أقلام فكرية

أقلام فكرية

هل يجب أن نحترم الآخرين؟ من يجب أن نحترم؟ - ما الذي يجب احترامه؟ هل يجب أن نحترم الأشياء كما يجب أن نحترم الآخرين؟ وهل يجب أن نحترم الطبيعة؟ هل يجب أن نذهب إلى حد احترام ما لم يوجد بعد، أي الأجيال القادمة؟ ولكن ما هو الاحترام؟ إنه شعور يُختبر أمام القانون الأخلاقي، وبالتالي أمام الشخص الذي يحمل في داخله القانون الأخلاقي الآخر، يا أخي الإنسان. من الواضح أن الطبيعة ليست شخصًا. لماذا يكون من واجب احترام الطبيعة. يتعلق الواجب بالالتزام الأخلاقي. تقليديًا، يفرض الواجب بشكل قاطع الاحترام بين الأشخاص الأحرار والمتساويين: فهم يتمتعون، بطريقة ما، بالمساواة في الحقوق والواجبات. بهذا المعنى لا يمكننا إلا أن نتحمل واجبات تجاه الآخرين. لكن السؤال يطرح ضمنا مسألة ما إذا كان من الممكن أن تكون هناك واجبات تجاه ما ليس شخصا، تجاه ما ليس موضوعا للحقوق والواجبات. على سبيل المثال، هل لدينا واجبات تجاه الأشياء، أو الطبيعة، أو تجاه هذه الكائنات المحتملة التي لا وجود لها والتي ستكون من نسلنا أو حتى تجاه الموتى الذين لم يعد لهم حقوق. تتمثل الصعوبات في أنه لا تستسلم لإغراء القول بأن لدينا واجبات تجاه أنفسنا، لأنه باحترامنا الإنسانية في أنفسنا، فإننا نحترمها في الوقت نفسه في الآخرين، لدرجة أنه، وفقًا لعمانويل كانط، من واجبنا أن نجعل السعادة كما هي. فمن الواجب احترام الذات. كما يتعلق الأمر بمعاملة الإنسانية في النفس وفي الآخرين ليس فقط كوسيلة، بل دائمًا كغاية. يبدو أننا لا نستطيع أن نتحمل واجبات تجاه ما ليس له حقوق في الوقت الحاضر. ماذا لو وضعنا أنفسنا من منظور المسؤولية تجاه ما ليس بالآخرين، وما ليس حاملاً للقانون الأخلاقي. مع العلم أن ما لم يوجد بعد لا يمكنه الدفاع عن نفسه أو المطالبة بالحقوق. وبهذا المعنى، فهم معرضون للخطر، وميلادهم هو مسألة حماية الطبيعة. فهل من واجب حماية الطبيعة من الحيوانات المفترسة التكنولوجية، للحفاظ على النظام البيئي للأجيال القادمة؟ هل هو واجب أم أنها مسؤولية؟

 بالمعنى الدقيق للكلمة، الاحترام يتطلب الآخرين، حاملي القانون الأخلاقي: أنا لا أنحني للآخرين وإذا نبذت العنف فذلك لأنني أحترم القانون الأخلاقي فيهم. لا يمكننا أن نمد الواجبات تجاه الآخرين إلى ما هو غير موجود. لكن المسؤولية تأتي لترحيل الواجب بالمعنى الدقيق للكلمة. وبالتالي، بالنسبة للحتمية الكانطية المطلقة، ربما ينبغي لنا أن نفضل الأمر الناتج عن الوعي، من المسؤولية المعترف بها. ومن ثم نحصل، بحسب هانز جوناس: "تصرف بطريقة تجعل آثار أفعالك متوافقة مع ديمومة حياة إنسانية أصيلة على الأرض". على سبيل المثال، اتخاذ إجراءات بشأن التلوث حتى يتمكن الأطفال ، على الأقل، من الذهاب واللعب. "تصرف بطريقة لا تكون فيها آثار أفعالك مدمرة للاحتمال المستقبلي لمثل هذه الحياة الإنسانية الأصيلة." كما يرى هانز جوناس. ولكن سيتم الاعتراض على أن احترام الطبيعة هو سلوك وثني. ومن تشويه الواجب أن يمتد إلى الطبيعة. ومع ذلك، لم يعد الأمر يتعلق بتوسيع نطاق الواجب، علينا فقط أن ننظر إلى الآخرين، ولكن تفعيل مفهوم المسؤولية وحماية مصالح أولئك الذين هم عرضة للخطر تمامًا، في ضوء أفعالنا. يمكننا أن نقول أيضًا أنه إذا كان لدينا، بالمعنى الدقيق للكلمة، واجبات تجاه الآخرين فقط، فليس من التناقض، على العكس من ذلك، الاهتمام بالبيئة التي هي شرط لبقاء الآخرين: فالاهتمام بالولادات المستقبلية هو أمر ضروري. طريقة لرعاية حقوق الآخرين في الحصول عند الولادة على نظام بيئي محمي وأن يولدوا على شواطئ النور. لقد رأى ديكارت منذ البواكير الاولى للحداثة ان "هناك حقيقة تبدو معرفتها مفيدة جدًا بالنسبة لي: وهي أنه على الرغم من أن كل واحد منا شخص منفصل عن الآخرين، وبالتالي فإن مصالحه تختلف بطريقة ما عن مصالح بقية العالم، إلا أننا ومع ذلك، يجب علينا أن نعتقد أننا لا نستطيع أن نعيش بمفردنا، وأننا في الواقع جزء من أجزاء الكون، وبشكل أكثر تحديدًا أحد أجزاء هذه الأرض، أحد أجزاء هذه الدولة، هذا المجتمع، هذه "الأسرة، التي ينضم إليها الفرد بإقامته، بالقسم، بمولده. ويجب علينا دائمًا أن نفضل مصالح الكل، الذي نحن جزء منه، على مصالح الشخص المعين، ولكن مع التدبير والتقدير، لأنه سيكون من الخطأ تعريض المرء نفسه لشر عظيم من أجل الحصول على منفعة صغيرة فقط لوالديه أو لبلده؛ وإذا كان الانسان بمفرده يستحق أكثر من بقية مدينته، فلن يكون من الصواب أن يريد ذلك نخسره من أجل إنقاذه، ولكن إذا أعدنا كل شيء إلى أنفسنا، فلن نخشى إلحاق الكثير من الأذى بأشخاص آخرين، عندما نعتقد أننا سنكسب بعض الراحة الصغيرة منه، ولن تكون لدينا صداقة حقيقية، ولا أي ولاء ولا أي فضيلة بشكل عام؛ بينما عندما يعتبر المرء نفسه جزءًا من الجمهور، فإنه يستمتع بعمل الخير للجميع، ولا يخشى حتى تعريض حياته لخدمة الآخرين، عندما تسنح الفرصة. ونود أيضًا أن نفقد أرواحنا، إن أمكن، من أجل إنقاذ الآخرين. بحيث يكون هذا الاعتبار هو المصدر والأصل لجميع الأعمال البطولية التي يقوم بها البشر؛ لأنه بالنسبة لأولئك الذين يعرضون أنفسهم للموت بدافع الغرور، لأنهم يأملون في الثناء، أو بسبب الغباء، لأنهم لا يدركون الخطر، أعتقد أنهم يستحقون الشفقة أكثر من المدح. ولكن عندما يعرض أحد نفسه لذلك، لأنه يعتقد أن ذلك واجب عليه، أو عندما يعاني من شر آخر، حتى ينفع الآخرين، مع أنه ربما لا يعتبر بالتفكير أنه يفعل ذلك لأنه مدين أكثر للجمهور الذي هو جزء منه، أكثر من نفسه بشكل خاص، ومع ذلك فهو يفعل ذلك بموجب هذا الاعتبار الذي يربك أفكاره. "[1]1 أما آدم سميث في سياق اقتصادي فهو قد صرح: "إن الاهتمام بسعادتنا يوصينا بفضيلة الحذر، والاهتمام بسعادة الآخرين يوصينا بفضائل العدالة والإحسان، أحدهما يمنعنا من إيذاءهم والآخر يشجعنا على المساهمة فيهم. هذه الفضائل الثلاث أوصت بها لنا في الأصل عواطفنا الأنانية، والفضائل الأخرى من خلال عواطفنا الخيرة، بغض النظر عن أي اهتمام بماهية مشاعر الآخرين، أو ما ينبغي أن تكون عليه، أو يمكن أن تكون في ظل ظروف معينة. ويضاف آخرون بعد ذلك إلى هذه العواطف، ويأتي لتعزيز وتوجيه ممارسة هذه الفضائل الثلاث. لم يتمكن أي إنسان قط، خلال حياته كلها أو حتى خلال جزء كبير من حياته، من السفر بزي ثابت وموحد. يسلك طريق الحكمة أو العدالة أو الإحسان، إذا لم يكن سلوكه مدفوعًا بالاهتمام بمشاعر المشاهد المحايد المفترض، الذي يسكن داخل القلب، القاضي العظيم وحكم السلوك. إذا انحرفنا، خلال النهار، بأي شكل من الأشكال عن القواعد التي يفرضها علينا، إذا كنا مقتصدين للغاية أو غير كافيين، مجتهدين للغاية أو غير كافيين، إذا أضرنا بأي مقياس بمصلحة أو سعادة حياتنا. الجار عن طريق العاطفة أو السهو، إذا أهملنا فرصة واضحة ومناسبة للعمل من أجل هذه المصلحة أو السعادة؛ ثم يسألنا الساكن فينا مساءًا أن نحاسب على كل هذه التقصيرات والتجاوزات، وكثيرًا ما تجعلنا عتابه نحمر خجلًا داخليًا على حماقتنا وعدم اهتمامنا بسعادتنا، بل وسعادتنا الأكبر. اللامبالاة وعدم الاهتمام بسعادة الآخرين."[2]2 في حين ذهب ليفيناس الى ضرورة المقاومة الاتيقية للعنف ورفض القتل بقوله: " "القتل لا يعني الهيمنة بل الإبادة، التخلي التام عن الفهم. القتل يمارس السلطة على ما يفلت من السلطة. لا تزال السلطة، لأن الوجه يعبر عن نفسه في الاحساس، ولكنه بالفعل عجز لأن الوجه يمزق الاحساس، والآخر الذي يتم التعبير عنه "في الوجه يوفر "المادة" الوحيدة الممكنة للنفي التام. لا يسعني إلا أن أرغب في قتل كائن مستقل تمامًا، كائن يتجاوز قدراتي إلى ما لا نهاية، وبالتالي لا يعارض قوة السلطة ذاتها، بل يشلها. الآخرون هم الكائنات الوحيدة التي أستطيع أن أرغب في قتلها.   ولكن كيف يختلف هذا التفاوت بين اللامتناهي وقدراتي عن ذلك الذي يفصل عائقًا كبيرًا جدًا عن القوة التي تنطبق عليه؟ سيكون من غير المجدي الإصرار على تفاهة القتل الذي يكشف عن مقاومة العائق التي تكاد تكون معدومة. هذه الحادثة الأكثر تفاهة في تاريخ البشرية تتوافق مع احتمال استثنائي لأنها تدعي النفي التام للكائن. لا يتعلق الأمر بالقوة التي يمكن أن يمتلكها هذا الكائن كجزء من العالم. الآخرون الذين يمكنهم أن يقولوا لي لا بشكل سيادي، يعرضون أنفسهم لحد السيف أو لرصاصة المسدس وكل صلابة "لأنفسهم" التي لا تتزعزع مع هذه الرفض المتعنتة التي يعارضونها، تم محوها من خلال حقيقة أن أصاب سيف أو رصاصة الأذينين أو البطينين في قلبه. في سياق العالم، يكاد يكون لا شيء. لكنه يستطيع أن يقاومني، أي أن يعارض القوة التي تصيبه، ليس قوة المقاومة، بل عدم القدرة على التنبؤ برد فعله. ومن ثم فهو لا يعارض في نظري قوة أعظم – طاقة يمكن تقييمها وبالتالي تظهر نفسها كما لو كانت جزءًا من كل – بل يعارض سمو كيانه ذاته فيما يتعلق بهذا الكل، وليس صيغ التفضيل للقوة على وجه التحديد اللانهاية من تجاوزها. هذه اللانهاية، الأقوى من القتل، تقاومنا في وجهها بالفعل، هي وجهها، هي التعبير الأصلي، هي الكلمة الأولى: "لا تقتل". إن اللانهائي يشل القوة بمقاومتها اللامتناهية للقتل، الذي يتألق، الدائم وغير القابل للتغلب، في وجه الآخرين، في العري التام لعيونهم العزل، في العري للانفتاح المطلق للمتعالي. هناك علاقة ليست مع مقاومة كبيرة جدًا، ولكن مع شيء مختلف تمامًا: المقاومة التي لا مقاومة لها – المقاومة الأخلاقية."[3] 3فهل تضع الفلسفة الاتيقية كشكل من اشكال المقاومة المدنية الممكنة حدا نهائيا للانتهاكات للكوني وتوقف التمييز العنصري بين المواطنين والشعوب والثقافات؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

..........................

المراجع

1.René Descartes, Lettre à Elisabeth du 15 septembre 1645.

2.Adam Smith, Théorie des sentiments moraux, 1759, tr. Fr. M. Biziou, C. Gautier, J.-F. Pradeau, PUF, Quadrige, 1999, p. 358-359.

3.Emmanuel Lévinas, Totalité et infini, 1961, Le Livre de Poche, 1998, p. 216-217.

 هوامش

[1] René Descartes, Lettre à Elisabeth du 15 septembre 1645.

[2] Adam Smith, Théorie des sentiments moraux, 1759, tr. Fr. M. Biziou, C. Gautier, J.-F. Pradeau, PUF, Quadrige, 1999, p. 358-359.

[3] Emmanuel Lévinas, Totalité et infini, 1961, Le Livre de Poche, 1998, p. 216-217.

بقلم: جان لومبار

ترجمة: عبد الوهاب البراهمي

***

".. يمكننا أن نترك جانبا تنوّع التعريفات لعبارة (النسيان)، والمجال واسع: نقول بأنّنا نسينا مفاتيحنا، أو نسينا تاريخ حدث ما؛ يمكننا نسيان وعودنا أو محاولة نسيان همومنا بالسفر . إن فعل نسى هو دائما  فعل مبني للمعلوم، بينما لا نملك بالمرّة الانطباع بنسياننا أنّنا نفعل ولا ندرك النسيان إلا متى تدخّل، لا حينما يجري . فإذا نسيت ما عرفت أو ما عشت، فإنّه يحدث لي أو على أيّ حال يحصل لي انطباع بأنه قد حدث لي سلبيا شيء ينتج دوني. إنّ الفعل اللاتيني oblivisci، الذي اشتق منه الفعل الفرنسي oublier يؤكّد هذا الأمر: هو ما نسمّيه فعل متعدّي المعنى، صنف نحوي في اللاتينية حيث تجمع الأفعال المبنية للمعلوم والمبنية للمجهول (9) . وبالفعل، فليس النسيان، لا فعالية ولا انفعالية: فهو يتجاوز ويطمس هذا التنازع وسنجد صعوبة في القول بدقّة ما يجب فعله حينما نتلقّى أمرا من هذا النوع" لا تنسى أن تفعل هذا أو ذاك" وأن نريد الاستجابة لهذا الأمر.  يمكننا على الأكثر أن نقول لشخص آخر "اجعلني اذكر كذا" أو" ذكّرني بـ"، وهو ما يعني تفويض سلطة لسنا على يقين بقدرتنا على ممارستها. هذا اللايقين قائم في صلب النسيان بل هو حتى جوهره : يظهر النسيان منذ البداية مثل شكل فريد من الغياب.فالحديث عن النسيان حديث ضرب من الغياب.

يذكّرنا هذا خاصة بمرحلة متأخرة من حياة كانط. نحن نعرف الاهتمام الشديد الذي أثاره القسم الثاني من حياة الفيلسوف كانط، ربّما لأنّه قدّم لنا مشهدا محيّرا لفوضى تدريجية لفكر كان بشكل مخصوص مبهرا. منذ 1804، سنة موت كانط نشر تلاميذه ثلاث سير ذاتية؛ وخلال القرن 19م، سيروي كتاب وفلاسفة أوروبيون، "الأيام الأخيرة لأمانويل كانط"، أمثال طوماس دي كوينسي , Thomas de Quincey وفيكتور كوزان Victor Cousin.  نحن نعرف أنّ كانط، الذي كان جدول أوقاته اليومي مقسما تقسيما صارما بالثانية، وكان له طيلة حياته خادم، يدعى لامب Lampe،الذي كان يقوم على تنفيذ برنامجه الثابت والذي، بحسب الوصف الذي قدمته هان Heine، كان يتبعه أثناء جولته اليومية المشهورة " بصورة متيقظة ومنشغلة، يتأبط مطريّته، في صورة حقيقية عن العناية الشديدة ".  وفي عام 1802، بينما كان عمره 78 سنة، انفصل كانط، وهو الذي ظهرت عليه معالم شيخوخة، عن خادمه الوفيّ. روى فاسينسكي Wasianski، تلميذ كانط الذي سيصير مؤرخ سيرته الذاتية، بطريقة مفصلة هذه المرحلة من حياة كانط، دون أن يعطي مع ذلك السبب الحقيقيّ لطرد الخادم لامب. نحن نعرف فحسب أن كانط يؤاخذ خادمه القديم على سوء تصرّفه و" أنه يخجل من الحديث عن ذلك". وليس من اليقينيّ أنّ فاسينسكي قد لعب دورا أساسيا في طرد الخادم- ربما لاعتباره قريبا جدا من المعلّم- ولا في تعويضه بعسكري غليظ الطباع يدعى كوفمان. ولم يتعوّد كانط بالمرّة، مثلما هو متوقع، بهذا التغيير . وكان يجد كثيرا من العناء في الاستغناء عن خدمات لامب فضلا عن إزاحته من ذاكرته. وبما أنّ كانط كان شديد العناية، بحكم وهن ذاكرته، في تسجيل ملاحظات على بطاقات صغيرة الحجم عن كلّ ما لا يريد نسيانه، كان يكتب لنفسه ملاحظة تقول :" يجب على اسم لامب من هنا فصاعدا أن يمحى من ذاكرتي". وقد وجد فاسينسكي الذي لم يكن ربما محايدا في هذا المسألة، في هذه الملاحظة دليلا جديدا على شيخوخة كانط. ومع ذلك، فليس من اليقينيّ أن يكون هذا التأويل سليما، إذ أن التماس الذاكرة للتسبّب في النسيان ليس بالضرورة تمشّ متناقض أو تافه. فلقد علّمنا فرويد منذئذ الكثير عن تأويل زلات اللسان و الهفوات في الأفعال وعن نظرية النسيان بوجه عام. لقد زعم كانط  على أيّ حال، بهذا الحلّ فعل شيء قد يبدو غير قابل للتصديق : رسم النسيان.

إنّ لهذه الملاحظة التي دونها كانط على الورقة تأويلات عديدة . فقد تحيل إلى فكرة أن كلّ ما كتب يريح الذاكرة:" كلّ ما أكتبه على الورق أرفعه من ذاكرتي وبالتالي أنساه"، على حدّ قول برناندان دي سان بيار Bernardin de Saint-Pierre . ويمكن أن نضيف : بهذا النسيان المعلن، وعلى نحو ما، أحتفظ به أخيرا، أي بما كتبت، على العكس،  إلاّ إذا أضعت الورقة، وهو ما يحدث أيضا. يوجد هنا انزياح إلى خطر الكتابة التي يتهمها بعدُ أفلاطون في الفيدروس Phèdre :" لا نتج الكتابة سوى النسيان بإهمالها الذاكرة."

إلا أنّه علينا ربّما أن نولي اهتمامنا بالمصرّح به ذاته أكثر من اهتمامنا بالبطاقة المدون عليها . كان لكانط ثقافة واسعة وذاكرة مدهشة. وهو مقتنع بأنّ الحفظ الجيد ضروري لكلّ تكوين معرفي :   نحن لا نعرف إلاّ ما احتفظنا به في الذاكرة".، مثلما يقول في فصل " الذاكرة" في كتابه " الانتروبولوجيا " وفي " أقوال في البيداغوجيا". يميّز كانط في المقابل، ثلاث أشكال من الذاكرة، آلية وبارعة وحكيمة . لم يكن كانط يهتم كثيرا بالشكل الأول (الآلية)، والتي يراها جديرة بالببغاء، وكان يفضّل الثالثة (حكيمة ذات صلة بالحكم)، لأنها تتوافق مع استعمال العقل. (17). هل أراد كانط، حتى ننتهي من هذا، أن يعهد لذاكرته الآلية ذكرى سلبية عن لامب، وفي هذه الحالة تكون البطاقة بالمعنى الدقيق للكلمة تذكيرا، أي ملاحظة تذكّر بالمهام التي عليه تأديتها، وهو ما ليس تسرعا في الحكم على نجاح المناورة، أو على العكس، هل يكون، على نحو ما، قد أمّن انتشار هذه الذكرى السيئة برفعها إلى مستوى الذاكرة الحكيمة لضمان نفيه الذكيّ في نهاية مسار نقدي؟ ومهما يكن، فهذا ضرب من النسيان الإرادي نسب إليه القدرة على تخليصه من هوس بالماضي . وبواسطة هذه الملاحظة التي كتبها لنفسه يقول في الجملة " علي أن أتذكر النسيان" أو، كما نريد، " عليّ أن لا أنسي أن لا أذكّر نفسي"،وهو ما سبيّن بانّ النسيان والذاكرة ليسا سوى الوجه الآخر لكل منهما، لكنهما يتداخلان ويأخذان معنى في علاقة متبادلة. أن يكون قد تصرّف تحت تأثير مرض النسيان الكبير (مثلما نسميه أحيانا الزهايمر)، فقد يكون كانط، في هذه المذكّرة، قد ساهم بشكل مفارقي، في جعل ذكرى لامب غير قابلة للتلف وقد يكون قد أكد ما يعني أن نكون أوفياء. لقد وضع أيضا أو أيقظ بهذه البطاقة عدّة جوانب من التساؤل حول النسيان ".

***

....................

* جان لومبار، فلسفة النسيان، الوجود والعلاقة مع الماضي (محاضرة لأصدقاء الجامعة  2014)

 

من خلال اطلاعنا على أفكار المعتزلة ومعتقداتهم، كما سيتبين لنا لاحقاً، أن الكثير من أفكارهم لا تختلف من حيث الجوهر عن أفكار الجهات الأخرى المناوئة لهم في عصرهم، مثل الموقف من خلق القرآن، ومرتكب الكبيرة، ومن الصفات، ومرجعيّة التحسين والتقبيح أهي النص الديني أم العقل، وكذلك مرجعيّة الفعل الإنسان مقدراً هو أم مخيراً.. وغير ذلك. وهذا يعود برأي إلى أن الخطاب الفكري الذي كان سائداً في عصرهم، هو خطاب ديني لا هوتي في عمومه، وبالتالي لا نستطيع أن نحكم عليهم بروية عصرنا، من حيث طريقة اشتغالهم منهجياً على هذه القضايا، أمام القضايا التي يشتغل عليها فلاسفتنا ومفكرونا اليوم. ومع ذلك إذا ما قارنا طبيعة أفكارهم بأفكار الجهميّة (نسبة إلى جهم بن صفوان) والجبريّة عموماً، نستطيع القول بثقة عالية: إن ما طرحه المعتزلة من أفكار تدعوا إلى تبني العقل سلاحاً للمعرفة والإرادة الإنسانيّة معولاً للهدم والبناء، أرادوا منها تنوير عقول الناس لمعرفة أسباب ظلمهم وقهرهم والاستبداد بهم وتجويعهم وتشريدهم، وأنهم هم سادة موقفهم من الحياة، وأن قدرهم بيدهم وليس بيد غيرهم، وأن من يعمل على إبعاد تفكيرهم عن استخدام عقولهم وإرادتهم في نشاطهم الحياتي، هم في الحقيقة من يريدون استعبادهم والسيطرة عليهم باسم الدين، وهذا الموقف العقلاني ما آلب عليهم السلطات الحاكمة ماضياً وحاضراً، حيث حوربوا وعذبوا وشردوا وحرقت كتبهم وقتل الكثير منهم تحت ذريعة الكفر والزندقة وهم منها براء.

التعريف بهم:

عرف التاريخ الإسلامي على مر العصور، العديد من التيارات والفرق الكلاميّة، وكان من أبرزها "المعتزلة" الذين عرفوا بتغليبهم العقل على النقل، وقالوا بالعقل قبل النقل، ورفضوا الأحاديث التي لا يقرها العقل حسب وصفهم، وقالوا بوجوب معرفة الله بالعقل ولو لم يرد شرع بذلك.

والمعتزلة في سياقها العام، فرقة كلاميّة ظهرت في البصرة (110هـ)، تنتسب إلى واصل بن عطاء الغزال، تميزت بتقديم العقل على النقل، وبالأصول الخمسة التي تعتبر قاسما مشتركا بين جميع فرقها. ومن أسمائها القدريّة والوعيديّة والعدليّة. وسموا معتزلة لاعتزال مؤسسها مجلس الحسن البصري بعد خلافه معه حول حكم الفاسق، أو مرتكب الكبيرة . (1).

ويميل المفكر المصري أحمد أمين إلى أن هذا الاسم (جاء من إطلاق بعض اليهود الذين اعتنقوا الإسلام، بسبب الفرقة اليهوديّة التي ظهرت بعد السبي البابلي والمعروفة بـ"الفروشيم"، وهى كلمة عبريّة يردافها بالعربيّة اسم "المعتزلة"، وكانت تنفى الجبر كالمعتزلة وتؤمن بأن الله ليس هو خالق أفعال البشر). (2). لقد اعتمد المعتزلة على العقل في تأسيس عقائدهم وقدموه على النقل كما أشرنا أعلاه، وقالوا بأنّ العقل والفطرة السليمة قادران على تمييز الحلال من الحرام بشكل تلقائي. كما كان لتأكيد المعتزلة على التوحيد وعلى العدل الاجتماعي، أعطاهم أهميّة كبرى لدى الناس في عصر كثرت فيه المظالم الاجتماعيّة وكثر فيه القول بالجبر وبالتشبيه وتجسيم الذات الالهيّة. وإذا كان أول ظهور للمعتزلة في البصرة في العراق كما بينا أعلاه،  إلا أن افكارهم راحت تنتشر في مختلف مناطق الدولة الإسلاميّة كخرسان و ترمذ و اليمن و الجزيرة العربية و الكوفة و أرمينيا. هذا وقد انطوى تراث المعتزلة لقرون ولم يعرف عنه الكثير بسبب محاربة رجالاتهم وفكرهم في مراحل كثيرة من تاريخ الدولة الأمويّة والعباسيّة من قبل الطبقة الحاكمة المستبدة، لذلك جاءت معرفة عقائدهم وأفكارهم ورجالاتهم عن طريق كتابات من أشاروا إليهم عبوراً أو من عارضوهم، إلى أن اكتشف مصادفة في اليمن قبل بضعة عقود أهم كتاب في مذهب الاعتزال وهو "المغني في أبواب التوحيد والعدل" للقاضي عبد الجبار. (3).

على العموم يعتبر "واصل بن عطاء الغزال" إذن، هو مؤسس فرقة المعتزلة. هذا وقد قال الإمام الذهبي في ترجمته في السير:"البليغ الأفوه أبو حذيفة المخزومي مولاهم البصري الغزال .. مولده سنة ثمانين بالمدينة .. طرده الحسن عن مجلسه لما قال الفاسق لا مؤمن ولا كافر فانضم إليه عمرو واعتزلا حلقة الحسن فسموا المعتزلة ". (4).

الجذور المعرفيّة لنشأة المعتزلة:

اختلف المؤرخون في بواعث ظهور مذهب المعتزلة، واتجهت رؤية من اشتغل عليهم إلى القول:

(إن نشأة الاعتزال كانت ثمرة تطور تاريخي لمبادئ فكريّة وعقديّة وليدة النظر العقلي المجرد في النصوص الدينيّة، وقد نتج ذلك عن التأثر بالفلسفة اليونانيّة والهنديّة والعقائد اليهوديّة والنصرانيّة. فقبل بروز المعتزلة كفرقة فكريّة على يد "واصل بن عطاء" كان هناك جدل ديني فكري بدأ بمقولات جدليّة كانت هي الأسس الأولى للفكر المعتزلي. على أن هناك روايةً تُرجع الفكر المعتزلي في نفيهم للصفات إلى أصول يهوديّة فلسفيّة كما ذكر أحمد أمين،  فالجعد بن درهم أخذ فكره عن أبان بن سمعان، وأخذها أبان عن طالوت وأخذها طالوت عن خاله لبيد بن الأعصم اليهودي. وقيل أيضًا: إن مناقشات الجهم بن صفوان مع فرقة السمنيّة قد أدت إلى ابتداعه لنفي الصفات، كما أن فكر يوحنا الدمشقي وأقواله تُعدُّ موردًا من موارد الفكر الاعتزالي، إذ إنه كان يقول بالأصلح، ونفي الصفات الأزليّة وحريّة الإرادة الإنسانيّة). (5).

وهناك من قال بأن سبب الاعتزال يعود لأسباب دينية وأخرى سياسيّة:

السبب الديني: وقد حدث بسبب اختلاف في بعض الأحكام الدينيّة كالحكم على مرتكب الكبيرة. كما بينا في موقع سابق من هذه الدراسة.

والسبب السياسي: (يعتقد بعض العلماء أن الداعي لظهور هذه الفرقة ظرف حضاري أو تاريخي، لأن الإسلام عند نهاية القرن الأول كان قد توسع ودخلت فيه أمم عديدة وشعوب كثيرة ودخلت معها ثقافات مختلفة وخاصة الروى الفلسفيّة لفلاسفة اليونان وغيرهم من الشعوب الأخرى الهنديّة والفارسيّة، ولم يعد المنهج النصي التقليدي النقلي يفي حاجات المسلمين العقليّة في جدالهم. لذلك بدأ التوجه نحو المنهج الطبيعي العقلاني راح يفرض نفسه سراً وعلنناً، كونه المنهج الفكري الذي أخذ يكشف التناقضات والصراعات الدائرة بين المكونات الاجتماعيّة العرقيّة والدينيّة في الخلافة الإسلاميّة.).(6).

فرق المعتزلة أصولهم وعقائدهم:

عادةً ما تبدأ الفرق في عددها وأفكارها صغيرة، ثم ما تلبث أن تتشعب وتتفرق، فتصبح الفرقة فرقاً والشيعة شيعاً، وهكذا كان الحال مع المعتزلة فقد بدأت فرقة واحدة ذات مسائل محدودة أشرنا إليها أعلاه، ثم ما لبثت أن زادت فرقها، وتكاثرت أقوالها وتشعبت، حتى غدت فرقاً وأحزاباً متعددةً، ونحاول في هذا المبحث أن نذكر بعضاً من تلك الفرق، ونقدم موجزاً تعريفيّاً بها وبمؤسسها، مع ذكر بعض أقوالها التي شذّت بها عن أصحابها المعتزلة، فمن فرق المعتزلة:

1- الواصليّة: وهم أصحاب أبى حذيفة واصل بن عطاء الغزال، كان تلميذا للحسن البصري.2- الهذيليّة: وهم أصحاب أبي الهذيل حمدان بن الهذيل العلاّف شيخ المعتزلة ومقدمهم.3- النظاميّة: أتباع إبراهيم بن يسار بن هانئ النظّام كان قد خلط كلام الفلاسفة بكلام المعتزلة. 4- الخابطيّة والحدثيّة: أصحاب أحمد بن خابط وكذلك الحدثيّة أصحاب الفضل الحدثي، كانا من أصحاب النَظَامْ وطالعا كتب الفلاسفة.5- البشريّة: أصحاب بشر بن المعتمر كان من علماء المعتزلة. 6- المرداريّة: أصحاب عيسى بن صبيح المكنى بأبي موسى الملقب بالمردار، ويسمى راهب المعتزلة.7- الثماميّة: أصحاب ثمامة بن أشرس النميري كان جامعاً بين سخافة الدين وخلاعة النفس. 8- الهشاميّة: أصحاب هشام بن عمرو الفوطي كان مبالغا في نفي القدر، وكان يمتنع من إطلاق إضافات أفعال إلى الله.(7).

عقائد وأفكار المعتزلة:

بدأت المعتزلة بفكرة أو بعقيدة واحدة، ثم تطور خلافها فيما بعد، ولم يقف عند حدود تلك المسألة (مرتكب الكبيرة)، بل تجاوزها ليشكل منظومةً من العقائد والأفكار، والتي في مقدمتها الأصول الخمسة الشهيرة التي لا يعد معتزليّا من لم يقل بها، وسوف نعرض لتلك الأصول وبعض عقائدهم الأخرى، ونبتدئ بذكر الأصول الخمسة:

1- التوحيد: ويعنون به إثبات وحدانيّة الله ونفي المثل عنه، وأدرجوا تحته نفي صفات الله، فهم لا يصفون الله بأية صفة، انطلاقاً من النص المقدس (ليس كمثله شيء)، فيقولون عن الله: لا جوهر ولا عرض ولا طويل ولا عريض ولا بذي لون ولا طعم ولا رائحة ولا بذي حرارة ولا برودة .. إلخ، أما الصفات الثبوتيّة كالعلم والقدرة والسمع والبصر فينفونها عن الله تحت حجة أن في إثباتها إثبات لقدمها، وإثبات قدمها إثبات لقديم غير الله، قالوا: (ولو شاركته الصفات في القدم الذي هو أخص الوصف لشاركته في الألوهيّة، فكان التوحيد عندهم مقتضياً نفي الصفات).

2- العدل: ويعنون به قياس أحكام الله على ما يقتضيه العقل والحكمة، وبناء على ذلك نفوا أموراً وأوجبوا أخرى، فنفوا أن يكون الله خالقا لأفعال عباده، وقالوا: إن العباد هم الخالقون لأفعال أنفسهم إن خيراً وإن شراً، قال أبو محمد ابن حزم: " قالت المعتزلة: "إن جميع أفعال العباد من حركاتهم وسكونهم في أقوالهم وأفعالهم وعقودهم لم يخلقها الله عز وجل. وأوجبوا على الخالق سبحانه فعل الأصلح لعباده"، وقال الشهرستاني:" اتفقوا - أي المعتزلة - على أن الله تعالى لا يفعل إلا الصلاح والخير، ويجب من حيث الحكمة رعاية مصالح العباد، وأما الأصلح والألطف ففي وجوبه عندهم خلاف وسموا هذا النمط عدلا "، وقالوا أيضا بأن العقل مستقل بالتحسين والتقبيح، فما حسنه العقل كان حسناً، وما قبحه كان قبيحاً، وأوجبوا الثواب على فعل ما استحسنه العقل، والعقاب على فعل ما استقبحه.

3- المنزلة بين المنزلتين: وهذا الأصل يوضح حكم الفاسق في الدنيا عند المعتزلة، وهي المسألة التي اختلف فيها واصل بن عطاء مع الحسن البصري، إذ يعتقد المعتزلة أن الفاسق في الدنيا لا يسمى مؤمناً بوجه من الوجوه، ولا يسمى كافراً بل هو في منزلة بين هاتين المنزلتين، فإن تاب رجع إلى إيمانه، وإن مات مصراَ على فسقه كان من المخلدين في عذاب جهنم.

4- الوعد والوعيد: والمقصود به إنفاذ الوعيد في الآخرة على أصحاب الكبائر، وأن الله لا يقبل فيهم شفاعة، ولا يخرج أحداّ منهم من النار، فهم كفار خارجون عن الملّة مخلدون في نار جهنم، قال الشهرستاني:" واتفقوا - أي المعتزلة - على أن المؤمن إذا خرج من الدنيا على طاعة وتوبة استحق الثواب والعوض .. وإذا خرج من غير توبة عن كبيرة ارتكبها استحق الخلود في النار لكن يكون عقابه أخف من عقاب الكفار وسموا هذا النمط وعداً ووعيداً "

5- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وهذا الأصل يوضح موقف المعتزلة من أصحاب الكبائر سواء أكانوا حكاماً أم محكومين، قال الإمام الأشعري في المقالات:" وأجمعت  المعتزلة على وجوب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر مع الإمكان والقدرة باللسان واليد والسيف كيف قدروا على ذلك، فهم يرون قتال أئمة الجور لمجرد فسقهم، ووجوب الخروج عليهم عند القدرة على ذلك وغلبة الظن بحصول الغلبة وإزالة المنكر.".

هذه هي أصول المعتزلة الخمسة التي اتفقوا عليها وعرفهم بها الفقهاء وأهل علم الكلام، وبها تميزوا عن الفرق الإسلاميّة الأخرى. (8).

وهناك عقائد أخرى للمعتزلة منها ما هو محل اتفاق بينهم، ومنها ما اختلفوا فيه، فمن تلك العقائد:

1- نفيهم رؤية الله عز وجل يوم القيامة: حيث أجمعت المعتزلة على أن الله لا يرى بالأبصار لا في الدنيا ولا في الآخرة، قالوا لأن في إثبات الرؤية إثبات الجهة لله وهو منزه عن الجهة والمكان، وتأولوا قوله تعالى:{ وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة } أي منتظرة .

2- قولهم بأن القرآن مخلوق: وقالوا إن الله كلم موسى بكلام أحدثه في الشجرة.

3- نفيهم علو الله سبحانه، وتأولوا الاستواء في قوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} بالاستيلاء .

4- نفيهم شفاعة النبي الكبائر لم يرتكبها من أمته. وقال الإمام الأشعري في المقالات: " واختلفوا في شفاعة رسول الله هل هي لأهل الكبائر فأنكرت المعتزلة ذلك وقالت بإبطاله "

5- نفيهم كرامات الأولياء، "قالوا لو ثبتت كرامات الأولياء لشبّه الولي بالنبي:. (9).

هل يجوز الخروج على الحاكم؟.

يعتبر المبدأ الأساس في ظهور فكر المعتزلة وتيارهم وهو الموقف من  (مرتكب الكبيرة). هو المبدأ الأهم في موقفهم من طبيعة السلطة الأمويّة الحاكمة آنذاك. فقضية مُرتكِب الكبيرة  ليست سوى منطلق لنشر منهج التفكير العقلاني في القضايا الدينيّة وما يترتّب على ذلك من نتائج اجتماعيّة وسياسيّة. وذلك أن التعارُض الناشئ بين أصحاب المنهج العقلي وبين المحافظين القائلين بتغليب النقل على العقل، ينطوي على أبعادٍ اجتماعيّةٍ وسياسيّةٍ محورها الموقف من الحاكم الجائر، هل يجب القيام عليه أو السكوت عنه والخضوع له.

(وكان رأي واصل ومَن جاء بعده من رؤساء المُعتزِلة هو القيام على الحاكم الظالم والمقصود يومها الحاكم الأموي. وأما رأي الحسن البصري فهو السّمع والطاعة للحاكم مهما بلغ من الجور أو الخروج على الشريعة درأً للفتنة. مع العِلم أن الحسن البصري كان يرى أن حُكم بني أميّة فيه ظلم وجور،  لكنهم أقوياء وليس بإمكان المعارضة أن تقف في وجههم ما يترتّب عليه سفك الدماء.(10).

انحسار التيار الفكري العقلاني للمعتزلة؟

أيّدّ المُعتزِلة بني العباس لمّا آلت الخلافة إليهم بعد بني أميّة. وعلا شأنهم في عهد "المأمون" حين أخذت مسألة خلق القرآن طابعاً سياسيّاً، فقد أوعز شيوخ المُعتزِلة إلى الخليفةِ "المأمون" بأن يجعلَ القول بخلق القرآن عقيدةً رسميّةَ للدولة، وأن يتتبّع كل مُعارِض لها بالقتل والحبس والجلْد وقطع الأرزاق. وقد اتّبع "المأمون" هذا السبيل في ما عُرِف بمحنة خلق القرآن. وكان أبرز مَن تعرّض للاضطهاد والحبس لرفضه هذه المقولة هو الإمام "أحمد بن حنبل". واستمرت هذه المحنة في أيام المعتصم والواثق، ثم انقلب عليهم الخليفة "المتوكّل" كما هو معروف تاريخيّاً، ووضعَ حداً لنفوذهم عند استلامه الخلافة 232هـ.

ومنذ ذلك الحين أخذ تيارهم الفكري ينحسر حتى كاد يتلاشى، إلى أن عاد للظهور على نحوٍ متواضعٍ في تاريخنا الحديث والعاصرِ، ولكن بثوب جديد تأثر كثيراً بمسألة الحداثة وأفكار عصر التنوير ومناهج البحث العلمي.

ملاك القول: رغم أن المعتزلة اشتغلوا على العقل وقاسوا عليه صحيح الدين، مثلما قاسوا عليه التحسين والتقبيح لأفعال المسلمين، وحملوهم مسؤوليّة أفعالهم، وانتقدوا الحاكم الفاسد ودعوا إلى ضرورة الخروج عليه، إلا أنهم من حيث المبدأ لم يستطيعوا الخروج من عباءة الفكر اللاهوتي الغيبي في نقاشهم لقضايا لا يعلم بها إلا الله، وهم لا يختلفون عن الجبريّة في نقاشهم لها وردهم على معتقداتهم، كالحكم على مرتكب الكبيرة، وخلق القرآن، والصفات وغيرها من قضايا لا يمكن للبشر البت بها كونها خارج قدرتهم أو درايتهم، وعل هذا الأساس ظل العقل عند المعتزلة رهين الفكر اللاهوتي، وحبيس الاستنتاجات المنطقيّة الوصفيّة الصوريّة والحدْسيّة، وبعيداً إلى حد بعيد عن التجربة والحسيّة والمنهجيّة، والجرأة في النقد، لذلك ظل عقلاً بائساً وشقيّاً وخائفاً ومرتجفاً من قول الحقيقة. لا شك أن الظروف التي وجد فيها المعتزلة تحت مظلة سيف الخلافة الإسلاميّة التي كانت تقمع كل رأي يعمل على انتقاد سياسة الحاكم، أو مخالفة المبدأ العقيدي الذي يؤمن به هذا الحاكم أو ذاك، وأن الحكم على المختلف كانت قاسية ومخيفة، والمعتزلة ممن انتقدوا الحاكم وخالفوا موقفه في فهم العقيدة  وخاصة زمن الدولة الأمويّة، وبعد استلام المتوكل الخلافة ومن جاء بعده في العصر العباسي، لذلك حوربوا وحرقت كتبهم وسجنوا.

مع تاريخنا الحديث والمعاصر، ظهر العديد من الكتاب والمفكرين العرب والإسلاميين الذين تبنوا العلمانيّة في اشتغالهم على قضايا النهضة والفكر النهضوي، وكان للخطاب الإسلامي مجالاً حيويّاً واسعاً في الساحة الثقافيّة، حيث أصبح له حيزاً واسعاً في دراساتهم، من الطهطاوي وخير الدين التونسي إلى اليوم، إلا أن الملفت للنظر، أن الكثير ممن اشتغل على الفكر العقلاني التنويري الذي آمن به المعتزلة، ظل محكوماً أيضاً بظروف سياسيّة وفكريّة لم تبتعد كثيراً عن ظروف فلاسفة العصور الوسطى، ومفكري المعتزلة رغم ظهور الدولة الحديثة، فالكثير منهم عمل على أسلمة أفكار عصر التنوير الأوربي، كمفهوم الحريّة والعدالة والاشتراكيّة والمساوة وغيرها من أفكار اشتغل عليها الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، والكواكبي، ومنهم من حاول إعادة قراءة التراث العربي والإسلامي والنص المقدس بمناهج التفكير العلمي دون المساس بقدسيّة النص، بقدر ما عملوا على إعادة تأويله وتفسيره وفقاً لمناهج العصر التي طرحها الغرب كطه حسين وعلي عبد الرازق، وحامد أبو زيد، والجابري، والطيب تيزيني، وجلال صادق العظم وغيرهم الكثير، وبعضهم حاول الولوج أعمق في انتقاد التراث، كالسيد القمني وفرج فوده وغيرهما.

على العموم أقول: إن معظم من اشتغل على تبني العلمانيّة والحداثة، في انتقاد التراث من مفكرينا المحدثين والمعاصرين لم يستطيعوا أن يكونوا عقلانيين نقديين أيضاً في نقدهم للتراث الفكري الإسلامي ومن ضمنه النص المقدس، لأن سيف السلطات الحاكمة ظل مسلطاً على رقابهم وأبواب السجون مفتوحة بشكل دائم أمامهم أيضاً، كونهم - أي السلطات الحاكمة - لا تريد إلا من يتاجر بالدين ويوظفه لمصلحتها، ويعمل على تجهيل الشعب وإبعاده عن فهم قضاياه المصيريّة ومعرفة ظلمته ومستبديه. لذلك كل من اشتغل على العقل النقدي هنا، أقصي من الحياة الثقافيّة أو التعليميّة، أو سجن وأبعد عن وطنه أيضاً. وإن عقلانيته ظلت عند الكثير منهم عقلانيّة خائفة ومرتجفة وبائسة ومرتجلة وتوفيقيّة/ تلفيقيّة، وغالباً ما تحتمي بالنص المقدس وأقول فقهاء ومتكلمي العصور الوسطى القريبة في منطقها إلى العقلانيّة لتبرير أطروحاتهم وحماية أنفسهم من السلطات الحاكمة المستبدة ومشايخ السلطان.

***

د. عدنان عويّد - كاتب وباحث من سورية.

................................

1- (موقع إسلام ويب - العقيدة الإسلامية أديان وفرق ومذاهب).

2- (موقع اليوم السابع - محمد عبد الرحمن - من هم "المعتزلة" ومتى ظهروا وهل كفرهم أهل السنة والجماعة؟ - ).

3- الويكيبيديا . بتصرف.

4- (موقع إسلام ويب - العقيدة الإسلامية أديان وفرق ومذاهب).

5- (موقع الألوكة الشرعية التعريف بالمعتزلة ).

6- (موقع – الوكيبيديا.).

7- (للاستزادة في معرفة فرق المعتزلة وعقائدهم يراجع موقع - موقع إسلام ويب -(العقيدة الإسلامية أديان وفرق ومذاهب).

8- ).(راج كتاب الامام أبي الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرساتاني – الملل والنحل دار الكتب العلمية – فرقة المعتزلة.). (ويرجع أيضاً كتاب حسين مروة – النزعات المادية في الفلسفة الإسلامية – دار الفارابي بيروت -  1980 - الجزء الثاني – ص  631وما بعد.).

9- (موقع إسلام ويب - العقيدة الإسلامية أديان وفرق ومذاهب - فرق المعتزلة أصولهم وعقائدهم). و(يراجع أيضا موقع الويكيبيديا الدراسة الرائعة حول عقائد المعتزلة.).

10- (موقع الميادين – المعتزلة - صالح الأشمر).

 

(استعراض لنظرية شبكة الفاعلين)

” وعلى كلٍّ فإن (الشيءُ) يستردُ سيطرته على الإنسانِ في مجتمع ما بعد التحضرِ، حيث يتمتعُ هذه المرة (شأنه شأن كل مجتمعٍ استهلاكيٍ) بعالمٍ مثقلٍ بأشياء، بيد أنها أشياء خامدة وخالية من الفعاليّة الاجتماعيّة “ (مالك بن نبي: مشكلات الحضارة - مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي).

” هناك "عالم الأشياء" ويشمل كل الوسائل المادية التي تُنتجها الحضارة، وهناك "عالم الأفكار" الذي يظل مزدهراً لينتج كل تقدم في المجالات المختلفة، ويظل عالم الأفكار في حركية وتدافع وإنتاج وإعمار لعالم الأشياء إلى أن يتمكن (الشيء) من (الفكرة) ويطغى عليها فيؤدي إلى جمودها وسكونها، ولا فرق بين البلاد المتخلفة والمتقدمة في مفهوم طغيان عالم الأشياء لأنه لأسباب عديدة، منها عصور الاستعمار، أصبح التماثل والتشابه كبيراً إلى حدٍ ما، وتطابقت مظاهر المنتج والمستهلك، فأصبح الشيء يطغى في البلاد المتخلفة بسبب ندرته، ويطغى في البلاد المتقدمة بسبب وفرته، فيؤدي هنا إلى عقدة الكبت والميل نحو التكديس، ويؤدي هناك إلى نوعٍ من الإسراف والتشبُّع “ (مالك بن نبي: مشكلات الحضارة - مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي).

كما هو معلوم لدينا أن النظريات النقدية اختلفت في رؤيتها لمشروع الحداثة، نجد أنها اختلقت أيضاً في رؤيتها لمفهوم ما بعد الحداثة، لكن هذه الرؤية - في وقتنا المعاصر - أقل إيديولوجية وتشنجاً، وأكثر مصداقية وقابلية للتعميم من ذي قبل، وتنطلق من مقولة أساسية أن التكنولوجيا هي التي تشكيل عالمنا الاجتماعي، أو كما يقال: التكنولوجيا هي محرك التغير، والمعرفة وقودها. وهكذا أصبحت معظم النظريات والمقاربات السوسيولوجية في مرحلة ما بعد الدولة القومية تركز على التكنولوجيا أكثر من الإنسان، إذ يجري الحديث عن سوسيولوجيا المعلومات والمعرفة ومجتمع الشبكة وثورة التكنولوجيا، فهي بهذا مشغولة ببنية هذه الثورة وطبيعتها، أكثر مما هي مشغولة بعالم الإنسان، ولعلها لن تكون قادرة على قراءته تماماً، بالنظر إلى أن ثورة المعلومات جعلت المجتمع في حالة من التغير اللا مستقر والثورة الدائمة. هذه هي إحدى التحديات المعرفية التي تواجه علم الاجتماع الجديد، وهي سرعة تغير المعرفة السوسيولوجية وتقادمها، من جهة، وفقدان القدرة على التنبؤ الاجتماعي، من جهة أخرى، ودخول المجتمع في مرحلة من التغيير أشبه ما تكون بالثورة التكنولوجية الدائمة، التي لا تخدم النظام، بل تدمره تدميراً خلاقاً، وتبعث عن هذا التدمير الخلاق مجتمعاً، تصبح فيه ثورة المعرفة هي النظام والإبداع، والثبات هو الفناء. إن جنون التكنولوجيا هو عنوان هذا التغيير، ودراسة أثرها على تشكيل السلوك  الإنساني وإعادة إنتاجه بأنماط مختلفة هو موضوع العلوم الاجتماعية في الوقت الراهن.

يحاول التحليل ما بعد الاجتماعي تطوير فهم للتغيرات الحالية في العلاقات الاجتماعية بشكل عام. إن ما تطمح إليه نظرية ما بعد الاجتماعية هو تحليل ومناقشة البيئة التي تم من خلالها تحييد مضامين المبادئ والبنى الاجتماعية التقليدية، لتحل محلها العناصر والعلاقات الأخرى. وعلى الرغم من أن الإنسان كائن اجتماعي بطبعه، فإن طبيعة العلاقات والبنى الاجتماعية في حالة تغير دائم في الآونة الأخيرة بفعل التغيرات والتطورات التكنولوجية، التراكمية التي شهدها الواقع المجتمعي. وعلى العموم، يحاول مصطلح ما بعد الاجتماعي من خلال نظرية شبكة الفاعلين تسليط الضوء على التحولات المعاصرة التي تتحدى المفاهيم الأساسية للتفاعل البشري والتضامن والتعاون الإنساني، والتي تشير إلى ما بعد فترة التكوين الاجتماعي.

نشأت نظرية شبكة الفاعلين من خلال الدراسات الفرنسية والبريطانية، التي تبحث في علم اجتماع العلوم والتكنولوجيا بدءاً من عقد الثمانينيات في القرن المنصرم. وكان من أبرز الباحثين الأوائل في هذا المجال: برونو لاتور (Bruno Latour)، وجون لو (John Law). اعتمدت هذه نظرية في مرجعيتها الفلسفية والمعرفية على دراسات العلوم والتكنولوجيا، والأنظمة التكنولوجية الكبيرة، وعلى أعمال عدد من المثقفين الفرنسيين المعاصرين لفهم طريقة البشر وتفاعلاتهم مع الأشياء غير الحية. ومنذ التسعينيات فصاعداً، أصبحت نظرية شبكة الفاعلين شائعة كأداة للتحليل في مجموعة من المجالات خارج نطاق دراسات العلوم والتكنولوجيا، مثل:  التحليل التنظيمي والمعلوماتية والدراسات الصحية والجغرافيا وعلم الاجتماع والانثروبولوجيا والدراسات النسوية والاتصالات التقنية، الاقتصاد.

ينظر في الآونة الأخيرة إلى نظرية شبكة الفاعلين باعتبارها منهج جديد ومعاصر في علم الاجتماع غرضها دراسة الوضعيات الاجتماعية ومبدؤها اعتبار العوامل من أشياء وأفكار وعمليات وغيرها فواعل إلى جانب الإنسان، مما أدى إلى الاستغناء عن مفهوم القوى الاجتماعية. أي إنها تنظر إلى العوامل المادية (بين الأشياء) والمعنوية ( نظام العلامات " السيميوطيقية " بين المفاهيم) على حد سواء.

تبحث النظرية المعاصرة في القرن الواحد والعشرون عن مدى تأثير العلم والتكنولوجيا على المجتمعات المعاصرة. فبينما تعاملت النظريات الاجتماعية السابقة مع العلم باعتباره واحداً من العديد من المؤسسات الاجتماعية، فإن النظريات المعاصرة للعلم والتكنولوجيا تُعامل العلم باعتباره قوة مركزية في تكوين وبناء المجتمعات الإنسانية. وبالأخص في مجال التنمية، وفي هذا السياق سنحاول استعراض نظرية شبكة الفاعل والنظريات ذات الصلة لما بعد الإنسانية وما بعد الاجتماعية.

ففي السبعينيات القرن الماضي، وظّف روبرت ميرتون " منهجه البنائي الوظيفي " لدراسة العلوم وتأثيرها على الواقع الاجتماعي وإعادة بنائه، لقد عامل العلم كمؤسسة اجتماعية (متغير مستقل) متوسطة المدى تحكمها الأنماط. بينما لا يرى منظّرو شبكة الفاعلين أن العلم واحد من المؤسسات الاجتماعية المستقلة المتاحة للتحليل الاجتماعي. بل ينظرون إلى العلم على أنه شكل من أشكال المعرفة والممارسة الأساسية والمحورية التي تنظم المجتمع بشكل متزايد وتشكل الهويات. ولمواجهة العلاقات المتداخلة بين العلم والتكنولوجيا والمجتمع، كان على علماء العلوم والتكنولوجيا تطوير لغات نظرية جديدة. ومن ثم يعاد التفكير في المجتمع من خلال عدسة العلم.

تعتبر نظرية شبكة الفاعل هي واحدة من أفضل الأمثلة على الطريقة التي أدت بها الدراسة الاجتماعية للعلوم إلى إعادة التفكير في النظرية الاجتماعية. بينما نراجع في هذا القسم عدداً من مفاهيم شبكة الفاعل، فإن الفكرة الأكثر أهمية هي أن المجتمع لا يتكون من فاعلين بشريين وحدهم. ويرى لاتور أن المجتمع المعاصر هو إنجاز يجمع بين الفاعلين من البشر وغير البشر مثل: (الحيوانات الأليفة، والإلكترونات، وأجهزة الكمبيوتر، والهواتف الذكية، وما شابه ذلك....) في الجماعة.

في هذا السياق يستبدل لاتور مصطلح (المجتمع) بمصطلح (الجماعي)، لأن " المجتمع "، على الأقل كما هو مفهوم تقليدياً، يعني وجود بعض الكيانات المتعالية التي توجه الفعل البشري من الخارج. هنا ينتقد بشكل خاص مفهوم دوركايم للحقيقة الاجتماعية والذي، على حد قوله، قام عليه الكثير من علم الاجتماع المعاصر والنظرية الاجتماعية.

فقد أصبح تطبيق العلم والتكنولوجيا، أو علم التكنولوجيا، أمر حاسم لتشكيل هذه الجماعات الشبكية لأنها تسمح للممارسين بالجمع بين الجهات الفاعلة في مجموعات لم يكن بالإمكان تصورها من قبل. فعلى سبيل المثال، استطاع علماء الأحياء باستخدام مجهر عالي القدرة " اكتشاف "، ومن ثم " توظيف " عامل بيولوجي جديد في التأثير الجماعة، كما هو الحال في جائحة كورونا التي اجتاحت العالم عام 2020، مما انعكس هذا التركيز على التواصل بين العملاء من البشر وغير البشر أيضاً في نظريات ما بعد الإنسانية وما بعد الاجتماعية.

ترى نظرية شبكة الفاعل بأن الكيانات أصبحت تأخذ شكلها وتكتسب سماتها نتيجة لعلاقاتها مع الكيانات الأخرى. في مخطط الأشياء هذا، ليس للكيانات صفات مـتأصلة. إن الموضوعات المادية ينظر إليها على أنها تُنشئ وتكتسب معنى في شبكة من العلاقات مع الموضوعات الأخرى.

يمكن فهم نظرية شبكة الفاعل على أنها سيميائية (علم العلامات أو الإشارات) مادية. إنها تأخذ الرؤية السيميائية - تلك المتعلقة بنسبية الكيانات، وفكرة أنها تُنتج في علاقات - وتطبق هذا بلا تردد على جميع المواد وليس فقط المواد اللغوية.

هذا المنظور مستمد أكثر من البنيوية، ولكن يتم أخذ وجهات نظر شبكة الفاعل الأساسية الأخرى من نظريات ما بعد البنيوية. أي إن الكيانات تفتقر إلى الصفات المتأصلة، وما هي عليه نتيجة علاقتها بالكيانات الأخرى. وبعبارة أخرى، لا يوجد جوهر لأي كيان أو كائن مادي، بما في ذلك الناس. بالإضافة إلى ذلك، تعارض شبكة الفاعل الفكرة الحديثة جداً للبحث عن الأصول، سواء في التاريخ أو ما يقابله في الوقت المعاصر فكرة أن العوامل البشرية هي أصل كل شيء. وكما هي الحال مع ما بعد البنيوية (وما بعد الحداثة)، فإن شبكة الفاعل أيضاً معارضة للتأسيسية - أي إنها تعارض فكرة أن تحت كل شيء يوجد بناء أساسي وأن مهمة المحلل هي الكشف عن تلك البنية.

ومع ذلك، فإن المفهوم البنيوي الذي يذهب إلى جوهر شبكة الفاعل لا مركزي. بشكل عام، هذا يعني تحويل التركيز من المركز (أو الجوهر، أو الأصل، وما إلى ذلك) إلى الهامش. بشكل أكثر تحديداً، يعني هذا في شبكة الفاعل، التحول من التركيز على اتخاذ الفاعلين بعض الإجراءات إلى التركيز على ما هو موجود، وخاصة الشبكات والكيانات غير البشرية. وهنا يصبح الفاعل جزءاً من الشبكة، أي يمكننا التفكير فيما يتعلق بتحويل " الفاعل" إلى " شبكة ".

بذلك يصبح الفاعلون عبارة عن تابعين للشبكات، وبطريقة ما، هم نتاج الشبكات: الفاعلون هم تأثيرات الشبكة، إنهم يأخذون سمات الكيانات التي تشملهم ينتقل التركيز من الاهتمام الحديث بالفاعل إلى الشبكة، والأشياء، والكيانات غير المادية.

إن إحدى أبرز مساهمات شبكة الفاعل أنها فتحت العلوم الاجتماعية لغير البشر. وهكذا أصبحت علاقة غير البشر بالبشر جانباً مهماً فيما تسميه كنور ستينا العلاقات ما بعد الاجتماعية. بذلك بات غير البشر  أي الأشياء الأخرى شركاء أدنى للإنسان. وهذا يعني أن ليس البشر فقط الذين يتصرفون بل يمكن للكيانات غير البشرية التصرف أي يمكن أن تكون فاعلة ونتيجة لذلك، يجب استخدام الإطار التفسيري نفسه للفاعلين من كلا النوعين.

إن الفاعلية ليست ما يفعله الفاعل، بل ما يزود الفاعلين بأعمالهم، وذاتيتهم، وقصدهم، وأخلاقهم عندما تعمل مع هذا الكيان الدوري فإنك تحصل جزئياً على الوعي والذاتية والشخصية وما إلى ذلك أن تصبح فاعلاً  هو إنجاز محله هذا الكيان فقط.

وهكذا، لا يمكن فهم الجهات الفاعلة (أو الفاعلين) بمعزل عن الشبكات التي توجد فيها والتي هم جزء منها. في الواقع الفاعل والشبكة وجهان لظاهرة واحدة. ولهذا فإن منظِّري شبكة الفاعل يسعون إلى تجاوز الانقسامات التكامل الجزئي – الكلي، وصفة الفاعل – البنية التي ميزت الجانب الأكبر من النظرية الاجتماعية.

بناءً على ما سبق، يسعى كراو فورود إلى تعريف الشبكات وربطها بالفاعلين، ويرى أن الشبكات هي أنشطة متراكبة، يقوم بها فاعلون هي من تكونهم. وهذا يعني أن الشبكة ليست مجتمعاً أو مجالاً مجهولاً للقوى ولكنها مجموع التفاعلات من خلال أنواع مختلفة من الأجهزة، والنقوش، والأشكال، والصيغ في موضع محلي، عملي للغاية، وصغير جداً. لذا فإن التركيز على الشبكات يؤدي إلى الاقتراب أكثر من المحلي، بدلاً من الابتعاد عنه. فمن السهل التفكير في أن الفاعلين البشريين يشاركون في مثل هذه الأدائية، لكن شبكة الفاعل تتجاوز ذلك لرؤية الكيانات المادية على أنها تتميز بالأداء. وهذا يعني أن ما يميز نظرية شبكة الفاعل هو اهتمامها بالكيانات المادية، التي تشارك في توليد المعلومات، وعلاقات القوة، والموضوعات الذاتية والموضوعية. وهكذا، يُعتبر غير البشر مشاركين نشطين في الشبكات، وفي العلاقات الاجتماعية. مثال: كيف تكون أشياء مثل السجاد والديكور أدائية الطابع.

لكن هذا الإطار التفسيري يتجنب أي فصل بين المادة والرمزية من خلال اقتراح العوالم كنتائج للمشاركين الذين إما يقاومون أو يتواءمون بشكل متبادل، حيث تذهب المشاركة إلى ما هو أبعد من البشر لتشمل غير الأحياء كنشطين في أعمال روتينية (وجديدة)، والتي تشكل العالم.

يرتبط تطور نظرية شبكة الفاعلين بأفكار ما بعد الإنسانية وما بعد الاجتماعية. يتم تعريف ما بعد الإنسانية " من خلال معارضتها للإنسانية، وكذلك تجاوزها. إنها ترفض مفهوم انفصال البشرية عن العالم غير البشري... وتقسيم المعرفة إلى مجالات منفصلة ". لأن الإنسانية تكمن في جوهر علم الاجتماع، وخاصةً التخصصات الاجتماعية الدقيقة، وتشكل ما بعد الإنسانية تحدياً كبيراً لهذا المجال. ومع ذلك، يمكن أن ينظر إليها على أنها فرصة لتوسيع علم الاجتماع بما يتجاوز الجهات البشرية الفاعلة إلى مجموعة واسعة من الظواهر الأخرى وإشراكهم جميعًا في إطار واحد.

تشكل فكرة ما بعد الاجتماعية تحدياً موازياً للأفكار التقليدية في المجتمع قد تستمر الاجتماعية، لكنها تتناقص في أهميتها (يتم تفريغ الأشكال الاجتماعية من العلاقات الاجتماعية) ويتم اتخاذ أشكال جديدة. من بين الأشكال الجديدة العلاقات الناشئة مع التوسع الهائل للأشياء في العالم المعاصر مثل التقنيات والسلع الاستهلاكية وكيانات المعرفة.

إن العلاقات ما بعد الاجتماعية هي روابط بشرية متصلة بعلاقات مع الموضوعات، ولا تتشكل إلا فيما يتعلق بهذه العلاقات... ما بعد الاجتماعية هو ما يمكن أن نسميه مستوى من الهدف المشترك الذي لم يعد قائماً على أساس التفاعل وجهاً لوجه وقد لا ينطوي في الواقع على تفاعل على الإطلاق، وأنظمة ما بعد الاجتماعية قد تنشأ حول نوع الارتباط الذي تم تمكينه بواسطة الإنترنت. فالأشكال اللاحقة للبحوث الاجتماعية ليست ثرية اجتماعياً بالمعنى القديم، لكنها قد تكون ثرية اجتماع بطرق أخرى، والتحدي هو تحليل وتنظير هذه التكوينات الجديدة.

يرتبط ظهور عدد متزايد من العلاقات ما بعد الاجتماعية بتطوير أنواع جديدة من إعدادات العمل والاستهلاك. أحد الأمثلة على الأمر الأول هو " المنظمات الافتراضية " التي تفتقر إلى المقر الرئيسي حيث يمكن للعمال أن يتجمعوا ويتفاعلوا للتعامل مع المهام المتعلقة بالعمل، وكذلك الانخراط في العلاقات الاجتماعية. في المنظمات الافتراضية، يتفاعل العمال وحدهم إلى حد كبير على أساس محدود أكثر بكثير مع العمال الآخرين، ومع الرؤساء، عن طريق الهاتف أو البريد الإلكتروني أو الزيارات القليلة المباشرة وجهًا لوجه.

هناك العديد من الأمثلة على مثل هذه العلاقات ما بعد الاجتماعية في مجال الاستهلاك. على سبيل المثال، بدلاً من التفاعل مع الصرافين في أحد البنوك، من المحتمل بشكل متزايد أن نتفاعل مع أجهزة الصراف الآلي أو شراء الكتب عبر الإنترنت. في مثل هذه الحالات، تحل التقنيات والكيانات الأخرى محل البشر كشركاء في العلاقة أو تعمل كوسيط في العلاقات بين الناس. غالباً لا يتاح لنا الآن التحدث إلى إنسان حقيقي قبل أن نكون قد استنفدنا كل الخيارات المتاحة عبر الرسالة الهاتفية المسجلة آلياً.

وهذا بطبيعة الحال، الإنترنت هو مثال على ما بعد الاجتماعية بامتياز. نحن نتفاعل مع لوحات المفاتيح، وشاشات الكمبيوتر، ومواقع الويب، والبريد الإلكتروني، وغرف الدردشة، والألعاب الجماعية متعددة اللاعبين، وما إلى ذلك. في بعض الحالات، قد تتضمن علاقات الإنترنت التفاعلات وجهاً لوجه (أحياناً ما تكون لها عواقب خطيرة)، ولكن أياً تكن العلاقات البشرية الموجودة على الإنترنت، فإنها غالباً ما تحدث عبر وساطة مجموعة واسعة من التقنيات المرتبطة به.

خلاصة القول، هذا التحول ما بعد الاجتماعي، والذي يشار إليه في مكان آخر من خلال دراسات العلوم والتكنولوجيا، ونظرية شبكات الفاعلين والعلم التكنولوجي، وما بعد الإنسانية، يدعو الباحثين إلى إبعاد الإنسان باعتباره نواة الحياة الاجتماعية وبالتالي الاعتراف بأهمية الفاعلين غير البشر (مثل الحيوانات، التكنولوجيا) ضمن التحليل السوسيولوجي (ما بعد الاجتماعي).

أهم ما يؤخذ على هذه النظرية أنها تجاهلت تماماً قضايا النزعة الداخلية للإنسان مقابل النزعة الخارجية وجعلته مسلوب الإرادة والحرية بل جعلت منه عبداً مُسَيِّراً بأسلوب حضاري قائم على مفرزات العقلانية التكنولوجية والذكاء الاصطناعي، كما أنها تتسم بالغموض في تحديد مفاهيمها ومصطلحاتها في ظل غياب شبه تام لوضوح مقولاتها النظرية مما أفقدها القدرة على تفسير الواقع الاجتماعي بشكل موضوعي لأنها جعلت الإنسان تابعاً لعالم الأشياء التي يمتلكها بل أصبحت هي من تمتلكه.

***

د. حسام الدين فياض

الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة

قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً

........................

- مراجع المقال:

1. جورج ريتزر، جيفري ستيبنسكي: النظريات الحديثة في علم الاجتماع، دققه وراجعه علمياً: ذيب محمد الدوسري وآخرون، مكتبة جرير والجمعية السعودية للدراسات الاجتماعية، الرياض، ط1، 2021.

2. عبد القادر عرابي: علم الاجتماع والعالم الجديد- مقاربة نظرية ومنهجية جديدة، دار الفكر، دمشق، ط1، 2018.

3. مالك بن نبي: مشكلات الحضارة – مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، ترجمة: بسام بركة وأحمد شعبو، إشراف وتقديم: عمر مسقاوي، دار الفكر، دمشق، ط2، 2002.

4. George Ritzer: Postmodern Social Theory, Rawat Books, India, 1st ed, 2019.

5. Michelle Garbriel & Keith Jacobs: The Post-Social Turn: Challenges for Housing Research, Volume 23, Issue 4, Housing Studies, Received 01 Nov 2007, Published online: 11 Aug 2008, PP.(527-540).

https://www.tandfonline.com/doi/full/10.1080/02673030802101666

6. Karin Knorr Cetina: Post social, Encyclopaedia of Social Theory, Edited by: George Ritzer, SAGE Publications, Inc., 2005, Online pub date: September 15, 2007. https://sk.sagepub.com/reference/socialtheory/n223.xml

7. Charlotte Nickerson: Latour’s Actor Network Theory, Simply Sociology, May 12, 2023. https://simplysociology.com/actor-network-theory.html

 

مقدمة: سلافوي جيجيك هو محلل نفسي وفيلسوف. لقد كان الجهل شبه الكامل للفرنسيين لفترة طويلة هو أن سلوفينيا كانت موطنًا لأحد أكثر المثقفين شعبية في العالم، وكان بالفعل يحظى باحترام كبير في أوروبا الشرقية والولايات المتحدة. ثم، منذ عام 2005، أصبح سلافوي جيجيك صوتًا متزايد الأهمية في المشهد الفكري لدينا. منذ كتابه الأول "الذاتية القادمة"، الذي نشرته مجلة "مناخات"، عرفنا سلافوي جيجيك بتفكيره الابتكاري، ونظرته النقدية والساخرة التي يلقيها على الغرب، وعلى وجه التحديد على اقتصاد السوق، الذي يميل مؤخرًا إلى غزو الفكر والثقافة. فيما يلي نظرة عامة، بفضل مراجعات بعض الكتب، والتي أكررها هنا بالكامل ليفتح.

أولا: اللاتسامح الذي لا تسامح معه

سلافوي جيجك من خلال أعماله المستنيرة دائمًا، وعلى هامش "التفكير الصحيح"، يعلمنا سلافوي جيجك أن الفيلسوف ليس بالضرورة محبوسًا في برجه العاجي، أو ليس بالضرورة رابضًا آمنًا في مكتبه، مدفونًا تحته. محيط من الكتب. وهو أمر مشجع للغاية.   مؤلف بالفعل في مناخات الذاتية في المستقبل (2004) وفي إصدارات أمستردام من يقول لك الشمولية؟ (2004) من بين أمور أخرى، يعتمد المحور المركزي لعمل هذا المفكر الثوري على تعريف مصطلحات سياسة التحرر الحقيقية. سوف نفهم بعد ذلك سبب كون سلافوي جيجيك عزيزًا جدًا علي. ولهذا السبب، هذا ما أجده شخصيًا قويًا جدًا، إنها الفكرة التي طرحها، أي أن جرعة قوية من التعصب ضرورية لتطوير نقد مناسب للنظام الحالي للأشياء. أتصور أن مصطلح "التعصب" سيزعج البعض! هذه فكرة أكثر إشكالية لأن العصر الحالي يميل إلى شيطنة أي فكر يميل إلى الارتفاع إلى ما هو أبعد من معيار "التفكير الصحيح" المحدد جيدًا والذي طوره رقباء الأخلاق، وحراس "التسامح" و"الصواب السياسي". ". وأشعر أنني بالتأكيد سأوصف بـ "رد الفعل" في نهاية هذا المقال!

ومع ذلك، دعونا نجرؤ على السؤال: ما الذي يختبئ حقًا وراء لغة التسامح المعاصرة الصامتة؟ يجيب سلافوي جيجيك بالإشارة إلى ما هو مخفي وراء مبدأ التساهل هذا: أي عملية عدم التسييس المعممة. التعددية الثقافية غير المسيسة هي الأيديولوجية الجديدة للرأسمالية العالمية. لذلك، يدين سلافوي جيجيك أولاً الخداع المنافق العميق الموجود في الفكرة التي يتم قصفها في كل مكان اليوم، والتي مفادها أن الخطر الأكبر يكمن في مختلف أشكال التعصب، ذات الطبيعة العرقية أو الدينية أو الجنسية. ثم يندد بالاختلالات التي تعاني منها مجتمعاتنا الحديثة. وعلى حدود الفلسفة والتحليل النفسي، يتناول موضوعات واسعة النطاق مثل: لينين، والأوبرا، وشيلنغ، وديفيد لينش، وماركس، وكيسلوسكي، وهيجل، وماتريكس، وأوعية المراحيض، وحتى 11 سبتمبر. كتاب لا يمكن أن يؤجل أي شخص بفضل سهولة الوصول إليه. من المؤكد أن نثر سلافوي جيجيك جذري، لكنه يعيدنا بقوة إلى مساءلة عصر خصب بالتناقضات. لقد ولّى المطلب الحديث المطلق بـ"الصواب السياسي" و"التسامح". يخاطر سلافوي جيجيك دون خوف بإعادة صياغة التعريفات الدقيقة للمصطلحات التي تتطفل عليها المفردات الفكرية التي تجعل استخدام مفاهيم مثل كلمة "الشمولية" أو "الفاشية البدائية" غير لائق، وهي مصطلحات تستخدم كثيرًا اليوم لشيطنة أطروحة غير مقبولة بشكل جيد. وبالتالي فإن الأمر يتعلق بإعادة التأكيد على استخدام المشاعر السياسية القائمة على الخلاف، واستخدام التعصب للتشكيك في عصرنا الغريب. "بحسب المعايير السياسية التقليدية، لا شك أننا نعيش في زمن غريب. دعونا ننظر إلى الشخصية النموذجية لليمين المتطرف اليوم، الميليشيات الأصولية الألفية في الولايات المتحدة. ألا تظهر في كثير من الأحيان كنسخة كاريكاتورية للجماعات الانفصالية الصغيرة التابعة لليسار المتطرف في الستينيات؟ في كلتا الحالتين، نحن نتعامل مع منطق جذري مناهض للمؤسسات: العدو النهائي هو جهاز الدولة القمعي (مكتب التحقيقات الفيدرالي، الجيش، النظام القضائي) الذي يهدد بقاء المجموعة نفسها، المنظمة كهيئة منضبطة للغاية من أجل أن تكون قادرة على البقاء. لتحمل هذا الضغط. والعكس تمامًا لذلك كان يساريًا مثل بيير بورديو الذي دافع عن فكرة أوروبا الموحدة باعتبارها "دولة اجتماعية" قوية، "تضمن الحد الأدنى من الحقوق الاجتماعية والضمان الاجتماعي ضد هجوم العولمة": من الصعب الامتناع عن السخرية في مواجهة الفكر اليساري المتطرف الذي يرفع الأسوار ضد القوة العالمية المسببة للتآكل لرأس المال التي أشاد بها ماركس." ومن ثم نفهم أن النموذج السائد للتسامح المتعدد الثقافات الذي نتعامل معه اليوم ليس بريئًا كما نريد أن نجعله يعتقد، وأن عالم ما بعد السياسة الذي نعيش فيه يقوم على ميثاق اجتماعي أساسي لا تنطلق منه القرارات الاجتماعية. لم يعد موضوع النقاشات والصراعات السياسية، الأمر الذي دفع سلافوي جيجك إلى استخدام العديد من الأدوات الفلسفية من أجل تفكيك الأفكار المسبقة وتسليط الضوء على المستنقع الأيديولوجي الذي نحن منغمسون فيه: أدواته الرئيسية هي الديناميت، والمفارقة، والتوفيق بين الأضداد، وليس الديناميت. لنذكر الفكاهة، الفكاهة التي كان يمتلكها سقراط بالفعل في عصره. في الواقع، ضد الفكر الواحد، والتسمم الطوعي للجماهير من قبل المجتمع المذهل، لا ينبغي أن يكون هناك بيت للتسامح.

ثانيا. مرآة الواقع

سلافوي جيجك عندما استقبل زعيم المتمردين مورفيوس نيو، بطل فيلم ماتريكس (على الرغم منه)، ينطق هذه الجملة غير المفهومة: "مرحبًا بكم في صحراء الواقع". هذه هي الطريقة التي يمكننا بها على الأرجح وصف العالم الحقيقي، الذي ظل يعتقد أنه حقيقي حتى ابتكر محاكاة، تم إنشاؤها بواسطة جهاز كمبيوتر عملاق، لكون دمرته حرب ذرية منذ فترة طويلة. «صحراء الواقع»: منذ ذلك الحين، ظلت هذه الصيغة تطاردنا، إلى حد أن جيجك يستخدمها كصيغة خاصة به، لوصف عصر «ما بعد الحداثة»، والنظام العالمي الجديد، وتفكك الديمقراطية التي شهدت تفككًا ديمقراطيًا. إن المأزق العدمي، وأيديولوجيته المتعددة الثقافات وتسامحه الذي يطرح كشعار يجب انتقاده، بل ومحاربته. هذه هي الطريقة التي يمكننا بها بالتأكيد تقديم هذه السلسلة من المقالات المتنوعة حول إخفاقات عصرنا، وخاصة الخيال الغربي فيما يتعلق بتمثيلاته الأيديولوجية الدائمة مثل هوليوود، والبنتاغون، أو حتى اليسار الأوروبي والأمريكي.

في خمسة فصول، يكتسح سلافوي جيجيك بانوراما حقبة ما بعد السياسة التي رأى فيها إضعاف السياسة والإدارة الاقتصادية ومشروع التنوير. ما الذي ينبغي لنا أن نخفيه عن السياسة الأميركية في أعقاب الهجمات الإرهابية في الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001؟ خاصة وأن «كل ما عرفناه جاء من الإعلام الرسمي». هل يمكننا القول إنه مع الهجمات والسياسة التي تم اتباعها في أعقاب الهجمات، دخلنا في شيء أكثر روعة من هذه الأبراج المتساقطة: "شبح حرب "غير مادية"، حيث يكون الهجوم غير مرئي والحرب غير مرئية". الفيروس والسموم في كل مكان وفي اللامكان؟

يتساءل جيجيك عن طبيعة الحرب الخفية الجديدة التي دخلها الغرب: «لا شيء يحدث على مستوى الواقع المادي المرئي، لا انفجار هائل؛ ومع ذلك، يبدأ الكون المعروف في الانهيار، وتتفكك الحياة. »

ما هو البديل الجديد الذي يقترح علينا منذ هذا الدخول إلى واقع أصبحت حدوده مع الخيال واللاواقع والفانتازيا أكثر هشاشة؟ في مجتمع أمريكي يدعي الدفاع عن حرية الفكر، والذي تتمثل روح العصر الجديدة في التسامح العالمي، ماذا يمكننا أن نقول عن أكاذيب إدارة بوش العديدة، وقوة وسائل الإعلام، وواقع هذه الهجمات، وتأثيرها على المجتمع الأمريكي؟ أنماط حياتنا؟ فهل وصلنا كما تنبأ صامويل هنتنغتون إلى صراع حقيقي بين الحضارات، أو بالأحرى صراع داخل الحضارات؟

"إن الصدام الحقيقي بين الحضارات لا يمكن أن يكون إلا صدمة داخل كل حضارة. إن البديل الأيديولوجي الذي يعارض العالم الليبرالي والديمقراطي والرقمي للتطرف "الإسلامي" المفترض لن يكون في نهاية المطاف سوى معارضة، تخفي عجزنا عن إدراك القضايا السياسية المعاصرة الحقيقية. إن الطريقة الوحيدة لانتشال أنفسنا من المأزق العدمي الذي يقودنا إليه هذا البديل الزائف هو الخروج من الديمقراطية الليبرالية، من أيديولوجيتها المتعددة الثقافات والمتسامحة وما بعد السياسية. » وهذا ما يبينه لنا هذا الكتاب: إن القضايا السياسية الحقيقية المعاصرة تميل إلى إخفاء المدى الذي وصلت إليه مجتمعاتنا، التي تفتخر بالدفاع عن حرية الفكر، وحقوق الأفراد، وحرية التصرف، والدفاع عن الديمقراطية، نظام صارم بشكل متزايد من الضوابط الاجتماعية. وبغض النظر عن درجة التعبير التي قدمتها لنا هذه المجتمعات "الديمقراطية" المزعومة، فإننا نفتقر إلى الكلمات لنقولها عند المنبع، وجميعنا سجناء نظام مغلق يحبسنا في إطار محدد مسبقًا. على الرغم من البدائل الكاذبة التي تدعي أنها تقدمها. "وإذا لم تكن المشكلة الحقيقية تكمن في هشاشة وضع المستبعدين، بل في أننا جميعًا، على المستوى الأساسي، "مستبعدون"، بمعنى أن هذا الموقف الصفري، أي موقف الاستبعاد المعمم، أصبح موضوعًا للاستبعاد". السياسة الحيوية، وأن الإمكانية السياسية وحقوق المواطن لا تمنح لنا إلا في لفتة ثانية، وفق الاهتمامات الاستراتيجية للسلطة الحيوية؟ » هذه اللهجات الفوكوية تحت قلم جيجيك، تأخذنا من الإنسان المغفل، الذي يعتقد أنه يلعب بالنظام عندما يكون مجرد لعبة في النظام، إلى الإنسان الكاهن، الشخصية المثالية لسياسة العدو الممنوعة في الفضاء السياسي. أفراد دون أي حقوق. وها نحن نعود إلى همجية الديمقراطية التي تقوم على الإقصاء. من المهاجرين غير الشرعيين في فرنسا إلى الأحياء اليهودية الأمريكية الأفريقية في الولايات المتحدة. "الإنسان المقدس، الذي، حيًا أو ميتًا، كبشر، لا يشكل جزءًا من المجتمع السياسي.

