وما صاحب ذلك من تسوية للاختلافات والاختلالات الاجتماعية والثقافية، وكذا تفكيك الفئات الاجتماعية في المجتمعات الكونية، التي طالما ضمنت "نقل القيم التي يتم تذكرها بشكل جماعي والحفاظ عليها" علامة على الأفول والانهدام تحت سلطة أفول الذاكرة الحضارية، وانصرام دهرها ونكوصها تحت نظر ما أصبح يطلق عليه اليوم ب "الوعي النظري والتاريخي".

إن ثنائية "الذاكرة والثقافة" تثير هذه الأسئلة، الموتورة والمتوثرة، من "شعور بالأزمة والتحول"، وأعراض ذلك على قيم الاتصال والمثاقفة الحضارية بين الشعوب، وانعكاسها على واقع "الذاكرة الفردية والجماعية"، التي تتجادل في سياقات متقاطعة ومتناقضة وسط فوضى السوشيال ميديا ووسائط التواصل الاجتماعي المتعددة، وهو ما يسهم بشكل أفقي في صناعة نقاشات فارغة ومجتزأة من سياسات مخدومة لإحياء ثقافات مهيمنة ومقنعة.

إن التفكير في حالة الذاكرة وعلاقة الذاكرة بالتاريخ والثقافة، يؤشر على ضياع بوصلة الفكر الجماعي، وانحصار ذلك في الابتداع الفج والهامشي للمجتمعات المقسمة والمتناحرة، محدودة الرؤية والحدود الجغرافية والسياسية، ومتباعدة في علاقاتها الإنسانية، وغير قادرة على التسامح والحوار وقيم الاختلاف، حيث تصبح هذه العلاقات المتضاربة والمتجادلة، ليس فقط بين الذاكرة والتاريخ، ولكن أيضًا بين الذكريات المتناقضة في كثير من الأحيان للمجموعات العرقية والمجتمعات الدينية المختلفة.

وفي هذا المستوى يمكن طرح قضايا الانحسار الثقافي وتداولياته، في بنية تماس المنظومة الغربية وربيباتها، حيث تستقيم جدارات التأثير الأيديولوجي، وآثاره في محيط المستعمرات القديمة، ومستتبعات ذلك في المآلات الكبرى للتنمية، كالتعليم والخدمات الاجتماعية الموازية، والرهان على مجتمع المعرفة وتطوير البحث العلمي والأكاديمي الجامعي ..إلخ.

 وقد أفاضت المؤرخة الفرنسية نادين بيكودو في تأطير وتفكيك هذه القطيعة، في كتاباتها حول الفعل الاجتماعي الثقافي داخل المجتمع العربي المتدين، وخصوصيات الذاكرة الجماعية في تحصينه من مخاطر الأيديولوجيات والتيارات الفلسفية المتداعية؟. ولهذا لا يمكن الحديث هاهنا بمعزل عن نظرية المفكرة الفرنسية نفسها، من كون "الإيديولوجيا هي بمثابة “رؤية للعالم”، كما الإسلام، يقدم لمعتنقيه رؤية للعالم"، وهو الأمر الذي يتعزز بآليات امتداد الأيديولوجيا في السلوك الإنساني الجماعي المحدود، والذي يعني من ضمن ما يعنيه اقتياد البوصلة ك"جماع أفكار، أو تصورات ومعايير وقيم، ومثل"، يتم اعتناقها والإيمان بها تحت مسميات إنسانية عديدة، تتجافى، وتتقاطع، وتتلون، ولا تراوح حيزا في الزمان والمكان، دون أن يشكل ذلك وحدة مبيانية في التأثير والامتداد ..

وإلى ذلك، يمكن أن نطعم هذا المنهج برؤية جديرة بالتأمل، ساقها الكاتب الفرنسي فرانسوا برون في إحدى دراساته حول (الأيديولوجية لحكم أفضل .. موت وقيامة الأيديولوجيات)، يذهب فيها إلى أن "أيديولوجية المجتمع أو الطبقة الاجتماعية تنخدع في معظم الأحيان بالطبيعة التعسفية لرؤيتها للأشياء. تمزج ما تؤمن به، بما تراه قمينا بالمتابعة والتمحيص، وسرعان ما تحتفظ فقط مما "تراه" بما يؤكد ما تؤمن به، ثم تأخذ نظامها في التفسير لواقع العالم. إنها تبني أساليب الحياة الموروثة من التاريخ، والمتعلقة بالثقافة..". وهو ما يؤكده رولان بارت أيضا في كتاب “أسطوريات” أو "البرجوازية الصغيرة"، حيث "الطبيعي الذي تُلبِسه الصحف والفن والحسّ المشترك باستمرار لباساً مضحكاً من الواقع..، عن الطبيعة والتاريخ وقد احتدما في سردية واحدة، عن الخداع “الذي يُحوِّل ثقافة البرجوازية الصغيرة إلى طبيعة كلّية”، عن “اللازمانية” التي تسم بشكلٍ عام أية أسطورية؛ رغبة الخطاب الأسطوري الدائمة في احتواء الماضي والحاضر والمستقبل ضمن القول الواحد.

بمعنى آخر، لأجل قياس مدى رغبتنا في الامتداد عبر الذاكرة، وتأسيس مرمى ثقافي بإزاء ما ننظر إليه بأدمغتنا، هناك ما يشدنا إلى التدافع الاختلافي، وتجنيب مبدأ الحياد الفكري، حتى نتمكن من تصويب علاقتنا بقضايا العصر وروحه المتقدة.

وهو الصرح الذي لطالما ننشده، بالقليل من الاقتبال والجهوزية التاريخية والثقافية، لأن الذي يربطنا بالماضي أكثر مما نحاول استعادته بالمنظور المستقبلي. وما نبتدعه عند استعادتنا للمبادرة وتوجيهنا إياه بما يضمن سيرورة أعمالنا وأثرها في المجتمع، يجافي غالبا قلب الهدف الذي نطمح إليه؟.

هل هي الرغبة في التغيير، التي لا تنثني عن مظاهر الفعل الحقيقي والواجب، أم أن أوهاما تحيط بنا من كل جانب، تأبى إلا أن تجحد الطبائع وتأسر العقول، متنكرة، وجائرة في صحراء لا ممتدة؟.

***

د. مصطَفَى غَلْمَان

الحب أسمى علاقة عرفها الإنسان منذ فجر التاريخ، وبنفس الوقت عرف الكره والحقد والعدوان، وأقصد هنا حب الرجل لإمرأة في الوضع السوي- العادي، ويدون لنا التاريخ الديني في كتبه السماوية وكذلك مدونات الكهوف والمغارات ورسوم الإنسان ومنحوتاته تلك العاطفة التي عجز الشعراء والكتاب عن سبر معرفتها، فبقدر ما وجدت هذه النزعه كنزعة عند الإنسان وجد نقيضها، وهي بحق ثنائية متناقضة، لا محبة إلا بعد عداوة، لا تنتهي هذه العدواة بعد الحب،" صراع قبل وفاق، وصراع بعد وفاق – كما يقول مصطفى زيور" بل تترسخ في عمق النفس، في اللاشعور " اللاوعي" طالما بزغت وكبتت في اللاشعور، ستعود يومًا ما ولو بشكل مُحور، بشكل آخر، وتشكل أزمة حتى وإن أستتب الرضا وحصل الإشباع النفسي من الرغبات التي تحكم محور العلاقة، وهي العلاقة الجنسية سواءً بعقد النكاح، أو التواجد معًا بالمساكنة" العيش معا بدون عقد زواج"، أو العلاقة خارج الاتفاقات الشرعية أو الإجتماعية، سينتهي الأمر بالكره في كل الأحوال من كل ما تقدم ذكره، ومن الحب ما كره، وفي الحقيقة هو أساس الحب الكره!!؟؟ لأن النرجسية هي محور العلاقة بين المحبين.

 إن الحياة مع المرأة عبارة عن هدنه، وإن الحياة مع الرجل هي أيضًا هدنة، لأن الحب هو إخفاء الكراهية وإعلان نقيضه، ويقول د. سعد صلال "الرجل والمرأة عدوان طالما هما حيان" وقوله لقد خُلق الرجل والمرأة على أساس الاختلاف أولا وليس الاتفاق ولهذا فمن المستحيل القول من الناحية الأخلاقية الساذجة أنهما يتفقان إلا في حالة واحدة هي الهدنة، والهدنة هي مرحلة قبول الآخر، وإقامة علاقة حب.

الإنسان في تكوينه نرجسي، الرجل والمرأة، والنرجسي يحب أيضًا، يحب الحياة، فهو يحب نفسه، يعشق ذاته، ولما يعشق ذاته، لا يرى من يشبهه في الجمال، وفي الحب، وفي عشق الوجود، لذا من يحب، يحب نفسه أولًا، وهو يستخدم ميكانيزم" آلية" الإسقاط لاشعوريًا "لاواعيًا" على الآخر، أيًا كان الآخر، الحبيب- الحبيبة، العشيقه- ممن يشاركه في ممارسة الرغبة الجنسية، ممن يشبع رغباته في مؤانسته وتواجده معه معًا، فهو لابد أن يختلف معه ولو على المستوى الرمزي المتخيل، وليس على المستوى الواقعي، فإذا كان الرجل هو من يحب هذه المرأة، فهو يحاول أن يرضيها بأية طريقة، إن لم يكن لشيء فمن أجل أن يمارس معها الجنس، حيث لا الإحساس العميق منه باغتصابها دون رحمه، كما أن المراة لديها الإحساس ذاته من حيث الرغبة العميقة بان تتعرض هي الأخرى للاغتصاب، ومن الغباء القول أن النساء يردن الجنس بطريقة متحضرة، الجنس بالنسبة للمرأة عبارة عن ممارسة اغتصاب رسمي. لأنه" الآخر" ليس هو نفسه، فهو منفصل عنه فكيف يمكن أن يحبه؟

يقول "هيجل" أن الرغبة ليس لها أي نتاج سوى تدمير الآخر، سوى المنافسة مع الآخر، أو في الأحرى: الرغبة في اختفاء الآخر، وعند "جاك لاكان" الرغبة تتحقق في الآخر وبوساطة الآخر، وتكون في مرحلة المرآوية، اللحظة التي يتمثل فيها الفرد صورة لذاته، أو التي يتكامل فيها أناه" نيفين زيور، 2000، ص 18"

إن ثنائية الوجدان هي سمة صراع الحب والكراهية والتي تعصف في الوجدان ويرى "مصطفى زيور" إن قلب الإنسان تسكنه قوتان متناقضتان، لكل منهما طاقة تكاد تساوي الأخرى، تتنافسان في اتجاهين متعارضين، ومع ذلك فإن هاتين القوتين قد تتداخلان الواحدة في الاخرى، أو قد تحل الواحدة محل الأخرى، بل يبدو أن التداخل سمة اساسية في حياة الإنسان تبهظ كاهله، وهي التي يطلق عليها في التحليل النفسي ثنائية الوجدان Ambivalence  ويضيف " زيور" وهكذا نجد الإنسان مدفوعًا بحاجة ملحة إلى الحب والخلق والتشييد، ونجده في نفس الوقت، وأحيانًا بنفس الإلحاح، مشدودًا إلى الكراهية والتدمير، إنه موجب وسالب معًا، وإذا وجهنا النظر إلى الكراهية في صورتها الفجة المدمرة، وجدنا الإنسان الكاره محطمًا لغيره وهذا ما نجده في الشخصية المضادة للمجتمع "اللااجتماعية" السيكوباثية، وكذلك الشخصية النرجسية، وفي ظروف بعينها محطمًا لنفسه، إذ لم يسعفه الحب في تلطيف حدة الكراهية فتكون الصورة الاكتئابية، ويقول " زيور" في هذه الظروف يتخلق الاكتئاب في صوره المتدرجة من الأكتئاب العصابي الطفيف إلى الاكتئاب الميلانخولي الذهاني " العقلي" الشديد الذي ينتهي بالإنسان في الإنتحار، في حالة البوردر لاين Borderline .

أن ثنائية الوجدان " ديالكتيك الحب والكراهية" موجود في النفس البشرية طالما هو يحيا ويستمر في الحياة، فالنفس متجددة ومتغيرة في رؤاها للإشياء والأشخاص والمواقف الحياتية، ففي حالة فقدان الحب في النفس البشرية يكون هو الموقف المسبب والباعث الأساس على بروز الاكتئاب سواء أكان الشخص لم يعد محبوبًا، أم لم يعد يشعر أنه محبوب، والكلام ينطبق على الرجل والمرأة معًا، مرتبط بعلاقة زوجية، أو حالة عشق، أو تعلق، أو اهتمام من الطرف الآخر، والامر سيان من جهة أخرى لم يعد الشخص يسعه أن يحب، أو يكون محبُا.

أن العلاقة بين أثنين رجل وامرأة أو رجل ورجل "صداقة" أو امرأة وامرأة " صداقة أو علاقة قربى، لابد أن يكون محورها الحب لأن الهدف السامي في الحياة هو الحب والحياة قائمة على الحب، وأقصد بأحد شقيه الحنون فضلا عن شقه الجنسي كما عبر عنه سيجموند فرويد. وتؤكد لنا الدراسة المعمقة للنفس أن الحب قد يكون غطاء للكراهية، أو ربما يكون ممتزجًا بقدر عظيم منه، فحب الأبن لأبيه هو حب المحكوم للحاكم، يظل خافيًا لسنوات لحين يتفجر موقف الإختلاف الذي لا يقبله الأب أبدًا عند سن البلوغ، فالأب رمز للقانون وعلى الأبن أن يذعن لهذا القانون حتى وإن خالفه رؤيته، ويرى " جاك لاكان" في رؤيته لهذا الديالكتيك بصورة الأب بأشكاله بالأب الرمزي والأب المثالي والأب المخيالي، وما ينشأ عنه من صراع. وكذلك ثنائية الوجدان بين من يحبون بعضهم، هو قدر الإنسان في وجوده وأستمراره في الحياة، ولكي تستمر الحياة بلا مياه راكده على الإنسان أن يقبل التجدد في تفكيره وما يمليه عليه سلبًا أو إيجابًا، ليس هو خلاف على أرث مادي، أو خلاف على تربية، أو خلاف على رؤية عابرة، إنه منهج يتجدد في النفس لا تطيق النفس الركود والارتكان لهذا الأمر لأنها متجددة في الرؤية ومتطورة، وقتل التطور هو وضعها في صيغة واحدة وهو أمر محال.. فثنائية الوجدان هي محك استمرار الوجود الإنساني ونستعير من جاك لاكان فكرته الوجود مرهون بالكلام "المتكلموجودي" ننقلها بأن الوجود مرهون بثائية الوجدان "الحب والكراهية" لكي تستمر الحياة بلا موت أكلينيكي. 

***

د. اسعد الامارة

...................

المصادر:

- صلال، سعد (2012) الأنانية أخلاق النبلاء، أزمنة للنشر والتوزيع، عمان.

- نيفين زيور(2000) من النرجسية إلى مرحلة المرآة، مكتبة الأنجلو، القاهرة.

- زيور، مصطفى (1986) في النفس، دار النهضة العربية، بيروت.