"الملاحظة مريرة: قبولنا الحقيقي للآخر لا ينتج في النهاية سوى "الفراغ" لأننا لا نقبل الآخر إلا إذا كان هذا الآخر يشبهنا، لكن هذا القبول الزائف في الواقع يخفي غياب الأيديولوجيات التي كانت في السابق كراسينا المتحركة. تأتي قوة زيجيك من حقيقة أنه فيلسوف ومحلل نفسي أيضًا.

وفي الواقع، فقد تمكن من تقديم تحليلات مقنعة للاندفاعات والاستثمارات الأيديولوجية التي شكلت نظامنا العالمي الجديد. إن دراسة النتائج المخيبة للآمال في أعقاب أحداث 11 سبتمبر 2001 هي فرصة لجيجك للتأكيد على كيفية ارتباط علاقاتنا مع الإسلام بأداء معين لمجتمعاتنا الرأسمالية والديمقراطية: منذ سقوط جدار برلين، وانهيار النظام السياسي. إن أسوأ عدو للرأسمالية والذي كان الشيوعية ذات يوم، فإن الغرب، وخاصة أمريكا الفخورة، لا يترك لمواطنيه سوى هذا البديل: الرأسمالية أو الإسلاموية. صراع الحضارات أم صراع الأيديولوجيات؟ صدمة الثقافات أم بالأحرى صدمة الأصوليات والدكتاتوريات والشموليات؟ كيف سنخرج من المأزق؟

مرة أخرى، كمراقب حريص لعصر ما بعد الحداثة، يفكك زيجيك كل الأوهام التي يدعمها أصحاب التفكير الصحيح في الوقت الحالي، ويفجر كل الأصنام بالديناميت مثل الكثير من الفزاعات التي تبقينا في جهل شديد. عودة لطيفة إلى محاكاة الواقع، الواقع الذي يعدنا لانتصار رأسمالية "العولمة" أو ربما لكارثة كاملة...

ثالثا. التفكير في أوروبا

سلافوي جيجك، جيجكمع كتابه ماذا تريد أوروبا؟ لا ينكر جيجيك السمعة الكبريتية التي يتمتع بها فيلسوف أوروبا الشرقية. ويحل كتابه اللغز الحقيقي الذي تمثله أوروبا، ويطرح سؤالاً رئيسياً: ماذا تريد؟ هل لديها كائن؟ غرض خاص به؟

يشكك سلافوي جيجيك في أوروبا هذه، وعلى وجه التحديد أوروبا في الاتحاد الأوروبي، الذي تتعرض هويته الثقافية لتهديد عميق بسبب "الأمركة" الثقافية كثمن لانغماسهم في الرأسمالية العالمية." إلا أن أطروحته هي كما يلي: العالم الجديد الآتي، والذي ندخل إليه، هو عالمي، وليس عالمي. ولا ينبغي لنا أن ننكر هذا النظام الجديد، لأننا لن نخسر شيئاً في هذا العالم الجديد القادم، وهو العالم الذي يجد فيه كل فرد مكاناً محدداً جيداً. إن العولمة لا تهدد الخصوصيات، بل تهدد العالمية فحسب. في الواقع، "إن التعارض الحقيقي اليوم ليس ذلك الموجود بين العالم الأول والعالم الثالث، بل هو القائم بين مجمل العالم الأول من جهة، العالم الثالث (الإمبراطورية الأمريكية العالمية ومستعمراتها) وما تبقى من العالم الثاني". العالم (أوروبا) من جهة أخرى." وبالتالي فإن الأمر يتعلق بالتفكير في أوروبا. هذا ما يحاول سلافوي جيجيك أن يفعله في حوالي مائتي صفحة مثل العديد من المسارات التي يجب اتباعها، مسارات شديدة الانحدار لا يمكن تعديل رؤيتنا للأشياء من خلالها إلا بفضل القدرة الخفية للمفكر على طرح المشكلات الصحيحة. وإذا حذرنا، فهو يريدنا أن نكون صارمين في ما يتعلق برؤية أوروبا كما تتصورها النخب السياسية لدينا. ماذا تريد أوروبا؟ فكيف يمكننا أن نضمن أن هذا لا يؤدي إلى الغطرسة على الطريقة الأميركية؟ من الضروري إجراء حوار نقدي للغاية مع هذا المشروع. لأنه كيف يمكننا أن نسمح لأنفسنا بانتقاد الولايات المتحدة دون انتقاد أوروبا أولاً؟

خاتمة

هذا الامر يتطلب "التفكير بشكل جذري". وهو ما يبدو مستحيلا بحسب سلافوي جيجيك في ظل الوضع الديمقراطي الحالي."في اللحظة التي نقدم فيها أصغر علامة على الالتزام السياسي بمشروع سياسي يهدف إلى التشكيك بشكل جدي في النظام القائم، ينفجر الرد على الفور: "على الرغم من النوايا الطيبة، فإن كل هذا سينتهي بالضرورة في نهاية المطاف". معسكرات العمل الجديدة!" في سياق عمله "نداء من أجل التعصب"، الذي طرح فيه سلافوي جيجيك فكرة أن ما نحتاجه اليوم هو جرعة قوية من التعصب، خاصة إذا كنا نرغب في تطوير نقد ذي صلة للنظام الحالي للأشياء، من خلال هذا العمل الجديد إنه يطرح عددًا معينًا من الأسئلة الجيدة: هل نحن في حالة حرب، وهل لدينا عدو؟ لماذا نحب جميعا أن نكره يورج حيدر؟ كيف ولماذا استسلم فاتسلاف هافيل في مواجهة منطق الرأسمالية؟ كيف يمكننا أن نجعل التاريخ الأوروبي تاريخنا بطريقة جديدة جذريا؟ اليس موقفه من الاسلام فيه الكثير من التعميم والتحامل؟ كيف يريد أن يكون أوروبيا وأمميا في ذات الوقت؟ ألا يقتضي مناهضة العولمة التخلص من المقاربة الضسقة؟

***

د. زهير الخويلدي: كاتب فلسفي

....................

المصادر:

Slavoj Žižek، Bienvenue dans le désert du réel، Flammarion، 224 pages، 2005،

Slavoj Žižek، Plaidoyer en faveur de l’intolérance، Climats، 2004، 167 pages،

Slavoj Žižek، Que veut l’Europe ? Réflexion sur une nécessaire réappropriation، Climats، Paris، mai 2005، 208 pages.)

الى منْ يحدقون في جداول البيانات ويحتسون القهوة وهم في احلام يقظة بعطلتهم القادمة، او منْ يتأملون دائما بأسئلة وجودية في الايميلات المتبادلة واجتماعات الفيديو. اذا كان عمل احدنا يبدو ضروريا لكنه غير محفز، وهو فقط كوسيلة لتمويل الحياة خارج مكان العمل، ذلك يدعونا لنغوص في الاسس الفلسفية للعمل. وربما نجد طرقا لجعل ما هو تافه يمكن تحمّله وربما يصبح ذو معنى.

ارسطو وكرامة العمل

يُعتبر ارسطو من أبرز الفلاسفة في الفكر الغربي فكانت له رؤى متميزة حول العمل. هو ميز بوضوح بين اكتساب الثروة chrematistics وادارة المنزل (البلد) oikonomia. هو يرى ان العمل المنجز لأجل المعيشة، هو ليس فاضلا بطبيعته، انه ببساطة وسيلة لغاية. لكن العمل الذي يساهم في رفاهية الجماعة، يعتبر فاضلا لأنه يخدم اهدافا عليا. زعم ارسطو ان العمل بهدف تراكم الثروة هو ضرورة عملية للحياة لكنه ليس هدفا نبيلا. انه ضروري لإشباع حاجاتنا الاساسية كالطعام والمسكن والملابس. لكن عندما يصبح تراكم الثروة هدفا رئيسيا فانه سيقود لتركيز غير صحي على المادية وربما يحطم القيمة المجتمعية ويسبب عدم توازن في الحياة.

من جهة اخرى، اعتبر ارسطو ان ادارة المنزل هو شكل العمل الاكثر فضيلة. هذا العمل كان يتعلق بالرفاهية وبالكفاية الذاتية لرب المنزل وللجماعة. انه يستلزم ادارة كفوءة للموارد واهتمام بحاجات الناس ومساهمة بالصحة الجمعية والازدهار. ادارة المنزل هي بالأصل غير انانية وموجهة نحو الجماعة وتشجع التعاون والتقاسم.

اعتقد ارسطو ان العمل المتجاوز لإكتساب الثروة يجب ايضا ان يكون حول إشباع قدرة المرء وعيش حياة جيدة. هو يرى ان كل فرد لديه مهارات وفضائل خاصة متميزة يمكن تربيتها من خلال عمله. يمكن للفرد عبر ايجاد عمل يسمح له بالتعبير وتطوير فضائله المساهمة في المجتمع وفي نفس الوقت يحقق سعادة وانجاز شخصي.

لكي نوضح هذا، لنفترض دور مهندس أخصائي في اصلاح الكومبيوتر يعمل وفق سياق العمل المعاصر لعام 2024. اذا كان يتجه لهذا العمل من منظور تجميع الثروة فهو سيرى عمله مجرد طريقة لإستلام نقود. هو يركز على اكمال اكبر قدر ممكن من التصليحات في كل يوم ومضاعفة دخله. ان نوعية عمله وتأثيره على حياة زبائنه هو اعتبار ثانوي. لكن، لو كان نفس الاخصائي في تصليح الكومبيوتر اختار تبنّي مبادئ ادارة المنزل، فان اتجاهه للعمل سيتغير بشكل كبير. هو يفهم بان عمله يلعب دورا هاما في تعزيز الحياة الرقمية للجالية، ومساعدة الناس للبقاء مترابطين ومنتجين في عالم تتزايد فيه الرقمية باستمرار. هو يمضي الوقت ليفهم حاجات زبائنه ويضمن بان تصليحاته فعالة وطويلة الامد، ويقدم نصيحة حول كيفية المحافظة على الاجهزة وحماية البيانات. هو ربما يستعمل مهاراته لتوسيع منافع الجالية مثل تقديم خدمات باسعار مخفضة للمدارس والجمعيات الخيرية او تشغيل ورش عمل حول تعليم الحوسبة. بعمل كهذا، هو يساهم بالرفاهية الكلية للجالية، يساعد الافراد والشركات على تجنب فترات التوقف، وحماية بيانات قيّمة وزيادة كفاءة التكنلوجيا. عمله يعطيه ليس فقط معاشا وانما ايضا معنى الانجاز، ومعرفة بانه يحقق فرقاً.

فلسفة ارسطو تدعونا لإعادة التفكير بهدف ومعنى العمل. انها تشجعنا للنظر الى العمل كوسيلة للمساهمة في المجتمع وانجاز امكاناتنا، بدلا من النظر اليه فقط كمصدر للدخل. هذه المبادئ لها تأثيرات عميقة في عالم اليوم حيث العمل وتراكم الثروة عادة يُنظر اليهما كمعيار رئيسي للنجاح (انظر ارسطو،السياسة).

كارل ماركس والعمل المغترب

في القرن التاسع عشر، غيّر ماركس جذريا الخطاب الفلسفي حول العمل. مفهومه "للاغتراب" اصبح مركزيا في فهم علاقات العمال بعملهم في المجتمعات الصناعية. جادل ماركس بانه في ظل الرأسمالية، يشعر العمال انهم مبعدون عن فعاليتهم الانتاجية وعن نتاج عملهم و عن زملاء العمل، وعن إمكانات تحقيق الذات (ماركس،الاقتصاد والمخطوطات الفلسفية،1844). يرى ماركس ان انجاز الانسان الحقيقي يكمن في العمل غير المغترب حيث العمال يمكنهم التعبير بحرية عن امكاناتهم الابداعية. طبقا للفهم الماركسي، يمكن للنظام الرأسمالي تعميق "الاغتراب" حيث العمال، مثل الأخصائي في تصليح الكومبيوتر،يشعر بالانفصال عن عمله وانتاجه وزملائه وامكانات تحقيق الذات. هم يصبحون عبيدا للاجور. لو ان هذا الاخصائي في تصليح الكومبيوتر يعمل ضمن نموذج النظام الرأسمالي التقليدي، هو ربما يشعر بـ"اغتراب" ماركس بطرق عدة. عمله قد يصبح سلسلة من المهام المكررة تهدف فقط لتعظيم الانتاجية والربح، تفصله عن المظاهر الأكثر ابداعية وفكرية لعمله. هو سيقوم بعمل لكن التحكم بكيفية العمل يقع على مسؤولية اصحاب العمل او حاجات السوق.

مفهوم ماركس للاغتراب يضم مختلف الأبعاد التي تتصل مباشرة بموقف الإخصائي لدينا. اولا، ان ماركس ناقش الاغتراب عن انتاج العمل. في حالة مصلّح الكومبيوتر، فان الكومبيوترات التي يصلحها لا تعود له وانما للزبائن. الربح المشتق من تصليحه للكومبيوتر لا ينفعه وانما ينفع صاحب العمل. وبالرغم من ان الاخصائي يلعب دورا حاسما في توليد الثروة، لكنه يستلم فقط حصة منها، وهو ما يقود الى احساس بالقطيعة عن محصلة عمله.

بالاضافة الى ما تقدم، ماركس ايضا يسلط الضوء على الكيفية التي تؤدي بها الرأسمالية الى اغتراب العامل عن زملائه. مصلّح الكومبيوتر قد يجد نفسه في جو تكون فيه المنافسة هي السائدة، تحرمه من تطوير روابط تعاونية قوية مع زملائه. عمله يصبح محاولة منعزلة تفتقر الى التفاعل الانساني الهادف وبالتالي يزيد احساسه بالعزلة. كذلك، الاخصائي قد يواجه اغتراب عن امكانيته في تحقيق الذات. مواقع عمل الرأسمالي عادة تقيّد فرص الافراد في النمو والابتكار في السعي لزيادة الانتاجية والربح. الاخصائي يُحبط من الابتكار وتعلّم مهارات جديدة او أخذ مهام اكثر تعقيدا ومكافأة. هذه المحددات تمنعه من التطوير الذاتي وتعمق احساسه بالاغتراب. بالنسبة لماركس، الحل للاغتراب يكمن في خلق مجتمع يمتلك فيه العمال السيطرة على عملهم ويستطيعون التعبير عن ابداعيتهم والتعاون مع زملائهم والارتباط بنتاج عملهم. بالنسبة لمصلح الكومبيوتر، هذا يعني اعادة هيكلة بيئة عمله لتشجع الابتكار والتعلم والتعاون بينما ايضا تضمن له المنفعة المباشرة من القيمة التي يخلقها عمله . هذا التحول ينسجم مع رؤية ماركس في العمل اللامغترب حيث يصبح العمل انجاز شخصي وتعبير خلاّق (كارل ماركس،الاقتصاد والمخطوطات الفلسفية،1844).

شوبنهاور والسعي نحو الأهداف

العنصر الاساسي في ميتافيزيقا شوبنهاور هو "الرغبة في الحياة". هو يرى ان الناس باستمرار مندفعون بحافز أعمى للكفاح نحو الوجود والحياة. نحن ليس لدينا هدف نهائي. نصارع لتحقيق اهداف ولكن حالما تتحقق، تكون القناعة فقط مؤقتة، فتبرز اهداف ورغبات جديدة. هذا الكفاح اللامتناهي يخلق دورة من الإثارة وعدم القناعة، وهو ما يميّز الكثير من حياة الانسان وهو أصل المعاناة.

منظور شوبنهاور هنا يمكن تطبيقه على عالم العمل، ملقيا الضوء على الديناميكيات التي تشكل حياتنا العملية. كما في الكفاح اللامتناهي الذي وصفه شوبنهاور، رحلة مصلح الكومبيوتر تتميز بسعي متواصل نحو الاهداف. كل مهمة مكتملة وكمبيوتر مكتمل التصليح يجلب لحظة الاحساس بالانجاز لكنه يتبعه فورا ظهور تحديات وطلبات جديدة.

في هذا السياق، تجربة الاخصائي تنسجم مع ملاحظة شوبنهاور بان انجاز هدف يقود فقط للرغبة القادمة. اكمال مهمة التصليح قد تعطي راحة مؤقتة ولكن حالا تظهر قضايا جديدة للمعالجة او التحسين لتشعل دورة الاثارة وعدم القناعة. هذا يوفر اطارا فلسفيا لفهم الضجر المتأصل والكفاح المستمر الذي يميز العديد من الوظائف. عبر الاعتراف بالتشابه بين ميتافيزيقا شوبنهاور وتجربة اخصائي الكومبيوتر، نحصل على رؤى عامة حول الطبيعة الاساسية للوجود الانساني والسعي المتواصل نحو الاهداف التي تطبع حياتنا.(شوبنهاور، العالم كإرادة وتمثيل، الجزء 2).

منظورات من الفلسفة الشرقية

 التقاليد الفلسفية الشرقية تقدم ايضا رؤى ثمينة حول طبيعة العمل. في غيتا Bhagavad Gita، النص المركزي في الفلسفة الهندية، يُنظر الى العمل كواجب يجب ان يتم دون ارتباط بنتائجه او ثماره وهو المبدأ الذي يُعرف بـ كارما. هذا الاتجاه يشجع الافراد للتركيز على فعل العمل نفسه بدلا من المكافأة التي يجلبها. تطبيق مبدأ يوغا الكارما على مثالنا في خبير تصليح الكومبيوتر يشير الى ان الخبير يجب ان يتعامل مع عمله بإحساس الانفصال عن النتائج. بدلا من الالتصاق بالفوائد المحتملة او المكاسب التي ينالها من تصليح الاجهزة، هو يمكنه الحصول على الانجاز عبر الانشغال المخلص في العملية ذاتها. عندما ينغمس في اللحظة الراهنة ويوجه جهده للمهمة التي تحت يده، هو يستطيع غرس معنى كل من الهدف والرضا بشكل مستقل عن المحصلات الخارجية.

الفلسفة البوذية من جهة اخرى، تؤكد على فكرة "سبل العيش الصحيحة" كجزء من مسار من ثمان ممارسات. انها تؤكد ان عمل المرء يجب ان لا يؤذي الاخرين ويجب ان يكون تعبيرا عن العطف والحكمة. هذا المنظور يدعو الى التفكير بالأبعاد الاخلاقية للعمل.

من هذا المنظور البوذي، أخصائي تصليح الكومبيوتر يجب ان يفكر في تأثير تصليح كومبيوتره على الآخرين ويكافح لضمان ان محاولاته لا تسبب اذى. عبر ممارسته مهنته بتركيز كامل للذهن وبتعاطف وتبنّي للسلوك الاخلاقي، هو يستطيع ملأ عمله باحساس عميق بالمعنى ويساهم في رفاهية من يخدمهم. من خلال دمج هذه الرؤى الفلسفية الشرقية بتحليلاتنا، نحن نوسع فهمنا للعمل الى ما وراء الأبعاد الذرائعية والمادية. نحن نعترف بقيمة غرس عقلية تتجاوز التعلّق بالنتائج وتؤكد على القيمة الباطنية للعمل ذاته. كذلك، نحن نعترف بالمضامين الأخلاقية لمساعينا المهنية وامكانية العمل ليكون قاطرة للعطف والحكمة.

منظور ما بعد الحداثة للعمل

فلاسفة ما بعد الحداثة مثل ميشيل فوكو و جان بودريار، يقدمان رؤى ثمينة للديناميكية المعقدة للسلطة والمعرفة والعمل. مفهوم فوكو لـ "biopower"(1) يغوص في الكيفية التي تمارس بها المجتمعات الحديثة السيطرة والتنظيم تجاه سكانها من خلال مختلف الآليات بما فيها العمل. طبقا لفوكو، يُعتبر العمل كوسيلة لممارسة السلطة، كونه يساعد من خلال التأديب والسيطرة على الأجسام، تشكيل عادات الطاعة التي بالنهاية تجعل من الافراد كأشخاص منقادين (فوكو، الجريمة والعقاب).

تحليلات جان بودريار لثقافة المستهلك تؤكد على تحول العمل والانتاج في مجتمعات ما بعد الصناعة. بودريار يرى ان العمل والانتاج في هذه المجتمعات اصبح محاكاة منفصلة عن اهداف المجتمعات الاصلية في اشباع حاجات الناس. طبيعة وهدف العمل اصبح بشكل متزايد مبهما ووهميا عندما انخرط بالطبيعة المفرطة البريق لثقافة المستهلك (بودريار،المحاكاة و التشبيهات).

تحليلات بودريار تضيء المشهد الما بعد حداثي اكثر حين اصبح فيه العمل والانتاج منخرطين بعالم مفرط يتميز بالوفرة المفرطة للاشارات والرموز. الطبيعة المبهمة للعمل في عالم ثقافة المستهلك تكثّف الشعور بالارتباك وتمحو الحدود بين الواقع والوهم.

هل يمكن القبول بالملل لأجل الراتب 

الاستطلاعات اعلاه عن الرؤى الفلسفية للعمل تكشف بان هذا المظهر المركزي لحياة الانسان هو نسيج ثري ومعقد حيك بخيوط الضرورة والرغبة والاغتراب والانجاز والسلطة والاخلاق. العمل ليس فقط وسيلة لغاية او طريقة للحصول على النقود تسمح لنا للاستمتاع خارج حدود مكان العمل. وانما هو فعالية انسانية عميقة تعكس أعمق الرغبات وأعلى الطموحات. ونحن نبحر في رتابة وبساطة واجباتنا اليومية، لنتذكر اننا حتى في اشد صحاري الضجر، يمكن العثور على واحة للمعنى.

***

حاتم حميد محسن

........................

الهوامش

(1) في معجم اكسفورد يشير مصطلح سلطة بايولوجية piopower الى شكل من السلطة يدور حول السكان (ناس كنوع وكطاقة منتجة) وليس كافراد (اشخاص او مواطنين). فوكو يركز على شكل من العقلانية السياسية. تقليديا، طبقا لفوكو، الفكر السياسي الغربي كان اساسا يهتم بما يشكل الحياة العادلة والجيدة وكيف يمكن اقناع الرجال (في الفترة من ارسطو الى بدايات النهضة، المرأة كانت مستبعدة من السياسة) الخضوع لذلك الشكل. وكما في الفن، السياسة كان يُفترض ان تخدم اهدافا عليا، أعني،سلطة الله. بعد ذلك،منذ بداية القرن 1500،برزت طريقة في التفكير تتميز بالقليل من الفضيلة الروحانية والكثير من الحسابات السياسية،والتي تجسدت بميكافيلي. حاليا،يركز الفكر السياسي على تطبيقات الحصول على سلطة الامير وادامتها وتوسيعها،متجاهلا حرية وفضيلة المواطنين. وفي نفس الوقت الذي ظهر فيه  ميكافيلي برز شكل من التفكير حول السلطة جرت صياغته  بالبيروقراط وصنّاع السياسة الذين يديرون الحكومة التي لا تهتم باكثر من سلطة الدولة. انهم نظروا الى الناس طبقا لذلك: من جهة،ارادوا ان يتعلموا حول الناس كنوع ومعرفة اسرارهم البايولوجية، ومن جهة اخرى، ارادوا تطوير قدرة الناس والمكائن عبر معاقبة أبدانهم. فوكو سمى هذا النوع الجديد من العقلانية السياسية بـ piopower لأنه اهتم بكل مظاهر الحياة وبدون قيود الى أدق تفاصيلها، وان كان فقط في مستوى التجريد. كان هذا النظام من العقلانية مهتما بصحة الناس فقط بعبارات احصائية وليست وجودية. اهتم بالكيفية التي يعيش بها الناس ويموتون، ولكن ليس بمنْ يعيش ومنْ يموت. لأول مرة في التاريخ، يجادل فوكو ان الوجود البايولوجي كان منعكسا في الوجود السياسي، وبالنتيجة فان وجود النوع البشري ذاته جرت المراهنة عليه في الأسئلة السياسية.

 

بقلم: نيكولاس أنتوسكيفيتش

ترجمة: د. زهير الخويلدي

***

مقدمة: تقدم لوز أسكاراتي، مع كتابها التخيل وفقًا لبول ريكور، عملًا طموحًا وأصليًا. طموح قبل كل شيء، لأنه دراسة يتبعها مفهوم الخيال خلال اللحظات المختلفة للفكر الريكوري من قراءته الأفكار الأولى لهوسرل إلى القضايا السياسية والاجتماعية في اليوتوبيا. لذا فإن القصد الأساسي لهذا العمل يتكون من تأليف مقاطع مختلفة من مجموعة بول ريكور والتي عادة ما يتم النظر فيها بشكل منفصل: على وجه الخصوص، يتمثل الجانب الأساسي لقراءة ريكور من قبل المؤلف في إعادة تقييم أهمية الفينومينولوجيا في هرمينوطيقيته. تتكون الأطروحة التي تم الدفاع عنها في إظهار أن تطوير فلسفة التخيل من قبل ريكور هو استئناف وتحسين أحد الأشكال التقليدية للفينومينولوجيا، أي التباين التخيلي أو المخيالي [1]. من خلال قراءته لهوسرل، كان ريكور قد رأى في الأدب الخيالي من وجهة نظر منهجية الإدراك الأكثر كمالًا للإزالة الإقليمية (أي حقيقة الارتقاء من الحقيقة نحو الماهية) إلى العمل في فكرة التباين الأولاني، موردا قويا للتفكير في اليوتوبيا بالاختلاف مع الأيديولوجيا في حوار متجدد مع النظرية النقدية وعلم الاجتماع البراغماتي. في الواقع، إذا تم بالفعل تنفيذ عمل أساسي حول مفهوم الخيال عند ريكور، وكذلك على اليوتوبيا أو الخيال الاجتماعي، فإن أصالة مقاربة أسكاراتي تتمثل في حقيقة ربط كل هذه الجوانب من الفكر الريكوري من خلال إقامة حوار بين ريكور والمنظرين الاجتماعيين الرئيسيين. في هذه المناسبة، تستخرج نصوصًا غير معروفة أو غير منشورة مثل محاضرات عن الخيال ومحاضرات حول الإيديولوجيا واليوتوبيا، وتعتمد على مجموعة من الأدبيات الثانوية التي ليست مألوفة في فينومينولوجيا اللغة، مما ألهم العديد من المفسرين من أمريكا اللاتينية مثل روزماري ريزو باترون أو ماريانا تشو. لإبراز هذه الأصالة، من الضروري الخوض في تفاصيل العمل، والتي تتكون من جزأين. يتمثل الأول في إظهار التطور التدريجي للفلسفة الريكورية للخيال باعتباره دافعًا رئيسيًا لفكره، وهذا يحدث بصورة ثانوية فيما يتعلق بفينومينولوجيا هوسرل. وتبلغ ذروتها مع أطروحة الأنثروبولوجيا الفلسفية، والتي اقترحها بول ريكور بقصد وصف الإنسان بأنه قادر على التخيل، وهو مفهوم من المفترض أن يثير معضلة الفينومينولوجيا المتعالية لهوسرل بينما يعيد تنشيط "مطلبه ''.

الجزء الثاني، الذي يمثل الأصالة الحقيقية للعمل، يعتبر المصدر الذي تشكله هذه فلسفة للخيال والمخيال للتفكير في اليوتوبيا وللكشف في المقابل عن أنطولوجيا العالم الاجتماعي. للقيام بذلك، تشارك لوز أسكاراتي في حوار محفز بين ريكور والنظرية النقدية والاشتراكيين الطوباويين وعلم الاجتماع البراغماتي المعاصر.

1. من فينومينولوجيا الخيال إلى الأنثروبولوجيا الفلسفية:

بالمقارنة مع القضايا النظرية الأخرى، يبدو أن الفينومينولوجيا الهوسرلية تقدم منظورا راديكاليا من خلال قضية أساسية فريدة وغير تحليلية للمعرفة. لكن، شرط إمكانية هذا الأساس الفريد "لطريقتنا في التنظير" هو تحييد أي أطروحة للوجود أو لأي معنى لم يكن ليؤسس بشكل فينومينولوجي. يشكل هوسرل هذا التحييد، هذا الوصول إلى مجال الممكنات، في الخيال، بقدر ما يمكن للفيلسوف من خلاله أن يتسبب في تغير في بنى التجربة بشكل لا نهائي.

يتألف القسمان الأولان من الكتاب من مقدمة لمفهوم هوسرل للخيال، ولا سيما أنه يتكشف في الأفكار الأولى في العلاقة بين الدليل والأساس. ومع ذلك، لا يمكن أن يكون الخيال بحد ذاته مفهومًا راسخًا، كما يشير يوجين فينك [2]: إنه مفهوم تشغيلي، أي أن مفهوم الخيال يتجلى في الجانب التشغيلي لفكرة الأساس. تتكون الأطروحة التي تم الدفاع عنها في إظهار أن ريكور أوضح مكانة الخيال في طريقة التأسيس الفلسفي. توصف وظيفة التحييد بأنها وجود تعليق له لحظة سلبية (يجعل المرء نفسه غائبًا عن "كل الأشياء") وآخر إيجابي (أحدهم يعرض إمكانيات جديدة) ". يسرد المؤلف الوظائف المختلفة للخيال لإظهار أن الفلسفة الريكورية للخيال هي وحدها القادرة على تلبية متطلبات فينومينولوجيا الخيال.

بادئ ذي بدء، يجدر التذكير بالتمييز في قلب الأفكار الاولى بين الحقائق والماهيات، لأن "استيعاب الماهية بالحدس لا يعني بالتالي موقع الوجود الفردي". هذه خطوة حاسمة، لأنها تعني أن الإيدوس يمكن أن تتجلى من خلال الأمثلة التجريبية المستمدة من بيانات التجربة، ولكن بنفس القدر من العمل المنتج للخيال. سيتكون مشروع ريكور، الذي ترويه لوز أسكارات، من توسيع لفتة هوسرل التي تضع على قدم المساواة، من وجهة نظر استيعاب الإيدوس، قوة الخيال والتبرع باللحم والدم، وإظهار ذلك بشكل جيد، بحكم مكانة الخيال في عملية المعرفة، فقط المتخيل الناتج عن الخيال المنتج هو الذي يمكنه تنفيذ المشروع الفينومينولوجي لتحييد أي أطروحة للوجود.

في تعليقه على الترجمة الفرنسية للافكار الأولى، يصف ريكور الفوائد الثلاث التي جلبتها للفينومينولوجيا من خلال وظيفة تحييد التخيل، والتي صاغها أسكارات هنا:

"أ) الاستفادة من إضفاء الطابع الإقليمي على الاختزال،

ب) الاستفادة من النقد التفكيري أو تفكيك المنهج،

ج) الاستفادة من التكوين أو إنتاج المعنى المناسب لـ "ممارسة" المنهج الفينومينولوجي".

في الواقع، أولاً وقبل كل شيء، يتيح التحييد الوصول إلى مجال الظاهرة بدلاً من الواقعية. وفي هذا الصدد على وجه الخصوص، سوف تصر لوز أسكارات على التمييز بين الخيال الإنتاجي والخيال الإبداعي. في الواقع، بالنسبة إلى ريكور، فإن الاستبعاد الذي يسمح به الخيال يتحقق إلى أقصى درجة من خلال حقيقة أنه قادر على تصور عدم وجود منتجاته، وبالتالي الابتعاد قدر الإمكان عن الحقيقة والوجود الإدراكي. وبالتالي، سيكون التحييد أفضل إذا انطلق من الخيال المنتج، وبالتالي انتقل إلى مجال الخيال. بعد ذلك، يتعلق الأمر بالتعبير من خلال الخيال عن إمكانيات المنهج الفينومينولوجي نفسه.

على هذا النحو، يعيد ريكور بناء مثالية الأسلوب الهوسرلي الذي يسمح لنفسه بتحييده، والتشكيك في طريقته باسم المنهج الفينومينولوجي نفسه. هذا هو السبب في أن لوز أسكارات ستوضح، في القسم الأخير من الجزء الأول، حقيقة أن الطلب على فينومينولوجيا الخيال يدفع بول ريكور لاستكشاف إمكانية أخرى لمقاربة هوسرلية، أي مشروع الأنثروبولوجيا الفنومينولوجية التي تركز على القدرة البشرية على إنتاج الخيال، ضد كل انتقادات هوسرل للأنثروبولوجيا. لذلك، تقدم لنا لوز أسكارات ريكور عالماً ظاهريًا حازمًا، والذي يمكن أن يشكل تحيزًا تأويليًا عندما يتعلق الأمر بمعالجة مفهوم اليوتوبيا.

في الواقع، من خلال تركيز ملاحظاتها على إعادة تخصيص البنوة الفينومينولوجية لريكور، بما في ذلك في فترة تفكيره عندما كان متأثرًا جدًا بالفلسفة الأنجلو-سكسونية، يذكر المؤلف الشيء القليل جدًا مما ورد في محاضراته حول الخيال أو في محاضرات حول الإيديولوجيا واليوتوبيا لارتهانه للتقليد التحليلي. من أجل إعادة التوازن لطموح ريكور الفينومينولوجي، فإننا نوجه، لصالح قراءة هوسرلية لريكور، هذا الحوار بين التقاليد التي تجعل هرمينوطيقا بول ريكور خصوصية. لتبرير هذه القراءة، تعود لوز أسكارات الى جذور فلسفة ريكور للخيال في الاهتمامات النظرية للمجلد الأول من فلسفة الإرادة.

في هذا العمل، كان الأمر يتعلق بدراسة العلاقة بين الارادب واللاإرادي واقتراح فهم وحدتهما من خلال الوساطة العملية. كل هذا يسلط الضوء على حقيقة أن كتاب لوز أسكارات يشكل تفسيرًا شاملاً لعمل ريكور حول الإرادة، والذي يسلط الضوء على مسألة الخيال باعتباره الخيط التوجيهي لتحقيقاته.

بشكل عام، ببرر المؤلف أصالة عملها من خلال سلسلة من المقارنات التي تتعلق ببعضها البعض. في الواقع، هناك سلسلة أولية تمثيلية: اللاإرادي هو إلى الارادي ما هو التمثيل المجازي وما تعنيه الأيديولوجيا بالنسبة إلى اليوتوبيا. هناك سلسلة ثانية: التخيل التناسلي بالنسبة للخيال المنتج هو ما تعنيه التجربة بالنسبة للخيال وما تعنيه الأيديولوجيا بالنسبة إلى اليوتوبيا. من خلال تطرف مقاربة لوز أسكارات، يبدو أن فلسفة ريكور تتلخص في نفس المشكلة التي يتم نقلها من مجال إلى مجال، أي مسألة الحرية باعتبارها العمل على أساس الحتمية أو حتى العمل غير الواقعي والانفتاح على الواقع أو التجربة. مثل هذه القوة التركيبية جذابة للغاية لأنها تجعل من الممكن قراءة منهجية حقًا لفكر لا يفسح المجال بسهولة لهرمينوطيقا كونية. ومع ذلك، يمكن أن تغذي هذه القراءة أيضًا شكوكًا مشروعة حول تحيزات التأويلات التي تنتجها وفيما يتعلق بتقليل محتمل في خصوصية كل مشكلة تنطوي عليها. من المؤكد، على سبيل المثال، أن هناك صلة وثيقة بين مشكلة الارادي واليوتوبيا. ومع ذلك، يصر ريكور على تراجع الفعل الحر في ثلاث لحظات، وهي القرار والإدراك والموافقة. ومع ذلك، فإن هذا العلاج غير موجود في حالة البوتوبيا، مما يجعل التشبيه غير مكتمل بطريقة ما. أقل من هشاشة التحليل، إنها مسألة توجيه أصابع الاتهام إلى اختيار نظري ومنهجي حقيقي ينطلق منه كتاب لوز أسكارات بأكمله.

2. الحوار حول أنطولوجيا العالم الاجتماعي والموارد الفنومينولوجية للتفكير في اليوتوبيا:

يجب أن نعود إلى حد ما إلى الأنثروبولوجيا الفلسفية لريكور. في الواقع، من هذا المقطع يمكن فهم الجزء الثاني، حيث يكون السؤال، بالنسبة للمؤلف، عن الاهتمام بشكل خاص بالعلاقات بين اليوتوبيا والأنطولوجيا في العالم الاجتماعي، من خلال تحليل المحاضرات على الإيديولوجيا واليوتوبيا. في الأنثروبولوجيا، يميز ريكور الإنسان من خلال قدرته على التخيل وخلق إمكانيات جديدة للواقع.

يكون هذا الخيال مثمرًا حقًا فقط عندما يعمل على الصورة لتحويلها إلى فعل. ولذلك فإن فينومينولوجيا ريكور للخيال هي نظرية لأعمال الخيال المنتج. وهكذا، تواجه لوز أسكارات ريكور مع سارتر، الذي طور في الفصل الأخير من حياته فكرة الخيال، مشيرًا إلى قدرته على التفكير في نفسه وعلى نفسه، بينما كان إنجاز ريكور للخيال موجود عنده في أعماله ومنتجاته التي لها القدرة على توسيع واقعنا. وهكذا، يقارن المؤلف مع علم الاجتماع البراغماتي، مدافعًا عن الأطروحة التالية: ما يفتقر إليه عالم الاجتماع البراغماتي وعلم الاجتماع بشكل عام هو مجموعة الأدوات الفينومينولوجية للوصول إلى البعد الإنتاجي للخيال. هذه الأطروحة مثيرة للاهتمام للغاية بقدر ما هي جزء من نقاش أثار علم الاجتماع التاريخي في القرن العشرين حول استخدام المصادر الأدبية أو غير الاجتماعية بشكل عام في الدراسات الاستقصائية. سيخبرنا ريكور أنه من الممكن استخدام هذه المادة الوهمية، ولكن بشرط الحصول على الأدوات المناسبة لمنحها معنى في اتجاه أنطولوجيا العالم الاجتماعي.

إن إمكانية التفكير في أنطولوجيا العالم الاجتماعي من محاضرات الإيديولوجيا واليوتوبيا هي التي تهتم بها أسكارات ي الجزء الأخير من عمله. إنها تسعى جاهدة لإظهار أن ريكور "يرسم الخيال خطة لتكوين اليوتوبيا أكثر جوهرية من خطة العقل". لهذا، يتعلق الأمر بنقل تحليل الخيال المنتج إلى مسألة الخيال الاجتماعي. لفهم هذا الامر، يجب أن نلجأ إلى التمييز بين اليوتوبيا والأيديولوجيا. اليوتوبيا، على غرار الخيال، من شأنها أن تستمد من موارد الخيال المنتج، والقدرة على تخيل راديكالي في مكان آخر فيما يتعلق بالمجتمع الذي نعيش فيه. اليوتوبيا هي تباين وهمي في بنى العالم الاجتماعي. مرة أخرى، فإن وظيفة اللامركزية هي التي تجعل من الممكن إدخال "اللامكان" في تكوين المجتمع. تحييد العالم الاجتماعي الذي نُدرج فيه، يجعل من الممكن بالنسبة الخيال إنتاج يوتوبيا في اتجاه الواقع، أي أنه يجعل من الممكن تغيير هياكل التجربة الاجتماعية وبالتالي إلقاء نظرة على منظور واقعي.، فإنه يجعل من الممكن إنتاج عائد نقدي على البنى الأساسية للمجتمع وبالتالي على أنطولوجيا العالم الاجتماعي.

تلخص لوز أسكارات هذه الوظيفة التحررية لليوتوبيا بالقول إنها تهدف "إلى مجتمع واقعي من الاستحالة". علاوة على ذلك، في إطار هذا التصور لليوتوبيا، تواجه أسكارات فكر بول ريكور بفكر كارل مانهايم وبالنظرية النقدية. إن مساهمة الفينومينولوجيا هي أنها تجعل من الممكن التفكير في اليوتوبيا ليس من منظور علم الاجتماع بل من منظور تاريخي، أي أنها تجعل من الممكن تجاوز النماذج البسيطة في اتجاه نشاط العوامل والذاتيات الفردية. على هذا النحو، يعيد ريكور تأهيل إرث الاشتراكيين الطوباويين ضد النظرية النقدية، مع التركيز على تشارلز فورييه أكثر من مانهايم.

في الواقع، بالنسبة لريكور، بفضل الوظيفة الإنتاجية لمخيلته المطبقة على الاجتماعي، فإن الفاعل التاريخي قادر على إنتاج اليوتوبيا، ومن خلال هذه الوظيفة الإنتاجية يكون هو الكاشف وأساس العالم الاجتماعي. كما تشهد الأيديولوجيا بصفتها الجانب الآخر من اليوتوبيا وباعتبارها الإنتاج الاجتماعي للخيال الإنجابي على اندماجنا في مجتمع اجتماعي معين. إن التمييز بين اليوتوبيا والأيديولوجيا مشابه للتمييز بين الصورة والخيال: في الواقع، بينما تترجم الأيديولوجيا إلى لغة الصورة الواقع الاجتماعي الذي ينخرط فيه الفاعل، فإن اليوتوبيا تجعل من الممكن إنتاج نموذج بديل من. الواقع المجتمعي. لذلك، من خلال اليوتوبيا يمكن، وفقًا لريكور، أن يكون هناك فكرة حقيقية عن التحرر.

عند هذه النقطة سيكون لدينا بعض التردد: في الواقع، فإن مسألة التحرر، إذا ظهرت على أنها أفق كل الأعمال التي تدور حول اليوتوبيا، لم تذكرها أسكارات إلا قليلاً جدًا. علاوة على ذلك، يبدو أن هناك قفزة نوعية بين مفهوم وجهات نظر جديدة حول العالم الاجتماعي، وبالتالي شكل معين من الاستخدام النقدي للخيال المنتج، والتطبيق الحقيقي للتحرر الذي يفترض وساطة عملية: بين الأيديولوجيا واليوتوبيا تم تأسيسه بشكل واضح وكذلك يتم استحضار الصلة التي لا تنفصم بانتظام، وهذه الصلة قليلة نسبيًا من حيث الموضوع، ويشار إليها على أنها أكثر صعوبة. وهكذا، يبدو لنا أنه بدلاً من التفكير الحقيقي في التحرر، فإن نظرية تنازع العالم الاجتماعي من خلال اليوتوبيا هي التي يفتحها لنا المنظور الريكوري.

خاتمة

في الختام، يمكننا القول أنه من خلال كتابها التخيل وفقًا لبول ريكور، تقدم لوز أسكارات مقدمة أصلية وواضحة جدًا للفينومينولوجيا والمناقشات المركزية التي تحركها حول مسألة الخيال. تجعل المؤلفة من الممكن إعادة ترسيخ أعمال ريكور المتعلقة بالخيال والعمل في اليوتوبيا بشكل وثيق الصلة بالموضوع في أعقاب فلسفة هوسرل ونحو أنطولوجيا العالم الاجتماعي. من المؤكد أن حوار ريكور مع المنظرين الاجتماعيين الرئيسيين يشكل معلمًا هامًا في الاتجاه المعاصر لتقريب الفينومينولوجيا من العلوم الاجتماعية، حتى لو كان مفهوم التحرر، نقطة التلاشي في عمل لوز أسكارات واستيراد مفردات النظرية النقدية، لا يبدو على ما يرام للالتزام التام بالمنظور الريكوري. مهما كان الأمر، نظرًا للاختيار النظري للتفسير المنهجي، فمن المؤكد أن هذا العمل سيصبح جزءًا مهمًا من الأدبيات الثانوية حول عمل بول ريكور."

*** 

......................................

الاحالات والهوامش

[1] يتمثل الاختلاف الخيالي في القضاء على المحتوى الواقعي للظواهر للوصول إلى ماهيتها، وذلك من خلال التباين بفضل الخيال وبفضل المخيال على وجه الخصوص، بنى تجربة هذه الظواهر (للحصول على عرض أكثر تفصيلاً يحدد § 70 من الأفكارالأولى).

[2] إيجين فينك، "المفاهيم العملية في فينومينولوجيا هوسرل" في القرب والمسافة، غرونوبل، 1994

المصدر:

Luz Ascarate, Imaginer selon Paul Ricœur : la phénoménologie à la rencontre de l’ontologie sociale, Hermann, coll. Le Bel aujourd’hui, 2022, p.282

كاتب فلسفي

إنَّ الواقعية السِّحْرية لَيْسَتْ تَيَّارًا أدبيًّا يَجْمَع بَين الواقعِ والخَيالِ ضِمْن إطار إبداعي فَحَسْب، بَلْ هِيَ فلسفة إنسانية مُتكاملة تَرْمي إلى اكتشاف العناصر الغامضة في الواقع المُعاش، والانقلابِ عليه، وإعادة إنتاجه أفقيًّا وعَمُوديًّا، مِن أجل تَحويلِ العناصر الرُّوتينية إلى رُموز عجائبية، ونَقْلِ الأنساقِ الحياتية مِن الرَّتابة الخاضعة للزمنِ والمكانِ إلى السِّحْرِ السائلِ في التراكيبِ اللغوية العابرةِ للتَّجنيسِ والحُدودِ. وبالتالي، تَصِير الأبجديةُ زمنًا مُتَدَفِّقًا ومَكانًا غامضًا، يَلِد نَفْسَه بِنَفْسِه، ويتكاثر في آلِيَّاتِ الفِعْلِ الإبداعي، وأدواتِ التَّعبير الفَنِّي، فتنتقل الاستعاراتُ البصرية مِن المَلَلِ المَحصورِ في النظام الواقعي المادي الاستهلاكي إلى الدَّهشةِ الباعثةِ للأحلامِ المَكبوتةِ والذكرياتِ المَنسيَّةِ والرَّغَبَاتِ المَقموعة، فَيُصبح الواقعُ الساكنُ وقائعَ عجائبية مُتحركة شكلًا ومَضمونًا، ويُصبح الإنسانُ تاريخًا لانبعاثِ الحَيَوَاتِ السِّرِّيةِ مِن أعماقه السحيقة، ونُقْطَةَ الارتكازِ في عملية الاندماج بين الماضي والحاضرِ والمُستقبَلِ. وإذا صَارَ الإنسانُ تاريخًا مُتَوَاصِلًا بلا قطيعة معرفية، فإنَّ الوَعْيَ الإنساني سَينتقل مِن التَّكرار القاتلِ لِعُذوبةِ الرُّوحِ وتَدَفُّقِ الشُّعُورِ إلى التَّوليدِ الرُّوحي المُستمر للأحداثِ والوقائعِ. وإذا صارَ الواقعُ سِحْرًا دائمًا بلا انكسار شُعُوري، فإنَّ بُنية الحضارة ستنتقل مِن كَينونةِ الزَّمَنِ المُستعارِ إلى كِيَانِ الحُلْمِ المُستعادِ.

إذا كانَ الإنسانُ هُوَ الساحرَ الذي يُنَقِّب عَن وجهه بَيْن الأقنعةِ، ويَبحَث عَن الأحلامِ الوَرديةِ في الواقعِ الجريحِ، فإنَّ الواقعية السِّحرية هي انقلابُ السِّحْرِ على الساحر، وهذا الانقلابُ لا يَكُون دمويًّا ولا مُتَوَحِّشًا، لأنَّ الهدفَ مِنْه هُوَ إحلالُ الحِبْرِ مَكانَ الدَّمِ، وتَتويجُ القَلَمِ سَيْفًا على الأوهامِ لا سَيْفًا على الرِّقَابِ، وقَتْلُ الوَحْشِ داخل الإنسان، ولَيْسَ قتل الإنسان. وبالتالي، يُصبح العملُ الأدبي عمليةَ حَفْرٍ في الأحلامِ الورديةِ والحُلُولِ السِّحْريةِ في رُوحِ الزمنِ وجَسَدِ المكانِ، ولَيْسَ حاجزًا عسكريًّا بَين الحُلْمِ والكابوسِ، أوْ نُقْطَة تَفتيش عسكرية في مَسَارِ الفِعْلِ الاجتماعي المُنْدَمِج معَ التجربة الإبداعية الإنسانية. لذلك، كانت الثقافةُ الحقيقيةُ هِيَ زَمَنَ الخَلاصِ لا زَمَنَ الرَّصَاصِ.

في أحيان كثيرة، يَكُون الواقعُ المُعاشُ أكثرَ غُموضًا مِن السِّحْرِ، وأكثرَ عجائبيةً مِن الخَيَالِ، وهذا يدلُّ على أنَّ الحياةَ اليومية كَنْزٌ مِن الأسرار، يَحتاج إلى بَحْثٍ دائم، وتَنقيبٍ مُستمِر. واللغةُ هي أداةُ الحَفْرِ في جَوْهَرِ الواقعِ، وحقيقةِ الحياةِ، وصُلْبِ المَوضوع. وبِدُون اللغةِ سَيَكُون الإنسانُ شَبَحًا هُلامِيًّا بلا خريطة ولا بُوصلة، يُشبِه الذاهبَ إلى المَعركةِ بِلا سِلاح. واللغةُ هي مِحْوَرُ التوازن بين السِّحْرِ والساحرِ. وكُلُّ لُغَةٍ تُولَد خارجَ رَحِمِ الدَّهْشَةِ والإبهارِ هِيَ تراكيب مِيكانيكية بِلا رُوح، وكُلُّ وَاقِعٍ يُولَد خارجَ نِطاق الفِعْل الاجتماعي الإبداعي هُوَ دَوَرَان في حَلْقَةٍ مُفْرَغَة. وإذا اجتمعَ الواقعُ واللغةُ في بُنيةِ الوَعْي المَنطقي المُتَسَلْسِل، صارَ الأدبُ جَسَدًا للخَيَالِ في هُوِيَّةِ المُجتمع، وصارت الثقافةُ تَجسيدًا للمَعرفةِ الإنسانية في رِحلة البحث عن المَعنى.

إنَّ السِّحْرَ اللغوي لَيْسَ حُقْنَةً مُخَدِّرَةً في جَسَدِ الواقع، وإنَّما هُوَ إعادةُ إنتاج مَعرفي للتاريخِ والجُغرافيا والذكرياتِ، بِحَيث تُصبح نَقْدًا عقلانيًّا لتفاصيلِ المُجتمع الحَيِّ والحُرِّ، وكَشْفًا للصِّرَاعَاتِ المُستترة في أعماقِ النَّفْسِ الإنسانية. والسِّحْرُ اللغوي هُوَ القُوَّةُ الدافعة للتَّعبير الفَنِّي في الأدبِ والثقافةِ، الذي يَعمل على عَقْلَنَةِ الأُسطورةِ وأنْسَنَتِهَا (جَعْلِها عَقلانيةً وإنسانية) مِن أجل نَقْلِ الزمنِ مِن طَبيعةِ الواقعِ إلى رمزية الوُجودِ، ونَقْلِ المَكانِ مِن زاوية الرُّؤيةِ إلى رُؤيةِ الحُلْمِ.

والتَّعبيرُ الفَنِّي في الأدبِ والثقافةِ يُمَثِّل صِياغةً جَديدةً لإرادةِ المَعرفةِ، بِحَيث تُصبح طريقةً لتحليل الدَّورِ الوظيفي للإنسانِ في الحياة، وتَرتيبِ تفاصيل الحياة ضِمْن نظام تَرَاتُبي مِن التجارب الشُّعوريةِ والأدبيةِ، يَسْتَنْبِط العناصرَ الخياليةَ المُتشظية مِن الواقع المادي المُنكمِش على نَفْسِه بِفِعْلِ ضَغط النظامِ الاستهلاكي. وبالتالي، تُصبح الواقعيةُ السِّحرية عملية إحلال لتجربةِ الكِتابة الرُّوحية الإبداعية مَكَانَ النَّسَقِ الماديِّ الوظيفي الذي يَسْحَق رُوحَ الإنسانِ، ويُعيد هَندسةَ مَشاعرِه وأحاسيسِه بشكل مِيكانيكي آلِيٍّ، بِحَيث يُصبح الإنسانُ سِلْعَةً ضِمْن قانونِ العَرْضِ والطلبِ، وشَيْئًا مِن الأشياءِ المَسحوقةِ بِلا هُوية مَعرفية.

وأهميةُ الواقعيةِ السِّحْرية تَكْمُن في أمْرَيْن: تَفجير الطاقةِ الرمزية في اللغة،وتَجديد شَبابِ اللغةِ. وهاتان العَمليتان تَحْدُثان بشكل تَزَامُني، مِمَّا يُؤَدِّي إلى احتراقِ المُبْدِعِ ذاتيًّا كَي يُضِيءَ العناصرَ المُحيطة به. وعمليةُ الاحتراق الذاتي تَشْمَل الأحلامَ والذكريات، وتُولِّد طاقةً معرفية قادرة على جمع شظايا قلب المُبْدِعِ. وهكذا، ينبعث المُبْدِعُ مِن احتراقِه، ويُولَد مِن مَوْتِه. وفي هذه الرحلة، ينبغي أن يَجِد المُبْدِعُ نَفْسَه خارج نطاق الأقنعة، وخارج نُفُوذ المرايا، لأنَّ التَّقَمُّصَ والتقليدَ يَقتلان رُوحَ الإبداعِ، ويُحوِّلان النَّصَّ إلى نُسخة مُقَلَّدَة ومُزَوَّرَة، وقيمةُ المُبْدِعِ تَتَجَلَّى في صَوْتِه الخاص المُتَفَرِّد. وإذا تَحَوَّلَ إلى صَدى سَيَفْقِد سُلطته الاعتبارية، ويَفْقِد النَّصُّ مَركزيته الأدبيةَ.

والواقعيةُ السِّحْريةُ لَيْسَتْ عمليةَ رَش للسُّكَّرِ على مَوْتِ الواقع، وإنَّما هي منظومة لِجَعْلِ الأحلامِ مَرئيةً في مَرايا الحياةِ اليوميةِ، وخرائطِ النَّفْسِ الإنسانية، مِن أجْلِ تَحريرِ التجاربِ الإبداعية مِن سَوداويةِ الواقعِ، وتحقيقِ التوازنِ بَين الألَمِ والأمَلِ.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

يواجه مجتمعنا العربي اليوم إشكالية ثنائية العلاقة بين التراث والمعاصرة في وقت تبرز فيه أزمة الهوية بشكل واضح، فمن المشاهدة العيانية والمعايشة الحية لواقع الحياة اليومية لطبيعة المجتمع، يجد الباحث الانثروبولوجي تطلعاً ملحوظاً في عيون الناس لمشاهدة دور للثقافة في صياغة هوية جامعة من شأنها ان تعطي حراكاً لا يفرض أي شكل من اشكال القيود او الضوابط على الهويات الاخرى مثل هوية الوطن وهوية المعتقد وهوية العرق وهوية المهنة وهوية اللون وهوية الانتماء، بعد ان تعثرت جهود اغلب الهويات في الضلوع بهذه المهمة، فعلى الرغم من المشتركات الكثيرة والأساسية والمؤثرة في مجتمعاتنا العربية إلا انها لا تزال تعيش ازمة الهوية خصوصاً لدى الأجيال الشابة، إذ ان الماكنة العالمية للاقتصاد الصناعي تمكنت من احتواء كثير من الهويات وإعادة اصدارها بنسخ جديدة توافق تطلعات مشاريع النظام العالمي الجديد الذي قالت عنه تصريحات وآراء انه نظام يختلف عما كان عليه الحال قبل اجتياح وباء كورونا العالم، ومن حيث لم يعد بوسعنا اليوم ان نتحرك بمعزل عن العالم وعن دوره وربما تدخلاته بعد ان اجتذبت المشاريع العملاقة الناس اليها من مختلف اصقاع الارض حيث اختلاف اللغة والدين واللون والهوية الجغرافية والتاريخ، فظهرت الشركات العابرة للقوميات وتحرك المال ليدير هذا النظام الجديد، وفي ضوء هذه المستجدات المثيرة وجد الفرد العربي انه في حيرة من امره، فهو من ناحية عملية لم يعد يستغني عن مخرجات الثورة الصناعية والتقنية والعلمية والمعلوماتية، فقد صارت اجهزة الاتصال ووسائل التواصل والعالم الافتراضي من ضرورات حركة عجلة الحياة اليومية لابسط المستويات والامكانيات الثقافية والاجتماعية والمادية، ومن ناحية اخرى يجد الفرد على اختلاف المستوى التعليمي والثقافي انه مرتبط بالتراث والتاريخ والاسلاف ارتباطاً لا يشعر بالتوازن اذا تجاوزه او فرض عليه تجاوزه، وصارت المحنة كبيرة احتاجت الى هوية جديدة نستطيع بها تمثيل الواقع للنهوض به الى ما ينبغي ان يكون وتلك كانت رسالة الإمام علي عليه السلام في السلطة.

الموروث الثقافي وتغيّر المجتمع..

يرى الفيلسوف الفرنسي فيليب هـ فينكس ان الحفاظ على الموروث الثقافي يأتي عن طريقين لا غنى لأحدهما عن الآخر، طريق حي يمثله الانسان، وطريق غير مباشر يمثله المتحف والكتاب والجريدة والمسرح وغيرها ولكي يحدث هذا التواصل بين الطريقين اقتضى تربية واعداد جيل من المتعلمين يستوعبون هذه الرسالة التعليمية وعدا ذلك قد يغدو المتحف مكاناً اثرياً جميلاً نستمتع بزيارته ونلتقط فيه الصور لننشرها على صفحاتنا في مواقع التواصل دون ان يكون لذلك اثره الحي في حركة واقعنا المنهك اليوم، ومن شأن هذا الخلل ان ينعكس سلباً على طبيعة الشخصية التي من المحتمل ان تتعرض للازدواج والتناقض وقد سجلت المشاهدات العملية وجود مثل هؤلاء الأشخاص.

التغير صفة اساسية من صفات المجتمع، يراد به التحولات التي تطرأ على البناء الاجتماعي، اي منظومة القيم والسلوكيات التي تربط ابناء المجتمع مع بعضهم.

 يشتغل علماء الانثروبولوجيا وعلماء النفس والاجتماع والفلاسفة على موضوعة تغير المجتمع من اجل المزيد من العدالة الاجتماعية والرفاهية الاقتصادية، ولا يختلف مجتمع عن اخر من حيث طبيعة التغير لكن الاختلاف يكمن في درجة التغير والآثار الجانبية المترتبة على ذلك التغير، ففي عالمنا العربي والإسلامي عموماً والمجتمع العراقي بشكل خاص يواجه الناس مؤثرات تتفاوت درجات ضغطها على طبيعة المجتمع، منها ضغوطات داخلية تتمثل بالتغيير الذي حصل في سياسة وادارة واقتصاد البلاد، ومنها ضغوطات افرزها النظام العالمي الجديد ومشاريع الاقتصاد الصناعي السياسي للشركات الكبرى العابرة للقوميات، ومنها ما نتج عن الطبيعة مثل التصحر وشحة المياه والاوبئة وامراض الحروب، القت هذه الضغوطات بثقلها على طبيعة المجتمع الذي يتمتع بهوية ثقافية دينية وباتت تشكل خطراً حقيقياً على الهوية من حيث جهود بعض القوى في اعادة تشكيل العالم على وفق نظام جديد تندمج فيه المجتمعات المتأخرة والفقيرة والمتخلفة والعالم الثالث في النسيج العالمي الذي تقف وراء صياغته قوى هويتها الثقافية غير هوية تلك المجتمعات موضوع الدمج، وسط هذه الدوامة الكبيرة يجد الانسان انه يعيش ازمة قد تأخذ به الى التغريب الثقافي على حساب الهوية الذاتية ونمو الشخصية الذي يبدأ من ذات الشخص في اتفاق مع نفسه التي تبدي استعدادها لوعي الشخص بطبيعته وطباعه وبعلاقته بالمجتمع وحرصه على ان يكتسب هوية شخصية يصنعها ذاتياً تعطيه دوراً ايجابياً في المجتمع، وهذا الحرص والاستعداد المسبق يعطيان الشخص من خلال مراحل العمر والتجربة والخبرة والتعلم، هوية مستقلة لها بصمتها الحضورية في واقع الحياة الاجتماعية، بينما الذين ليس لديهم استعداد مسبق واتفاق مع الذات على وعي الطبيعة البشرية وطباعها وبناء الشخصية فإنهم غالباً ما يميلون الى اكتساب هوياتهم من خلال الوسط الاجتماعي الذي يعيشون فيه فيغلب عليهم ماهو غالب على ذلك المجتمع من قيم وسلوكيات يفرزها التيار الاقوى في مرحلة معينة من عمر المجتمع كالتي يعيشها في العقدين الاخيرين من بداية القرن الحادي والعشرين حيث الانفتاح على العالم بواسطة شبكة الاتصالات العالمية والدعوات الى الحرية الشخصية واحترام حقوق الرأي والتعبير والتفكير تصل احياناً حد التجاوز على الذوق العام الذي يعبر المجتمع من خلاله عن طبيعته وهويته.

ترى هل ان اخفاق المجتمع العربي اليوم في عقلنة العولمة راجعٌ الى ان المشاريع العالمية تستهدف علمنة تراث المجتمع الثقافي؟ ام ان المشكلة في ان المجتمع يريد ان يعيش خارج بيته بالأجواء نفسها التي يعيشها داخله، في الوقت الذي تريد منه العولمة ان يكون كما يريد في بيته وان يكون كما يراد منه خارجه، هي تريد منه ان يكون عربياً ومسلماً داخل بيته وتريد منه ان يكون مواطناً عالميا خارج بيته على وفق ما تعنيه العالمية من هيمنة الغرب الأقوى في مجال السياسة والاقتصاد والإدارة ..

لا نستطيع الجزم بأن الانسان يستطيع ان يكون على صورة واحدة لا تقبل المراجعة او التغيير، فما بين تاثيرات الظروف ومناخات النمو المعرفي وبين ان يدرك الانسان انه ذات وليس موضوعاً، سيتمكن من اكتشاف هويته وإثبات ذاته من خلال تجاربه الحياتية والخبرات التي يحصل عليها من تجاربه وتجارب الاخرين والرسائل الثقافية التي يستوحيها من التراث ممثلاً في المتاحف والاثار والكتب والصحف والمكتبات..

يفشل كثير من الناس في فرض هوياتهم الخاصة على الاخرين ويضطرون الى التنازل عنها ليتشبهوا بغيرهم من اجل تمشية الأمور وتجاوز العقبات، فقد يعيش بعض الناس وهم غير راضين عن حياتهم وادائهم مضطرين لقبول واقعهم المفروض عليهم والذي يتعذر عليهم مواجهته وتغييره، يرى الفيلسوف الالماني "هيجل" ان الوعي البشري محدود بالظرف الإجتماعي والحضاري الخاص بالبيئة التي يعيشها الإنسان.

يسلط علم الانسان الاجتماعي وعلم الانسان الثقافي الضوء على طبيعة احساس الفرد بنوع وجوده في الحياة، فالذي ينظر الى المتحف مثلا على انه مكان يحتوي على أشياء تشير الى طبيعة وثقافة مجتمع في مرحلة زمنية من مراحل التاريخ القديم والحديث لا تربطه به اكثر من رغبة الاطلاع والسياحة الثقافية التي ينتهي مفعولها بمغادرة المكان والتقاط الصور، اما الذي يرى في المتحف موضوعاً فإنه يمنح حاضره نظرة مستقبلية يرسم ملامحها من خلال معطيات يمده المتحف بها من خلال الرسالة التي تحملها موجوداته المادية والتي يترجمها الى لغة الواقع ليقارب بها بين الماضي والحاضر كي يتجاوز حالة الرضا الوهمي التي تخدعه بها عثرات الواقع المنهك المتأخر المأزوم..

ان الحد الأدنى من الأداء الثقافي يشتمل على بذل جهود مضاعفة تصل حد تكليف النفس اكثر من طاقتها للوصول بالمواطن الى حالة التوازن، لأن حالة التوازن تمنحه امكانية الالتفات الى الوراء والوقوف عند التراث واستحضاره، اما عندما يعيش الفرد حالة من القلق وفقدان او ضعف الثقة بالمحيط الذي يعيش فيه مع المقربين والآخرين، ومع السلطة ذاتها، فإن التراث لن يعدو كونه محطة استراحة تحتاجها النفس في اوقات معينة ومواقف معينة، في الوقت الذي ينبغي له ان يكون محطة يحتاجها حاضرنا كي نمر بالاتجاه الصحيح والمسار الآمن، فالتراث هو الماضي باحداثه وشخوصه وانتاجاته، وهذا كله رصيد من الخبرة يتحول الى ثروة عندما نستثمرها في حاضرنا على وفق معيار نقدي يعود علينا بالنفع في اجادة التصرف وحسن الاختيار وتحقيق الهوية، وما حالة الضياع أو ازمة الهوية التي تعيشها اجيال اليوم إلا لأنهم لم يجدوا من يصل بهم الى حالة التوازن، ولم يتمكنوا ذاتياً من تحقيق ذلك في زمن تكالبت فيه المشاكل والضغوطات والاغراءات والتهديدات وضرورات الحياة التي لم تعد كما في السابق، فاليوم صرنا من حيث ندري ولا ندري، ومن حيث نريد ولا نريد، ضمن نظام عالمي يتحرك فيه رأس المال ليدير مشاريع ضخمة عابرة للقوميات يعود نفعها على الجميع مع الاخذ بنظر الاعتبار ان القدر الاكبر من النفع يصب في صالح المنتجين ومالكي المشاريع، فهذه المشاريع وان كانت تسهم في تشغيل ابناء المجتمعات في مختلف انحاء العالم وعلى اختلاف اوضاعهم ولغاتهم والوانهم وميولهم واديانهم، إلا انها في النتيجة نمط من انماط التبعية المتطورة، وهي تبعية يرتضيها الناس لأنها في الحد الأدنى تخفف عنهم شعورهم بإالغاء الذات، مع انها تسعى وتهدف الى ذلك ولكن عن طريق لا ينتبه اليه كثير منا، وهو طريق الاقتصاد والمال والاعمال، الطريق الذي الغى فيه اشخاص كثيرون عبر التاريخ انفسهم من اجل مكتسباته المالية والمادية..

الهوية الثقافية وفلسفة التربية..

ينبغي ان تختلف نظرتنا الى المتحف اليوم عما كانت عليه بالأمس، بعد ان تخلّت المدرسة في زمن التقينة المتطورة والشخصية القلقة وازمة الهوية، عن اداء دورها في تحقيق الهدف من فلسفة التربية القائم على اعداد جيل من الابناء يعي اهمية حفظ الثقافة في جانبها المادي كالمتحف والجريدة والكتاب والمدونات، فلأسباب كثيرة لم تعد المدرسة اليوم قادرة على النهوض بالجانب التربوي للطبلة واقتصرت على الجانب المهني التعليمي في حدود لا تدعو كثيراً الى التفاؤل..

المدرسة في اعتقاد الفلاسفة التربويين، مكان يُراد من دخول الطالب او التلميذ اليه اعطاؤه دروساً عملية اجتماعية في حفظ التراث ونقل الثقافة الى ساحة التحضر كي يرتقي المجتمع الى ما ينبغي ان يكون ـ او على اقل تقدير لمنع اصابة المجتمع بالركود الذي يؤدي الى التخلف وبالتالي الانعزال عن العالم، بينما واقع الحال يفيد بأن الناس يعيشون ويتعبون في اعمالهم وحياتهم وهم باقون على ما هم عليه، وبالتأكيد ان جانب السلطة الحاكمة له بالغ الاهمية في وصول الحال الى هذا المستوى الذي لا يخدم حركة النهضة الثقافية في المجتمع، فقد نجد الصغير والكبير يحمل جهاز موبايل ويجيد استخدام الحاسوب ويعرف كيف يتنقل عبر العالم الافتراضي، لكنه قد يكون فاشلاً في معرفة نفسه، وفي معرفة هدفه، فكثير من الناس يعيشون حياتهم مستسلمين لفكرة ان وجودهم هو حصيلة تكوين اسري اقامته علاقة بيولوجية سيكولوجية بين الاب والام، وبالتالي فقد شكّل هذا الشعور أو هذا الاداراك التلقائي، احباطاً وتراجعاً، جعل الشخص يتعامل مع نفسه وجسمه كآلة يُراد لها ان تعمل وتنتج بغض النظر عن هدف ذلك العمل وقيمة ذلك الانتاج..

الثقافة هي روح المجتمع، ولكي لا تتجمد تلك الروح ويتحول المجتمع الى كتل بشرية وتجمعات تتحرك في دائرة الاحداث اليومية للحياة، فالمتحف احد ادوار واطوار الثقافة، والتربية هي الحقل الآمن لتدريب ابناء المجتمع على معرفة هوياتهم التي يهتدون اليها بواسطة الثقافة، ويأتي الدين ليشكل روح تلك الهوية، لذلك فالثقافة والهوية والدين والمجتمع رباعية مترابطة يقوم عليها بناء الشخصية وعندما نذكر الهوية الثقافية فنعني بذلك منظومة القيم والعادات والأخلاق والمعرفة والإبداع المهني والإبداع الفكري، ومن شأن هذا الترابط الرباعي بين الثقافة والهوية والدين والمجتمع تمكين الفرد من اكتشاف هويته التي توفر له مرونة عالية في التعامل مع الهويات الأخرى دون اضرار جانبية، بل ربما توفر له اجواء ايجابية من حرية الإستخدام الواعي لمخرجات العملية الصناعية الإقتصادية العالمية فقد نكون مضطرين اليوم الى عكس الية النظرية والنتيجة، فنبدأ من النتيجة كي نرجع الى الفكرة أو النظرية، فبعد أن تمكنت ونجحت الأجيال السابقة والى وقت قريب في حفظ التراث كانتاجات ثقافية وفشلنا في احتواء هدف تلك الإنتاجات عندما لم نعد نشعر ونحن نزور المتحف مثلا اننا نتواصل مع موجوداته كأنها فينا ومنا وليست جزءاً من ماضي نستذكره بعاطفة وفخر فنشعر بنشوة هي اقرب الى كونها جرعة مهدئة منها الى كونها محفزاً مقوياً، قد يكون من المفيد بالنسبة لنا اليوم ان ننطلق من المتحف لنصل الى فلسفة العلاقة الحيّة بين الماضي والحاضر مستخدمين لذلك ادوات التقنية الحديثة بدوافع من الهوية الثقافية الإجتماعية الدينية، وهذا هو دور القائمين على حفظ التراث وتنمية وصيانة وادارة المتاحف..

باعتقادي ان الاهتمام بالمكان يأتي بالدرجة الثانية بعد الاهتمام بالانسان، لأن هدف الثقافة هو ايجاد اشخاص مؤهلين لحمل الرسالة التي تركها لنا السلف في المتاحف والكتب والمدونات والاثار والاخبار، ولكي نكون مؤهلين لحمل هذه الرسالة نحتاج الى قراءة مضمونها، والقراءة تحتاج الى لغة حيّة تضمن حصول التفاعل بين الماضي والحاضر، لكن الظروف غير المتوازنة اظطرت بعض الشباب الى ان يلغي نفسه قبالة شعوره بالارتياح في وسط يمضي بهم في طريق لا يبدو انه يصل بهم الى مكان آمن، ولأن الحاجة الى معرفة الذات حاجة ملحة وضرورية وبدونها تستحيل حياة الانسان وقد يصبح الانتحار حلاً للمشكلة كما يرى عالم النفس الدنماركي المريكي اريكسون، لقد لجأ بعض الشباب الى اكتشاف هوياتهم عن طريق الآخرين، ومن الخطورة بمكان ان يساء استخدام التقنية المتطورة بحيث يؤدي دوراً سلبياً في تدني قيمة الذات وتدني الذائقة والحس الواعي مما اسفر عن ظهور اشخاص بلا معنى او تافهين او اصحاب محتوى فارغ في واجهة المجتمع، والذي يدعو للأسف والى الشعور بالفشل ان يكون عدد الاعجابات والمشاهدات والتفاعلات والمتابعات التي يحظى بها مقطع فديو لهذا او ذاك معياراً في تقييم تلك الشخصية بغض النظر عن قيمة محتوى الفديو، يكفي انه نال استحسان واعجاب عدد كبير من المتابعين الذين شدتهم الآلة المتطورة اليها وفتحت امامهم نوافذ لصناعة هوياتهم من خلال العالم الرقمي والتقنية واعادة تكوينها بعيداً عن اللغة والدين والتراث قريباً من سوق السلعة وكان نتيجة ذلك ظهور شخصيات مضطربة قلقة مشوشة هي اقرب الى اللامعنى منها الى ابسط معاني الوجود الحي للنوع البشري، وتصل درجة الانهيار حدّها عندما تقترب من مفكرين ومثقفين يصنعون افكارهم في بيئة عربية ومجتمع اسلامي دون ان يكون لهذه الافكار صلة بواقع حياة مجتمعاتهم، بل لعلها تزيد في استغراق المجتمع في سوق السلعة ورقمنة المستهلك.. يمارس بعض دعاة الثقافة والتنوير اليوم انتقاداتهم لمنظومة قيم اجتماعية ومواريث تاريخية ومصادر دينية وعرضها على جمهور منهك يعيش حالة الضعف بسبب ضغوطات الاوضاع العامة في داخل البلاد وخارجها في عموم العالم تقريباً وهو ما قد يشكل خطراً يتهدد الهوية..

الهوية كيان مرن يتشكل ويتغير تبعاً للتحولات التي يمر بها الشخص او المجتمع، فالهوية ليست ثابتة ولأنها ليست كذلك يخشى على المجتمع العربي المسلم اليوم من ان تسهم هذه الاضطرابات والاخفاقات والاحباطات المتراكمة والمتكررة وكثرة المشاكل الاجتماعية والأسرية، في تكوين هوية مضطربة ثقافيا قد يعتادها المجتمع بسبب استمرار تراكم تلك الإضطرابات في ظل غياب حقيقي لإدارة قادرة على تلافيها، فلا يعود للكتاب معنى في حياة ابنائه إلا بمقدار ما تمليه الحاجة المادية للكتاب من حيث ان القراءة تسهم في تأهيل الشخص للحصول على موقع اجتماعي وظيفي وليس لأن القراءة تسهم في اكتشاف وتكوين الهوية التي يراها الفيلسوف الفرنسي ذو النزعة الروحية "لافل" انها تمنح صاحبها قدرة الإجابة الحاسمة عن اهم مشكلات الوجود الميتافيزيقية مثل : لماذا اعيش ؟ من انا ؟ و.. و.. ويرى عالم النفس الدانماركي "اريكسون" ان تحقيق الهوية امر حيوي وضرورة حتمية تستحيل بدونها رغبة الناس في الحياة ويرى ان يكون ميتاً افضل من ان يعيش بلا هوية..

يرى عالم الانسان البولندي "مالينوفسكي " ان ثقافة اي مجتمع تنشأ وتتطور في جو يتم فيه اشباع احتياجاته البيولوجية والنفسية التي يعمل على تلبيتها النظام الإجتماعي الذي ينظم ويحكم تبادل العلاقات بين ابناء المجتمع، فإذا تعرض ذلك النظام الإجتماعي الى ما يهدد سلامة بنائه من ظروف اجتماعية واقتصادية وسياسية وامنية فإن ما يدعو الى القلق والتشاؤم في بعض الأحيان هو ان تسهم تلك الإضطرابات والظروف المتذبذبة في ظهور ثقافة مرحلية خاصة بشريحة او طبقة وربما كل المجتمع، تشتمل على فهم جديد مختلف عن المألوف من مفاهيم مثل الكتاب والمتحف والمدرسة والجامعة، هناك من العلماء من يعتقد ان الثقافة مفهوم لا يقتصر على انتاجات المجتمع الحاضر وانها تجمع بين التجربة والخبرة المكتسبة عبر التاريخ ممثلة في مخرجات تلك المراحل الزمنية السابقة من كتب ومتاحف وآثار يضاف اليها التجارب الحية والحيوية لأبناء المجتمع في حاضره بما في ذلك الجانب النفسي والعاطفي والمعرفي والتعليمي، ولأن الانسان ينسى بحكم طبيعته البيولوجية فمن واقع المسؤولية الثقافية يستوجب ان يحدث حراكاً ثقافياً للوسط المثقف في اي مجتمع لإنعاش ذاكرة المجتمع وتقريب ماضي الآباء والأجداد اليهم باستخدام ادوات جديدة لا يشعر الناس معها انهم امام ماض جميل عليهم ان يسمعوا عنه وان يشاهدوا اثاره كجانب نظري تستوجبه احياناً ثقافة المجتمع المرحلية وحاجة الفرد الحياتية الى مصادر طاقة يستطيع بها التحرك في حياته اليومية على سبيل تمرير الوقت وتحقيق بعض المكتسبات المعاشية والحياتية التي لا تلامس الفهم العميق للثقافة..

ونحن نتحدث عن الهوية الثقافية للمجتمع علينا ان لا نغفل طبيعة هذا المجتمع والطريقة التي يعيش بها الناس، فليس من المفيد في الجانب العملي للبحث الانثروبولوجي ان نتناول ثقافة المجتمع عبر ازمنة مختلفة ونعمل على تكوين مقاربة بينها وبين ثقافة اليوم بمعزل عن الجوانب الاجتماعية والحياتية للمجتمع وللفرد وندعو الناس الى تقديس الموروث وتعظيم إرث الآباء والأجداد وتقييم انجازاتهم بينما هم يعيشون ظروف حياة مختلفة عن تلك التي قامت عليها ثقافة آبائهم واجدادهم.. ان الحل العملي المنهجي يقتضي اخذ ظروف وطريقة حياة الناس بنظر الاعتبار ودراستها دراسة وافية تعملل نتائجها على ايصال الناس الى حالة من التوافق بين المادي والمعنوي، البيولوجي والسيكولوجي في حياة كل فرد، فالثقافة كما يرى عالم الاجتماع البولندي مالينوفسكي وهو احد اهم علماء الانسان في القرن العشرين، يرى ان الثقافة تنشأ وتتطور في مجتمع بعد تلبية احتياجات افراده البيولوجية التي حددها في المأكل والملبس والزواج والسكن، من خلال تحقيق هذه الاحتياجات تتحقق حالة التوازن عند الفرد وتنعكس هذه الحالة من التوازن على المجتمع بالتالي، عندها تتشكل الهوية الثقافية المنبثقة من طبيعة ذلك المجتمع وعندها لا يغدو المتحف مكاناً تاريخياً أثرياً تأخذنا اقدامنا اليه متى استشعرنا سايكولوجيا حاجتنا الى الاستجمام والراحة والتمتع..

يقتضي مشروع الهوية الثقافية البدء من واقع المجتمع والوقوف ملياً عند احتياجات ابنائه وان نوفر حلولاً جذرية للمشاكل الإجتماعية التي أخذت تكبر في بلادنا واخذت تهدد سلامة البناء الإجتماعي فيه، إننا مدعوون اليوم من واقع الوعي الثقافي ومن واقع الحرية المسؤولة ان نتبنى كمجتمع، كمنظمات ومؤسسات دينية وتربوية وثقافية وانسانية مستقلة رعاية هذا المشروع الذي تلتقي فيه سلامة الماضي بإستقرار الحاضر لضمان المستقبل، لا شك انها مهمة شاقة جداً خصوصاً واننا نعيش في زمن لم يعد بوسع اي مجتمع ان يعالج مشاكله بمعزل عن العالم او ان يعيش بمفرده دون ان ينظر في انجازات المجتمعات الاخرى كما يرى الانثروبولوجي الامريكي كارلتون كون..

ان غلبة التيار المادي الاقتصادي وهيمنة القرار السياسي دون الثقافي على طبيعة المشهد الحياتي لشعوب العالم يجعل بلداننا امام تحد خطير ومصيري لا يتيح امامنا اكثر من طريقين، إما اكتشاف هويتنا الخاصة التي لا نزال الى الآن وعلى الرغم من كثرة الإحباطات والمعوقات، نمتلك مقومات وادوات اكتشافها خصوصاً وان مجتمعاتنا العربية والإسلامية تتمتع بوجود حقيقتين اتفق عليها كثير من علماء النفس والإجتماع والانثروبولوجيا، هي انه ما من مجتمع إلا وله دين او هو يبحث له عن دين، والحقيقة الثانية هي انه لا يوجد شخص في هذا الوجود ليس لديه شعور ديني، من خلال واقع حياة الناس الاجتماعية والثقافية يدرك الباحث الانثروبولوجي وجود هاتين الحقيقتين حاضرتين بحيوية وفاعلية في مفاصل حياة الناس على اختلاف توجهاتهم وانتماءاتهم وميولهم واعتقاداتهم وثقافاتهم وهو ما يعد خميرة حيوية مهمة لاكتشاف الهوية الثقافية للمجتمع التي تمكنه من وضع بصمته الخاصة في المشهد الحياتي.. الطريق الثاني هو الاندماج بالنسيج العالمي الذي يحكمه التيار المادي بحكم تفوقه الصناعي والتقني والقبول بالتغريب الثقافي وهو ما يفرض على الناس هوية ثقافية جديدة تصنعها ثقافة الأقوى وهي ثقافة غربية بلغة غريبة عن طبيعة مجتمعاتنا خصوصاً العربية منها، وهو طريق في ايسر محطاته يعطي للفرد حرية ان يكون كما يريد داخل بيته او داخل مجتمعه، على ان يكون كما يراد منه عندما يخرج من بيته، وهو طريق يحكم على المجتمع بالتبعية، وفي هكذا جو تضطرب الثقافة ولا يعود فيه الكتاب او المتحف أو.. سوى نشاط اجتماعي اعتباري في اطار ثقافي هو اقرب الى التمني منه الى الواقع.

***

د. عدي عدنان البلداوي

هناك ثلاث نظريات للحقيقة (truth) وهي نظرية المطابقة للواقع، و نظرية التماسك والثالثة النظرية البرجماتية، سنتطرق لكل من هذه النظريات تباعا:

1- نظرية المطابقة: وهي النظرية هي الأكثر شيوعا والأوسع انتشارا في فهم طبيعة الصدق والزيف. هذه النظرية تجادل بان الصدق "truth" هو كل ما يطابق الواقع. الفكرة المطابقة للواقع هي صحيحة (صادقة) بينما الفكرة التي لا تطابق الواقع هي زائفة. من المهم ملاحظة ان الصدق هو ليس خاصية للحقيقة الموضوعية "fact". هذا قد يبدو متناقضا في الوهلة الاولى، لكن التمييز جرى هنا بين الحقائق الموضوعية facts والمعتقدات. الحقيقة الموضوعية هي مجموعة من الظروف الموجودة في العالم بينما العقيدة هي رأي حول تلك الحقيقة. الحقيقة الموضوعية لا يمكن ان تكون اما صادقة او كاذبة، انها ببساطة تجسيد للطريقة التي يبدو فيها العالم. اما العقيدة، فهي قادرة على ان تكون صادقة ام كاذبة لأنها قد تصف او لا تصف العالم بدقة (1).

في ظل نظرية المطابقة، نحن نصف عقيدة معينة بانها "صادقة" وذلك بسب كونها تتطابق مع تلك الحقائق حول العالم. وهكذا، فان العقيدة بان السماء زرقاء هي "صادقة" بسبب حقيقة ان السماء هي زرقاء. والى جانب العقائد، نستطيع اعتبار الأقوال والفرضيات والجُمل، قادرة على ان تكون صادقة او كاذبة. الفكرة بان الصدق يكمن في كل ما يماثل الواقع يمكن تعقّبها الى زمن افلاطون وارسطو. لكن النقّاد وجدوا لاحقا مشكلة جرى التعبير عنها بمفارقة يوبوليدس Eubulides،وهو أحد التلاميذ في مدرسة ميجارا الفلسفية والتي كانت في تضاد مع افكار افلاطون وارسطو.

طبقا ليوبوليدس، ان نظرية مطابقة الحقيقة تتركنا في مأزق عندما نواجه أقوال مثل "انا كاذب" او "ما أقوله هو كذب". هذه أقوال او بيانات، وعليه يمكن ان تكون صادقة او كاذبة. لكن، لو كانت صادقة بسبب كونها تتطابق مع الواقع، عندئذ هي تكون زائفة، واذا كانت زائفة بسبب كونها تفشل في مطابقة الواقع، فهي يجب ان تكون صادقة. وهكذا، لا يهم ما نقول حول الصدق او الزيف في هذه الأقوال، نحن حالا سنناقض أنفسنا. هذا لا يعني بان نظرية المطابقة خاطئة او بلا فائدة، وفي الواقع، من الصعب التخلي عن هكذا فكرة واضحة بديهيا في ان الصدق يجب ان يطابق الواقع. ومع ذلك، النقد أعلاه يجب ان يشير الى انه من المحتمل ان لا تكون نظرية المطابقة توضيحا شاملا لطبيعة الصدق. يمكن اعتبارها وصفا منصفا لما يجب ان يكون عليه الصدق، لكنها ليست وصفا كافيا للطريقة التي يعمل بها الصدق في أذهان الناس وفي المؤسسات الاجتماعية.

نظرية التماسك The coherence Theory of Truth

وهذه هي النظرية الثانية من حيث الانتشار بعد نظرية المطابقة وهي قد تبدو وصفا دقيقا للطريقة التي يعمل بها تصوّرنا للصدق. وبعبارة مبسطة: العقيدة تكون صادقة عندما نكون قادرين على دمجها بطريقة منطقية ومنظمة في نظام من العقائد أكبر واكثر تعقيدا، وبتبسيط اكثر، العقيدة تكون صادقة عندما تتناسب مع مجموعة من عقائدنا الاخرى دون إحداث اي تناقض.

احيانا هذا يبدو طريقة غريبة لوصف الصدق. العقيدة يمكن ان تكون وصفا غير دقيق للواقع ومع ذلك تتناسب مع نظام معقد ايضا غير دقيق في وصف الواقع. طبقا لنظرية التماسك، ان العقيدة غير الدقيقة لاتزال تسمى "صادقة" حتى عندما لا تصف حقا الطريقة التي يبدو فيها العالم. فهل سيكون لهذا معنى؟

السبب هو لأن الأقوال لا يمكن التحقق منها في معزل عن العالم. عندما نختبر فكرة، نحن ايضا نختبر في نفس الوقت مجموعة كاملة من الافكار . فمثلا، عندما انت تلتقط كرة بيدك ثم ترميها، فان ما يُختبر هو ليس فقط العقيدة حول الجاذبية وانما ايضا عقائدنا حول مجموعة من اشياء اخرى من بينها ادراكنا البصري. لذا، اذا اختُبرت الاقوال فقط كجزء من مجموعة أكبر، عندئذ يمكن للمرء ان يستنتج بان القول يمكن تصنيفه كـ "صحيح" ليس بسبب انه يمكن التحقق منه مقابل الواقع وانما بسبب امكانية دمجه ضمن مجموعة معقدة من افكار يمكن اختبارها بمجملها مقابل الواقع. في هذه الحالة، نظرية التماسك ليست بعيدة عن نظرية المطابقة والسبب هو انه اذا كانت الاقوال الانفرادية يمكن الحكم على صحتها او زيفها بناءً على قدرتها على التماسك مع نظام اكبر، فانه يُفترض ان ذلك النظام هو الذي يتطابق بدقة مع الواقع. وبسبب هذا، فان نظرية التماسك تنجح فعلا في التقاط شيء هام حول الطريقة التي نتصور بها الصدق في حياتنا اليومية. ليس غريبا ان نرفض شيئا باعتباره زائفا لأنه يفشل في التماسك مع نظام من افكار نحن واثقون من صحتها. نعم، ربما النظام الذي نفترض صحته هو تماما غير صحيح، لكن ثقتنا به تكون معقولة طالما يستمر في النجاح وقادر على إجراء تعديلات بسيطة في ضوء بيانات جديدة.

النظرية البرجماتية للحقيقة

هذه النظرية تقرر ما اذا كانت العقيدة صحيحة ام لا بناءً على فائدتها التطبيقية في العالم . اذا لم تكن كذلك، فهي ليست صحيحة. وكما في نظرية التماسك للحقيقة، الصدق في هذا المعنى لا علاقة له بالطريقة التي يبدو فيها العالم حقا وانما هو فقط وظيفة لإمكانية استعمال الفكرة كنموذج لعمل تنبؤات مفيدة حول ما سيحدث في ذلك العالم. وبالنتيجة، الحقائق البرجماتية يمكن تعلّمها فقط من خلال التفاعل مع العالم: نحن لا نكتشف الحقيقة فقط بالجلوس وحيدين في غرفة والتفكير بشأنها.

هناك بالطبع عدد من المعارضات الواضحة يمكن إثارتها بوجه النظرية البرجماتية. احدى تلك، ان فكرة "ما يعمل" هي غامضة جدا. ماذا يحدث عندما تعمل العقيدة بطريقة ما لكنها تفشل في اخرى؟ فمثلا، العقيدة بان شخصاً ما سوف ينجح في عمله قد يعطيه قوة سايكولوجية مطلوبة لإنجاز الكثير لكن في النهاية، هو قد يفشل في هدفه النهائي. هل عقيدته كانت "صادقة"؟

كذلك، عندما "تعمل" العقيدة في هذا المعنى، لماذا نسميها "صادقة"؟ لماذا لا نسميها "مفيدة"؟ العقيدة المفيدة ليست بالضرورة نفس الشيء كعقيدة صادقة، وما هو أسوأ، هو ان الناس لا يستعملون عادة كلمة "صادقة" في المحادثات العادية لتعني مفيدة. فمثلا، لدى معظم الافراد، القول "من المفيد الاعتقاد ان صديقي مخلص" لا يعني ابدا نفس القول "من الصدق ان صديقي مخلص". نعم، ربما العقائد الصادقة هي ايضا عقائد مفيدة، لكن ليس دائما. وكما يذكر نيتشة، احيانا اللاصدق اكثر فائدة من الصدق.

حاليا، البرجماتية هي وسيلة سهلة للتمييز بين الصدق واللاصدق. مع ذلك، بالنسبة لتلك الحقائق التي هي صادقة  يجب ان تعطي نتائجا يمكن التنبؤ بها في حياتنا. لكي نقرر ما هو الواقعي وما هو غير الواقعي، فليس من الغريب التركيز اساسا على تلك الحقائق العملية (التي تعمل).

***

حاتم حميد محسن

...................

الهوامش

(1) يميّز البعض بين الحقيقة الموضوعية والصدق باعتبار ان الحقيقة الموضوعية fact هي كمية من المعلومات يمكن التحقق منها بالدليل. فهي عبارة عن أحداث معينة او مواقف او ظواهر يمكن ملاحظتها وقياسها، وبالتالي يمكن اثبات صحتها او بطلانها. مثال على ذلك القول ان "درجة الحرارة خارج الغرفة 25 درجة مئوية" هو حقيقة يمكن اثباتها بجهاز القياس. اما الصدق truth فهو مفهوم أوسع يتجاوز حقائق معينة. انه يتصل بالمعتقدات والآراء والادّعاءات، فهو ذاتي يعتمد على عنصر الايمان. كل حقيقة موضوعية هي صدق ولكن ليس كل صدق هو حقيقة موضوعية.

من كتاب قاموس القهر

يجب بداية ألا ننكر التاريخ، حيث الميثولوجيا الدينية قد أشارت لنا إلى قوم عرفوا عبر اسم النبي لوط، وتلك أول سمة اجتماعية عامة للمثلية، لكن بدأت تلك السمة تختفي بالتدريج وتتلاشى كمبدأ عام، لكن علينا أن نعترف بأنها قد مثلت صيرورة عامة من المستحيل الاختلاف عليها، لكن سيرورة المجتمعات أبدت تباينا واسعا، حيث لم تكن هناك آصرة واضحة بين تلك اللحظة التاريخية التي مثلت الصيرورة وبين تطور المجتمعات نحو البعد المدني، وصراحة التاريخ القديم ما شكل أي مؤشر واضح إلا المرحلة الثانية من الحكم العباسي، ومن سوء حظ الإسلام أن فترة حكم محمد المهدي شهدت حادثة مؤشرة، وواقع المجتمع العباسي أيضا حسب بعض العلاقة الشاذة التي ارتبطت بشخصية الشاعر أبي نؤسس ، حيث ساد في بعض الأشعار التغزل بالمذكر، وطبيعة كيان المجتمع العباسي في المرحلة الثانية كانت غير متزنة وتداخل صراعات حادة، ومن الطبيعي أن تتخلخل البنية الاجتماعية، وتفرز بنى شاذة إضافة إلى البنى العامة، وظهور الشطار والعيارين في تلك المرحلة أربك الوضع الاجتماعي العام، وفعلا أغلب الدلائل التاريخية تشير إلى أن سادت الفوضى خلال تلك المرحلة، ولكن علينا أن نقر بأن التغزل بالذكر قد تأصل في المجتمع العباسي البغدادي وفي سر من رأى، وما توقفت سيرورة ذلك التغزل إلى اليوم، ويعد المجتمع العراقي هو في المرتبة الأولى عالميا، على الرغم من  العالم في اطر ما بعد الحداثة اتاحت له الظروف من تغير المفهوم من التغزل الى المثلية، او ما يسمى بينين، وسادت في البعد الالكتروني مواقع عديدة لبينين او المثلية، وهناك دول اعتبرت الزواج من نفس النوع جائزا، وهناك دول اعتبرت ذلك بالرغم من تخدش  تقاليدها العامة ذلك مرضا وليس بانحدار نحو الرذيلة، وقد راعت من خلال اعتبار التحول من الجنس الطبيعي الى البنين هو حالة مرضية.

في القرن العشرين توجه العقل العلمي والفلسفي إلى دراسة مبدأ اللذة عبر الإطار الموضوعي له، لكن الغزالي قديما في التراث الفكري أشار إلى فكرة مزدوجة عن اللذة، حيث ربط الغزالي بين البطن والفرج، وفي العصر الحديث طور فرويد تلك الفكرة أكثر عبر استحداث مبدأ اللبيدو ، والذي للأسف لم يتصل مباشرة بأصول الفكرة، بل اتصل بها من عدة وجوه، وكان الأولى أن يتجه المفهوم نحو الضمير الأخلاقي للفرد البشري ويلامس ذلك الضمير، فهي أساس الاعتبارات العامة للمجتمع، وفرويدي صراحة لا يهمه خالق استقامة اجتماعية، ولا يعترض على التحول الجنسي الشاذ، بل يدرس أفقه العلمي فقط، وما بعد فرويد وعصره بلغنا أوسع حالات الأشكال وأقصى حدوده الضارة بالأفق القويم العام للحياة، وكان على المنهج العلمي أن يكون أكثر شجاعة في التفسير ولا يبقى في ذلك الحياء والخجل، فيما العالم يتوجه افتراض لإيجاد جنس ثالث بين ثنايا النوع البشري المذكر والمؤنث، وبذلك يخسر أحد أقطاب أخلاقياته الكبرى، وما جدوى علم النفس أن يستعرض لنا فقط نقاط الوهن النفسي، وصراحة القانون الأخلاقي بدت معالمه تضعف بالتدريج ويزاد وهنا حتى سقط هذا القانون المهم بعدما فرضت ما بعد الحداثة الحرية الشخصية بأوسع المديات.

لقد سقط الفرد البشري في فخ هو حفره بيديه، فبعدما حاصر الضياع والاغتراب الفرد البشري من كل جانب، وأفقدته الظروف العصيبة كل الإمكانيات التي كانت متاحة له في ظروف الحداثة، وبعد تجلي عصر الانحلال الخلقي بشكل مباشر أمام الفرد مرئيا، ودون أية قيود تفرض عليه، وللنظر أن أغلب المغريات مجانية، لا بل من يمارس يقبض أجر على عمله، وإذا كان في ظروف الحداثة من يمارس مع امرأة تعمل في البغاء فيعطيها أجرها، واليوم من يسجل له فيديو للممارسة الجنسية مع النوع الآخر أو مع نوعه، فإن له أجرا على تمثيله للجنس واقعيا، والمسألة تحولت من مفهوم أخلاقي مضاد إلى مفهوم اقتصادي خارج الاعتراضات الأخلاقية، وهذا ما أتاح للجنس الثالث أخذ زمام حريته إلى أوسع مدى، والغريب أن الواقع الجنسي في بعض البلدان قد تحول إلى وضع مختلف جدا، وضع خاص خارج تفسيرات الواقع العام من جميع الوجوه، والقانون الاخلاقي صار امامه ليس سوى مجموعة ركام، ولقد سقط حتى قانون الاسرة، فتجد اسر لا تهتم لسلوك ابنها الخارجي، رغم أن الابن انجر الى الانحراف (ويسعى سعي اعمى وراء اشباع اللذة العضوية الساذجة)1، وصراحة نسبة العمى الجنسي الشاذ تصل احيانا الى حدا يتجاوز المؤشر الى اقصى حد، ونحن نسميه الانفجار النفسي، حيث لم يعد الفرد من جهة العليا او السفلى يسيطر على نفسه، بل يفقد السيطرة على نفسه، بعدما يكون داخل اللذة يتنفس، والخيبة الكبرى ليس فقط في السقوط في الرذيلة، بل في الصمت الاخلاقي عند المنهج العلمي والكيان العام للوعي، واذا اقرنا بأن الفن والأدب قد تناول تلك التحولات الجنسية، ليس كمبدإ التحول الجنسي، بل كوضع بشري موجود في الحياة، لكن هناك مراعاة نوعية من التمثيل مقابل مال، واعتقد تلك الخيبة الكبرى اصبحت موضة وعمل، وهنا نقف بحيرة كبيرة بلا حلول.

التحولات الجنسية من الوضع الطبيعي الى وضع الانحراف ليست سوى دوافع من روح شيطانية تسعى أن ينقلب العالم على رأسه، ونحن هنا لا نحدد الاتهام رغم ايماننا بأن الاتهام صوت انساني وليس معارضة فقط من النوع البشري فقط، والمحير في الامر صار التخلي من القانون الاخلاقي في مدن مترفعة بها المآذن بشكل واسع، وجميع تلك المآذن ترفع صوت الاذان بإيمان مسموع، لكن نسته الداخلية بعيدة عن البصر والسمع، وتفسير تلك الفكرة الجدلية يحتاج مجال واسع وعميق جدا، وربما لا نصل الى نتيجة مقنعة ومقبولة في الاطار العام او حتى في الاطار الخاص، والتغيرات النوعية التي مر بها العالم، وتغير شكل العالم ومضمونه اثر كثيرا، ففي بلدان كان مقص الرقيب يمنع اي مشهد جنسي في الافلام التي تعرض في السينما، وقد انعكس عمله معكوسا في ظروف ما بعد الحداثة، حين الغي دور ذلك الرقيب الكترونيا، فحتى لو وجد ذلك الرقيب انعدمت سيطرته، وهو لا بد أن نشير ذلك المنع في تفسيره الموضوعي لم يكن اخلاقيا بقدر ما كان بحمية دينية سياسي، فاغلب الانظمة التي كانت تمنع المشاهد الجنسية الطبيعية، من جهة تحافظ على توازنها، لكن من جهة اخرى صعدت نسبة الكبت والجوع والعطش الجنسي، وايضا دفعت الكثير نحو الانحراف بعد احساسهم بفقدان المعادل الموضوعي تماما، وانعدم في نفوسهم ايضا الحب الطبيعي بنسب كبيرة جدا، وهنا لا بد من أن  نتفق بأن ذلك العلاج قد انتج سموم خطيرة جدا، حيث لم يعد يتمكن نوع من البشر الوقوف امام امرأة جميلة تبدو مفاتنها بتوازن، واليوم قد اختلفت المسألة كثيرا بعد زوال ذلك الرقيب وحميته الدينية السياسية، وصار هناك بازار الكتروني متاح للاختيار، لكن ذلك البازار مختلط وليس من نوع بشري واحد كما كان سابقا، وتلك هي الطامة الكبرى التي اثرت كثيرا على الذائقة الجنسية.

لنبدأ من فكرة اولى تسعى الى الوقوف على تاريخ التحول من الجنس الطبيعي الى ما تسميه اخلاقيات الجنس بالانحراف، ولكمة انحراف قاسية جدا، وربما تشكل مرض اقل اثرا، ولا بد أن  نشير الى أن مبدأ الانحراف قديمة جدا، وقد اشارت اليه حوادث عموريا، حين حسب الميثولوجيا الدينية، اما تحول المنحرفون الى حالة جمود تام، وقد تحولوا الى حجر، او ميثولوجيا اخرى ترى بأنهم قد حل به العذاب العظيم، ولسنا هنا على اساس الفكرة سياق ديني ولا حتى علماني، فنحن نهتم بالروح الإنسانية بشكل مجرد، وايضا لدينا سؤال لطيف، فاذا حل العذاب بقوم النبي لوط، فما ذنب اسم النبي اولا، والفرع الثاني من السؤال يسعى الى تفسير ازاء الضحايا لذلك الجنس، فهل اصابهم العذاب ايضا؟، وسؤالنا يبحث في بنية التاريخ والمواقف وابعادها، ونحن نرى المتحول هو ضحية حتى لو كان الامر بإرادته، فالتفسير الفسيولوجي يرى نقص الهرمونات الذكورية يؤثر على كيان الفرد، وكذلك المرأة ايضا اذا تصاعدت الهرمونات الذكورية تتأثر ايضا وتندفع للتحول، فلدينا جانب الذكورة التحول في جانب نقص الهرمونات يصعد العاطفة الانثوية، ويدفع الشخص اذا تصاعد العاطفة الانثوية للذروة، يتحول نفسيا الى جذب معادلة للتعامل جنسيا، وهنا نراه ضحية ليس للمجتمع، لكن لدينا ضحايا للمجتمع بلا تحديد الا للجانب النفسي، وفي مراقبة سرية وجدنا احد الاباء يضغط بشكل عصيب على الابن، ويمنعه من الخروج، او يختلط مع الاخرين ممن اكبر من عمره، بل تتصاعد قسوة الاب حتى حولت الابن الى ذكر/ مؤنث، وكيان هش وضعيف لا يمكنه مجابهة الحياة، وهذا الانموذج اذا انحرف حسب التعبير السائد، فمن الطبيعي تقع اللوم على الأب، وهو المسؤول المباشر عن انحراف ابنه، وهنا لابد من تعديل تفسير الامر من حالة الانحراف الى حالة المرض.

الحياة الصحيحة تحتاج الى بشر صحيح، والمعنى الحياتي السليم لا ينتجه الا السلامة النفسية والجسم السليم، ومن اولى التفسيرات التي تقر بأن سلامة العقل وسلامة الجسم من بديهيات الحياة السليمة، ولكن هناك متطلبات حياتية تحيلنا الى التعايش مع ما نحن وما نكره كي نتجنب الفشل اذا واجهنا في ظروف اخرى ما نكره، ومن الضروري جدا كسب التكامل الاجتماعي حتى ولو كان بنسب مقبولة، ولابد أن تكون هناك  رغبة وسعي للتكامل الروحي، ولكن لا تقبل الرغبة القسمة على اثنين، فالرغبة في الجوانب الواقعية من الطبيعي تماما أن تختلف عن الجوانب النفسية، وذلك الاختلاف من الطبيعي له الدور في الفصل بين الملوس والمحسوس، ولابد أن (نقول أن الرغبة لا  تكون بتاتا مرتبطة "بالقانون" ولا تتحدد بأي نقص اساسي)2، ونحن لا نهتم هنا اساسا بالرغبة الخارجية التي تفرضها امثلة متعددة من المجسدات، بل نهتم بالرغبة الجوانية، والتي من الممكن أن تتفاقم وتصل الى الذروة، ويشكل تعدي الذروة حسب تفسيرات علم النفس حالة انقلاب على البعد الطبيعي، وهنا تنحصر فكرتنا، فرغبة التحول هي ليست نتاج شيء سوي، بل على العكس تماما، هي نتاج وضع نفسي تفاقم فانقلب الى انهيار، وهنا توجه الفرد الى التحول والرغبة المعكوسة جنسيا، ولا يمكن أن نضع اللوم بشكل مباشر على المتحول، فهو ليس المجتمع ولا هو الاوضاع النفسية، ولا هو الذي انتج الرغبة او اللذة المنفلتة لوحده دون مشاركة اخرين، بل هو ضحية حتى لأخلاقيات مجتمعه، وطبيعة المجتمع في الحكم الحاد لا يتيح للمتحول أن يدافع عن نفسه، والمجتمع العام يضع حالة التحول بين قوسي الذنب والخطيئة.

لو نوسع افاق الفكرة اكثر ونبحث ليس عن الفعل، فهناك اراء ترى إن للمكان اثره في تفعيل هذا الفعل الجنسي المضاد، ومن تلك الآراء رأي فرويد التي يرى من خلاله أن بؤرة المكان من مثل السجن له الدور في تفعيل الجنس المضاد، حيث ظروف المكان وغياب المرأة لظروف زمانية طويلة يدفع الافراد الى التحول للجنس المضاد، والمكان كالسجن له دور مباشر في دفع الافراد الى الاندفاع لممارسة الجنس المضادة، وحتى منهم من اخلاقه ترفض ذلك الامر، فيتحدى البعض منه حتى اخلاقه، على وجه الخصوص اذا كان المتحول له تأثير رمزي كبير، ونحن لا نرفض فكرة تأثير المكان وعلى وجه الخصوص السجن، فنحن هنا نسعى الى التفسير الموضوعي، ونبحث في جوانب الفكرة من كل ابعادها، والمكان كالسجن نؤمن بأنه له تأثير قوي، وقد شاهدنا افلاما سينمائية مركز التصوير هو السجن، وكاتب السيناريو اكد صحة فكرة فرويد ولم يتجاوزها، وهذا ما يضيف لافق الفكرة تأكيدات من خلال الفن السينمائي، ونحن مع تلك الفكرة، فوضع شاب جميل صغير العمر مع شخص اكبر منه، واذا كان الكبيرة يملك القوة والشراسة يكون الشاب الاصغر بالتحول ربما خوفا وربما يتصاعد الحرمان مقلوبا وينجذب نحو القوة، ويمكن أن يحصل العكس ايضا، ويمكن اذا كان الكبير بروح الجمال والمحبة والوعي المؤثر، ايضا يمكن كسب الموقف الجنسي لصالحه، ولا نضع اي نسبة من اللوم على الصغير ولا الكبير ايضا، فالمكان هو السبب اساسا.

إذا فسرنا التحول أو الجنس المضاد هو أقرب إلى الحالة المرضية، فأننا هنا نحتاج علم النفس أن يعطينا البراهين، وذلك أمر عصيب جدا، ولكن في حالة الإنصاف نقول بأن الجنس المضاد هو ممكن أن يكون حالة مرضية من جهة التأشير على الجوانب المرضية، ومن جهة أخرى لا يمكن أن نقر أنه حالة مرضية، وعلي وجه الخصوص فيما نشاهده مرئيا من عروض أفراد التحول والجنس المضاد يتعاملون كما تتعامل النساء في الجنس الطبيعي، فالمرأة تاريخيا هناك سيرورة واسعة للبغاء، على الرغم من  تحوله من صورة إلى أخرى، وهذا المجال الجنسي موجود في المدن المتحضرة والبدائية أيضا، فلقد عرف العرب قبل الإسلام وجود البغاء في البنية العامة، لكن كان فوق خيم البغاء راية حمراء، وذلك الأمر من الصعب تفسيره، فمجتمع البداوة لا يملك الوعي المؤهل لترسيم صورة بذلك المعنى، ونعتقد تلك استعارة من المجتمع اليهودي أو النصراني، ونحن مع تحرير الفكر والمعرفة من السكون، ولا نتعامل مع المواقف في السكون التاريخي، ونجد من المهم التعريج على الجنس المضاد من خلال الجنس الطبيعي، فالجنس المضاد أيضا انتعش في مراحل تاريخية سابقة، فالعصر العباسي الثاني الذي كان غير متماسك كما العصر الأول، فقد أثمر عدم تماسكه إنتاج العيارين والشطار، ووجود جماعة للتغزل بالمذكر، وتلك المرحلة هي نجدها مرتبكة ومعقدة سياسيا واجتماعيا ودينيا، ومن الطبيعي أن تنتج ظروف مضادة للظرف الطبيعي.

الجنس المضاد اليوم مزدهر بصورة غير طبيعية، وإضافة إلى ذلك هناك تجاوز حتى لمفهومه في التحول، وصراحة هناك صراع نفسي لا نعرف الغايات التي خلفه، فنحن نؤمن بأنه لا بد من وجود نسبة للأخلاق العامة، فيما العروض المرئية من الجناس المضاد ليست مقنعة في إطار تمييز ما هو ضد الإنسانية، فمثلا في موقع عرض أفلام الجنس المضاد هناك نسب كبيرة للجنس المحرم، فممارسة أم مع ابنها هو هدم للأخلاقيات العامة، وإذا نهم بالسؤال عن الغاية التي تسعى إليها أفلام من ذلك النمط العدواني صراحة، ومؤكد عرض أفلام الجنس المحرم بدوافع مريضة وغاية بشعة، وكان من المفروض أن تتدخل هيئة الأمم، أو هناك لجان أخلاقية كبرى تقف بوجه الجنس أو الزنى بالمحارم، فهو الحالة التي يجب الوقوف ضدها بشكل مباشر من جميع المجتمعات، فهي ستعني ضياع الجنس البشري ونصبح فعلا حسب الرواية التي ترى بأن ابني آدم تزوجا أختيهما، وإذا بلغنا ذلك المستوى من الانحراف الوضيع، فسنكون مجتمعات مشوهة لا يحكمها قانون الأخلاق العام، ولا حتى الأعراف المعهودة تاريخيا، والسؤال جدير حينها إذا نسأل عن علة ذلك الانحدار؟، ونحن نؤمن بأن لا ضرر فادح لتلك الافلام التي فعلا شاذة تماما، لكن تقديمها بتلك الصورة هو امر وضيع وحقير.

***

محمد يونس محمد

.......................

1- ما فوق مبدأ اللذة، سيجومون فرويد، ترجمة الدكتور اسحق رمزي، دار المعارف، ص 12.

2- حوارات في الفلسفة والادب والتحليل النفسي والسياسة، جيل ولوز – كلير بارني، ترجمة عبد ازرقان- احمد العلمي، دار افريقيا الشرق- ص 114

هل طبيعة العقل جدلية كما يقول هيجل؟

وهل قوانين الطبيعة وجدت يحكمها الجدل الديالكتيكي كما يقول انجلز؟

لا تعتبر مصادرة فكرية فلسفية قولنا ان كلتا العبارتين خاطئتين.

في تخطئة عبارة انجلزفأن قوانين الطبيعة ثابتة فيزيائيا وهي قوانين ليست من صنع الانسان ولا يمكن التلاعب بها ولا دخل للانسان ان يحاول تغييرها بل قدرات الانسان معها هو في كيفية اكتشافها والاستفادة من تطبيقاتها في تحسين حياته والتكيّف المتعايش مع بعضها.

قوانين الطبيعة الثابتة يغلب عليها طابع الثبات العلمي والفيزيائي الدائم ولا تعي ولا تدرك تلك القوانين اهمية الدخول في جدل مع قوانين والظواهر التي هي من صنع الانسان. فالثابت من القوانين الطبيعية لا يدخل مع قوانين العقل المصنوعة انسانيا المتغيرة باستمرار.

الديالكتيك الجدلي سواء في المادة او التاريخ يحكمه القانون الاول (وحدة وصراع الاضداد) بمعنى حركة التطور التاريخي جدليا اول ما تتطلب هو وحدة قطبي التناقض، وتعني الوحدة هنا وحدة قطبيي التضاد الجدلي بعلاقة تجانس نوعي متماثل بينهما فمثلا لا يمكن حدوث جدل تطور وحركة تضاد ديالكتيكي بين شجرة وحيوان. فهما لا يحملان المجانسة النوعية الواحدة كما ينفقد بينهما عامل التضاد بينهما. لذلك لا يحصل جدل بينهما ولا يمكن ان يحصل.

فالديالكتيك في المادة والتاريخ ومظاهر الطبيعة، كل نوع من جدل يحصل بين واحد او اكثر من ظواهر ما مررنا به المادة والتاريخ ومظاهر الطبيعة يجب ان يحصل بين قطبين متضادين يحملان المجانسة النوعية الواحدة كما يحملان التضاد في وجوب زوال السلب على حساب فوز ونجاح الايجابي الذي يحمل استحداث ظاهرة جديدة هي الاخرى محكومة بجدل تغييري دائم لا يتوقف. اذن كي نحصل على ظاهرة جدل ديالكتيكي علينا التوفر على:

- طرفان متضادان تحكمهما المجانسة النوعية الموحدة المتماثلة التي تجمع بينهما على صعيد وحدة التجانس النوعي.

- الطرفان المتضادان اللذان يشكلان طرفي الجدل هما طرفين تحكمها الحركة الدائبة المستمرة في رضوخهما لتقبل التغيير الذي سيكون حاصل عملية التضاد بينهما جدليا بوجوب اندثار وزوال احد الطرفين لحساب الاخر.

- كل جدل ديالكتيكي بين متضادين لا يتم الا في مساعدة ظروف موضوعية لا علاقة لارادة الانسان بها. وهذه الظروف تسمى العوامل المساعدة.

اما عبارة هيجل الثانية حول مقولته ان الجدل الحاصل في المادة والطبيعة والتاريخ انما هو انعكاس لرضوخ هذه الانواع من الجدل  لهيمنة وتوجيه وعمل العقل الذي طبيعته ديالكتيكية جدلية. فهذه مقولة مغرقة في مثالية مصنّعة من قبل فيلسوف مثل هيجل الذي لم يكن يعرف آلية حدوث الجدل في المادة والتاريخ واقعيا فرمى الكرة باحضان كل من فيورباخ وماركس وانجلز في مقولته طبيعة العقل جدلية لذا مرجعية كل ظاهرة جدلية هي مصدرها طبيعة العقل الجدلية..

بعض القراء لكتاباتي يعرفون اني كتبت نقدا في تخطئة عبارة هيجل الابتذالية هذه. عبارة هيجل خرافة ابتدعها فلا يوجد عقل بشري واحد عقله مبرمجا جدليا في طبيعته الخلقية البيولوجية التي وجد نفسه عليها. اراد هيجل الاستفادة من مقولة ديكارت الفلسفية الصائبة هي ان أعدل قسمة تجمع الناس انهم يمتلكون العقل. ديكارت لم يقل أن جميع هذه العقول المتساوية في وظائفها البيولوجية يجمعها خاصية واحدة انها جميعها تفكر جدليا ...او جميعها تفكر ميتافيزيقيا ولا ان تفكر علميا فقط ولا ان تفكر دينيا او اسطوريا فقط. فمن اين اتى هيجل فيلسوفنا الكبيربمقولته ان طبيعة العقل البشري جدلية. معتبرا جدل العقل هو سبب حدوث الجدل في المادة والتاريخ.

لو افترضنا ان مقولة هيجل طبيعة العقل جدلية صحيحة، وهذه الخاصية العقلية هي السبب الكافي الذي يجعل من الجدل الديالكتيكي في المادة والتاريخ وامور الحياة سارية المفعول.

فهذا الافتراض اللامنطقي فلسفيا واللاعلمي في تعليب خصائص العقل في نمذجة ابتذالية واختصارها بخاصية واحدة ان العقل بطبيعته جدليا على حد تعبير هيجل. ومن نافل القول تاكيد بديهية بايولوجية ثابتة انه في تعدد عقول الافراد الى ملايين بل مليارات من العقول المتفردة بالتفكير الخاص بها تصبح نمذجة تعليب خصائص العقل واختزالها بخاصية واحدة ان العقل طبيعته جدلية إسفاف فلسفي.

فالفكر الصادرعن عقل فلاح يختلف عن تفكير عامل وتفكير طبيب يختلف عن تفكير مهندس او عالم فيزياء وهكذا.من جانب اخر العقل الجدلي هو تفكير تجريدي لا يفرض نفسه ولا يكون سببا في إحداث جدل بالمادة او التاريخ خارج تفكير العقل التنظيري. في حين تذهب المادية التاريخية الماركسية الى ان جدل المادة والتاريخ هما سببا تفكير العقل جدليا.

***

علي محمد اليوسف

 

المقولة الاولى:

يقول الفيلسوف ريتشارد فايمان (الزمن هو ما يحدث عندما لاشيئ آخر يحدث).

بالحقيقة كلنا نعلم ان اسحق نيوتن مكتشف قانون الجاذبية كان يعتبر الزمن جوهرا كليا لانهائيا مطلقا. الى ان فنّد هذا الرأي انشتاين في النظرية النسبية عام 1915 قائلا الزمن نسبي.

لا نيوتن ولا انشتاين اعتبرا الزمن الارضي هو (توقيت) زمني نسبي وهو زمن واحد في خاصيته الكليّة المتفردة انه ليس موضوعا يدركه العقل. وان هذا النسبية بالزمن تكون لدينا اوضح حين نتعامل مع موضوعة الزمن قياسا بسرعة الصوت وليس بمقياس سرعة الضوء. ومعلوم ان سرعة الضوء تفوق سرعة الصوت كثيرا (تبلغ سرعة الصوت 355 مترا في الثانية. وتبلغ سرعة الضوء 300 الف كيلو متر في الثانية في الفراغ).

لماذا اهتدى العلماء الفيزيائيين الى اهمية ترتيب فهمنا للزمن بتوقيتات زمنية تبدأ من الثانية وتنتهي بالفصول الاربعة بمعيارية قياس سرعة الصوت على الارض. هذا التقسيم بين التوقيت الزمني الارضي النسبي واختلافه عن الزمن الكوني هي ليست حقيقية بمعيارية وحدة الزمن النسبية على الارض وفي الكون معا الغير قابلة للتقسيم والتجزئة فالزمن لا يحده زمن حسب ارسطو لايجانسه فمثل هذا الزمن غير موجود.. لذا نطلق على زمن الارض (توقيتا) بالاستدلال الفيزيائي على حركة الكواكب في المنظومة الشمسية. وان التوقيت لقياس مقدار حركة الاجسام لقطع مسافة معينة انما هو زمن استدلالي حيادي فقط ولا يكون موضوعا مستقلا يدركه العقل.

اذا اعتبرنا الزمن هو سبب معياري لقياس مقدار حركة جسم ما لقطع مسافة معينة. والزمن محايث حيادي ميكانيكي لا يدركه العقل كموضوع مستقل عن الاجسام المتحركة التي يحتويها. مع هذا قال ارسطو في تعريفه الزمن انه مقدار حركة الجسم لكن الزمن ليس بحركة مستقلة وليس موضوعا للعقل. عندها يحدث الزمن حين يكون كل ما لا يقع تحت سطوة المطلق الزمني الذي هو في حقيقته المثبتة علميا نسبيا المحايث لكل موجود او موضوع يدركه العقل. كما ورد في عبارة ريتشارد فايمان.

المقولة الثانية

يقول  دي سوكا (الزمن يسبق الوعي )

الوعي هو الشعور الادراكي عقليا وان كان يختلف جوهريا عن اللاوعي اي اللاشعور في تغييب هيمنة العقل المنظمة للادراكات. فان الاختلاف بينهما يكون اكثر عمقا حين نجد حقيقة الوعي انه لا يتم من غير محايثة الزمن له ادراكيا. بينما اللاشعور لا يحتاج الزمن حسب مقولة فرويد. اللاشعور في علم النفس والفلسفة هو ايضا لا يكون موضوعا لادراك عقلي. اللاشعور هو تنظيم افصاحات العواطف والوجدانات المنفلتة عن العقل.

لكن هذا قطعا لا يوقعنا بخطأ ان الوعي لا زمني. فوعي الاشياء والموجودات لا يكون ادراكها الا بمحايثة زمانية تلازمها. فالوعي هو مرحلة متقدمة من الادراك الحسي الزمني. وفي حال افتراضنا استبعاد الزمن عن الادراك بكل الاحوال انما نكون بذلك الغينا آلية العقل الفيزيائية ان الادراك محكوم ولا مناص له ان لا يزامنه الزمن والا نعدم قابلية الادراك للوعي ذاته رغم التجانس الوظائفي بينهما.

الزمان ادراك معرفي وليس علاقة جدلية مع المدركات والمواضيع. والزمن جوهر محايث ومحايد لادراكاتنا بمعنى الموجود الذي لا يلازمه محايثة زمانية لاتدركه الحواس ولا العقل لكنه اي الموجود يبقى كينونة مستقلة. الزمن لا يتموضع مع الاشياء التي يلازمها ولا يدخل في علاقة جدلية معها كما لا يدخل في علاقة تخارجية معرفية تبادلية معها ايضا. الزمن دلالة ادراك وليس مدركا بذاته.

المقولة الثالثة

في عبارة للكاردينال دي سوكا فيلسوف القرون الوسطى الاوربية (الزمن هو بعد سببي للزمكان).

الالتباس الحاصل بالعبارة يجعل منها غير دقيقة هو ان دي سوكا اجاز لنفسه تقسيم الزمن حسب ما يرغبه فيزيائيا. حقيقة الزمن انه جوهر كلي لا يتجزا ولا ينقسم على نفسه حسب الحاجة لذلك. الزمن في اللازمكان لا يكون سببا فيه وله.

نتسائل بماذا يختلف ان يكون الزمن سببا للمكان او ان نقول الزمن سببا للزمكان. المكان بموجوداته سابق في وجوده على الزمن المحايث له كدلالة معرفية وليس سببا لوجوده. ويعتبر افلاطون نظامية الطبيعة المكانية هي التي تنظم لنا عشوائية الزمان. والزمن ايضا لا يكون سببا في توليفة موجودة لافكاك بين طرفيها هي الزمكان التي يتموضع الزمن فيها حياديا كدلالة منفصلة عن المكان كموضوع ولا يتموضع الزمن كجزء تكويني للمكان. لذا كان خطا دي سوكا اعتباره لوجود زمن لا يدرك مستقل عن توليفة الزمكان التي تتالف من زمن زائدا مكان. لا يستطيع الزمن التحدث عن نفسه باكثر من انه دلالة معرفة وفهم وادراك الاشياء والموجودات فقط.

عبارة دي سوكا كي تستقيم منطقيا فلسفيا يجب ان تنطلق من حقيقة فلسفية قارة هي وحدة الزمن الكلية ولا يوجد لا على الارض ولا في الفضاء زمانان احدهما يدرك الاخر استقلاليا. الخطا الثاني عند دي سوكا انه يعتبر الزمن سببا للزمكان وهو اي الزمن وجود محايثة دلالية لمعرفة وادراك الاشياء باستقلالية تامة عنها او التداخل معها. كما هو نفس الشيء عندما نكرر الخطا ثانية ونقول الزمن سببا للمكان. في حين المكان وجود سابق على محايثة الزمن الادراكية له. ومن المحال ان يكون الزمن خالقا الاشياء والموجودات.

المقولة الرابعة

لنرى ما قاله اسبينوزا في منحى اكثر غرابة قوله في مبحثه الاثير لديه مذهب وحدة الوجود قوله اننا بدلالة ازلية الجوهر الخالق غير المخلوق – يقصد اسبينوزا بالجوهر الازلي هو الله – ندرك جواهر الاشياء بالطبيعة والوجود وظواهر العالم من حولنا. واضاف انه بدلالة الجوهر ندرك الوجود وماهية الشيء سابقة لوجوده،. وبذا اصاب اسبينوزا كلا من الماركسية والوجودية بمقتل قولهما الوجود يسبق الماهية او الجوهر.

اول ملاحظة تؤخذ على ما ذهب له اسبينوزا ان الجوهر الالهي الازلي المطلق الذي لا يتقدمه خالق. والجوهر بمعناه الفلسفي المادي المتعين وجوده خلف الصفات الشيئية افتراضا كلاهما جوهران لا يدركهما العقل وينطبق عليهما مبحث الميتافيزيقا. واسبينوزا لم يتعامل مع الوعي بعلاقته بالمكان.

ثاني ملاحظة لم يوضح لنا اسبينوزا فلسفيا فك الاشتباك التعشيقي في ثنائية الزمكان. بين زمان هو جوهر مستقل لا يشترط ادراكه، وبين المكان المتعيّن ماديا الذي لا يمكننا تجريده عن الدلالة الزمنية التعريفية له. احدث الفرضيات الفلسفية التي يؤيدها العلم اننا لا يمكننا ادراك مكان من دون ملازمته الزمانية له وهي مقولة متداولة عمرها قرونا طويلة..

صحيح اسبينوزا لم يقع بخطأ يمكن للعقل البشري اعتباره الزمن موضوعا ادراكيا مستقلا يمكن معرفته الماهوية. لكنه سقط بما هو افدح ضررا مما سبق ذكره قوله (بدلالة الجوهر الازلي ندرك الوجود ، والماهية تتقدم الوجود) مع اقراره ان الجوهر النسبي الموزع خلف صفات الموجودات بالطبيعة، والجوهر الالهي الازلي الخالق لكل جوهر، كلاهما خارج ادراك العقل لهما لا كجوهرين منفردين ولا متلازمين.

ختاما لو عدنا الى ما قبل اثبات انشتاين في نظريته النسبية العامة 1915 التي قال بها ان الزمن بخلاف نيوتن ليس مطلقا بل نسبيا. لوجدنا انفسنا امام حقيقة ان مطلق الزمان ونسبيته قد يجدها علماء الفضاء اكبر انجاز كوني، لكنه لا يمثل تلك الضرورة الحياتية على الارض بان مقدار نسبية الزمن الارضي المقاسة المعتمدة هي من العملاتية التي ترجيء الفتوحات الفلكية خلفها. ونحن على الارض نتعامل مع الزمن كتوقيت لحاجتنا ذلك. وليس الزمن كما هو جوهر خاصيته كونية.

***

علي محمد اليوسف

- (هناك تجاوزات رقمية سريعة التأثير في بنى المجتمع الهش. وهناك آثار خطيرة على وحدة قيم هذا المجتمع. لكن الأجدر بالتفكير الآن، هو كيف نجتاز عصر الرقمنة، في بؤر متفسخة من الأدلجة والمثاقفات المستغربة وتنويعاتها اللا أخلاقية الشاذة؟).

ما يطلق عليه حديثا ب"علم الاجتماع الرقمي"، لا يبحث فقط في الاتصالات والإعلام والدراسات الثقافية، بل يتجاوز ذلك، إلى تقنيات الكمبيوتر واستخداماته الشعبية المنتشرة.

أدارت تكنولوجيا الرقمنة، عالما مدهشا، وحقلا غير مسبوق في السوسيولوجيا الإعلامية، وهو ما سيؤثر لا محالة في متاهات التعامل مع المنصات عبر الإنترنت، وتجاوراتها وتقاطعاتها أيضا مع المجتمع والثقافة والسلوك البشري. وأضحى مفهوم المجتمعات الرقمية، والتفاعلات الاجتماعية عبر الإنترنت، وتأثير التكنولوجيا على الهياكل الاجتماعية، وآثار الوسائط الرقمية على الهوية والعلاقات الاجتماعية، الأكثر حضورا في علم الاجتماع الرقمي المذكور. الشيء الذي سيفرز قيما في النقاش العام لهذا التوجه، في السنوات القليلة القادمة، خصوصا وأن العديد من منظري هذا السياق الأكاديمي والبحثي، سيضعون ضمن تناولاتهم الأساسية مسألة "عدم المساواة وديناميكيات القوة التي تنشأ في العالم الرقمي"، وواجهات النشر السريع ضمن وحدات التواصل الاجتماعي المختلفة، وآفاقها وانتظاراتها في دراسات الاتصال والأنثروبولوجيا ودراسات التكنولوجيا.

لقد أثار الأمريكي فاريل وبيترسن، مصطلحا جديدا، يواكب هذا الرصد المستقى مما أسماه "عالم الاجتماع المتردد" ، ويقابل هذا التوجه التقائية البيانات للدراسات البحثية الاجتماعية، التي يتكأ عليها، مع ما يحتمله التحول الطفيف، في مجال الدراسات الثقافية متعدد التخصصات (الذي غالبًا ما يكون مرتبطًا بالدراسات الإعلامية) والذي ظهر في السبعينيات، وكذا الأبحاث والتنظيرات المتعلقة بوسائل الإعلام.

وتذهب دراسات غربية، إلى أن مختصي الدراسات الثقافية كانوا يهتمون بشكل خاص بالثقافة السيبرانية بدلاً عن مصطلح "مجتمع المعلومات" أو "علم اجتماع تكنولوجيات المعلومات" الذي يميل إلى استخدامه في علم الاجتماع. إلا أن التركيز "السيبراني" على الدراسات الثقافية ضمن باراديجم الأبعاد المستقبلية والخيال العلمي للتكنولوجيات المحوسبة، ضيقت واسعا، وأضحت "تكنولوجيا المعلومات" موجهة بالضرورة للاستخدام المبني والواقعي والنفعي لهذه الأجهزة للوصول إلى المعلومات.

والحقيقة أن وحدة الهدف السوسيولوجي، في هذا المضمار الجديد والمتجدد، ظل يمايز في الجوهر بين الثقافة الإلكترونية والجوانب الموازية التي تؤطرها وسائل الإعلام والثقافة الشعبية.

واستبق علماء الاجتماع البريطانيون هذا الاحتدام، ليطرحوا تيمات أكثر وعيا وأوسع نطاقا، فقاربوا الجريمة والاغتصاب والقتل والطبقية الاجتماعية. فكان لذلك وقع فاعل في عقول الناس وثقافتهم واجتماعهم، وهو ما سرع بطرح إشكالات القيم المجتمعية، كالقيود المفروضة على الحريات التي تفرضها الهياكل الاجتماعية مثل الطبقة الاجتماعية والجنس والعرق، والآثار الناجمة عن تداخلات السياسة بالدين، والحقوق الإنسية في المجتمعات الإثنية ..إلخ.

من خلال قراءاتي البحثية، لبدايات هذا العلم، ودوره في حلحلة السياقات التي شهدت مؤخرا بزوغ أسئلة جديدة في وسائل الإعلام الجماهيرية والرقمية، اكتشفت أن أول بحث نُشر لاستخدام مصطلح “علم الاجتماع الرقمي” كان لعالم اجتماع أمريكي في مجلة أمريكية وين سنة 2009، وأن جمعية علم الاجتماع البريطانية قد وافقت رسميا على مجموعة دراسية جديدة في علم الاجتماع الرقمي عام 2013. كما قدمت جامعة جولدسميث، جامعة لندن، أول درجة ماجستير في علم الاجتماع الرقمي، وتم نشر أول كتاب بهذا العنوان في عام 2013 (Orton-.

يقول كيب اورتون "لا يقتصر علم الاجتماع الرقمي على قيام علماء الاجتماع بالبحث والتنظير حول كيفية استخدام الآخرين للتقنيات الرقمية أو التركيز على البيانات الرقمية المنتجة عبر هذا الاستخدام".

ووفق هذا المنطلق، فإن لعلم الاجتماع الرقمي مضامين أوسع بكثير من مجرد دراسة التقنيات الرقمية، مما يثير تساؤلات حول ممارسة علم الاجتماع والبحث الاجتماعي نفسه.

 ويواجه هذا التخصص رهانا آخر حول كيفية استخدام علماء الاجتماع أنفسهم للوسائط الاجتماعية وغيرها من الوسائط الرقمية كجزء من عملهم. كما تميل نفس أنواع الاهتمامات والمناهج النظرية إلى المشاركة من قبل علماء الاجتماع الذين يكتبون على وسائل الإعلام الرقمية وآخرون يعلقون على القضايا ذات الصلة مثل مستقبل علم الاجتماع كنظام، وأنواع أساليب البحث التي ينبغي استخدامها، وكيف ينبغي تصورها، والطرق التي أصبحت بها قضايا القياس والقيمة بارزة في المجتمعات المعاصرة، وظهور اقتصاد المعرفة والتشكيلات السياسية الجديدة وعلاقات القوة الواضحة. في حين أنه لا يمكن لجميع هؤلاء العلماء تصنيف أنفسهم على أنهم علماء اجتماع رقمي على وجه التحديد، إلا أن عملهم ساهم بشكل كبير في الاتجاه المميز للتخصص الفرعي كما ظهر مؤخرًا.

السؤال المطروح بإزاء هذا القول، كيف ننخرط نحن كإعلاميون وباحثون في حقول الاتصال والثقافة والفكر، في بنية مفاهيمية لا تتمظهر ضمن تفاعلاتنا المجالية. وليس لها أي صدى في اختياراتنا وتمثلاتنا؟.

ما هي العلامات التي تتقاطع فيها معارف العلم التأويلي الجديد "علم الاجتماع الرقمي"، وقياساته الأفقية، التي أضحت فاعلا استراتيجيا في كل اكتشافات العصر التكنولوجي المتغول، بكل جغرافياته اللامحدودة وفواعله المترامية وأدواته الخطيرة؟

كيف سنتمكن من تجاوز الفوارق الشاسعة بين عالمين متناقضين متصارعين، يتفاوتان في تحديد عناصر الفهم والتلقي، ويتناظران في أسباب الوجود والسيرورة؟

هل ننجح في توسيع هذه الحدود المصطنعة، ليصير الكائن التكنولوجي الرقمي، جزءا من الفهومات السياسية والثقافية والهوياتية، المأمولة أن تنتقل بنا من عالم الخوف والشك والاستقواء وتردي القيم الكونية، إلى فضاء مشترك مسالم متسامح، يعدل في توزيع الثروة العلمية والمادية، وينصف في توحيد رؤى التحضر والعيش بكرامة، ويناصر مواثيق الأمن والائتمان، بكل خلفياته المجالية والبيئية والتنموية ..إلخ.

***

د. مصطَفَى غَلْمَان

 

كثيراً ما أثير السؤال حول ما إذا كانت الفلسفة علماً، وإلى أي مدى هي علم، وما هي علاقاتها بالعلوم الأخرى. للعثور على الحل، يجب علينا أولا تعريف العلم. للوهلة الأولى، يبدو لنا العلم كنظام معرفي. لكن هذا النظام له أمر خاص يجب تحديده. للوصول إلى هناك، دعونا نرى ما هو هدف العلم.

يبدو أن العلم يحوز على غرض مزدوج: فمن ناحية يجب أن تلبي حاجة الروح؛ ومن ناحية أخرى، يهدف إلى تسهيل وتحسين الممارسة. حاجة العقل هذه هي غريزة الفضول والشغف بالمعرفة. أخيرًا، يهدف العلم دائمًا، إن لم يكن الهدف، إلى تحسين الظروف المادية للوجود، على الأقل، من خلال حقيقة أنه يسهل الممارسة ويحسنها من خلال شرح النظرية. ويحقق هذا الهدف المزدوج بوسيلة واحدة وهي التفسير. ومن خلال شرح الأشياء، يشبع العقل غريزة الفضول على أكمل وجه ممكن. إن معرفة أن الحقائق موجودة هي متعة أولى، ولكن معرفة سبب وجودها وفهمها هو إرضاء لمستوى أعلى. يمكننا أن نتصور العلم كصراع بين الذكاء والأشياء. اعتمادًا على ما إذا كان الذكاء منتصرًا أم مهزومًا، فإنه يرضي أو يعاني. إنها سعيدة بشكل خاص عندما تتمكن من فهم الشيء الذي تفحصه تمامًا، وفهمه، وجعله خاصًا بها، إذا جاز التعبير. هذا هو التفسير المثالي. لذا فإن الشرح هو أفضل وسيلة لإشباع غريزة الفضول. كما أنها أفضل طريقة لتحقيق الهدف الثاني للعلم من خلال جعل الأشياء قابلة للاستخدام بسهولة أكبر. عندما نعرف شيئًا ما بشكل كامل، يمكننا استخدامه بشكل أفضل وأكثر فائدة مما لو كنا نعرف وجوده فقط. لأن الشيء الموضح والمفهوم أصبح [كلمة غير مقروءة] نستخدمه أفضل بكثير من الشيء الأجنبي. في حين أن الحرارة، على سبيل المثال، التي نعرف قوانينها جيدًا، قد أدت إلى ظهور التطبيقات الأكثر فائدة، فإننا نستمد فائدة قليلة من الكهرباء، التي لا نعرف طبيعتها أو قوانينها الحقيقية والتي يكون استخدامها تجريبيًا بالكامل تقريبًا. لذا، فإن أفضل طريقة لتحقيق هدف العلم هو الشرح، يمكننا أن نقول: هدف العلم هو الشرح. لكن هناك شكلان من أشكال العلم وطريقتان للتفسير. تشرح الرياضيات من خلال البرهنة، أي من خلال إظهار أن النظرية المراد إثباتها متضمنة في نظرية أخرى مثبتة بالفعل، وأن ذكر أحدهما يعني ذكر الآخر، وأن أحدهما، في كلمة واحدة، مطابق للآخر. فالإظهار رياضيًا يعني إنشاء هوية بين المعلوم والمطلوب. لذلك تشرح الرياضيات عن طريق علاقات الهوية. كيف نثبت أن الزوايا الثلاث للمثلث تساوي زاويتين قائمتين؟ من خلال إظهار ما يجب قوله:

1. أن الزوايا المتناوبة والداخلية والمتناظرة متساوية و؛

2. أن مجموع الزوايا المتكونة حول نقطة على الجانب نفسه من الخط يساوي خطين؛ و

3. القول بأن مجموع زوايا المثلث يساوي خطين مستقيمين هو نفس الشيء.

فإذا صحت القضيتان الأوليتان، اقتضى بالضرورة أن الثالثة التي تطابقهما، صحيحة أيضا.

تشرح العلوم الفيزيائية خلاف ذلك: لم تعد علاقات الهوية هي التي تقيمها، بل علاقات السببية. وطالما أننا لا نرى سببًا لحقيقة ما، فهي غير مفسرة، والعقل غير راضٍ. يظهر السبب، وعلى الفور يقتنع العقل ويتم شرح الحقيقة. ولذلك يمكننا أن نعمم ونقول: إن هدف العلم هو إقامة علاقات عقلانية - علاقات هوية أو سببية - حيث أننا أثبتنا أن هدفه هو التفسير، وأن التفسير هو إقامة علاقات هوية أو سببية بين الأشياء.

بعد أن عرفنا كل هذا، دعونا نرى ما هي الشروط التي يجب أن يستوفيها نظام المعرفة حتى يستحق أن يطلق عليه اسم العلم.قبل كل شيء، يجب أن يكون له موضوع مناسب للتفسير، ويجب عدم الخلط بين هذا الموضوع وموضوع أي علم آخر، ويجب تحديده جيدًا. كيف يمكننا أن نفسر عندما يكون الشيء المراد شرحه غير محدد؟

ثانيًا، يجب أن يخضع هذا الموضوع إما لقانون الهوية أو لقانون السببية، الذي بدونه لا يمكن تفسيره، وبالتالي لا يوجد علم.

لكن هذين الشرطين الأولين ليسا كافيين: في الواقع، لكي نتمكن من تفسير شيء ما، يجب أن يكون في متناولنا بطريقة ما. إذا لم يكن من الممكن الوصول إليها بالنسبة لنا، فلن نتمكن من القيام بالعلم حولها. إن الوسائل أو الوسائل التي يجب أن يكون تحت تصرف العقل حتى يتمكن من الاقتراب من دراسة هذا الكائن تشكل الطريقة. الشرط الثالث الذي يجب توفره في العلم هو أن يكون لديه طريقة لدراسة الموضوع. ومن خلال هذه المبادئ، دعونا الآن نفحص ما إذا كانت الفلسفة علمًا. وله موضوعه الخاص والمحدد جيدًا والذي لا يتعامل معه أي علم آخر: حالات الوعي. وبذلك يتحقق الشرط الأول. - إن الحقائق التي تشكل موضوعه تخضع لعلاقات عقلانية: لا يمكن للمرء أن يدعي أن حالات الوعي تفلت من قانون السببية. وبذلك يتحقق الشرط الثاني أيضاً. - وأخيرًا، للفلسفة منهجها، المنهج التجريبي: فهي بالتالي تستوفي الشروط الثلاثة اللازمة للحصول على لقب العلم وربما اعتباره علمًا بحق.

بما أن الفلسفة علم، فما هي علاقاتها بالعلوم الأخرى؟

في بداية التخمين، اعتقد الفلاسفة، بسبب الثقة المفرطة، أن هذا العلم يشمل كل العلوم الأخرى، وأن الفلسفة وحدها تؤدي إلى المعرفة العالمية. ومن ثم فإن العلوم لن تكون سوى أجزاء وفصول من الفلسفة. إن تعريف الفلسفة وإثبات حقوقها كعلم متميز يكفي لبيان عدم جواز قبول هذه النظرية. في أيامنا هذه ظهرت فكرة أخرى: لقد تم التأكيد على أن الفلسفة لم يكن لها وجود خاص بها وأنها كانت فقط الفصل الأخير من العلوم الوضعية، وتجميع مبادئها الأكثر عمومية: كان هذا، على سبيل المثال، فكر أوغست كونت. وما علينا إلا أن نستحضر تعريف الفلسفة لدحض هذه النظرية. للفلسفة موضوعها الخاص، حالات الوعي، موضوع مستقل عن موضوع كل العلوم الأخرى. هناك، هو في بيته، مستقل، وإذا أراد أن يشرح موضوعه فإنه يمكن أن يستعير من علوم أخرى، فهو على أية حال لا يخلط مع أي منها، ومع ذلك يبقى علماً متميزاً بين العلوم الأخرى. فما هي إذن علاقات الفلسفة بهذه العلوم الأخرى؟ - هناك نوعان: العلاقات العامة، وهي واحدة في جميع العلوم؛ العلاقات الخاصة التي تختلف من علم إلى آخر.

دعونا نلقي نظرة على التقارير العامة أولا. إن الأشياء التي تدرسها العلوم الإيجابية المختلفة لا توجد لدينا إلا بقدر ما هي معروفة. أما العلم الذي يدرس قوانين المعرفة فهو الفلسفة. ولذلك فهو يقع في المركز الذي تتلاقى فيه جميع العلوم، لأن العقل نفسه يقع في مركز عالم المعرفة. لنفترض على سبيل المثال أن الفلسفة قررت أن العقل البشري، كما اعتقد كانط، ليس له قيمة موضوعية، أي أنه لا يستطيع الوصول إلى الأشياء الحقيقية، وبالتالي فإن جميع العلوم محكوم عليها بأن تكون ذاتية فقط. دعنا ننتقل إلى تقارير محددة. وهم نوعان: الفلسفة تأخذ من العلوم الأخرى وتعطيها. وتستعير الفلسفة من العلوم الأخرى عددا كبيرا من الحقائق التي تعكسها والتي تسهل تفسير موضوعها. على سبيل المثال، من المستحيل القيام بعلم النفس دون اللجوء إلى تعاليم علم وظائف الأعضاء. عندما نتأمل في الظواهر الخارجية، يجب علينا أن نأخذ بيانات الفيزياء والكيمياء كأساس لتفكيرنا. ومن ناحية أخرى، تستخدم العلوم المختلفة، لتأسيس نفسها وبنائها، وسائل مختلفة، اعتمادًا على ما يتعين عليها تفسيره: الرياضيات لديها استنتاج؛ الفيزياء والتحريض. التاريخ الطبيعي، التصنيف. لكن من يدرس هذه العمليات؟ إنها الفلسفة. إنها تضع نظريتها، وترى الشروط التي يجب أن تخضع لها للحصول على نتائج عادلة. ولذلك، فهي تتساءل كيف يجب الجمع بين هذه العمليات المختلفة بشكل مختلف لدراسة الموضوعات المختلفة للعلوم المختلفة. باختصار، فهو يسعى إلى إيجاد أفضل طريقة لكل علم معين. وهذا حتى موضوع جزء مهم من المنطق يسمى المنهجية. هذه هي العلاقات بين الفلسفة والعلوم المختلفة التي تحيط بها.

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

معَكِ

لا توجدُ أنصاف حلول

ولا أنصاف مواقف

ولا أنصاف أحاسيس

كلُّ شيءٍ معَك يكون احتلالاً

أو لا يكون

كل يومٍ معَك يكون إنقلاباً

أو لا يكون

كيف يمكنني أن أربح المعركة

أنا رجل واحد وأنت

قبيلة من النساء...........

***

في ألبومه الأخير، يقدم كاظم الساهر كالمعتاد كلمات قوية على مسامعنا كنساء تعكس موضوعات سائدة في جميع أعماله، لكن عند الاستماع المتكرر، خاصة أثناء التجول في الأماكن التي غالباً ما تتجاهل وجودنا كنساء، لا يسع المرء إلا أن يتساءل: من هي المرأة التي يغني لها الساهر؟

لا يُطرح هذا السؤال فقط بسبب اتساق رسائل الساهر عبر أعماله الفنية، ولكن أيضًا في ضوء الحقائق الصارخة التي تواجهها النساء في المجتمعات التي كثيرًا ما يتم فيها التغاضي عن حقوقهن وإنسانيتهن، وبالتالي فإنه يدفعنا إلى إجراء فحص أعمق للجمهور المستهدف والرسائل الأساسية التي ينقلها هذا الفنان.

أكتب هذا المقال أنطلاقاً من الموسيقى كظاهرة أجتماعية، كونها أكثر الفنون شفافية وتحرراً من المادة وأقربها الى المشاعر الأنسانية، وأقتفاءاً بأثر صاحب العقلانية ماكس فيبر التي يقودنا الى عالم مختلف في السوسيولوجيا، كأحد العوالم التي تجوبها عقلانيته باحثاً عن المعنى خلف الفعل الأجتماعي، فالقليل يعرف عن فيبر أنه كان مهتماً بدراسة الموسيقى. من المخطوطات المهمة التي نشرتها زوجته بعد وفاته هو فصل قد كتبه " سوسيولوجيا الموسيقى " الذي نشر في مؤلف بعنوان " الأسس العقلانية والسوسيولوجية للموسيقى "، "والفحوى فيه عن عقلنة الموسيقى الأوروبية بقوله أن أوروبا هي الوحيدة التي كان لها الفضل في كونية الموسيقى وهرمونيتها، ولم تتأت هذه العقلنة، حسبه، إلا بظهور النوطة كإحدى العلامات الفارقة في تاريخ الموسيقى عامة. يقول فيبر: "إن من يريد أن يدل إنسانا غريبا تماما على الأشياء التي تحدد ثقافتنا الموسيقية في أوضح صورة، عليه أن يذكر هذه الأشياء الثلاثة: الهارمونية، كتابة النوطة الموسيقية والبيانو" فهو بذلك يقر أن الموسيقى هي فعل أجتماعي ذي دلالة ثقافية.

ومن التنظيرات السوسيولوجية المعاصرة عمل تيا دينورا، حيث قدمت رؤى واسعة النطاق في علم اجتماع الموسيقى، بما في ذلك الغناء ومن مساهماتها البارزة كتابها الذي يحمل عنوان "الموسيقى في الحياة اليومية" في هذا العمل، تستكشف دينورا كيف تؤثر الموسيقى، بما في ذلك الغناء، على التجارب الفردية والجماعية، والعواطف، والتفاعلات الاجتماعية في سياقات الحياة اليومية، ترى دينورا أن الموسيقى ليست مجرد شكل من أشكال الترفيه أو التعبير الجمالي، ولكنها جزء لا يتجزأ من الحياة الاجتماعية، وتشكل الهويات والعلاقات والممارسات الثقافية، وهي تؤكد على الطبيعة المتجسدة للتجارب الموسيقية، وتسلط الضوء على كيفية تفاعل الأفراد مع الموسيقى من خلال الحركات الجسدية والعواطف والتصورات الحسية، ويُنظر إلى الغناء، على وجه الخصوص، على أنه ممارسة مجسدة بعمق لا تنطوي على النطق فحسب، بل تشمل أيضًا الإيماءات والتعبيرات الجسدية.

علاوة على ذلك، تناقش دينورا دور الموسيقى، بما في ذلك الغناء، في بناء الهويات الاجتماعية والتفاوض بشأنها، وهي تدرس كيفية ارتباط التفضيلات والأذواق والممارسات الموسيقية بالهويات الفردية والجماعية، بالإضافة إلى الفئات الاجتماعية الأوسع مثل الجنس والعرق والطبقة يمكن للغناء باعتباره نشاطًا اجتماعيًا، أن يعزز الأعراف الاجتماعية والتسلسلات الهرمية القائمة أو يتحدىها من خلال أعمال المقاومة والتخريب.

وبالعودة الى كاظم الساهر وأغنيته التي تجسد موسيقى وكلمات ثورية في عالمنا العربي، من خلال مفردات الشعر التي يستنهض بها تصويره للمرأة من خلال أوجه متعددة، فالبعض قد يفسر كلماته على أنها إدامة للصور النمطية التقليدية المتعلقة بالجنسين، وقد يراها البعض الآخر على أنها تحتفل بقوة المرأة ومرونتها وتعقيدها، وتعقيباً على ذلك لايفوتنا أن نذكر قد يكون الغناء في شكل أخر كونه مهنة يحاول صاحبها ترويضها لتناسب القالب الاجتماعي والثقافي الذي يساهم في تشكلات الأغنية، وهذا ماجاء في مقدمة أبن خلدون وما أسماه صناعة الغناء " وهذه الصناعة أخر ما يحصل في العمران من الصنائع، لأنها كمالية في غير وظيفة من الوظائف ألا وظيفة الفراغ والفرح، وهي أيضاً أول ماينقطع من العمران، عند أختلاله وتراجعه..."

بشكل عام، يمكن أن يكون الغناء شكلاً قويًا من أشكال التعبير النسوي، مما يسمح للفنانين بتحدي الصور النمطية، والاحتفال بتجارب المرأة، من خلال موسيقاهم، يمكن للمغنين إلهام المستمعين للتفكير في ديناميات النوع الاجتماعي، والتساؤل حول الأعراف المجتمعية، والعمل من أجل عالم أكثر إنصافًا وشمولاً لجميع الجنسين، بالتالي نلاحظ أن تفسيرات موسيقى الساهر قد تختلف، ولا يمكن اعتبار جميع أغانيه نسوية بشكل واضح، بالإضافة إلى ذلك، قد يعكس تصويره للمرأة المعايير والقيم الثقافية الخاصة بالعالم العربي، والتي قد تختلف عن وجهات النظر النسوية ومع ذلك، لا شك أن موسيقاه لاقت صدى لدى الجماهير، بما في ذلك النساء، الذين يجدون التمكين والإلهام والتضامن في كلماته وألحانه.

***

د. فاطمة الثابت – أستاذة علم الاجتماع في جامعة بابل

 

كان السعي للمعرفة هدفا أساسيا للانسانية منذ زمن بعيد، بدءاً من الحضارات المبكرة التي حدّقت في النجوم وصولا الى أحدث التطورات في مجال البحوث التجريبية للكشف عن أسرار العالم الكمي، كل ذلك دفع الانسان متخطيا حدود ما هو معروف. وحين يخوض العلماء عميقا في تعقيدات الكون، فهم يواجهون سؤالا أساسيا: هل هناك حدود للمعرفة الانسانية، واذا كانت هناك فعلا حدود، فما الذي يكمن وراءها؟

السعي اللامحدود للمعرفة

تاريخ الانسان هو شهادة على شغفه اللامحدود بالمعرفة. هو استطاع ان يفك أسرار الذرة، ويحل لغز الجينوم البشري، واستكشف الكون بالتلسكوبات والمجسات الفضائية. وفي العصر الرقمي، وصل الانسان الى ثروة من المعلومات اصبحت في متناول أصابع اليد، وضعته امام مخزون هائل من المعرفة الانسانية.

في السعي للمعرفة، جرى الغوص في عوالم كانت تُعد خارج حدود التصور، ورُسمت خارطة لدماغ الانسان، وأستُطلعت أعماق المحيطات، وأرسلت المركبات الفضائية الى أبعد نقطة في نظامنا الشمسي. مع ذلك، ومع كل أكتشاف، أدركنا حقيقة ان اللامعروف يتجاوز كثيرا ما هو معروف.

حدود الفهم الانساني

احدى التحديات الأساسية في السعي نحو المعرفة هي محدودية الفهم الانساني. قدراتنا الإدراكية  محدودة، وطاقتنا على فهم الظواهر المعقدة  مقيّدة بعوامل بايولوجية. مفاهيم في حقول مثل الفيزياء النظرية، وحيث التركيز على  ما هو مجرد ومضاد للحدس، يمكنها ان تكبح وتضيّق حدود الفهم الانساني.

مبدأ اللايقين في المعرفة

في عالم ميكانيكا الكوانتم، نحن نواجه مبدأ هايزنبيرغ في عدم التأكد(1)، الذي يؤكد بان هناك قيدا فطريا متأصلا في قابليتنا على القياس المتزامن لخصائص ازواج معينة للجزيئات، مثل موقعها وزخمها. هذا المبدأ يشير الى فكرة عميقة بان هناك قيودا متأصلة للدقة التي نستطيع بها معرفة سلوك العالم الفيزيائي والتنبؤ به.

نظريات عدم الاكتمال لـ غودل Godel’s incompleteness theorems

في الرياضيات والمنطق، اُدخلت نظريات غودل في اللااكتمال، وهي المفهوم القائل بعدم وجود نظام ذو طابع رسمي  للرياضيات يمكن ان يكون تاما ومنسجما في آن واحد. في الحقيقة، هذه النظريات تقترح بان هناك حقائق رياضية لا يمكن إثباتها ضمن حدود نظام رياضي معين. هذا يثير اسئلة حول حدود المعرفة الرياضية والوجود المحتمل للحقائق الرياضية التي تكمن وراء فهمنا.

تمديد افق المعرفة

بينما هناك حدود متأصلة للفهم الانساني، فان افق المعرفة يستمر في التوسع. اكتشافات جديدة واختراقات في العلوم والتكنلوجيا والفلسفة دفعت حدود ما نعرف الى الامام. ومع تطور وسائلنا ومنهجيتنا، حصلنا على مدخل لعوالم من المعرفة كانت مختفية سابقا. استطلاع حدود المعرفة الانسانية يقودنا الى تخوم مختلف الحقول:

1- علم الكون والأكوان المتعددة:

علماء الكون يتعاملون مع فكرة تعدد الاكوان القائلة بوجود مجموعة كبيرة من الأكوان وراء كوننا. إدراك حقيقة الاكوان المتعددة، ان كانت موجودة، يثير اسئلة عميقة حول طبيعة الواقع وحدود الملاحظة.

2- الوعي والذهن:

ان طبيعة الوعي تبقى واحدة من الأسئلة المبهمة في الفلسفة وعلم الأعصاب. استكشاف حدود الوعي ربما يكشف أبعادا جديدة للفهم الانساني.

3- الذكاء الاصطناعي والمكائن الخارقة الذكاء:

ان تطوير مكائن خارقة الذكاء يطرح اسئلة حول حدود الذكاء الانساني. هل يمكن لهذه المكائن فتح عوالم جديدة للمعرفة تتخطى الفهم الانساني؟

4- الطبيعة الأساسية للواقع:

في الفيزياء، يستمر البحث عن نظرية لكل شيء – اطار موحد يوضح كل القوى الأساسية والجزيئات. مثل هذه النظرية، لو اكتُشفت، ستُحدث ثورة في فهمنا للكون(2).

الجهل بالمجهول

عندما نتأمل بحدود المعرفة الانسانية، نحن نتذكر العبارة الشهيرة لوزير الدفاع الامريكي السابق دونالد رامسفيلد : "هناك اشياء معروفة، نحن نعرف اننا نعرفها. ايضا نحن نعرف ان هناك اشياء لا نعرفها. ولكن هناك ايضا اشياء مجهولة لكننا لا نعرف اننا لا نعرفها". المجهول اللامعروف يمثل افقا شاسعا للمعرفة التي تقع وراء وعينا الحالي.

التواضع في التحقيق

في سعينا للمعرفة، نحن يجب ان نعتنق التواضع. الاعتراف بمحدوديتنا ليس سببا لليأس وانما دعوة لحب الاستطلاع. انه اعتراف بان السعي للمعرفة هو رحلة أبدية، وان ما يكمن وراء فهمنا الحالي هو دعوة للاستطلاع.

هل هناك حد للمعرفة الانسانية؟ الجواب يكمن في مفارقة المعرفة ذاتها. كلما عرفنا اكثر، كلما أدركنا اكثر مقدار ما لا نعرف. وبينما توجد هناك حدود متأصلة في فهمنا، فان الطبيعة غير المقيدة للفضول الانساني تضمن باننا سوف نستمر بدفع حدود المعرفة قدما الى الامام. ما يكمن وراء حدود فهمنا الحالي يبقى لغزا محيرا يغرينا للاستطلاع والاكتشاف والتوسع في حدود المعرفة الانسانية، يذكّرنا بان السعي للمعرفة هو مسعى انساني عميق لا نهاية له.

***

حاتم حميد محسن

.................

الهوامش

(1) مبدأ هايزنبيرج في اللايقين وضعه الفيزيائي الألماني وليم هيزنبيرج عام 1927 يؤكد فيه بعدم امكانية المعرفة الدقيقة للخواص الفيزيائية بشكل متزامن، اي كلما كانت معرفتنا اكثر دقة باحدى الخاصيتين (كموقع الجسيم)، كلما اصبحت معرفتنا بالخاصية الاخرى (زخم الجسيم) قليلة.

(2) كان العلماء يحاولون منذ قرون فهم أصل وبناء الكون. كانوا يعتقدون ان نظرية كبرى موحدة ستكون قادرة على توضيح أي ظاهرة فيزيائية وجميع التفاعلات في الكون. العلماء قدّموا قوانين تنطبق اما على العالم الكوانتمي او على الفيزياء الكلاسيكية، ولكن ليس على الاثنين معا. لقد أجروا عدد هائل من المحاولات لتكوين نظرية موحدة لكن جميع تلك المحاولات قد فشلت، والعديد من العلماء اعتبر ذلك مستحيلا.