اعتُبر كوجيتو ديكارت (انا افكر لذلك انا موجود) كأساس للفلسفة الحديثة، اتجاهه كان متميزا عن أسلافه، واتسم بمحاولة البدء من الصفر في فهم الانسانية والعالم. في المبدأ 1.8 يشير ديكارت الى ان الكوجيتو لا يثبت فقط وجوده، وانما يثبت انه شيء يفكر. لكي نفهم بشكل أفضل ما يعنيه هذا، يحاول ديكارت إعطاء تعريف لـ "التفكير" في المبدأ 1.9. بـ "التفكير" هو يعني الاشارة الى أي شيء يتصف بالإطلاع والوعي. هذا لا يتضمن فقط التفكير او الفعاليات الفكرية الاخرى وانما ايضا التصور، الاستشعار، الرغبة، الاعتقاد، الشك، الأمل، الخوف، وجميع العمليات الذهنية الاخرى.

كونه أثبت انه كيان يفكر، ديكارت يستمر لإثبات اننا نعرف عن وجود الذهن أفضل مما نعرف عن وجود الجسم. الحجة المعلنة في المبدأ 1.11 تسير كالتالي:

1- كل صفة او خاصية يجب ان تنتمي لجوهر(طالما هذه هي بالضبط طبيعة الصفة او الخاصية)،

2- كلما اكتشفنا المزيد من الصفات للجوهر كلما كانت معرفتنا بوجوده أفضل،

3- عندما نتعرف على صفة لأي شيء، نحن ايضا نتعرف على صفة لأذهاننا – الصفة المسؤولة عن امكانيتنا لمعرفة أي صفة. علاوة على ذلك، نحن نأتي لمعرفة هذه الصفة الذهنية بيقين اكثر مما لو تعرّفنا على صفة اخرى . فمثلا، نحن نأتي لمعرفة ماهية الوردة عبر رؤيتها. لكن ربما نحن مخطئين في الحكم على ان الوردة حمراء. ما لا يمكن ان نخطأ به هو اننا عملنا ذلك الحكم واننا امتلكنا هذا الإحساس. وهكذا نحن نصبح اكثر قوة في معرفة ان ذهننا موجود.

الاستنتاج باننا نعرف وجود أذهاننا بتأكيد اكثر مما نعرف وجود أجسامنا هو ضد البديهة، وديكارت يحاول لاحقا تفسير لماذا ذلك يبدو قاس جدا لنا. السبب الذي يجعلنا نميل للاعتقاد اننا نعرف أجسامنا أفضل من معرفتنا باذهاننا، هو اننا نفشل في التمييز بين اذهاننا واجسامنا. وهكذا نحن ندرك ان وجودنا هو اكثر تأكيدا من وجود آي شيء آخر، نحن نستنتج من هذا وبشكل خاطئ ان وجود اجسامنا هو المؤكد  وليس وجود اذهاننا.

بعد إثباته انه شيء يفكر، وقبل إثباته ان الذهن يمكن معرفته افضل من الجسم، ديكارت يحاول الإلتفاف في المبدأ 1.10 لإحباط أي معارضة  يدرك انه سوف يواجهها من جانب الفلاسفة المدرسيين: نظرا لفشله بتوفير تعريفات لعباراته مثل "الوجود" و "الوعي". هو يحذر بانه سوف يستمر للقيام بهذا على طول الكتاب ويوضح ان هذا ليس نقص في الاهتمام او أعراض لتفكير متعجل. بل، هو يعتقد ان معاني هذه المصطلحات هي واضحة تماما بذاتها لدرجة ان أي محاولة لتوفير تعريفات (مثلما يفعل المدرسيون) سوف تعمل فقط على تشويش المسائل. هذه هي الملاحظة الاولى من بين عدة ملاحظات ساخرة  يطرحها ديكارت ضد طريقة المدرسيين الفلسفية.

تحليل

في المبدأ 1.8 يستنتج ديكارت انه شيء مفكر. ولكن هل ذلك كل ما يستنتجه؟ يبدو مريبا كما لو انه يستنتج ايضا انه مجرد شيء يفكر، كأنه استنتج بان  الـ "انا" الذي اكتشفه يمكن تحديده بالذهن مع استبعاد الجسد.هل هذا حقا هو الموقف؟ هل ديكارت يستنتج هنا ليس فقط "انا أعرف فقط بأني ذهن" وانما ايضا " انا أعرف اني فقط ذهن وليس جسما؟".

اسئلة حول هذا المظهر من فلسفة ديكارت نوقشت بحرارة منذ ان نُشرت تأملاته . لو تصورنا ان ديكارت هو في الحقيقة، يجادل للادّعاء بانه ذهن وليس جسم. ماذا سيكون جداله؟ سيكون جداله على الشكل التالي:

1- انا أعرف بأني شيء يفكر

2- انا لا أعرف اني شيء كجسم

3- لذلك، انا لست شيئا جسمانيا.

 هو سيستنتج ادّعاءً ميتافيزيقيا من ادّعاء ابستيمولوجي، ادّعاء حول ما هو كائن من ادّعاء حول ما يعرف. مغالطة من هذا النوع تسمى "مغالطة الجهل؟ لأنها تفترض ان جهل الشخص هو برهان على شيء ما في العالم.

ديكارت يبدو كأنه يهرب من الخناق بقدر ما تذهب هذه المغالطة. هو يستنتج المبدأ 1.8 بالكلمات التالية: "لذا فان معرفتنا بتفكيرنا هي سابقة لمعرفتنا بشيء جسدي وهي اكثر تأكيدا،لأننا أدركناه سلفا رغم اننا لانزال في شك حول عدة اشياء اخرى". هذا البيان تأكيد واضح بان ما يثبته هنا،وبقدر ما يعرف،هو انه فقط شيء يفكر. هو لا يعتقد على وجه اليقين انه أثبت كونه مجرد شيء يفكر.

عبر التفكير المحض، ديكارت يطرح استنتاجات ملفتة وواسعة النطاق من يقين الكوجيتو البسيط. عندما نستعمل كلمة "انا" نعني بها الروح او الذهن، والروح ذاتها جوهر متميز عن الجسم وعن كل الاشياء المادية. ورغم اننا مرتبطون بجسمنا الانساني الخاص بنا، مع ما لدينا من شعر كثيف، لياقة بدنية،ابتسامة رقيقة، وربما في مواقف اخرى تدهور الرؤية، وغزو الشيب للذقن، وعلامات التعب، لكننا نستطيع ان نوجد بلاجسد.

الإستعارة التي استعملها ديكارت كانت سلة تحتوي على تفاح جيد وآخر متعفن. لكي نتجنب انتشار التعفن، من الحكمة ان نتخلص من كل التفاح ونضع في السلة فقط التفاح الجيد. بنفس الطريقة، في تبنّي طريقته في الشك، نحن يجب ان نتخلص من كل تلك العقائد ونبقي فقط العقائد الصادقة غير المشكوك فيها. هنا تبرز بعض المشاكل في مقارنة التفاح. في النهاية نحن نحتاج الى عقائد لتقييم عقائد اخرى. مقارنة أفضل طرحها اوتو نيورات Otto Neurath من حلقة فيينا وهي: "نحن نشبه مجموعة من البحّارة يجب عليهم إعادة بناء سفينتهم في بحر مفتوح، غير قادرين ابدا على تفكيكها في حوض جاف وإعادة بنائها من مواد جديدة ". نحن يجب الإعتماد على بعض عقائدنا لتقييم العقائد الاخرى، ننبذ البعض، نحتفظ بالاخرى، ومن ثم نعيد مراجعة تلك العقائد التي كنا نتمسك بها بقوة في البداية.