 

يبدو أن مفاهيم مثل القوة والسلطة والقدرة والاستطاعة متداخلة ومختلطة ومتشابكة وتحضر بشكل مكثف في مجال النظر والممارسة وتخترق بنية العقل وأنطولوجيا الفعل ولذلك تحتاج الى تحري وتحديد وتمييز. وفي هذا الصدد تثار الإشكاليات التالية: ماهي القوة الفيزيائية؟ وما المقصود بالسلطة السياسية؟ وما معنى القدرة الاخلاقية؟ وهل تحتاج السلطة السياسية لكي تحافظ على كيانها القوة الفيزيائية أم القدرة الأخلاقية؟

بالمعنى الدقيق للكلمة، تشير السلطة إلى القدرة على الفعل، وتشير هذه القوة الفيزيائية إلى الفرد الذي يشهد من خلال هذه القدرة على وجود يحركه مبدأ "أنا أستطيع"، وهو مبدأ النشاط الذي يؤكد نفسه من خلاله في عالمه. وبما أن القدرة على الفعل تنطوي على أصل، فإن الفرد، من خلال ادعاء نفسه بأنه أصل الفعل، يكتشف قضية بديهية أساسية: القوة التي ليست سيدة على نفسها لن تكون سوى قوة رد فعل مغتربة، عاطفية. ولذلك فإن الفرد مدعو إلى أن يصبح مطيعا، من خلال تثقيف نفسه، لكل سلطة على نفسه، بحيث تصبح قدرته على التصرف في يده وحده. وبالتالي فإن جوهر السلطة الأخلاقية هو حق الفرد في القيام بعمله وامتلاكه والمطالبة بالاعتراف به، وهو ما يسمح لنا بقياس أهمية العلاقة بين السلطة وتأكيد الذات: من خلال الاختيار، نختار أنفسنا. لكن قد يقع المرء غالبا في الخلط بين السلطة والقوة ويحكم عليهما من خلال المظهر والتعريف وليس من خلال الجوهر والممارسة.  هذه العلاقة بين تأكيد الذات والسلطة تسمح لنا بفهم الانبهار الذي تمارسه على الفرد جميع أشكال السلطة الاجتماعية: أفراد، سجناء الرأي، يخلطون بين المرئي والمعقول، ويستسلمون لوهم زيادة وجودهم بالمظهر. والذي يبدو مؤكدًا من خلال ممارسة الاختيار والقرار المرتبط بوظيفتهم: خدمة الذات بدلاً من خدمة وإخضاع الآخرين للسيطرة هو الاعتقاد بأن السلطة غير المنظمة تسمح لك بتأكيد نفسك على الخنوع. ما زال يعتقد أننا نفعل ذلك من خلال العمل، تمامًا مثل هؤلاء المؤلفين الذين ينشرون ما كتبه الآخرون لهم. كل هذه السلوكيات المدمرة للعدالة وللفرد، تنشأ من الخلط بين القوة والقدرة، وتغرق في الإفراط الذي يريد فرض النظام من خلال نشر فوضى اغتصاب السلطة. لكن اشكالية السلطة تطرح قضية الصلاحيات: اولا تجد القدرة على الفعل ممارستها الكاملة في الذات، مؤلفة تمثيلاتها وسيدة أفعالها ومستقلة بنفسها. تصبح مثل هذه الذات نموذجًا للدولة المركزية التي يتقارب فيها كل شيء وينبثق كل شيء من رأس المال. ويستمد ماركس من هذا مفهوم الدولة، وهي مبدأ مركزي يمارس السلطة لأنه أصل السلطة. ربما لم نبتعد عن التقسيم الثلاثي للنفس والدولة، العزيز على أفلاطون. ثانيا إذا كان هناك بالفعل تعددية للقوى والسلط في النسيج الاجتماعي، فربما يأتي ذلك من الخلط بين السلطة الأخلاقية والسلطة المشتركة. في السلطة الأخلاقية، يمتلك كل ضمير القدرة على إجبار نفسه على إطاعة القانون الذي وضعه لنفسه، من خلال ممارسة هذه السلطة على ما هو خاص به، ومن خلال إطاعة تشريعاته الخاصة، والتي هي وسيلة للظهور بشكل لا ينفصم كسلطة. الحرية، قادرة على المداراة، على سبيل المثال. في المجال العام لتقاسم السلطة، وتقسيم العمل والتبادلات، فإن تعقيد "الآلة" الاجتماعية يتطلب أن يمارس كل فرد في مكانه السلطة، في خدمة الجميع، وفقًا لقدراته ومسؤولياته. وهذه السلطة يعهد بها الجميع أساسًا إلى الجميع كخدمة تتطلبها المهام الاجتماعية المعقدة بشكل عام. وبهذا المعنى، لا يتم تقسيم السلطة لأنها لا تنتمي إلى أي شخص، فهي فقط القدرة على العمل من أجل الصالح العام، وهو ما يستبعد، في القانون، أي استخدام تعسفي. ولذلك فإن خلط الفاعلين بين السلطة والقوة هو الذي يولد الوهم بتعدد السلطات: في الواقع، هذا التعدد للسلطات ليس سوى اغتصاب، أو، إذا فضل المرء، تحويل السلطة لمصلحته الخاصة، من أجل مصلحة الفرد. مثال للانتقال من الشعور الذاتي البسيط إلى الوعي الذاتي باستخدام القوة للحصول على الاعتراف. وهذا ممكن دائمًا ما دام الفرد يستبدل الذات: تواضع الخادم، هذا التواضع الذي هو الحقيقة، يحل محله غطرسة الخادم الذي يتخذ من نفسه سيدًا بما يترتب على ذلك من سيطرة ومضايقة ونشر تافه. من الفجوة بين لا نهاية أولئك الذين لديهم ذرة من القوة وصفر أولئك الذين يعتمدون عليها. فهل يثور الأفراد أم يتمردوا على السلطة؟

سيظل الأمل حافزاً دائماً لأولئك الذين يتبنون وجهة نظر الدولة باعتبارها مبدأ النظام والدولة مصدره الوحيد. سيكون بمقدورهم دائمًا أن يحلموا بثورة ستغير النظام، وتصحح ما هو معوج: ستكون هذه الثورة مهمة منتهية، مرة واحدة وإلى الأبد: الغد سوف يغني. هناك تفاؤل جدي. الأمل ليس لأولئك الذين يتبنون وجهة نظر النسيج الاجتماعي الفاسد، المكون من حشد من القوى التي تلتهم خلسة أي أمل في العدالة في مجتمع يدمر الحريات التي يجب أن يحميها من خلال تعدد "القوى" التي تعتقد أنها قادرة على كذلك. يمكن فقط محاولة ثورات عرضية لتحسين هذه النقطة أو تلك من خلال الإطاحة بهذه السلطة أو تلك، ولكنها ستكون معركة ضد السراب: المهمة لا نهائية لأن الثورات لن تصل أبدًا إلى فيلق السلط بأكمله وجهد الثورة هو في حد ذاته مولد لسلطة جديدة. فكيف تحتاج كل سلطة سياسية الى شكل من اشكال القدرة الاخلاقية وتستمر من اجل تأكيد ذاتها عبر تفعيل شكل من أشكال القوة الفيزيائية؟

القوة هي القدرة على السيطرة على الناس، والحصول منهم على ما لم يكونوا ليفعلوه لولا تأثير القوة. إذا فهمنا أن الفعل الذي تقوم به الذات تجاه نفسها ليس ممكنًا فحسب، بل هو مشروع أيضًا، لأنه، في القيام بذلك، يتمتع بحريته، فإن ممارسة السلطة على الآخرين تطرح مشكلة إمكانية هذا الفعل وشرعيته وحول إمكانية حدوثها تقدم العديد من الفرضيات تفسيرات للسلطة من خلال نشر عملية نشأتها، وهو ما يجعلها ممكنة على وجه التحديد: بالنسبة للبعض، فإن القدرة على السيطرة على الآخرين لا تتجذر في الشخص الذي يهيمن، بل في طاعة الآخرين الذين، من خلال التماثل مع السيد، يتوهمون المشاركة، بتكلفة أقل، في ممارسة السلطة. وهذا من شأنه أن يجعل السلطة ممكنة ومشروعة في نفس الوقت، لأن من يطيع يفعل ذلك بمحض إرادته. ولكن من الاغتراب والخضوع لإرادة شخص آخر، لن نستمد الشرعية أبدًا، لأن ما يجبر المرء على اتباعه لا يمكن أن يكون شرعيًا إذا كانت السمة الأساسية للشرعية هي الالتزام الذي يمتثل له الفرد بحرية. المشرع. من الكسل والجبن لن نستنتج أبدًا الاستقلالية، والطاعة للقانون الذي وضعناه لأنفسنا، وهو الحرية عند روسو. بالنسبة للآخرين، فإن القدرة على السيطرة على الآخرين متجذرة في الإيمان بقيمة العادات القائمة على التقاليد. هنا مرة أخرى، إذا كانت الفرضية تنشر عملية تجعل السلطة ممكنة، فإنها لا تجعلها بالتالي شرعية لأن التقليد غالبًا ما يتحول إلى كابوس للأجيال الشابة، كما لاحظ ماركس: على أية حال، فإن الاغتراب، الذي هو هنا نتيجة لسوء تفسير التقليد، وهو في الأصل ثمرة اختراع، لا يمكن أن يضفي الشرعية على أي شيء. بالنسبة لأصدقاء العقل، فإن سيادة القانون وحدها هي القادرة على جعل السلطة ممكنة وإضفاء الشرعية عليها من خلال تمييزها بشكل نهائي عن السلطة: ما يجعل السلطة ممكنة هو أن الجميع يطيعون القوانين في الواقع، كائنات العقل: في هذا، كل فرد، من خلال إلزام نفسه، يطيع العقل، أي أفضل ما في نفسه، الأمر الذي كان سيوجهه إلى نفسه باستخدام عقله. الحرية، باعتبارها استقلالًا ذاتيًا، تجعل السلطة ممكنة لأن الجميع يمارسونها من خلال التحكم في أنفسهم وبالتالي الوصول إلى الحرية الأخلاقية والسياسية. ان السلطة تصبح، في هذه الحركة، شرعية لأن ما يحققها هو حرية كل شخص يعترف، من خلال الاعتراف بالقانون، بكل من الضرورة العقلانية لتطبيقه وحدوده: التمسك الصارم بالغاية، الصالح العام، الذي من أجله تم تأسيسها. ولذلك فإن السعي وراء الصالح العام هو الذي يضفي الشرعية على القانون. فما الفرق بين السلطة والقدرة؟

خارج الإطار الصارم لسيادة القانون الذي لا يمكن فيه ممارسة السلطة إلا عن طريق التفويض أو الخدمة، تتعارض السلطة والسلطة مع الاغتراب والحرية، كما هو الحال مع الظالم والعادل. إن من يمارس السلطة الشرعية لا "يملك" السلطة ولكنه يشارك في ممارسة السلطة كخادم للقانون: ولذلك فهو ملزم قانونًا باحترام المساواة بين الجميع والحرية المدنية التي ينص عليها القانون بالعقل. كل القانون. مما يعني أنه يجب عليه أن يأمر بشكل مجرد، مستقلاً عن خصوصيات الأفراد، سواء كانوا أغنياء أو فقراء، سواء كانوا أصدقاء له أو خصومه: فلا يمكنه مثلاً استخدام المال العام لسحق البعض ودعم البعض الآخر، أو حتى التنافس معهم. أي شخص، تحت قناع السلطة، لا يمارس السلطة إلا لمحاباة البعض والإضرار بالآخرين، من خلال ممارسة التفضيلات، يتصرف مثل الطاغية، ويضع نفسه خارج سيادة القانون، ويجد بالضرورة سقوطه في السباق على الهيبة، من خلال إحاطة نفسه بالأشخاص. العبيد، ومثل الشمعة التي تنتهي بالغرق في طعامها! إنه تآكل القوة، وهو في الواقع مجرد تآكل السلطة والإفراط في الإفراط. إذا تم تقاسم السلطة في كثير من الأحيان بين الأوغاد، والمغتصبين دائمًا، فلا يمكن تقاسم السلطة: فهي تظل كاملة قبل كل شيء، من أجل خير الجميع: إلى فلان أو فلان يُعهد بتطبيقها لمهمة محددة مؤطرة قانونيًا: فهي لا تُمنح أبدًا، أي لماذا يطيعه أصحاب الرؤوس الأكثر كبرياء، لأنهم عندما يطيعون القانون، لا يطيعون أحدًا. لكن يجب علينا الآن أن ننزل إلى أروقة المعرفة والسلطة؟

لأن السلطة تريد النظام فإن المبدأ العام الذي تسير عليه هو الحفاظ على نظامها، ولذلك تكتسب القدرة وتضفي الشرعية عليها، وتتخذ قناع القوة وتستخدم المعرفة في مناوراتها. في الواقع، التمثيل يعني المعرفة، والمعرفة تسمح لنا بترتيب الأمور من خلال الأسئلة والتحقيقات والقياسات والاختبارات. من المعلوم أن المعرفة والسلطة متواطئان لتبرير نفسيهما، اذ السلطة تحب أن تكرر أنه إذا كان الفعل ضروريًا، ومحددًا، وإذا كان الأمر كذلك، فسيكون من الجنون الرغبة في القيام بخلاف ذلك. وبالمرور نخلط بين الشكل والمضمون. على سبيل المثال، بما أن العولمة ضرورية، فإن شكل العولمة الذي أتبعه هو الضروري بالطبع. من يستطيع أن يتعارض مع ما هو؟ في كل مرة تتخيل المعرفة ضرورة طبيعية، تندفع السلطة إلى الثغرة من خلال الإشارة إلى أن عقل الدولة هو ضرورة طبيعية تضفي الشرعية على عملها: أليس هذا، بكل بساطة، وضع النظام في حالة من الفوضى؟ ولكن من خلال الخلط بين ما هو كائن وما يجب أن يكون، تفقد السلطة شرعيتها وتصبح في الواقع متورطة في الفوضى التي تدعي أنها تكافحها: تراكم الظلم يضع الخصوم على نفس المستوى، خارج القانون. ولأنها استبدادية، فإن مثل هذه السلطة تنتهي في نهاية المطاف إلى تسمية الفوضى بأي شكل من أشكال الحرية التي تتعارض معها وتخلط بين مراسيمها الخاصة والقانون: لكن المراسيم الخاصة تحتاج إلى نظام معين لا تستطيع القوانين أن تعطيه. ثم تتطلب السلطة هذا النظام الخاص من المعرفة: المعرفة لا تفتقر إلى النظام لأنه يبدو في كل مرة أنه من خلال التمثيلات يتم فرض علاقات النظام أو استبدالها بتنوع التجارب. ويكفي إذن إقناع سجناء الكهف بأن "قوانين الطبيعة"، على عكس القوانين البشرية، لا مفر منها وأنها مفضلة عليهم: وبفضل هذا الارتباك، نفرض نظام المعرفة على الإنسان. بالطبع، لدينا معرفة وعلم مختلطان، مما يسمح لنا بأن ننسى أن العلم، كونه مجرد سلسلة من الأخطاء المصححة، لا يمكنه العثور على سلسلة من السلوك المبرر أخلاقيا. وفي انتظار التصحيح التالي، توفر المعرفة إمبراطورية تجعل من الممكن ترتيب كل شيء حتى منازل الأفراد وحتى الطريقة التي سيكون من الجيد لهم أن يشغلوها تحت طائلة معاملتهم على أنهم متوحشين أو همجين. إنه الخلط بين القيمة والوجود، وهو النظام الذي يفرضه العقل على الجميع في البحث عن الصالح العام والصالح العام الذي ليس سوى تعبير عن تفضيلات فرد واحد أو أكثر. وهو الإفراط في الفرد الذي يريد أن يتخذ تدبيره تدبيرا عقلانيا ومعقولا. علينا أن ننسى أن النظام الذي تسمح لنا المعرفة بالحصول عليه هو مجرد نظام مؤقت وغير معدّل، ولا يمكن تعديله إلا عن طريق الخداع والقسوة والعنف: هذا النظام ناتج عن اغتصاب السلطة من قبل الفرد الذي يستخدمها. لتأكيد نفسه: نحن نتعرف على هذه القوة من خلال خداعها وحقيقة أنها تشير في كثير من الأحيان إلى الموتى الذين لا يستطيعون الاحتجاج. إذا كانت السلطة تغذي جنونها المدمر بالمعرفة الزائفة، فسوف نفهم أنها بدورها تغذي المعرفة، وعلى وجه التحديد تلك التي تحتاجها لممارسة نفسها. فهو يستدعي القياس والتحقيق والفحص للتمثيل، والابتعاد قدر الإمكان عما يمثله، لإقامة نظام يسميه العدالة، باسم إدارة أعلن أنها ضرورية، لأنها مبنية على المعرفة. على هذا الأساس، لم يعد الفرد لا شيء، صفرًا أمام لا نهاية للسلطة المغتصبة: يؤدي الاختيار القاسي إلى استبدال الشعب صاحب السيادة بـالوصف الذي يتقدم عن طريق التصنيف. منتهى القول أننا لم نترك الكهف ونحن نعيش في نسيج اجتماعي يعبره التواطؤ بين السلطة والمعرفة، والإيمان بالعلم، وكأننا نستطيع تصنيف الأفراد بفضل مكتبة منظمة: وكأن أفق الفرد كان وليس الذات التي، مثل روسو، يجرؤ على إغلاق جميع الكتب ليصبح هو نفسه. كما يؤدي التصنيف في النهاية إلى جعل هذه الأرض الخصبة غير دموية، وتجريدها من كل محتوى لا يجد فيه الفرد مجال دعوته كموضوع. إنه نوع من التكرار لاختتام الديالكتيك الأفلاطوني بشكليات الفئات. ولم يعد أحد يتفاجأ بوجود النماذج الضريبية. ومع ذلك فإن هشاشة السلطة التي تمنحها المعرفة ينبغي أن تشجعنا على التواضع والمزيد من البساطة، والعودة بكل تواضع إلى سيادة القانون، لأننا غير قادرين على القيام بعمل أفضل. خلاصة القول أن الدولة تحتاج الى الحق وأن السلطة السياسية في حاجة القدرة الأخلاقية أكثر من القوة الفيزيائية. فلماذا يظل مصير البشرية في قبضة سلطة معولمة لا ترحم ولا تشفق؟ وما العمل على الأصعدة المعرفية والأخلاقية والاجتماعية للتخلص منها؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

هذا السؤال هو سؤال فلسفي أكثر مما هو علمي، أوجد حالة من الاضطراب لأكثر من 250 عام منذ ان أثاره الفيلسوف الاسكتلندي ديفد هيوم (1711-1776).السؤال هو حول كيفية تحويل تجربة الماضي الى عقيدة حول المستقبل، وهي ما أطلق عليها الفلاسفة مشكلة الإستقراء. في حالة الشمس، نحن نتخذ من حقيقة ان الشمس كانت تشرق منذ بلايين السنين كمقدمة للاستنتاج انها ستشرق غدا(1). هيوم أشار الى عدم وجود ضمان بعدم حدوث خلل في الشمس يمنعها من الشروق. لذلك هو استنتج ان الإستقراء هو مجرد قاعدة سهلة لايمكن اتّباعها بدقة. وسواء كان هيوم صائبا ام لا، لايزال السؤال موضع نقاش ساخن بين الفلاسفة الى هذا اليوم.

ان مشكلة الاستقراء هي مشكلة تبرير الاستدلال الاستقرائي من المُلاحظ الى غير المُلاحظ. هيوم لاحظ ان جميع هذه الاستدلالات تثق مباشرة او بشكل غير مباشر بفرضية غير متأسسة عقلانيا بان المستقبل سوف يشبه الماضي. هناك شكلان للمشكلة، الأول يعتمد على ما مُلاحظ من انتظام ووحدة للطبيعة، بينما الثاني يعتمد على فكرة السبب والنتيجة. لو سُئل أحد لماذا يعتقد بان الشمس ستشرق غدا، هو سيقول بانه في الماضي، دارت الارض حول محورها كل 24 ساعة، وهناك انتظام او تماثل في الطبيعة يضمن بان هذا الحدث سيحدث مرة اخرى بنفس الطريقة. لكن كيف يعرف المرء بان الطبيعة منتظمة بهذا الشكل؟ قد يكون الجواب، في الماضي كشفت الطبيعة دائما عن هذا النوع من الانتظام، ولهذا سوف تستمر للقيام بهذا في المستقبل. لكن هذا الاستدلال يُبرّر فقط اذا افترض المرء ان المستقبل يجب ان يشبه الماضي. كيف يمكن لهذا الافتراض ذاته ان يُبرّر؟ قد يقول قائل، بانه في الماضي، اتضح دائما ان المستقبل يشبه الماضي، ولهذا، في المستقبل، سيتضح مرة اخرى ان المستقبل يشبه الماضي. هذا الاستدلال هو دائري – ينجح فقط من خلال افتراض ما تهدف الى إثباته ضمنيا – بمعنى، ان المستقبل سوف يشبه الماضي. ولذلك، فان العقيدة بان الشمس سوف تشرق غدا هي غير مبررة عقلانيا.

هل الشمس ستشرق غدا؟

 الجواب يبدو بسيطا: نعم بالتأكيد لكن كيف نعرف ذلك؟ نحن نستطيع تصوّر الجواب البديهي التالي: "كل صباح، تشرق الشمس كما نراها، ننتظر الى الغد وسوف نرى". التفكير هنا يرتكز على الملاحظات في الماضي، نحن نعرف ان الشمس من المرجح جدا ستشرق في الصباح. يجب ان نلاحظ ان هذا الاستنتاج غير مؤكد. هناك سيناريوهات للخيال العلمي تتحطم فيها الشمس فجأة. هذه السيناريوهات تبيّن ان الادّعاء في ان الشمس ستشرق غدا هو ربما ادّعاء زائف. ورغم هذا،تبدو هناك احتمالية جيدة في شروق الشمس.

في كتابه (تحقيق يتعلق بالفهم الانساني،1748) يزعم ديفد هيوم ان هذه الحجة ليست جيدة. هيوم يرى نحن يجب ان لانثق بالادّعاءات الاستقرائية حول المستقبل بما في ذلك الادّعاء بان الشمس ستشرق غدا. قد لا يرى البعض هذا التفكير صحيحا لاننا جميعنا نعرف ان الشمس ستشرق في الصباح. لنرى كيف وصل هيوم الى استنتاجه:

مبدأ "المستقبل سوف يشبه الماضي":

في الحقيقة، القضية الرئيسية المتعلقة بمعقولية الحجج العلمية التي هي استقرائية (كونها تؤسس قوانين علمية من عدد محدود من الملاحظات) هي ما اذا كنا نستطيع إثبات مبدأ المستقبل سيشبه الماضي. لو استطعنا إظهار صحة هذا المبدأ، سنكون واثقين في استدلالاتنا العلمية. لكن اذا لم نستطع اثبات ذلك، عندئذ، وكما يرى هيوم، يجب ان نتوقف عن الاعتقاد باننا لدينا اسباب منطقية جيدة للاعتقاد ان الشمس ستشرق في الصباح.

هل نستطيع إثبات المبدأ؟

هيوم يسألنا كيف نستطيع تأسيس برهان على ان المستقبل يشبه الماضي. البرهان وفقا لهيوم يحتاج الى حجة، وهناك نوعان من الحجج المعقولة: الحجج الاستنتاجية deductive (وهي مؤكدة) والحجج الاستقرائية inductive (والتي هي فقط احتمالية وتعتمد على كمية الدليل المتوفر)(2). لذا، نحن سنحتاج الى إثبات اما بشكل مؤكد او بشكل احتمالي ان المستقبل سيشبه الماضي، عندها سنكون واثقين بان الشمس ستشرق غدا، وواثقين ايضا من جميع التنبؤات الاخرى حول المستقبل القائم على التجارب الماضية.

لذا اولاً، هل نستطيع إثبات المبدأ بحجة مؤكدة (استنتاجية)؟ هيوم يعرض حجة مقنعة باننا لا نستطيع ذلك. اولا، هو يقول ان كل المعرفة تأتينا من خلال حواسنا. نحن ننظر فقط في الدليل الذي يمكن للمرء ان يراه او يسمعه او يحسه او يلمسه او يتذوقه. ثانيا، هو يقول، ان مبدأ المستقبل سيشبه الماضي، يعني الزعم بان المستقبل دائما يشبه الماضي. ثالثا، انه من المستحيل ان نثبت تجريبيا أي شيء عالمي لأن القيام بهذا يتطلب ملاحظة كل المواقف الممكنة لتطبيقات ذلك. لذا نحن نحتاج الى المجموع الكلي لجميع التجارب الممكنة كدليل لإثبات ان المستقبل دائما يشبه الماضي. فمثلا، نحن نحتاج معرفة حول جميع اشراقات الشمس المستقبلية والتي هي مستحيلة. لكي نحصل على هذا النوع من المعرفة يجب ان نعيش الى الأبد، وحتى في هذه الحالة، نحن لم نشهد صباحات قبل ان نولد. وهكذا يستنتج هيوم اننا لا نستطيع ان نثبت المبدأ على وجه التأكيد. هل نستطيع إثبات المبدأ بحجة احتمالية (استقرائية)؟ مرة اخرى يعرض هيوم حجة مقنعة بعدم إمكانية ذلك.

المقترح الآن هو اننا يمكننا استعمال حجة استقرائية لمبدأ المستقبل سيشبه الماضي. لكن هذه مغالطة منطقية، طالما كل الحجج الاستقرائية لكي تعمل، يجب ان تفترض ان المستقبل يشبه الماضي. في الحجج الاستقرائية، المجادل يعمل ملاحظات ويستنتج قواعد عامة او استنتاجات مستعملا فكرة ان ملاحظات المستقبل ستكون مثل ملاحظات الماضي. لذا، عندما نحاول تبرير مبدأ المستقبل سيشبه الماضي بحجة استقرائية – بالقول مثلا انها حصلت في مناسبات سابقة، لذا ستحصل مرة اخرى – عندئذ نحن سنثبت المبدأ بافتراض المبدأ ذاته، وهو ما يعني ارتكاب مغالطة التفكير الدائري. باختصار،القول انه لكي نثبت استقراء من خلال حجة استقرائية، نحتاج اولا افتراض صلاحية الحجة الاستقرائية. في هذا النوع من الحجة، لا شيء يتم إثباته لأن الإستنتاج جرى افتراضه في الحجة. ومن هنا يستنتج هيوم اننا لا نستطيع تبرير مبدأ الاستقراء بحجة استقرائية.

لذا فان المبدأ الاستقرائي بان المستقبل سيشبه الماضي لا يمكن اثباته لا بحجة مؤكدة ولا احتمالية، وبهذا لا يمكن الادّعاء بان الشمس ستشرق غدا لأن هذا يفترض مبدأ المستقبل يشبه الماضي والذي لا يمكن اثباته حسب هيوم.

أين تكمن المشكلة؟

لماذا نهتم باستنتاج هيوم؟ هيوم يوضح اننا اذا لم نستطع إثبات مبدأ المستقبل يشبه الماضي، عندئذ سوف لن يكون لدينا سبب جيد للاعتقاد بان المستقبل يشبه الماضي، وهو ما يعني منطقيا ان المستقبل غير معروف. وفي ضوء هذا، نحن لا نعرف عندما نأكل الخبز سوف نحافظ على حياتنا، او ان الشمس سوف تشرق غدا، او اننا نثق باستنتاجات العلوم. المشكلة الكبرى هي اننا لا نستطيع إظهار معقولية الكثير مما نعتقد، على الأقل فيما يتعلق بأحداث المستقبل، بما في ذلك التنبؤات العلمية حول العالم.

لكن اذا كنا لا ينبغي لنا ادّعاء المعرفة حول أحداث المستقبل، كيف سنعيش؟ الحياة تتطلب ان نتخذ خيارات عملية، لكن اذا كان استنتاج هيوم الشديد التجريد صحيحا، وكنا نريد فقط إظهار كل ما نستطيع فعله معقولا، عندئذ سوف لا نستطيع العيش. تقريبا كل شخص يتفق بان الفعل التطبيقي أكثر قيمة من موقف هيوم المشكك. وهكذا، يرى البعض ان المشكلة تقع لدى هيوم .

كان هيوم على اطّلاع جيد بهذا النوع من المعارضة. ردّه هو اننا يجب ان نعيش ليس طبقا للمنطق الخالص (والذي بالنسبة لهيوم لايثبت واقعيا أي شيء حول العالم)، وانما طبقا لمشاعرنا. حسب رأيه، نحن لا نعرف ان الشمس ستشرق غدا وانما لدينا ميل شديد للاعتقاد اننا سوف ويجب ان نتصرف وفق ذلك. مشاعرنا، بالنسبة لهيوم، هي كافية للفعل العملي. رد هيوم الآخر هو ان رؤيته المشككة توفر ارشادا اخلاقيا وتطبيقيا حول حدود المعرفة.

***

حاتم حميد محسن

.........................

الهوامش

(1) اذا كان عمر الارض حوالي 4.5 بليون سنة، فان التقديرات تشير الى ان الشمس أشرقت حتى الآن  حوالي 1.65 ترليون مرة.

(2) للتمييز بين الإستقراء والإستنتاج نشير الى ان التفكير الاستقرائي inductive reasoning يتم فيه الذهاب من الخاص الى العام، ولا يوجد فيه ضمان بان الاستنتاج سيكون صحيحا، مثل:

البطريق هي طيور

البطريق لا يستطيع الطيران

لذلك فان جميع الطيور لا تستطيع الطيران.

هنا الاستنتاج لا يتبع منطقيا من الفرضية او المقدمة.

اما التفكير الاستنتاجي deductive reasoning يتم فيه الذهاب من العام الى الخاص. يبدأ بفرضية او مقدمة اولى ثم مقدمة ثانية ثم اخيرا الاستنتاج. مثل:

جميع الثدييات لها عمود فقري

الانسان هو من الثدييات

لذلك فان الانسان له عمود فقري.

 

الثقافة الشموليّة، نمط ثقافي مغلق في الغالب على نسق محدد من المعارف، تحدد طبيعته وأهدافه سلطة سياسيّة في دولة شموليّة، أو قوى اقتصاديّة أو اجتماعيّة وفقاً لقيم معياريّة وخرائط مسبقة الصنع تفرضها هذه القوى المسيطرة على سياسة الدولة والمجتمع وفق أيديولوجيا شعاريّه وبراغماتيّة وحتى أسطوريّة ذات طابع ديني غيبي غالباً، بغية التأثير على عقول وسلوك وقيم أفراد المجتمع وتحركيهم كأحجار شطرنج، أو نمذجتهم وضبط آليّة تفكيرهم وسلوكياتهم وفق ما تريد هذه القوى المسيطرة أو الحاكمة. وما يميز هذه الثقافة الشموليّة أنها لا تُدخل في حسابات المشتغلين عليها أي مشروع إبداعي يساهم في نهضة الفرد والمجتمع، وتعميق حالة الانتماء والهويّة والمواطنة واحترام الرأي والرأي الآخر لديه، أو تنمية فهم الفرد لمسألة الدولة والدستور والقانون والمؤسسات وكيفيّة الوصول إلى السلطة وضرورة تداولها، ولا حتى تعميق البعد الأخلاقي والفلسفي والجمالي لديه، إلا بما تراه وتريده القوى بسلطاتها الشموليّة وفقاً لمصالحها الأنانيّة الضيقة واستمرارها في السلطة. أو بتعبير آخر هي ثقافة تشتغل عليها القوى الحاكمة المهيمنة على السلطة، بعد تحويلها إلى سلطة شموليّة/ كليانيّة، مستخدمة كل وسائل الدولة المتاحة الماديّة والمعنويّة، وفي مقدمتها المؤسسات الثقافيّة والإعلاميّة والدينيّة والتربوية، وأخيراً حتى القوى العسكريّة إذا اقتضت الحاجة، من أجل تهجين المجتمع وتدجينه وتوجيهه باتجاه أهداف ذات طبيعة شعاريّه لا عقلانيّة، تحت مسميات وطنيّة وقوميّة ودينيّة وإنسانيّة.. الخ، وكل ذلك كما قلنا أعلاه، للحفاظ على وجود هذه السلطة الشموليّة الاستبداديّة واستمراريتها أولاً، وغالباً ما تكون مرجعياتها تقليديّة، كالعشائريّة أو القبليّة أو الطائفيّة أو المذهبيّة أو الحزبيّة، ثم الحفاظ على مصالحها الماديّة والمعنويّة، ومصالح أفرادها، أو أحزبها، أو قبيلتها أو عشيرتها أو طائفتها. دون مراعاة حقيقة لمصالح المجتمع وتنميته بكل مكوناته ثانياً.

أما في مواجهة هذا الثقافة الشموليّة، فنجد ثقافة تنويريّة مقصاه من الواقع بفعل قسري، يمثلها مثقفون تنويريون، مأساتهم أنهم محط إقصاء وتهميش أيضاً في هذه الدولة الشموليّة، بل هم دائماً محط كره وحقد من أعداء الحقيقة والحريّة والإنسانيّة، وخاصة من قبل الانتهازيين والوصوليين والسفلة من رجال السياسة والسلطة ومثقفيها في الدولة الشموليّة، كونهم يجدون في المثقف التنويري النقيض لهم فكراً وسلوكاً، لأنهم يعرفون بأن ما يمثلونه هم من قيم أخلاقيّة وسياسيّة وثقافيّة، هي قيم منحطة، ورخيصة تسوق لمن هم في السلطة، أو أولياء نعمهم.

إن هذا الموقف العدائي من قبل ممثلي الدولة الشموليّة ضد المثقفين التنويريين المدافعين عن قضايا الناس وحقوقها وحرياتها مصالحهم، لا ينطبق أو حتى يتنافى مع فهم الدين الذي يتاجرون به، وتغييب البعد التنويري في نصه المقدس، كما جاء في الآية التالية: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ). (179 الأعراف).

نعم إن الناس الذين لا يستخدمون عقولهم في تحليل وتركيب الظواهر الاجتماعيّة التي يعيشون فصولها يوميّاً، ولا يستخدمون بصرهم في مشاهدة الحقيقة التي  تجري أمامهم، ولا سمعهم فيما يشتكي الناس من مظالم وفساد، سيتحولون إلى أنعام في الحقيقة، وهذا ما يشتغل عليه رجال السلطة الحاكمة في الدولة الشموليّة والقوى الموالية لهم أكثر من غيرهم ضد شعوبهم. هؤلاء الذين يتاجرون بالدين والسياسة والوطن والمواطن وكل القيم النبيلة التي ترفع من قيمة الإنسان ووعيه وانتمائه لوطنه ومجتمعه في الظاهر. بينما هم من يقوم بممارسة فعل التجهيل وفلترة الثقافة وفق ما يخدم مصالحهم بغية تحويل الجماهير إلى أنعام.

إن الثقافة الشموليّة التي يغلب عليها طابع الشكلانيّة والسطحيّة، تسوقها السلطات الشموليّة من خلال مؤسسات تدعي بأنها تعمل من أجل تطوير المجتمع بشكل عام وجيل الشباب منهم بشكل خاص، حيث تتجه النشاطات الثقافيّة والإعلاميّة هنا إلى تجسيد قيم وطنيّة وقوميّة بأساليب شعاريّة كرسم علم أو طيارة أو جندي يقاتل، أو مسؤول يقوم بزرع شجرة، أو افتتاح مشاريع صغيرة تظل في نتائجها لا تستحق ثمن الجهد والمال الذي يُبذل من أجل إقامتها أو افتتاحها... أو إبراز أدوار كاذبة لهذا المسؤول او ذاك... أو إقامة احتفالات ومهرجانات في مناسبات وطنيّة أفرغها الزمن والممارسات الخاطئة للقوى الحاكمة نفسها من مضمونها..  وغير ذلك.

في مقابل هذه الثقافة التجهيليّة التسويقيّة المفلترة التي تمارسها السلطة في الدولة الشموليّة وأدواتها من كتاب وفنانين وأدباء وتربويين على الجماهير، تأتي الثقافة التنويريّة كما قلنا كفعل جماهيري.. كنسق فكري عقلاني نقدي، يشتغل على تفكيك الظواهر المتخلفة وإعادة بنائها بما يخدم نمو الإنسان وتطوره، وفي أعلى درجات هذه الثقافة التنويريّة تأتي مهامها أو وظائفها بعد اكتمال بنيتها وتبلور حواملها الاجتماعيّة، لتطرح التساؤلات الكبرى عن حياة أبناء الدولة والمجتمع ومستقبلهم وعوامل تخلفهم ونهضتهم، أي الكشف عن الكثير من المسائل الملحة المتعلقة بحياة الإنسان الماديّة والروحيّة بكل مستوياتهما. وبناءً على ذلك لم تعد (الثقافة) وفق هذا التحديد فعلاً نخبويّاً فحسب، بالرغم من ارتباطها بالنخب منذ أن ظهر التقسيم الاجتماعي الكبير للعمل على ساحة الوجود الاجتماعي بين العمل الفكري والعمل العضلي، وإنما تصبح فعلاً شعبيّاً أو جماهيريّاً يمارسها الفرد والمجتمع معا في حياتهما اليوميّة المباشرة، وغالباً ما يعملان على اختزالها وتكثيفها في حكم وأمثال شعبيّة ومقولات فقهيّة وفلسفية ورؤى أيديولوجية تنويريّة، تفرض نفسها على سلوك الفرد والمجتمع في حياتهما اليوميّة المباشرة.

***

د. عدنان عويّد - كاتب وباحث من سورية

شيء عن الادراك

في البدء الادراك هو ليس الوعي بالشيء. ان تدرك الشيء بالحواس هو معرفة موجوديته كموضوع وتسمى هذه العملية بالانطباعات الاولية. اما وعي الشيء او الموضوع فهو معرفة حقيقته عقليا وليس حسيّا فقط. دأب فلاسفة عديدون الى تقسيم الموجود المدرك كموضوع الى مظهر هو الصفات الخارجية له والى محتوى دفين يدعى الجوهر. وهي تشبيه مرادف لقولنا شكل الشيء ومحتواه.

وخلاصة القول ان مقولة لماذا لا يكون مضمون الشيء منفصلا عن قابلية ادراكه التي يمتلكها الموجود المادي الشيئي كينونة مستقلة؟ مقولة خاطئة وفرضية تعسفية تحاول وضع العربة امام الحصان لاسباب اوضحتها سابقا واوجزها بكلمات:

اولا قابلية الادراك هي كيفية وسيرورة تجمع بين المادة وادراكها كما هي وسيلة معرفية لا تمتلكها المدركات لاتموضعا ماديا فيها ولا تجريدا تعبيريا يصدر عنها. بل يمتلكها الحس والوعي العقلي لها فقط.

ثانيا مضمون الشيء لا يكون موضوعا لادراك قائم لوحده منفصلا عن موجوديته المادية الموحدة شكلا ومحتوى. المضمون يحتاج دائما لشكل يحتويه وبغير هذه الملازمة لا يمكننا تصور مضمون بلا شكل يحتويه. كما ولا يمكننا تصور شكلا خاليا من مضمون او محتوى دلالي عليه كما في مثال الرسوم الهندسية المجردة فالخطوط التي يتشكل منها الشكل الهندسي تحدد مضمونه الهندسي الذي ندركه للوهلة الاولى فارغا ما عدا محدداته المستقيمة. في أن يكون دلالة على مثلث او مستطيل او دائرة وهكذا. اي ان ابعاد اشكال الخطوط الهندسية المجردة اعطت للحيّز المكاني الذي احتوته مضمونا متفردا هندسيا. المثلث نقصده ادراكيا بالتسمية على اساس خطوطه الثلاث ونحن لا ندرك من الوهلة الاولى الادراكية ان للمثلث ثلاثة زوايا مقدارها 180 درجة احدها زاوية قائمة الا بمعرفة مضمون المثلث واستعمالاته وليس في ادركنا شكله التخطيطي كخطوط مجردة.

ثالثا الادراك لا يجزيء موضوع ادراكه الى شكل هو الصفات الخارجية والى مضمون او محتوى هو جوهره وماهيته. فالادراك هو وعي كينونة الشيء الموحد في كليته الكينونية الموجودية البائنة للادراك. ويكون معنا اعجاز عقلي ادراكي ان نتصور مضمونا لا يحتويه شكل يدركه العقل. وبالعكس ايضا استحالة ادراكية ان تجد شكلا مجردا بلا مضمون يحتويه يمكن للعقل ادراكه كموضوع.

رابعا الصفات الخارجية هي كينونة موجودية موحدة وليس من خاصية الادراك الحسي احتوائها على جوهر او مضمون يستقر خلفها. وعندما نقول امكانية ان يكون المضمون (موضوعا) لادراك فهي فرضية خاطئة فالمضمون لا يكون موضوعا لادراك لا يحتويه (شكل) الذي هو الصفات الخارجية للشيء.

بيركلي والادراك

من مقولات بيركلي المثالية (وجود الشيء هو قابليته ان يكون موضوعا لادراك) وهي مقولة خاطئة كما نوضحه لاحقا..

وجود الشيء لا تحدده صفة ان يكون موضوعا لادراك. بل وجود الشيء موضوعا ندركه تاتي من خاصية موجوديته الانطولوجية التي يدركها الحس والعقل. وليس كما ذهب له بيركلي وجود الشيء هو قابليته ان يكون موضوعا لادراك.

كما ان خاصية ان يمتلك وجود الشيء قابلية ادراكه ليست صحيحة .فقابلية الادراك يحددها الحس والوعي ولا تمتلكه الاشياء المدركة. ولا يفرض الشيء قابلية ادراكه الزائفة على الحواس والعقل لتكون صفة به كموجود.

النقطة الاخيرة من يحدد ان يكون الموجود موضوعا لادراك؟ هل يحدد ذلك مضمونه (جوهره)؟ ام يحدده الشكل الخارجي الصفات المدركة له؟. الحقيقة ان الشكل الخارجي او الصفات الخارجية للموجودات تجعل منها موضوعا ماديا تدركه الحواس والعقل. اما جوهر او ماهية اي شيء لا يكون موضوعا كونه لا يدرك بينما صفاته الخارجية تكون موضوعا.

الادراك الحسي لا يدرك مواضيعه لمعرفة مضامينها الجوهرية. فادراك الحواس ينحصر بالصفات الخارجية للشيء فقط. وادراك الشيء حسب بيركلي هو ادراك كينونة موجودية موحدة شكلا اي صفات وماهية اي جوهر. وهما كينونة غير قابلة للانفصال لانها بالانفصال تفقد وجودها الانطولوجي. خلاصة ماذكرناه بالضد من بيركلي يمكننا تلخيصه بنقطتين:

الاولى وجود الشيء تحدد قابلية ادراكه ليس هو كموجود بل تحدده الحواس والعقل التي تدركه.

الثانية وجود الشيء الحقيقي هو عندما يكون موضوعا يحتوي شكلا ومضمونا. فالحواس والعقل لا يدركان موضوعا لا وجود حقيقي له لا على صعيد المادة ولا على صعيد الخيال.

الوضعية المنطقية وفلسفة تحليل العلم

يذهب فلاسفة الوضعية المنطقية التحليلية حلقة فينا بزعامة انشليك التي انحلت لتبعث نفسها في حلقة اكسفورد بلندن بزعامة بيرترانرسل. هؤلاء الفلاسفة يرون وظيفة الفلسفة الحقيقية هي (تحليل العلم) وعماد هذا التحليل انما يكون في توضيح منطق اللغة في التعبير عن التراكيب العلمية التي تحوي الالفاظ والتعريفات لكي يتمكن الفيلسوف من تحليل الكلام ويفرغه ويجرده.) نقلا عن زكريا ابراهيم.

سنجد لدى كارناب تعارضا مع ما مر ذكره بالعبارة وهو احدهم نجده يقول : لا علاقة بين لغة الفلسفة والعلم ولا يقع على عاتق اللغة توضيح وتحليل قضايا العلم. فالعلم له اختصاصاته التي يقوم عليها العلماء وليس الفلاسفة.

بهذا المعنى التحليلي الذي يجد حقيقة الفلسفة في تحليل وتوضيح قضايا العلم تكون الفلسفة ملحقا منطقيا تحليليا لقضايا العلم. نعتقد ان لغة العلم لا تحتاج دوما اللغة المعرفية الفلسفية او الفكرية عموما. لتوضيح قضاياه. وحقيقة الفلسفة اللغوية انها نسق نمطي يفسر كل ما يصادفه من قضايا تهم حياتنا وعالمنا الخارجي والداخلي.

النسق اللغوي المنطقي للفلسفة يوازي قضايا العلم ولا يقاطعها. بل تعمد الفلسفة ملازمة قضايا العلم بمنهج معرفي هو التخارج المعرفي لكليهما.

اول ملاحظة يجب ابعادها عن تفكيرنا ان منطق الفلسفة لا يدخل بعلاقة ديالكتيك جدلي مع قضايا العلم حتى في نقد الفلسفة لتلك القضايا العلمية. واذا ما حاولنا افتراض تطابق لغتي الفلسفة والعلم من حيث تجمعهما تركيبة نحوية وقواعد وصرف وغير ذلك من ثوابت اللغة ونظامها الخاص بها في حين تكون غالبية لغة العلم هي معادلات رمزية تشمل الرياضيات والفيزياء والكيمياء وباقي العلوم الاخرى. ولا تتعامل مع السردية اللغوية الناقدة او الموضّحة.. علاقة لغة الفلسفة مع قضايا العلم هي لغة متابعة نقدية وتخارج معرفي متبادل للافكار بينهما.

النسق اللغوي الخاص بلغة معينة لا يتداخل ولا يتخارج معرفيا بحيادية متوازية لا تغني العلم ولا تغتني هي نفسها منه. مهمة توضيح اللغة لقضايا العلم التي اشار لها فلاسفة التحليلية المنطقية جعل من لغة الفلسفة تابعا يحمل حقيقة انه يقوم بتوضيح قضايا العلم وتحليلها وتبسيطها ولا اكثر من ذلك.

على رحابة وشساعة رقعة تاريخ المنجزات العلمية الجبارة الهائلة فهي الى جانبها نشا تاريخ الفلسفة البشرية الموغل بالقدم وتنوع قضاياه ومواضيعه ربما قبل البدايات العلمية. فالفلسفة ظهرت في الميتافيزيقا والانثروبولوجيا مثلا قبل التخصصات العلمية في بداياتها . .... وحين تكون حقيقة الفلسفة التي اشار لها التحليلين المنطقيين تتلخص مهمتها في توضيح قضايا العلم فهذا التقزيم التبعي للغة الفلسفة امام قضايا العلم غير كاف. الحقيقة التي يجب ان لا تقاس بالحجوم مابين العلم واللغة تكون اللغة عامة ولغة الفلسفة خاصة اشمل من الاهتمام بقضايا العلم كي تؤكد حقيقتها الملتبسة امام العلم.

تحليل اللغة بعيدا عن التطرق الى مضامينها وحواملها يجعل من اللغة نسقا شكليا مستقلا عن الحياة وهذا ما اكده جورج مور وفينجشتين المتاخر. كلاهما اكدا اهمية مضمون ما تهدف له اللغة تعبيرا قبل شكل الصياغة اللغوية.

ماوراء اللغة الذي اشار له (آير) حسب ماتقوله الفلسفة ولا اعرف مصطلح (مافوق اللغة) الذي نحته سكينر صاحب نظرية السلوك اللفظي هما نفس المصطلح ام مختلفان؟ (كتبت مقالتين منشورتين عن مصطلح مافوق اللغة واجريت اسقاطا للمصطلح على لغتنا العربية فلقي اقبالا على كوكل ونافذة نبأ والعديد من المواقع المرموقة منها المثقف والحوار المتمدن). ماوراء اللغة التي اشار لها آير هي النسق اللغوي الذي يلاحق حمولات ومضامين قضايا معبرا عنها لغويا بعيدا عن التجنيس الادبي او الفلسفي في صياغاتها اللغوية.

الفلسفة ليست توضيحا لمنطق استقصاءات بعض قضايا العلم وتحليلها توضيحيا.الفلسفة ليست شارحة سردية توضيحية بل هي فعالية فكرية ناقدة تحكمها منظومة منطقية مهمتها اثارة سلسلة من التساؤلات المعقدة امام العلم وامام غالبية الوسائل المعرفية الاخرى..ليس مهما ان وظيفة الفلسفة تفسير الاستقصاءات العلمية بلغة الفلسفة. بل وظيفتها الحقيقيةاثارة ما يجهله العلم او يحاول اهماله والعبور من فوقه.

الشيء الذي نراه مهما ان العلم يتطور بقضاياه حتى في عدم ملازمة لغوية ناقدة لما يقوله وفي معزل عنها. فالعلم يشتغل بلغة المعادلات وليس بلغة الفلسفة. كذلك الفلسفة وان كانت مركزيتها التعبيرية اللغة. لذا تستطيع المطاولة الزمنية  ان تطرح قضايا فلسفية بعيدا عن اهتمامات العلم الاثيرة عنده.

اذا كانت اللغة مركزية في جميع اجناس التعبير عن الحياة والطبيعة وقضايا العلم والانسان. لكن مع هذا تحتفظ هذه المركزيات الاجناسية المعرفية ليس في اهمية استحالة محو ملازمة اللغة لما تريده. لكن من حيث ان اللغة ليست مهمتها مقتصرة في واحدية (نقد وتوضيح وتحليل قضايا العلم) والا كانت الفلسفة انمجت في هيكلية قضايا العلم منذ امد بعيد.

حقيقتنا الخالدة

الحقيقة الانثروبولوجية خارج او داخل حقيقة الفلسفة او الابستمولوجيا والعلم مصطلح طوباوي وليس نسبيا فقط. كلما بحثت عنه وجدته سرابا خادعا لعقولنا. لذا حقيقة وجودنا الانثروبولوجي الذي نعيشه على كوكب الارض انما هي صيرورة دائبة الحركة لحقيقة وهمية لا نهائية غير مدركة كما لا يمكن الوصول لها.

كل حقائقنا العلمية والفلسفية وفي مختلف شؤون الانسانيات هي جميعها وهم الصيرورة الخادعة ولا تتوفر لدينا حقائق منطقية ماثلة ندركها في تزامنها الابدي معنا.

اذا تمكنت نظرية الكوانتم الفيزيائية اثبات اننا نعيش موزعين روحيا على اكوان عديدة احدها هذا الكون المتخلق عن الانفجار العظيم حينها يصبح موت الانسان على كوكب الارض ليس فناءا. ويصبح موت الانسان العوبة اذا مات الانسان هنا فانه سيذهب الى العيش في كون اخر بمعنى الموت على الارض حياة ثانية تنبعث حيّة في كون اخر لا يضم الارض ولا المجرات ولا الحلزونيات الدودية المظلمة التي لا يعرف الانسان ماهي ومن اين امتلكت قابلية الجاذبية التي لا تتصورها عقولنا. هذا الراي لا يعارض مفهوم خلود الانسان في الجنة والنار من الناحية الدينية. جاذبية الثقوب السوداء الفضائية لا يتصورها العقل البشري من حيث لا يمكن لاي شيء الافلات منها ولا حتى الجسيمات او الموجات الكرومغناطيسية المشعة. قضية مستقبلية اخرى يواجهها الانسان بيولوجيا هو لماذا يموت الانسان وماهو سبب الموت سواء اكان مرضيا ام نتيجة حادث؟.

***

علي محمد اليوسف

طوال التاريخ ظل الانسان يحاول تحويل نفسه بهدف التغلب على محدوديته وحتى على موته. هناك ميل لدى الانسان للبحث عن طرق لتجاوز العقبات والقيود ليجعل حياته أفضل واكثر سعادة في هذا العالم. هذا يكشف شوق الانسان ليصبح أفضل مما نحن عليه الان – أفضل من الانسان: للانتقال من مجرد انسان عاقل الى انسان متفوق. ما بعد الانسانية هي حركة تدعو لهذا التحول في ظروف الانسان من خلال تطبيق العقل، خاصة عبر التكنلوجيات المتطورة. ما بعد الانسانية ذاتها تطورت تدريجيا عبر العقدين الأخيرين. الآن هي تعزز البحث في مجالات مثل مشاريع تمديد الحياة، تجميد الميت، تكنلوجيا النانو الجزيئية، خطط تعزيز الانسان مثل بايونك(دراسة الانظمة الحية لكي يمكن تطبيق المعرفة المكتسبة على تصميم انظمة فيزيقية)، الذكاء الاصطناعي، تحميل الوعي البشري في الكومبيوتر، تصميم الاطفال، الى جانب اشياء اخرى. نحن نستطيع القول ان الهدف النهائي لما بعد الانسانية هو تمكيننا لنعيش الى الأبد.

المعلقون يميلون للقول ان ما بعد الانسانية هي اما تجرّد الانسان من انسانيته او تجعله انسانا خارقا. الرؤية بان ما بعد الانسانية تجرّد الانسان من انسانيته يؤمن بها المحافظون الحيويون bioconservatives الذين يريدون المحافظة على الانسانية كما هي، ومن هؤلاء فرنسيس فوكاياما وريتشارد جون. فوكاياما عبّر عن نقده في كتابه (مستقبل ما بعد انساننا: نتائج ثورة التكنلوجيا الحيوية،2003). هو يعتقد ان خطط ما بعد الانسانية سوف تنتهك حقوق الانسان الاساسية وسوف تزيل الخط الفاصل بين الطبيعي والصناعي، وهو ما سيثير في الحقيقة معضلات أخلاقية. في النهاية، الخوف هو ان البشر المتحولون سوف يقضون على الانسانية الأصلية. ما بعد الانسانية كمفهوم لتفوق الانسان هو رؤية  يشترك بها كل المتفائلين بالتكنلوجيا، مثل جوليان هكسلي و ماكس مور و نك بوستروم. هم يعتقدون ان مشاريع ما بعد الانسانية سوف تجلب أقصى الفوائد للانسانية، وان محدوديات الانسان كالموت والمرض والشيخوخة يمكن التغلب عليها تكنلوجيا. هذه الرؤى المختلفة حول هذه الحركة تدعونا للتساؤل ما هي بالضبط ما بعد الانسانية. لذا قبل التحقيق في أخلاق ما بعد الانسانية، لننظر عميقا بماهيتها.

ماهي ما بعد الانسانية؟

مختلف المفكرين ومختلف الداعين الى ما بعد الانسانية، لديهم طرق مختلفة لفهم الحركة. مصطلح "مابعد الانسانية" صاغه جوليان هكسلي عام 1957. هكسلي (1887-1975) كان بايولوجيا بريطانيا وفيلسوف وتعليمي ومؤلف الكتاب الشهير (قناني جديدة لخمر جديد). هو اعتُبر أب ما بعد الانسانية. كان ايضا أول مدير عام لمنظمة اليونسكو بالاضافة لكونه حفيد البايولوجي T.H.Huxley. هو تأثر كثيرا بالتطورات الجديدة في علم الأجنة والمنهجيات، ودراسات السلوك، والتطور. بالنسبة لهكسلي، ما بعد الانسانية هي اختزال "للانسانية التطورية". الانسانية التطورية هي فلسفة تمركزت حول تطور الانسان. الانسانيون التطوريون لا ينظرون الى الكائن البشري كـ "ذروة الخلق"، وانما كنتاج غير مقصود للاختيار الطبيعي. الانسانيون التطوريون يؤمنون بان حياة الانسان تطورت من كائن حي منفرد ولا تزال تتطور. لذا فان طبيعة الانسان ليست ثابتة وانما نحن نتطور من حالة الى اخرى. في ظل الانسانية التطورية، تبذل الانسانية جهدا مقصودا "لتحوّل نفسها – ليس فقط بشكل متقطع وغير منتظم – وانما في مجملها كإنسانية" (قناني جديدة لخمر جديد، 1957). هذا المفهوم اُدخل في المجال الاكاديمي من جانب هكسلي.

ماكس مور، هو فيلسوف بريطاني ومستقبلي. في عام 1995، وفي جامعة جنوب كاليفورنيا، أنهى مور اطروحة الدكتوراه (الهوية، الاستمرارية، والتحول) التي تفحص عدة قضايا تهم الما بعد الانسانيين. ومنذ ذلك الحين، هو كتب عدة مقالات تتبنّى ما بعد الانسانية، خاصة فلسفة الـتفاؤلية العلمية Extropianim والتي هي عبارة عن اطار متطور من القيم والمعايير لتحسين مستمر في ظروف الانسان.

أدخل مور مصطلح "ما بعد الانسانية" بمعناه الحديث المرتكز على التكنلوجيا. هو يعرّف ما بعد الانسانية كـ "صنف من فلسفة الحياة تبحث عن الاستمرارية وتعجيل تطور الحياة الذكية الى ما وراء شكلها الانساني الحالي وما فيه من محدوديات وذلك عبر وسائل العلم والتكنلوجيا، مسترشدة بمبادئ وقيم تعزيز الحياة" (ثورة الروبوت القادمة،2009).

اما المستقبلي نك بوستروم، من جامعة اكسفورد قال مؤخرا ان ما بعد الانسانية هي "نتاج للانسانية العلمانية والتنوير. انها تؤمن بان طبيعة الانسان الحالية هي قابلة للتحسين من خلال استعمال العلم التطبيقي وطرق عقلانية اخرى، تجعل بالامكان زيادة أمد حياة الانسان، وتمديد طاقاتنا الفكرية والفيزيقية، ومنحنا السيطرة التامة على حالاتنا الذهنية وأمزجتنا" (من مقال لبوستروم: ما بعد الانسانوية ونقادها، 2010،ص55).

ومهما كانت دقة التعريف، فان الفكرة الأساسية لما بعد الانسانية هي التعزيز العلمي للكائن البشري. ولكن رغم ان أدب ما بعد الانسانية يدمج العلم والتكنلوجيا، فهو يقوم بهذا وفقا لمختلف الأهداف المتميزة. وبالتالي، نحن لا نستطيع اعتبار ما بعد الانسانية كحركة منفردة وانما هي عدة حركات ذات أهداف متميزة. اكثر الحركات التي جرى نقاشها هي : 1- ما بعد الانسانية الديمقراطية 2- ما بعد الانسانية التحررية 3- التفاؤلية العلمية Extropianism 4- التفرد singularitarianism. سنتطرق باختصار لكل واحدة من هذه الحركات:

1- ما بعد الانسانية الديمقراطية Democratic Transhumanism

ما بعد الانسانية الديمقراطية انتشرت اساسا بواسطة جيمس هيوز James Hughes (1961)، البوذي الامريكي والسوسيولوجي والأخلاقي في علم الأحياء ورئيس مؤسسة الاخلاق والتكنلوجيات الناشئة التي تنشر مقالات حول ما بعد الانسانية ومجالات اخرى في أخلاقيات علم الاحياء. عمله الشهير (المواطن الآلي: لماذا المجتمعات الديمقراطية يجب ان تستجيب الى انسان المستقبل بتصميم جديد،2004).

ما بعد الانسانية الديمقراطية تشجع الحكومة لإحتضان المشاريع الما بعد انسانية وتقترح بان التعزيز الذاتي العلمي والتكنلوجي يجب ان يكون متاحا لكل شخص وليس فقط للنخب الثرية. المؤيدون لهذا الاتجاه ينتقدون الطريقة التي توزع بها السلطة بشكل غير متكافيء بالارتكاز على نوع الجنس او العرق او الطبقة او الدين او الصنوف الاخرى. هم يصرّون على ان الناس يجب ان يمتلكوا فرص متساوية في الوصول الى المشاريع ما بعد الانسانية،بغض النظر عن هذه العوامل. هيوز Hughes يؤكد ايضا على أهمية امتلاك ضمانات لهذه الاشياء: "التقدميون التكنلوجيون مثل الديمقراطيين الاجتماعيين، يؤمنون ان الديمقراطية تتطلب ضمانات قوية للحريات المدنية وحقوق الاقلية،وتوزيع منصف للثروة والسلطة ومسؤولية قوية للدولة وشفافية تجاه مواطنيها، وعملية للتشاور وصنع القرار مفتوحة لكل الافراد الكفوئين" (جيمس هيوز في حول ما بعد الانسانية الديمقراطية، مقابلة مع مارس روكس،2009).

2- ما بعد الانسانية التحررية Libertarian Transhumanism

زولتان استفان Zoltan Istvan المرشح للرئاسة الامريكية عام 2016 كان من أبرز الما بعد الانسانيين المؤثرين في العالم، والذي سعى لتعزيز ما بعد انسانية تحررية. هذه هي ايديولوجية سياسية اخرى تقترح مركبا من التحررية والما بعد الانسانية. يعتقد انصار هذه الحركة بان جميع المشاريع الما بعد انسانية يجب ان تهدف الى حياة افضل للانسان تتميز بالرفاهية، ولكن ايضا تكون مبادئ الملكية الخاصة والسوق الحر هي الضامنة لحق التعزيز (رفع قوة ونوعية او كمية الشيء). بالاضافة الى ذلك، هم يؤكدون وبقوة بان أي محاولة للحد من حق متابعة المشاريع الما بعد انسانية هي انتهاك للحقوق المدنية والحريات المدنية. هم ايضا يرفضون بعض السياسات العامة والقوانين التي دعا اليها الديمقراطيون الما بعد انسانيون لأنهم يخافون بان الدولة ستوجّه او تحدد خيارات الافراد. يجادل الما بعد انسانويون التحرريون بان الما بعد الانسانية التحررية سوف تنتج ازدهارا كبيرا وتنمية وأفضل مخرجات للمجتمع.

3- التفاؤلية العلمية Extropianism

الإكستروبية تتعلق باطار من القيم والمعايير لتحسين ظروف الانسان. مصطلح اكستروبية  لم يتم تعريفه بدقة، بل ان اكستروبية تُستعمل مجازيا كمضاد لحالة العشوائية والإضطراب entropy لتعني ان الاشياء عموما تصبح اكثر تنظيما وتعقيدا بدلا من الفوضى والاضطراب. ديان دوان Diane Duane كان أول من استخدم هذا المصطلح ليشير الى اننا بالإمكان ان نبقى متفائلين حول المستقبل من خلال التدخلات التكنلوجية المعززة. ماكس مور من أبرز المؤيدين لهذا الاتجاه، فهو ذاته يصف كل من التقدم الدائم والتحول الذاتي والتفاؤل العملي، والتكنلوجيا الذكية والمجتمع المنفتح و التوجيه الذاتي والتفكير العقلاني كمبادئ لـ الاكستروبية.

العقيدة الرئيسية لأنصار هذه الحركة هي ان التقدم في العلوم والتكنلوجيا سوف يسمح يوم ما للناس ليعيشوا الى الابد. هم عادة يعززون هذه العقيدة بعمل بحوث وتطوير او باختبارات طوعية لتكنلوجيا جديدة حول أجسامهم الخاصة.

Extropism هي اشتقاق حديث من اكستروبية. صدر بيان للحركة يجسد الاكستروبية بالعبارات الخمس التالية:

تمدّد بلا نهاية، وتحويل القيود، والتغلب على الممتلكات، الذكاء، والمكائن الذكية.(تاريخ الأفكار الخطيرة، ديفد لفنكستون، ص2015).

4- التفرد singularitarianism:

وهي حركة ترتكز على الايمان بان التفرد التكنلوجي وخلق الذكاء الخارق سيحدث في المستقبل القريب. التفرد التكنلوجي هو النقطة التي فيها القوة الكومبيوترية تساوي او تتجاوز قوة دماغ الانسان. لذا فان التفرد يفترض ان تطور الذكاء الصناعي فوق ذكاء الانسان، مما يولّد ذكاء صناعي خارق. الذكاء الخارق هو مصطلح يشير الى ذكاء افتراضي اصطناعي يتجاوز الانسان في جميع المجالات الفكرية. في كتابه (التفرد قريب: عندما يحوّل الانسان البايولوجيا،2005)، يتنبأ راي كورزويل(1948)، بان التفرد والذكاء الخارق سيحدث في عام 2045. حركة التفرد تفترض ان فعلا متعمدا يجب اتخاذه لضمان ان التفرد وما وراءه سيفيد الكائن البشري.

رسم الاختلافات بين هذه الحركات يجعل من الواضح ان الإجماع  بشأن ما بعد الانسانية ليس سهلا. مع ذلك، الخيط المشترك الذي يجمع بين جميع هذه الحركات هو تعزيز الانسانية بمساعدة التكنلوجيا والعلم. وهكذا نحن نستطيع صياغة تعريف عملي لما بعد الانسانية كـ "حركة فكرية، اجتماعية، ثقافية، وفلسفية تؤكد على امكانية تحسين ظروف الانسان من خلال التقدم في العلوم الملائمة مثل علم الاعصاب وعلم الجينيوم وعلم الروبوتات وتكنلوجيا النانو وعلوم الكومبيوتر والعلوم والذكاء الاصطناعي".

ما بعد الانسانية و ما وراء الانسانية post humanism

كلا المصطلحين مترابطان في هذا البحث. قبل مناقشة الفرق بين الاثنين، نحن يجب ان نلاحظ ان مصطلح "مابعد الانسان" transhuman هو ذاته متميز عن ما بعد الانسانية   transhumanism. ما بعد الانسانية هي حركة، بينما "ما بعد الانسان" يشير الى كائن حي: انه شكل وسيط في مكان ما بين الانسان وما بعد الانسان. بمعنى، ان البشر المتحولون هم بشر يمرون بمرحلة انتقالية يسعون جاهدين ليصبحوا ما بعد البشر posthuman. مقابل هذه الخلفية، ما وراء الانسانية posthumanity يمكن فهمها كمجموعة من ناس "المستقبل" حوّلوا أنفسهم راديكاليا من بشر بمساعدة التكنلوجيا المتقدمة. وبهذا، فان ما بعد البشر هم كائنات وصلوا الى ما وراء الخصائص والتعاريف التقليدية للبشر المعاصرين.

تاريخ مختصر لما بعد الانسانية

يمكن للمرء القول بمعنى ما ان تاريخ ما بعد الانسانية هو تاريخ الانسانية. بعض المعلقين يجادلون ايضا ان ما بعد الانسانية لها جذورها في دانتي ورسالة القديس بولص. غير انها كحركة، ما بعد الانسانية لها جذورها في الانسانية العقلانية التي وُلدت في التنوير. التنوير احيانا يقال بدأ بنشر فرنسيس باكون لكتابه الشهير (الوسيلة الجديدة) عام 1620. في هذا الكتاب يؤكد باكون على أهمية المنهجية العلمية: للتعرف على العالم من خلال التحقيقات التجريبية بدلا من التفكير القبلي. باكون ايضا يؤيد ان "التأثير على كل شيء ممكن"والذي يعني به، استعمال العلم لتحقيق السيادة على الطبيعة من أجل تحسين ظروف الانسان. في سنة 1784، في مقال له بعنوان "ما هو التنوير؟" يلخص عمانوئيل كانط التنوير كالتالي:

"التنوير هو خروج الانسان من حالة اللانضج المفروض ذاتيا. اللانضج هو عدم مقدرة المرء على استعمال فهمه الخاص بدون إرشاد الآخرين. هذا الشكل من الطفولة هو مفروض ذاتيا اذا كان سببه يكمن ليس في نقص الفهم وانما في اللاقرار ونقص الشجاعة لإستعمال ذهن المرء الخاص بدون ارشاد الآخرين. لذا فان "الشجاعة في استعمال فهم المرء الخاص" هو شعار التنوير. هذا الميراث من التفكير النقدي للتنوير، مترافقا مع تأثير اسحق نيوتن وتوماس هوبز وكانط و ماركيز كوندورسيه وآخرين، يشكل الأساس للانسانية العقلانية. الانسانية العقلانية تؤكد على العلوم التجريبية والتفكير النقدي بدلا من سلطة الدين او التقاليد الاجتماعية. وهكذا فان الانسانية العقلانية تشكل أساسا فكريا لما بعد الانسانية.

الإلهام الرئيسي الثاني للفكر الما بعد انساني هو فردريك نيتشة (1844-1900). في كتابه الشهير (هكذا تكلم زرادشت،1883)، يشرح نيتشه عقيدته الشهيرة في "السوبرمان":

"انا اعلّمك الانسان الخارق. الانسان هو شيء ما سيتم التغلب عليه. ماذا عملت للتغلب عليه؟ كل الكائنات حتى الان خلقت شيئا ما وراء ذاتها، فهل تريد ان تكون انحسارا لهذا الطوفان او العودة الى حالة الوحوش بدلا من التغلب على الانسان؟ ما هو القرد بالنسبة للانسان؟ سخافة ام خجل مؤذي. سيكون الانسان كذلك بالنسبة للرجل الأعلى: سخافة او خجل مؤلم" (هكذا تكلم زرادشت، هولنكديل،ص 41-42).

ورغم ان نيتشة لم يشر مباشرة للتحول التكنلوجي، لكن هناك تشابه بين الرؤية النيتشوية ورؤية ما بعد الانسان. في عام 1940 وما تلاه حصل تطوير اول كومبيوتر عملي متحفزا بحاجات الحرب لفك الشفرات. السبرانية وعلوم الكومبيوتر بدأت تُناقش على نطاق واسع، وفي الستينات من القرن الماضي، جرى توضيح سيناريوهات متفائلة جديدة حول الانسانية والذكاء الاصطناعي من جانب كتاب الخيال العلمي مثل اسحق اسيموف و ارثر كلارك. ايضا في الستينات، تحفزت مختلف المنظمات بلا شك بالخيال العلمي،بدأت بالدعوة لتمديد الحياة، وتجميد الاطفال، واستيطان الفضاء، والتقدم في التكنلوجيا الحيوية وعلوم الاعصاب وتكنلوجيا الاعصاب – جميعها مشاريع هامة لما بعد الانسانية.

في التسعينات من القرن الماضي، كما ذكرنا انفا، أدخل مور ما بعد الانسانية للمجال الاكاديمي،صاغها من خلال مبادئ  المستقبليات او الأكستروبيا. يرى مور ان حالتنا الانسانية كـ "مرحلة انتقالية بين مرحلتنا الحيوانية ومستقبلنا لما بعد الانسان". هذه المراحل الما بعد انسانية سيتم الوصول اليها، طبقا لمور"من خلال الهندسة الوراثية، بايولوجيا تمديد الحياة، مكثقات الذكاء، اتصالات أذكى لكومبيوترات ذكية، تكامل حاسوبي عصبي، شبكة بيانات عالمية، واقع افتراضي، وكالات ذكية، اتصالات الكترونية سريعة، ذكاء اصطناعي، علوم الاعصاب،حياة اصطناعية، هجرة من الكوكب و تكنلوجيا النانو الجزيئية" (Extropian principles 3.0).

في عام 1998،أسّس كل من نك بوستروم و ديفد بيرس مؤسسة العالم الما بعد انساني WTA. وفي نفس السنة، اصدرت مجموعة من ما بعد الانسانيين من بينهم بوستروم و بيرس الإعلان الما بعد انساني، معبّرين عن مختلف المواقف الاخلاقية التي يمكن اتخاذها من جانب الما بعد انسانيين خاصة عندما تبرز المعضلات الاخلاقية بفعل التقدم التكنلوجي. وفي حديث في اليوتيوب لخص بوستروم الاسباب التي دفعته لتأسيس WTA في ثلاث نقاط:

1- لدعم النقاشات حول الفكر الما بعد انساني وخلق وعي عام في التقدم التكنلوجي".

2- لإقتراح حلول للتهديدات المحتملة الناتجة عن التكنلوجيات الناشئة.

3- لخلق منصة جديدة للفكر الما بعد انساني في حقل العلم الاكاديمي.

كل من معهد اكستروبي و معهد الاستشراف ومعهد الخلود ومعهد الاخلاق والتكنلوجيا الناشئة و معهد التفرد للذكاء الصناعي هي منظمات معاصرة اخرى تلعب دورا حيويا في تعزيز ما بعد الانسانية.

في عام 2004 أسّس بوستروم و هيوز معهد الاخلاق والتكنلوجيا الناشئة. وفي نفس السنة، قام فرنسيس فوكاياما وبعد رؤيته للمخاطر المحتملة للمشاريع الما بعد انسانية بتسمية ما بعد الانسانية بـ "افكار العالم الأعظم خطورة". في عام 2005،أسس بوستروم وبالتعاون مع اندرس ساندبرج و ايريك دريسلر معهد مستقبل الانسانية لدعم وتعزيز ما بعد الانسانية. في عام 2008 قامت مؤسسة WTA بتغيير اسمها الى انسانية زائد. اما جامعة التفرد كانت ايضا تأسست عام 2008 في امريكا بواسطة بيتر دايموند و راي كورزويل، بتمويل من جوجل ونوكيا و ايبلانت كابتل و ناسا و مؤسسة اكس برايز و شركات اخرى. وفي عام 2014، كتب إيلون ماسك في تويتر بان الذكاء الصناعي سيشكل تهديدا للانسانية، ثم التحق بـمؤسسة  WTA لدعم تطور تكنلوجي مسؤول. في عام 2015، تبرع ماسك بعشرة ملايين دولار لمعهد مستقبل الحياة لأجل خلق ذكاء صناعي آمن. وفي عام 2016، قاد استيفون حملة لإنتخابات الرئاسة الامريكية مروجاً لبرامج تعزيز ما بعد الانسانية.

من خلال هذه القراءة لتاريخ ما بعد الانسانية، اصبح من الواضح انها ليست مجرد رؤية طوباوية للمتفائلين التكنلوجيين، وانما تلقّت تمويلا هاما من مختلف المنظمات الثرية.

مساءلة ما بعد الانسانية

  على الرغم من ان ما بعد الانسانية تتنبأ بتفاؤل لا مثيل له، لكننا لا يمكننا تجاهل الأسئلة التالية: ماذا نعني بـ "الانسان"؟ هل الكائن البشري فقط مسألة فيزيقية؟ هل طبيعة الانسان ثابتة ام مرنة؟ هل ان فكرة ما بعد الانسانية خطيرة؟ ام ان ايديولوجية المحافظة الحيوية المعارضة لما بعد الانسانية هي الخطيرة؟ وكيف؟ من هذه الأسئلة يبدو واضحا ان ما بعد الانسانية تخلق اسئلة معقدة أخلاقيا وانثروبولوجيا، وهي تتطلب وبشكل ملح تحقيقات بما تفترضه وتدعو اليه.

***

حاتم حميد محسن

"الخداع لا يتعارض أبدًا مع العقل، لأن الأمور كان من الممكن أن تحدث بالفعل كما يدعي الكاذب." حنة أرندت، الكذب في السياسة

لم تعد فلسفة الارتياب تهتم بقضايا مصادر الحقيقة وأصل الوجود والمعرفة المطلقة وأسس القانون فحسب وانما صارت تهتم بما يضادها وذلك بغية التخلص من الأكاذيب الاغتراب والأوهام والتخلي عن الأحكام المسبقة الأخلاقوية والتحيزات الاجتماعية الثقافية. لقد أضحت اللغة باراديغم الخطاب الفلسفي في الحقبة المعاصرة واحتل إنتاج المعنى قلب الاهتمامات التشكيلية سواء أكانت ادبية أو فنية واعيد تقويم عملية إصدار أحكام القيمة ذاتها. لقد جعلت فلسفة الظنة منذ سبينوزا ونيتشه وأرندت وريكور من الخطاب الكاذب إشكالا فلسفيا وقضية شائكة وحاولت تشخيص المرض والوقوف عند رأس الأمر والتحري في الموضوع المخادع وتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود ودفع ما يريبها الى ما لا يريبها والتشكك في قدرة الذات العارفة على قول الصدق. اذ رأى نيتشه في مقدمة نظرية للحقيقة والكذب بالمعنى الخارج عن الأخلاق؛ أن " الكذاب يستخدم تسميات وكلمات صحيحة، ليجعل غير الواقعي يبدو حقيقيًا: فهو يقول، على سبيل المثال، "أنا غني"، في حين أن "فقير" بالنسبة لدولته هو التسمية الصحيحة. إنه يسيء استخدام التقاليد الصارمة عن طريق "الاستبدال الطوعي أو قلب الأسماء. إذا فعل ذلك بطريقة مهتمة وفوق كل شيء ضارة، فإن المجتمع لن يثق به وبالتالي يستبعده. البشر لا يهربون من حقيقة خداعهم بقدر ما يهربون من حقيقة تعرضهم للضرر من خلال الخداع: في الأساس، على هذا المستوى، لا يكرهون الوهم، بل يكرهون العواقب المؤسفة والعدائية لأنواع معينة من الوهم، شعور مقيد للغاية لدرجة أن الإنسان يريد الحقيقة فقط: إنه يطمع في العواقب السارة للحقيقة، تلك التي تحافظ على الحياة؛ تجاه المعرفة النقية وغير المهمة، فهو غير مبالٍ، تجاه الحقائق الضارة والمدمرة، بل إنه يميل بشكل عدائي"1. وأضاف في نفس السياق الجنيالوجي الباحث عن أصل وفصل الخطاب الكاذب في نفس المرجع ما يلي: " "يستخدم الكذاب تسميات وكلمات صحيحة، ليجعل ما هو غير واقعي يبدو حقيقيًا؛ فيقول على سبيل المثال: "أنا غني" عندما تكون كلمة "فقير" هي التسمية الصحيحة لحالته. إنه يسيء التعامل مع الأعراف التي أنشأتها البدائل التعسفية وحتى الانقلابات "الأسماء. إذا فعل ذلك من منطلق المصلحة الذاتية وبطريقة ضارة، فإن المجتمع سوف يسحب ثقته ويستبعده في نفس الوقت. وهنا لا يخشى البشر حقيقة التعرض للخداع بقدر ما يخافون من حقيقة تعرضهم للأذى". بهذا الخداع: على هذا المستوى أيضًا، لا يكرهون الوهم بشكل أساسي، بل يكرهون العواقب المؤلمة والضارة لأنواع معينة من الأوهام، وينطبق تقييد مماثل على الشخص الذي يريد الحقيقة فقط: إنه يرغب في العواقب السارة للحقيقة. تلك التي تحافظ على الحياة، لكنه يظل غير مبال بالمعرفة النقية وغير الفعالة، بل ويشعر بالعداء تجاه الحقائق التي قد تكون ضارة ومدمرة."2 فهل الحاجة الى الاجتماع هي التي تجعل الناس يكذبون على بعضهم البعض ولو مزاحا ؟ وما الجدوى من التمسك بغريزة ارادة المعرفة إذا كانت تتعارض من حيث الوظيفة مع غريزة إرادة الحياة؟

بيد أن باروخ سبينوزا فيلسوف امستردام كان قد سبقه في مستوى نقد الخطاب اللاهوتي اليهودي وممارسة التأويل على الكتاب المقدس وفضح الاكاذيب والتحريفات التاريخية التي تعرض لها ودعا الى التخلص من الكذب على الذات والتخلي عن الأوهام وتبديد الأحكام المسبقة بقوله في القسم الرابع من كتاب الاتيقا في القضية 72 ما يلي: " "الإنسان الحر لا يتصرف أبدًا بالخداع، بل دائمًا بحسن نية"3 والبرهنة على ذلك على النحو التالي:" إذا تصرف انسان حر، كشخص حر، كمخادع، فإنه سيفعل ذلك بأمر العقل؛ لذلك فإن الخداع سيكون فضيلة، وبالتالي سيكون من الأفضل للجميع أن يخدعوا من أجل الحفاظ على كيانهم؛ وهذا يعني أنه من الأفضل أن يتفق البشر فقط بالقول وأن يكونوا في الواقع متعارضين مع بعضهم البعض، وهو أمر سخيف. لذلك انسان حر، الخ." ثم أرفق ذلك بحاشية تساءل فيها:" هل يُسأل عما إذا كان انسان، في حالة تمكنه من تحرير نفسه من خلال سوء النية من خطر الموت الوشيك، فإن قاعدة الحفاظ على كيانه لن تحكم بشكل واضح سوء النية؟ وأنا أرد بنفس الطريقة: إذا كان العقل يأمر بذلك، فإنه يأمر به جميع الناس، وبالتالي فإن العقل يأمر جميع الناس بشكل عام ألا يبرموا فيما بينهم اتحاد قواهم وإنشاء حقوق مشتركة بدلاً من الاتفاقات الخادعة. أي أنه يأمر بعدم وجود حقوق مشتركة في الواقع، لكن هذا أمر سخيف". لكن ألا يوجد تباعد تام بين هذه العقلانية الجذرية الرافضة للخداع ومتغيرات التاريخ الواقعي التي تشهد تفجر العنف واندلاع الحروب والنزاعات بين الدول؟

بعد ذلك وضمن التراث الفلسفي اليهودي ذاته ولكن بنبرة مابعد حديثة انفردت حنة أرندت برؤية واقعية للخطاب الكاذب بقولها في كتابها من الكذب إلى العنف ما يلي:" غالبا ما تكون الكذبة أكثر قبولا، وأكثر إغراء للعقل من الواقع، لأن الكاذب يتمتع بميزة عظيمة تتمثل في معرفة مقدما ما يرغب الجمهور في سماعه أو يتوقع سماعه. لقد تم إعداد نسخته للجمهور، مع إيلاء اهتمام خاص للمصداقية، في حين أن الواقع لديه هذه العادة المزعجة المتمثلة في تقديم ما هو غير متوقع لنا، وهو ما لم نكن مستعدين له بأي حال من الأحوال. عادة، الواقع الذي ليس له مثيل، يربك الكاذب. ومهما كان حجم المؤامرة الخادعة التي قد يقدمها الكذاب المتمرس، فإنه لن ينجح أبدًا، حتى بمساعدة أجهزة الكمبيوتر، في تغطية نسيج الواقع بأكمله. الكاذب، الذي ربما يكون قادرًا على خلق الوهم، مهما كان عدد أكاذيبه المعزولة، لن يتمكن من فعل ذلك فيما يتعلق بمبدأ الكذب ذاته. هذا هو أحد الدروس التي يمكننا استخلاصها من التجارب الشمولية، ومن هذه الثقة المخيفة للقادة الشموليين في قوة الأكاذيب - في قدرتهم، على سبيل المثال، على إعادة كتابة التاريخ باستمرار، وتكييف تفسير الماضي مع الاحتياجات. "الخط السياسي" للحاضر، أو حذف كل المعطيات التي لا تتناسب مع أيديولوجيتهم. وهكذا سيثبتون أنه في النظام الاقتصادي الاشتراكي لا توجد بطالة من خلال رفض الاعتراف بوجودها؛ ومنذ ذلك الحين، أصبح العاطل عن العمل مجرد كيان غير موجود. إن نتائج مثل هذه التجارب، التي يقوم بها رجال يمتلكون وسائل العنف، مخيفة جداً، لكنهم لا يملكون القدرة على الإساءة إلى ما لا نهاية. وإذا تجاوز الكذب حدًا معينًا، فإنه يؤدي إلى نتائج مخالفة للهدف المنشود؛ يتم الوصول إلى هذا الحد عندما يضطر الجمهور الذي تستهدفه الكذبة، من أجل البقاء، إلى تجاهل الحدود التي تفصل بين الحقيقة والأكاذيب. عندما نقتنع بأن تصرفات معينة هي ضرورة حيوية بالنسبة لنا، لم يعد يهم ما إذا كان هذا الاعتقاد مبني على الأكاذيب أو الحقيقة؛ "الحقيقة الجديرة بالثقة تختفي تمامًا من الحياة العامة، ومعها يختفي عامل الاستقرار الرئيسي في الحركة الدائمة للشؤون الإنسانية."4 فإذا كان الكذب في السياسة هو السبب المؤدي الى تفجير الاستقرار واندلاع العنف فهل الاعتصام بالفهم الأنطولوجي بين الذوات والجماعات والثقافات والأديان ينتج بالضرورة التفاهم بينها؟

على هذا الأساس حاول بول ريكور ايجاد مصالحات بين العقل والواقع وبين الحقيقة والتاريخ وبين النص والفعل بواسطة رؤية تأويلية اتيقية تضع الكذب ضمن الحكم على الأشياء وتحرص على تنقيته ضمن تجربة تذاوت فنومينولوجي قصدي يجعل الذات تلتقي بالآخر وتضفي المعنى على وجودها في العالم ومع الغير بقوله في كتابه المبكر التاريخ والحقيقة ما يلي: "طالما بقينا على مستوى الحقيقة المبتذل - عند النطق الكسول للمقترحات المعتادة - فإن مشكلة الكذب تتعلق فقط بالقول (أنا أقول كذبًا نفس الشيء الذي أعرفه أو أعتقد أنه لا يجب أن أقوله). "كن صادقا، أنا لا أقول ما أعرفه أو أعتقد أنه صحيح". هذه الكذبة، التي تفترض الحقيقة المعروفة، لها الصدق المضاد لها، في حين أن الحقيقة لها الخطأ المضاد لها. الزوجان المتضادان يكذبان، "الخطأ والحقيقة - ثم تظهر غير ذات صلة. ولكن إلى الحد الذي نرتقي فيه نحو الحقائق التي يجب تشكيلها والعمل عليها، تدخل الحقيقة مجال الأعمال، وخاصة الأعمال الحضارية. عندها يمكن للكذب أن يتعلق بشكل وثيق بعمل الإنسان. إن الكذب "المخفي" الحقيقي ليس هو الذي يتعلق بقول الحقيقة المعلومة، بل هو الذي يحرف البحث عن الحقيقة، ويبدو أنه وصل إلى نقطة حيث روح الكذب - التي تسبق الكذب - هو الأكثر قربًا من روح الحقيقة، التي تسبق الحقائق المُشكَّلة؛ هذه النقطة هي حيث تبلغ مسألة الحقيقة ذروتها في مشكلة الوحدة الكاملة للحقائق ومستويات الحقيقة. إن روح الكذب تلوث البحث عن الحقيقة من خلال القلب، أي من خلال مطلبه الوحدوي؛ إنها خطوة خاطئة من الشمولية إلى الشمولية. يحدث هذا التحول تاريخيًا عندما تميل قوة اجتماعية وتنجح بشكل أو بآخر في الجمع بين جميع أنظمة الحقيقة وإخضاع الناس لعنف الوحدة. ولهذه القوة الاجتماعية شكلان نموذجين: السلطة الدينية، والسلطة السياسية. وتبين أن كلاهما لهما وظيفة تجميع أصيلة؛ إن الكلية الدينية والكلية السياسية هما مجموعتان حقيقيتان لوجودنا؛ ولهذا فإنهما أعظم إغراء لروح الكذب، للسقوط من الشمولية إلى الشمولية."5 فهل مسؤولية مقاومة الكذب على التاريخ وعلى الكونية الانسانية من مهام المؤرخ أم السياسي؟ هل هي من مشمولات القاضي الذي يبت في الأحكام ويفض النزاعات أم الفيلسوف من حيث هو حارس الحقيقة والوجود والباحث على الاختلاف الحكيم والتفاهم الحذر بين الفاعلين المتزاحمين؟

***

د. زهير الخويلدي

........................

المصادر:

1-Nietzsche, Sur la vérité et le mensonge, Introduction théorétique sur la vérité et le mensonge au sens extra-moral ; Paris, Garnier Flammarion, 1991 ; Dans Le livre des philosophes, 1873, traduction d’Angèle Kremer-Marietti.

2-Nietzsche, Vérité et mensonge au sens extra-moral, Babel, Actes Sud, p. 11-12

3-Spinoza, Éthique, 1672, Partie IV, Proposition 72, trad. Charles Appuhn, GF, p. 289-290.

4 . Hannah Arendt, "Du mensonge en politique", 1969, in Du mensonge à la violence, tr. Fr. Guy Durand, Pocket, 1994, p. 10-12

5 .Paul Ricœur, "Vérité et Mensonge", Histoire et Vérité, 1951, Seuil, 1955, p. 190-191.

كاتب فلسفي

تمهيد: ولد رودولف كارناب في المانيا 1891 مدينة ونسدروف فوبرتال. وتوفي في 14 ايار من ايلول 1970في كاليفورنيا الولايات المتحدة الامريكية وقد تاثر بكواين وكارل بوبر وجاتلوب فريجة.

فلسفة كارناب

«عملنا هو التحليل المنطقي لا الفلسفة»، هكذا يقول كارناب في تقديمه لمجموعة «وحدة العلم».١

والفلسفة التي يبرأ منها «كارناب» هي الميتافيزيقا بالمعنى الذي يجعل الميتافيزيقا بحثًا في أشياء لا تقع في مجال الحِسِّ، مثل: «الشيء في ذاته» و«المُطلَق» و«المُثُل الأفلاطونية» و«العِلَّة الأولى للعالم» و«العدم» و«القِيَم الأخلاقية والجمالية» وما إلى ذلك.٢

غير أن «كارناب» إن تبرَّأ من الاشتغال بالفلسفة بهذا المعنى الميتافيزيقي، فلا ضَيْر عنده من قبول كلمة «الفلسفة» على شريطة أن تُفْهَم الكلمة بمعنى التحليلات المنطقية للعبارات اللغوية، «فكل مَن يشاركنا وجهة نظرنا المعادية للميتافيزيقا، يتبيَّن له أن جميع المشكلات الفلسفية بمعناها الحقيقي إنْ هي إلا تحليلات لتركيبات لغوية»،٣ ولمَّا كانت التركيبات اللغوية التي تُعنَى الفلسفة بتحليلها، هي في الأغلب ما تقوله العلوم المختلفة من قضايا، أمكن أن نقول عن الفلسفة إنها منطق العلوم، أي تحليل القضايا العلمية تحليلًا يُبرِز طريقة تركيبها وصورة بنائها ليتَّضح معناها.

فليست الفلسفة منافسة للعلوم في موضوعات بحثها، بل هي تخدم تلك العلوم بتوضيح قضاياها، ومعنى ذلك أنه إذا كان عمل العلوم هو أن تقول أقوالًا عِدَّة في وصف الأشياء الطبيعية على اختلافها، فعمل الفلسفة هو البحث في منطق تلك الأقوال العلمية لتَجْلِيَة غامضها، فعلم الحيوان — مثلًا — يبحث في الحيوانات نفسها من حيث خصائصها وعلاقاتها بعضها ببعض، وعلاقاتها بما ليس حيوانًا … إلخ، وأما الفلسفة في هذه الحالة فمهمتها تحليل العبارات التي قيلت في الحيوان،٤ ولقد رأى «فنجنشتين» في الفلسفة هذا الرَّأْي نفسه، إذ قال: إن «العمل الفلسفي هو في جوهره توضيحات، فليست مهمة الفلسفة أن تنتج لنا عددًا من القضايا [التي تصف الأشياء] بل مهمتها أن تجعل القضايا واضحة.»٥ وتعليقًا على قول «فينجنشتين» هذا، يقول «كارناب»: «إني أوافق فينجنشتين على أن منطق العلم (أي الفلسفة) ليست له جُمَل خاصة به، إذ ينصبُّ كلامه كله على طريقة تركيب الجمل التي قالها العلم، وإذن فمنطق العلم (= الفلسفة) لا تضيف إلى ميادين العلوم ميدانًا جديدًا.»٦

وهذه التفرقة بين العلم وفلسفة العلم، القائمة على أساس أن العلم قضاياه تصف الظواهر الطبيعية وصفًا مباشرًا، وفلسفة العلم قوامها البحث في قضايا العلم من حيث هي تعبيرات لغوية؛ أقول: إن هذه التفرقة بين العلم وفلسفة العلم هي التي أخذ بها الأستاذ «آير» إذ قال في فصل عَقَدَه لشرح فلسفة العلم ما يلي: «الكتاب العلمي يتألَّف في جوهره من عبارات، والكثرة الغالبة من هذه العبارات تتحدث عن أشياء … لكنك يغلب أن تجد فيه كذلك عبارات … [لا تصف أشياء] بل تُفسِّر طريقة استعمال ألفاظ معينة، أو تُعلِّق على العلاقة المنطقية القائمة بين عبارات أخرى واردة في الكتاب، كأن تُقرِّر عبارة ما بأن نظريتَين مختلفتَين متعارضتان أو غير متعارضتَين، أو أن مجموعة من العبارات تأتي لتشهد بصدق مجموعة أخرى، فهذه العبارات التي لا تشير إشارة مباشرة إلى مادة العلم الذي هو موضوع البحث، بل تشير إلى مُدرَكاته [الواردة في الجُمَل التي تصف الأشياء وصفًا مباشرًا]، أو تشير إلى عبارات أخرى يمكن القَوْل عنها بأنها هي فلسفة العلم.»٧

إذن فالمهمة التي تضطلع بها الفلسفة عند الوضعيين المنطقيين — ومن بينهم «كارناب»-، هي التحليل؛ تحليل أيَّة عبارة مما يقوله الناس بصفة عامة، وتحليل العبارات العلمية بصفة خاصة، وفي رأيهم ألَّا شأن للفلسفة بالعالم وما فيه من أشياء؛ لأن ذلك من عمل العلماء، كل عالِم في المجال الذي اختص به وتخصَّص فيه، فكما يقول «جون وِزْدَم» في عبارة مختصرة يصف بها الفلسفة اليوم: «لأن تتفلسف معناه أن تُحلِّل.»٨ (كوكل الفصل السابع من كتاب الميتافيزيقا تحت معول التحليل /رودولف كارناب).

الميتافيزيقا واللغة

الميتافيزيقا هي ابسط اشكال الاسطورة الدينية الانتروبولوجية قبل دخول الالهة جوهر الاسطورة التي عاشتها الاقوام البدائية حتى بلغت اوجها عند اليونانيين في كثرة تعدد الالهة الباقية بصمة تلازم جمع اديان الارض تقريبا.. وبقيت الميتافيزيقا ملازمة الفلسفة والافكار الدينية البدائية ومسارات تطورها الى اليوم مما حدا ببعض الفلاسفة المعاصرين القول ان جوهر الفلسفة هو الميتافيزيقا وليس جوهرها لا الوجود ولا الابستمولوجيا والانسان مخلوق ميتافيزيقي قبل ان يكون مخلوقا عاقلا ناطقا. وليس يوجد من فلسفة حتى لو جاءت خارج منطقية تعبير اللغة عن تصوراتها الشيئية والخيالية ولا نقول عن مواضيعها فالميتافيزيقا يحكمها التشتيت الخيالي المتأمل الذي يقفز متجاوزا موضوع الخيال المحدود ادراكه. كون حقيقة الانسان الجوهرية قبل ان يكون حيوانا ناطقا هو انسان ميتافيزيقي بالفطرة الوراثية وليس بالمعرفة المكتسبة كما هو الحال في اكتساب الانسان اللغة من اصوات الطبيعة واصوات الحيوانات مصحوبة بالاشارات..

وفي قول كارناب نجد (وظلوا فلاسفة الميتافيزيقا يتوهمون ان عباراتهم الميتافيزيقية تمثل قضايا منطقية تقبل البرهنة. في حين انها مجرد تعبيرات عاطفية تكشف عن انفعالات ومشاعر دفينة ولا تنطوي على دلالات ومعان منطقية) ص 274.

ومن الجدير ذكره ان كارناب احد فلاسفة المنطقية حلقة فينا التي كان يتزعمها شليك. ثم انشق عنها كارناب لينظم الى الوضعية المنطقية التحليلية الانجليزية بتاثير من جاتلوب فريجة وبراتراند رسل وكلاهما ارادا اعتماد تطويع فلسفة اللغة في تمنطق الرياضيات.

الجدير بالذكر ان اللغة التي هي سمة تفكير العقل الجوهرية. جاءت متأخرة على اولوية التفكير الميتافيزيقي الانثروبولوجي عند الاقوام البدائية التي لا تاريخ لها. ميتافيزيقا التفكير عند الانسان كانت قبلية على تعلم الانسان البدائي الاشارات والاصوات اللغوية حاجة حياتية ضروروية له.فالميتافيزيقا التاملية عند الانسان غير اللغوية اقدم من تعبير اللغة كاصوات مصحوبة باشارات غايتها التواصل داخل نوعها.

الميتافيزيقا والمنطق

وفي مجال الاعتراض على رؤية كارناب ان الميتافيزيقا لا تتمتع بمنطق يشير الى معنى محدد بل هي قضايا عاطفية سطحية:

- الميتافيزيقا لا تنطوي على نظريات كما لا تشتمل على قضايا علمية.

- مع هذا فالميتافيزيقا حاجة تعبيرية للانسان تشبه قول الشعر والموسيقى فهما فطرة عاطفية.

- قبل ان تتطور الموسيقى الى لغة منطقية موزعة على نوتة الالحان. كان نيتشة صاغ افكاره الفلسفية شعرا وبذا يكون اعترف ضمنا ان الفلسفة تعبير عن الشعور بالحياة.

-  والحق ان الموسيقى اقدر من الفلسفة على التعبير عن الشعور بالحياة. لان لديها وسائط انقى من جهة. ولانها من جهة اخرى متحررة تماما من كل ما هو موضوعي. فهذا الشعور التوافقي بالحياة الذي يريد الميتافيزيقي ان يترجم عنه بمذهبه. ص 247.

الميتافيزيقا والاسطورة

بحسب كارناب فقد كانت الميتافيزيقا ولا زالت قريبة من الاساطير العابرة حدود تصنيف الاجناس الادبية من حيث الاختلافات بينها في الصياغة اللغوية الاسلوبية شكلا ومضمونا. عن هذه الاشكالية بين الميتافيزيقا والشعر يقول كارناب (ان الفرق بين الميتافيزيقي والشاعر ان الاول لا يريد يعترف بان اقواله وليدة الانفعال والعاطفة في حين يرى في الثاني – الشاعر – يسلم بان شعره اداة فنية يعبّر بواسطتها عن الحياة.)

كارناب العقل والفلسفة

يعتبر كارناب الفيلسوف الميتافيزيقي هو فريسة لوهم بالغ (لانه عندما يصوغ عباراته في قالب منطقي محاولا ان يقيمها على اسس برهانية كثيرا ما يتوهم ان اداته هي العقل او التفكير لا الخيال ولا العاطفة.. بينما الواقع ان تاملاته كلها لا تخرج من كونها احلام شاعر ضل سبيله.) ص 274.

في متابعتنا عبارة كارناب نرى تفكير العقل بمواضيعه تنقسم ثلاثة اقسام، الاول تفكيرالعقل بالواقع المادي والعالم الطبيعي المدرك من حوله في مرجعية الحواس ومن ثم العقل، والثاني تفكير العقل المثالي الخيالي بما ليس محدد ماديا. والثالث تفكير العقل بحاجات الجسم وغرائزه الداخلية وعلاقاته الخارجية والاستجابة او الرفض في تلبيتها. وهذه المستويات من تفكير العقل متلازمة ولا انفكاك بينها. مرجعيتها الثابتة هو العقل. وليست هذه المستويات منقسمة الى مرجعية العقل تارة، ومرجعية العاطفة تارة اخرى. من حيث بيولوجيا الوظائفية في تعبير اللغة وفي السلوك الذي يلازمها في مصدرهما العقل قبل العاطفة.

اختلاف المنطق الفلسفي على انه معقلن بالشعور لا يتجاوز اكثر من واحد بالمئة من الشعور، بينما عمد فرويد في نظريته بعلم النفس ان اللاشعور يمثل تسعة بالعشرة من تفكير العقل. هنا تكون مبالغة فرويد في اعطائه اللاشعور مطلق ومركزية الفعالية الانسانية في تعامله مع العالم الذي يتعايش معه لا يجعل من حقيقة اللاشعور خارج توظيفه بعلم النفس مسالة مقبول دحضها. السلوك هو رد فعل الشعور وليس اللاشعور في تعامله مع واقع مادي ماثل ومتعين امامه.

بعبارة مشكوك بصحتها علميا اننا نتعامل مع عالمنا الذي نعيش الحياة به. بلاشعور سلوكي اي بلا وعي قصدي مهيمن عليه عقليا. اللاشعور في ابسط تجلياته انما هو انفلات الادراك الشعوري الطبيعي في محاولة فهم موجودات العالم الخارجي. فرويد بدل ان يتماهى مع افلاطون ونيتشة وهيدجر وسارتر باننا لا نعيش عالمنا الحقيقي وانما نعيش زيفه الصوري. والعالم الحقيقي الذي وصفه افلاطون عالم المثل التي لا يدركها العقل.

 السؤال من الذي يحدد لنا الشعور.؟ العقل ام اللغة ام الخيال العاطفي؟

الحقيقة في هذه المقارنة المعيارية تقود الى ان الحواس المادية والعقل هما اول من يحدد لنا الشعور في تجلياته الادراكية والمعرفية وتعبير اللغة عنها. لكن بوسيلة ماذا؟ هل في وسيلة التفكير اللغوي؟ ام في وسيلة العاطفة في التعبير السلوكي.؟

الاجابة حتما تكون هي وسيلة (اللغة) لانها تمتلك العديد من الخصائص العقلية الجوهرية تجعل منها رائدة في تعبيرها عن الشعور. اللاشعور لا يمتلك بنية لغوية يمكنها الافصاح عن السلوك الذي مصدره العاطفة. اللاشعور يعني غياب سيطرة العقل على التفكير السلوكي لذا فاننا نعيش اللاشعور في النوم وليس في حالة اليقظة.

فباللغة نعبر عن الشعور المادي مجردا، وباللغة نخترع عوالم خيالية مصدرها النفس والعاطفة.

حين ذهب ديكارت ان العقل جوهر ماهيته التفكير ولما كان جوهر التفكير هو العقل واللغة يكون معنا العقل هو اللغة وعلى حد تعبير سيلارز الوجود هو اللغة. عند ذلك تكون العاطفة ليست تعبيرا خارج ما يدركه العقل.

لماذا ذهب فرويد ومن قبله نيتشة وهيجر ان لا شعورية الشعر- المقصود هنا ان لغة الشعر هي تداعيات وانثيالات لاشعورية يتغلب فيها المزاج والعاطفة تكون اللغة فيها سريالية مفككة - لكنها تكون اكثر مصداقية في فهمنا العالم الحقيقي المحجوب ادراكه عنا.؟

اذا نحن اعتبرنا اللاشعور صمت سلوكي وهو كذلك انه ذخيرة العقل في امتلاكه الفاهمة اللغوية. الا عند الحاجة حين يكون سلوكا لغويا متداخلا.

مالدليل المنطقي فلسفيا امكانية البرهنة الى ان اقرب تعبير لغوي تجمعه بالفلسفة هو الشعر؟ تفكيك عدم منطقية الشعر تفقده خاصية اللغوية المتماسكة من صفاتها النحوية والاعرابية وغيرهما التي نستخدمها بحياتنا تداوليا ونفهم العالم من حولنا بواسطتها.

***

علي محمد اليوسف

.............................

الهوامش:

1-8 عن موقع كوكل، الفصل السابع من كتاب الميتافيزيقا تحت معول التهديم، رودولف كارناب.

2. الهوامش الباقية من دراسة في الفلسفة المعاصرة، د. زكريا ابراهيم ص274

 

التفكيكية من التيارات الفلسفية والنقدية التي تأثرت بأفكار هيجل ونتشه وهايدجر وشتراوس كما تبين الدراسات، وهي تتصل بالفلسفة أكثر من اتصلالها بالنقد الذي انسحبت اليه من ميدان الفلسفة. وتعد امتداداً للبنيوية فهناك من يراها (حركة بنيوية) (1) ويعد مؤسسها دريدا مفكراً بنيوياً إلا انه تجاوز البنيوية وانتقدها، ولهذا يعدونها كذلك (ضد البنيوية) وانقلاباً عليها وأنها تمثل مرحلة (ما بعد البنيوية). وقد وجه دريدا نقداً للتراث الفلسفي والميتافيزيقا الغربية التي يمثل التعبير الأكثر صرامة عنها - كما يرى - نظام هيجل ونظام دي سوسير اللغوي، وسعى الى تفكيك هذين النظامين عن طريق کشف التباساتهما وتناقضاتهما (2). وقد وضع الافتراضات الميتافيزيقية الأساسية في الفلسفة الغربية منذ افلاطون موضع الاستفهام والسؤال ووجه اهتمامه الى نقض وتقويض فكرة (الأصل) التي توحي بمعنى: الأول السابق والأساس الذي يُبنى عليه والمركز والمبدأ والعلة في الوجود وهو ما يرتبط بفكرة الثبات والتعالي والماوراء والتجاوز. وهو قد صدر بهذا عن طبيعة العصر الفينومينولوجية وأفكاره المادية التي تنفي فكرة الغيب وماوراء الوجود، وتدعو الى ملاحظة عالم الظواهر المادي والاهتمام به وهو عالم التغير والحركة والصيرورة التي لا تعرف الثبات. وتمثل فكرة نيتشه (موت الإله) التجسيد الأبرز لنزعة العصر المادية ونفي فكرة المرجع الذي يتجاوز الوجود الظاهر. وقد دأب دريدا على تفنيد فكرة الأصل الأول والمركز الثابت فلا وجود له كما يذهب لأن الأفكار والأشياء يتخللها الاختلاف فالأصل هو الاختلاف الذي يتخلل هذا الطرف الذي ينظر اليه بأنه الأصل والمركز. ومادام الاختلاف يشوبه فلا يمكن أن نعده أصلاً فما يختلف معه أو نقيضه موجود معه فلا معنى لهذه الأصلية. ومن هنا ساوت التفكيكية بين الطرفين المتناقضين أو المختلفين في علاقة الاختلاف أو التناقض ورأت أن ليس صحيحاً التفريق بينهما بصفة الأسبقية المتعالية. ونرى أن إلحاحها على هذه الفكرة وتكريس جهدها لتفنيدها إنما هو موقف ايديولوجي أكثر منه فلسفة لترسيخ سلطان النزعة المادية على العالم وهدم اللاهوت والميتافيزيقا والأصل الإلهي للعالم للوصول الى عالم بلا أصل يتحرك في صيرورة مستمرة تائهة لا تعرف الثبات، وهكذا تنجز التفكيكية مهمتها العدمية.

ولقد أعلنت في نقدها للميتافيزيقا الأوربية أنها تريد إعادة صياغة العلاقة بين الطرفين المختلفَين اللذين يمثلان طرفي علاقة الاختلاف أو التناقض التي تدرس الفلسفات الجدلية من خلالها الظواهر. فالثنائيات الفلسفية - كما ترى - هي تراتبات يكون فيها الطرف الأول أصلاً وسابقاً ومستقلاً وأساسياً. ويعامل فيها الطرف الثاني على انه تبع وتكرار أو تجل للطرف الأول، فقد بدأ الميتافيزيقيون جميعاً على النحو الآتي: الخير قبل الشر، الإيجابي قبل السلبي، البسيط قبل المعقد، الجوهري قبل العرضي، المركز قبل الهامش، الخ.. ويطلق ديريدا على الرغبة في المركز اسم التمركز حول المنطق في كتابه (علم الكتابة). وتعمل التفكيكية على حل وتفكيك هذه الثنائيات المتراتبة. وتفكيك هذه التراتبات كما تبيّن، يعني قلبها بالكشف عن أن الطرف الأول الذي افترض فيه الأصلية والاستقلال يمكن معاملته على انه حالة خاصة للثاني أو طرف مقابل ومساوٍ له. وترفض التفكيكية السماح لأي عنصر من عناصر النظام أو النسق بالتحول الى مركز ضامن للحضور بملاحظة التراتب والعمل على قلبه ومقاومـة استفحـال أي تراتب جديد يحـل فيه الـطرف الثاني في موقـع الأفضـلية أيضاً (3)، فهي تبقي على تكافؤ الضدين قائماً لأن أحد الضدين يحيل الى لاحقه دائماً فلا هوية خالصة له(4) لذا فإن الاختلاف هو الأصل.

لقد أنكرت التفكيكية التمركز حول أحد النقيضين أو المختلفين دون الآخر وانتقدت التمركز حول العقل في الفلسفة الغربية بوصفه أصلاً ومصدراً متعالياً للمعرفة يقرر المعنى والحقيقة والقيم وعملت على نسف مرجعيته والتشكيك بقدراته مما يؤدي الى انكار كل حقيقة وكل يقين فلا معرفة ولا حقيقة يمكن الظفر بها وهي غائبة مرجأة دائماً، والارجاء يشير الى غياب المعنى الدائم. ويذكرنا موقف التفكيكية هذا بالسفسطائية التي قامت على مبدأ الشك فلا حقيقة ثابتة مطلقة، وليس العقل مصدراً للحقيقة لديها. الخطاب التفكيكي كذلك يلغي مركزية العقل والانظمة المعرفية التي صدرت عنه انتجت أوهاماً وزيفاً كما يدعي وهو يسعى الى تفكيكها بالبحث عن الاختلافات والتناقضات في داخلها وجعلها سبباً لتدميرها.

ولمزيد من الإيضاح لطبيعة التفكيكية وعملها تبيّن انها تقيم مرحلياً داخل الأفق الميتافيزيقي المغلق لهذه المقابلات عاملة على رجه من داخله أو قلب تراتبه بحيث يحتل ما هو فرع أو هامش أو أسفل مكان ما هو أصل أو مركز أو أعلى. هذه الحركة تجد في نظر دیریدا تبريرها في كوننا داخل المقابلات الفلسفية الكلاسيكية لا نجدها في تعایش سلمي ومقابلة حيادية وإنما في عمل عنف وصراع. ثم تأتي حركة ثانية تتمثل في العمل ميدانياً داخل النسق الذي يجري تفكیكه للكشف عن عجزه وتناقضه، ولفرض نظام بدائل أخرى. هكذا يطاح بالعلاقة التراتبية القديمة ويمهد لمجيء (مفهوم) جديد لا يمكن فهمه ولا تمكينه من العمل دون النسق السابق (القديم). وفي تعريفه للتفكيك يبيّن ديريدا أنه تخلع أو فقدان الشيء بنيته أو تقويض وتفتيت للبنية والتموضع داخل الظاهرة وتوجيه ضربات متوالية لها من الداخل لكي تتفكك وتتحلل ويحل الاختلاف محل مركزية أحد طرفي علاقة الاختلاف الذي تنظر اليه الميتافيزيقا بأنه أصل وسابق. فالاختلاف هو السابق وهو حدث ما ورائي کلي أزلي لا تحد سلطته حدود وهو ليس حسياً ولا عقليا وليس مادياً ولا روحياً(5) كما يصفه. ولا نفهم معنى أن يكون كلياً أزلياً وماورائياً ثم لا يكون عقلياً ولا روحياً، فهو نوع من السفسطة والتلاعب بالألفاظ وانكار البديهيات مما أقره المنطق وطمس الحقائق والايهام في المعنى.

إن الاختلاف هو (الأصل) كما يذهب دیريدا، ويوضح ذلك (بتصديه للمفهومات المؤسسة للميتافيزيقا الغربية ولمفهوم (الأصل) IÓRIGINEبخاصة. يرينا دیریدا بمماحكة ديالكتيكية نوعاً ما من أن (الأصلي) لا يكون (أصلياً) إلا باستناده الى (النسخة) التالية له التي يسود الزعم انها تأتي لتنسخه وتكرره ضامنة له بذلك حيازة تسمية (الأصلي) او (الأصل). لا يكون (الأول) (أول) إلا بالاستناد استناداً مؤسساً، أي يقيم في جوهر (الأول) نفسه بما هو (أول)، نقول الاستناد الى (الثاني) الذي يدعم ذلك (الأول) في أوليته. ومن هنا.. فإن (الأول) هو (في نظر ديریدا) أول / ثان والثاني ثان / ثان، الخ.. هذا يعني انه ليس ثمة من أصل محض، وان الأصل يبدأ بـ (التلوث) أو الابتعاد عن مقام الأصلية بمجرد أن يتشكل كأصل فيجد نفسه مجبراً على ان يمهد لمسار تأتي فيه (الآثار) المتتابعة لتعدله في (أصلیته)... الأصل طريق الى الأثر مثلما يكون اليوم الأول في حياتنا يوما أول في اتجاه الموت في آن واحد معاً. وإذن فـــــ (في البدء كان الاختلاف)، وهذا هو ما يفسر مقولة ديريدا في التأخر أو الأرجاء الاصلي... الأصل يحيل الى لاحقه دائما، و (الهوية) الى (آخرها) الذي يؤسسها هي نفسها كهوية، بذا يكون الاختلاف.. في حقيقته إحالة إلى الآخر وأرجاء لتحقق الهوية في انغلاقها الذاتي) (6).

وهكذا يطور دیريدا استراتيجية عامة نظرية ومنهجية للتفكيكية الفلسفية، وكان هيجل رائداً له في تفكيره كما كان نيتشه الفيلسوف الألماني الذي عمل على إبراز الطابع المتناقض للظواهر الفلسفية واللغوية والأدبية. وكان يتصور ديالكتيكاً يتخذ نقطة للانطلاق جمعاً للضدين عصياً على التجاوز ويستحيل اخضاعه ودمجه في النظام. ومثل نيتشه في التأثير فيه كان هايدغر الذي ينتسب الى نيتشه وتحضر فلسفة نيتشه في أعماله، وكانا قد وجها نقداً الى الميتافيزيقا الغربية وهذا النقد استأنفه دیريدا وبول دومان وتفكيكيون آخرون وجذوره(7).

ومن هذا التصور الفلسفي في ابراز الطابع المتناقض للظواهر انطلق هؤلاء التفكيكيون في دراستهم للنصوص اللغوية والأدبية وهم يرون أنها تحكم بتناقض لا يمكن محوه، ولهذا فإنهم لا يقرأون النص لكي يكشفوا التجانس الصوتي والدلالي والنحوي الخاص به، إنهم يبحثون عن اجتماعات الأضداد المتعذر تبسيطها فيه وعن تناقضاته ومآزقه المنطقية، إذ أن كشف تناقضات النص وتشوشاته يتقدم أحيانا على أنه واجب أخلاقي لدى هؤلاء التفكيكيين، فهم يؤسسون لعلم اخلاق في القراءة يتمثل بالاعتراف بالطابع المتناقض للنص وعدم إمكان قراءته والتسليم بفشل القراءة بدلاً من تطبيق النظريات عليه لإخضاعه للمفاهيم.

لقد أكد التفكيكيون وهم يدرسون الظواهر والنصوص الأدبية أسبقية كينونة حالة الاختلاف أو التناقض الذي يحكم هذه الظواهر والنصوص فهو الأسبق وهو الذي كان في البدء كما يصفه ديردا، أي انهم يثبتونه أصلاً ومبدأ وبهذا تناقض التفكيكية نفسها، فهي تنكر الأصل السابق وتثبته كذلك، تنكر هذه لأصلية عندما توحي بفكرة المركزية والأحادية التي لا تتضمن إختلافاً وتناقضاً وعندما تكون سابقة على الاختلاف او التناقض أو لا تساوي بين المختلفين أو المتناقضين. ولقد ذكرنا أن التفكيكية تأثرت بفلسفة هيجل وكذلك بالبنيوية لأنهما تهتمان بعلاقات الاختلاف أو التناقض وتدرسان الظواهر من خلالها، ولكنها وجهت نقدا الى كليهما، فالمنهج الجدلي الذي يتخلل الظواهر عند هيجل يتألف من أطراف بينها علاقة تناقض ولكن الطرف الأول أو الخطوة الأولى سابقة منطقياً على الخطوة الثانية وهو يسمي الخطوة الأولى بالوجود الخالص أو الروح أو الفكر الكلي وهو وجود جوهري يتجلى عن طريق الوجود المتعين الواقعي. ولهذا أنكر ديريدا هذه الأسبقية لأنها جوهرية تؤكد أصلاً سابقاً ًيتجلى فنجده يقدم نقداً جذرياً لمفهوم الجوهر لدى هيجل الذي يعطي الأولية الى المضمون الكلي أو الجوهر الذي يتجلى في عالم الظاهر، فجوهر الأشياء لايكون سابقاً ثم يظهر في العالم التجريبي، وهو بذلك يتأثر بنيتشه الذي يقدم نقداً جذرياً لمفهوم الجوهر، ويحدث قلباً تراتبياً بين الظاهر والجوهر عن طريق الإلحاح على أولوية الظاهر في الفن. ونيتشه من هذه الناحية يبدو رائداً لديريدا والتفكيكيين. وكما وجه نقداً لنظام هيجل كذلك فعل ديردا مع البنيوية ونظام دي سوسير اللغوي فهو يأخذ عليه كونه صاحب خطاب تسيطر عليه المركزية الصوتية أو اللوغو مرکزية. والمركزية الكلامية أو الصوتية هي مبدأ أساسي للميتافيزيقا الغربية وهي سيطرة اللغة المحكية أو الكلام الذي يضمن حضور المعنى وأسبقيته من افلاطون الى هايدغر الذي انتقده دیریدا كذلك وأخذ عليه ما أخذه على دي سوسير. فالفلسفة المثالية منذ افلاطون والفلاسفة المثاليين الآخرين تقدم المعنى وتنتهي الى إدانة الكتابة بأنها غريبة عن الحياة ومعادية لها لأنها قابلة للتأويل وغير ثابتة إذ تقرأ وتعاد قراءتها في سياقات مختلفة ومتغيرة، فلا تضمن حضور المعنى كما يفعل الكلام أو الصوت الحي، فهي تابعة للرأي المتقلب فلا تنتج العلم بل الرأي كما يقول افلاطون. ويميز دي سوسير بين الدال والمدلول لحساب المدلول وهذا بالنسبة الى ديريدا بقية باقية من الميتافيزيقا الأوربية، ومن هنا يأخذ على البنيوية أن فكرة (البنية) فيها تفترض سلفاً مركزاً للمعنى من نوع ما ويتحكم هذا المركز بالبنية ويكون سابقاً عليها.

وفي نظرته إلى التاريخ ينتقد ديريدا التمركز العقلاني أو اللوغوسي في الفلسفة الغربية للتاريخ. ويرى أن طريقة النظر الى التاريخ طريقة ميتافيزيقية او مثالية، سواء ما كان منها من المثالية أو المادية الديالكتيكية، فهذه برأيه كذلك مادية كلاسيكية قابعة داخل الميتافيزيقا بالقدر نفسه الذي تكون عليه المثالية. ويصف طرق النظر هذه بأنها محاولات للاحتواء، والاحتواء مثالي دائماً. وهو يتبنى مادية لا تكون آلية ولا جدلية، مادية غير جدلية لم تدخل الحيز الميتافيزيقي أو المثالي، مادية ما قبل افلاطونية أو ما قبل سقراطية ترجع بنا الى ديموقريطس والی تفکیر محدد حول الصدفة، فالتفكيك هو ضد الاحتواء والأمثلة(9). وهو يقول عن هذا وعن اتهامه بتجاوز التاريخ: (إنني تاريخاني بصورة كاملة، وإن ما يهمني دائما هو الإنحدار التاريخي لجميع المفهومات التي نستخدمها وجميع حركاتنا، وإنه إذا كان هناك شيء لا يمكن نسيانه فهو التاريخ. إلا أن ما شجع على إطلاق هذه التهم أو غذاها هو كون مفهوم (التاريخ) بقي مستخدماً لدى الكثير من الفلاسفة والمؤرخين ومؤرخي الفلسفة - وسواء أتعلق الأمر بالمثالية أم بالمادية ولدى هيجل أم لدى مارکس - ضمن نزعة بدت هي الأخرى ميتافيزيقية مما يجعلني أقف منها موقف المتحفظ أو المحترس، ولكن ليس باسم لا تاريخية أو لا زمنية وإنما باسم فكر آخر للتاريخ)(10) فهذا المفهوم الآخر للتاريخ الذي يقدمه لا ينطلق من تفسير المثالية والمادية اللتين تصدران عن نزعة ميتافيزيقية كما يصفها تتبنى وجود أصل أو علة مركزية تحرك التطور التاريخي كما أنه ينكر هذا التطور والتجاوز التاريخي الذي تؤمنان به.

التفكيكية ترفض العلة المركزية والأصلية الجوهرية السابقة التي تحرك التاريخ كما ترفض التطور والتجاوز في علاقة الاختلاف أو التناقضات التاريخية لأن هذا التجاوز ينهي حالة الصيرورة التي تريد إبقاءها قائمة كما أنه يشير الى غلبة أحد النقيضين وأفضليته على الآخر وهو ما لا ترضاه، ولهذا نجدها لا تؤمن بالغائية التي ترتبط بالجدلية وبالصراع والتجاوز والتغير، وتؤكد أن هذه الديالكتيكية التاريخية التي تتجاوز التناقض الى بنية مركبة شاملة مفهوم ترفضه بحزم. وهي تنكر على فلسفة هيجل أنها لا تبقي التناقض قائماً أبدياً سرمدياً بل هي تطوره وتحوله الى تأريخ يمر بمراحل ينتابها الصراع الذي ينتهي الى غاية وهو ما لا تؤمن به. ولهذا نجد ديريدا لا يعترف بالمركب الهيجلي لأنه خطوة تجاوز ولحظة تغير وحركة وهو ما تحاربه التفكيكية التي تبقي التناقض أو الاختلاف على حاله في موقفه المأزقي دون غلبة وتجاوز أي دون حركة، والتاريخ حركة. وهذا يعني أنها تدرس التاريخ في لحظة سكونية متوقفة، لحظة تولّد التناقض أو الاختلاف لا لحظة تجاوز هذا الاختلاف، وهي لحظة الحركة. وهذا عين ما تفعله البنيوية. إن لحظة الاختلاف أو التناقض لحظة تاريخية لا أصلَ سابقاً لها فالاختلاف هو الأصل كما يذهب دريدا. وهي لحظة ثابتة لا تتحرك، لأن الحركة التي يأتي بها الاختلاف أو التناقض هي تجاوز وهي صراع يؤدي الى هذا التجاوز كما تؤكد فلسفة هيجل التي يلتقي معها دیریدا في انطلاقه من مبدأها الفلسفي الأساسي وهو كون الاختلاف أو التناقض يتخلل كل شيء إلا أنه ينكر التجاوز والحركة التي يدعو إليها الصراع بين أطراف الاختلاف أو التناقض والذي هو أساس التطور التاريخي. إنه لأمر جوهري إذن أن نتصور التناقض التفكيكي كجمع أقصى للنقيضين يستبعد أي تأليف هيجلي وأية وحدة ديالكتيكية بوصفها وحدة نقائض، أي انه ينكر الخطوة الثالثة من خطوات المثلث الهيجلي، التي هي الوحدة أو المركب بين الخطوتين الأولى والثانية. إن جمع نقائض تخيله ديريدا وميلر ودومان ومارسه في الماضي نيتشه هو تفكيكيٌ ومأزقيٌ ولا يولِّد أي وحدة ديالكتيكية، ويحل محل هذه الوحدة الأرجاءُ الديریدي(11)، فبدلاً من الصراع الذي يقتضيه الاختلاف والتناقض يبقي الاختلاف قائماً لا يشوبه أي صراع ولا يعقبه أي نفي وتغير وتحول لأن عملية النفي تعني فاعلية أحد الطرفين وقدرته على الفعل مما يؤكد أصليته وأسبقيته وهذا ما لاتريده التفكيكية فلا قدرة لأحد الطرفين على نفي الآخر، لا قدرة للأصل على نفي ما هو تبع وهامشي فهما متكافئان متساويان، ومن أجل ذلك ينفي ديريدا أن يكون التفكيك فعلاً أو عملية. ويتحدث عما يسميه (التاريخ الداخلي) وهو طاقة العمل وحركياته الجوانية التي تتجاوز الثنائيات الميتافيزيقية أو تقلب تراتبها وتبقيها في لحظة تقابل أبدية. وهو يبعد هذه الحركة عن الالتباس بالوعي الذاتي وهذا ما يختلف به مع الهيجلية والماركسية، فالتفكيك عملية لا تنتظر وعياً من ذات: (التفكيك حاصل: إنه حدث لا ينتظر تشاوراً أو وعياً من من لدن الذات الفاعلة...التفكيك يحدث حيثما يحدث شيء ويقوم حيثما هناك شيء قائم.. يجب أن نحدد أيضاً أن التفكيك ليس حتى فعلاً أو عملية)(12).

الاختلاف إذن يقوم حيثما هناك شيء قائم، ولهذا فإن التفكيك كما يبين ديريدا هو عملية تتغلغل في كل شيء لأن كل شيء يتخلله الاختلاف، وان أي حدث يتضمن الاختلاف. ولا يختلف دريدا مع هيجل في تصوره أن الاختلاف أو التناقض يتخلل كل الأشياء، ولا يختلف معه في وصفه لعلاقة الاختلاف والتناقض، فلدى هيجل أن علاقة التناقض هي الحقيقة العينية الأولى، لأن لا وجود لأحد النقيضين خارج علاقته بالآخر، فالعلاقة هي الوجود العيني الأول، أي الوجود المتحقق. أما قبل هذا الوجود فإن هناك ما يسميه هيجل (الوجود الخالص) وهذا الوجود يساويه بالعدم لأنه كان وحده بلا علاقة له مع نقيضه. وعندما يتحقق التناقض ويوجد بوصفه حقيقة عينية واقعة، فإن أحد النقيضين لا ينفصم عن علاقته بالآخر وإلا يستحيل الى عدم. وهيجل يعرِّف العدم بأنه أحد النقيضين خارج علاقته بالآخر، فأحد النقيضين لا ينفك عن علاقته بالأخر، وهذا ما يراه ديريدا وأن الأول يرتبط بالثاني، والأصل يستند إلى النسخة التي تأتي لتكرره، فهذا لا يختلف به ديريدا والتفكيكية مع فلسفة هيجل، وهي تؤكد مبدأ اجتماع النقيضين أو المختلفين أي أن أحدهما لا معنى له أو لا وجود إلا بنقيضه فالأصل يحتاج الى نقيضه لكي يكون أصلاً فلا أسبقية له عليه بل هو موجود معه ولا انفكاك له عنه ولهذا يساويه بالعدم عندما يكون وحده قبل خلق التناقض. وعندما يكون أحد النقيضين وحده فإنه - كما يبين هيجل - ينطوي على نقيضه، أي ان نقيضه موجود فيه بالقوة وهو يخرجه الى الفعل ليوجد التناقض، وهذا يضرب مبدأ الهوية وعدم التناقض لدى المنطق القديم. فأحد النقيضين لا ينفصم عن الآخر والتناقض أو الاختلاف قائم منذ البدء ولكنه لدى هيجل كامن في الوجود الخالص أما لدى ديريدا الذي يؤكد: (في البدء كان الاختلاف) فهو موجود وجوداً عيانياً واقعياً، ولهذا لا معنى لتفضيل أحدهما على الآخر إذ لا أسبقية لأحدهما على الآخر ومن هنا فإن مفهوم الأصل أو المركز مرفوض لديه. ولكن ديريدا يتغافل عن أنهما مختلفان أو نقيضان وأن هذا الاختلاف يحدد هوية كل منهما فالهوية ليست مرجأة، وهذا يوجب أن يكون التناقض أو الاختلاف قائماً ويبيح للعقل وللميتافيزيقا أن تقدم أحدهما على الآخر بناءً على هوية كلٍ منهما وما يتصف به كل منهما، فيبقى الأصل أصلاً سابقاً وثابتاً والأول أولاً والثاني ثانياً. وليس الأمر واجباً أخلاقياً يرتب على التفكيكي أن يقوم به وأن يعيد الأمور الى نصابها ويحق الحقوق وإنما هو من طبيعة الأشياء وخلقتها أن تكون كذلك فلكي يكون الأصل أصلاً لابد أن يكون أولاً ولابد أن يكون الآخر تبعاً وثانياً ولا يمكن أن تتبدل طبائع الأشياء وأن يرتفع أحدهما الى مكانة الآخر، كما أن هذه الطبائع تقضي أن يكون بينهما تفاعل يؤدي الى نتيجة وتطور وبقائهما في حالة سكون دائم أمر ترفضه في طبيعتها كما يرفضه الواقع.

والذي يبدو أن التفكيكية تلجأ الى المغالطة ولا تريد أن تقف عند هذه الحقائق وحاجة أحد النقيضين الى الآخر لكي يوجد، وتلازمُه معه لا يعني تساويهما وعدم اختلافهما أوتناقضهما وما يقتضيه هذا التناقض من تفاعل وتطور كما قلنا.

أما كيف يمكن أن نفسر أن يكون أحد المختلفين أصلاً وأولاً أي سابقاً على الآخر وفي الوقت نفسه هو في حاجة الى وجوده لكي يوجَد وتتحدد هويته ويكون أصلاً وأولاً ؟، فهذا نجيب عنه بما توصلنا إليه من استدلال عقلي برهاني في بحوث سبق نشرها(13) ونقول: إذا كان أحد النقيضين لا يوجد أو لا يعرف إلا بالآخر أي إلا بعلاقته بالآخر فهذا يعني أن العلاقة سابقة على وجوده لأنها علة وجوده إذ لا وجود له إلا بها، وأسبقية وجودها وهي (طرفين اثنين) على وجوده يعني أسبقيتها على وجود أحد طرفيها أي اسبقيتها بأحد طرفيها وهذا هو الطرف السابق والأول والأصل، أما الطرف الآخر الذي كانت سابقة عليه والذي كان عدماً والذي يوجد بها فهو الطرف المتأخر عن وجود الطرف الأول وهو بهذا يستحق وصف الطرف الثاني والتابع. كيف نبرر أسبقية أحد الطرفين في علاقة التناقض على نقيضه وقد قلنا إنه لا وجود له إلا بنقيضه ؟.. هذا نجيب عنه بأن وجود أحد النقيضين وعدم وجود الآخر هو تناقض أو اختلاف قبل وجود التناقض أو الاختلاف وجوداً عيانياً واقعياً. وبهذا يكون الأصل أصلاً وسابقاً والآخر تبعاً متأخراً وليس كما ترى التفكيكية.

.....................

د. بتول قاسم

.......................

الهوامش:

1. ينظر: الكتابة والاختلاف، جاك دريدا، ترجمة كاظم جهاد، دار توبقال للنشر الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى، ۱۹۸۸، ص 59-60.

2. ينظر: التفكيكية، دراسة نقدية، بيير، ف. زیما، تعريب: أسامة الحاج المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1417ه/ ۱۹۹6م، بیروت، لبنانص 6، 9.

3. ينظر: التفكيك: نقد المركزية الغربية (ملف شارك فيه جوناثان كلر، رامان سلدن، بول دي مان)، ترجمة سعيد الغانمي، مجلة آفاق عربية، ص 65-69، العدد الخامس، 1992، و: البنيوية وما بعدها، من ليفي شتراوس الى دريدا، تحرير: جون ستروك ترجمة: د. محمد عصفور، سلسلة عالم المعرفة (۲۰6)، يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1416ه/ ۱۹۹6م، ص 207 – 235.

4. ينظر:التفكيك، نقد المركزية الغربية...، ص 65-69 العدد الخامس، 1992. و(البنيوية و مابعدها)، ص 207-235. والكتابة والاختلاف، ص 30 – 31.

5. ينظر: الكتابة والاختلاف، ص 28-29، 47، 58.

6. ينظر: المصدر السابق، ص 30-31.

7. ينظر: التفكيكية، دراسة نقدية، ص 36، 37، 38، 39، 66، 130.

8. ينظر: التفكيكية، دراسة نقدية، ص 40ـ41، 55، ـ59. والكتابة والاختلاف ص 31، 35، 36،47 ـ49، 59، 60.

9. ينظر: الكتابة والاختلاف، ص ۵۲.

10. المصدر نفسه، ص 52.

11. ينظر: التفكيكية، دراسة نقدية، ص38 -39، 66، 105 -106، 130.

12. الكتابة والاختلاف، ص 61. والتفكيكية، دراسة نقدية ص 66.

13. ينظر: من الفينومينولوجيا الى النومينولوجيا، تجاوز هيجل، دار الفارابي، بيروت ـ لبنان، الطبعة الأولى، 2024، ص 151 - 155.

 

الهرمنوطيقا لغة:

ورد في لسان العرب،: إن التأويل لغة، من جذر "أول". و"الأول هو الرجوع،  والشيء، يؤول أولاً ومآلاً، رجع. وآل إليه الشيء رجعه... وأول الكلام تأويلاً، وتأوله دبره وقدره وفسره"(1) .

التأويل اصطلاحاً:

أما معنى الهرمنيوطيقا (التأويل) اصطلاحاً: فهو إعطاء معنى لحدث أو لقول أو لنص لا يبدو فيه المعنى واضحاً. و تأويل الرؤيا أي تفسيرها كقوله تعالى: (ربِّ قد أتيتني من الملك وعَلمتني من تأويل الأحاديث). (يوسف – 101). وجمع تأويل هي تأويلات.

وبالرغم من أن التأويل مع القدامى كان يرتبط بالضرورة مع النص المقدس، كالقرآن في الإسلام. أي أن التأويل يقتصر على الكتب المقدسة. أما معنى التأويل أو اشتغالاته كما يتبناه الحداثيون، فوظائفه مغايرة تماما. إذ أخذت "الهرمونطيقا" تشتغل تأويلاً على مساحات كبيرة من الدراسات الأدبيّة واللسانيات وباقي العلوم الإنسانيّة، حيث أصبحت بمثابة مبحث فلسفي لدراسة عمليات الفهم وتأويل النصوص وخصوصاً النصوص الكتابيّة التي تعنى بدراسة الإنسان ونشاطه الاجتماعي والنفسي والتاريخي. (2). أي إن المصطلح دخل في تأويل ميدان العلوم الاجتماعيّة والانسانيّة من أوسع الأبواب، ليتسع في تطبيقاته الحديثة، فيشمل كافة العلوم الإنسانيّة، كالتاريخ وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا وفلسفة الجمال والنقد الأدبي والفولكلور. كما تأسست في الفلسفات الغربيّة قاعدة تقر بأن المفسر حرّ في التأويل، وعليه فهي – أي الفلسفات الغربيّة - تنطلق من مقولتين أساسيتين أولهما "موت الكاتب"، وثانيهما "النص منظومة رموز". و على هذا الأساس تصبح العلاقة التأويليّة هنا ثنائية، يمثلها (قارئ ونصّ)، وليست ثلاثيّة: (نص وكاتب وقارئ). (3). ومعنى ذلك أن التأويليّة إقرار بقدرة التأويل على تحويل النص أو الانتقال به من الوحدة إلى الكثرة. إذ ينطلق القرّاء من النص نفسه، ولكنهم يبلغون أو يصلون بقراءاتهم إلى معان مختلفة، وكثيراً ما تكون متناقضة. وهذا التصور مناقض تماما للمناهج التفسيريّة التي سبق للمسلمين القدماء اعتمادها على سبيل المثال لا الحصر، والتي تفترض في المفسِّر شروطا، وفي التفسير قواعد.

إذاً وفقاً لمعطيات (الحداثة)، فالتأويل يعتبر إعادة قراءة النص المعطى، في الماضي أو الحاضر، قراءة توصلنا إلى جوهر النص بما يحمل من دلالات ورموز تعبر عن القيم الإنسانيّة وغفاً لفهم القارئ له. فتأويل النص الماضي يجب أن يفتح النص على الواقع المعيوش، كونه جاء في واقع تاريخي محدد، ومن قبل كاتب أو فنان أو أديب محدد، وأن الأهداف إن كانت محددة أو عامة، لا تخرج عن طبيعة الحياة المعيوشة آنذاك. دون أن نحرم دلالات النص الماضي نفسه من التعامل مع طبيعة حياتنا المعاصرة. فعلى سبيل المثال، إن النظرة إلى المرأة في الماضي كانت تعتبرها قاصرة، أما اليوم فقد تبين أنها غير ذلك بعد أن دخلت مجالات الحياة وعلومها. وكذلك النظرة إلى فن النحت في الماضي حيث اعتبر تمثيلاً لرموز دينيّة وثنيّة عند المسلمين، أما اليوم فهو يعبر عن أبعاد اجتماعيّة وفنيّة وجماليّة. وسورة (إقرأ) تدل في الماضي على المعجزة، بينما تدل اليوم على ضرورة المعرفة والتعلم واكتساب الحريّة... الخ.

هذا وأن درجة التأويل وعمقه، ترتبط بالمؤول ذاته ودرجة ثقافته ومصالحه ومدى ارتباطه بالنص المؤول والظروف المحيطة به.

أنواع التأويل:

هناك أنواع ومستويات عديدة للتأويل يمكننا الوقوف عند أهمها في هذه الدراسة وهي:

1- التأويل الغيبي أو اللاهوتي: وهذا التأويل يقوم بإقصاء التفكير العقلاني النقدي، ويشتغل على الايمان والوجدانيات. أي هو علم دراسة الإلهيات دراسة  أسطورية غيبية، وفي أعلى تجلياتها تأخذ بعداً منطقيّاً صوريّاً.

وينقسم علم اللاهوت ذاته إلى فروع كثيرة، كاللاهوت العقائدي، والأدبي، والتاريخي، والفلسفي، والطبيعي وغيرها. والتأويل اللاهوتي موضوع البحث، هو جزء تخصصي من العلم المتعلق في صوغ أو ترتيب الإيمان والمعتقدات الدينيّة بشكل منظم ومنطقي ومتماسك. ويتوجه بشكل أساس إلى النصوص المقدسة التأسيسية للدين. ويركز التأويل اللاهوتي على مواضيع شتى منها استكشاف الله وصفاته، والوحي، والخلق، والعناية الإلهيّة، والأنثروبولوجيا، وعلم الكائنات الروحية، وعلم الخلاص، والروحانيات، والتصوف، والأسرار المقدسة، وعلم الأخرويات، واللاهوت الأدبي، والآخرة، والفهم الفلسفي وعلاقته بالدين، وغير ذلك من قضايا تتعلق بموقف الدين من الحياة والإنسان . (4). وبتعبير آخر يقصد بالتأويل اللاهوتي، اعتبار كل قراءة التراث التفسيري والتأويلي الذي خلفه المسلمون وغيرهم من أتباع الديانات الأخرى، أو دونوه قديماً عن فهمهم لكتبهم المقدسة، أمراً مقدساً يرسخ الإيمان ويثبته في نفوس المؤمنين. وتتميز هذه القراءة بخاصيتين أساسيتين هما:

الأولى: اعتبار كل أنماط القراءات والتفسيرات والتأويلات القديمة للقرآن مثالاً، مسجونة داخل السياج الدوغمائي /الجمودي/ المغلق.

والثانية: ظلت كبريات التفاسير الكبرى تمارس دورها كنصوص تفسيريّة مستقيمة وصحيحة. فتفسير ضخم مثل "تفسير الطبري" أو "تفسير الجلالين" أو ابن كثير، على سبيل المثال لا الحصر، لم تدرس الدراسة العلميّة اللائقة بها، وظل التعامل معها بضرب من التقديس حتى تاريخه. وتستند هذه القراءة الإيمانيّة، إلى مبادئ أو مسلمات لاهوتيّة يصعب مناقشتها من قبل معظم المسلمين في وقتنا الحاضر، أو وضعها موضع التشكيك أو النقد أو المراجعة.

2- التأويل العلمي: هو يقوم على النظر العقلي في النص.

لقد أُنيطت مهام جديدة للهرمنيوطيقا في مجال التأويل، فلم تعد نقتصر على القراءة والتفسير للنص المقدس كما بينا في موقع سابق، وإنما أخذت هذه المهام تتجه نحو عمليّة الفهم والإدراك العقلي للنص المعطى أو موضوع التأويل، وهي محاولة للتخلص من السلطة الدينيّة في تفسير النص المقدس إلى السلطة العلميّة القائمة على العقل إن كان للنص المقدس أو غيره.

إن التفاسير والتأويلات السابقة المتعددة في التاريخ الإسلامي على سبيل المثال، قد أدت إلى فهم متعدد للنص المقدس موضوع بحثها، إن كان على مستوى المذهب الواحد أو المذاهب المتعددة، لذا أصبح من الضروري في تاريخنا الحديث والمعاصر إيجاد مبادئ أو قوانين للتفسير والتأويل، كي يكون التفسير والتأويل معقولين ومنطقين وصحيحين. ومن هنا لعبت الهرمنيوطيقا في وظيفتها الحداثويّة دوراً مهماً كوسيلة أساسيّة في إعادة فهم النصوص الدينيّة، وتوضيح ما فيها من غموض. حيث سارت في مسارين أساسيين هنا، ففي المسار الأول، خرجت الهرمنيوطيقا من إطارها الديني وقراءة وفهم النصوص الدينيّة لتهتم بالنصوص الدنيويّة أيضاً، مثل النصوص القانونيّة والتاريخيّة، والاجتماعية والفنيّة والأدبيّة وغيرها. أما التغيير في المسار الثاني، فتمثل بأن الهرمنيوطيقا أصبح لها مبادئ واستقلاليّة، وبذلك صارت فلسفة قائمة بذاتها. (5).

3- التأويل الأبستمولوجي: ويتعلق بنمط التفكير الحر في آليّة التأويل ووسائله، والمبادئ العامة للبحث ونتائجه، وكذلك في الدراسات النقديّة لمختلف المواضيع المسلط عليها التأويل. وهذا ما حدده الباحثون في مجال التأويل من المنطلق الأبستمولوجي. حيث حددوا منطلقاُ لهذا التأويل سموه  بـ "النموذج الموجه"، وهو قانون أو قاعدة تقيس عليها الجماعة العلميّة نتائج بحوثها أو تأويلها للنصوص عن طريق ما يسمى (العلم المطابق). ويعمل العلم الذي يهدف إلى تعميق المعرفة بالظواهر والنظريات التي يؤطرها هذا "النموذج الموجه" مسبقاً على تعزيزها وتأكيدها بغية إثبات صحة "النموذج الموجه" نفسه. هذا الأخير الذي يلهم العلماء، ويجعلهم ينظرون إلى العالم بواسطته. وهنا  لا توجد علاقة مباشرة بين العالِم والعالَم، بل هناك وسيط بينهما، يتمثل أساسا في قوانين وقواعد "النموذج الموجه". وبهذا المعنى يعتبر "رؤية للعالم" أو"تأويلاً" للظواهر الطبيعيّة والاجتماعيّة موضوع البحث. وإن الانتماء إلى "نماذج موجهة" مختلفة، يعني بالضرورة الانتماء إلى عوالم ومصالح مختلفة. والانتقال من "نموذج موجه" إلى آخر يوازيه الانتقال من عالم إلى عالم آخر مختلف. ويبقى دور الباحث هو الاشتغال تحت مظلة هذا  "النموذج الموجه" أو ذاك، والعمل على حل ألغازه التي يؤطرها، والانخراط فيه، قصد فهم أفضل لطبيعة الممارسة العلميّة. إذ على الرغم من وجود قواعد وأسس يلتزم بها في زمن معين جميع أصحاب التخصص العلمي، في الوقت الذي نستطيع القول فيه إن تلك القواعد والأسس، قد تحدد بذاتها كل الخصائص المشتركة في الممارسة العلميّة لأولئك الاختصاصيين.

إن القواعد والأسس التي تشتغل عليها "النماذج الموجهة"، يمكنها أن توجه البحث والباحث أيضاً حتى في حالة عدم وجود قواعد او أسس التأويل، وذلك عندما تُسَلِمْ الجماعة العلميّة أو تعتقد بصحة الحلول والمشاكلات الخاصة التي تم انجازها دون جدال. والحقيقة أن وجود "نموذج موجه" ما، لا يعني بالضرورة وجود مجموعة كاملة من القواعد المطلقة الصحة، فإن القسط الأكبر من نجاح رجل العلم يتوقف على (معرفة ضمنيّة)، أي على معرفة مكتسبة من خلال الممارسة العلميّة، التي لا يمكن التعبير عنها صراحة. (6).

المستوى الفلسفي في التأويل:

نجد هنا مهمة التأويل السابقة ما يبررها انطلاقاً من نظرة خاصة للوجود، أو للشعور أو العقل. ويدعونا التأويل الفلسفيّ هنا إلى الانسياق خلف النصّ – بعيدًا عن المنهج المسبق – حتّى يخبرنا هو عن نفسه – أي النص - بمعزل عن سوء فهم المؤول ومصالحه، فنتخلّص من الفهم المسبق ونستبدله بالإصغاء إلى صوت الآخر.

لقد (بين "هانس جورج جادامار" في كتاب المنهج والحقيقة، أن الأصل الثيولوجي، (7)، أي الديني، للتأويل، لا يبتعد كثيرًا عن التراث الفلسفي، إذ إن المقصود منه، هو فهم وتمثيل النصوص الفلسفيّة وإعادة بنائها وتفكيكها، والغرض هو بناء عنصر الفرادة للمؤول، لكن التأويل يتجاوز حدود النص إلى ما بعد المكتوب فيه، ربما يكون المنطوق، أو السلوك، أو منظومة القيم، أو السياسة، أو حتى العلم، فالمهم في ذلك، هو أن التأويل في جوهره فهم وتفكيك.). (8).

التأويل الأنتربولوجيي:

قلنا في موقع سابق بأن مصطلح التأويل (الهرمنوطيقا)، دخل ميدان العلوم الاجتماعيّة والانسانيّة من أوسع الأبواب مع الحداثة، ليتسع في تطبيقاته الحديثة، فيشمل كافة العلوم الإنسانيّة كالتاريخ وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا وفلسفة الجمال والنقد الأدبي والفولكلور..وغيرها. وقد أثمرت المواجهة بين التأويل والعلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة على الصعيد الأبستمولوجي في صدارة فكرة "الثقافة" تحت مظلة ما بعد الحداثة، التي تشهد حدوث تحولات نوعيّة في طبيعة العلاقات الإنسانيّة وتصورات المجتمع والفرد. وقد ظهرت الأنثروبولوجيا التأويليّة، في هذا السياق، من خلال أبرز ممثليها "كليفورد غيرتز" الذي يدين بالكثير للظاهراتية، فقد ركز التأويل الظاهراتي على البعد الجماعي للثقافة، وعلى «عالم المعاني الذي يشترك فيه الفرد مع الآخرين من خلال إنتاج الرمز واللغة والإشارات، ومن ثمة انصب اهتمامه على اللغة، على اعتبار أن النصوص هي ما يقدم البراهين الموضوعيّة عند التحليل. ويطرح غيرتز في كتابه "تأويل الثقافات" فهما خاصا للثقافة التي يجعلها موضوع تأويل، موضحا أن هدف علم الأنثروبولوجيا هو توسيع فضاء الخطاب الإنساني بما يتناسب والمفهوم السيميائي، أي الدلالي. (9).

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة.

..............................

الهوامش:

1- قاموس لسان العرب.

2- (موقع الحوار المتمدن – الهرمنوطيقا – فلسفة التاويل – عبد الله بير).

3- (موقع أكتب - تأويل النّص القرآني: طه عبد الرحمان ناقدا لمحمد أركون - توفيق قاسمي –- https://oktob.io/posts/16281

4- الوكيبيديا – بتصرف.

5- (موقع الحوار المتمدن -الهيرمنوطيقا – فلسفة التأويل – عبد الله بير – مرجع سابق. بتصرف.

6- (التأويل الأبستمولوجي اللاوضعاني – بحث عام قسم الفلسفة والعلوم الإنسانية – حسن الحريري – موقع مؤمنون بلا حدود.). بتصرف.

7- (أي الدراسة المنهجية للطبيعة الإلهية، وعلى نطاقٍ أوسع، للعقيدة الدينية.).

8- فلسفة التاويل – موقع ساسة بوست – سهيل العرفاوي.

9- (مجلة التأويل و تحليل الخطاب - المنعطف التأويلي" في العلوم الإنسانية؛ الأنثروبولوجيا الثقافية نموذجا – الكاتب.

دريس  سامية -  بتصرف موقع - https://www.asjp.cerist.dz/en/article/203601

 

إنَّ جماليات البناء الشكلي في الصورة الفنية هي من الضروريات التي تعطي للعمل الفني في مختلف الفنون وجودها الفعلي كون العمل الفني في ذاتياته يرتكز على المضمون بوصفه معطى ميتافيزيقي والصورة الفنية وبنائها الشكلي قيمتها الفيزيقية التي تحدد اشتغالها البصري على مستوى تأكيد المضمون وما يرمي إليه في تكوين المعنى في العمل ذاته ليصل الى المتفرج المتبني لفعل الإيجاد البصري من حيث البنى المعرفية المتشكلة في الأفاق الثلاثة ابتداءَ من أفق العمل الفني وصولاً الى أفق التلقي وما بينهما من أفق تواصلي مبني على الأفقين السابقين وداخل بينهما.

ويتمظهر السؤال المتبنى في هذا المجال المعرفي ذات البعد البصري في كون المبتغى من هذه الجماليات هل هي ذات مغزى معلن غايته دفع التفكير في ذات الموضوع الجمالي؟ أم أن الغاية المبتغى من هذا الفعل الجمالي في البناء الشكل ه إيجاد مساحة معرفية أخرى تجعل المتفرج قادراً على استنباط المرمى المعرفي ذات الإيديولوجية المعينة في التمظهر الجمالي المبتغى من الفعل الفني في البناء الشكلي للمنطلق الجمالي ذاته؟.

إنَّ الفنون المتنوعة ينطلق منها البناء الشكلي في الصورة الفنية والإطار الشكلي فيها من عناصر، ويذكر ها الدكتور (زكريا ابراهيم)، إذ يرى الآتي: " ذهب بعض علماء الجمال الى أن ثمة عناصر ثلاثة لابد أن تدخل في تكوين العمل الفني. ألا وهي على التعاقب: المادة، الموضوع، التعبير"(1)، وهذه العناصر الثلاثة التي تشكل العمل الفني بما فيها العمل المسرحي، تدخل أثنان منهما في البناء الشكلي للصورة الفنية وهما المادة والتعبير، والثالث يدخل في البناء الداخلي لما يريده القائم على العمل في تشكيل معنى صورة العمل المسرحي، سواء أكان نصاً،أم عرضاً مسرحياً.

إنَّ الجمال في الفن المسرحي ينطلق من السؤال عن الهدف الأسمى للعمل المسرحي، وهذا السؤال الجمالي الذي تمظهر في صور متعددة على مستوى مخاطبة الجمهور بمستويات متعددة من أجل إيجاد مساحة معرفية إبداعية يتخللها الفعلي الجمالي على مستوى البناء الشكلي والفني في العمل ذاته، لذا فإن هذه المسيرة الجمالية في الفن المسرحي تعد في جوهرها بحثاً جمالياً من أجل إيجاد إبداع مسرحي يتمثل في جميع أشكاله " في إعادة ابتكار مفهوم الجمهور بحيث يكلف هذا الأخير عن أن يكون متلقياً سكونياً ليتحول الى مشارك في العمل الفني بوجوده، وبمحسوسيته ثم باندماجه في دينامية هذا العمل أو ذاك " (2). إنَّ ما يريده الشخص المعني من عمله الفني المسرحي هو بناء معنى داخلي للعمل يتمحور في إطار شكلي فني جمالي غايته جمهور متفاعل، وليس غايته العمل ذاته فقط، فإن الجماليات في البناء الشكلي إذا ما ارتبطت في العمل الفني ذاته دون غايات أخرى سيفقد العمل الفني مشروعيته الجمالية التي يسعى اليها المتبني للرؤية الجمالية في المسرح.

إنَّ ما يهدف اليه الفاعل المسرحي في توفير رؤياه الجمالية هو خلق منظومة تعبيرية ذات واقع دلالي في العمل الفني المسرحي، كون هذا العمل الفني المسرحي سواء في النص وهو القاعدة الفعلية لإنتاج المنعى الجمالي في قاعدته الأولى، أو في البناء الأنطولوجي ذات الجوانب البصرية التي يستهدفها القائم على البناء المسرحي في العرض المسرحي وعناصره الفنية ذات البعد الجمالية فيه، ومن هذا المعنى الجمالي تولد الصورة في أوسع معناها الفني الجمالي، إذ تعد هي " منظومة تعبيرية ذات رصيد دلالي قيمي، لأنها تحمل معنى وتمارس وجوداً دائماً من طرف ثاني، وهذا ما يجعلها واقعاً قابل للتثبات والاستعادة، طالما بقيت مرجعاً مهما لها تاريخها ودورها الحتمي " (3)، ومن ثم فإن الاشتغال على تكوين العمل البصري لابد من الأخذ فيه بجمال الصورة الفنية على فق البناء الأنطولوجي للشكل الفني في العمل ذاته في غاية يكون فيها للجمهور المشاهد للعمل الفني إنتاج المعنى الجمالي المكتسب من هذا البناء الشكلي الجمالي.

إنَّ ما يعطي للصورة الفنية بنائها الشكلي هي العناصر الداخلة في تكوينها، من حيث أن هذه العناصر هي التي يمكن للفنان في المجالات الفنية المختلفة بصورة عامة والفن المسرحي بصورة خاصة التركيز عليها في الوصول الى ما هو مأمول من معنى يصل الى المتفرج، ومثلما ذكر الدكتور (زكريا إبراهيم) فإن أول هذه العناصر هو:

1. المادة: والمادة في المجال الفني المسرحي متنوعة، وتبدأ من النص الذي يقع في مجال الكتابة ذات البعد الأنطولوجي من خلال ما يكتب ويقدم عن الأفكار المجردة في ذهنية الكاتب الى ما يكتب على الصفحات، ويدون من خلال الحروف والكلمات والجمل والبناء النصي في هذا المجال، أما العناصر الأنطولوجية الأخرى المكونة للعمل الفني المسرحي فهي تأتي على شكل مفردات العرض من (ممثلين،وأزياء، وإكسسوارات، وديكورات، واضاءة، وخشبة المسرحي وغيرها) التي يجسد من خلالها البناء الجمالي وأنطولوجيته في إطاره الشكلي والفني المقدم في العرض المسرحي، ومن هنا فإن المادة التي يحولها المبدع الى صورة مرئية هي في الأصل مادة خام لكن المبدع هو الذي يصيغها في مجالها الأنطولوجي الشكلي الجمالي، أي أن " المادة الخام لا تكتسب صبغة فنية فتصبح مادة استطيقية، إلا بعد أن تكون يد الفنان قد امتدت اليها فخلقت منها (محسوسا جماليا)" (4)يشكل البعد الجمالي في العمل الفني.

2. الموضوع: إنَّ المسرح في مجاله الفني والثقافي والاجتماعي يعد المتبنى المهم والمباشر في تقديم المواضيع المسرحية الداخلة في خدمة المجتمعات الإنسانية منذ اللحظات الأولى التي ولد فيها المسرح، وكل ما قدم في المسرح ابتداءً من الإغريق الى الوقت الحاضر كانت الموضوعات المقدمة غايتها جذب المتفرج اليها على الرغم من أختلاف ما يهدف اليه المبدع من خلال بناءه الشكلي في موضوعاته الجمالية المقدمة في المسرح.

3. التعبير: إنَّ ما يميز المسرح هو مجاله التعبير الذي يقدمه المبدع من خلال تشفير مضمونه الفكري في إطاره الشكل المقدم من خلال عناصر الصورة الفنية المقدمة في المسرح، من حيث أن البناء الشكلي " الذي يتميز به غرض مجسد في صورة ما أو عبر رمز لا وجود ظاهراتياً له في العالم الحقيقي. فالموضوع في هذا المضمار يتعلق بإدراك الشكل على أنه وحدة، وهيئة تشير الى وجود كل يهيكل أقسامها بشكل منطقي " (5) داخل في تكوين التعبير الفني عن المضمون الفكري في إطار البناء الأنطولوجي للبناء الشكلي وجماليته المتمركز في فضاء البث المسرحي، وصولاً إلى فضاء (التلقي / الجمهور) في المسرح.

***

أ. د. محمد كريم الساعدي

....................

الهوامش

1. د. زكريا إبراهيم: مشكلة الفن، القاهرة: مكتبة مصر، ب، ت ـ ص 27.

2. فريد الزاهي من الصورة الى البصري، الدار البيضاء: المركز الثقافي للكتاب، 2018، ص90.

3. د. عقيل مهدي: السؤال الجمالي، بغداد: سلسلة عشتار الثقافية، 2008، ص270.

4. د. زكريا إبراهيم: المصدر السابق، ص 27.

5. جاك أومون: الصورة، ترجمة: ريتا الخوري، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2013، ص 69.

 

"هل يتسارع التاريخ؟ " هذا سؤال لا يسعى كتاب "تسارع التاريخ" لجان كريستوف بوتون المولوج سنة 1960 إلى حله، بل إلى كشفه. بهذا المفهوم، يستهدف أستاذ الفلسفة الفرنسي فكرة شائعة جدًا في الفهم المعاصر للتاريخية: الأخيرة، من خلال دخولها الحداثة، كانت ستعدل بشكل جذري علاقتها بالسرعة. وعلى المستوى الفني والجغرافي السياسي والاقتصادي والمناخي أيضاً، لكان مجرى الأحداث قد أصبح قاطرة مجنونة تنطلق بلا سائق. إن الطبيعة الشمولية لهذه الظاهرة ستسمح لنا بإدراك سمة تأسيسية للحداثة: لن يقتصر الأمر على زيادة وتيرة التغييرات باستمرار وحتى زيادة معدل هذه الزيادة، ولكنها ستتبنى إيقاعًا من شأنه أن يمنعها من تشكيل تاريخي. شاء. من خلال خلافة بعضهم البعض في لحظة فورية، سيكونون محصورين في صيرورة نقية، إذا جاز التعبير، بلا ماضي أو مستقبل، بلا ذاكرة أو غاية، محاطين بشرارة الحاضر الأبدي. تم تنظيرها أو تعميمها من قبل عقول متباعدة مثل دانييل هاليفي، أو هارموت روزا، أو بيير نورا، أو بول فيريليو أو بيتر كونراد، وقد لاقت هذه الفكرة نجاحًا كبيرًا، وكانت في حد ذاتها محاطة ببعض الارتباك. حتى أن كريستوف بوتون يقترح أن هناك صلة بين الوجود الكلي لمفهوم التسارع وغموضه: «إن ملاحظة تسارع التاريخ موجودة في الواقع بين المؤرخين وكتاب المقالات والفلاسفة والسياسيين والصناعيين والكتاب والعلماء، وما إلى ذلك. الذين يستثمرون هذا المفهوم من وجهات نظر مختلفة، بمعاني واستراتيجيات متميزة. " يمكن للمرء أن يعتقد تقريبًا أن هذا المفهوم ينطوي على «فهم مسبق» كامل للتاريخية" وفقا لمارتن هيدجر. وبعبارة أخرى، فهو أمر بديهي. إن الحديث عن التسارع لن يأتي من التفسير، بل من الملاحظة: ولن يتم إصدار أي حكم قيمي وراء هذا التحليل. ومع ذلك، يوضح كريستوف بوتون، من مقدمة عمله، أن هذه الفكرة تثير عددًا معينًا من المشكلات. عندما نتحدث عن تسارع التاريخ، أي تاريخ نشير إليه؟ هل هو تاريخ أم قصة، تاريخ أم قصة؟ هل نشير، بمعنى آخر، إلى التاريخ باعتباره سلسلة زمنية للأحداث، أي التاريخ المعاش، أو إلى التاريخ باعتباره معالجة للمعلومات، أو كقصة، أو حتى كنظام - باختصار، التاريخ يُدرَس ويُحكى ويُحفظ؟ ولا يمكن النظر في هذا البديل دون الرجوع إلى منبع المشكلة، إلى التناقض الذي تنطوي عليه عبارة "تسارع التاريخ". في الفيزياء، يشير التسارع إلى زيادة السرعة بمرور الوقت (إقلاع طائرة، صيد حيوان، سقوط حر لجسم)؛ فكيف يمكن للتاريخ نفسه، وهو الوجه العالمي للزمن، أن يتسارع؟ ألا نخلط في التعبير عن أنفسنا بهذه الطريقة بين المعيار والإطار المرجعي؟ ألسنا بهذه الطريقة نرتكب خطأ منطقيا؟ هل يمكننا تطبيق فئة مادية على التاريخ، وبالتالي على التخصصات الإنسانية، مثل الاقتصاد والتكنولوجيا والجغرافيا السياسية؟ وأخيرا، سنلاحظ، وهذا هو الأمر الأساسي، ظهور "معيارية متأصلة في هذه التجربة": تجربة التسارع تفترض دائما تقييم الحداثة، مهما كانت القيم (التحرر/التراجع) التي تدعو إليها هذه الغاية. وبغض النظر عن البنية السردية التي يُقحم فيها هذا الشعور، فإنه بالضرورة يأخذ بعدا غائيا، يسمح للبعض بتأكيد أن التسارع يؤدي إلى نهاية التاريخ، والبعض الآخر بإدراك حافز التحرر، والبعض الآخر لتحديد المرحلة النهائية. مركزية الإنسان، وما إلى ذلك. الغرض من هذا العمل، كما كتب كريستوف بوتون، "ليس إضافة حجر آخر إلى هذا المبنى. بل إنها مسألة تفكيك لأطروحة تسارع التاريخ." التفكيك ينطوي على التساؤل عن شروط هذا المفهوم: شروط تطبيقه (تعدد استخداماته، المجالات المختلفة التي يشملها)، وشروط ظهوره (نسبه)، وآفاقه الفلسفية (مفاهيم التاريخ أو الحداثة التي يحملها). لأن مفهوم التسارع هو في حد ذاته موضوع تاريخي معقد، يتمحور حول ثلاثة محاور رئيسية، ينشرها المؤلف في فصله الأول. على المستوى السياسي، فإن فكرة انفصال التاريخ عن بطئه التأسيسي تجد أساسها على وجه الخصوص في مقدمة كتاب ظواهر الروح، حيث يرى هيجل، الذي يصف الروح بأنها منخرطة في "حركة في تقدم دائم"، في عصره لحظة التغيير، وغمرة التمثيل، والتحول الجذري في إيقاع "التطور" المكون للتاريخية. وعلى المستوى التكنولوجي، يعود تاريخ هذه الفكرة في المقام الأول إلى الثورة الصناعية، وينبغي فهمها باعتبارها الخيط المشترك للتطور الثلاثي: تسارع وسائل النقل، ومعدلات الإنتاج، وتواتر الابتكارات. عند ماركس، يتم النظر في وجود علاقة بين المؤشرات الفنية والسياسية: في بيان عام 1848، على سبيل المثال، تم تقديم التحول الدائم الذي تنغمس فيه البرجوازية كشرط للثورة، وإن كان بشكل غير مباشر. وبالتالي فإن هذين القسمين يضعان ظهور التسارع في القرن التاسع عشر، كثمرة التنوير، والثورة، وصعود الرأسمالية الصناعية. لكن كريستوف بوتون يشير إلى أن هذه الفكرة تبلور موضوعًا أقدم بكثير: وهو علم الأمور الأخيرة. من العصور الوسطى، نجد، في أعقاب الفصل 20 من رؤيا يوحنا، رؤى عديدة لتاريخ يتسارع مع فجر يوم القيامة. مثل هذا النص من القرن الرابع، الذي استشهد به كوسيلك ثم كريستوف بوتون: “وسوف يتم اختزال السنوات، إذا جاز التعبير، إلى أشهر، والشهور إلى أسابيع، والأسابيع إلى أيام، والأيام إلى ساعات." وبالتالي فإن التسارع لا يشكل خاصية متأصلة في الحداثة بقدر ما يشكل إسقاط رؤية نهاية العالم، مسيحية أو علمانية، لهذه الحداثة نفسها. في ضوء هذا التناقض يستعرض كريستوف بوتون النظريات الرئيسية للتسارع، من القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا، من هاينه إلى هارتموت روزا مرورا بنيتشه وهنري آدامز ودانييل هاليفي وبيير نورا. وبعيدًا عن تحديد ثلاثة مخططات تفاعلية (الالتصاق، والتردد، والنقد)، فإن التحدي الذي يواجه هذا التحليل يكمن في إطلاق معيارية جوهرية في وصف التسارع. هاينه على سبيل المثال، في تعليقه على افتتاح خط السكة الحديد بين باريس وروان أو أورليان، يحيي التقدم التكنولوجي الذي لا يمكن إنكاره، والاضطراب "في طرق رؤيتنا وتفكيرنا"، والشعور "برؤية الجبال والغابات في جميع البلدان" مسيرة إلى باريس." لكن هذه الدوخة يرافقها، تحت قلمه، قلق شديد: فجأة “اهتزت الأفكار الأولية للزمان والمكان". ماذا سيحدث لهذا التحول؟ من المؤكد أن اكتشاف أفراح، لكنها مشوبة بمعاناة جديدة. نجد نفس هذه الثنائية عند هنري آدامز الذي يفترض "قانون التسارع" أن هذه الظاهرة اكتسبت "تأثيرًا أساسيًا" منذ القرن التاسع عشر، مما أدى إلى المزيد من الكوارث التقنية (حوادث السيارات، ومجازر السكك الحديدية، ونيران الأسلحة) - بينما مما يعطي مصداقية للفرضية القائلة بأن الإنسانية، مثل المذنب الذي اصطدم بالشمس في عام 1843، ستتمكن من تجنب المخاطر التي يجلبها بصعوبة. ولكن كيف يمكننا تجميع كل هذه المفاهيم المتناثرة؟

إن وجهة نظر نيتشه، التي تركز على مسألة الأوتيوم المفقود، لا تشترك في أي شيء تقريبًا مع وجهة نظر هنري آدامز، المنشغلة بوجهة نظر الكارثة. ومن هذا المنطلق، يستحضر كريستوف بوتون فكرة "ديكتاتورية الحاضر": "إن تسارع التاريخ يؤدي إلى ضياع الماضي وانحلال المستقبل، وبالتالي تمكين الحاضر، الذي يصبح فئة التاريخ السائد للحداثة"، ستكون هذه هي الفكرة الأساسية لموضوعات التسارع. يفترض هذا المنظور أن كل عصر يتمحور حول “نظام التاريخانية”، بحسب المفهوم الذي طرحه فرانسوا هارتوغ في كتابه الذي يحمل اسمه. من المرجح أن يتم تكوين تجارب الزمن في مجتمع معين، وتوجيهها، وإنشاءها وفقًا لمعايير معينة. ومنذ سقوط سور برلين ونهاية الحرب الباردة، كانت الحياة الغربية محكومة بالحضور. في تعليقه على أطروحات هارتوج، يناقش كريستوف بوتون أسسها: فهو يتناول بشكل خاص اعتراض لورنز، مشيرًا إلى أن الحضور المعاصر لن يكون علامة على مطلقية الحاضر أو اختفاء الماضي، بل على العكس من الهوس. ماض طيفي، ماض لا يمكن أن يمر - وفي المقابل، مستقبل مثير للقلق، مليء بالمجهول، مشبع بخطر لا يضاهى بالتهديدات التاريخية، وهو تدمير النظم البيئية. تسمح هاتان الملاحظتان لكريستوف بوتون بالتنحي جانبًا: فترك الانتقادات الرئيسية لهارتوغ (نموذج الحضور، المتماسك من حيث المبدأ، يحتاج إلى التحقق تجريبيًا)، وهو يعترض على طابعه الشمولي. “لماذا لا نعتبر أن الحداثة تؤدي إلى عدة تجارب زمنية، إلى عدة أنظمة تاريخية تتعارض أحيانًا مع بعضها البعض؟” وإذا كان كل عصر، وكل مجتمع، بعيدًا عن أن يكون محكومًا ببنية واحدة ، كان في الأساس متعدد الأزمنة؟ ماذا لو قدموا تجارب زمنية مختلفة، والعديد من الديناميكيات السياسية التاريخية، والعديد من النشوات المحتملة؟

يقول كريستوف بوتون: "إذا قاومنا إغراء تلخيص طيف معانيها في مفهوم عالمي واحد، وتقليص تعدد أوقاتها إلى نظام مهيمن واحد، من المفترض أن يوفر المفتاح، فإننا نكتشف بالتالي حداثة تعددية، محتملة". تناضلية، منظمة وفقا لتعدد أنظمة الزمانية والتاريخية المتناغمة أو المتوترة مع بعضها البعض".  وبهذا الحدس، يحدد ثلاثة أنظمة للتاريخية، والتي تعمل في عصرنا، تتنافس مع الحضور. في الفصل الرابع، يبين أن "النموذج القديم لتاريخ السيرة الذاتية" لم "يذوب" بسبب الحداثة، بل تحول: وُلدت "الماضوية الجديدة"، التي تتميز بإعادة توزيع التراث النظري والعملي. العلاقات بالتاريخ (انقسام واضح بين تاريخ الباحثين وتاريخ المعلمين وتاريخ النقاش العام، بالإضافة إلى الحاجة إلى "الاهتمام بـالتاريخ" الذي يعمل بمجرد استحضاره. لما يقدمه لنا من "دروس"، خاصة من خلال واجب الذاكرة. الوقوف ضد الأطروحات حول "نهاية اليوتوبيا" بعد سقوط الجدار والوقوف إلى جانب هربرت ماركوز الذي من جانبه عرّف اليوتوبيا، ليس باعتبارها رؤية لمجتمع مجرد، ولكن باعتبارها المعارضة الملموسة والنسبية للحداثة. النظام الحالي للأشياء، يسعى الفصل الخامس إلى إظهار أن المدينة الفاضلة قد خضعت لتحول مزدوج. من خلال إعادة النظر في الحجج الكلاسيكية الثلاثة لنقد اليوتوبيا (هذه ستكون وهمية، وطفولية، وضارة)، يؤكد كريستوف بوتون أن الأشكال المعاصرة من اليوتوبيا تولد من الانقلاب: على عكس ماركس أو إنجلز اللذين انتقدا، من منظور الاشتراكية العلمية، إذا فشلت الاشتراكية الطوباوية في تحقيق حتمية الثورة، فإن اليوتوبيا الحالية ستستند إلى طموح إصلاحي. إن القبول بشرط اللاعنف، وبالتالي "الالتزام الديمقراطي"، وتخصيص ضرورة عدم تعليق المداولات باسم الأهداف المراد تحقيقها، بل إبقائها حاضرة وحية في كل مرحلة من مراحل النضال، سيكونان كذلك. تقدمية في الأساس: ولدت من "تجريب" دائم، تتكشف في "تشاور" متواصل، وسوف تتقدم بطريقة تدريجية بشكل أساسي. لكن الاهتمام بالمستقبل، في الأزمنة المعاصرة، ينشأ أيضاً من تجربة جديدة: تمزق مبدأ التاريخ البشري نفسه، أو على وجه التحديد تشابكه المتبادل مع التاريخ الطبيعي. يشير المؤلف إلى أن "الحقيقة الجديدة التي أدى اكتشافها إلى ظهور مفهوم الأنثروبوسين، ليست أن الطبيعة لها تاريخ، متشابك جزئيًا مع تاريخ البشر، بل أن تصرفات البشر تؤثر على عمليات الظواهر الطبيعية الأساسية مثل المناخ". والتي كانت تعتبر في السابق قادرة على تحديد تاريخ البشرية، دون أن يحددها. لقد أصبح الفعل غير المتبادل متبادلاً. يقترح كريستوف بوتون جينالوجيا لمفهوم الأنثروبوسين، ويدرس نقاط ضعفه، ويعتبره، مثل غيره، "درسا في التواضع"، يدعو، إن لم يكن إلى إعادة تطبيع الإنسان، إلى التغيير على الأقل. من منظور: شرط إمكانية العمليات التاريخية هو وجود طبيعة، كوكب، أنظمة بيئية تسمح بالحياة البشرية وتأذن بها. لكن الضربة القاضية لتحليله تتمثل في إظهار أن الأنثروبوسين، بعيدًا عن كونه قابلاً للاختزال في تأثير توجيهي واحد (دوار المستقبل المروع المحتمل)، بل على العكس من ذلك، يقع في قلب تعدد الزمن المعاصر. ومن الممكن أن ينظر إليه منظور تقني بحت على أنه مجرد "تحدي" آخر، أو حتى "مغامرة جديدة". بعد التغلب على عدد من المخاطر الطبيعية أو البيولوجية، سيتعين على العبقرية البشرية أن تكافح، من خلال الابتكار والإبداع، المخاطر التي جلبتها هذه الأخيرة. وهذا هو، إلى حد ما، مبدأ الهندسة الجيولوجية، والحداثة البيئية، والتسارع. لكن الاتجاه الأساسي الآخر هو علم الانهيار، والذي، بحجة أن انهيار المناخ ليس وشيكًا فحسب، بل إنه مكون لعصرنا، يعيد إحياء بعض العناصر الأخروية. ويؤكد في ختام عمله أنه "لأنه في طور التشكل، فإن التجربة التاريخية الخاصة بالأنثروبوسين بعيدة كل البعد عن أن تكون متجانسة؛ فهي ممزقة بين اتجاهات متعارضة يمكن تصنيفها وفقا لها". إلى الاتجاهات الثلاثة لتسارع التاريخ".  باسم البدائل التي يطرحها، وموقفه من نظرية فرانسوا هارتوج، يؤكد كريستوف بوتون أن الأنثروبوسين يمثل نظامًا جديدًا للتاريخية: "أود أن أطور الفرضية القائلة بأن الأنثروبوسين هو بالفعل اسم نظام جديد للتاريخية. وبعبارة أخرى، فإن "التسارع الكبير" لم يكتف بإحياء الأنظمة التاريخية القديمة، بل صاغ نظاماً من الصفر. تكمن أهمية هذا النهج في وضع الأنثروبوسين في زمن جمعي وطبقي، أغنى من الزمن المتجانس والخطي المفترض في التسلسل الزمني الذي حددته علوم الأرض." إن ترسيخ هذا النظام في "زمن تعددي وطبقي" هو بالضبط ما يميزه عن الماضي أو الحاضر أو المستقبل: فالأنثروبوسين لا يخضع لاتجاه شمولي. إنه يستدعي في الوقت نفسه الوعي بالحاضر الذي يعتبر ملحًا، و"المسؤولية عن المستقبل على المدى القصير والطويل"، وإعادة التفكير في المكانية ومقاربة جديدة للتداخل بين الطبيعة وماضي المجتمعات. لكن ماذا بقي، في نهاية هذا التفكيك، من رؤية الحداثة كمسرح لتسريع التاريخ؟ سنلاحظ أولاً أن هذا المفهوم يتوافق مع بعض الظواهر الموضوعية التي لا جدال فيها والتي يمكن التحقق منها تجريبيًا، ولكنها تمس مجالات غير متجانسة جدًا بحيث لا يمكنها تقديم تفسير مبسط. لدرجة أن الاستدعاء الساذج لهذا الموضوع قد ينسى أنه يقع على مفترق طرق بين العديد من فلسفات التاريخ التعددية جذريًا، والتي غالبًا ما تكون غير متوافقة، والتي تكافح على الأقل من أجل التقاطع. هذا الخطاب، عندما يكون "متجانسًا"، يميل أيضًا إلى إخفاء معياريته الكامنة: فهو يتضمن فقط، بالإضافة إلى رؤية العالم، نظامًا من القيم. ولكن ما يؤكد عليه كريستوف بوتون بشكل خاص هو رفضه فرض نموذج العولمة على التاريخ، أياً كان محتواه. لا شك أن الأصالة العميقة لعمله تنبع من هذه النظرية حول التاريخ التعددي بشكل أساسي، الخاضع لأنظمة متميزة، والمقدم لباقة من الغايات والوسائل المتنوعة، الممزقة دائمًا في علاقاتها مع الزمن. وخلف طبقاتها لا توجد "تنمية" لا هوادة فيها. لا جدلية أحادية. لكن مكالمات متعددة. ولكن هناك العديد من الديناميكيات، ومسارات متعارضة. وما يميز تاريخ القاطرة أن محركاتها، المختلف بعضها عن بعض، وربما حتى في حالة صراع، تدفعها في كل الاتجاهات. نحو كل الآفاق.