تجدر الاشارة الى ان استنتاج ديكارت في الكوجيتو ليس أصليا. القديس اوغستين في القرنين الثالث والرابع الميلادي طرح استنتاجات مشابهة لديكارت.

***

حاتم حميد محسن

......................

Sparknotes, philosophy, principle of philosophy

النظامُ الوُجودي في اللغةِ مُرتبطٌ بِمَركزيةِ الوَعْي الإنساني زمنيًّا ومكانيًّا، وهذا النظامُ لَيْسَ كُتلةً فلسفيةً جامدةً، وإنَّما هو حركةٌ اجتماعيةٌ يَتَزَاوَج فيها تاريخُ الأفكارِ معَ الأحداثِ اليَوْمِيَّة، مِن أجْلِ تَتَبُّعِ آثارِ الزَّمَنِ عَلى جَسَدِ المَكَان، وعَناصرِ البيئة، وطَبيعةِ الإنسان، وسُلطةِ المُجتمع، باعتبار أنَّ الزَّمَنَ لا يُمكِن مَعرفةُ مَاهِيَّتِه عَبْرَ الإمساكِ به، وتَقييدِه، وإنَّما تُعرَف مَاهِيَّتُه عن طريقِ تَتَبُّعِ آثارِه . وكما أنَّ آثارَ الزَّمَنِ تدلُّ عليه، كذلك تأويل اللغةِ يدلُّ عليها . والبِنَاءُ الزَّمَني هو أرشيفٌ يَحْوِي أحلامَ الإنسانِ المَكبوتة في دَاخِلِه، ويَشْمَل خصائصَ المُجتمع المُسْتَقِرَّة في أعماقه . والبُنيةُ اللغوية هي هُوِيَّةٌ تَحْوِي مَصَادِرَ المَعرفةِ المُتمركزة في السُّلوك، وتَشْمَل العلاقاتِ الاجتماعية المُتَجَذِّرَة في الثقافة.والمَنظومةُ المُجتمعية المُتَكَوِّنَة مِن البِنَاءِ الزَّمَني والبُنيةِ اللغوية تُسَاهِم في بَلْوَرَةِ الرُّؤى الفِكريةِ التي تَتَحَكَّم بالتفاعلاتِ الرمزيةِ في اللغةِ والبيئةِ، مِمَّا يُؤَدِّي إلى إعادة اكتشافِ الإنسانِ لشخصيته كَوَحْدَةٍ تاريخيةٍ عابرةٍ للمَاضِي والحَاضِرِ، وإعادةِ تأويلِ المُجتمعِ لِسُلطته كَصِيغَةٍ حَيَاتِيَّة مُتَدَفِّقَة في الوَعْيِ والشُّعُورِ والإدراكِ . وإذا كانَ الزَّمَنُ يُمثِّل هَيْكَلًا تَنظيميًّا لعناصرِ النظامِ الوُجودي في اللغةِ، فإنَّ اللغةَ تُمثِّل تجربةً ثقافيةً تَبْنِي القَواعدَ الماديَّة الحاملةَ للقِيَمِ الأخلاقيةِ المُطْلَقَةِ، التي لا يَتِمُّ التلاعبُ بها لتحقيق مصالح شخصية، ولا يَتِمُّ إخضاعُها لِنِسْبِيَّةِ العَلاقاتِ الاجتماعية التي يُطَوِّرُها الأفرادُ لتثبيتِ وُجودهم في الزَّمَنِ، وتكريسِ شرعيتهم في المَكَانِ .

2

كُلُّ نَسَقٍ لُغَوي هو بالضَّرُورةِ وَعْيٌ مُتَجَدِّدٌ في الفِعْلِ الاجتماعي، وأساسٌ مَعرفي للبُنى الوظيفية الثقافية، التي تُحَوِّل شخصيةَ الفردِ الإنسانيةَ إلى كَينونةٍ سَائِلَةٍ في صَيرورة التاريخ، فالشَّخصيةُ لَيْسَتْ بُعْدًا وُجوديًّا أُحَادِيًّا، ولَكِنَّهَا شَبَكَةٌ حَيَاتِيَّةٌ مُعَقَّدَةٌ، ونَسِيجٌ مُتشابِكٌ مِن آلِيَّاتِ التأويل اللغوي، وأدواتِ صِناعة الواقع الإبداعي القادر على مُواجهة النَّزْعَة الاستهلاكية القاسية . وفي حَقيقةِ الأمْرِ، إنَّ الفَرْدَ يَمتلِك عِدَّة شَخْصِيَّات، ووظيفةُ الفِعْلِ الاجتماعي هي اختبارُ هذه الشَّخْصِيَّاتِ بواسطةِ التجارب الحياتية، وُصُولًا إلى الشخصيَّة المَركزيَّة الفَعَّالةِ في مَناهج النَّقْد الذاتي، والمُتَفَاعِلَةِ معَ سُلطة المُجتمع التي تُوَازِن بَين الفِكْرِ والعاطفةِ . وإذا كانَ الفِكْرُ يُحَدِّد طَبِيعةَ الفردِ إنسانيًّا وثقافيًّا، فإنَّ العاطفةَ تُحَدِّد مَاهِيَّةَ العلاقاتِ الاجتماعية شُعوريًّا وسُلوكيًّا، وهذا الترابطُ المَصيري بَين الفِكْرِ والعاطفةِ يَمنَع الفردَ مِن الانسحابِ مِن الحَيَاةِ، والغرقِ في الذات، كما يَمنَع المُجتمعَ مِن الهُرُوبِ مِن الوَعْي، والغرقِ في الماضي .

3

الرُّمُوزُ الحاكمةُ على عَملية التأويلِ اللغوي في الأحداثِ اليومية والوقائعِ التاريخية، تَنقُل الأنساقَ الثقافيةَ مَن التَّمَركُز حَوْلَ الذات إلى اقتحامِ الذات، ومِن تحليلِ الأشياءِ السَّطحيةِ في الحياةِ إلى الغَوْصِ في أعماقِ مَعْنى الحياة، ومِن تَفسير الشُّعُورِ الإنساني اليَومي كَآلِيَّةٍ رُوتينيَّةٍ إلى تَغييرِه، وتَحويلِه إلى تجربة حياتية إبداعية تتعامل معَ الحَاضِرِ كعمليَّةِ تَوليد مُستمرة لتاريخ الأفكار، ولَيْسَ إعادة إنتاج المَاضِي وَفْق مَقَاسَاتِ قوالب الحَاضِر . وتاريخُ الأفكار هو انقلابٌ مُستمر على الوَهْمِ، وفَحْصٌ مُتواصِل للمُسَلَّمَاتِ الافتراضية، وكَسْرٌ دائمٌ للقَوالبِ الجاهزةِ والأنماطِ المُعَدَّةِ مُسْبَقًا، التي كَرَّسَتْهَا إفرازاتُ سِيَاسَةِ الأمْرِ الواقع للحِفَاظِ على المصالحِ الشخصية والمنافعِ الوَقْتِيَّة . وتاريخُ الأفكارِ يَصْنَع زَمَنًا خاصًّا به في هَياكلِ المُجتمع، ويُحَرِّر الوَعْيَ مِن اغترابِ الذات، ويُخلِّص مَاهِيَّةَ العَلاقاتِ الاجتماعية مِن الشُّعُورِ بالعُزلةِ والقطيعةِ معَ المَاضِي، ويَنقُل بُنيةَ الوُجودِ الإنساني مِن إطار الأحداث اليومية المِيكانيكي إلى فضاء إرادة المعرفة الدِّيناميكي، مِمَّا يُؤَدِّي إلى تأسيسِ هُوِيَّةٍ للفِعْلِ الاجتماعي قادرة على تَوليدِ نَفْسِها مِن نَفْسِها، وتَجَاوُزِ التفاعلات الرمزية في اللغةِ والبيئةِ، مِن أجْلِ مُساعدةِ الفردِ على التَّكَيُّفِ معَ آثارِ الزَّمَنِ في شكلِ المُجتمعِ ومَضمونِه، والتَّأقْلُمِ معَ تأثيرِ التَّغَيُّرَاتِ التاريخية في هَياكلِ المُجتمع والبُنى الوظيفيةِ الثقافية . وكُلُّ فَرْدٍ لَهُ كَينونةٌ ذات امتداد مَعرفي في النظامِ الوجودي لُغَويًّا واجتماعيًّا، وهذه الكَينونةُ تُحَدِّد مَوْقِعَ الفردِ داخل الحَيَاةِ، باعتبارها شرعيةً لتاريخِ الأفكار، ولَيْسَتْ نَزعةً استهلاكيةً للهُروبِ مِن النَّقْدِ الذاتي . وإذا كانت كَينونةُ الفردِ لا تَنفصِل عن الشُّروطِ التاريخية، فإنَّ شخصيته لا تَنفصِل عَن المَعاييرِ الأخلاقية، وهذا يَعْنِي أنَّ الفردَ - إذا أرادَ أن يُصبح فَاعِلًا في التاريخ ومُنْفَعِلًا به ومُتَفَاعِلًا مَعَه - يجب عَلَيه أن يَعُود إلى ذاته للانطلاقِ نَحْوَ العناصرِ المُحيطة بها، لأنَّ الذات هي أساسُ التأويلِ اللغوي، ومَرجعيةُ الفِعْلِ الاجتماعي، ومَنْبَعُ الأخلاقِ .