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

...............................

المصدر:

Christophe Bouton, L’Accélération de l’histoire, Paris, Éditions du Seuil, « L’ordre philosophique », mai 2022.

مقدمة: في عمل طموح وعلمي وسهل المنال، يقارن فانسون سيتو فلسفات ثماني حضارات مختلفة لتحديد الثوابت الدورية، بين المرحلة الدينية والعصر العلمي. إن مسألة أصول الفكر الفلسفي هي إحدى المشكلات التي ميزت تاريخ الفلسفة. إن الإجابة الأكثر شهرة وشائعة لهذه المشكلة هي أيضًا السبب الرئيسي لواحدة من أصعب التحيزات التي يصعب القضاء عليها: لقد ولدت الفلسفة في اليونان وأصولها هيلينية بحتة. ومع ذلك، من هيغل إلى هوسرل، ليس هناك نقص في الفلاسفة اللامعين الذين تبنوا هذا النموذج. منذ النصف الثاني من القرن العشرين، تمت إعادة ضبط النقاش نحو رؤية أقل مركزية على أوروبا، ويتجه أحيانًا نحو الطرف المعاكس، حيث يتم البحث عن التقارب والتشابه الخيالي أحيانًا بين الفلسفات التي تنتمي إلى عصور وعوالم مختلفة. أحد أسباب النموذج المتمركز على الهيلينية حول أصول الفلسفة يتعلق بالمعايير التي تحدد الفكر على أنه فلسفي. لقد ورثناهم منذ فترة طويلة من اليونانيين القدماء: منذ البداية، اهتم المفكرون اليونانيون بالعالم الحقيقي وسعوا إلى فهمه وشرحه من خلال الأدوات التي يوفرها العقل. وهكذا، كان يُنظر إلى التفكير الفلسفي دائمًا على أنه نوع من التفكير المفاهيمي، يعتمد على الاستدلال والمنطق؛ النصوص والأدب من نفس النوع. ومع ذلك، هناك أشكال أخرى من التفكير والكتابة، مما يعني إعادة تعريف ما يمكن اعتباره فكرًا فلسفيًا. من منظور أوسع، مثل ذلك الذي يقدمه عمل فنسنت سيتو، فإن إعادة التعريف هذه ممكنة. إذا كان العنوان قد يوحي بتسلسل زمني ممتد إلى حد ما لتاريخ الفلسفة على نطاق كوكبي، فإن العنوان الفرعي يحدد أيضًا الهدف الذي يحدده المؤلف لنفسه: يتم تقديم تاريخ الفلسفة هناك كتاريخ مقارن لدورات الفكر الفكري. الحياة في ثماني حضارات. يمثل هذا الكتاب خاتمة مسار بحثي طموح يطبق فيه سيتو منهجًا تم تنظيره بالفعل في مقالات سابقة (انظر هذه القائمة على موقع الفلسفة)، يهدف من خلاله إلى فهم العنصر العالمي لتاريخ الفلسفة من خلال إظهار ما جلبت الحضارة إلى الطاولة. والنتيجة هي رواية حضارية وفكرية ودورية ومقارنة في آن واحد.

من اليونان إلى اليابان مروراً بالصين

لاختيار الحضارات الثماني المعروضة في العمل، فإن المعايير التي احتفظ بها سيتو هي الاستمرارية والكمية. " لقد أنتجت ثقافات كثيرة الفلسفة، لكن القليل منها هو الذي فعل ذلك بطريقة هائلة لفترة طويلة وبالكتابة، حتى يمكن كتابة تاريخها". كما أن وصول النصوص إلى عصرنا هو شرط ضروري، مما يقلل بشكل كبير من عدد الحضارات التي يمكن توثيق تطور فكرها الفلسفي. وبالتالي لم يبق إلا ثماني مناطق ثقافية هي: اليونان، روما، الإسلام، أوروبا، روسيا، الهند، الصين واليابان، مقدمة بهذا الترتيب غير التسلسلي (الحضارة والفلسفة الصينية والهندية أقدم من الحضارة والفلسفة اليونانية). وتبدو هذه المعايير مقيدة إلى حد ما وتستبعد حضارات قارات نصف الكرة الجنوبي، وخاصة الحضارات الأفريقية وحضارات أمريكا اللاتينية. وهذا ليس خطأ بالضرورة، خاصة وأن سيتو يبرر اختياراته في المقدمة، لكنه يبقى موضوعا للنقاش، لسببين على الأقل: أولا، بحكم أنه في هذه الأجزاء من العالم هناك تقاليد فلسفية منخرطة على المشاكل التاريخية والاجتماعية والجغرافية الإقليمية ذات الأهمية لدرجة أن اليونسكو مهتمة بالتراث الفكري في هذه المناطق الجنوبية من العالم؛ ثانيا، توجد أعمال وأعمال حول تاريخ الفلسفة الإقليمية في الفكر الفلسفي لأمريكا اللاتينية وأفريقيا. وإذا كانت المعايير المستخدمة تبرر اختيارات سيتو من الناحية التاريخية، فإن غياب جزء من الحضارات في تاريخ الفلسفة هذا قد يمثل موضوعا للنقاش.

التاريخ الحضاري والفكر الفلسفي

ولتجاوز نموذج الفكر المنطقي العقلاني للمصفوفة الهيلينية، يقدم سيتو هذا التعريف:" الفكر الفلسفي، “هو فكر يسعى إلى تبرير نفسه بوسائل مختلفة يتم تنفيذها بمثابرة". وبما أن عمل الفلاسفة، باعتبارهم تفردات، هو جزء من حركة أوسع مرتبطة بالثقافة وتعبيراتها الفكرية، فإن الفلسفة ليست معزولة عن الثقافة والحياة الفكرية للحضارة. لأن الفلسفة ليست الطريقة الوحيدة التي يفكر بها الإنسان: فبالنسبة للفلسفة، يعد الدين والعلم أيضًا طريقتين أخريين للتفكير مكونتين للإنسانية. يتجلى الطابع العالمي للفكر الإنساني في ثلاث طرق لطرح سؤال الحقيقة: يسعى الدين إلى الحقيقة من خلال خطابات السلطة المشروعة اجتماعيا؛ تصل الفلسفة إلى الحقيقة من خلال التفكير والنشاط النقدي؛ يقوم العلم بإضفاء الطابع الرسمي على التجارب والتفكير إلى حد صنع النماذج. من الدين إلى العلم، يتوافق كل نهج مع جهد إضافي للابتعاد عن الوجود: من الدين إلى العلم، عبر الفلسفة، يتم فهم الواقع من خلال تجاوز وجهات نظر الأفراد . كما تمر كل حضارة بهذه الأساليب الثلاثة، التي تتوافق مع ثلاث لحظات متتالية في تاريخ الفكر: فترة ما قبل الكلاسيكية، التي تتميز بالتفكير الديني؛ الفترة الكلاسيكية، التي تميز تحرر الفلسفة من الدين؛ فترة ما بعد الكلاسيكية، حيث قام العلم بتهميش أشكال الفكر الأخرى. إن ميزة تجميع التعبيرات المختلفة للفكر الإنساني في ثلاث فئات هي السماح بفهم أفضل لتطوره. وهو ما يبرر الاختيار التأريخي لتمثيل تواريخ الحضارات الثماني من خلال دوراتها الفكرية. وعلى طريقة فيكو في العلم الجديد (لكن قبله كان عبد الرحمان ابن خلدون قد طور فكرة الدورة التاريخية)، يبني سيتو سرداً دورياً للتاريخ الفكري للحضارات المختلفة من خلال إظهار تطور العلاقات بين الدين والفلسفة والعلم.

هل لحظات التفكير الثلاث مماثلة لحالات كونت الثلاث؟

يشير نموذج الدورة المكونة من ثلاث خطوات إلى قانون أوغست كونت للولايات الثلاث. وفي رواية سيتو، "يصف تاريخ الفلسفة دورة ما قبل الكلاسيكية – الكلاسيكية – ما بعد الكلاسيكية، والتي تتكون من إعادة تركيب متتالية لطرق التفكير الثلاث الرئيسية حول الوصول إلى الحقيقة". وكما هو الحال في قوانين الحالات الثلاث، كذلك في هذا التاريخ المقارن للفلسفة، يتميز التعاقب بين المراحل الثلاث بوجود أشكال فكرية دينية وفلسفية وعلمية. ومن ناحية أخرى، إذا كان أساس هاتين الفكرتين واحدا، خاصة فيما يتعلق بالجانب الاجتماعي والثقافي الخاص بتطور الفكر الإنساني، فإن هناك فرقا جوهريا بين الوضعية الكوميتية والنموذج الذي اقترحه سيتو. وفي قانون كونت للدول الثلاث، فإن الحالة الميتافيزيقية التي تتوافق مع العصر الفلسفي لحضارة أو فرد، هي حالة انتقالية بين خيال الحالة اللاهوتية ويقين الحالة العلمية. هذه الحالة الأخيرة فقط هي التي تنتج اليقين، في حين أن الحالتين الأوليين غير منتجتين ويقتصر دورهما على تمهيد الطريق للمراحل المتعاقبة. إن الرؤية الوضعية الكونيتية هي في أساس فكرة التقدم وتنتهي إلى إسناد طابع رجعي للدين والفلسفة فيما يتعلق بالعلم. على العكس من ذلك، يُظهر نموذج سيتو أن الفلسفة لا تتوقف عن الوجود حتى لو لم تكن دائمًا ذات سيادة في البحث عن الحقيقة. من الواضح أننا "لا نتفلسف بنفس الطريقة عندما يهيمن المتدينون على الحياة الفكرية، أو يتولاها الفلاسفة، أو يستقطبها العلماء". ومن ناحية أخرى، فإن العلم لا يمثل اللحظة الأخيرة للحضارة، بل على العكس من ذلك، يمكن أن يعاني هو نفسه من نفس مصير الدين والفلسفة ويحتل المرتبة الثانية. وفي هذا الصدد، تظهر أمثلة الفكر الصيني والفكر اليوناني أن تطور الفكر يتم على قدم وساق وليس بطريقة خطية: فالفكر الصيني له تاريخ يمتد لآلاف السنين ولا يختفي في أي وقت، ولكنه يتميز بالتاريخ. تعاقب ثلاث دورات من مدة الألفية؛ وعلى العكس من ذلك، يختفي الفكر اليوناني وينشأ الفكر الروماني ثم الأوروبي. أخيرًا، إذا لم يقاوم سيتو، مثل كونت، إغراء بناء تفكيره على أساس ثالوث من النوع الهيجلي، فيجب علينا أن ننسب الفضل إلى عمله لأنه أعطى الكرامة لأي شكل من أشكال الفكر دون أن يكون مقيدا في إطار من أشكال التفكير. المفهوم الوضعي الذي يقدم رؤية للحظات دينية وفلسفية منحازة للعدسات المشوهة لفكرة التقدم.

تاريخ معلوم ولكن مبسط

يستهدف كتاب تاريخ الفلسفة العالمي لسيتو جميع أنواع القراء، بدءًا من المتخصصين الذين يمكنهم وضع معارفهم وأبحاثهم في سياقات أوسع، وحتى الهواة، الذين يمكنهم أيضًا الاستفادة من المراجع الموجودة في نهاية كل فصل لتعميق معرفتك. هذا عمل يمكن أن يقدم مساهمته أيضًا في مسألة أصول الفلسفة، حتى لو لم يكن السرد ترتيبًا زمنيًا، ولكنه يسمح بإلقاء نظرة خاطفة على بعض بقايا المركزية الأوروبية. وعلى وجه الخصوص، في ترتيب العرض الذي يصل من اليونان إلى اليابان عبر الحضارات الرومانية والإسلامية والروسية والأوروبية والهندية والصينية. وبهذا الترتيب، لا تأتي الحضارة الصينية إلا بعد الحضارات الغربية، ربما لأن سيتو أراد أن يبدأ تاريخه العالمي مما هو أقرب إلى القارئ الفرنسي والأوروبي.

خاتمة

هذا عمل كتب وقدم بأمانة، حيث أن مؤلفه يدرك جيدا الحدود التي يمكن أن تميز مثل هذا العمل من حيث الاكتمال والعمق. والنتيجة هي تاريخ مقارن يهدف إلى أن يكون إعلاميا وتثقيفيا، وأن يكون كذلك لا يتخلى عن خطر التمركز العرقي، خاصة عندما يلجأ المؤلف إلى المقارنة بين فيلسوف شرقي وفيلسوف غربي، حتى لو ولد الأخير بعده. عنوان المثال: الفيلسوف الهندي كوتيليا (360 – 275 قبل الميلاد) «قم بتقليد آرثا شاسترا للروح الإيجابية والواقعية السياسية بعد الاعتبار الأخلاقي لقيمته مقارنة بأمير مكيافيل» ؛ تم تقديم الفيلسوف الصيني وانغ تشونغ (27-  100 قبل الميلاد) باعتباره روحًا حرة ومتشككة "تستوعب الأرثوذكسية والتقليدية والخرافات الخاصة بالزمن - والتي يمكن مقارنتها باليوناني لوسيان دي ساموسات". قد يكون هذا تنازلاً للمؤلف، يبرره هدف تقديم مفهوم عقيدة المفكر الذي يظهر في مخططات فكرية أخرى، ولكننا ندعو القارئ إلى عدم البحث عن سعر التشابه والتماثل بين الأفكار التي تبقى متفردة في الزمن وفي الفضاء.

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

...................

المصد ر

Vincent Citot, Histoire mondiale de la philosophie, Une histoire comparée des cycles de la vie intellectuelle dans huit civilisations, Paris, édition Puf, 2022.

تدحرج الفكر البشري وتدهور؛ عاجزا أمام الهجمة الفكرية للصعودالليبيرالي الجديد بقيادة الآحادية الأمريكية خلال بدية التسعينات، والتي حطمت اركان الدول والأمم وافشلت سياسات الدول في التنمية والتطور؛ متحدية البنيات المألوفة والتآلفات الغارقة التي تكونت منذ العهدالمعاصر؛ سواء في مرحلة الإستعمار أوبعده، لأن المعاصرة اليوم ككل متكامل وفعل فاعل جاري مؤثر في بناء المجتمع المعاصر والحداثي الذي يتوجب علية الإنخراط الأممي والإنساني بحتمية دالة رياضية مصاغة في بداية الطرح.. ولكنه لم يتاهب لتراكمات قديمة جديدة سوف تخلق تشرذمات عالمية متصلة بالتاريخ ثم عودة قراءات جديدة للتاريخ من مخيال النفسيات الجماعية للحضارات، ومسارات الحركية الحضارية العالمية وحراكيات الذات الدخيلة في المجتمعات المتغيرة من طبيعة عميقةمتجذرةفي الكيان المخيالي للفرد والجماعةوالتراتبات الإضافية والهامشية للبشرية ضمن ضرورات الحياة المتواصلة حتما مع التاريخ البيولوجي والنفسي للإننسانية كاملة....

وطبق الدراسات التي وضعت بنية وحركية المجتمعات في العالم المعاصر، فإن جلها ركز على التحليل العلائقي الذي إستطاع ربط التواصل بين المجتمعات والثقافات داخل نطاق الدولة وخارجها وضمن حركية العفويات الأوتوماتيكية –لمسار الحياة-، المتلاحقة أو ضعفها أو محاولة خلق نسق جديد طبق اهداف جديدة كما فعل الاستعمار .لذا كانت المدارس التاريخية والاجتماعية التي ظهرت في المنطقة وجوارها ساهمت في تلك المقاربات ولكنها سقطت كلها في احكام مسبقة وتنظيرات مفبركة من الغرب غالباوالشرق كذلك وخاصة عندما جعلت التابو المحرم، كمقيد لبعض العلاقات ومهندس لبعض المعاملات، وخلقت من التوسع الإمبريالي مسقطا صناعيا أو المرجعية الدينية- من تنظيرات الشرقيين -منيعا لكل مفارقات إجتماعية /. كما حاول البعض اسقاط المحتوى الأنتروبولوجي الافريقي على المجتمعات ذات الثقافة المكتوبة المؤطرة بكل تكامل والمفهرسة لكل موضوع، ولكن تراكم الثقافي كان بالمرصاد رغم بعض المفارقات الذهبية بين الجماعات والجهات . فالتجمع المغاربي قائم منذ القديم، كما رأى ابن الخلدون على العصبية؛ تلك العصبية الإجتماعية التآلفية- المعروفة في المجتمع الإسلامي وبلاد المغارب، وهذا من طبيعة خلق الله ,وضرورات الحياة.

لقد كان الطرح الفكري والفلسفي والتاريخي؛ المقدم من طرف فرانسيس فوكوياما ومعاصره صموئيل هنتنجتون، مطارحات، خلق الإهتزاز العالمي المعاصر؛ وهوالذي سوف يسير التاريخ من الألفية الثالثة وما بعدها إلى نهاية التاريخ الديمقراطي والليبيرالي الصلب الجامد المتكلس ضمن قوة إستقطاب حضاري غربي سوف يسيره الفاعل الأمريكي ...لكن الرياح سوف تغرق السفينة الغربية والأمريكية من أسباب الثورات العربية، التي أخرجت الروس من جحره، وحرب أوكرانيا التي أبرزت الجرح التاريخي للتوسعات الإمبراطورية للغرب والروس في عارضة رقمية واحدة وكذا ضعود الصين ومنافستها الإقتصادية والتكنولوجية للغرب واليابان وغيرهم .......

هذا كذا سوف يكون الإستقطاب القادم بعد فشل العولمة، حيث تكون المطارحات لصاحبها يورغن هابيرماز المؤسسة حتما على التداول العيشي بين البشرية وكذاطرحات إدغار موران؛ المؤسسة على الإنسانية البيولوجية المتجاذبة، هي تأليفات جديدة تبنيها الحضارات، والتراكمات العفوية - لمسار الحياة وديناميكيات التغير المركزي والطرفي حول المفارقات التي يخلقها التداول الحضاري والتناقل التكاملي لمطالب العيش المشترك الذي سوف يفشل كل النظريات ضد البشرية والإنسانية ونهاية الحروب والتصادم، وربما تكون حرب غزة آخر حرب وسبب حل نهائي لأزمة الشرق الأوسط...

إلا أن الاسف الذي يهزنا في وطننا الإسلامي، هو تجاذب النقد بين العقم الفكري لمدة طويلة بين مطارحات دعاة –حكم الله - وبين الحكم العلماني والحداثي حسب طرحات فلاسفة قرن 20 بينما كانت أوروبا قد أنهت مشوار الحداثة مدة قرن لاغير؟...... وهكذا وجدنا، عندنا مثل زكي محمود وزكريا فراد وبدوي ووحسين مروة والتيزيني وصادق سعد والجابري وحسن حنفي، لكن تبقى تلك المطارحات اليوم مدعاة فخر وإعتزاز بمطروحاتهم ومناولاتهم ومنازالاتهم المتجددة للفكر والمجتمع والإبستيمولوجيا الحديثة ومنهم طه عبد الرحمان وماجد الغرباوي وناصيف نصار وسامي النشار والمسكيني وعبد اللعه الغذامي مطروحا مع الاحياءوالذين يتمركزون حول كل المتنتجات الفكرية الغربية والروسية واليابانية والصينيةنالحديثة والجارية التي تعكس كل التناقضات الفلسفية في العقل التأملي او حول مجريات الحدث الإجتماعي الحضاري المتغير؛ أحيانا حتما واحيانا طبق مبرمجات محلية أوإقليمية للتغير و الإنخراط العالمي للبناء المتجدد الهادفة للتمكين، وحيث يمكن ذلك بسهولة المعاملات الرقمية السريعة في نشر التناظر العلمي والإنخراط العالمي التقني.... الذي زعزع أركان المجتمعات اليوم، وهذا ما سوف يجعل منهم قراء من البراعة ونقاد من الجرأة في مستويات النقد العلمي الإبستمولوجي المتثاقف لمطاروحات غيدنز وماكلوهان وجيل كيبيل وباومان وادغارموران وتشومسكي وبودريار وغيرهم ......

***

عتيق العربي

 

السلوك الأخلاقي هو مجموعة من الأفعال والقرارات التي تتعلق بالقيم والمعايير الأخلاقية، ويشير إلى كيفية تصرف الشخص وتعامله مع الآخرين بناءً على المبادئ الأخلاقية التي يعتقدها ويتبعها. وهو يتطلب احترام حقوق الآخرين ومبادئ المساواة والعدل والصدق بين أفراد المجتمع. ويعتبر السلوك الأخلاقي اساسياً في بناء العلاقات الإنسانية الصحيحة في المجتمعات المزدهرة. ويتطلب السلوك الأخلاقي القدرة على اتخاذ القرارات الصواب بناءً على المعايير الأخلاقية والابتعاد عن الرغبات الشخصية والمصلحة الذاتية عندما تتعارض مع المبادئ الأخلاقية، ويشمل تلك القدرة على الاستماع إلى الضمير والعمل بناءً على ما يعتبره الشخص صحيحاً ومناسباً من الناحية الأخلاقية.

والفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا (١٦٣٢م-١٦٧٧م) عرف بنظريته الأخلاقية المادية والأخلاق الإنسانية التي تأسس عليها، والسلوك الأخلاقي يتعلق بتحقيق السعادة والرضا الداخلي من خلال فهم الطبيعة الإلهية وانسجامنا معها. ويرى سبينوزا أن الأخلاق الحقيقية تستند إلى معرفة الإنسان بطبيعة الله والعالم وحقائقهم المعرفية، والأخلاق الصحيحة تنشأ من خلال الفهم الدقيق لطبيعة الإنسان والطريقة التي يعمل بها، وفهم ما يعتبره حقا وخاطئاً بناء على الحقائق الطبيعية، والعيش وفقاً لقوانين الطبيعة والالتزام بتوازن وانسجام هذه القوانين. وسبينوزا يرى أن الأخلاق هي جزء من النظام العام الذي يتحكم في كيفية تصرف الأفراد في حياتهم، والأخلاق تنشأ من النظرة الشاملة والواعية للطبيعة الإنسانية. فهو يؤمن بأن الإنسان يمكنه أن يعيش وفقآ للأخلاق من خلال فهم وتحقيق المتطلبات الأساسية للحياة وتفاعله السليم مع العالم الخارجي. ويعتبر سبينوزا أن العاطفة والرغبة الشخصية تلعب دوراً كبيراً في تحديد سلوك الإنسان، وعليه ينبغي على الفرد أن يسعى لتنظيم وتهذيب هذه العواطف والشهوات الخاصة به من خلال العقلانية والتفكير والوعي.

وفكرة كتاب الأخلاق لسبينوزا تركز على فهم الطبيعة الإنسانية وبناء نظرية أخلاقية قائمة على الفضيلة والسعادة الشخصية. في هذا الكتاب يقدم سبينوزا رؤية عالمية تجمع بين الفلسفة واللاهوت والأخلاق، ويؤكد أن الفطرة الإنسانية تدفع الإنسان نحو الاستمرار في الوجود والسعي نحو السعادة. وهو يقدم فكرة الأخلاق من خلال فهم الطبيعة البشرية وتطور المشاعر والعواطف وكيفية توجيهها بشكل صحيح. وتوضح فلسفة الأخلاق لسبينوزا أهمية الشهوة العقلية والحرية الداخلية، حيث تقوم السعادة على معرفة الأسباب التي تجلب السلام الداخلي والرضا الذاتي، أضافه إلى ذلك يؤمن سبينوزا أن الأخلاق الحسنة والفضيلة تنبع من فهم الإنسان للواقع الذي يعيش فيه. كذلك يتضمن كتاب الأخلاق مفهوماً مهماً يعرف بالعالم الأخلاقي الذي يستخدم العقل لفهم السبيل الأفضل للتصرف في الحياة، وهو يشدد على أهمية العقل السليم في تطور الأخلاق.   عند دراسة كتاب الأخلاق نجد تحليلاً فلسفياً عميقاً للمشاعر والعواطف البشرية وكذلك قواعد وإرشادات لتوجه الحياة وأتباع المسار الأخلاقي الصحيح.

وتتمحور فلسفة سبينوزا الأخلاقية حول فهم الحقائق الأخلاقية ورؤية الحياة بطريقه تعزز الفضيلة والسعادة، وهو يعتبر أن الأخلاق هي جزء من الطبيعة البشرية وتتأثر بالعوامل المختلفة، وهو يعتمد على استخدام العقل في توجيه الحياة الأخلاقية.، ويعتبر أن العقل السليم يستطيع أن ينتج أفضل الأفعال والقرارات التي تساهم في السعادة الفردية والجماعية. وتركز فلسفة سبينوزا على الحرية الداخلية وتحقيق الوعي والتحرر من القيود والهواجر السلبية، وهو يرى أن تطور الذات وتحقيق السلام الداخلي يسهمان في التوازن الأخلاقي، والسعادة وتعتبر السعادة من المفاهيم الأساسية في فلسفة سبينوزا الأخلاقية، وهو يروج إلى أهمية تطور الفضيلة وأتباع القيم الأخلاقية السامية كالصدق والعدل، وتشدد فلسفيه على تحقيق السعادة والتوازن الداخلي من خلال التوجه والعقلاني وأتباع قيم الفضيلة والتعاون الاجتماعي. ومن وجهة نظر سبينوزا السعادة والفضيلة والحياة الكريمة أهداف تتطلب وسائل خاصة من أجل تحقيقها ولا يوجد وسائل متفقه مع تلك الأهداف غير العقل. إذ ليس بمقدور الإنسان يستخدم وسائل مختلفة في طبيعتهما عن الأهداف فالسعي نحو اللذة مختلف في طبيعته عن السعي نحو السعادة والفضيلة والحياة الكريمة، اذن العقل هو الأساس في الوصول إلى السلوك الأخلاقي الصحيح، والعقل هو القوة الدافعة والمحركة للسلوك الإنساني ويقولون إن العقل النشط والمعرفة الصحيحة يمكنهما تحقيق السلام الداخلي والتوجه نحو الأفعال الأخلاقية.

وبناء على ما تقدم تعد الفضيلة واحدة من القيم الأخلاقية المهمة من وجهة نظر سبينوزا، فهو يعتقد من خلال السعي وراء هذه القيمة يمكن للإنسان أن يعيش حياة سعيدة ومتوازنة، وأن يصل إلى السعادة الحقيقية، والأخلاق من وجهة نظر سبينوزا هي نوع من التوجه العقلاني والعملي الذي يساعد الإنسان على تهذيب نفسه وتعزيز علاقته بالعالم الخارجي.

***

قائد عباس حمودي

 

أسئلة تُثارعندما يُنظر الى التغيير كسلسلة من التغييرات البسيطة في ذات الشيء وليس كإستبدال للشيء بآخر. ما هو هذا "ذات" الشيء الذي يستمر في البقاء ومع ذلك يبقى مختلفا عما كان عليه؟ ما هي "التغييرات" التي تحدث بدون تغيير هوية هذا الشيء"ذاته"؟

العديد من فلاسفة ما قبل سقراط في القرنين السادس والخامس قبل الميلاد كانوا يهتمون خصيصا بهذه الأسئلة. هم أرادوا توضيح ما الذي يعطي الكون صفة الدوام امام كل مظاهره المتغيرة، سواء كانت هذه المظاهر منتظمة مثل الفصول الموسمية او لا يمكن التنبؤ بها كما في أول قطرة مطر في منطقة معينة.

هم لديهم الكثير من المشتركات في وجهات نظرهم. كانوا متأكدين ان الكون هو أكثر من مجرد وعاء لأحداث عشوائية لأشياء عابرة . كانوا مقتنعين بان هناك توضيح لكل شيء، يتخطى الى ما وراء الاحداث اليومية. هم متأكدون ايضا ان ذهن الانسان قد يصل الى ذلك التوضيح. 

في نظرياتهم بشأن طبيعة الكون الحي يلعب الانسان دورا غير هام. ايضا لم تظهر كثيرا القوى الخارقة للطبيعة سواء بعبارات مجازية او متعالية في تحليلاتهم للظواهر، ومتى ما أشاروا الى أي من هذه فكان من المسلم به انها جزء لا يتجزا من نظام الأشياء في الكون، لم تتوقف في بداية او نهاية. هم لم يطرحوا تمييزا بين المادي والروحي عند الإشارة للطريقة التي يعمل بها العالم. انه بالنسبة لهم طبيعة نابضة بالحياة ومستديمة. ولكن الشيء المشترك لدى هؤلاء المفكرين هو ان وجهات نظرهم كانت مختلفة فيما يتعلق بالسؤال عن الطبيعة الدائمة لهذا الكون المتحرك.

هذه المقالة (1) هي محاولة لتفسير وجهات نظرهم: لتبيّن الكيفية التي كانت تحصل بها الارتباطات بينهم وكيف حفز كل واحد منهم الآخر، ذلك بسبب انه  رغم كون الفلسفة اثناء هذين القرنين كانت متناثرة عبر شرق المتوسط في المستعمرات اليونانية المطلة على البحر، لكن السفر بالسفن كان سهلا وكان كل واحد منهم على اتصال بالآخر.

ان أقدم المفكرين الذين عُرفوا في هذا العصر قبلوا دون نقاش رؤية المنطق السليم the common sense للكون وهي انه : هناك أشياء تأتي الى الوجود ثم تختفي بمرور الزمن. لتوضيح هذا هم افترضوا ان الكون مؤلف بالكامل من أشياء اساسية "stuff" تحتوي على طاقة التوليد الخاصة بها. من هذا، هم اعتقدوا بإمكانية انفصال الاشياء التي في طور النمو في العالم ثم عودتها مرة اخرى الى كتلتها في الوقت المناسب. هذا التوليد والرجوع يحدث بتكرار مستمر. لذا فان الخاصية الدائمة في كل الاشياء هي المركب composition الذي هو هذه "الاشياء" المولدة ذاتيا. اما التغيرات التي فيه فهي الحدوث المتكرر للمواد المنفصلة التي تأتي الى الوجود ومن ثم تعود للكل الممتزج لكي يمكن إحداث مزيد من "التغييرات" الاخرى. لكن، هناك حد لمدى تلك "التغيرات". يجب ان لا يكون هناك الكثير منها ولا القليل. يجب ان تكون كافية لضمان الطبيعة الحية للكون ولكن ليست كبيرة جدا لدرجة تفقد فيها التوازن. لكي يكون الكون كما هو لا يمكن ان يكون فارغا من هذا التغيير المؤقت، ولا يمكن ان يكون مركبا فقط من أشياء منفصلة.

وفق هذا الخط  من التفكير،التفت مفكرون آخرون الى هذه الحاجة للتوازن في الكون الحي. هذا التوازن هو الذي يعطي الدائمية ويحافظ على التناغم في النظام كأشياء كلية whole stuff وليس الأشياء المكونة له. التوازن الصحيح للكون جرى حفظه كما يعتقدون عبر كل شيء موجود في "نسبة صحيحة" سواء في ذاتها او في العلاقة بموقعها في كل الكون. حسب رأيهم ان الحجم والمكون الحقيقي لكل الاشياء لايهم طالما بقيت الترتيبات لكل الأجزاء بشكل معين. هذا الشكل من الترتيب ضمن الكون الكلي وضمن أجزائه يجب ان يستمر اذا اُريد إظهار الدائمية. عدد ومركبات "المواد" من كل الاشياء قد تتغير عندما تأتي وتختفي من الحياة اليومية لكن دائما وفق الحاجة  للمحافظة على ترتيبها الصحيح ضمن الكون وكجزء منه. 

لقد برزت انتقادات لوجهات النظر تلك. ذلك لأن الاعتماد على رؤية المنطق السليم لعالم من أشياء منفصلة، فشل في فهم الطريقة الصحيحة للنظر الى الاشياء. العالم الحي هو عالم متطور والافتراضات حول المكونات الدائمة فيه تفشل في تأكيد هذا. لأنه حسب هذه الرؤية، دائمية العالم تكمن في عملية الانكشاف المستمر للتغيير ذاته. هذا يوحّد ما يبدو من أضداد، ويوفّق بين التوليد والاضمحلال، ويكيّف الحركة المستمرة لكل الخلق للحاجة الى عالم متوازن ومتناغم. بدون تغيير متحرك باستمرار ستكون هناك دائما فقط مجموعة من أشياء منفصلة وكسولة.

 هناك رؤية راديكالية اخرى مضادة جرى الايمان بها،مع انها تتفق في إنكار رؤية المنطق السليم للكون في كونه مركب من اشياء تأتي الى الوجود ثم تختفي . ربط فكرة العالم المتغير بالتجربة يعني ان التجربة تعطينا معلومات زائفة. في هذه الفلسفة، التغيير هو فقط صورة متخيلة تنتجها أحاسيس الانسان المحدودة والجزئية. التجربة تُستخدم فقط  كوسيلة لممارسة الحياة التي نعيشها يوميا. انها ليست مناسبة عندما يستعمل الانسان عقله بشكل صحيح ويدرك ان أحاسيسه يمكن ان تعطيه فقط معلومات معينة في لحظة معينة. لكن مثل هذه المعلومات هي مضللة. انها تجعل العالم متصورا كأنه فيه تأتي الاشياء وتعود الى اللاشيء. لكن "العدم" لا يمكن فهمه. وان أجزاء صغيرة جدا من تجربة الدليل لدى الانسان تُخفي حقيقة ان فهم أي شيء يعتمد على كامل سياق التأثير والمحيط المجاور. الانسان يُخدع عندما يعتقد انه متأكد من هذا السياق. هو يخطئ في الاعتماد على تقييمه المتسرع لما يشكّل الاحداث والاشياء، لأن لحظة التغيير لا يمكن القبض عليها بدقة، حيث ان وقت الميلاد والموت، بداية ونهاية الحدود لا يمكن تحديدها بدون شكوك. كل هذا يشير الى ان ذهن الانسان وليس أحاسيسه يمكن ان يخبره بكل القصة: ان الحقيقة الوحيدة للكون هي تلك الديمومة وراء الخصوصيات والتغيرات الظاهرة فيه . هذه الحقيقة هي كلّ مستمر دون توقف وموجود بشكل دائم. انها لا يمكن التوفيق بينها وبين عالم الحواس العابر الذي ليس له معنى بالنسبة لاولئك الذين يفكرون بشكل صحيح، ويذهبون وراء المباشر.

بعد هذا الإنكار المدمر لأي معنى للحياة اليومية جرت محاولة لإنقاذ الارتباط بين القبول الذهني للكون الدائم وتجربة الوجود المتغير. هنا، الواقع، كل الكون يُنظر اليه ليس كأنه غير مُدرك بعبارات حسية وانما فقط لا يمكن تمييزه. انه مؤلف ليس من كلّ منفرد وموحّد وانما من عدد لا متناهي من هذه الكليات، جسيمات صغيرة توجد بشكل دائم بحركة مستمرة،لا تتجزأ، صغيرة جدا بحيث يصعب فهمها من جانب الانسان. هذه يمكن ان تأتي مجتمعة في فترات منفصلة لتشكل مجموعات اخرى.

ان لحظة الإضافة او الطرح من أي مجموعة تجعل عملية التطور او الاضمحلال غير مُشاهدة، بينما التأثير الكلي يمكن ان يكون ظاهرا للحواس. التغيير يحدث على هذا الطراز وان فكرة الدوام – الجسيمات الأولية – ترتبط  به. في هذه الفلسفة لا وجود لنموذج او قوة متحركة ظاهرة لتحكم كل هذه الفعالية. هناك فقط قبول بأن هذا يمكن ان يحدث.

سقراط، ذو التأثير الكبيرعلى كل الفكر اليوناني، واجه موته بالإعدام سنة 399 قبل الميلاد. في السنوات التي سبقت، سأل العديد من الفلاسفة الذين درسوا مفكري ما قبل سقراط  كيف يمكن لهذه التفسيرات المختلفة والمتناقضة أحيانا ان تُعطى حول الكون. البعض اصبح مشككا – بمعنى يمكن ان لا تكون هناك معرفة تتجاوز حقيقة انهم كانوا متأكدين من لا شيء على وجه الخصوص.

لكن هناك التقاء مع مفكري ما قبل سقراط. هم كانوا جميعا متأكدين بان هناك دوام في الكون. جميعهم أشاروا الى ان تجارب الناس قادتهم لربط التغيير بحركة الاشياء الحية، وبإنكشاف الأحداث. تفسيراتهم تختلف لأنهم بشر يتكلمون من وجهة نظر نسبية حول حقيقة انهم قبلوا التحقق من كل ما موجود وما يمكن ان يكون. انه جزء من ظروف الانسان ان يكون جزءا من هذا المجمل الذي لا يمكن وصفه بعبارات مجردة.

سقراط ذاته، في حوارات افلاطون مع انه أظهر تأثير أسلافه، لكنه طرح رؤية اخرى. هو أكّد ان الانسان، اذا اراد ان يعيش حياة مقنعة، سيحتاج لفهم وظيفته في مشروع الأشياء. وهذا الفهم يأتي من تقييم وظائف كل شيء آخر. من حيث المبدأ، هذا يجب ان يقود لإدراك الهدف في كل شيء ككل وجميع الوظائف المرتبطة مع بعضها. وهنا ستكون الدائمية  هدفا مترابط داخليا. لكن الانسان مقيّد بتجربته وقدراته الذهنية. هو لا يمكنه ابدا ان يكون متأكدا من أية مُثل يجب الكفاح لأجلها، وما هي، اذا كان حكيما، ومطّلعا باستمرار على جهله. مع ذلك هو يحاول تشكيل فرضيات صالحة. الفحص الدائم للأفعال التي ينخرط بها، والإصلاحات المحتملة التي تشكل التغيير – هو الذي يجعل منها عملية عقلية ذات هدف دائم.

***

حاتم حميد محسن

......................

الهوامش

(1) some pre-Socratic ideas of change and permanence, philosophy Now,1991   

 

بقلم: ساكاي ناوكي

ترجمة: د. زهير الخويلدي – كاتب فلسفي

***

" سوف أتوصل، كما هو متوقع، إلى نتيجة مفادها أن ما بعد الحداثة، وهو آخر من الحداثة، لا يمكن تعريفه في سياق خطابنا "الحديث"، ولا ينبغي أن يكون من العبث تمامًا أن نضع موضع التساؤل ما الذي يشكل الفصل بين الحداثي وما بعد الحداثي - ذلك هو ما يكمن وراء إمكانية حديثنا عن الحديث أصلاً. وبالمثل، من الضروري التعامل مع آخر آخر من الحداثة، أي ما قبل الحداثة، والذي تم تعريف الحداثة أيضًا في كثير من الحالات بالإشارة إليه. هذه السلسلة – ما قبل الحداثة – الحداثة – ما بعد الحداثة – قد توحي بترتيب زمني. ومع ذلك، يجب أن نتذكر أن هذا النظام لم ينفصل أبدًا عن التكوين الجيوسياسي للعالم. وكما هو معروف جيدًا الآن، فإن هذا المخطط التاريخي للقرن التاسع عشر يوفر منظورًا يمكن من خلاله فهم موقع الأمم والثقافات والتقاليد والأعراق بطريقة منهجية. على الرغم من أن المصطلح الأخير لم يظهر حتى وقت قريب إلى حد ما، إلا أن الاقتران التاريخي الجيوسياسي بين ما قبل الحداثة والحديث كان أحد الأجهزة التنظيمية الرئيسية للخطاب الأكاديمي. إن ظهور المصطلح الثالث والغامض، ما بعد الحداثي، ربما لا يشهد على انتقال من فترة إلى أخرى بقدر ما يشهد على تحول أو تحول في خطابنا نتيجة لذلك عدم قابلية الجدل المفترضة للمزاوجة التاريخية الجيوسياسية الحديثة. وما بعد الحداثة أصبحت مشكلة متزايدة. وبطبيعة الحال، ليست هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها الطعن في صحة هذا الاقتران. ومع ذلك، فمن المثير للدهشة أنها تمكنت من النجاة من العديد من التحديات، ومن المبالغة في التفاؤل أن نعتقد أنها أثبتت أخيراً عدم فعاليتها. سواء باعتبارها مجموعة من الظروف الاجتماعية والاقتصادية أو باعتبارها التزام المجتمع بقيم مختارة، لا يمكن أبدا فهم مصطلح "الحداثة" دون الإشارة إلى هذا المزاوجة بين ما قبل الحداثة والحديث. تاريخياً، كانت الحداثة في المقام الأول معارضة لسابقتها التاريخية؛ ومن الناحية الجيوسياسية، فقد تم مقارنته مع غير الحداثة، أو بشكل أكثر تحديدًا، مع غير الغرب. وهكذا كان الاقتران بمثابة مخطط استطرادي يتم بموجبه ترجمة المسند التاريخي إلى مسند جيوسياسي والعكس صحيح. يتم طرح الموضوع من خلال إسناد هذه المسندات، وبفضل وظيفة هذا الجهاز الخطابي، يتم تمييز نوعين من المجالات بشكل مميز؛ الغرب الحديث وغير الغربي ما قبل الحداثي. بطبيعة الحال، هذا لا يعني أن الغرب لم يكن أبدًا في مراحل ما قبل الحداثة أو أن اللاغرب لا يمكن تحديثه أبدًا: فهو ببساطة يمنع إمكانية التعايش المتزامن بين غرب ما قبل الحداثة واللاغرب الحديث. إن الفحص السريع لهذا النوع من الحداثة يشير بوضوح إلى وجود قطبية معينة أو تشوه بين الطرق الممكنة لفهم العالم تاريخيًا وجيوسياسيًا. لا يوجد سبب متأصل يجعل المعارضة الغربية/غير الغربية تحدد المنظور الجغرافي للحداثة، باستثناء حقيقة أنها تخدم بالتأكيد في تأسيس الوحدة المفترضة للغرب، وهي إيجابية غامضة ولكنها مهيمنة، والتي نميل إلى اعتبار وجودها منح لمثل هذا الوقت الطويل. وغني عن القول أن الغرب توسع وتحول بشكل اعتباطي خلال القرنين الماضيين. إنه اسم لموضوع يجمع نفسه في الخطاب ولكنه أيضًا موضوع يتكون بشكل خطابي؛ ومن الواضح أنه اسم يرتبط دائمًا بتلك المناطق والمجتمعات والشعوب التي تبدو متفوقة سياسيًا أو اقتصاديًا على المناطق والمجتمعات والشعوب الأخرى. في الأساس، إنه مثل اسم "اليابان"، الذي يُقال إنه يشير إلى منطقة جغرافية، أو تقليد، أو هوية وطنية، أو ثقافة، أو عرقية، أو سوق، وما إلى ذلك، ولكن على عكس جميع الأسماء الأخرى المرتبطة بالخصائص الجغرافية، كما أنه يعني ضمناً رفض ترسيم حدودها الذاتية؛ إنها تدعي أنها قادرة على الحفاظ على دافع لتجاوز كل التفاصيل، إن لم يكن تجاوزها فعليًا. وهذا يعني أن الغرب لا يكتفي أبدًا بما يعترف به الآخرون؛ يتم حثه دائمًا على الاقتراب من الآخرين من أجل تغيير صورته الذاتية دون توقف؛ فهو يبحث باستمرار عن نفسه في خضم التفاعل مع الآخر؛ لن يكتفي أبدًا بالاعتراف به ولكنه يرغب في الاعتراف بالآخرين؛ إنها تفضل أن تكون موردًا للاعتراف بدلاً من أن تكون متلقيًا له. باختصار، يجب على الغرب أن يمثل لحظة الكونية التي تندرج تحتها التفاصيل. في الواقع، الغرب مميز في حد ذاته، لكنه يشكل أيضًا النقطة المرجعية العالمية التي يعتبر الآخرون أنفسهم بالنسبة إليها مميزين. وفي هذا الصدد، يعتقد الغرب أنه موجود في كل مكان. هذا التفسير للوحدة المفترضة التي تسمى الغرب ليس بالأمر الجديد، ولكن هذه هي بالضبط الطريقة التي لا يزال يورغن هابرماس، على سبيل المثال، يجادل بها حول العقلانية الغربية. إنه "يربط ضمنيًا بين المطالبة بالعالمية وفهمنا الغربي للعالم." من أجل تحديد أهمية هذا الادعاء، يعتمد على الاقتران التاريخي الجيوسياسي لما قبل الحداثة والحديث، وبالتالي تسليط الضوء على المقارنة مع الفهم الأسطوري للحداثة. العالم. ضمن التقاليد الثقافية المقبولة لدينا – أي ضمن التقاليد الثقافية التي أعاد الأنثروبولوجيون بناءها لنا – أساطير المجتمعات القديمة يمثل التناقض الأكثر حدة مع فهم العالم السائد في المجتمعات الحديثة. إن وجهات النظر الأسطورية للعالم بعيدة كل البعد عن تقديم توجهات عقلانية ممكنة للعمل بمفهومنا. وفيما يتعلق بشروط السلوك العقلاني للحياة بهذا المعنى، فإنها تمثل نقيضًا للفهم الحديث للعالم. وهكذا فإن الافتراضات المسبقة غير الموضوعية للفكر الحديث يجب أن تصبح مرئية في مرآة التفكير الأسطوري. إنه يعتبر وجود تطابق مواز بين المتضادات الثنائية: ما قبل الحداثة/الحداثة، اللاغرب/الغرب، الأسطوري/العقلاني أمرا مفروغا منه. علاوة على ذلك، بالنسبة له، فإن وحدة الغرب بحد ذاتها أمر مسلم به؛ إنها حقيقة ملموسة تقريبًا. الأمر الأكثر إثارة للدهشة هو أنه مع الاعتراف بالحاجة إلى اللاغرب كمرآة يصبح الغرب مرئيًا من خلالها، فمن الواضح أن هابرماس لا يتساءل عما إذا كانت المرآة غامضة. وسواء كانت الصورة التي يسهلها علماء الإثنوغرافيا والأنثروبولوجيا هي التمثيل الحقيقي لما هو موجود بالفعل أم لا، فهذا ليس موضع خلاف. وما تجدر الإشارة إليه هو أنه يتعامل مع الثقافات والتقاليد غير الغربية كما لو أنها تشكلت بشكل واضح، وكما لو كان من الممكن التعامل معها بشكل شامل كأشياء. وحتى عندما يعالج المشكلة المتعلقة بعدم قابلية القياس للثقافات الأخرى، فإن قضية عدم القابلية للقياس برمتها يتم اختزالها في وضوح مشكلة عدم القابلية للقياس. بالنسبة لهابرماس، لا يعني ذلك أكثر من النسبية الثقافية، وهي مشكلة زائفة في حد ذاتها. يجادل هابرماس بالثقة المعرفية من أجل إعادة تثبيت الثقة المعرفية فينا وجعلنا نثق في العالمية مرة أخرى. وهذا يعني أنه في ضوء التحديد الأكثر إقناعًا وربما الأكثر صرامة المتاح اليوم لمصطلح "المركزية العرقية"، يمكن للمرء أن يقول إنه ببساطة مركزي عرقي. ولكن إذا كان إدخال مصطلح "ما بعد الحداثة" يشهد على الاضطهاد الذي يحيط بهويتنا، وإذا كانت هذه الوحدة المفترضة للغرب، نحن، التي يرغب هابرماس في التحدث معها والتي يرغب هابرماس في التحدث معها، قد تم حلها، فما الذي ستفعله حقيقة أن كتاباته المعرفية؟ لا تهتز الثقة ضمنا؟ إذا كانت إمكانية وجود موقف لفظي معين، أي نحن، نحن الغرب، مهددة في الواقع، فهل سيكون من المبرر القول بأن ثقته المعرفية تشير إلى شك فينا تم قمعه؟

من هذا المنظور، من المفهوم أن الكائن الخطابي المسمى اليابان قد قدم حالة شاذة لا يمكن دمجها بسهولة في التكوين العالمي المنظم وفقًا لمزاوجة الحداثة مع ما قبل الحداثة. لقد كان من المؤسف والمشيد مرارا وتكرارا أن اليابان وحدها من بين الثقافات غير الغربية كانت قادرة على أن تتبنى بسرعة ما تحتاجه من الدول الغربية من أجل تحويل نفسها إلى مجتمع صناعي حديث. ومن ثم، فقد تم استثمار قدر كبير من العمل الفكري من أجل جعل هذا الموضوع الغريب غير ضار في التكوين الخطابي. وفي الولايات المتحدة، عادة ما يتم جمع نتائج هذا العمل تحت اسم «نظرية التحديث». بالإضافة إلى المتطلبات الإستراتيجية العلنية للدولة، كان هناك مطلب ضمني معين، ولكن ليس أقل إلحاحا، خضع له إنتاج الحجة الاجتماعية العلمية والإنسانية. من المحتمل أن يكون كتاب توكوغاوا ديني بقلم روبرت بيلا أحد أفضل هذه المساعي، وقد اشتهر باستجابته المفرطة لهذا الطلب. وعلى خطى ماكس فيبر، الذي رأى أيضًا بوضوح مهمة التأكيد الخطابي على الوحدة المفترضة للغرب ونفذ تلك المهمة بمهارة عالية، أكد بيلاه على وحدة أمريكا باعتبارها الجزء المركزي وربما المسيطر للغرب بدلاً من وحدة ألمانيا. ومن خلال التمييز بين العوامل المقيدة لمجال اللعب الحر وتلك التي تخدم ترشيد الوسائل، يقدم بالله توجهين متناقضين في التنمية الاجتماعية. أحدهما يتجه نحو التكيف مع مقتضيات الموقف وتحقيق الأهداف المحددة، والآخر يتجه نحو تقييد الإجراءات الرامية إلى الحفاظ على الأنظمة القائمة. ومن خلال اللجوء إلى المصطلحات الاجتماعية لتالكوت بارسونز، فهو يحدد الاتجاه الأول من حيث الموقف "العالمي" الذي يؤكد "اللعب الحر" من أجل البحث عن أكثر الوسائل كفاءة لتحقيق أهداف محددة، والتوجه الثاني من حيث موقف "خاص". إن الحرية المقدمة على هذا النحو لا تعني أي شيء سوى حرية تحقيق الانسجام المؤسس مسبقًا للرأسمالية. وكما هو بديهي، فإن أي مسرحيات مجانية قد تتعارض مع الترتيب المحدد مسبقًا يتم استبعادها مسبقًا. ومع إشادتها بغياب القيود والتنظيم، فإن "المسرحيات الحرة" التي تصاحب بالضرورة الموقف "العالمي" لا تحتمل أي حرية سوى مراعاة تلك "القيم الاقتصادية" الموجودة في شكل الماهية الإنسانية الكونية" يمكن العثور على المواقف العالمية في العلوم والقانون وكذلك في الصناعة. إنه فقط لأن قيم الأداء العالمية تحدد البعد التكيفي للنظام الاجتماعي وأن البعد التكيفي منسق مع الاقتصاد، وهو ما يجعلنا مبررين في الحديث عن "القيم الاقتصادية". قد يشعر المرء بسهولة أن منظري التحديث مثلما أنكر بيلا بإصرار إمكانية أن تؤدي المسرحيات الحرة، على عكس توقعاته، إلى تعدد غير متجانس أو تفتيت الوحدة المتخيلة بدلاً من القواسم المشتركة المتجانسة للإنسانية أو الكلية الموحدة للمجتمع.

ومع ذلك، فإن النظرة المتفائلة بشكل محرج لعالمية بالله ليست ساذجة كما قد يتوقع المرء. إن ما حققته نظرية التحديث من خلال إدخال تعارض العالمية والخصوصية في دراسة الثقافات الأخرى هو، أولاً، إعادة إنتاج نفس النوع من التشكيل الخطابي الذي تتشكل فيه وحدة الغرب - ولكن هذه المرة مع المركز بشكل واضح. في الولايات المتحدة الأمريكية. ثانيًا، لقد ولَّدت نوعًا جديدًا من السرد التاريخي الذي يحافظ على إملاءات تاريخية القرن التاسع عشر ولكنه يرفض اعتمادها العلني على فكرة التاريخ الوطني. وهنا يجب أن أسارع إلى الإضافة، أن هذا لا يعني أن الرواية التاريخية الجديدة كانت أقل قومية أو في علاقة عدائية مع القومية. إن عالمية بالله هي، مثل بعض الكونيات الأخرى، قومية بالتأكيد. ومع ذلك، في هذا السرد الجديد، كان لا بد من صياغة القومية بشكل مختلف. ومن المؤكد بشكل قاطع أن التوجه العالمي الأساسي للمجتمع الأمريكي يتجلى في حقيقة أن "القيم الاقتصادية" تعتبر بشكل عام أكثر أهمية من القيم الأخرى في الولايات المتحدة. ولكن من المقبول أيضاً أن تتبنى مجتمعات أخرى مثل هذا الموقف العالمي. وبناء على ذلك، فإن النسبة بين التوجهات العالمية والخاصة في مجتمع ما تحدد التحول العقلاني المحتمل لذلك المجتمع. فمن ناحية، ورث بالله بالتأكيد الإرث الأوروبي لزمن تاريخي يتزامن مع الانتقال، التدريجي أو السريع، من الخصوصية إلى الكونية، ومن العالمية المجردة إلى العالمية الملموسة، ويتزامن في النهاية مع عملية العقلنة المتزايدة، وتحقيق العقل. بحد ذاتها. ومن ناحية أخرى، رأى أن العناصر العالمية مشتتة؛ فبدلاً من التركيز على ديناميكيات الصراع بين الذات والآخر، حاول إظهار أن أي مجتمع قادر على عقلنة نفسه. ولكن من الواضح أيضاً أن هذا المجتمع، عندما يعقلن نفسه، يصبح مشابهاً لأمريكا. أو بعبارة أخرى قليلاً، فإن التقدم يعني دائماً الأمركة. وفي هذا الصدد، عبر منظرو التحديث عن الرؤية التي تم غرسها بنجاح في الوعي الجماهيري في اليابان ما بعد الحرب، والتي مفادها أن التحديث كان مساويًا ضمنيًا للأمركة. وفي حين أنه قبل ذلك، كان التحديث مساويا إلى حد ما للأوربنة، إلا أن نظرية التحديث تعمل الآن في خدمة نقل المركز من أوروبا الغربية إلى أمريكا الشمالية. من الواضح أنه ليس من المهم على الإطلاق أن نتساءل عن رؤية التحديث الأكثر أصالة. ما تشير إليه هذه القراءة هو أنه في حين يمكن تصور عملية التحديث على أنها تحرك نحو تجسيد القيم على مستوى مجرد، إلا أنها دائمًا ما يتم تصورها على أنها انتقال من نقطة إلى أخرى على خريطة العالم. وهكذا، كانت الكونية ومفهوم الحداثة أكثر تشابكًا مع القومية الأمريكية من ذي قبل. وليس من المدهش أن يبدي بيلاه اهتماماً كبيراً بالتكامل الأسطوري للمجتمع الأمريكي. ففي نظره كانت العالمية مظهراً من مظاهر التفرد الأميركي، وجزءاً أساسياً من الأسطورة الأميركية. وبطبيعة الحال، لا يمكننا أن نأخذ هذه الأسطورة حرفيا، باعتبارها الأسطورة التي ترمز حصريا إلى الولايات المتحدة. لأنه، كما سأوضح أدناه، يمكن إنشاء عالمية من هذا النوع حيثما توجد احتياجات أيديولوجية وذلك لإقرار علاقات قوة معينة. ولكن من المهم أن نلاحظ أنه بسبب هذه البنية المزدوجة، تبدو العالمية في كثير من الأحيان خالية من عيوب القومية المعروفة. وبطبيعة الحال، فإن المطالبة بالعالمية تعمل في كثير من الأحيان على تعزيز مطالب القومية. وبسبب البنية المزدوجة، ينشأ تذبذب مستمر بين العالمية والخصوصية؛ ربما تكون بعض النزعة الإقليمية والتطلع نحو العالمية وجهان لعملة واحدة؛ لا تشكل الخصوصية والعالمية تناقضًا، بل يعزز كل منهما الآخر؛ ومن الناحية الرسمية، فإن معارضة الخصوصية والكونية تظل قائمة طالما أن كلمة "العالمية" ترفض التمييز بين العالمية والعمومية. في واقع الأمر، لم تكن الخصوصية أبدًا عدوًا مزعجًا حقًا للعالمية، أو العكس، حيث يتم استيعاب هذين الاثنين ضمن اقتصاد النوع والجنس. وتحديدًا لأن كلاهما منغلقان على المفرد الذي لا يمكن أبدًا أن يتحول إلى ذات أو إلى ما يتجاوز العام بلا حدود، فلا الكونية ولا الخصوصية قادرة على مواجهة اختلافية الآخر. وفي نهاية المطاف، فإن ما نسميه عادة بالعالمية هو خصوصية تعتقد أنها عالمية، ومن المشكوك فيه ما إذا كانت العالمية يمكن أن توجد على الإطلاق بطريقة أخرى. ومع ذلك، يجب استيفاء شروط معينة حتى تصبح هذه الكونية ممكنة. ومع افتراض أن مركز الغرب يمثل التكوين الاجتماعي الأكثر عالمية كثافة، فإنه يجب أن يكون متقدمًا على المجتمعات الأقل عالمية والأكثر خصوصية في زمن العقلنة التاريخي؛ يجب أن تكون الخصوصية الأكثر تقدما، لأن العالمية تعادل القدرة على تغيير وترشيد مؤسساتها الاجتماعية. وتتضمن هذه الصيغة معادلة يمكن من خلالها أن نستنتج، من الدرجة النسبية للعقلانية الاقتصادية، استثمار المجتمع في الكونية. وبعبارة أخرى، ما لم يكن أداء المجتمع جيدًا في مجال مثل الاقتصاد، فلن يكون قادرًا على الادعاء بأنه ملتزم بالكونية. ومن ثم، عندما يُنظر إلى المجتمع على أنه متقدم على المجتمعات الأخرى، فإن هذه الكونية تضفي الشرعية بشكل فعال وقوي على سيطرة هذا المجتمع على الآخرين. ولكن إذا لم يُنظر إلى تفوقها الاقتصادي والسياسي في الترشيد على الآخرين على أنه مؤكد، فإنها تفقد فعاليتها وقدرتها على الإقناع بسرعة. وبسبب التزامها بالكونية، فإن احترام المجتمع لذاته سيتعرض في النهاية للخطر.

مابعد الحداثة

إن مصطلح "ما بعد الحداثة" يشهد بشكل غير مباشر على هذا النوع من التناقض الداخلي الذي أدركته الكونية الحديثة. إن كتاب "كسر المعنى" لديفيد بولاك هو أحد الأمثلة الأكثر توضيحًا التي يمكن من خلالها ملاحظة ما يمكن أن يحدث عندما تواجه الكونية الساذجة مثل هذا الاعتراف. إنه يتفاعل مع التغير الملحوظ في البيئة من خلال تعزيز قواعد الخطاب الموجودة بالفعل والتي بموجبها تم تطبيع العالمية. لكن المهم هنا هو أنه على الرغم من أن تلك القواعد كانت ضمنية ومفترضة ومقبولة بصمت في السابق، إلا أنه يجب الآن ذكرها والإعلان عنها بصوت عالٍ. في هذه النقطة تكمن أهمية عمل بولاك، علاوة على ذلك، يشكل بحثه في الجمالية اليابانية محاولة متعمدة للحفاظ على نوع الإطار المضمن في المعرفة المتراكمة حول غير الغرب، وخاصة في الشرق الأقصى. ما يجعل عمله مثيرًا للاهتمام هو لفتته المتمثلة في احترام وأخذ هذا النوع من النقد النظري على محمل الجد، والذي يُطلق عليه أحيانًا ما بعد البنيوية في الصحافة الأكاديمية، والذي كان أكثر فاعلية في الكشف عن علاقة قوة محددة أوروبية المركز وإنسانية في إنتاج المعرفة. إن إصرار بولاك الشجاع على القضاء على وتحييد الدافع النقدي لـ “ما بعد البنيوية” يتعرض للخيانة في كل نقطة تقريبًا حيث يتم مناشدة سلطة أسماء مثل جاك دريدا ورولاند بارت.

من خلال عرض جدلية يابانية فريدة تسمى واكان، "اليابانية/الصينية"، والتي تم من خلالها تثبيت الهوية الذاتية لليابان، يستخدم بولاك الاستعارة الرئيسية، وهي فرقة قديمة استخدمت بشكل متكرر في الدراسات الغربية للشرق الأقصى منذ ما يقرب من قرن من الزمان. ، عن "ضفدع من قاع بئره، والذي سيحدد عالمه بشكل شبه حصري من حيث جدرانه."  حتى وفي منتصف القرن التاسع عشر، كانت الصين بمثابة أسوار اليابان التي تم تحديد وجود اليابان في مقابلها. ويضيف أن الولايات المتحدة تولت هذا الدور مؤخرًا. وكما عرفت اليابان نفسها في السابق على أنها "الآخر" للصين، فإنها تعرف نفسها اليوم على أنها "الآخر" لأميركا. وفي كلتا الحالتين، تعتبر اليابان طفيلية على نفسها من ناحية، وعلاقية من ناحية أخرى. وبغض النظر عن مشكلة ما إذا كان كل شكل ممكن من أشكال الهوية الذاتية طفيليًا وعلائقيًا أم لا، فإنه يشرع في عرض العديد من الحقائق العلمية التي تشهد، دون استثناء، على وجود فجوة مميزة بين اللغتين الصينية واليابانية. ويبدأ بوصف أكثر تفصيلاً للثقافة اليابانية الفريدة "بمقدمة بسيطة وحديثة للغاية مفادها أن الثقافة واللغة تعكسان نفس الهياكل وتتأثران بها. ومع ذلك، واستنادًا إلى هذه الفرضية أو إلى أحد مضامين هذه الفرضية القائلة بأن كلا من الثقافة واللغة يجب أن يكونا قادرين على أن يكونا معزولين مثل الأنظمة الوحدوية حتى تتمكن هذه الوحدات من "التفكير والتعلم من نفس الهياكل"، فإن الفجوة بين الصين واليابان على المستوى أو التمثيل منقوش عليه ومدمج مع الفارق بين الاثنين على المستوى الحقيقي.

في علم اللغة، يجب طرح بعض الوحدة المنهجية للانتظامات كافتراض ضروري لتحليل وتنظيم ما يسمى بالمعلومات التجريبية. إن ما يشكل إمكانية أن يكون علم اللغة مجموعة معرفة منهجية ورسمية هو هذا الافتراض لوحدة اللغة التي لا ينبغي أبدًا الخلط بينها وبين جوهر اللغة أو جوهرها. لكن الوحدة المنهجية للغة لا توجد في مختلف الأنشطة اللغوية حيث أن "العمود الفقري موجود في جسم الحيوان الثديي". [[يمكن للمرء أن يؤكد على ثلاث نقاط - وحدة اللغة تشبه إلى حد كبير "الفكرة" أو التنظيمية الكانطية الإيجابية التي تجعل الدراسة التجريبية للغة ممكنة؛ ولذلك فإن وحدة اللغة لا تعطى أبدًا في "التجربة"؛ وبالتالي، فإن فكرة الجوهر العالمي للغة لن يتم الحصول عليها أبدًا من خلال استخلاص البيانات التجريبية المتراكمة حول العدد المتزايد من لغات معينة. ومن ثم، فمن المضلل القول بأن علم اللغة يكتشف ويحدد وحدة لغة محلية أو وطنية معينة بعد فحص البيانات. على العكس من ذلك، فإن فرض مثل هذه الوحدة اللغوية الخاصة هو الشرط الضروري لإمكانية البحث اللغوي. وهذا يعني أن وحدة اللغة لا يمكن تمثيلها كمساحة محدودة أو إغلاق. إن استعارة "ضفدع في البئر" ليست بالضرورة غير ذات صلة بالموضوع؛ إنها دقيقة إلى حد ما ومقنعة للغاية في سياقات اليابان المعاصرة حيث يبدو العالم الخارجي مجرد صورة معروضة على الجدران التي أقامتها وسائل الإعلام الوطنية. ومع ذلك، إذا ارتبطت هذه الاستعارة بكليشيهات معرفية نموذجية للأنانية الثقافية، فسيتم تجسيد كل هذه الوحدات، وهذا ما يحدث مع بولاك. وينتج هذا جزئيًا عن عدم قدرته على الحفاظ على الفرق بين فئة التحليل وموضوع التحليل. ولكن الأهم من ذلك هو أن هذا يبدو نتيجة للافتقار العام إلى النقد النظري للحداثة. على سبيل المثال، يتم استخدام الوحدات الثلاث للغة اليابانية والثقافة اليابانية والأمة اليابانية بشكل متكرر بشكل متبادل تقريبًا. كما لو كان يتبع بإخلاص نماذج التأريخ الياباني  أو الخطاب الأحدث حول التفرد الياباني ، فإن بولاك يعرض الصورة النمطية لليابان المعاصرة في العصور الوسطى والعصور القديمة. من أجل التأكيد على مدى اختلاف اليابانيين عن الصينيين، وإظهار التفاعل الجدلي بين البلدين، كثيرًا ما يلجأ إلى نوع الحجة الدائرية التي يتم من خلالها تحديد الثقافة اليابانية من خلال الإشارة إلى هوية اللغة اليابانية؛ ومن ثم يتم التعرف على اللغة اليابانية من خلال الإشارة إلى الهوية الوطنية للشعب؛ وأخيرًا يتم التعرف على الشعب الياباني من خلال تراثه الثقافي واللغوي. ما لا يراه بولاك هو أنه لا يوجد أساس منطقي تتوافق عليه الفئات الثلاث مع بعضها البعض في مرجعياتها. وكما قلت في مكان آخر، في القرن الثامن عشر ظهرت إلى الوجود وحدات الثقافة واللغة والعرق اليابانية كما يتم تصورها اليوم. وبهذا المعنى، ولد اليابانيون في القرن الثامن عشر. انظر ساكاي، أصوات الماضي. فقط في التاريخ الحديث تم تأسيس الوحدة المفترضة للثقافة اليابانية. وهو لا يدرك أن هذه السلسلة من الحشو هي سمة من سمات التكوين الخطابي المحدد تاريخيا. بالنسبة لبولاك، فإن هذه الوحدات الثلاث هي عالميات عابرة للتاريخ: "كسر المعنى" يؤيد بشكل أكثر تحديدًا الجوهرية الثقافية. إن حجته ترقى إلى مهمة تحديد اليابان باعتبارها دولة خصوصية، يعتمد إحساسها بهويتها دائمًا على الآخر. وبالتالي، فإن تصميم اليابان هذا يعني ضمناً أن اليابان كانت منذ البداية مجتمعاً "طبيعياً"، ولم تشكل نفسها أبداً كأمة "حديثة". ويرى بولاك أنه على الرغم من التباين اللغوي الواضح بين الصين واليابان، فقد تكيف اليابانيون مع الكتابة الصينية، الأمر الذي ولّد قلقاً لا نهاية له بشأن هويتهم.على سبيل المثال، لم يكن ليخطر على بال الصينيين أكثر مما قد يخطر على بالنا نحن أن نجد "مشكلة" في مدى كفاية كتاباتهم الخاصة لتمثيل أفكارهم. ومع ذلك فإن بحثنا يبدأ على وجه التحديد بمشكلة اعتماد النص الصيني في النص الياباني "الأول"، وهي المشكلة التي سوف تصبح نموذجية لكل ما سيأتي بعد ذلك. ويؤكد أن التفرد الياباني يتجلى بشكل أفضل في حقيقة أن اليابان اضطرت إلى استعارة نص أجنبي. من الواضح أن عنوان الكتاب، كسر المعنى، يأتي من هذا الفهم. لكن القارئ سوف يتفاجأ عندما يقرأ ما يلي: “من الواضح أن فكرة “الكسر” في المجال السيميائي للثقافة ليست فريدة من نوعها بالنسبة لليابان؛ ليست السيميائية الحديثة، في نهاية المطاف، موضوعًا مرتبطًا بشكل خاص باليابان. ليجدوا "مشكلة" في مدى كفاية النص الخاص بهم لتمثيل أفكارهم. ففي نهاية المطاف، لا يقتصر المعنى على اليابانيين فحسب، بل يشملنا جميعًا. لكن ألا يؤدي التظاهر بعدم الاعتراف بأن النص غير مناسب للفكر إلى تشكيل إغلاق عرقي؟ ألا يعني الاعتراف بكسر المعنى أنه ليس فقط الكتابة بل الكلام أيضًا خارجي وغير ملائم للفكر، فإن النص دائمًا أجنبي، وبالتالي فهو يخترق الإغلاق المتخيل للوحدة العرقية والثقافية واللغوية؟.

ومن أجل انتقاد الخصوصية اليابانية وربما ما اعتبره بولاك جوهرية ثقافية يابانية، كان عليه أن يبني صورة لليابان لن تتبنى أبدًا الآخرين وتضمهم. وهذا يعني أنه كان عليه أولاً أن يخلق شيئًا يمكنه إلقاء اللوم عليه لاحقًا. لكنه، في هذه العملية، أخطأ في تعريف هذا الشيء الغريب من حيث جوهريته الثقافية. ونتيجة لذلك، تم قبول الجوهرية الثقافية باعتبارها المفردات الأساسية التي تنتمي إلى الموضوع الذي يدرس وليس كخاصية للموضوع المدروس. ويتكرر هذا النوع من الانقلاب في حجة بولاك. يقول بولاك في المقدمة: "أنا مهتم بالتفسيرات اليابانية لما رأوه في الأساس "صينيًا"، وليس تفسيراتنا نحن أو تفسيرات الصينيين أنفسهم". : 3-4. ووفقاً لاستعارة «ضفدع في البئر»، تشكل هذه الحقول الثلاثة، أو الآبار الثلاثة، أفقاً تأويلياً، كما يؤكد بولاك على الطبيعة التأويلية لدراسته. ومع ذلك، فهو يقول في الختام: “أنا معني هنا بعملية جدلية… بحيث تصبح هذه الدراسة أكثر من أي شيء آخر تأويلًا للثقافة اليابانية، دراسة للطرق التي تطور بها التفسير الياباني لأنفسهم وثقافتهم عبر الزمن”. الوقت. هنا يتم اختيار المجال الياباني، ويقول إنه يهتم فقط بجدلية الصينيين واليابانيين من وجهة نظر اليابانيين، لذلك “لم تكن الصين ولا حتى فكرة الصين متورطة بالضرورة في عملها. إنه يتعامل مع الصين فقط بقدر ما يمثلها اليابانيون. ما لا يستطيع فهمه هو الحقيقة، التي بدون الإشارة إليها لن ينجح استعارة الضفدع في البئر، وهي أن الضفدع لا يمكنه أبدًا رؤية بئره على الجدران. بالنسبة للضفدع، لا يمكن رؤية البئر بالكامل. لذلك، لن يعرف أبدًا أنه محصور في مساحة صغيرة؛ فهو لا يدرك أن ما يعتقد أنه الكون بأكمله هو مجرد بئر صغير. ولكي نعرف أن كونه مجرد بئر، لا بد من إسقاط صورة البئر على الجدران. وهكذا بالنسبة للضفدع (باللغة اليابانية)، فإن مجمل البئر (اليابان) غير مرئي بشكل أساسي ويجب التعرف عليه فقط كتمثيل مُسقط على الآبار. فإذا تم التعامل مع الصين باعتبارها مجرد تمثيل، فلابد وأن يتم التعامل مع اليابان بنفس الطريقة تماماً. علاوة على ذلك، إذا لم يكن لدى اليابانيين بعض التمثيل لليابان واحتجازهم أو خضوعهم لها، فلن يتمكنوا حتى من الاعتراف بأنهم يابانيون؛ لن يكونوا قادرين على تعريف أنفسهم باليابان. وكما أن الصين مجرد خيال بالنسبة لليابانيين، فإن اليابان أيضًا خيالية بالنسبة لهم. إذا كان بولاك يرغب في الحديث عن توليف الصين والثقافة اليابانية، فعليه أولاً أن يتحدث عن توليف اليابان في الثقافة اليابانية. وينبغي أن يكون هناك قدر كبير من الجدل بين اليابانيين واليابانيين كما هو الحال بين اليابانيين والصين. إحدى المعاني الضمنية الساخرة لهذه الاستعارة هي أنه لا يمكن لأحد أن يدعي بثقة أنه متحرر من مصير الضفدع. يعتقد الضفدع أنه لا يوجد عالم آخر ومختلف خارج عالمه الصغير. لذا فإن معرفتها بعالمها الصغير من المفترض أن تكون صالحة عالميًا في كل مكان. ولكن كيف يمكن ضمان ألا يكون عالم الذين يضحكون على الضفدع بئراً آخر؟ فهل تختلف اليابان التي يصفها بولاك عن الصين التي تصورها اليابانيون على جدران بئرهم؟.