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

اذا كان سقراط يناقش الفلسفة في الساحات العامة، فهو ايضا كان يتدرب كجندي مشاة قاتل ضمن كتيبة عسكرية. وحين يستخدم المناورة وهو مرتديا درعا ثقيلا يكون قد جسّد مقدارا كبيرا من القوة والرشاقة. حرب الرقص الباهضة الثمن التي كان يقوم بتمثيلها القدماء حول جثمان القائد باتروكلس، وصفها افلاطون في القوانين، وتطلبت تقليد حركات الهجوم والدفاع "باسلوب رجولي مباشر".

في حوار افلاطون (ابولوجي) ، يعلن سقراط بفخر أمام الادّعاء العام انه لم يترك واجبه في معركة بوتيديا ومعركة ديليوم وامفيبوليس خوفا من الموت، لذا هو سوف لن يتخلى الان عن حياة الفيلسوف. اولى المعارك الثلاث هي معركة بوتيديا التي وقعت عام 432 ق.م، عندما كان سقراط بعمر 38 سنة، بما يشير الى انه ربما شارك في حملات اخرى مبكرة. على خلاف أسلافه مثل فيثاغوروس وامبيدوكليس اللذان كانت لديهما رؤية سلمية، سقراط لم يشك في الحرب التي نظر اليها باعتبارها واجبا وطنيا. غير انه، رفض تنفيذ أوامر غير عادلة، كما فعل يسوع بعد أربعة قرون، حيث رفض سقراط قانون الأسلاف في الإنتقام، قائلا، في كريتو Crito، "نحن يجب ان لا ننتقم او نخلق شرا لأي شخص مهما كان الشر الذي قاسيناه منه". في القوانين، يذهب افلاطون أبعد من ذلك، مجادلا ان الحرب يجب المشاركة فيها فقط لأجل السلام.

معركة بوتيديا Potidaea

الحصار الذي فُرض على مدينة بوتيديا الثائرة ضد اثينا، استمر حتى عام 429. في ندوة افلاطون Symposium، يقول السيبياديس ان سقراط أنقذ حياته بمفرده في بوتيديا، وتحمّل صعوبة الحملة"اكثر بكثير من أي شخص آخر في الجيش".

أثناء فترة الصقيع الشديد، هو سار حافي القدمين وحتى تفوّق على رفاقه مرتدي الأحذية الذين أبدو كراهية تجاهه لأنه كان يحتقرهم". ورغم ان سقراط أنقذ حياته، لكن السيبياديس بسبب ميلاده وطبقته، هو الذي استلم جائزة البطولة. عندما احتج السيبياديس مع الجنرالات بان الجائزة يجب ان تذهب الى سقراط، كان سقراط اكثر تلهفا من أي شخص آخر في ان تذهب الجائزة الى السيبياديس .

معركة ديليوم Delium 

وقعت هذه المعركة في بوتيا عام 424، أي بعد خمس سنوات من حرب بوتيديا، وانتهت بهزيمة مؤلمة لأثينا. في حوار لاتش Laches لإفلاطون، يقول الجنرال لاتش بان سقراط كان رفيقه في الانسحاب من دليوم، ولو كان الآخرون مثله "لتعزز شرف البلاد ولما حصلت الهزيمة الكبرى". وفي تكريم لبطولته في دليوم، لاتش يدعو سقراط لتعليمه والوقوف ضده قدر ما يستطيع، دون اعتبار لكبر سنه او رتبته.

اثناء الانسحاب من ديليوم، التقى السيبيداس وهو على حصانه سقراط ولاتش. في ندوة افلاطون، هو يقول بانه حتى في الانسحاب، بدا سقراط شديد الهدوء وواثق من نفسه ويفرض على الآخرين عدم التفكير بمهاجمته او مهاجمة مرافقيه، مفضلا بدلا من ذلك متابعة منْ سلكوا اسلوب القتال المتهور.

معركة امفيبوليس Amphipolis

وقعت هذه المعركة في عام 422، بعد سنتين من معركة دليوم عندما كان سقراط بعمر 48 سنة، عمر يصعب فيه تحمّل درع المعركة. في السنة السابقة للمعركة، نظّم الكاتب الساخر اريستوفان مسرحية الغيوم التي سخر بها من سقراط واصفا اياه بالملحد ، ومن المحتمل ان شهرة سقراط، خاصة بين الناس العاديين ارتكزت على شجاعته في المعركة بنفس مقدار قدرته الفكرية. في امفيبوليس، كانت اثينا هُزمت مرة اخرى لكن وفاة كلاون في الجانب الاثني وبراسيداس في الجانب السبارطي أعدّ الارضية للسلام في نيسياس، وبالنسبة لسقراط، العودة الى الفلسفة في الشارع.

سقراط وافلاطون حول الشجاعة

في حوار لاتش لإفلاطون Laches، ويُعرف ايضا بـ (حول الشجاعة)، يستنتج الجنرال نيسياس ان الشجاعة عبارة عن المعرفة بالمخيف والمأمول في الحرب وفي كل المجالات والمواقف الاخرى. سقراط يقول اذا كان نيسياس يعني ان الشجاعة هي معرفة أساس الخوف والأمل، عندئذ فان الشجاعة هي نادرة جدا بين الرجال، بينما الحيوانات لايمكن ابدا تسميتها "شجاعة" وانما "لا تخاف"- مثلما يؤكد استخدام اللغة العادية، مضيفا ان ذات الشيء ينطبق على الأطفال.

بعد ذلك يقترح سقراط التحقيق في أصل الخوف والأمل، هو يقول، الخوف يبرز من توقّع الأشياء الشرّيرة، ولكن لايبرز من الأشياء الشريرة التي حدثت او التي تحدث، بينما الأمل، في المقابل يبرز من توّقع الأشياء الجيدة، او على الأقل توقّع الأشياء غير الشريرة او الأقل شرا.