بمعنى ما، فإن كسر المعنى يطارده شعور بعدم الأمان. إن ما تم القيام به لقمع هذا الشعور بعدم الأمان هو إنشاء موقف لفظي يتحدث منه المؤلف بمصطلحات كونية - موقف موجود في كل مكان ومتعالي يرى من خلاله الأشياء. ومن الطبيعي أن يتم تسجيل كلمات بولاك تلقائيًا كلغة فوقية. لغته تفترض "نحن" الذي كان يرغب في التحدث معه، و"نحن" الخاص به، الموضوع المتحدث في هذه اللغة ما وراء اللغة، يتزامن مع الغرب والولايات المتحدة على وجه الخصوص. وهكذا، مرة أخرى، يفترض الغرب عالميته وتواجده في كل مكان وسط خصوصيته. تفترض حجة بولاك أن التعارض بين النظرية (العالمية) وموضوع النظرية (الخاصة) يتوافق مع التعارض بين الغرب وغير الغرب. وهكذا يتم تشكيل موضوع الخطاب المميز من أجل إظهار المثال الملموس المفترض للخصوصية، والذي يتم على النقيض منه التأكد من عالميتنا. يتم تعريف اليابان على أنها خصوصية محددة ووحدوية من الناحية العالمية: يتم توفير تفرد اليابان وهويتها بقدر ما تبرز اليابان ككائن معين في مجال الغرب. فقط عندما يتم دمجها في الكونية الغربية فإنها تكتسب هويتها الخاصة باعتبارها خصوصية. وبعبارة أخرى، فإن اليابان لا تصبح تتمتع "بذاتها" وتدركها إلا عندما يعترف الغرب بها. ولكن لا ينبغي لنا أن ننسى أن عدداً كبيراً من المفكرين اليابانيين ما زالوا يؤكدون على خصوصية اليابان استناداً إلى افتراض العالمية الغربية على طريقة بولاك. وليس من قبيل الصدفة أن يذكر الخطاب حول التفرد الياباني حالات لا حصر لها من اختلاف اليابان عن الغرب، وبالتالي تعريف هوية اليابان من حيث الانحرافات عن الغرب. إن إصرارها على خصوصية اليابان واختلافها عن الغرب يجسد رغبة ملحة في رؤية الذات من وجهة نظر الآخر. لكن هذا ليس سوى طرح هوية اليابان بمصطلحات غربية، وهو ما يؤدي في المقابل إلى ترسيخ مركزية الغرب باعتباره النقطة المرجعية العالمية. ولهذا السبب، وعلى الرغم من إيماءات انتقاد التفرد الياباني والمركزية العرقية، فإن بولاك في الواقع يحتضن ويؤيد بفارغ الصبر الخصوصية اليابانية والعنصرية الواضحة. وفي واقع الأمر، فإن حجته بأكملها ستنهار دون هذا القبول الصريح للخصوصية. وعلى عكس ما تم الإعلان عنه من قبل الجانبين، فإن العالمية والخصوصية يعززان ويكملان بعضهما البعض؛ إنهم ليسوا في صراع حقيقي أبدًا؛ إنهم بحاجة إلى بعضهم البعض وعليهم أن يسعوا إلى تشكيل علاقة متناظرة ومساندة للطرفين بكل الوسائل لتجنب المواجهة الحوارية التي من شأنها أن تعرض للخطر عوالمهم الأحادية الآمنة والمتناغمة. العالمية والخصوصية يؤيدان عيب بعضهما البعض من أجل إخفاء عيبهما؛ إنهم مرتبطون ارتباطًا وثيقًا ببعضهم البعض في تواطؤهم. وفي هذا الصدد، فإن خصوصية مثل القومية لا يمكن أبدًا أن تكون نقدًا جديًا للعالمية، لأنها شريكة فيها.

العلاقة بين الغرب واللاغرب

ومع ذلك، يبدو أن العلاقة بين الغرب وغير الغرب تتبع الصيغة القديمة والمألوفة للسيد/العبد. وخلال ثلاثينيات القرن العشرين، عندما تمت دراسة "عصر ما بعد الحداثة" ، الذي يشبه إلى حد ما عصر ما بعد الحداثة، على نطاق واسع، كانت إحدى القضايا التي أثارها بعض المثقفين اليابانيين هي الغرب والعلاقة مع غير الغرب في حد ذاتها. عند تقديم تشخيص للعصر، أشار الكثيرون، بما في ذلك الفلاسفة الشباب من مدرسة كيوتو مثل كوياما إيواو وكوساكا ماساكي، إلى العلاقة بين الغرب الأوروبي وغير الغربي غير الأوروبي) باعتبارها المؤشر الأكثر أهمية من العوالم. ولاحظوا أن تغيراً جوهرياً قد حدث في العالم منذ أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. حتى أواخر القرن التاسع عشر، بدا وكأن التاريخ يتحرك بشكل خطي نحو المزيد من توحيد العالم. تم تنظيم الكرة الأرضية بأكملها وفقًا للإطار الفردي الذي سيسمح في النهاية بمركز واحد فقط. بادئ ذي بدء، بدا التاريخ وكأنه عملية لا تنتهي من التوحيد والمركزية مع وجود أوروبا في المركز. ومن ثم، كان من المفهوم، بل ومن المحتم جزئيًا، أن نتصور التاريخ ببساطة باعتباره عملية أوروبية. في هذا المخطط التاريخي، كان يُنظر إلى العالم بأكمله من الأعلى، ويُنظر إليه على أنه غربي، بمعنى أن بقية العالم كان يُنظر إليه على أنه محكوم عليه بالتغريب. في الأساس، كما هو أفضل تمثيل للتاريخانية الهيغلية، "كان تاريخ العالم هو التاريخ الأوروبي". ومع ذلك، في أواخر القرن التاسع عشر، كما يزعم كوياما، بدأ العالم غير الغربي في التحرك نحو استقلاله وتشكيل عالم خاص به. ونتيجة لهذا التحول، فإن ما كان يُنظر إليه حتى الآن على أنه العالم بأكمله قد تبين أنه مجرد عالم حديث، عالم بين عوالم عديدة. هذه الإمكانية للمعرفة التاريخية والتطبيق العملي، المستمدة من التحول التاريخي الأساسي للعالم، كانت تسمى آنذاك "تاريخ العالم". في تاريخ العالم هذا، كان من المفترض أن التغيرات التاريخية لا يمكن فهمها ببساطة دون الرجوع إلى الفئات المكانية المحددة بالفعل: المناخ، والجغرافيا، والعرق، والأمة، والثقافة، وما إلى ذلك. فقط في الإطار الذي وضعته تلك الفئات كان من الممكن فهم التطورات التاريخية وفهم التغييرات المختلفة التي كان من المقرر دمجها في وحدة أكبر من السرد. ما أشار إليه هذا الاعتراف البسيط الذي لا يمكن إنكاره هو أن التاريخ لم يكن زمانيًا أو كرونولوجيًا فحسب، بل مكانيًا وعلائقيًا أيضًا. إن الشرط لإمكانية تصور التاريخ كسلسلة خطية وتطورية من الأحداث يكمن في علاقته التي لم يتم تحديدها بعد مع التواريخ الأخرى، والزمنيات الأخرى المتعايشة. في حين أن التاريخ الأحادي لم يعرف اعتماده الضمني على التواريخ الأخرى واعتقد أنه مستقل وشامل، فإن تاريخ "العالم" تصور نفسه على أنه العلاقات المكانية للتواريخ. لذلك، في تاريخ العالم، لا يمكن للمرء أن يفكر في التاريخ حصريًا بتلك المصطلحات التي تشير فقط إلى نفس التاريخ: لا يمكن للتاريخ الأحادي أن يتعامل مع العالم كما تم فهمه في تاريخ العالم لأن العالم هو في المقام الأول مجال من عدم التجانس والاختلاف. تعدد. إلى أي مدى كان تاريخ العالم عند كوياما قادرًا على مواجهة عدم التجانس والآخرين، وما إذا كان تاريخ العالم سيكون قادرًا على التعرض لهم في عدم تجانسهم واختلافهم أم لا، سيتم فحصه لاحقًا. لكن يجب أن أشير إلى أن فكرة الاختلاف وعدم التجانس هذه تم تعريفها دائمًا من حيث الاختلافات بين الأمم والثقافات والتاريخ، كما لو لم تكن هناك اختلافات وعدم تجانس بين أمة وثقافة وتاريخ واحد. بالنسبة لكوياما، كان التباين والاختلاف في معظم لحظات الاختلافات الدولية.

إن نسيان المسندات المكانية، الذي يكشف عن نفسه كحقيقة التاريخ الأحادي عند ظهور تاريخ العالم، يأتي من ظروف تاريخية معينة. وما لم يتم تحدي العالم التاريخي والثقافي بشكل جدي ويتأثر بعالم آخر، فلن يصل أبدًا إلى الوعي بأن عالمه الخاص لا يمكن أبدًا مساواة العالم بشكل مباشر بالعالم ككل، وسيستمر في التخيل عن نفسه باعتباره ممثلًا وممثلًا للكلية. . إن تاريخ المركزية الأوروبية هو أحد الحالات الأكثر شيوعًا لهذا: فالعالم غير موجود بالنسبة له. لكن كوياما يضيف أيضًا التاريخ الوطني الياباني إلى القائمة. التاريخ الوطني الياباني هو مثال آخر للتاريخ الأحادي، والذي، على الرغم من حقيقة أن اليابان تعرضت للتحدي والتأثر بالتواريخ والثقافات الأخرى، إلا أنها لم تصل بعد إلى معرفة أن التاريخ يكمن في تلك التفاعلات مع الآخرين، بسبب أهميته. وضع الجزيرة (شيماغوني-تيكي جوكين). ما جلبه كوياما إلى الوعي هو حقيقة أن هوية التاريخ تتشكل من خلال ترابطه مع تواريخ أخرى، أشياء أخرى غير نفسه. على وجه التحديد، لأن التاريخ الأحادي لا يعترف بشروط إمكانية هويته الخاصة، فهو يوسع بسذاجة قيمًا معينة إلى ما لا نهاية ويستمر في الإصرار على الصلاحية العالمية لتلك القيم: فهو يسيء فهم اللحظة التي بموجبها يجب المطالبة بعالميته. ويتم تدشين الإصرار على هويتها في نفس الوقت. وهكذا يتم تحويل لحظة الآخر بشكل متعمد من أجل الحفاظ على مركزيتها المفترضة باعتبارها البادئ لعالمية القيم العالمية والخاصة وقابليتها للقياس. ولا شك أن هذا يعني إبادة الآخر في غيريته. ربما من الأفضل تلخيص المهمة التي يعتقد التاريخ الأحادي أنه يتولى مسؤوليتها في العبارة التالية: "إنهم مثلنا تمامًا". بالطبع، يجب أن نتذكر أن هذه العبارة تختلف بالتأكيد عن عبارة أخرى - "نحن مثلهم تمامًا" - والتي لم يتم فيها ضمان مركزيةنا: أي أن الدونية في قوتنا تم تأسيسها بدلاً من ذلك. التفوق، ولكن هذه تشكل زوجا التكميلي. لقد عمل التاريخ الأحادي في خدمة هيمنة محددة تاريخياً، وهي شكل من الهيمنة لم يكف عن أن يكون مضطرباً في تأثيره حتى اليوم. ومع ذلك، رأى كوياما وحاول اغتنام نقطة تحول في تطور التاريخ الأحادي. وأصر على أن تاريخًا آخر، تاريخ العالم، الذي يعترف بتواريخ أخرى، على وشك الظهور. وهذا الظهور يجب أن يمثل تغييرا جوهريا في العلاقة بين موضوع التاريخ وموضوعاته الأخرى؛ يجب أن يشير إلى أن التاريخ الأحادي الذي حُرم فيه الآخرون من الاعتراف بهم لم يعد ممكنًا. وفي هذا التاريخ الجديد، سيكون تعدد التواريخ والتفاعل فيما بينها هو المبدأ. ومن ثم، يجب دمج المصطلحات المكانية الضرورية في التاريخ الذي يجب تفسيره على أنه توليفة من الزمان والمكان، ويتم تدويله. إن ما يدعو إليه كوياما قد يبدو وكأنه تاريخ تعددي حقيقي وليس تاريخًا خطيًا فرديًا، وإذا صدق المرء كل ما قيل، فإن هذا الانتقال من التاريخ الأحادي إلى تاريخ العالم يجب أن يمثل تغييرًا تاريخيًا جذريًا يؤدي إلى قوة مختلفة. ترتيب يتم من خلاله التعبير عن الخصائص الثقافية والوطنية والتاريخية بشكل كامل. عندها لن يتم التوسط في جميع العوالم الثقافية من خلال ما أسماه كوساكا ماساكي “الكليات الوجودية” ولكن من خلال الكليات “) وإذا كان الأمر كذلك، فإن المرء سيتصور ما بعد العصر الحديث، وهو الجانب الآخر من الفجوة التاريخية التي من شأنها أن تسمح للمرء بتحديد حدود الخطاب الحديث – باختصار، ما بعد الحداثة الحقيقية. في هذا السياق، من الجدير بالذكر أنه بالنسبة لكوياما وكذلك كوساكا، فإن وحدة موضوع التاريخ، التاريخ التعددي، تعادل بشكل لا لبس فيه وحدة الدولة القومية. ومع ذلك فإنهم يؤكدون على أن الدولة القومية لا تتوافق بشكل مباشر مع عرق أو شعب. فالدولة بالنسبة لهم هي وجود لذاتها يتعارض مع الدول الأخرى، وهي في هذا الصدد موجودة في "العالم". وبالتالي، لا يتم تشبيه الدولة بـ "كيانات" أخرى مثل العرق أو الأمة أو العشيرة أو الأسرة على وجه التحديد لأنها يجب أن تتوسط علاقاتها مع الدول الأخرى وبالتالي تكون عاكسة لذاتها - أي ذات. ومن ناحية أخرى، تشير الأمة إلى مجتمع متجذر في الطبيعة، مجتمع يولد فيه الناس ويموتون. والعبودية التي تحافظ على تماسك أعضائها هي عبودية الدم والإنجاب والأرض، وهي طبيعية بمعنى أن الرابطة بين الأم والطفل طبيعية. يُصدر كوياما تحذيرًا هنا: إن الأمة كمجتمع طبيعي لا يمكن أبدًا أن تكون موضوعًا للتاريخ لأنها لا تتوسطها المسلمات. إن المجتمع الطبيعي يشير إليه كوساكا باسم "الطبقة التحتية" ليس موضوعًا في حد ذاته، لأنه لم يتم عقلنته بعد. يجب أن تمثل الدولة المجتمع الطبيعي؛ فقط من خلال الدولة، يتم تعريف المجتمع الطبيعي على أنه الأمة في حد ذاته. وفقط من خلال هذا التمثيل لنفسها تصبح الأمة تاريخية وتولد ثقافتها الخاصة، وعالمًا تاريخيًا خاصًا بها. في هذه المرحلة، تشكل الأمة تاريخًا أو عالمًا تاريخيًا خاصًا بها وتكون الدولة موضوعًا لها.وبينما يرفض كوياما الفلسفة الهيغلية باعتبارها امتدادًا للتاريخ الأحادي، فإنه يتبع البناء الهيغلي بصرامة. بقبوله جميع المقدمات "الحديثة"، يحاول كوياما تغيير وجهة نظرهم التاريخية فقط. ومن خلال تقديم تاريخ العالم التعددي ومن ثم ادعاء تجاوز الحداثة، فهو يؤيد كل ما اكتسبته الدولة اليابانية تقريبًا تحت اسم التحديث. يبدو أن نقد الغرب والحداثة المعبر عنه في إدانته للتاريخ الأحادي يكشف حقيقة أن الخطاب المناهض للحداثة برمته هو في الواقع غطاء لتأييد غير مبدئي لأي شيء حديث عندما يتعامل كوساكا وكوياما مع القضايا المتعلقة بالحداثة. والتي يعتبر انتقاد الغرب فيها أكثر إلحاحًا - وتتعلق هذه القضايا بالمواقف الصينية اليابانية خلال ثلاثينيات وأوائل الأربعينيات. وفي محادثة مائدة مستديرة عقدت في نوفمبر/تشرين الثاني من عام 1941، أشار كوساكا وكوياما وآخرون إلى العلاقة بين التطور التاريخي وأخلاق الأمة. كوياما: موضوع الطاقة الأخلاقية يجب أن يكون في الأمة... الأمة هي مفتاح كل مشكلة. فالطاقة الأخلاقية لا علاقة لها بالأخلاق الفردية أو الشخصية، أو بنقاء الدم. إن الأمة، ثقافيا وسياسيا، هي مركز الطاقة الأخلاقية. كوساكا: هذا صحيح. القوم في حد ذاته لا معنى له. عندما يكتسب القوم الذاتية ، ويتحول بالضرورة إلى قوم قومي. القوم الذين ليس لديهم ذاتية أو تقرير مصير، أي القوم الذين لم يحولوا أنفسهم إلى أمة ، لا حول لهم ولا قوة. على سبيل المثال، لم يتمكن شعب مثل الآينو من الحصول على الاستقلال، وتم استيعابه في نهاية المطاف في قوم آخرين [تم تحويلهم إلى أمة. وأتساءل عما إذا كان اليهود سوف يتبعون نفس المصير. أعتقد أن موضوع تاريخ العالم يجب أن يكون قوميًا بهذا المعنى. يصعب على المرء أن يميز أي فرق بين هذا الفهم للذاتية الحديثة وفهم الديالكتيك الهيغلي. أولا وقبل كل شيء، يجب على الأمة الحديثة أن تكون تجسيدا لإرادة تقرير المصير. وهذا يعني أن موضوع الأمة هو، في أي وقت، تقرير المصير (تحديد الذات على هذا النحو) والذات المحددة (الذات التي تحدد نفسها). وعلى الأمة الحديثة أن تخرج عن نفسها حتى تعي ذاتها وتحقق إرادتها. فهي إذن، بلا استثناء، أمة تمثل نفسها في الدولة؛ إنه تركيب الشعب (غير العقلاني) والدولة (العقلانية). الأمة هي السبب المتجسد في الفردية (القوم)، بحيث لا يمكن للأمة أن تتطابق مع القوم على الفور. لكي يتحول الشعب إلى أمة، يجب أن يخضع الشعب للوساطة السلبية من قبل قوم آخرين؛ أي أنه يجب على القوم الأقوى أن يقهروا ويخضعوا القوم الأضعف من أجل تشكيل الأمة. وتصبح هشاشة خطابهم المناهض للحداثة أكثر وضوحا عندما تتم مناقشة تاريخ العالم التعددي في سياق الوضع التاريخي المعاصر. وفي محاضرة أخرى على مائدة مستديرة بعنوان ""الأخلاق والتاريخ في مجال الرخاء المشترك الكبير في شرق آسيا" والتي عقدت بعد حوالي ثلاثة أشهر من الجلسة السابقة مع نفس المشاركين، ربطوا بشكل مباشر قضية تاريخ الصين. العلاقة اليابانية. الحرب الصينية اليابانية تنطوي على أشياء كثيرة وهي معقدة للغاية. ولكن العامل الأخير الذي يحدد النتيجة لابد أن يكون السؤال "أي الأخلاق هي الأفضل، الأخلاق اليابانية أم الصينية؟" وبطبيعة الحال، فإن المناورات السياسية والثقافية مهمة للغاية. ومع ذلك، ربما يكون موقفنا الأخلاقي تجاه الصينيين أكثر أهمية. يجب أن نفكر في تدابير مثل هذه: يجب أن نرسل العديد من الأشخاص المتميزين أخلاقياً إلى هناك لإظهار طاقتنا الأخلاقية حتى يتم إقناع الناس هناك بإقناع أنفسهم [بتفوقنا الأخلاقي. إن الحرب الصينية اليابانية هي أيضاً حرب أخلاقية. والآن بعد أن دخلنا الحرب الآسيوية الكبرى، أصبحت الحرب الآن أكبر حجمًا بكثير، وهي على وجه التحديد حرب بين الأخلاق الشرقية والأخلاق الغربية. اسمحوا لي أن أطرح الأمر بشكل مختلف، السؤال هو ما هي الأخلاق التي ستلعب دورًا أكثر أهمية في تاريخ العالم في المستقبل. ومن المدهش أنهم ما زالوا قادرين على الحديث ليس فقط عن أخلاق الأمة اليابانية، بل وأيضاً عن تفوقها على الأمة الصينية في تلك المرحلة. عند تخيل الجو الوطني السائد في تلك الفترة التي ألقيت فيها هذه التصريحات، يفضل المرء الامتناع عن التساؤل عما إذا كان كوساكا يمزح أم لا. ومع ذلك، فمن الجدير بالذكر على الأقل أن العلاقة بين الأخلاق اليابانية والصينية موضوعة في نوع من الجدلية. يبدو كوساكا واثقًا من أن تفوق الأخلاق اليابانية سوف يتم إثباته في النهاية كما لو أن التفوق العسكري الياباني قد ضمن الأمر برمته. بالنسبة لكوساكا، تتضمن العملية التاريخية سلسلة من الصراعات الحتمية التي يتم فيها الحكم على أخلاق أمة ما مقابل أخلاق أمة أخرى. ومن ثم فإن الحادث الذي وقع في الصين (الحرب الصينية اليابانية) هو حرب أخلاقية، والحرب على المحيط الهادئ هي أيضًا حرب ستقرر التفوق الأخلاقي للشرق أو الغرب في ضوء الأخلاق النهائية للكلية – ذلك هو، البشرية جمعاء. وبهذا المعنى، فإن التاريخ كما يتصوره هو تاريخ التطور الأخلاقي نحو إرساء الأخلاق للإنسانية، نحو التحرر النهائي للبشرية. على الرغم من الإدانة المتكررة لمصطلح "الإنسانية"، فإن كوساكا غير قادر أبدًا على مقاومة إغراء تبرير الوضع الراهن من خلال النزعة الإنسانية. وبعبارة أخرى، فإن نقده للإنسانية والحداثة هو في الواقع احتفال مقنع بهما. وبصرف النظر عن الغرور المذهل المعبر عنه في هذا المقطع، هناك تكوين نظري يتناقض بوضوح مع مقدمات تاريخ العالم التعددي. إن تصور العلاقة بين الصين واليابان من حيث حرب الأخلاق الصينية واليابانية هو افتراض وجود علاقة جدلية بين الأخلاقين. وهذا يعني أن الأخلاق اليابانية، في الخيال المتفائل، سوف تثبت في نهاية المطاف عالميتها وخصوصيتها للأخلاق الصينية. قال كوياما، "[إن الصينيين لديهم إحساس شخصي بمركزيتهم الصينية ولكن ليس لديهم وعي موضوعي بـ"العالم"....بينما هناك أخلاقية في الصين، هناك طاقة أخلاقية في اليابان.". إن ما نراه هنا هو أبشع جانب من جوانب العالمية، ولا ينبغي لنا أن ننسى أن هذا هو في نهاية المطاف حقيقة "تعددية" كوياما. لم يكن انتصار اليابان على الصين مفترضًا ولا جدال فيه فحسب، بل كان التفوق الأخلاقي الياباني مفترضًا أيضًا؛ وكان من المعتقد أن التفوق العسكري المؤقت لليابان (الذي زيفته وسائل الإعلام الوطنية) يضمن الحق في التحدث بطريقة متعالية. إذا استمرت هذه الحركة الجدلية بين الأخلاق العالمية والخاصة كما تم تصورها، فإنها ستقضي في النهاية على التعايش التعددي للعديد من التواريخ والتقاليد التي تم الدفاع عنها بحماس في نقد التاريخ الأحادي. ضمن مخطط زوج العالمية والخصوصية، سيتم تنظيم الموضوعات التعددية تدريجيًا حيث تخضع العديد من الخصوصيات لمركز واحد للعالمية. فكيف يمكن للمرء إذن أن يتجنب التاريخ الأحادي البغيض؟ لأن تاريخ العالم لن يكون مختلفًا عن تاريخ التقدم نحو السيطرة الكاملة لمركز واحد. ورأى كوياما وكوساكا أن من حقهما أن يتهما الصينيين بافتقارهم إلى الحس التاريخي العالمي، وبوقاحتهم، وأخيراً بسبب خصوصيتهم؛ لقد شعروا بأنه يحق لهم القيام بذلك لأنهم اعتقدوا أنهم يتحدثون من موقع العالمية.

يثبت تاريخ العالم التعددي أنه نسخة أخرى من التاريخ الأحادي. لا أعرف كيف يمكن للمرء أن يتجنب هذا الاستنتاج عندما يتم مساواة موضوعات تاريخ العالم بالأمم. كيف يمكن للمرء أن يطرح نقدًا فعالًا للحداثة عندما يؤكد ويمدح الهوية الوطنية كقاعدة وحيدة للممارسة التاريخية؟ وكان نقد هؤلاء المفكرين للحداثة في أفضل الأحوال مجرد غطاء من معاداة الإمبريالية تم بموجبه تأييد الحداثة اليابانية (بما في ذلك العواقب الحتمية للدافع التوسعي) بشكل علني. ما أزعجهم في التاريخ الرهباني لم يكن حقيقة أن الكثيرين تعرضوا للقمع والحرمان من الشعور باحترام الذات في العالم بسبب ترتيبه الأوروبي. ما كانوا يعارضونه هو حقيقة أنه في هذا الترتيب الأوروبي المركزي للعالم، حدث استبعاد الوحدة المفترضة لليابانيين من المركز. لقد أرادوا تغيير العالم بحيث يحتل اليابانيون موقع المركز والذات التي تحدد الخصوصيات الأخرى بمصطلحاتها العالمية الخاصة. ومن أجل تحقيق هذا الهدف، فإنهم يوافقون على أي شيء غربي بشرط أن يتوافق مع بنية الدولة القومية الحديثة. وبعيداً عن كونهم تصميماً مناهضاً للغرب، فإن ما حفزهم كان الرغبة في متابعة طريق التحديث. وبقدر ما تعتبر المركزية والتجانس جزءًا لا يتجزأ من التحديث، فإن فلسفتهم في تاريخ العالم توضح بشكل متناقض حتمية الحرب من خلال إظهار استحالة التعايش خارج الغرب. وحتى في خصوصيتها، كانت اليابان متورطة بالفعل في الغرب في كل مكان، بحيث لا يمكن النظر إلى اليابان تاريخياً أو جيوسياسياً على أنها خارج الغرب. وهذا يعني أنه من أجل انتقاد الغرب فيما يتعلق باليابان، يتعين على المرء بالضرورة أن يبدأ بانتقاد اليابان. وعلى نحو مماثل، فإن انتقاد اليابان يستلزم بالضرورة النقد الراديكالي للغرب. وبقدر ما يحاول المرء أن يتحدث من موقفنا، الوحدة المفترضة إما للغرب أو اليابان، فلن يتمكن المرء أبدًا من الهروب من هيمنة زوج العالمية والخصوصية: لن يكون المرء فعالًا أبدًا في النقد بغض النظر عن مدى تطرفه. الموقف الذي يمكن للمرء أن يضعه. بعد هزيمة اليابان في عام 1945، كان تاكيوشي يوشيمي واحداً من هؤلاء المثقفين القلائل الذين انخرطوا في الفحص الجاد للأخلاق اليابانية في علاقتها بالصين، واعترفوا علناً بأن الحرب التي خسرتها اليابان للتو كانت حرباً بين الأخلاق الصينية واليابانية. لقد أظهر ببراعة حتمية هزيمة اليابان على أسس اجتماعية واقتصادية وأخلاقية. ومع ذلك، كان تاكيوتشي أيضًا من القلائل الذين رفضوا تجاهل شرعية معينة فيما دفع الكثيرين، بما في ذلك فلاسفة تاريخ العالم، إلى خطاب التعددية، على الرغم من أنه كان خلال الحرب من بين أولئك الذين احتقروا واحتقروا رفض فكرة "مجال الرخاء المشترك الكبير لشرق آسيا" الذي دعا إليه أشخاص مثل فلاسفة تاريخ العالم. لقد حاول بكل الوسائل الحفاظ على الاهتمام الفكري بمشكلة الهيمنة الغربية، والتي لم تختف بالطبع بهزيمة اليابان. وبطريقة مشابهة لتعريف كوياما للتاريخ الأحادي، يلفت تاكيوتشي الانتباه إلى الطبيعة غير الطوعية للحداثة بالنسبة لغير الغرب. وهنا أيضا، يجب أن لا يدل مصطلح "الحداثة" على مفهوم زماني أو زمني فحسب، بل أيضا على مفهوم مكاني، بمعنى أهمية الحداثة بالنسبة للعلاقة المكانية بين غير الغرب والغرب. إن الحداثة بالنسبة للشرق، بحسب تاكيوتشي، هي في المقام الأول خضوعه لسيطرة الغرب السياسية والعسكرية والاقتصادية. لم يولد الشرق الحديث إلا عندما تعرض للغزو والهزيمة والاستغلال من قبل الغرب؛ أي أن الشرق لم يدخل العصر الحديث إلا عندما أصبح هدفًا للغرب. وعلى هذا فإن حقيقة الحداثة بالنسبة لغير الغرب تتلخص في رد فعلها على الغرب: ويصر تاكيوشي على أن رد فعلها يجب أن يكون كذلك على وجه التحديد بسبب الطريقة التي تتشكل بها الحداثة فيما يتصل بالإشكالية المتعلقة بالهوية الذاتية للغرب. الحداثة هي الاعتراف بأوروبا لذاتها، والاعتراف بذات أوروبا الحديثة باعتبارها متميزة عن ذاتها الإقطاعية، وهو الاعتراف الذي لم يكن ممكنا إلا في عملية تاريخية محددة حررت فيها أوروبا نفسها من الإقطاع (وتميز تحريرها بظهور رأس المال الحر في الاقتصاد، أو تأسيس الشخصية الحديثة كفرد مستقل ومتساوي في العلاقات الإنسانية). إن أوروبا ممكنة فقط في هذا التاريخ، وعلى العكس من ذلك يمكن القول إن التاريخ ممكن فقط في أوروبا. لأن التاريخ ليس شكلاً فارغًا من الزمن. إنه يتألف من حالة أبدية يكافح فيها المرء للتغلب على الصعوبات لكي يصبح بذلك على طبيعته. وبدون ذلك تضيع الذات، ويضيع التاريخ. ولا يمكن للغرب (أوروبا) أن يكون الغرب ما لم يسعى باستمرار إلى تحويل نفسه؛ الغرب ليس كذلك بشكل إيجابي، لكنه كذلك بشكل انعكاسي فقط. لها [رأس المال الأوروبي يرغب في توسيع سوقها؛ المبشرون ملتزمون بالتفويض لتوسيع ملكوت السماوات. ومن خلال التوتر المستمر، يسعى الأوروبيون إلى أن يكونوا على طبيعتهم. إن هذا الجهد المتواصل ليكونوا على طبيعتهم يجعل من المستحيل عليهم أن يبقوا على ما هم عليه في أنفسهم. يجب عليهم أن يخاطروا بخسارة أنفسهم لكي يكونوا أنفسهم. إن فكرة التقدم أو التاريخانية ستكون غير مفهومة دون الرجوع إلى هذا البحث المستمر عن الذات، وهي عملية متواصلة من التركيز على الذات.

لقد أدى تحرر الغرب من نفسه حتماً إلى غزوه للشرق. وفي غزوها للشرق، «[واجهت أوروبا التباين، ووضعت نفسها في معارضة له». وفي الوقت نفسه، أدى الغزو الأوروبي إلى ظهور الرأسمالية في الشرق. لا شك أن تأسيس الرأسمالية هناك كان نتيجة لتوسع بقاء الغرب، وكان يُعتقد أنه يشهد على التقدم في تاريخ العالم وانتصار العقل. وبالطبع، ردت المشرق على توسع الغرب وقاومته. ومع ذلك، في هذه المقاومة بالذات، تم دمجها في سيطرة الغرب وخدمت، كلحظة، نحو استكمال تاريخ العالم الأوروبي المركزي والأحادي. في هذا المخطط، كان على الشرق أن يلعب دور الوعي الذاتي الذي فشل في إعادة التأكيد الجدلي المستمر وإعادة النظر في الغرب باعتباره وعيًا ذاتيًا واثقًا من نفسه؛ كما أنه كان بمثابة كائن ضروري في تشكيل الغرب كذات عارفة. وهكذا كان من المتوقع أن يقدم الشرق سلسلة لا نهاية لها من الأشياء الغريبة والمختلفة، والتي من خلالها يتم التأكيد ضمنيًا على ألفة أشياءنا. لقد تشكلت معرفة الأشياء الشرقية على غرار علاقة القوة القائمة بين الغرب وموضوعه الآخر، وكما هو موضح في كتاب الاستشراق لإدوارد سعيد، فقد استمرت في تأكيد وترسيخ تلك العلاقة. ولكن يجب ألا ننسى أن الشرق المعروف بهذه الطريقة لا يمكن تمثيله لنفسه؛ ولا يمكن تمثيله إلا للغرب. فمن ناحية، الغرب محدد، على عكس ما هو غريب عنه؛ فهو يحتاج إلى الآخر من أجل هويته. ومن ناحية أخرى، فإن الغرب موجود في كل مكان وغير مرئي لأنه يفترض أنه شرط لإمكانية الصلاحية العالمية للمعرفة. فقط في الحداثة تكون العالمية ممكنة باعتبارها عالمية غربية في الأساس. لكن تاكيوشي يقول: الشرق يقاوم. ويكرر مصطلح المقاومة . الشرق يقاوم. إنه يزعج هيمنة الغرب. ومن المهم أن نلاحظ أن تحديث الشرق كان مدفوعًا بهذه المقاومة. وهنا يؤكد تاكيوتشي على أنه لو لم يقاوم الشرق لما تم تحديثه أبدًا. وبناء على ذلك، لا ينبغي النظر إلى تحديث الشرق على أنه مجرد تقليد للأشياء الغربية، على الرغم من وجود حالات كانت فيها إرادة المقاومة ضعيفة للغاية، كما هو الحال في تحديث اليابان. وكما يتبين من حقيقة أن الشرق كان عليه أن يقوم بالتحديث ويتبنى أشياء من الغرب لكي يقاومه، فإن تحديث الشرق يشهد على تقدم أو نجاح للغرب، وبالتالي، فهو دائمًا تغريب أو أوروبي. لذا يبدو بالضرورة أن الشرق، حتى في مقاومته، خاضع لنمط التمثيل الذي يهيمن عليه الغرب. ومحاولتها مقاومة الغرب محكوم عليها بالفشل؛ فالشرق لا يستطيع أن يشغل منصب الذات. هل من الممكن إذن تعريف الشرق بأنه ذلك الذي لا يمكن أن يكون ذاتًا أبدًا؟

ولا يعتبر الغرب ولا الشرق مرجعين مباشرين. إن وحدة الغرب تعتمد كليا على الطريقة التي يتم بها التعامل مع المقاومة في تجميع هويتها الذاتية. في هذه المرحلة، يبدو أن تفسير تاكيوتشي لمصطلح المقاومة بدأ يتأرجح بين قراءتين مختلفتين. وفي الوقت نفسه، يشير تاكيوشي إلى أن الشرق لا يتضمن أي قواسم مشتركة داخلية بين الأسماء المندرجة تحته؛ وهي تتراوح من مناطق في الشرق الأوسط إلى تلك الموجودة في الشرق الأقصى. ولا يكاد المرء يجد أي شيء ديني أو لغوي أو ثقافي مشترك بين تلك المناطق المتنوعة. فالشرق ليس وحدة ثقافية أو دينية أو لغوية، ولا عالما موحدا. فمبدأ هويتها يقع خارج نفسها؛ وما يمنحه بعض الشعور الغامض بالهوية هو أن الشرق هو ما يستبعده الغرب ويشكله في خدمة تقدمه التاريخي. فالشرق منذ البداية ظل للغرب. ولو لم يكن الغرب موجودا، لما كان الشرق موجودا أيضا. ووفقا لتاكيوتشي، هذا هو التعريف الأساسي للحداثة. بالنسبة لغير الغرب، تعني الحداثة، قبل كل شيء، حالة الحرمان من ذاتيتها. فهل يتعين على غير الغرب إذن أن يكتسب ذاتيته الخاصة؟ إجابته تحمل نوعاً من الغموض الذي يميز حجته بأكملها. "لأنه لا توجد مقاومة، أي أنه لا توجد رغبة في الحفاظ على الذات (الذات نفسها غير موجودة)." وغياب المقاومة يعني أن اليابان ليست شرقية. ولكن في الوقت نفسه فإن غياب الرغبة في صيانة الذات (اللاذات) يعني أن اليابان ليست أوروبية. وهذا يعني أن اليابان لا شيء. يقول تاكيوتشي "اليابان لا شيء". ولكن هل اليابان دولة غامضة وغير متبلورة حقاً، ومن دون أي ميل نحو التركيز على الذات؟ ولأن اليابان لا ترغب في أن تكون نفسها، أو أن تضع نفسها من جديد، فإنها تفشل في أن تكون نفسها، كما تفشل في أن تكون مثل الغرب. إن إدانته لليابان المعاصرة تجعل الأمر يبدو كما لو أن اليابان لم يكن لديها أي تمثيل لنفسها؛ وكأن لم تكن هناك دولة تفرض الشعور القومي على من يعيشون في المنطقة؛ وكأن من يعيشون في المنطقة لا يتماهون مع الأمة؛ كما لو أن الأمة المسماة اليابان كانت موجودة منذ آلاف السنين كمجتمع طبيعي فقط. اليابان دولة حديثة. وعلى وجه التحديد، في إطار جهودهم للحفاظ على أنفسهم، نظم الناس في الأراضي اليابانية أنفسهم كأمة ومثلوا أنفسهم في حالة تلك الأمة. كيف يمكن لأمة لا تشعر بالهوية أن تشن حرباً استمرت أكثر من خمسة عشر عاماً، وأسفرت عن قدر هائل من الدمار البشري والاقتصادي؟ ويبدو أن تاكيوتشي وقع في فخ الاقتران التاريخي الجيوسياسي بين ما قبل الحداثة والحداثة، والذي بموجبه ما دام الغرب حديثاً فإن اليابان لابد أن تكون ما قبل الحداثة أو على الأقل غير حداثة. وبدلا من تحليل اقتران الغرب وغير الغربي الذي يستبعده الغرب، يفترض تاكيوتشي صحة هذا الاقتران في الحديث عن اليابان. ويبدو أن هذا الأمر مستمد من اقتناع تاكيوشي بأن التصدي للعدوان الغربي يستلزم من غير الغرب تشكيل دول. ومن ثم فإن ما هو غير متجانس بالنسبة للغرب يمكن تنظيمه في نوع من المقاومة المتجانسة ضد الغرب، ولكن داخل الأمة يجب أن يسود التجانس. وبدون بناء ما أسماه هيغل "المجال المتجانس العالمي"، ستكون الأمة مستحيلة. لذلك، سواء كنت ترغب في ذلك أم لا، فإن عملية التحديث في تشكيل الأمة بأكملها يجب أن تستلزم تبعية عدم التجانس في الداخل. ألن يعيد إنتاج نفس النوع من العلاقة بين الأمة ككل والعناصر غير المتجانسة فيها كتلك التي بين الغرب واللاغرب؟

وبقدر ما يفقد تاكيوتشي إيمانه بالتحرر العالمي للبشرية، فمن المؤكد أنه من أشد المدافعين عن الحداثة. ولذلك فهو يعتقد أن تاريخ العالم الأحادي هو، بعد كل شيء، حتمية، وبالتالي، فإن التحرر العالمي لن يتحقق عن طريق الغرب بل عن طريق الشرق. ويقول إن الموضوع الحقيقي في التاريخ هو الشرق. وفي هذه الأثناء، علينا أن نتحمل إزالة التباين من أجل بناء الأمة، موضوع التاريخ. من المضلل القول بأن تاكيوتشي مناهض للحداثة؛ فهو يرفض جوانب محدودة فقط من التحديث.في المقابل، يمكن للمرء أن يرصد خيطاً يوحي بقراءة مختلفة لمصطلحه المقاومة. بالنسبة للشرق، من المفترض أن لا تساهم المقاومة أبدًا في تشكيل هويته الذاتية. هنا، يهتم تاكيوتشي بشيء أساسي لمشكلة الحداثة والغرب برمتها.

لا أعرف ما هي المقاومة. لا أستطيع منطقياً أن أتابع معنى المقاومة… أخشى الاعتقاد العقلاني بأن كل شيء يمكن إحضاره إلى الوجود. إنني أخشى من ضغط الإرادة غير العقلانية التي تكمن وراء الاعتقاد العقلاني. وبالنسبة لي يبدو أن هذا هو [جوهر أوروبا. [حتى وقت قريب لاحظت أن هذا الشعور بالخوف يطاردني. عندما أدركت أن العديد من المفكرين والكتاب في اليابان، باستثناء عدد قليل من الشعراء، لم يشعروا بما شعرت به ولم يخافوا من العقلانية، وعندما لاحظت أن ما أنتجوه باسم العقلانية - بما في ذلك المادية - لم يكن كذلك. تبدو وكأنها العقلانية، شعرت بعدم الأمان. ثم صادفت لو شون. لقد رأيت لو شيون يتحمل هذا النوع من الخوف بنفسه... إذا سُئلت "ما هي المقاومة؟"، فإن الإجابة الوحيدة التي أملكها هي "هذا ما تجده في لو شيون".  تأتي المقاومة من خوف عميق الجذور من إرادة تمثيل كل شيء، وهي الإرادة الضرورية للذاتية الحديثة. يجسد لو شيون جهدًا يائسًا لمقاومة الذاتية، ومقاومة الخضوع للذاتية، وأخيرًا مقاومة الخضوع للذات. بالنسبة للو شون، من المستحيل أن يتخذ موقفًا مراقبًا وغير مبالٍ، أي موقف الإنسانية. بالنسبة للأحمق [لو شون نفسه لن يتمكن أبدًا من إنقاذ العبد كما تأمل الإنسانية بسذاجة… العبد عبد على وجه التحديد لأنه يسعى إلى الخلاص. ومن ثم، عندما يستيقظ، سيكون في حالة "لا يوجد طريق يجب اتباعه"، في حالة "أكثر اللحظات إيلامًا في الحياة". سيتعين عليه تجربة حالة الوعي الذاتي بأنه عبد. وعليه أن يتحمل الخوف. بمجرد أن يستسلم ويطلب المساعدة، فإنه سيفقد الوعي الذاتي بوضعه كعبد. بمعنى آخر، حالة "لا طريق يجب اتباعه" هي حالة اليقظة، فإذا كان لا يزال يعتقد أن هناك طريقًا يجب السير عليه، فلا بد أنه يحلم.  ويواصل تاكيوشي يجب على العبد أن يرفض هويته العبودية، لكن في الوقت نفسه، يجب عليه أن يرفض حلم التحرر أيضًا. يجب أن يكون عبدًا لديه أقصى إحساس بوضعه البائس، ويظل في "حالة اليقظة الأكثر إيلامًا في حياته". يجب أن يظل في الحالة التي يرفض فيها الرغبة في أن يكون شخصًا آخر غير ما هو عليه، نظرًا لعدم وجود طريق يمكن اتباعه. هذا هو معنى اليأس الموجود في لو شيون والذي يجعل لو شيون ممكنًا... لا يوجد مكان للإنسانية هنا. والمقاومة قبل كل شيء هي التي تعكر صفو العلاقة التمثيلية المحتملة بين الذات وصورتها. إنه شيء يقاوم تشكيل تلك الهويات التي تخضع الناس لمؤسسات مختلفة. لكن هذا لا يحررهم؛ وهذا لا يؤدي إلى التحرر، لأن الناس غالبا ما يخضعون لأكثر ما يخشونه من خلال كلمات التحرر. ربما ينبغي للمرء أن يتركهم في نومهم بدلاً من "البكاء بصوت عالٍ لإيقاظ عدد قليل من الأشخاص النائمين، مما يجعل هؤلاء القلة التعساء يعانون من عذاب الموت الذي لا رجعة فيه". ولكن إذا كان المرء مصمماً على أن يكون مستيقظاً، فيجب عليه على الأقل أن يقاوم أمله في الذهاب إلى أبعد من ذلك. ويبدو أن ما مكن تاكيوتشي من انتقاد الحداثة يأتي من هذا الشعور بالمقاومة، على الرغم من أن تاكيوتشي يوافق عليه في كثير من الأحيان. وهذا ما يفرقه عن أولئك الذين يتخيلون بسذاجة إمكانية التغلب على الحداثة. وبنفس بادرة التحرر، يقعون جميعا في الفخ الذي نصبته لهم الحداثة. ومع تخلي تاكيوتشي عن الإيديولوجية التحررية، فقد أصبح بوسعه أن ينتقد الحداثة بشكل أكثر فعالية على الرغم من التزامه ببعض القيم الحداثية. إن الشعور بعدم اليقين الذي يثيره مصطلح ما بعد الحداثة قد يشير إلى الانتشار التدريجي لهذه المقاومة. أعتقد أنني أفهم مصطلح "مسرحية" بشكل أفضل عندما أربطه، ربما بشكل غير مبرر، بما رآه تاكيوتشي في لو شيون. في هذه المرحلة فقط يمكن للمرء أن يتحدث عن الأمل، ولكن بتردد، تمامًا كما فعل لو شيون في قصته القصيرة "بيتي القديم". وصول الأمل جعلني أشعر بالخوف فجأة. عندما طلب جون تو المبخرة والشمعدانات، ضحكت عليه بشدة، لاعتقادي أنه لا يزال يعبد الأصنام ولن يخرجها من عقله أبدًا. ومع ذلك، فإن ما أسميه الآن الأمل لم يكن أكثر من مجرد صنم صنعته بنفسي. كان الاختلاف الوحيد هو أن ما كان يرغب فيه كان في متناول اليد، في حين أن ما كنت أرغب فيه لم يكن من السهل تحقيقه.وبينما كنت أغفو، انتشر أمام عيني شريط من شاطئ البحر ذو اللون الأخضر اليشم، وفوق قمر ذهبي مستدير يتدلى من سماء زرقاء عميقة. فكرت: لا يمكن القول بأن الأمل موجود، ولا يمكن القول بعدم وجوده. إنها تمامًا مثل الطرق عبر الأرض. في الواقع لم يكن للأرض أي طرق لتبدأ بها، ولكن عندما يمر العديد من البشر في اتجاه واحد، يتم إنشاء طريق."

***

.................

الرابط

https://www.multitudes.net/Modernity-and-Its-Critique-The

 

"لا يتحوّل الأسياد فجأة إلى عبيد في منعطف طريق، إذا ما التقوا فيه بمن كان أقدر منهم" (نيتشه)

"يمكن للشعب أن يألم لكن الألم هو وقود لقلب النظام القائم طالما كان هذا الأخير يهزئ بـ" إرادة الحياة". (أ. ديسيل)

" إذا انضاف إلى "إرادة الحياة" وإلى الإجماع النقدي حول الوضعية التي توجد فيها هذه الإرادة، وإذا انضاف إلى مبررات الصراع وإلى مشروع النظام الجديد (لأنّ " عالما جديدا ممكن")، الاكتشافُ داخل الصراع ذاته إمكانية إنجاز التحرّر، (...) والتغيير (...) الجزئي أو الجذريّ (وفي هذه الحالة يمكن أن نتحدّث عن ثورة) للنظام السياسيّ القائم، كانت لنا إذن المحدّدات الثلاث لسلطة الشعب، "فرط - الطاقة". " أنريك ديسيل " عشرون أطروحة للسياسيّ".

***

ما من شكّ بأنّ كلّ مقاومة تفترض وجود قوّة قاهرة تمارس إكراها على موضوع ما، أو بتعبير آخر وجود قوّة مسيطرة وموضوع مسيطر عليه، يقاوم هذه القوة المسيطرة. غير أنّ المقاومة بوصفها مواجهة لقوةّ مسيطرة، ليست ممكنة إلاّ من حيث هي بدورها قوّة قادرة على هذه المواجهة. يعني ذلك أنّ المقاومة علاقة قوّة. ولعلّها بهذا المعنى، كما يقول فوكو " علاقة سلطة" أو بالأحرى صراعا من أجل " السلطة": من أجل "السيادة على الذات" بالنسبة إلى الذات المقاومة، ومن أجل السيطرة على الموضوع بالنسبة إلى المهيمن، موضوع المقاومة. إنّ الذات موضوع السيطرة تملك في ذاتها " قوّة ذاتية" تساعدها على " التمرّد" على الذات المهيمنة، أي على " مقاومتها من أجل استعادة ذاتها "موضع الهيمنة". إنّ هذه القوّة الذاتية التي تدفع بالذات إلى مواجهة الآخر" المهيمن" هي ما يمكن أن نسميه " إرادة المقاومة". لكن، ومثلما يبدو فلا معنى للقول بإرادة المقاومة إلاّ بالإقرار بما يمكن أن نسميّه " إرادة السيطرة" بوصفها نقيضا، هو الميل إلى السيطرة على موضوع وسلبه سيادته على ذاته. يبدو إذن أن المقاومة فعل ديناميكي يستمدّ وجوده من مبدأ ذاتي من قوة ذاتية أشبه فيزيائيا بمبدأ " القصور الذاتي"، هي  "إرادة المقاومة". نحن هنا إزاء تفسير "طاقي" للمقاومة بوصفها " طاقة " أو قوّة "فاعلة" بالمعنى النيتشوي أو دافعة أو " دفاعية" بالمعنى الفرويدي. لكنها كقوة هي " فاعلة "ومنفعلة" في ذات الوقت. أو هي فاعلة بموجب "ارتكاسيتها" بالذات، بموجب كونها موضع فعل أو منفعلة، متقبلة لفعل، ومتأثرة به، على نحو يجعل من أثر هذه القوّة المؤثرة دافعا إلى الرفض والتمرّد و" المقاومة". يساعدنا هيجل بنظريته الجدلية، في ما أسماه " جدلية العبد والسيد"، على تمثل المقاومة بهذا المعنى " الجدلي" كونها فعلا وانفعالا في ذات الوقت. ذلك أن العبد، يقاوم " هيمنة السيد" بموجب ما يقوم في ذاته من " ميل إلى رفض الهيمنة " وبموجب ما يلقاه من" استعباد" وما يخلّفه من أثر، يدفعه إلى المواجهة لقوة السيد والدخول في مسار "صراع" معها من أجل استعادة " ذاته المستلبة". فالعبد في نظر هيجل هو " سلبية " تحمل نقيضها، "إيجابية "،هي عبارة عن "قوة " كامنة تجعله يميل إلى رفض " استعباده" وسلبه ذاته. إنّ العبد يقاوم إذن كما يقول فوكو " داخل نظام استعباده " بالذات. تماما كالجسد المستعبد ّ يقاوم استعباده بما يملك من قوّة جسدانية، بقدرته كما يقول فوكو " على التكيف والتطويع وليونته ومرونته...". بيد أن الفرق بين مقاومة العبد للسيد " وما يمكن اعتباره " مقاومة الجسد" هو في كون العبد  "ذاتا" أو وعيا " لذاته" مقابل السيد " وعيا بذاته ولذاته"، أي ذاتا مستعبدة وذاتا حرة، في علاقة " صراع" يحكمه " تناقض" جدلي يدفع إلى " مسار" استعبادي (من جهة السيد)  مقابل مسار تحرّري (من جهة العبد). يمكننا  إذن أن نفهم،  بناء على وجهة النظر الهيجيلية  هنا بأنّ المقاومة صراع وأنها تقوم على تناقض، وأنها كما تقتضي " حركة " أو مسارا أو ميلا إلى السيطرة أو لنقل " إرادة للسيطرة" أو ما يسمّى " إرادة القوّة" لدى ذات تنزع إلى الهيمنة، فإنها تقتضي أيضا حركة ومسارا أو ميلا إلى " التمرّد ورفض " هذه السيطرة، نسميّه هنا "إرادة المقاومة" لدى ذات تنزع إلى " التحرّر" من " وضع " استعبادها". ومن الثابت أيضا أن لا معنى للحديث عن " إرادة للمقاومة " بل حتى "لإرادة للسيطرة " دون وجود " وعي" للذات المقاومة " بوضع استعبادها " أو مسار الهيمنة عليها من ذات " نقيض " أو آخر يتجه إلى سلبها " حريتها"، إلى نفيها " كذات حرة" (من أجل كما يقول هيجل إثبات " حريته " هو). وبالتأكيد فلا معنى للحديث أيضا عن إرادة المقاومة" إلا بوجود " إرادة سيطرة " لذات واعية "برغبتها في " استعباد " الآخر. تجعلنا " المقاومة ":بهذا المعنى إذن، إزاء جدلية " المقاومة والاستعباد"، جدل " التحرر والاستعباد".

لكن هل بالتسليم بالمقاومة أشبه بقوّة كمينة في الكائن البشري (بل في سائر الكائنات) تفسّر صراعه الجدلي مع " قوى استعباده"، ما يفيد بانّ " فعل المقاومة" ضرورة " وجودية وتاريخية؟ كيف إذن نفهم واقع" الخنوع والتبعية وقبول الهيمنة بل والضعف والجبن" لدى الإنسان المستعبد؟ ما الذي يفسّر وجود ما يمكن أن نسمّيه" قابلية الاستعباد"؟3298 ارادة المقاومة

قد يكون من المفيد هنا، لفهم فعل المقاومة في علاقته بالضعف والقوّة أن نعود إلى تحليلات نيشته في كتابه " من وراء الخير والشرّ "، حيث أجاب عن أسئلة أساسيّة، في هذا الباب، صاغها ميشيل هنري في الفصل الثاني من كتابه" فينومينولوجيا الحياة "بما يلي:" "من هم الأقوياء، فيم تتمثّل قوّة الأقوياء؟" و " من هم الضعفاء، فيم يتمثّل الضعف؟"، ما الذي يخوّل للضعفاء التفوّق على الأقوياء، فيم تتمثّل قوّة الضعفاء؟ و، بشكل متلازم: كيف يقهر الضعفاء الأقوياء، ما الذي يخلق ضعف الأقوياء؟". وسنسمح لميشيل هنري أن يقودنا هنا عبر تحليله لوجهة نظر نيشته حول المسألة المطروحة وذلك بغاية البحث عن أساس نظري، فلسفي لفكرة " إرادة المقاومة" لدى "الضعيف" أو "المستضعف". (1)

يقدم ميشيل هنري أجوبة عن الأسئلة المشار إليها  استنادا إلى "نيشته".   فعن السؤال الأوّل أجاب نيتشه وفق ميشيل هنري بأنّ: " الأقوياء أقوياء من حيث هم كذلك (أي أقوياء)، حيث تكون القوّة ماهية الكائن، وهو ما يسمّيه إرادة الاقتدارvolonté de puissance  أو إرادة القوّة."على أن إرادة الاقتدار ليست سوى ماهية الحياة بوصفها محايثة.أوبما ه هي  قوّة: " إنّ إرادة الاقتدار هي بالفعل قوّة. قوّة، هي بأكملها اقتدار وبأكملها قوّة. فـ"الإرادة" التي ترتبط بهذا الاقتدار ليست في الواقع سوى حركته الذاتية، واكتمال ماهيته الخاصّة بواسطتها وهي سنده."(2)

من هنا فإنّ ما يصنع قوة الأقوياء هو قوتهم الذاتية، إرادة الاقتدار بما هي ماهيتهم أو بالأحرى "قوتهم الفعّالة " أي " الحياة " بما تفيضه فيهم ومنهم من قوّة..يقول ميشيل هنري:"، أي قوّة تصنع قوّة الأقوياء، لقد فهمناها: ليست هذه القوّة المعطاة أو تلك، إلى حدّ ما كبيرة، هذا الاقتدار الذي قد يصنع مصيرا، بل الاقتدار الهائل الذي، برفضه كلّ قوّة وكل قدرة في ذاتها، يخوّل لها أن تنمو بذاتها وبالتالي أن تفيض."وعن السؤال عن ضعف الضعفاء يجيب نيشته على لسان هنري بأنّ ضعف الضعفاء لا ينفي وجود القوّة بل يعني أن " القوة " لديها " ارتكاسية" تتقبل قوّة الأقوياء التي هي قوّة " فعالة". يقول ميشل هنري:" فيم يتمثّل ضعف الضعفاء، هذا هو على العكس، ما يمثّل مشكلا: إذ لو كانت إرادة القوّة (الاقتدار) هي ماهية الكائن، ولو كان كلّ ما يوجد ليس كذلك إلاّ بهذا الاقتدار الذي يفيض بذاته، فلن نرى إذن كيف لشيء ما مثل الضعف عامّة أن يظلّ ممكنا. إنّ تفسيرا خارجيا يعني: كل شيء قوّة بلا شكّ، ولكن توجد كميات من هذه القوّة، حينما توجد إحداها في حضور أخرى أكبر، تكون أضعف منها، وتنبثق عن الاختلاف الكمّي للقوى اختلافها الكيفي، الضعف والقوّة - التي لا تصف إلاّ الأقوى. نعبّر أيضا عن هذا التفريق الكيفي بالقول بأنّ القوّة الأضعف التي تتقبّل فعل القوّة الأقوى  تصبح " ارتكاسية" réactive، طالما كان فعلها محدّدا من هذا الفعل الأقوى الذي لا تكفّ عن تقبّله، بينما تظلّ القوّة الأقوى لوحدها  "فعّالة" active واقعيّا، بدقّة وبصفة شاملة".(3) يعني هذا ضعف الضعفاء قوّة " ارتكاسية"، تتقبّل قوة الأقوى، وأنّ الضعيف " قويّ "بدرجة أقلّ قوّة من القويّ بما هو أقوى منه كميا (في درجة القوة) وكيفيا (قوة فعالة). يعني هذا إذن أنّ الضعف لا "يفهم  انطلاقا من تحديد خارجي بل من إمكانيته الداخلية"، بوصفها قوة أقل قوة وقوة إرتكاسية. أي إن ما يختص به الضعف في النهاية هو " قطيعة محايثة الحياة "أو للحياة كمحايثة. وهو ما يعني أنّ الضعف هو "إرادة هدم الذات لذاتها"،يقول ميشيل هنري: " إنّ إرادة الحياة أن لا نكون ذواتنا، وإرادة هدم الذات للذات هو الضعف ذاته  من حيث أنّ هذه الإرادة تصطدم مبدئيا بقوّة أقوى منها، بأكبر قوّة، بقوّة الحياة. كيف أنّ ضعف إرادة أن لا نكون ذواتنا، في العلاقة  الداخلية للحياة بذاتها يتعارض مع قوّة هذه الذات ويمثّل إذن ماهية الضعف، ماهيةَ " غير المرحّب بهم" و"غير الموفّقين"، وهو ما يقوله هذا النصّ:" كيف نتجنّب هذه النظرة المكبوتة للإنسان غير الموفّق منذ البداية، والتي تخون الطريقة التي يكلّم بها مثل هذا الإنسان نفسه- هذه النظرة بكونها تحسّرا:" هل يمكنني أن أكون إنسانا آخر، أتحسّر على هذه النظرة، لكن لا يوجد أمل! أنا من أنا: "كيف يمكنني التخلّص من نفسي؟ مع أني قد ضقت ذرعا بنفسي!  "تلك هي ماهية الضعف". إنّ الضعف هنا أشبه بسوء الفهم  وضعف اليأس عند كريكجارد. إنه "يأس" الإنسان من ذاته وفشل مشروع تدميره لذاته، إرادة هدمه لذاته، بدل قبولها بما هي " إرادة قوةّ "، أي قبول " الحياة "  والإقبال عليها كمحايثة. يقترن هذا الضعف بخجل من الذات واحتقارها. يقول نيتشه:" :" ينمو على أرض احتقار الذات هذه، كمستنقع حقيقي، كل عشب طفيليّ، وكل نبتة سامّة..." (4).

لكن إذا كان الضعف مرّده إمكانية داخلية فهل بعني ذلك استحالة انتصار الضعيف على القويّ؟ كيف يمكن للضعيف أن يتجاوز ضعفه؟

يسلّم نيتشه بإمكانية غلبة الضعفاء على الأقوياء. ويجيب عن سؤال كيف للضعفاء أن يتغلبوا على قوة الأقوياء؟ بأنّه". إذا أمكن للضعف  التغلّب على أكبر قوّة، فذاك لأنّه يحملها في ذاته وهذا طالما أنه موجود وأن يكون مثلَ  أكبر إشارة للضعف،  يشترك مع نفسه في الاقتدار الهائل للحياة: لم تكفّ إرادة تخليص الذات من الحياة، للحظة عن الانتماء إلى الحياة ولا عن  تحمل في ذاتها ماهيتها." وهذا يعني أنّ للضعف قوة كمينة فيه: قوّة التخلص من الحياة وكرهها وعدم الالتزام بتحمّل ذاتها، أي إرادة الاقتدار فيها، خلافا للقويّ. لكن الضعيف يقدر على التغلّب على القويّ لا " بإرادة السيطرة" لأنه يفتقدها، بل " قيميا ّ" بخلق قيم أو مثل عليا تحوّل ضعفه إلى قوّة. يقترح نيشته مثال " القس الزاهد " " الضعيف" ولكنه" الأقوى من الأقوياء". قدّم ميشيل هنري تحليلا مميزا في كتابه "فينومينولوجيا الحياة " لمثال " القس الزاهد" كما قدّمه نيشته، فيقول: " يمسك القس الزاهد في نفسه بالواحدة والأخرى (بالضعف والقوة)، مانحا رؤية ارتباطهما الداخلي. فالقس الزاهد ضعيف، وذلك لأنّه إنسان الوعي البائس، أي إنسان الحياة وقد انقلبت على نفسها. يتميّز عن ضعفاء آخرين  من حيث أنّ (القسّ) هو المُعْتَنِي بمرضهم garde- malade، وبما يملكونه أيضا، ذلك أنّه من المهمّ، لتجنّب عدوى هذا المرض الخطير للحياة، أن يكون الذين هم في صلة بالمرضى، خاصّة مقدمي الرعاية، هم أيضا مرضى. بيد آن القسّ الزاهد قويّ، وأقوى ربّما من الأقوياء: لكن يجب عليه أيضا أن يكون قويّا، سيد نفسه أكثر من الآخرين، سليما فيما يخصّ إرادة القوّة (الاقتدار) لديه. " (5) ذلك أن هذه المَهَّمَة  مدمّرة، وعليه في الآن نفسه، الدفاع عن القطيع ضدّ الأقوياء وضد نفسه. ضدّ الأقوياء، باختراع عبقري لمثل أعلى زهدي يشرّع العداوة، بقلب القيم، وبصنعه أشكالا مختلفة من الضعف، يضمن الخير ومختلف أشكال القوّة، والشرّ، ويضمن بعملية قلب القيم، تملّك وهيمنة الضعفاء على الأقوياء. ضدّ القطيع نفسه: بعد الدفاع عن الضعفاء ضد الأقوياء بتنظيم العداوة، يجب منع أن لا يحطّم انفلات هذا العداوة  بدوره القطيع، ولأجل هذا، توجيه هذا العداوة، وقيادتها والتخفيف منها، وهو ما يفعله هذا السّاحر الكبير: يسمّم و يضمّد الجرح في آن واحد. (6)

إنّ " مثال القس الزاهد" لدى نيشته يسمح لنا  الإقرار مبدئيا بأنّ الضعف يحمل في ذاته " قوّة" وانه بإمكانه التحوّل إلى منتصر حينما يستمدّ الكائن من ضعفه أسباب قوّته  ليكافح من أجل البقاء، وذلك على أساس التمسك " بمثل أعلى زهدي"، مبدأ يتعلق ّ بإرادة البقاء، بالحياة التي تدافع عن وجودها. يقول ميشيل هنري:  "يجد المثل الأعلى الزهدي منبعه في غريزة الدفاع وخلاصَ حياةٍ في طريق الانحلال، حياة تبحث عن البقاء بكلّ الوسائل وتكافح من أجل وجودها؛ إنّه (مثل أعلى) يشير إلى كبح وإرهاق فيزيولوجي جزئي، لا تكفّ قبالته، غرائز الحياة الأكثر عمقا والتي ظلت على حالها عن محاربته باختراع وسائل جديدة".(7). مذاك، ينكشف هذا المثل الأعلى الزهدي نقيضا لما نتخذه أولا: ليست حياة مواجهة للحياة، ضدّ نفسها، بل الجهد المثير للشفقة لهذه الحياة المتلاشية من أجل البقاء:" يشكّل هذا القس الزاهد، هذا العدوّ الظاهر للحياة...، هو بالتحديد، جزءا من قوى كبيرة جدّا  محافظة وتثبيتيّة للحياة"(8). ثمّ أيضا:" فيه وبه تصارع الحياة الموت." ما هو هذا الموت الذي تصارعه الحياة بشغف، يقال هذا أيضا: ليس الموت تحديدا، بل السّقم المميت، المرض الميتافيزيقي للحياة:" إنّ صراع الإنسان مع الموت (وبشكل أدق: مع فقدان طعم الحياة، مع الإرهاق، مع الرغبة في " النهاية. كيف إذن للقوّة الأكبر  أن تنتشر في صلب الحياة وهي بصدد الانحلال لتنقذها،هذا ما فهمناه: من حيث أنّ هذه الحياة تأتي إلى ذاتها في عظم اقتدار محايثتها."(9)

إنّ قيمة التصوّر النيشتوي انطلاقا من تحليل ميشيل هنري لعلاقة "الضعف بالقوّة" قد تقوم في القول بتلازمها أي بكونهما ليسا نقيضين منفصلين لكائنين متقابلين، بل على أنه  تكمن في الضعف قوّة كما في القوة ضعفا. وهذا يعني إمكان " التحوّل" والتغيير أو " الصيرورة" ضمن مسار " الحياة" أو التاريخ. مما يعني أن ضعف الضعيف ليس قدَرًا أو حتمية وبالمثل  تكون قوة القوي، أو بالأحرى أن الحرية، حرية الأقوى ليست نهائية كما أن " استعباد" الضعيف ليس كذلك. بإمكان الضعيف أن يتجاوز ضعفه لو تعلّق " بالحياة" وقاوم " السقم المميت" كما يقول نيشته " المرض الميتافيزيقي للحياة "، مقاومة الحياة، أو بالأحرى " الصراع مع الموت: مع فقدان طعم الحياة، مع الإرهاق ومع الرغبة في النهاية " أو اليأس، أي شحذ " الإرادة" أو بناءها. ولعلّ " مثال القسّ الزاهد" لدى نيشته من حيث انه يعبّر عن هذه الإمكانية، هو  مثال "مميز" يسمح بتأسيس نظري لفكرة " إرادة المقاومة". من حيث أن هذا القسّ الزاهد" هو في الآن نفسه ضعيف وقويّ بل أقوى من القويّ.هو ضعيف باعتباره  يكبح الحياة وغرائزها وهو قويّ لأنه بتعلقه بمثل أعلى زهدي يستمدّ منه قوة " مقاومة القويّ " ليصبح بذلك قويّا. يقدر على رعاية نفسه ورعاية الضعفاء وجعلهم " أقوياء". إن مثال " القس الزاهد" لدى نيتشه  يكشف لنا ارتباط المقاومة للضعف وللقوّة بمثل أعلى أي بمبدأ أو قيمة تقوم عليه وتنبني ما أسميناه هنا " إرادة المقاومة".وهو ما يعني أوّلا أنّ " إرادة المقاومة" ليست معطى بل هي تبنى إن صح التعبير أو تتكوّن نتيجة لوضع " وجودي" (علاقة قوّة بين ضعفاء وأقوياء) وربما أيضا للارتقاء برهان " التجاوز والتحرّر من " الانفعال إلى " المواجهة". إنّ إرادة المقاومة هي إرادة التحرر من ربقة " الاستعباد". وهي بهذا مبدأ لمسار تغيير لوضعية للذات من وضع إلى آخر، من  "وضع الاستعباد" إلى " وضع التحرّر". من هنا يمكن أن نقول أنّ " إرادة المقاومة" هي قوّة الإرادة وليست " إرادة القوّة "بالمعنى النيتشوي.مبدأ " إيتيقي" يقوم مقابل حالة أو وضع للذات يمكن أن نسميه" قابلية الاستعباد" ؛ وذلك تعبيرا عن  أنّ " إرادة المقاومة" تقتضي " إيتيقيا" تجاوز ما في الذات من " قابلية للاستعباد" أي " الاستعداد الكمين في الذات الذي يجعلها تميل إلى قبول الاستعباد.(قبول حالة الضعف) ونعني بذلك انقيادها إلى الخنوع والاستسلام نتيجة لميل طبيعيّ إلى " الكسل والجبن".  يطابق ما أسميناه " قابلية الاستعباد" ما أسماه كانط في فلسفته التنويرية "بحالة القصور" الشبيهة بحالة " الأنعام في الزريبة" وتتطابق " إرادة المقاومة " بحالة  الرشد" التي تكون فيها الذات قادرة على مقاومة الجبن والكسل والجهل والتبعية للآخرين، بـ"استعمالها الذاتي أو الخاص للعقل " أي بتفكيرها الخاص دون وصاية من الآخرين.  بيد أنّ " حالة الرشد"عند كانط إذ توافق " حالة تنوير"، أو بالأحرى " حالة تحرّر" ليست ممكنة إلا بشرط جوهريّ " مبدأ الإرادة" بوصفه مبدأ عقليا وأساسا لحرية الفعل.فالإرادة " خيرة، طيبة " وهي مبدأ لفعل الخير في مجال الأخلاق. وتوافق في دلالتها " القصد" أو "النية" الخيرة التي تشرط الفعل الخيّر. ومن نافلة القول هنا التذكير بأنّ كانط عقلانيّ النزعة يسلم بالإنسان كائن وعي وكائن إرادة. وهو ما يعني أنّ إرادة الفعل، أو بالأحرى " إرادة المقاومة"، بوصفها إرادة " تحرّر"تقترن بالوعي ضرورة. فلا يمكن لذات لا تعي بوضع " استعبادها " أن تطلب التحرّر منه أو تجهد في مقاومته.

ولكن إذا أمكن هنا  التأسيس نظريا (فلسفيا) لفكرة "إرادة المقاومة"، فما هي حدودها على صعيد الممارسة؟ ما هي تجليات " إرادة المقاومة "على صعيد التاريخ؟  ما الذي يولّد "إرادة المقاومة" لدى الأفراد والشعوب؟3299 ارادة المقاومةنتبيّن ممّا سبق أنّ " إرادة المقاومة" بوصفها نزوعا نحو التحرّر، تقابل مبدئيا " إرادة القوّة"، في معنى " إرادة السيطرة" أو النزوع إلى السيطرة. غير أنها تقتضي " قوة الإرادة" ولم لا " إرادة القوة " لا بوصفها نزوعا إلى السيطرة بل رغبة في التحرّر منها. يقوم الاختلاف بين " إرادة القوة " و" إرادة المقاومة" على أساس القصدية أو التوجّه أو الغائية: "إرادة القوة " تطلب الاستعباد والسيطرة والهيمنة والتسلط بينما تطلب "إرادة المقاومة" التحرّر والسلم والتواصل... يفترض هذا أنّ الإرادة لا تعني جبنا " بل " فعالية" ودينامنيكية. وبالفعل، فإنّ الإرادة هي في الأصل " قوّة محرّكة للإنسان" وإذا كان ثمة من اختار الضعف أو " العبودية" فلا يعود ذلك إلاّ لرفضه حسب نيتشه " الحياة" بما هي " إرادة القوّة" أو بالأحرى رفض" المقاومة". وهو ما يعني أنّ الأصل في الحياة أنها قوّة، ومحايثة، وأن الضعف والاستكانة رفض " الذات" " الاحتجاج"، تماما كالحملان (في صورة مجازية لنيتشه) التي ترضى أن يحطّ عليها الجوارح  لتضمن سلامتها رغم أنّها قد تلتهمها. لهذا فإنّ "إرادة المقاومة" رفض للضعف ورغبة في المواجهة. وهي بهذا المعنى تكشف عن " رؤية للعالم": تعلق الذات بعالم الحرية والعدالة ورفض الظلم والاستعباد.، في مواجهة لرؤية نقيض للعالم. إنّ "إرادة المقاومة" إذن ليست معطى بل تبنى وتتكوّن. إنّ " الإرادة" فنّ" كما يقول آلان نصقلها وندرّبها ونبنيها لدى " الطفل المتعلّم" كما لدى الراشد بل لدى الشعوب.

يقول جان بيار ديشود Jean-Pierre Deschodt :" لو تناولنا " الاقتدار puissance " بدلالته المعاصرة، فيمكن لنا أن نفهمه بما هو " البحث في كلّ شيء عن فائض قوّة هدفه التوسّع. وهذا المعنى ذي أصول " شوبنهاورية". فـ"إرادة القوّة" أو بالأحرى "إرادة الاقتدار " تعني إرادة "متعطّشة " إلى القوّة. ولذا فمقابل "هذا التعطّش " تطلب "المقاومة " وبالتالي " إرادة المقاومة" قوّة  لاحتواء أفضل لهذه الحركة التي تهدّد استقلاليتها. فليس لها من خيار سوى تنظيم دفاع فكري، واقتصادي وسياسي، على قدر حيويّتها وقوتها الذاتية" (10).  بهذا المعنى، فإنّ " إرادة القوة أو " إرادة الاقتدار" غير " إرادة المقاومة "، بل هما متقابلين، تقابلا يقوم على أساس أنّ "إرادة المقاومة " تفترض " قوّة الإرادة" لا " إرادة القوّة". وهذا التناقض مبدئيّ تقوم على أساسه " الحرب والسلم بين الشعوب". استخدم كارل شميث  زوجا مفهوميا موازيا للزوج " إرادة القوّة " و " إرادة المقاومة"، وهو الزوج " الصديق /العدوّ" الذي تفسّر فعاليته التوتّر بين الشعوب والذي يولّد النزاعات التي تساهم في التقسيم الترابي. وقد أعاد بيار حسّان وبيار زاركا p. Zarka  النظر في مفهوم الصديق/ العدو باستنباط زوج مفهوميّ آخر:"نحن والآخرون" (بيار حسان) والزوج " حرية استعباد" (بيار زاركا). وهو ما يعني أنّ "إرادة المقاومة" مواجهة "لإرادة القوّة"، أو بالأحرى مواجهة لما يفترض أنه " عدوّ" وهي، أي إرادة المقاومة في المقابل تطلب " الصداقة" أو هي " تطلب الحريّة" في مواجهة من يريد " استعبادها " بالقوّة. وهذا هو المعنى الذي قام عليه تصوّر " المقاومة" بوصفها " حقّا" من حقوق الإنسان في معنى " التشريع لمواجهة الأفراد لاستغلال النفوذ".(الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواطن سنة 1789). غير أنّ هذا الحقّ في المقاومة  يستعمل في سياقات خاصّة، في حال احتلال خارجي للأرض، في حال الاستعمار مثلا. وقد ارتبط هذا الحقّ تاريخيا بما سمّي " بحركات التحرّر" من ربقة الاستعمار، ولا يزال قائما كحقّ بالنسبة إلى " الشعوب التي وقع احتلال أراضيها، أي التي اعتدت عليها قوة خارجية شان ما كان وما يزال لفلسطين المحتلّة. يتعلّق الأمر في هذا الباب " بمقاومة جماعية" وبالتالي بإرادة جماعية للمقاومة. وهو شكل مقاومة مشروعة على صعيد "الحق" وإن كانت تعدّ لدى " المحتلّ" وداعميه ضربا من" الإرهاب".وبالفعل، فإنّ مفهوم "المقاومة " بات اليوم ملتبسا، التباسا ناتج عن، دلالته الأصلية كما أسلفنا، بل عن اقترانه بالتوترات والنزاعات بين الشعوب والجماعات، وعن توظيف سياسي وإيديولوجي لمفهوم "الحق" والعنف...وتجدر الإشارة هنا إلى أن مفاهيم " حقّ المقاومة" و" إرادة المقاومة" تحيلنا مبدئيا إلى سجلّ " أخلاقي" وتستند إلى " مشروعية أخلاقية". ذلك أنّها تستند إلى إيتيقا خاصة، وتستمدّ مشروعيتها من أساس قيمي كوني:  التسليم بأفق إيتيقي كوني هو " الإنساني". منه نستمدّ حقّ الفرد والجماعة في " المقاومة"، مقاومة كل ما يسلبها إنسانيتها. إنّ المقاومة بهذا المعنى هي حركة أو عمل فردي وجماعي يسعى إلى استرداد ألإنسانية المسلوبة، إلى التحرّر ورفض الاستعباد. ذلك أن المقاومة هي رفض وتمرّد بل " وثورة" تستند إلى مبدإ إرادوي وتنشأ عن طواعية، بفعل تجميع القوى والدخول بالتالي في "فعل المقاومة". تستند كل مقاومة بوصفها مسارا " ثوريا" بمعنى " رفضا " إلى " أساس قيمي "، وتتعلّق كما قال نيتشه في شأن " مثال القس الزاهد" (المقاوم ضعفه وضعف الآخرين وبالتالي قوّة " الأسياد") إلى "مثل أعلى". يقول بول ريكور في صدد الثورة وعلاقتها بالقيم:

" ماذا يعني أن نثور؟ هو أن نقول لا، بالتأكيد: لا، لن أتسامح، لم أعد أحتمل أكثر. لكن العبد الذي يثور على السيّد لا ينفيه فحسب، بل يثبت أيضا أنّ له الحقّ؛ تماما كما يقول ذلك "كامي"، دون إدراك كل الاستتباعات الميتافيزيقية:" يوجد في كلّ ثورة، وفي ذات الوقت مع النفور من الدخيل، التحام الإنسان الكامل و الحيني بجزء ما من نفسه" ويضيف:" لا تؤدّي كل قيمة إلى الثورة، ولكن كل تحرّك ثوري يستدعي ضمنيا قيمة". الالتحام والتمسّك، كلمات إيجابية بامتياز. ألا نقول بأنّ موضوع الالتحام، هو بالتحديد ما لا يوجد، بما أن هذا الجزء من الذات الذي يرفعه العبد تجاه السيّد ليس له بالمرّة مكانا في هذا العالم؟ هذا الجزء لا مكان له ضمن المعطى، في الكائن - هكذا، لكن الالتحام الذي يحرّض على الثورة هو شهادة لـ"أنا موجود" من وراء الكائن المعطى، " أنا موجود" مساوٍ بالضبط لـ " أنا أستحقّ" je vaux". يتجّه الالتحام صوب الوجود - القيمة l'existence -valeur، نحو الكرامة، التي ليست افتقارا إلى العالم فحسب، بل جهدا من أجل الوجود؛ فالرغبة في أن " يوجد الآخر" مختزلة ببساطة في " هذا للفعل" ؛ إذن " فـ "مشروع الفعل"le à faire الذي للقيمة والـ" لْيَكُنْ" qu'il soit الذي لوجود الآخرين هما تماما في تبادل.

يبدو لي عندئذ بأنّه لا يمكن لنا أن نأخذ القيمة بما هي مجرّد نقصان، إذا ما كانت الموقف الفاعل لوجود الآخرين بوصفه في تبادل مع موقفي. بالقيمة أتجاوز ذاتي كآخرين. أقبل أن يوجدوا، بغية أن أوجد أنا أيضا، بأن أوجد لا فحسب بوصفي إرادة - حياة vouloir -vivre، بل بوصفي وجودا - قيمة existence - valeur. لن أقول إذن بأنّ القيمة هي نقصان، نقصان للقيمة، افتقار للقيمة. إنّما الأشياء هي التي لا قيمة لها وليست القيم هي التي وجودها ناقص." 11)

المقاومة "ثورة" إذن. وما من مقاومة إذن دون إرادة مقاومة. وما من مقاومة دون " إلتزام" في معنى " اضطلاع بمسؤولية " التحرّر" والدخول في مواجهة صاحب " إرادة السيطرة" أو " القوّة". غير أن المقاومة تاريخيا كحركة أو بالأحرى كمسار تحرّري لا تنشأ إلاّ بعد تحقّق " الوعي " بالحاجة إلى " المقاومة"، وعيا لا ينشأ دفعة واحدة وبشكل فجائي، بل يقتضي مسار تكوّن يرتقي في الانفعال والشعور بالضيم والألم إلى مستوى " الرهان" كما يقول بول ريكور، فيكوّن لدى الفرد أو الجماعة " الحاجة إلى " المواجهة. حينما يبلغ الوضع، وما ينتج عنه من ألم حدّ " لا يطاق" أو حتى " تكتمل الوضعية"،فتصبح " المقاومة قرارا" كما يقول سارتر في "الوجود والعدم":

" يحدث للإنسان، طالما كان في خضمّ الوضعية التاريخية، أن لا يدرك عيوب ونقائص تنظيم سياسي أو اقتصاديّ معيّن، لا لكونه كما نقول بغباء قد " اعتاد الأمر"، بل لأنّه يفهم الوضعية مكتمَلة، وأنه لا يقدر حتى على تخيل إمكان أن تكون على خلاف ما هي عليه. ذلك أنه لابدّ هنا من قلب الرأي السائد والاتفاق على أنّ ديمومة وضعية أو ما تفرضه من معاناة، هو الدافع لتصوّرنا وضعا آخر تجري فيه الأمور على نحو أفضل بالنسبة إلى الجميع؛ بل على العكس، إنّه بدءا من اليوم الذي نقدر فيه على تصوّر وضعا آخر، يقع نور جديد على معاناتنا وعلى آلامنا ونتخذ القرار بكونها غير محتملة. إن عامل 1830 بإمكانه الثورة لو خفضنا الأجور، إذ يتصوّر ييسر وضعية يكون فيها مستوى معيشته البائس أقلّ تدهورا من المستوى الذي يراد فرضه عليه. غير انه لا يتمثّل معاناته بوصفها غير محتملة، لو تكيّف معها، لا خضوعا، بل لأنّه تنقصه الثقافة والوعي الضروريين اللذان يجعلانه يتصوّر وضعية اجتماعية ستختفي فيها معاناته ". (12)

يعني هذا أنّه في غياب الوعي بالحاجة إلى المقاومة لن توجد مقاومة ولا " إرادة للمقاومة". ولا ينشأ هذا الوعي إلاّ حينما تضحى وضعية العيش غير محتملة ولابد من تغييرها إلى وضعية أفضل. وفي هذا الباب، فإنّ وضعية الاحتلال والاستعمار...وضعية محفّزة على " المقاومة" وشرطا لنشأة " وعي" بضرورتها وتولّد "إرادة للمقاومة" لدى الجماعة التي تخضع للاحتلال. ذلك أن وضعية الاحتلال بوصفها " وضعية غير محتملة" (لكونها وضعية لا إنسانية..) تولّد نزاعا بين قوى أو علاقة قوّة بين "إرادة مسيطرة " (إٍرادة قوّة) وبين " إرادة مقاومة" (إرادة تحرّر، قوّة إرادة). لذا غالبا ما يجابه الاحتلال "بقرار المقاومة" الجماعي من أجل التحرّر أو" الاستقلالية " أي استعادة السيادة على " الأرض" والوطن. ويقدّم الاحتلال الصهيوني  صورة واضحة لا لبس فيها على "إرادة السيطرة" على " الأرض" وإرادة استعباد شعب وهو ما يولّد لدى " الفلسطينيين" إرادة مقاومة، تتمثّل في تجميع القوى للدخول في مواجهة للاحتلال الصهيوني الغاصب. وهو ما يفسّر بوضوح أيضا تنامي " القمع" لهذه المقاومة بكلّ الأشكال الوحشية ممّا يجعل المواجهة أو النزاع  على أشدّه بين " إرادة" تقاوم وتصرّ على "المقاومة " وبين إرادة مسيطرة تصرّ على الهيمنة، وعلى إنكار حقّ المقاومة بالنسبة لهذا " الشعب المقاوم". من هنا يسعى المهيمن أو بالأحرى الغاصب للحقّ إلى " سلب إرادة المقاومة" لا بمزيد القمع وحتى الإبادة فحسب بل بطمس ثقافة وتراث وتاريخ أو ذاكرة المقاوِم بل والجهد في تدمير " النواة الإيتيقية" التي تقوم عليها إرادة المقاومة" لديه والتي يستمدّ منها المقاوم" طاقته أو قوّته" في المقاومة. ونعني هنا قيمه ومثله العليا ورصيده الروحي وتاريخه الخ... يجهد المحتلّ غالبا في خلق " حالة نسيان " جماعي بطمس الذاكرة القومية حتى يفقد الشعب المحتلّ أرضه " بوصلته" أي محدّدات وجوده وهويته وخصوصيته وأصالته. حينها تموت لديه إرادة المقاومة ويستسلم للاستعباد. وتتولدّ لديه ما يمكن أن نسميّه قابلية " الاستعباد". يقول ميلان كونديرا:"  للقضاء على شعب، نبدأ بسلب ذاكرته. ونحطّم كتبه وثقافته وتاريخه. ثمّ يعمد آخرون إلى تأليف كتب أخرى، ويمنحونهم ثقافة أخرى ويبتكرون لهم تاريخا آخر. ثمّ يبدأ الشعب في نسيان بطيء لما كان عليه. وينساه كل العالم حوله بأكثر سرعة." (13).