ولكن في أي حقل من الدراسة، لا يوجد هناك علم للمستقبل وعلم للماضي وعلم للحاضر: معرفة الماضي، الحاضر والمستقبل جميعها نفس النوع من المعرفة. لذلك، الشجاعة ليست فقط معرفة بالمخيف والمؤمل، وانما معرفة بكل الاشياء بما في ذلك تلك التي في الماضي والحاضر. الشخص الذي لديه مثل هذه المعرفة لا يمكن القول عنه يفتقر للشجاعة، وانما هو لا يمكن القول عنه انه يفتقر الى أي من الفضائل الاخرى – العدالة، الإعتدال والتقوى.

سقراط في محاولته تعريف الشجاعة، يشير الى انه ومعه لاتش ونيساس نجحوا في تعريف الفضيلة ذاتها. الفضيلة هي معرفة، وهو ما يفسر لماذا الناس الذين لديهم قدر من الفضيلة عادة يمتلكون قدرا مشابه لفضائل اخرى بشكل عام – وهي الاطروحة التي تُعرف بوحدة الفضائل.

لاتش ويسياس أعجبا لكن سقراط ألحّ على انه لم يفهم بعد طبيعة الشجاعة ولا الفضيلة. في حوار لاتش، سقراط يعرّف الشجاعة كمعرفة او معرفة الخير. لكن معرفة الخير ليست كافية. ما نحتاجه ايضا هو قوة سقراط في الاستمرار على قناعاتنا من خلال المتع والرغبات وفوق كل ذلك الخوف. وهكذا، في الجمهورية، افلاطون يعيد تعريف الشجاعة كـ "الحفاظ على القناعة .. حول الاشياء المخيفة". صحيح جدا لو ان سقراط سقط في أرض المعركة، لكان لزاما علينا اليوم ان نعيش في أذهان مختلفة.

***

حاتم حميد محسن

....................................

Psychology today, July 6, 2023

يبدو لا يوجد اتفاق عند المهتمين بالشأن الفلسفيّ على النطاق الدقيق لتحديد مفهوم المنطق، لكنه في سياقه العام، يقوم على تناول أو استخدام الحجج والوسائل المعرفيّة المتاحة، للكشف من خلالها عن حقائق الظواهر موضوع البحث، وهي وسائل وحجج منها ما هو مبنيّ على البرهان والاستدلال والاستنتاج والتجربة وقوانين المعرفة الحقيقية الأكثر شيوعًا. ومنها ما هو مبنيّ على الحدس والتأمل والخيال والعاطفة والذاتيّة وغير ذلك. (1)

ويمكن القول أيضاً: إن المنطق من الناحية العلميّة، هو علم دراسة مناهج الفكر، وطرق الاستدلال والاستنباط للوصول إلى معرفة الظواهر قيد البحث. ويشار إلى أهميّته، لأنّه يساعد الناس على التمييز بين الأفكار المنطقيّة، القويّة منها والضعيفة، حتى يتمّ الوصول إلى المعرفة المنطقيّة أو العقلانيّة.

هذا وتقوم المعرفة المنطقيّة على اتجاهين رئيسيين هما:

أولاً: المنطق الشكليّ أو الصوريّ: وهو الصيغة التي تبرز سماتها وخصائصها في التالي:

1- هو منطق مجرد يتجاهل حركة الظواهر وتطورها. أي أن الظواهر مواضيع البحث تعتبر ثابتة ومطلقة في وجودها عند الحوامل الاجتماعيّة الحاملة لهذا المنطق، فهذه الحوامل تعتمد على الحدس والملاحظة الحسيّة الشكليّة للظواهر والخيال والتأمل، كما تعتمد على الاستنتاجات المنطقيّة المجردة القائمة على الحركة الذاتيّة للتفكير،

2- هو منطق يضع حدوداً صارمة بين الظواهر. أي هو يعتمد على تفكيك الظواهر، ولا يؤمن بوحدتها وتنوعها في الطبيعة والمجتمع، وبوجود علاقة جدليّة بينها، وبالتالي لا يضع بالاعتبار التحولات أو التبدلات التي تصيب الظواهر بسبب حركتها وتطورها. وهو بذلك يكون أقرب إلى المنهج التفكيكي للظواهر وتفريدها.

3- هو لا يأخذ بالحسبان الفوارق والأضداد التي تشكل لب الظواهر الطبيعيّة. أي هو ينظر إلى طبيعة الظواهر نظرة سكونيّة في جوهرها وآليّة عملها، ولا يعترف بجوهر التناقضات القائمة في بنيتها الداخليّة ودورها في حركة الظواهر وتبدلها عبر الزمان والمكان. أو بتعبير آخر هو لا يؤمن بوحدة وصراع الأضداد داخل الظواهر الطبيعيّة والاجتماعيّة.

4-  هو يعزل الصورة عن المضمون. أي هو لا يقر بتلك العلاقة الجدليّة بين شكل الظاهرة ومضمونها، بل يفصل بينهما، وغالبا ما يشتغل على شكلانيّة الظواهر ليقرر معرفتها النهائيّة. أي هو يأخذ بالدراسات المورفولوجيّة (الظاهراتيّة)، (2) كوسيلة للمعرفة ويتناسى الجوهر، كونه يعتمد على التجربة، والتجربة ليست من وسائل بحثة.

5- هو يركز كثيرا على المستقبل الذي يلعبه العقل. والعقل عنده هو العقل المجرد الميتافيزيقي أو اللاهوتيّ. أي العقل المسبق المعرفة، والمنفصل عن الواقع، أو بتعبير آخر، العقل الذي يتبنى أفكاراً وتعاليم مثاليّة تعتمد على الفرضيات والتصورات والتخيلات التي يتعذر البرهان عليها، والتي تُخضع جوهر الأشياء بشكل مسبق لمنطق الفكر الذاتي البحت، لا لقوانينها الطبيعيّة الخاصة.

ثانياً: المنطق الواقعيّ، أو العقلانيّ الجدليّ: وهو المنطق الذي تبرز سماته وخصائصه في التالي:

1- هو منطق حي. أي منطق واقعيّ عيانيّ تكشف حقائقه التجربة والممارسة أولا، لتصل أخيراً إلى الاقرار النظريّ بما تم الوصول إليه عبر هذه التجربة والممارسة ثانياً.

2- يعلمنا هذا المنطق أن الكل الكونيّ هو ما هيّة واحدة. أي أن الطبيعة والمجتمع كلاهما يشكلاًن وحدة لا يمكن الفصل بينهما، في الوقت الذي يعتبر فيه أن مكونات الطبيعة تشكل وحدة قائمة بذاتها، وكذلك المجتمع. وأن هناك علاقة جدليّة تربط هذه المكونات كلها مع بعضها، بحيث أن كل جزء منها يؤثر بالآخر ويتأثر به.

3-  هو يمثل علما مطلقاً من التطور. أي أن الحركة والتطور وبالتالي التبدل هي قيم مطلقة في الظواهر. ففي الحركة تتجدد الظواهر في الشكل والمضمون دائماً، وما السكون إلا طريقا لموت الظاهرة.

4- هو لا يكتفي بعكس التطور والتغير اللذين يجريان في العالم، بل ويتوجب عليه تفسير التناقض القائم على أساس هذا العالم. إي أن المنطق الجدليّ أو الواقعي لا يكتفي بكشف سمات وخصائص الظواهر والتأكيد على حرتها وتبدلها وتطورها فحسب، بل هو يعمل على كشف جوهر الظواهر موضوع البحث أو المعرفة، وذلك من خلال البحث عن التناقضات الداخليّة في جوهر الظواهر. أي الوحدة والصراع داخل الظواهر ذاتها التي تؤدي إلى الحركة والتطور والتبدل في هذه الظواهر. وهو هنا يرفض التعليل اللاهوتيّ والميتافيزيقيّ في التعامل مع الظواهر. أي هو يعتبر التناقض مشروعاً واقعيّاً لأنه موجود في الأشياء ذاتها.

6- إن علم المنطق العقلانيّ الجدليّ، يهتم بالعالم الواقعيّ الذي يرتبط ارتباطاً بنا وبأفكارنا. وفلسفة العمل في هذا المنطق هي المدعوة لا  لإشباع حب الاستطلاع الإنسانيّ فحسب، بل وإلى إعادة تنظيم الحياة تنظيماً عقلانيّاً أيضاً، إن تطور الفلسفة سيودي بالضرورة إلى تحويل الفكر إلى عمل.

7-  إن المنطق العقلانيّ الجدليّ ينظر إلى الظواهر نظرة ماديّة مرتبطة بالواقع، ويمكن البرهان على وجودها ومعرفتها من خلال التجربة، ومعرفة القوانين الخاصة بها، وأن ليس هناك شيء غير ماديّ في العالم، والفكر ذاته مادة عندما يشخص واقعيّاًّ. والطبيعة عمليّة ماديّة واحدة من حيث المضمون، ومتنوعة من حيث الشكل، تتم وفقاً لقوانينها الداخليّة الخاصة، وأن الطبيعة والمجتمع في حالة حركة تطور وتبدل وتحول إلى اشكال أخرى دائمة.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة

...........................

الهومش:

1- الويكيبيديا: المنطق (من اليونانية القديمة: λογική، بالحروف اللاتينية: logikḗ) هو الدراسة المنهجية لشكل الاستدلال الصحيح، وقوانين المعرفة الحقيقية الأكثر شيوعًا، الاستنتاج الصحيح هو الذي يُوجِد علاقات محددة للدعم المنطقي بين افتراضات الاستدلال ونتائجه.

2- راجع موقع  المعرفة:الظاهريّة (أو الظواهريّة أو الظاهراتيّة) Phenomenalism في الفلسفة هي المذهب القائل بالوجود الحقيقي للظواهر وإنكار الجوهر المادي. ويزعم أصحاب هذا المذهب أن الإدراك لا يكون إلا بظاهر الأشياء، أي بما تبدو عليه، بمعنى أنه إدراك بما ينطبع من الظواهر على الحس، وما يتخلف عن هذا الانطباع من صور، وما يترتب عليها من أفكار، وعلى ذلك يكون الحديث عن الشيء، حديثاً في الواقع عن انطباعات عنه، وليس عن الشيء نفسه، وكأن وجود الأشياء هو وجودها في الوعي، وليس وجودها في الواقع، والتفكير بها أو الحديث عنها هو إيجاد لها.

مثال: نحن نعرق الثلج بلونه وبرودته وملمسه ودرجة صلابته فقط، وليس بآلية تشكله وعلاقاته مع محيطه وغير ذلك.

كتب: روبرت مايكل رويهل

ترجمة: علي حمدان الرئيسي

***

في عدد 107. "الفلسفة الان" حرر من قبل جيمس الكسندر" تفنيد الحلزونات " لروست بيف، مقالة يشجب فيها الفيلسوف الفرنسي المعاصر الان بادو (من مواليد 1937) " تلفظ بالفرنسية باجيو". كانت نقطة انطلاق الكسندر في المراجعة غير المحببة لروجر سكروتن لبادو "مغامرة الفلسفة الفرنسية" (2012). هو يعترف "بان سكروتن بوضوح لا يحب كل ما يمثله بادو" ولكن في نفس الوقت يزعم بان سكروتن كان مع ذلك لبقا. كتب بان " بادو يستحق السخرية". وبعد جمل معينة اخرى، يزعم ان معظم ما كتبه بادو يعتبر زبالة. ويضيف "انه لا يمكن لنا سوى ان نضحك على ما كتبه بادو". وحتى تلامذة بادو لم ينجو من التعليقات السلبية للكسندر: هو يسخر بان عوضا ان يقوموا بتدوين ملاحظاتهم في محاضرات بادو فانهم يقفون مصفقين".

ورغم انني سأكون مستمتعا اكثر اذا انغمست في مثل هذا النوع من الموقف الرافض، اتجاه الكسندر عموما واتجاه هجومه على بادو خصوصا. الا انني اخترت اتجاها اخر في دفاعي عنه. انا اقدر الطريقة الجدلية لفلسفة سقراط، لذلك انا سأطرح وجهة نظر مغايرة، أوضح فيها عدم دقة الكسندر في تقليله من قيمة بادو. لن اطرح وجهات نظر مبنية على عدم معرفة كافية (الكسندر يعترف بعدم معرفته بأعمال بادو)، سأطرح موقف مبني على معرفة عميقة بفلسفة بادو.

و لصياغة موقفي المعارض لنقد الكسندر، فسأعلق على خلفية بادو الشيوعية وعلاقتها بالفلسفة. هذا سيقودنا لشرح احد الثيمات المهمة في كتابات بادو: الإمكانيات الجديدة، الرياضيات ، وكيف تساعد هذه النظرية في الثورة. لذلك موقفي يأتي مغايرا تماما لموقف الكسندر فهو يريد اسكات بادو، بينما أرى ان اعمال بادو مهمة للفلسفة. افهم ان موقف بادو بالنسبة للفلسفة متسقا مع موقف افلاطون في "رمزية الكهف" (Allegory of Cave)، فهي عوضا عن حياديتها السياسية، فهي تدافع عن حقوق الناس، الفلسفة معنية بمساعدة الناس في التحرر من اللامفكر فيه، ومن مساعدة الناس للانعتاق من الاذلال الذي يواجه الانسان يوميا في شتى مساعي الحياة. لذلك انا اخذ كلمات باديو على محمل الجد حينما يعتبر نفسه "كأفلاطوني" معاصر.

باديو سهولة قرأته وراهنيته

سأبدأ بمشكلة هامة في تصور الكسندر لبادو، فهول يقول بسخرية لماذا يريد أي شخص ان يقرا بادو. مع ذلك في السنة الأولى في فرنسا، اشترى القراء عشرين الف نسخة من كتابه "الكائن والحدث" (2001)، على سبيل المثال، كما ان بادو معروف عالميا منذ فترة. فكتابه "الكائن والحدث" على سبيل المثال تم نشره بالفرنسية، والبرتغالية، والإيطالية، والاسبانية، والألمانية، والإنكليزية. "بادو والسياسة 2001"، يكتب برونو بوستيلز، وهو احد ابرز المتخصصين في الدراسات الخاصة ببادو قائلا بان في التسعينات من القرن الماضي حينما كانت اعمال بادو بالكاد تم اكتشافها من قبل قراء اللغة الإنكليزية، كانت اعماله مصدرا مهما للعديد من المثقفين الراديكاليين، والمناضلين في أمريكا اللاتينية وفي اسبانيا وبالذات في منطقة الباسك وعلى طول الساحة حتى المكسيك والبرازيل، و الارجنتين وتشيلي. في الحقيقة ان كتب بادو وجدت طريقها الى الاسبانية منذ بداية التسعينات، والى الإيطالية في منتصف التسعينات والى الألمانية في 2001. وهذه الحقائق توضح ان اعمال بادو الفلسفية لم تكن فقط اكاديمية وان كتاباته كانت متاحة. كما انها كانت مناسبة للتحليل السياسي في أمريكا اللاتينية. لذلك على المثقفين ان لا يصرفوا النظر بسهولة عن فلسفة بادو. لذلك الهجوم الشخصي والقراءة السطحية لإعماله، تحجب، صرامة واهمية وراهنية اعمال بادو. اليوم مع ازدياد رفض اللامساواة في الاقتصاد، عنف الشرطة، والعنصرية تتطلب النظر والتفكير والعمل بصورة مغايرة، أيامنا هذه تتطلب فلسفة ملتزمة بواقع المحتجين الذين نزلوا الى الشوارع لمواجهة الظلم.

بادو والسياسة

بادو لا يسعى الى اخفاء علاقة الفلسفة بالسياسة. الجدل يحتدم عندما يعلن بادو عن انتماءه سياسيا بانه ماركسي، مخلصا لفكرة الشيوعية. لا يوجد شك حول ماركسيته، وميوله الماوي، واستخدام كلمة شيوعية تثير مشاعر الغضب لدى البعض. ولكن قبل ان يثار البعض، من المهم معرفة موقف بادو. في مقابلة مع فيلبو ديل ليشوس وجاسون سميث، حدد بادو خلفيته الشيوعية كالتالي:

" لا اعتقد انه من الضروري اطلاقا الإبقاء على كلمة الشيوعية. ولكنني احب هذه الكلمة كثيرا. احبها لإنها تعبر في العام عن فكرة عامة لمجتمع وعالم تكون فيه فكرة المساواة مهيمنة، عالم لم يعد مبني على العلاقات الاجتماعية الكلاسيكية، تللك المبنية على الثروة، تقسيم العمل، الفصل العنصري، والاضطهاد من قبل الدولة، الاختلافات الجندرية الى اخره. هذا بالنسبة لي هو الشيوعية. الشيوعية بشكل عام ببساطة تعني ان الجميع سواسية وذلك ضمن التعددية والاختلاف ضمن التنوع الإجتماعي.لا يوجد سبب ان عامل تنظيف الشوارع ان يحاصر من قبل الدولة ويكون اجره ضعيف بينما المثقفون في مكتباتهم اجورهم مرتفعة. انه سخف. ما اسميه بالشيوعية هو نهاية هذا السخف. وبهذا المعني فانا شيوعي. (نحن بحاجة لانضباط شعبي، 2007).

لتقدير نهجه الفكري، علينا ان نفهم هذا الموقف السياسي. بادو يقرر ربط الفلسفة مع التغيير الثوري وعدم الإذعان. إشارة الي سقراط، بادو يكتب في الفلسفة للمناضلين (2012).

"لإفساد الشباب، بعد ذلك هي صفة جديرة بالعمل الفلسفي، شريطة معرفتنا بما نقصده بالفساد. لإفساد معناه ان نعلم إمكانية رفض كل الاستسلام الاعمى للأفكار السائدة. لنفسد معناه ان نمنح الشباب وسائل معينة لتغيير أفكارهم بالنسبة للأعراف الاجتماعية السائدة، ليكون النقاش والتفكير النقدي بديلا عن التقليد والموافقة، وحتى تكون مسالة مبدا هو باستبدال الطاعة بالرفض.")ص 10 (كمفكر حر، بادو يصنف السياسة التحررية على انها وجه اخر للفلسفة، لذلك الفلسفة هي جزء منطقي من عملية الرفض والتي تسعى لفهم والتعبير بشكل واضح حول الإمكانيات الجديدة للرفض و التي تكشف وتنمي. الفلسفة تساعد في عملية الرفض وذلك بمساعدة القراء لتبصر حول النضال السياسي، وذلك لنكون معارضين وقادرين على تغيير العالم. لذلك من السهولة رؤية كيف ان موقف بادو قريب جدا من أفكار كارل ماركس من خلال ملاحظات في اطروحته الحادية عشر حول فيورباخ (اطروحات حول فيورباخ 1888). "لم يقم الفلاسفة سوي بتفسير العالم بطرق مختلفة لكن المهم هو تغييره". بادو أيضا يسعى الى تغيير العالم.

لذلك من خلال انغماسه في النضال السياسي، فلسفة بادو تركز علي مسالة الاحتمالات الجديدة ، مسالة مضادة تماما للرأسمالية المعاصرة وما تمثله من حداثة والتي تسعي الي مضاعفة الأرباح . بالنسبة لبادو ان حداثة الرأسمالية ماهي سوى تكرار، انه الوضع السائد للناس الذين يعيشون فقط للاستهلاك بإدمان. انه يسعى نحو الاحتمالات التي ستاتي. "ضمن الحدود المتوقعة للحياة اليومية فان الاحتمالات الجديدة تبدو مستحيلة"، لذلك بادو يرحب بالمستحيلات او تلك الاحتمالات غير المتوقعة التي تصدم هذا الواقع المقرر. ومع ذلك، فان هذه الاحتمالات التي تبدو مستحيلة، او غير ممكنة الحدوث بناء على التوقعات المهيمنة، لذلك لا يمكن ان يكون مصدر هذه التوقعات من الخارج وانما مصدرها يكون من الداخل، وأفكاراها حول ما هو مهم، وما هو ممكن وما هو مقبول. بهذه الطريقة فان الاحتمالات الجديدة هو تدخل جوهري ليضطرب الوضع السائد والمعرفة المقبولة.

وحول أهمية إمكانية التحول ضمن كل وضع، بادو يكتب " انها مسالة ان نعرض كيف ان مساحة الامكانية هي اكبر مما هو متاح، وان هناك شيء اخر ممكن". (Ethics, 2013, p.115). الإمكانيات الجديدة عطلت الهيمنة والاضطهاد في السابق، وبإمكانها عمل ذلك مرة أخرى. مستوى عملية التدمير الواسع التي تحافظ على ما يدعى بسلاسة عمل الرأسمالية ليس امرا حتميا، ان فكرة فرانسيس فوكوياما حول ان مع الديمقراطيات الرأسمالية وصلنا الى نهاية التاريخ هو مفهوما خاطئا: ان العوائق القمعية التي تسود حياتنا ليس لها علاقة بالتاريخ في مفهوم بادو. على الضد بادو يربط التاريخ بمفهوم الاضطراب في الوضع الراهن. الاحتجاج، التظاهر، وبروز السياسة هي عوامل أساسية للتاريخ القادم. لذلك بادو يكتب عن "ولادة جديدة للتاريخ"، "لذلك انا اقترح ان أقول اننا نجد انفسنا في زمن الاحتجاجات، حيث اننا في زمن إعادة ولادة التاريخ عوضا عن تكرار بسيط وخالص للاسوا الذي سيتبلور" (Rebirth of History, 2015, p5). الاحتجاجات والمظاهرات من الممكن ان تقود الى تفكير جماعي الذي سيوحد الناس المهانون من خلال النهب المستمر للرأسمالية العالمية المغطاة بالديمقراطية تحالف يسميه بادو بالبرلمانية(Parliamentarism)، عندما يصل الناس الى قناعة بانهم يجب ان يخرجوا الى الشوارع، والاتحاد مع بعضهم البعض بطريقة تتعدى حيزهم الجغرافي ومصالحهم الضيقة، وذلك للبدء بعملية تكون ولادة أخرى للتاريخ. على الناس ان لا تنسى على ان كل حالة حبلى بإمكانيات التغيير الثوري وذلك ببساطة نظرا لان الانتفاضات كانت نادرة وان الاحتكار الرأسمالي يبدو حتميا. بادو يذكرنا بان الياس يمكن تجنبه، و ان هيمنة الرأسمالية ليس امرا محدد مسبقا. في حين، ان الاحتمالات كامنة في المجتمع وعليه ان نمنح المضطهدون بريقا من الامل. في مجمل فلسفته بادو يبقى مخلصا لإمكانيات التحول ومؤمنا بإمكانية ان تكون الأمور غير ما هو عيه حاليا.

***

...........................

* روبرت مايكل روهيل أستاذ في قسم الفلسفة في مركز كلية سانت جون فيشر، روشيستر. نيويورك.

في المثقف اليوم