إنّ المقاومة بهذا المعنى تعني تمسك بالوجود والاضطلاع بمسؤولية تحقيق معنى لهذا الوجود. و"إرادة المقاومة" هي إرادة الشعب في امتلاك حريته بوصفه بشرا كامل الإنسانية وجديرا بالحقّ. وأيّ كانت أشكال المقاومة (سلمية ومسلحة الخ...) وأي كانت دوافعها  (ذاتية أو موضوعية...)، فإنها تظلّ تأصيلا للوجود وإثباتا للذات في أفق قيمي: منزلة الإنسان الحرّ. إنّ إرادة المقاومة هي إذن التوسّل بالقوّة لا من أجل السيطرة على الآخرين بل من " التحرّر" وامتلاك السيادة على الذات. إنّ إرادة المقاومة هي " قوّة الإرادة" التي تأبى الاستعباد بكلّ أشكاله.

***

عبد الوهاب البراهمي

......................

هوامش:

1- ميشيل هنري -الفصل الثاني من كتابه" فينومينولوجيا الحياة ""نحن الشرفاء، الخيرون، الجملاء، السعداء ": انظر نيتشه، جينيالوجيا الأخلاق، المقالة الأولى:" الخيرون والأشرار"،، الحسن والسيء"، 10، ترجمة هيلدانبرنت و ج. قراتيان  في الأعمال الكاملة، باريس  قاليمار  7، 1971 ص.234

2- نفس المصدر

3 - نفس المصدر

4 - نفس المصدر

5 - نفس المصدر

6 - نفس المصدر

7 - نفس المصدر

8 - نفس المصدر

9 - نفس المصدر

10-

11- بول ريكور " الحقيقة والتاريخ" ص 396 دار سيراس للنشر1995

12- جون بول سارتر " الوجود والعدم".(1943) الفصل 4 ص 489 " والوجود والفعل:الحرية " قاليمار

13- ميلان كونديرا " مقابلة مع كونديرا 1980- نشر " موقع حكمة " 2020

يُعتبر الفيلسوف اليوناني هيرقليطس أول المؤيدين لأبدية الكون، النظرية التي سلكت طريقها الى الثيولوجيا المسيحية، رغم ان الإنجيل نقل قصة مختلفة. كما في العديد من الافكار اليونانية القديمة، الايمان بعدم وجود بداية للكون اصبح موضوعا شائعا في الفكر الغربي. حتى بعد ان هيمنت المسيحية على الغرب في القرن الرابع الميلادي، استمرت العقيدة بان الكون كان أبديا. السؤال هو كيف وفّق الناس في الغرب بين هذه الفكرة و فكرة " البداية" في سفر التكوين1:1؟

الجواب على هذا السؤال غير واضح تماما. العديد من مفسري الإنجيل أعلنوا ان الله خلق كل شيء في زمن محدد في الماضي (وعادة فقط قبل آلاف السنين). لكن من بين العلماء، الذين كان العديد منهم مؤمنين بالانجيل او انهم تأثروا به، تحولت الرؤية السائدة الى رؤية فيها الكون كان ابديا ولكن دون ان تشمل الارض.

حاليا، العقيدة المهيمنة هي ان الكون فجأة ظهر قبل 13.8 مليار سنة بعد الانفجار العظيم. التحول من الايمان بان الكون كان أبديا الى كون له عمر محدد كان نقلة نوعية. هيرقليطس كان الفيلسوف اليوناني المسؤول الاول عن أصل فكرة الكون الأبدي. هو أعلن عن ذلك صراحة في عباراته التالية:

"هذا العالم، الذي هو ذاته دائما، لم يصنعه أحد من الآلهة او الناس. انه دائما كان، وهو كائن وسوف يكون: نارا حية أبدية، منها ما يشتعل، ومنها ما ينطفيء".

قيل ان أناكسيماندر الذي عاش قبل هيرقليطس بقرن ايضا اعتقد بان الكون أبدي. بالتأكيد لا تُعرف الأسباب التي جعلت اليونانيين القدماء يؤمنون بأبدية الكون. هيرقليطس لم يذكر ذلك، والذين جاؤوا بعده قبلوا بأبدية الكون دون سؤال. يُحتمل هناك سببان لهذا: الاول، ان قدرة آلهة الاغريق القدماء كانت محدودة جدا، هم ليسوا أكثر من رجال خارقين. كانوا غير قادرين على إصدار أوامر الخلق. ثانيا، اليونانيون القدماء ومن خلال دراستهم للكيفية التي يعمل بها العالم من حولهم، لم يستطيعوا رؤية أية إمكانية بان العالم خلق نفسه. اذا لم يوجد هناك منْ خلق الكون، والكون لم يخلق نفسه، عندئذ فان الإمكانية الوحيدة هي ان الكون لم يُخلق ولذلك يجب ان يكون موجودا دائما. المسيحيون آمنوا بقوة بحقيقة انه طبقا لسفر التكوين 1:1-3:2، ان الله خلق كل شيء في البداية، عندئذ تكون فكرة الكون الأبدي قد ماتت في الغرب قبل 15 قرنا.

سؤال أبدية الكون فيما اذا كان العالم له بداية في الزمن ام انه كان موجودا منذ الأزل كان موضع اهتمام الفلاسفة القدماء وثولوجيو القرون الوسطى وفلاسفة القرن الثالث عشر. المشكلة اصبحت اكثر وضوحا في القرن الثالث عشر، عندما اُعيد في الغرب اللاتيني اكتشاف بعض أعمال ارسطو المؤمن بأبدية العالم. هذه الرؤية تعارضت مع رؤية الكنيسة الكاثوليكية بان العالم له بداية في الزمن، ولذلك جرى حظرها بعد صدور القيود على التعاليم الثيولوجية والأرسطية للفترة 1210-1277.

ارسطو

جادل ارسطو في كتابه الفيزياء بان العالم يجب ان يكون وُجد من أبدية، في الكتاب الاول هو جادل بان كل شيء يأتي الى الوجود من خلال طبقة تحتية substratum. لذلك، اذا كانت المادة الاساسية للكون جاءت الى الوجود، فهي جاءت من طبقة تحتية. لكن طبيعة المادة هي بالضبط طبقة تحتية انبثقت منها الاشياء الاخرى. وبالنتيجة، فان المادة الاساسية للكون جاءت الى الوجود فقط من مادة موجودة سلفا تشبه ذاتها بالضبط. ذلك جعل ارسطو يجادل بان المادة يجب ان تكون أبدية.

في الكتاب الثامن، في جداله عن الحركة يؤكد اننا اذا افترضنا بداية مطلقة للحركة، فان الشيء الذي يباشر أول حركة يجب ان يكون اما:

1- جاء الى الوجود وبدأ الحركة، او

2- وُجد بحالة أبدية من السكون قبل ان يبدأ الحركة.

الخيار الاول هو متناقض ذاتيا لأن الشيء لايمكن ان يتحرك قبل ان يأتي الى الوجود، وان عملية المجيء الى الوجود هي ذاتها "حركة"، لذلك فان الحركة الاولى تتطلب حركة قبلها، أي، عملية المجيء الى الوجود. الخيار الثاني ايضا غير مقنع للسببين التاليين:

1- اذا كان العالم بدأ في حالة من السكون، فان ظهور تلك الحالة من السكون سيكون في حد ذاته حركة.

2- اذا كان العالم تغيّر من حالة السكون الى حالة الحركة، فان سبب ذلك التغيير للحركة سيكون هو ذاته حركة.

ولذلك استنتج ارسطو ان الحركة أبدية بالضرورة.

ارسطو جادل ان "الفراغ" الذي هو (مكان لا مادة فيه) مستحيل. لأن الأشياء المادية يمكنها ان تأتي الى الوجود فقط في مكان، أي، تشغل مكانا. لو كان الشيء يأتي من العدم، ذلك يعني ان "المكان الذي يُشغل بما يأتي الى الوجود سيكون سلفا مشغولا بفراغ، بسبب عدم وجود شيء فيه". لكن هذا الفراغ مستحيل، والمادة يجب ان تكون أبدية.(1)

الفيلسوف اليوناني كريتولاس (200-118ق.م) دافع عن عقيدة ارسطو في أبدية العالم. اما الفيلسوف الافلاطوني الجديد بروكلس (412-485 م) طرح 18 برهانا في إثبات أزلية العالم، وذلك في كتابه (حول أبدية العالم)، مستندا على إلوهية الخالق. ابن رشد في كتابه تهافت التهافت دافع عن الابدية ضد الغزالي مناصرا ارسطو. الفيلسوف الايطالي جوردانو برونا (1548-1600) حُكم عليه بالهرطقة من جانب الكنيسة الكاثوليكية ومات حرقا لإعتقاده بالأبدية.

توما الاكويني

اما توما الأكويني فقد جادل ضد الثيولوجيين المحافظين وضد انصار ابن رشد مدّعيا انه لا الأبدية ولا الطبيعة المتناهية للعالم يمكن إثباتها بالجدال المنطقي وحده. هو يرى ان أبدية العالم وخلقه سيكونان متناقضين اذا كان السبب الفعّال يسبق تأثيره في المدة او ان اللاوجود يسبق الوجود في المدة. لكن السبب الفعّال مثل الله ينتج تأثيره فوريا ولايحتاج بالضرورة ان يسبق تأثيره في المدة.

موقف العلم

الكون ربما كان دائما موجودا، ليس له بداية، نظرية علمية جديدة في الجاذبية الكمومية quantum gravity تكشف عن هذا. برونو بونتو Bruno Bento الفيزيائي الذي درس طبيعة الزمن في جامعة ليفربول في المملكة المتحدة، في عمله الجديد، نظرية جديدة في الجاذبية الكمومية سُميت نظرية المجموعة السببية causal set theory يتم فيها تجزئة المكان والزمان الى أجزاء منفصلة من الزمكان. طبقا لهذه النظرية، في مستوى معين، ستكون هناك وحدة أساسية من الزمكان. استعمل بينتو وزملاؤه هذا الاتجاه لإستطلاع بداية الكون حيث وجدوا انه بالإمكان ان لا تكون هناك بداية للكون، وانه دائما وُجد في ماضي لا متناهي ثم تطوّر مؤخرا الى ما سمى الانفجار العظيم Big Bang . هذا العمل ظهر في ورقة نُشرت في 27 سبتمبر 2021 في نشرة قسم العلوم الرياضية في جامعة ليفربول، وفي Imperial college, London . الورقة فحصت "ما اذا كانت هناك بداية في اتجاه المجموعة السببية". ذكر بينتو "انه في الصياغة الاولى للمجموعة السببية والديناميكيات، نمت المجموعة السببية من لا شيء الى الكون الذي نراه اليوم. اما في عملنا هذا، سوف لن يكون هناك انفجار عظيم، لأن المجموعة السببية ستكون لا نهائية في الماضي، وسيكون دائما هناك شيء قبلها".

ينطوي عمل الفريق على ان الكون لم تكن له بداية، اي انه ببساطة موجود دائما. ما يُنظر اليه كانفجار عظيم كان مجرد لحظة معينة في تطور هذه المجموعة السببية الدائمة الوجود، وليس بداية حقيقية. نظرية المجموعة السببية لها انعكاسات هامة على طبيعة الزمن. يقول بينتو "جزء كبير جدا من فلسفة المجموعة السببية هي ان مرور الزمن هو شيء مادي، اي يجب ان لا يُنسب الى نوع من الوهم او الى شيء يحدث داخل ادمغتنا يجعلنا نعتقد ان الزمن يمر، هذا المرور هو ذاته تجسيد للنظرية الفيزيائية".

اتجاه المجموعة السببية يزيل مشكلة اللامألوف singularities في الانفجار العظيم (هذه الغرابة تتمثل بمظاهر عدم الإكتمال في النسبية العامة من حيث فشلها في ابراز نتائج موثوقة في مراكز الثقوب السوداء وفي بداية الكون)، لأنه في هذه النظرية الجديدة لا توجد اية غرابة. وبهذا، وبدون مشكلات الانفجار العظيم يكون بينتو وفريقه التقط الخيط مستطلعا ما تقوله نظرية المجموعة السببية حول اللحظات الاولى للكون.

***

حاتم حميد محسن

...........................

الهوامش

(1) جادل ارسطو "ان الفراغ التام vacuum لا يمكن ان يوجد ابدا، واذا وُجد، فان الاشياء التي تتحرك فيه سوف لن تلاقي اية مقاومة ولهذا سوف تسافر بسرعة لامتناهية". الفراغ التام يعني فضاء فارغ من الذرات او أي جزيئات. لكن لا وجود لشيء من هذا القبيل لأن الجسيمات الافتراضية تأتي وتخرج دائما من الوجود. الفراغ دائما فيه شيء بدلا من اللاشيء. لا وجود لمكان خال من المادة او الطاقة او المجالات او الفضاء الافتراضي. لا وجود "للعدم" في الكون المادي الواقعي لأنه لا مكان في الكون تكون فيه كثافة الطاقة صفر، كل مكان يحتوي على الأقل على طاقة فراغ كمومية quantum vacuum energy. لو فقدت بعض أماكن الفضاء طاقتها الكمومية، فسوف تختفي من الوجود.

 

مقدمة: دعونا نجرؤ على طرح سؤال وحشي: ما هو الشيء الأصلي في فلسفة هيدجر؟ ومن المفارقة أن هذا السؤال نادراً ما يتم تناوله بشكل مباشر، حيث يتم اعتبار الإجابة أمراً مسلماً به. في الواقع، نظرًا لأن هيدجر أثر بشكل مباشر على جزء كبير من فلسفة القرن العشرين، يبدو من الواضح أن فلسفته شكلت ثورة غير مسبوقة داخل المفهوم الفلسفي. وهذا الاضطراب معترف به ضمنيًا من قبل مؤيدي المفكر ومنتقديه. في الواقع، فإن الوقت الذي أمضاه الأخير في تعقب آثار النازية في أصغر أركان العمل لا يكون منطقيًا إلا إذا اعتبر هايدجر مفكرًا مهمًا. بين هذين القطبين المتضادين اللذين يلتقيان في نقطة واحدة، يقف مؤرخو الفلسفة، الذين يتتبعون الرحلة، ويوضحون النصوص، ويجمعون التفاسير، وباختصار يمنحون هيدجر مكانته "الكلاسيكية". ولكن، بعيدًا عن هذا الإجماع الضمني، يبقى أن نحدد سبب كونه أحد أهم الفلاسفة. ومن هنا سؤالنا: كيف يكون هيدجر مفكراً أصيلاً؟ ولا شك أن من المناسب هنا توضيح استخدام مصطلح "الأصلي". من المؤكد أن الأصل يفترض "الجديد"، ولكن هذا "الجديد" لا يجب أن يُفهم فقط على أنه ما لم يُقال أو يُسمع من قبل. إن "الجديد" من أجل "الجديد"، رغم أنه يستطيع أن يصنع الموضة، فإنه لا يصنع الفلسفة. إذا كان الأمر كذلك، فإن الأمر سيكون ببساطة مسألة دراسة جميع الفلاسفة الذين يعتبرون عظماء وتأليف سلسلة من الافتراضات التي لم يدعمها أحد من قبل (العدد له تأثيرات؛ اللانهاية، لون واحد). باختصار، في مصطلح "الأصلي" يجب أن يكون لأصل الكلمة صدى: فالأصل، باعتباره ما يؤسس تاريخًا جديدًا أولاً، يقدم إمكانيات جديدة. هذا هو ما عرَّفه موريس ميرلو بونتي بالتأسيس، أي أنه "تلك الأحداث التي تقع في تجربة ما والتي تمنحها أبعادًا دائمة فيما يتعلق بها سيكون لسلسلة كاملة من التجارب الأخرى معنى، ستشكل تكملة أو قصة يمكن التفكير فيها". وهكذا، قام ديكارت وكانط بتعديل مسار الفلسفة بشكل لا يمكن إنكاره، وشكلوا تاريخها، وحولوا مشاكلها، وباختصار فتحوا طريقًا جديدًا من خلال إعادة تصميم موقع الفلسفة بالكامل (كوجيتو، أحكام تركيبية قبلية). مثل الثورات العلمية، فإن الفلسفة الأصلية، في لحظة معينة، هي الفلسفة التي تخلق زلزالًا بالطرق المعتادة للتعامل مع المشكلات، وتعيد تشكيل مشهد التخصص بشكل دائم. دعنا نقول ذلك باستخدام استعارة مستعارة من تكتونية الصفائح. إن الخيارات الفلسفية، في لحظة معينة، تشبه الأطباق الكبيرة (المثالية/ الواقعية، التجريبية/ العقلانية، الموضوعية الدلالية/ مثالية الأفعال، وما إلى ذلك). يتم تحريك هذه اللوحات من خلال حركات نسبية معينة متقاربة (العقلانية/ المثالية أو التجريبية/ الواقعية)، أو متباعدة (المثالية/ المادية) ولكنها أيضًا ذات حدود متغيرة. ومن ثم تحدث الزلازل، مما يؤدي إلى تعديل الفضاء. ويصبح السؤال إذن: ما هي المحاور التوجيهية التي قام بها هيدجر والتي أنتجت إعادة تشكيل للفلسفة على قدر كبير من الأهمية لدرجة أنها شرعت من بعده في مسارات أخرى؟

مواضيع الجيل

هل يمكن أن يكون هذا سؤال الوجود؟ لكن هذا السؤال، على الرغم من أنه لم يعد مركزيًا في زمن هيدجر، كان مع ذلك واحدًا من أقدم الأسئلة في الفلسفة. القيام بذلك بشكل صحيح مرة أخرى ("إن تكرار الانطولوجيا، الذي أسيء استخدامه منذ كانط، كان أقل احتمالا للحث على الشعور بالزلزال من إثارة الشك في العودة إلى المدرسانية. هذا ليس في مكان آخر، وليس السؤال الذي يطرح على الفور للشباب" في الواقع، إذا أخذنا في الاعتبار الرحلة الفلسفية التي قادته إلى كتابة الوجود والزمان، فإن هذه المشكلة تظهر متأخرة نسبيًا، بل باعتبارها تعبيرًا عن التوجهات التي بدأت بالفعل إلى حد كبير خلال فترة دوراته في فريبورغ (1919-1923). ثم في ماربورغ، وهي الفترة التي توافد فيها العديد من التلاميذ، وقدسوه باعتباره "الملك الخفي للفلسفة"، وتحدث، حتى قبل أن تصبح مسألة الانطولوجيا ، عن الاضطراب الناجم عن استجوابه. هل يمكن أن يكون التأكيد على أن "إن تجربة الحياة المصطنعة هي نقطة البداية وكذلك هدف الفلسفة."؟ لكن هذا الاقتراح كان بالفعل في روح العصر لأن موضوع الحياة والخبرة، كما عاشا وليسا معروفين ببساطة، كان أيضًا النضال الرئيسي للفلسفة. "الفلاسفة الجدد" في ذلك الوقت: زيميل، شيلر، برجسن، ديلتاي، جيمس. لقد ضجت المؤتمرات الفلسفية التي سبقت حرب عام 1914 بهذا الصدام بين علماء المعرفة العقلانيين "القدامى" والفلاسفة "الشباب" المليئين بالحماس الرومانسي. في وقت مبكر من عام 1920، وضع هاينريش ريكرت نظرة عامة كاملة إلى حد ما (وإن كانت مثيرة للسخرية) عن "فلسفات الحياة" هذه، والتي وصفها بعد ذلك بـ "العصرية". وكان هناك اهتمام مماثل لدى جيل كامل، ونجاح مفهوم "العالم الحي" في بداية القرن، نتيجة رحلة طويلة تحت الأرض. لذلك، لا يوجد شيء في تسليط الضوء على هذا الموضوع الذي من المحتمل أن يسبب زلزالا. ومن الواضح أن الأمر نفسه ينطبق على مشكلة "التجربة"، التي أعاد هوسرل من خلالها تشكيل الكون الفلسفي. أما فيما يتعلق بالاهتمام بالوجود "الملموس"، في مقابل التجريد المشوه للمفهوم، واحتجاج "الذات" الفردية ضد ذات عالمية، فقد وجدناها بالفعل عند كيركجارد، الذي عرف في زمن هيدجر على وجه التحديد فكرة عبث يتضح من أعمال ياسبرز وأعمال اللاهوتيين المعاصرين مثل بارث وبولتمان. في الحقيقة، إذا نظرنا إلى مسيرة هيدجر المهنية، فإنه يبدو، للوهلة الأولى، متحدًا تمامًا مع عصره. دعونا نتذكر بعض المعالم: كان الدافع الرئيسي لهيدجر الشاب، عندما كرس نفسه لأطروحته التأهيلية (التي دافع عنها عام 1915)، ذو نسق معرفي، كما أكد هو نفسه: "كنت أحاول العثور على أساس لمزيد من المعرفة". تحقيقات تتعلق بمشكلة مركزية في المنطق ونظرية المعرفة." وبذلك، انضم إلى الحركة الكانطية الجديدة، التي كانت الأغلبية في ذلك الوقت، ولا سيما حركة مدرسة بادن (أهدى أطروحته لريكرت)، وكان، مثل الكثيرين، متأثرًا جدًا بلوتز وخاصة لاسك، ذلك وهذا يعني ما يمكن أن نسميه التكوين النيوفيختي للفلسفة. وعلى هذا النحو، فهو لا يتردد في الحديث عن بحثه باعتباره تدريس العلوم ، مما يشهد على كل من التراث الفيختي والاهتمام بأساس جذري للعلم. تتعلق "المشكلة المركزية للمنطق ونظرية المعرفة" في ذلك الوقت بوضع المعنى، الذي استثمره الكانطيون الجدد بقدر ما استثمره هوسرل. والسؤال، بشكل عام، هو ما يلي:

هل ينبغي تصور المعنى (الذي لا يريد أحد اختزاله إلى حدث نفسي بسيط) بشكل واقعي، بحيث يستمد كل "معنى" مصدره وشرعيته من مرجع خارجي وغير قابل للتغيير (الموضوعية أو الدلالية الأفلاطونية)، أو على العكس من ذلك، كما يريد لاسك والكانطيون الجدد، هل ينبغي فهم المعنى خارج أي مناشدة للكيانات المتعالية؟

في الحالة الأخيرة، لن ينتمي المعنى إلى مجال الوجود أو إلى عالم معقول موجود (أقانيم المعقول الأفلاطوني الفائق) ولكنه سيقع ضمن مجال الصلاحية (الكلمة الأساسية لمدرسة بادن). وفي هذا النقاش يدخل هيدجر في وقت أطروحته، ويتبنى بوضوح اهتمامات عصره. بعد هذه الفترة الأولى من التعلم، يبدو أن هيدجر قد قام بتحول مهم فيما يتعلق بهذه المواضيع. في الواقع، ما ميز الأعوام من 1919 إلى 1926، والذي يبدو بأثر رجعي أكثر "هيدجريًا" بكثير من هذه التوضيحات المعرفية الأولى، هو ما أطلق عليه لاحقًا "تأويلية الوقائعية". شهدت الفترة الأولى (حتى عام 1923) تطويره لـ "تأويلية الحياة". ثم، بعد أن تخلى عن هذا المفهوم المفرط في الالتباس، سيقترح تأويلًا لما سيحدده تدريجيًا من خلال مصطلح واحد ندين به لفشته: الوقائعية او الحدثانية. وحتى لو كان بوسعنا، مثل صوفي جان آرين، أن نعترف باستقلالية "تأويلية الحياة" (أي التسلسل 1919-1923) فيما يتعلق بالسنوات 1923-1926، فإنها لا تظل أقل من نفس المواضيع وما فوقها. تم العثور على نفس التحيز العام منذ عام 1919 إلى الوجود والزمان، أي أخذ الحياة الوقائعية بعين الاعتبار، أو الاهتمام بالارتكاز الوجودي الملموس لكل المعرفة: "حتى الآن كان الفلاسفة يسعون جاهدين على وجه التحديد للتخلص من "التجربة المصطنعة للحياة باعتبارها معلومة ثانوية بشكل واضح"، أصبحت الآن مسألة العودة إليها، أي التوجه نحو تجربة ما قبل النظرية، نحو الإنسان العادي الذي جعله الفلاسفة، المهووسون بموضوع المعرفة الوحيد، متروك. من المشكلة الأساسية للفينومينولوجيا ، يكتب هايدجر أن الفينومينولوجيا، باعتبارها “علمًا أصليًا”، يجب أن تسعى إلى “إعطاء المواقف الملموسة للحياة، والمواقف الأساسية التي يتم فيها التعبير عن مجمل الحياة. في هذه الحالة، الحياة موجودة بالكامل. نحن نبحث عن موقف يظهر فيه هذا التبرع بشكل واضح. النداء إلى الإنسان الملموس، وعدم كفاية النظرية، والنظر في واقعية " الموجود " وتوضيح المجال المعيش، الذي تم تعريفه على أنه تجربة معتادة أو مألوفة بالنسبة لنا، هل يمكن أن تكون هذه هي أصالة هيدجر؟

ليس تمامًا، في رأينا، لأنه هنا مرة أخرى يبدو أنه يفي بالبرنامج الذي حدده لاسك للفلسفة القادمة. في الواقع، وصف لاسك مهمتين لفلسفة متجددة (أي، في نظره، تحررت من مأزق "التمثيلية" الكانطية). الأول هو ضمان مكانة خطابه، وهو ما فشل كانط في القيام به منذ أن قام بإدراج المقولات الضرورية للمعرفة العلمية، وهو “لا يحتفظ بمكان للأشكال المقولاتية لفلسفته الخاصة. هذه المهمة، التي يمكن تعريفها كأساس من الأعلى، هي مهمة ما بعد الفلسفية وتلزم لاسك، مثل فيخته من قبله، بفلسفة فلسفية. وتتكون المهمة الثانية من ربط الفئات بالمجالات الأوسع "للوجوديات"، أي ترسيخها في التجربة ("الكتلة المعقولة من المحتوى"، التي يتم تعريفها على أنها تنوع المعطى ولم تعد مجرد بيانات علمية). هذه المرة هو نوع من الأساس من الأسفل، والذي يعالج المناطق التي هجرها المفهوم الفلسفي. في الواقع، يبدو أن فترتي هيدجر الشاب (الإبستمولوجي في عام 1915، والوقائعي في عام 1919) تتوافقان قدر الإمكان مع هذا البرنامج، فكل شيء يحدث كما لو أنه بعد محاولة تأسيس المعنى من المبادئ الأكثر عمومية (من الأعلى) ) ثم اعتمد على أساسه من إرساءه على الوجوديات (من أسفل). علاوة على ذلك، فإن العمل على سد الهوة التي انفتحت بين النظري والتجريبي، بين المفهوم والتجربة المعيشية، بين العقلاني والمعطى، كان في الواقع الشغل الشاغل لكل فلاسفة العصر، حتى أبرزهم. يبدو أن المنظرين مثل الكانطيين الجدد. في هذا الصدد، يعد نهج ناتورب حاسمًا بشكل خاص لأنه أيضًا، قبل فترة قصيرة من هيدجر، أي حوالي العقد الأول من القرن العشرين، شكك في ما يسميه الموجود" أو "الوحدة الغائية الملموسة"؛ لقد أصر أيضًا على الحاجة إلى التعامل مع مجال "ما قبل الموضوعي" وهو مجال يتجاوز تقسيم الذات/ الموضوع. كما أشار أيضًا إلى الطابع التشييء لأي تصور نظري: "كل تحديد هو تجسيد". علاوة على ذلك، عندما تساءل في نهاية حياته عن حقيقة "المودود"، فإنه سيجعلها "المعنى الغائي لـ' "أن تكون" (معنى الوجود): "هناك حقيقة؛ هناك الطابع الفريد للغائي: إنه "هو". هذه هي مشكلة الوقائعية بالمعنى الدقيق للكلمة. إن القرب بين منهج “ناتورب الراحل” وتطورات هيدجر الشاب مهم للغاية، بما في ذلك في تفاصيل التحليلات الملموسة، لدرجة أن بعض الشراح تساءلوا مؤخرًا عما إذا كان هيدجر لم يتمكن من الوصول إلى مخطوطة ناتورب الأخيرة (التي نُشرت بعد وفاته)، وهو ما نفاه الشراح الآخرون بشدة. في الحقيقة، هذا النقاش لا معنى له لأنه، مع أو بدون الوصول إلى هذه المخطوطة، من الواضح أن الشيء الوحيد المهم والمنطقي هو التوازي الحقيقي بين مفكرين في نفس الوقت. هذا القرب لا يمكن أن يكون سوى التقاء موضوعي، يمكن تفسيره على أنه هذه اللحظة التي يلتقي فيها كل شيء في تاريخ الفكر نحو نفس المهمة، ويعمل في نفس الاتجاه، ويتبلور في نفس الاهتمام، بينما يتراجع وفقًا لخيارات مختلفة: ما قبل الموضوعي (يتم تعريفه على أنه "الوحدة الغائية والملموسة") لناتورب، و"ما قبل النظري" عند هيدجر (يفكر حتى في ما يسميه بعد ذلك "الملموسة") أو حتى التجربة المعيشة عند هوسرل (الذي يسعى إلى استعادة "الموضوعية" "تجربة ملموسة للوعي الطبيعي). إن وضع هذه الحقائق في منظورها الصحيح (حيث نكتفي بتلخيص رحلة تم توثيقها على نطاق واسع على مدى العشرين عامًا الماضية) يقودنا إلى البحث في مكان آخر عن إجابة سؤال أصالة هيدجر بالنسبة إلى معاصريه. وبما أن سؤالنا يتعلق بالزلزال (إذا كان هناك زلزال) الذي سببته فلسفته، فمن الواضح أننا لا نستطيع أن نبحث عن الإجابة في المواضيع التي تشكل الأساس لعصر بأكمله. هذه، في الواقع، أنواع من الإيقاعات المستمرة التي ينسقها كل منها بطريقته الخاصة: الاختلافات المتعالية (ناتورب)، الفنومينولوجيا (هوسرل)، التأويلية (ديلتاي). بالطبع، لا يتعلق الأمر بإنكار أهمية "الملموسة" الشهيرة ولا فكرة تفسير الوقائعية، وسوف نعود إلى هذا؛ لكن يبدو أن أصالة هيدجر لا تكمن في هذا الاهتمام المشترك بين الكثيرين، بل في تمفصلها مع موضوع آخر سيكون هذه المرة موضوع هيدجر، وهو موضوع لم يطرحه أي معاصر والذي سيبني فكره بشكل دائم والذي يبدو أنه أفضل من يجيب على سؤالنا: ما الجديد في فلسفة هيدجر مقارنة بفلسفة معاصريه؟

التأويلية كتدمير للفلسفة

دعونا نعود إلى القاسم المشترك المتمثل في “برنامج لاسك المقترح” الذي يشير بوضوح إلى عدم كفاية المفهوم الفلسفي. من المؤكد أن الأمر يتعلق بالنقص الحالي في الفلسفة، لكن المهمة الموكلة إلينا هي تصحيحه: فالثقة في الفلسفة لا تتضاءل بأي حال من الأحوال. وبالمثل، فإن شعار هوسرل هو صراحة "إعادة تشغيل الفلسفة"، وليس الانخراط في أي نوع من الهدم. وبالمثل، إذا كان ديلتاي ينوي تقديم «نقد للعقل التاريخي»، فإن ذلك بالرجوع إلى كانط ومع الاهتمام بإيجاد، بفضل علم التأويل، فلسفة متوافقة مع تاريخية بعض الظواهر. أما بالنسبة لناتورب، فإن مصطلحات “إعادة بناء الفلسفة” هي التي يستخدمها لوصف آخر تطوراته. تتمثل مشكلة المعاصرين عمومًا في مواجهة تحدي التفكير فلسفيًا حول التجربة "المعاشة"، دون حل الاستمرارية بين المفهوم المطبق والتجربة "الملموسة"، تجربة "الموجود( ناتورب) للتاريخ والحياة (ديلتاي والعديد من أنصار العالم الحي) أو حتى "العالم الطبيعي" (هوسرل). دعونا نلاحظ، علاوة على ذلك، أن هذا التوضيح الفلسفي للتجربة الملموسة كان بالفعل مشكلة التجريبيين من الجيل السابق، على سبيل المثال أفيناريوس، الذي نجد فيه الثالوث المحيط بذاته - العالم الآخر، ثلاثة أقطاب يسميها "العالم المحض" الخبرة المرتبطة بالحياة اليومية. وكانت هذه في نهاية المطاف مشكلة الماركسيين. حتى لو كانت الدراسات الفلسفية الحالية المكرسة لهذه الفترة من "هيدجر الشاب" تميل إلى حجب المفكرين الألمان ذوي الحساسية الماركسية تمامًا، تظل الحقيقة أنه كان آنذاك اتجاهًا فلسفيًا حقيقيًا؛ بنيامين أو بلوخ هما معاصران لهيدجر تمامًا، وروح اليوتوبيا للأخير، الذي نُشر عام 1918، له أكثر من تناغم قوي مع موضوعات هيدجر، حيث أن الأمر يتعلق أيضًا بمواجهة الفلسفة بـ "ظلام اللحظة المعاشة"، والتي سوف يقود بلوخ إلى وصف تجربة ملموسة معينة، مثل تجربة الإبريق، قبل أن ينطلق هيدجر إلى تجربة "المنبر". وهكذا فإن المطالبة بإدخال "المزيد من الملموسية" وتقريب المفهوم الفلسفي إليها، ميزت جميع تيارات الفلسفة في ذلك الوقت. في مواجهة هذه المهام، وكلها إعادة بناء، فإن الوجود الشامل لموضوع “تدمير الفلسفة” في مسيرة هيدجر كان ملفتًا للنظر. منذ عام 1920، قال إنه كان يعمل على “تفجير مجموعة المقولات التقليدية. إنه ينوي تطوير طريقة "ستكون راديكالية تدعو إلى التشكيك في جميع المفاهيم"، وعلى الرغم من اعترافه بأن ناتورب وديلتاي أرادا "الاستحواذ على الخبرة"، إلا أنه يعتقد أنهما يفتقران على وجه التحديد إلى هذه "التطرف" الذي وحده يمكن أن يؤدي إلى أبعد من ذلك". لذلك فهو يدعو إلى "تحويل كامل للفلسفة يتضمن “تدميرًا ظاهريًا"، يُنظر إليه على أنه فعل "إعادة الفلسفة إلى نفسها من اغترابها". ولذلك، فإنه تحت العلامة المزدوجة للتدمير والتطرف، يضع هايدجر مشروعه، لأنه مهما كان المجال الذي يتناوله في دوراته التحضيرية لكتاب الوجود والزمان (الظواهر، المنطق، الفلسفة الكلاسيكية، وما إلى ذلك)، فإن المنهج يظل كما هو، حيث أن من الدمار. هكذا آرين، الذي ذكر كل المواضيع التي تم تناولها في الفترة من 1919 إلى 1923، لم يتردد في تجميعها تحت اسم "الطرق إلى الدمار". وبالمثل، فإن العمل على المنطق (الذي تم تنفيذه في 1925-1926) يرقى إلى مستوى هيدجر لتنفيذ “التدمير النقدي التاريخي”. والأكثر من ذلك، فإن النشاط النظري برمته هو الذي يجب تدميره، لأنه "يجب كسر تفوق النظري". في كل مكان وفي جميع المواضيع، يتعلق الأمر بـ "رمي الشعلة دائمًا ومرة أخرى"، وفقًا لاستعارة الحريق المدمر الذي أعاد فيتجنشتاين اكتشافه بعد سنوات، وعرّف نفسه بأنه "الشخص الذي أحرق مكتبة الإسكندرية". باختصار، يشكل مفهوم "التدمير الجذري" المحور المركزي والمبدأ المنظم لجميع التطورات قبل كتاب الوجود والزمان، لدرجة أنه بدلاً من الحديث عن "تأويلية الوقائعية"، سيكون من الأنسب أن يتم الحديث عن "تأويلية الحقيقة". ويبدو لنا أن تلخيص هذا النضج هو تأسيس "التأويلية كتدمير للفلسفة". وسيبقى كذلك في أعماله اللاحقة، بل إنه أحد الثوابت الحقيقية الوحيدة عند هيدجر. في الواقع، التدمير هو إحدى المهمتين المخصصتين للوجود والزمان (الفقرة 6، “مهمة تدمير تاريخ الأنطولوجيا”) وإذا كانت المهمة الأولى (الفقرة 5، “التحليل الأنطولوجي للدازاين”) سيتم التخلي عنها بعد المنعطف، فإن الثانية، على العكس من ذلك، سوف تصبح أكثر وضوحا عند نقطة التحول، كما أشار، على سبيل المثال، في المؤتمر المحوري لعام 1929، ما هي الميتافيزيقا؟ عندما تحدث كورتين عن "تفجير المجموعة التقليدية من المقولات"، يتعلق الأمر هنا بـ "إخراجها من مفاصلها"، ومنطق "التفكيك" ، وهي مصطلحات هي، كما لاحظ كورتين نفسه، "استعارات لـ الهدم وفقًا لمعنى التدمير الجدلي بشكل متزايد”. التكثيف هو مقدمة لكل الأعمال المستقبلية (ما بعد المنعطف)، المكرسة للتفكيك الصبور لتاريخ الفلسفة بأكمله. باختصار، لا يتم التخلي عن التدمير أبدًا إلى الحد الذي يمكن أن يظهر فيه كأحد فتات العمل بأكمله، والذي يمكن تلخيصه في عبارة واحدة: "راديكالية التدمير"، والتي تركز على المصطلحين الأكثر استخدامًا من قبل الجمهور الشاب هيدجر ليصف مشروعه. لكن هذا الخيط المشترك هو ما يخص هيدجر على وجه التحديد. إنه قرار فريد ومحدد (أصلي، بمعنى أنه ليس له نموذج بين معاصريه)، في نفس الوقت كموضوع موعود بمستقبل عظيم (أصلي بمعنى "الذي أدى إلى الأصل") في القرن العشرين، سيطر عليه بالكامل تقريبًا موضوع موت الفلسفة. قرار فردي ومحدد لأنه، حتى مع الاعتراف بأهمية نقد الفلسفة (نظريتها، وطابعها غير المتجسد، واستقطابها حول موضوع المعرفة)، لم تكن هناك ضرورة عقلانية لاستنتاج أنه يجب تدميرها بدلاً من إصلاحها وتعديلها وتحسينها. في الواقع، كان من الممكن أن تكون النتيجة المحتملة في مواجهة التشخيص (الإجماعي في ذلك الوقت) للقصور الحالي في المفهوم الفلسفي هو اقتراح توسيع الفلسفة إلى مجالات أخرى. لكن التوسع لا يعني "تفجير" التقاليد، بل يعني دمج المستويات القديمة في مساحة أكبر. من هذا المنظور البناء، كان بإمكاننا إدراج الموضوعات الأكثر تحديدًا التي كانت فلسفة القرن العشرين مولعة بها بشكل خاص: الملموس، والواقعية، والتجربة، والتاريخية، والحدث، ثم لاحقًا الجسد، والحس؛ وهذا دون إلغاء الموضوعات القديمة الأكثر معرفية: مسألة حقيقة البيان العلمي، ودور الذات في ديناميكيات المعرفة، وطريقة وجود الكيانات الرياضية، وما إلى ذلك. هذا السؤال – لماذا ندمر مجال الفلسفة بدلاً من توسيعه أو تجديده أو إعادة بنائه؟ – ينشأ بشكل أكثر حدة لأن المسار الذي اقترحه جميع معاصري هيدجر كان طريق “إعادة البناء” أو “البدء من جديد”. ولذلك فهو قرار فردي لأنه، على أساس نفس التشخيص، يمكن تبني احتمالات أخرى. إن راديكالية هايدجر المدمرة هي تطرفه وتمثل حداثته في الفضاء الفلسفي. علاوة على ذلك، سيكون أصل محور أساسي للفلسفة من بعده: الدعوة إلى تدمير الفلسفة، والتي نجدها في فيتجنشتاين أو أوستن كما نجدها في دريدا أو رورتي، ولكن ليس أبدًا في معاصري هيدجر وكارناب ورورتي. ومن بينهم راسل، الذي لم يقل في أي مكان أن الفلسفة بشكل عام يجب تدميرها؛ حتى أنهم جددوا الفكر الكانطي الجديد، والاهتمام بالعلم والتفاؤل فيما يتعلق ببناء أو إعادة بناء للمفاهيم الفلسفية. لقد أدرك هيدجر نفسه هذه الحداثة، حيث اعتبر، في رسالة عام 1924، أن عمله "يقتصر على التدمير النقدي والعقلاني للتقاليد الفلسفية واللاهوتية" وبالتالي فهو "شيء يجب المضي فيه". يبدو أنه قد تم العثور على إجابة لسؤالنا: من خلال تأوييتله كتدمير، فإن هيدجر أصلي بالمعنى المزدوج للجديد والذي يخلق أصلًا من خلال إنشاء سلسلة، من خلال تقديم مستقبل. إلا أن هذا الإنجاز، وإن كان مؤكداً، إلا أنه لا يبدد كل غموض «مؤسسة هايدغر». في الواقع، كان من الممكن أن يظل هذا الموقف ادعاءً دادائيًا بسيطًا بلا مستقبل. لذلك يجب علينا أن نتخذ خطوة أخرى لتحديد هذا التفرد وتحديد ما إذا كان قد تسبب في زلزال من المرجح أن يعيد تشكيل المشهد الفلسفي.

"عالم" جديد: تكوين ما قبل النظري في مجمله منظم وذو معنى في حد ذاته

أصر هيدجر على المعنى الإيجابي الذي أعطاه لكلمة "تدمير": لم تُصنع الشعلة لتحويل كل شيء إلى رماد، بل لإلقاء الضوء على ما تم نسيانه. إنها إذن مسألة العودة من خلالها إلى «أصل» مدفون حجبه المفهوم الفلسفي، وحجبه، واخفائه. التدمير "يظهر"، "يظهر"، "يجعل المرء يرى"، ولهذا يسمى "ظاهري". وبالتالي فإن تعريف "التدمير" ينقل فهمًا دقيقًا للحقيقة والتاريخ. لقد حجبت المفاهيم النظرية ما تم تقديمه في البداية على أنه "يتم اكتشافه". لقد أخفوا "ما يظهر نفسه، كما يظهر نفسه من ذاته"، وهي الطريقة التي يفسر بها هايدجر التعبير اليوناني "انقاذ الطواهر". ومن ثم يصبح تاريخ الفكر حركة استعادة ما كان في البداية اللاتحجب (A-letheia) و"الواقف في النور". وبالتالي يمكن للتدمير أن يتردد صداه بطريقة إيجابية بسبب هذه الأطروحة المزدوجة للحقيقة باعتبارها غير مخفية وديناميكية التاريخ التي يتم تصورها على أنها حركة إخفاء ذات أصل موجود في البداية، ولكنها مخفية، معوقة، مخفية.

وعلى هذا النحو، فإن هاتين الأطروحتين، على الرغم من ضخامتهما وماهيتهما في فكر هيدجر، ليسا جديدتين على الفلسفة. في الواقع، ما الذي يفعله هايدجر هنا؟ فهو يفسر "قول الحقيقة" على أنها كشف ما هو مخفي، وفي الوقت نفسه يضع الحقيقة على أنها ما لا ينتمي إلى القضية (الحكم) بل إلى الشيء نفسه، لأن القول أو القول هو "جعل" يرى المرء من نفسه ما يظهر نفسه كما يظهر نفسه من نفسه. ولذلك يؤكد أن الحقيقة تنبع من الشيء وليس من القضية. الحقيقة هي نفس الشيء الذي تم اكتشافه. وهذا تعريف تقليدي نسبيًا للحقيقة، وقد تمكن البعض، مثل هوسرل، من وصمه باعتباره مفهومًا واقعيًا. في هذا النوع من التصور، الحقيقة هي حقيقة الشيء الذي تم اكتشافه؛ تجمعها الشعارات وتجعلها ترى كما هي في حد ذاتها. ولوضعها في مقارنة، والتي على الرغم من أنها تبدو فاضحة إلا أنه يمكن بناؤها بصرامة، إلا أننا لسنا بعيدين هنا عن الموقف العام لفريجه، حيث يتم فهم الحقيقة من خلال حقيقة هي، وهي في حد ذاتها صحيحة (مقولة فيثاغورس نظرية). وبالتالي، فإن الحقيقة ليست فقط خاصية لافتراضي، بل هي خاصية الشيء نفسه. بالتأكيد، في فريجه يتعلق الأمر بالحديث عن المثل الرياضية وليس عن أي كشف عن الوجود أو عن الهياكل الوجودية لكائن مرمي. لا يتعلق الأمر بإنكار ذلك، بل بملاحظة أنه على المستوى المبدأي، تتشابه إيماءات الفيلسوفين، مما يؤدي إلى القول بأن الحقيقة ليست خاصية القضية فحسب، بل إن قضيتي صحيحة لأن الشيء هو هو. وبمصطلحات هيدجر: حقيقة القضية هي وظيفة الحقيقة (عدم الحجاب)، وهي حقيقة الشيء نفسه. ليس في المقام الأول في الحكم ولكن في الشيء. سواء أحببنا ذلك أم لا، فإن هذا الموقف هو خيار لا يخلو من سابقة، بل ويتناسب حتى مع الإطار الكلاسيكي للتصور الواقعي للحقيقة، وهو النقيض تمامًا لموقف الكانطيين الجدد بشأن الصلاحية، والتي، في نظرهم، لا يمكن أن تكون إلا المعنى (الحكم) وليس الشيء أو الكينونة، وهي حقيقة يجب بناءها وتبريرها بمواردها الخاصة، ولا يمكن تلقيها أو منحها بنفسك. أما بالنسبة لمفهوم التاريخ كتاريخ للأقنعة و"الإخفاء" (نشر صور زائفة كصور "غطاء")، وما يترتب عليه من خروج ("شفقي") أو أصل (بدئي)، فإن هذا هو مرة أخرى نموذج تقليدي (رومانسي) لـ "العودة إلى"، وهو المفهوم الذي بموجبه فقدنا أو فقدنا الأصل، الذي ننطلق منه مع ذلك والذي سيحدد في المقابل مستقبلنا الأصيل. ستبقى هاتان الأطروحتان الحاسمتان حول الحقيقة والتاريخ دون تغيير حتى النهاية. من المؤكد أن هناك، في رحلة تزيد على خمسين عامًا، انعطافات يمكن التعرف عليها: وبالتالي فإن الحجاب سيكون، بعد كتاب الوجود والزمان، حقيقة الوجود ذاته (الانسحاب)، والحقيقة، باعتبارها عدم حجاب، ستكون ذات الوجود الذي "يستغني عن نفسه في انسحابه" (الحجاب/ الكشف)، حيث بدا سابقًا أن الهوذاك لا يزال مشحونًا بهذه الديناميكية (من خلال الحل). ومع ذلك، لم يتم تعديل الإيماءة الرئيسية. التدمير، وهو موضوع في العمل ككل، ليس له معنى وفعالية إيجابية إلا إذا تم الاعتراف بما يلي:

1) أطروحة الأصل المدفون (المحجب/ المحجب) ولكن يمكن الكشف عنه؛

و2) فكرة أن التاريخ هو حركة هذا الغيب.

لكن، سنقول بعد ذلك، بأي طريقة يكون هيدجر أصليًا، بصرف النظر عن دعوته إلى الدمار؟

في رأينا، هناك بادرة أخرى لا مثيل لها في زمن هيدجر، والتي سيكون مصيرها أن تصنع عهدا جديدا. تتعلق هذه الإيماءة الأخرى بالفلسفة الأولى (بما في ذلك الوجود والزمان). يتعلق الأمر بالعقدة التي يصنعها هايدجر بين أطروحة التدمير هذه والموقع، أي المكان الذي يشكله لتنفيذها. لإظهار ذلك، دعونا نلقي نظرة على المشكلة أبعد قليلا. إن تدمير الفلسفة هو خصوصية هايدجر في عصره، لكنه في حد ذاته ليس جديدًا تمامًا. وهكذا قصد باسكال تفكيك المفهوم الفلسفي عن الدين. إن مقام الدرجة الثالثة (المحبة الإلهية) هو الذي يسمح لنا بالحكم على المرتبة الثانية (المعرفة) ونسبيتها. كما اختار كيركجارد الموقف الديني باعتباره المكان الذي ينكشف منه غرور العالمية الفلسفية. لقد دمر نيتشه (المطرقة) المفاهيم الفلسفية باستخدام الفن. إن أي تدمير للفلسفة، الذي يُقصد به أن يكون جذريًا، يفترض أننا نختار موقعًا، مكانًا (“أرضًا، كما يقول هايدجر) يمكن من خلاله تنفيذ الهجوم المدمر. لكن هيدجر يبدع في اختيار هذا الموقع، في تحديد هذه “الأرضية”. لم يعد الأمر يتعلق بالدين، حتى لو أراد البعض إظهار أن تحديد المفاهيم قبل الوجود والزمان قد تشكل من خلال تأملاته في النصوص الدينية (القديس أوغسطين، القديس بولس)، وحتى لو كان من الصعب إظهار ذلك التحويرات الباسكالية لمعظم العبارات الواردة في هذا النص. ومع ذلك، إذا كان هذا الجانب الديني للموضوع واضحًا، فإن هيدجر لا يطالب به. فهو إذن مكان آخر يشكله، وخطة أخرى يبنيها، وموقع آخر يطوره، لكي يضع نفسه في موقع "تفجير" المفهوم الفلسفي. سيكون هذا المكان "يوميًا". وفي الواقع، فإن هيدجر، بما في ذلك في كتابه الوجود والزمان، هو مفكر العادي أو اليومي، قبل وقت طويل من جعل الفلاسفة التحليليين للعادي موضوعهم المفضل.

دعونا نحكم بدلاً من ذلك: "دعونا لا نخجل من التفاهات"، كما يصرخ، قبل أن يسأل: "ما الذي لدي خبرة به؟ من التفاهات، من الحقائق اليومية الصغيرة". الأوصاف التي يقدمها في دوراته هي تلك الخاصة بالأشياء "العادية": كرسي الأستاذ، وورشة الحرفي، وشجرة التفاح، وما إلى ذلك. وفي دورة تدريبية في ماربورغ عام 1925، أعلن أنه يريد "السذاجة، والسذاجة الخالصة، تلك التي ترى للوهلة الأولى وبدقة" التحدث على الكرسي على المكتب." وبالمثل، فإن نقطة البداية في كتاب "الوجود والزمان" هي "ما هو للوهلة الأولى وفي أغلب الأحيان؛ يتم صياغة التعبير في جميع أنحاء الكتاب." وحقيقته الأساسية هي "أن الفهم المتوسط والغامض لل "الوجود هو حقيقي." لذلك سيكون السؤال، في هذا العمل، هو تسليط الضوء على شروط الإمكانية (التي ستكون "الوجودية") لهذا الحقيقي. وهكذا فإن "عالم الحياة" في الفترة 1919- في عام 1923، اتخذت "وقائعية" فلاسفة المعرفة الكانطيين الجدد، و"طبيعية" علماء المعرفة الطبيعيين، منذ ذلك الحين فصاعدا، الشكل الدقيق للحياة اليومية. سوف يرسم هيدجر حدود الاستمرارية التي تشكلها “الملموسة” (التي يسعى إليها الجميع) من “سذاجة” الإنسان اليومي. يتكون هذا الفعل أو القرار المسبق من تحديد الموقع أو المساحة أو المخطط الذي سيكون نقطة البداية للتحليل (الواقع) وتوضيح الشروط التي تجعل خصائص هذه الحقيقة واضحة. ومع ذلك، لا يزال من الممكن الاعتراض على أصالة هذه البادرة. ألم نر، في الواقع، أن أفيناريوس، قبل نصف قرن من الزمان، أو بلوخ في عام 1918، قد أحدثا إلى حد كبير هذا التحول في الحياة إلى الحياة اليومية؟ من المؤكد أن موضوع الحياة اليومية موجود بالفعل، لكن الدور الذي يلعبه هيدجر والمكانة التي يمنحها لها مختلفان. دعونا نضع الأمر بطريقة أخرى: لنفترض الافتراض العام "نحن كائنات ملموسة منغمسين في عالم يومي لا نحافظ معه على علاقة نظرية بشكل دائم وفوري". دعونا الآن نطرح السؤال الصريح: من الذي ادعى العكس أو أراد إثبات العكس؟ لا أحد من الفلاسفة: قال لايبنتز: "نحن تجريبيون فقط في ثلاثة أرباع أفعالنا". وأشار أرسطو إلى أنه قبل التفلسف، يجب على المرء أن يعيش؛ أما ديكارت، فهو لم يزعم قط أننا كنا، في جميع الظروف، كوجيتو شفاف، بل اكتفى فقط بأن نصبح كوجيتو واحدًا "مرة واحدة" في حياتنا. منذ ذلك الحين، كان بوسعنا أن نتخيل ببساطة أن فلاسفة القرن العشرين كانوا يقتربون من مناطق جديدة، لم يقم ديكارت، في الواقع، بالتركيز على تأسيس العلوم (وبالتالي المعرفة النظرية)، بمسحها. كان من الممكن أن تكون هذه البادرة بمثابة بادرة توسيع لمجال الفلسفة، وليس التشكيك في كل مفاهيمها السابقة. من الواضح إذن أن الثورة الهيدجرية لا تكمن فقط في وصف محتوى العالم اليومي. إن ابتكار هيدجر الحقيقي يوجد بالأحرى في رابط التضمين هذا الذي يقيمه بين هذا العالم الملموس ما قبل النظري والمفهوم الفلسفي، لأن برنامجه "تفجير كل المقولات" يمر عبر إنشاء هذا المكان وتشكيل هذا اليومي. الحياة ككل منظم وذو معنى في حد ذاته (الكون بمعناه اليوناني). المهمة الأولى (الدازاين التحليلي كتوضيح لعالم الحياة اليومية) هي شرط المهمة الثانية (تدمير الأنطولوجيا). المشكلة هي بناء عالم (أو اكتشاف أرضية) يمكن من خلاله تنفيذ المهمة الثانية. ستختار الفلسفة الأولى مكان الحياة اليومية "لتدمير" الفلسفة، والثانية، مكانة الكلام الشعري (أو التأملي). لا شك أنه سيتم الاعتراض على أن هذه الحياة اليومية (المعروفة أيضًا باسم الحياة العادية)، على الرغم من أنها مخصصة للمهنة العظيمة التي نعرفها، لا يمكنها أن تجسد مساهمة فلسفة هيدجر الأولى. في الواقع، ألم يتحدث بعض الشراح، على العكس من ذلك، عن التقليل من قيمة الحياة اليومية عند هيدجر من خلال القول بأن الحياة اليومية تصبح، على مدار التحليلات، مكانًا للزيف (الثرثرة، والفضول، وما إلى ذلك)؟ لكن عدم الأصالة ليس هو تعريف الحياة اليومية، بل هو مجرد جانب واحد من جوانبها، وعلاوة على ذلك، فهو أمر لا مفر منه. الأصالة والزيف هما احتمالان لنفس المستوى، أي احتمال "العالم اليومي". إن الادعاء بالعكس يعني جعل تحليل عدم الأصالة اعتبارًا أخلاقيًا بسيطًا، وحكمًا قيميًا لهيدجر. لكن هيدجر رفض دائمًا هذه القراءة الأخلاقوية. إن الانحدار ليس طيشًا أو خطيئة هوذاكية، بل هو أحد احتمالاته، التي يكشفها لنا تحليل الحياة اليومية، وهو بحكم تعريفه أوسع من الزيف لأنه الأفق الذي يمكن أن تقف عليه هذه الشخصية في الخارج. يحتوي كل يوم في الواقع على جميع إمكانيات الدازاين الأخرى. يقول لنا هيدجر: "إنه ما هو "الأقرب وجوديًا، ولكنه الأبعد وجوديًا، وغير المعترف به". إن الحياة اليومية باعتبارها "الأقرب وجوديًا" هي "الحقيقة" ("الفهم المتوسط والغامض للوجود هو حقيقة"). بعد تثبيت هذه الحقيقة ووصفها، يعود الأمر إلى تحليل الدازاين للعودة إلى شروط إمكانه (أي إلى “ما لا يمكن التعرف عليه وجوديًا”). لا يقلل هيدجر من قيمة الحياة اليومية ولا يقدرها وفقًا لنظام قيم مفترض مسبقًا. إنه يجعل منها نقطة البداية، والواقع الذي يمكن أن يفكر منه. إن بنية حجته قابلة للمقارنة رسميًا مع بنية كانط في نقد العقل الخالص. ينطلق كانط من حقيقة (حقيقة الرياضيات) ويبحث عن شروط الإمكانية. في بنية النقد، من المستحيل إزالة الحقيقة الأولية، لأنه بدونها لا يمكن أن يتم الصعود. الأمر نفسه بالنسبة للوجود والزمان: بدون الافتراض بأن هناك “فهمًا متوسطًا وغامضًا للوجود” في الحياة اليومية، لا يمكن أن يحدث الكشف. ولذلك لا يمكن إنكار أهمية الحياة اليومية في الاقتصاد العام للنص أو حتى إضفاء طابع نسبي عليها. علاوة على ذلك، عند هيدجر، يتم تحديد حقيقة البداية هذه على أنها المكان الذي سيبدأ منه تدمير المفهوم الفلسفي، الموقع الذي منه الطابع غير الأصلي للموقف النظري (انقسام الذات/ الموضوع، الموقف وجهًا لوجه في الفلسفة). العلاقة بالعالم الملقى تحت النظرة) سيتم الكشف عنها و"تفكيكها".

وبالتالي فإن توضيح الحياة اليومية هو الأساس (نقطة أرخميدس) الذي يستطيع هيدجر من خلاله أن يدعي أنه يدمر الفلسفة. والأمر الجديد والحاسم في نفس الوقت هو ارتباط التضمين القائم بين تدمير النظري وتحليل ما قبل النظري، وليس المضمون المحدد لهذا التحليل أو ذاك. ومهما كانت الألوان التي رسم بها هيدجر هذه الحياة اليومية (الألوان الداكنة والبنية عندما أظهرت الحياة اليومية للأمريكيين العمليين ظلالًا أكثر بهجة)، فإن ما يهم هو الإشارة العامة التي تشكل رافعة تحليلاته المحددة. يمكن تقسيم هذا الفعل الأساسي، لمزيد من الوضوح، إلى ثلاث لحظات رئيسية:

1) تحديد المكان الذي يمكن من خلاله تدمير المفاهيم الفلسفية؛

2) يشكل هذا المكان كعالم له في الواقع خاصية الكون عند القدماء، أي كونه كليًا منظمًا وشاملًا وهامًا في حد ذاته؛

3) تفترض، من خلال اللعبة الأصلية/ المشتقة (الخاصة بمفهومها للحقيقة والتاريخ)، أن المفهوم الفلسفي يشتق من هذا المكان، وبالتالي فهو ليس "أصليًا".

في هذه البادرة، واللحظات التي تحطمها، ما يجب أن نتذكره هو العلاقة القائمة، والعقدة التي نشأت بين تدمير المفهوم الفلسفي والمكان (الملموس، اليومي) الذي سيجعله فعالا. بهذا المعنى، بالنسبة لهيدجر، لا يتعلق الأمر بتحديد حدود الفلسفة من نفسها، كما هو الحال في التكوين الكانطي، حيث تحدد الفلسفة، بمواردها الخاصة، ما يمكنها فعله أو لا تفعله. ولذلك ليس هناك مجال لاستبدال المفاهيم الفلسفية الخاطئة بمفاهيم أكثر كفاءة، الأمر الذي سيكون بمثابة إصلاح للفلسفة وليس تدميرها. وهذا بلا شك هو ما يفسر رفض هايدجر الحديث عن "فلسفة هيدجر"، بمعنى أن الأمر يتعلق باستبدال مفهوم فلسفي بآخر أكثر ملاءمة، كما لو كان باسكال قد فعل من الدرجة الثالثة. ، فلسفة الوحي، وهي فلسفة بسيطة تنافس فلسفة الثانية. بل هناك مكان سيُبنى أو يُنتخب مثل الفضاء، الأرض التي ستسمح للفلسفة بـ”الانفجار”. ولذلك لا ينبغي تخفيف الطبيعة الجذرية لمشروع التدمير، إذا أردنا قياس النزوح الناجم. لأن هذا النزوح كبير. في الواقع، إذا لم تكن هذه هي المرة الأولى بالتأكيد التي شككت فيها الفلسفة في العلاقة بين الوعي الفلسفي والوعي العادي (الطبيعي، المشترك)، تظل الحقيقة أنه، في جميع الأجهزة السابقة، كان الوعي الفلسفي هو الذي يمكنه الحكم على الوعي العادي. لأنه في الحالة المعاكسة، انتهت القضية بموت الفيلسوف، كما يتضح من محاكمة سقراط الذي ظل مؤسسا. دعونا نقول ذلك مع بعض الأمثلة: بالنسبة لأفلاطون، فإن الفيلسوف هو الذي يستطيع وصف الكلام العادي بأنه " ظن" وبالتالي يمنحه الفرصة لإبعاد نفسه عن نفسه (مغادرة الكهف)؛ وبالمثل، فإن هيغل، إذا لم يتخذ بادرة التحول التي يفترضها أفلاطون، يهدف مع ذلك إلى إظهار أن الوعي المباشر سينبثق من تلقاء نفسه (بالحركة الضرورية وليس التحول) من حالته الأولية، بحكم تعريفه المعوز (الوعي الحساس للفرد) اللحظة الأولى للظواهر). ليس هناك أي شك في جعل الوعي العادي هو المكان الذي سيتم من خلاله الحكم على الفلسفة أو حتى تدميرها بشكل أقل. لا شك أن هوسرل (أسلوب كريسيس) سوف يعترض علينا، لكن حيلته لا يوجد بها أي مقياس مشترك. في الواقع، ليس فقط عند هوسرل، لا يقتصر «عالم الحياة» على الحياة اليومية وعالم ما قبل النظرية فقط، لأنه يشمل الثقافة العلمية، ولكن ليس هناك أيضًا مجال لتدمير المفهوم النظري (الرياضيات أو غيرها)، بدءًا من التخوف ما قبل النظري. إنها بالأحرى مسألة التمييز بين الطبقات المختلفة ووضع كل منها على مستوى أهميتها. تتمثل مبادرة هوسرل في توسيع نطاق البحث الفينومينولوجي، ومسح المجالات الجديدة، التي يساهم تحليلها في إثبات صلاحية المنهج الفينومينولوجي، الذي تم تعريفه بشكل مستقل عن مرجعيته إلى الوعي الطبيعي (وحتى التغلب عليه، لأن العصر يتكون من الحصول على التخلص من النزعة العادية). في مثل هذا التكوين، لم يكن للنظر فيما قبل النظري القدرة على تدمير النظري. قدم ما قبل النظري نفسه كمستوى مختلف، يمكن للفلسفة أن تأخذه بعين الاعتبار من بين طبقات أو مكونات أخرى من تجربتنا. لكن الآن هذه اللفتة من هيدجر، التي تتكون من تشكيل عالم (الحياة اليومية) بالديناميت للمفاهيم الفلسفية، هذا المصنع الملموس الذي يوفر أسلحة الدمار، ستصبح لفتة ستبني المشهد الفلسفي للقرن العشرين، في حين أنها ستبني المشهد الفلسفي للقرن العشرين. كان غائبا تقريبا من قبل. في الواقع، هاتان هما نفس الإيماءات التي تميز فلسفة فيتجنشتاين:

1) تدمير المفهوم الفلسفي الذي أعلن أنه لا معنى له

و2) القيام بذلك من موقع نختاره باعتباره الموقع الوحيد ذي الصلة: اللغة العادية.

الإيماءتان الأساسيتان متماثلتان تمامًا. لدينا أفق: تدمير الفلسفة واختيار المكان، وتحديد الأرضية التي سيصبح هذا التدمير فعالاً منها: العادي، اليومي. لقد أنجز الفيلسوفان العظيمان في القرن العشرين نفس اللفتة الهيكلية تمامًا، ولن يكون من الصعب إظهار أن فلاسفة عظماء آخرين، حتى لو لم يتناولوا موضوع الحياة اليومية بالكامل، فقد شرعوا أيضًا في البحث عن "حل ملموس" "، مكان "ما قبل النظري" ، تم اختياره على أنه أكثر أصالة (أو ذي صلة). هذا جزئيًا هو حال ميرلو بونتي وتحليله للمعقول، باعتباره تجربة بدائية وجامحة ومبتكرة، أو بكل بساطة حالة بعض الفلاسفة التحليليين المعاصرين المرتبطين بالموضوعة، بدلاً من المفاهيم المجردة (والتي لا معنى لها) للأشياء. الفلسفة "السذاجة الثانية". حتى لو كانت التحليلات مختلفة بشكل واضح في محتواها، تظل الحقيقة هي أن الإشارات الأساسية متشابهة في بنيتها: 1) اختيار المكان الذي سيتم منه تدمير المفاهيم الفلسفية؛

2) تحديد هذا المكان على أنه ما قبل نظري أو أولي أو أصلي أو حتى "طبيعي" وساذج وملموس. وبعبارة أخرى، إذا أدان باسكال الفلسفة "عديمة الفائدة وغير المؤكدة" من نظام ثالث، فإن الفلسفة المعاصرة تدينها من هذا النظام الجديد الذي شكلته: "الملموسة"، التي تتخذ عند هيدجر شكل الحياة اليومية، بينما يتخذ فتجنشتاين شكل الحياة اليومية. العادي، مع ميرلو بونتي الحساس والجسدي.

هيدجر هو نقطة البداية والشرط لهذا الوجه الجديد للنظام الثالث (أو العالم الجديد) الذي انغمست فيه كل الفلسفة المعاصرة.

خاتمة

إذن، لدينا إجابة للسؤال الأولي. إن فلسفة هيدجر هي أصل الثورة التي أعادت تشكيل الفضاء الفلسفي بأكمله. لقد أحدثت الصفيحتان (تدمير الفلسفة واختيار الحياة اليومية في الفلسفة الأولى) بالفعل، من خلال اجتماعهما معًا، زلزالًا غير مسبوق، إلى حد أن معظم فلسفة القرن العشرين، وجميع الاتجاهات مجتمعة، يعتمد عليه. تتمثل الحركة الأساسية في طرح ما قبل النظري باعتباره المكان الذي يمكن من خلاله الحكم على النظري وتدميره (رابط التضمين)، وتشكيل هذا "ما قبل النظري" في "عالم"، مفترض باعتباره كليًا منظمًا وذو أهمية بواسطة بحد ذاتها. هذه الأصالة المميزة، تبقى أسئلة كثيرة واجهناها طوال هذه الرحلة: لماذا، لإفساح المجال لما قبل النظري، نختار تدمير الفلسفة بدلا من إعادة بنائها؟ هل ينبغي لنا حقًا أن نستمد النظري من ما قبل النظري أو أن نضع كلًا في مجالاته ذات الصلة؟ علاوة على ذلك، هل يمكن لما قبل النظري أن يصل إلى كرامة كلية كبيرة في حد ذاته (التناظرية المعاصرة للكون المفقود منذ الإغريق) أو حتى أن يكون له نفس الوضع الذي يتمتع به نظام باسكال الثالث؟

مهما كانت هذه الأسئلة، المتعلقة بهذه الركائز للفلسفة المعاصرة التي كان مارتن هيدجر أول من وضعها، فإن سؤالنا الوحشي سيكون له على الأقل ميزة واحدة: طرح مشكلة سياسة الالتزام من زاوية أخرى. إن الإيماءتين الأساسيتين اللتين قمنا بإعادة تشكيلهما، واللتين ميزتا فلسفة هيدجر الأولى، هما إيماءتان اتخذهما جزء كبير من القرن العشرين (فتجنشتاين، أولاً وقبل كل شيء). هذه النتيجة تواجهنا ببديل: إما أن يكون لفلسفة القرن العشرين علاقة بالنازية (التأثير المباشر للفلسفة في السياسة)؛ وإلا فإن البنية الأساسية لفلسفة هيدجر الأولى تظل، على الأقل في حركاتها المبدئية التي قمنا بإعادة تشكيلها، موضع شك (وقابلة للنقد) من حيث الحقيقة والباطل، وبالتالي تنتمي إلى المجال الفلسفي بشكل مستقل عن ارتباطها بموضوع معين. مشروع سياسي. دعونا نترك الأمر للقارئ ليقرر أي فرع من فروع البديل هذه هو الأكثر احتمالا لفهم التكوين الفلسفي (تدمير الفلسفة من مكان ما قبل النظري أو العادي)، الذي كان القرن العشرين بأكمله منغمسا فيه وفيه والتي لا يزال الكثيرون يعتمدون عليها اليوم.

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

......................

المصدر

Isabelle Thomas-Fogiel, Qu’est-ce que la philosophie de Heidegger a d’original ?, Dans Revue philosophique de la France et de l'étranger 2017/ 2 (Tome 142), pages 195 à 214

(البعد السياسيّ – الدولة – أنموذجاً)

يُعتبر الإنسان مخلوقاً اجتماعيّاً لا يُمكن أن يعيش وحده بمعزلٍ عن الآخرين، لذلك ظهرت بين الناس علاقات ذات أبعاد مختلفة منها الاقتصاديّة ومنها الاجتماعيّة ومنها السياسيّة ومنها الأخلاقيّة والثقافيّة بكل أنساقها الفلسفيّة والفنيّة والأدبيّة، وهذه العلاقات منها ما هو ايجابي يحقق العدالة والمساواة بين الناس، ومنها ما هو باطل يحقق الظلم والاستغلال والاستعباد بين الناس أيضاً، وعلى هذا الأساس راح يظهر الحق والباطل في هذه العلاقات، الأمر الذي دفع المهتمين بمصالح الناس من الحقوقيين، والمشرعين أو الفقهاء إلى وضع الأنظمة والقواعد والقوانين الحقوقيّة أو التشريعيّة التي تُنظّم العلاقات بين مكونات المجتمع وأفراده، وحماية الحُقوق التي يَمتلكها كل منهما، وبالتالي استمراريّة استقرار المجتمع وتوازنه.

والحق في اللغة: هو الثابت الذي لا يسوّغ إنكاره. وفي المعجم الوسيط يطلق الحق على الصحة، والثبوت والصدق.

أما الحق اصطلاحاً: فهو الحكم المطابق للواقع. وهو أيضاً ما يختصّ به الشخص عن غيره مادةً ومعنى، ولهذا الحق الشخصي كان أو الجماعيّ، قيمة تخوّل أصحابه بموجبه، سلطة له أو تكليفًا عليه، ويُمكن أن يكون الحقّ مادياً مثل حق الملكيّة، أو مَعنويّاً مثل حق التأليف وحق الاسم التجاري والكرامة الشخصيّة. (1)

وغالباً ما تُعتبر أقوال الأنبياء والرسل والعقائد والأديان والمذاهب أقول حق، أقول حق: لاشتمالها على الثابت الذي لا يسوغ إنكاره عند معتنقي هذه الأديان والمذاهب، أو المؤمنين بها. هذا ويقابل الحق الباطل. وأما الصدق فقد شاع في الأقوال خاصة، ويقابله الكذب، وقد يفرق بينهما، بأن المطابقة تعتبر في الحق من جانب الواقع، وفي الصدق من جانب الحكم. (2).

أما الحق من وجهة نظر قانونيّة: فهو الواجب الثابت والمؤكد. أو هو يمثل مصلحة يخوَّل لصاحبها القيام بأعمال ضروريّة لتحقيق هذه المصلحة، وفيها ثبوت قيمة معينة لشخص معين بمقتضى القانون. ويعد الحق، ما منحه الشرع لكافة الأفراد على حد سواء وألزموا باحترامه، وهو وسيلة لتحقيق مصلحة مشتركة، والقانون هو الذي يقرر هذه المصلحة. كما أنه قدرة إراديّة يعترف بها القانون للغير، ويكفل حمايتها، وهو ما يستطيع الفرد العمل به في إطار ما يسمى بالشرعيّة القانونية. (3).  هذا وهناك العديد من الأمور المتعلقة بحياة الإنسان الفرديّة تعتبر من الحقوق، مثل:

الحق في الحياة أو الوجود، والحق في الاختيار؛ والحق في التصويت وحرية التعبير، والحق في العمل، والحق في الإضراب، وحق المساواة في المعاملة أمام القانون، وحق المرأ الإيمان بنفسه وحريّة تعبيره، وملكيّتة، وخصوصيته الشخصيّة وغير ذلك.

ويمكن تصنيف الحقوق أيضاً وفقاً لبعدها الاجتماعي كالتالي:

حقوق الطفل. وحقوق العمال، وحقوق الدول، وحقوق الشعوب،  والحقوق الجسديّة، والحقوق الأخلاقيّة النابعة من أسباب أخلاقيّة لها سيادتها في المجتمع، إن كان بحكم الدين، أو العرف والعادة، وغيرها الكثير.

على العموم ما يهمنا في هذه الدراسة المتواضعة هو الحق السياسيّ في فلسفة الدولة. ويمكن تصنيف هذا الحق ضمن ثلاثة اتجاهات هي:

الحقٌّ الطبيعيّ.

الحقٌّ الإلهيّ.

الحقٌّ المدنيّ.

الحق الطبيعي:

إن الحقوق الطبيعية’ هي حقوق «طبيعية»، بمعنى «ليست مصطنعة من قبل الله أو الإنسان»، كما هي الحال في الحقوق المستمدة من الطبيعة البشريّة أو من أحكام إله. وهي حقوق عالميّة، أي أنها تنطبق على جميع الناس، ولا تستمد من قوانين أي مجتمع بعينه. أي هي موجودة بالضرورة داخل كل فرد، ولا يمكن أن تؤخذ منه. وتسمى أحيانًا بالحقوق الأخلاقيّة أو الحقوق غير القابلة للتصرف.

والحقوق الطبيعيّة تتجلى عبر الحرية التي يتمتّع بها الانسان بوصفه كائنًا طبيعيًا، وتتحدّد بحدود الذات وقدرتها ومشيئتها.  وعلى هذا الأساس اعتبر الفيلسوف الهولندي اسبينوزا Spinoza  في هذا الإطار: إن لكل فرد حقاً طبيعياً، يضم كل ما يرغب به الفرد ويستطيع الحصول عليه. ونتيجةً لذلك، يعادل حق المرء الطبيعي قوته أو سلطته الفرديّة. وبالتالي، لا تقوم الحقوق الذاتية (مثل حقوق الإنسان)، في فلسفة سبينوزا السياسيّة، فهي مؤسسة من مؤسسات المجتمع، ولا وجود لها إلا في الدولة المدنية. (4). ويتحدّد هذا الحق بحسب الرغبة والقدرة، غير أن حالة الطبيعة قد تكون مرادفةً لحالة الحرب، لأن الطبيعة لا تعرف حقًا آخر غير «حق القوة »، وهي لا تعرف العدل ولا ترحم الضعيف. فالحق الممارس في حالة الطبيعة يعني حرّية الفرد في أن يفعل كل ما في استطاعته لضمان مصالحه الخاصة. وكما لاحظ الفيلسوف الإنجليزي (توماس هوبز) Hobbes، بأن الحق الطبيعي هو حق كل شخص في الدفاع عن شخصه باستعمال كل الوسائل الممكنة، لأن كل فرد في هذه الحالة له الحق في كل شيء لكي يحافظ على بقائه، إذ ليس هناك قواعد أو معايير أو مؤسسات، وبالتالي لا شيء يمكن أن يعتبر عدلاً أو ظلماً. بيد أن هذه الوضعيّة قد تتحوّل إلى حرب الكل ضد الكل في حالة تجاهل القوانين المنظّمة للعلاقات الاجتماعيّة، ما يؤكد بالتالي سيادة العنف. وفي هذه الحالة يصبح أمر تنظيم الحق الطبيعيّ وإخضاعه للقواعد الاجتماعيّة وللمعايير الأخلاقيّة والقانونيّة أمراً واجباً، وعليه يقول "توماس هوبز" : إن الحق الطبيعيّ في الحياة يشكل أساس التعاقد الذي اضطر اليه الناس للخروج من حالة الحرب المزرية، والانتقال الى حاله السلم والامن عن طريق تفويض تدبير أمورهم لسلطة  حكم مطلق، أو حاكم قوي كالتنين (الليفتان)، قادر على ضمان آمن وسلامة الافراد.(5).

أمام معطيات الحق الطبيعيّ والنتيجة التي توصل إليها "هوبز"، تأتي ضرورة الحديث عن الحقوقٍ المدنيّة، التي ترتبط في إطارها حرية الإنسان وحقّه في العدالة والمساواة والأمن والعيش الكريم.

ثانياً الحقٌّ الإلهي:

يقول ابن رشد: “التجارة بالأديان هي التجارة الرائجة في المجتمعات التي ينشر فيها، إذا أردت أن تتحكم في جاهل فعليك أن تغلف كل باطل بغلاف ديني.”.

إن من يقلب صفحات التاريخ يجد صنوفاً من أنظمة الحكم التي استغلت الدين أو تاجرت به سياسياً، حيث استمدت من الإله وجودها وتسلطها على الناس، كما هو الحال في الحضارة السومريّة أو كما سميت في الكتاب المقدس (شنعار)، وقد ظهرت حوالي (3500 ق.م.)، والحضارة البابليّة حوالي (1894 ق.م.)، وكلاهما ظهرتا جنوب بلاد ما بين النهرين (العراق حالياً)، واستمرتا في بعدهما السلطوي الديني إلى حوالي عام (400) بعد الميلاد. وهناك الحضارة الآشوريّة شمال وادي الرافدين (1900-612 ق.م.). والحضارة الآراميّة، وسط وشمال سوريا والجزء الغربي من بلاد الرافدين.

لقد اعتنق السومريون، ومن بعدهم البابليون والآشوريون الملك كإله، أو نصف إله، كما هو الحال في شخصية كلكامش، وكان لكل مدينة إله (ملك)، تزداد أو تقل أهميته بناءً على دور المدينة الاقتصاديّ والتجاريّ، وهذا ما ظهر في الحضارة الفرعونية، أيضاً حوالي (3150) قبل الميلاد، وقد اعتنق المصريون القدماء فكرة الملك المقدس الذي يدير شؤون البلاد. واعتقدوا أن كل ملك هو “إبن الإله”. وهذا التوجه الديني في السلطة نجده في  الحضارة الإغريقية (1200- 323 ق.م.)، وفي الحضارة الرومانية (735ق.م.- 1435م. (6).

على العموم: يعتبر الحق الإلهي، مفهوماً دينيّاً وسياسيّاً، يستمد من خلاله الملوك أو الحكام شرعيتهم التي من خلالها راحوا يحكمون شعوبهم بسلطات مطلقة. وقد استمر هذا الحق في العصور الوسطى يفرض نفسه على المناطق التي انتشرت فيها الديانتين المسيحيّة والإسلاميّة بشكل خاص.

وإن أكثر ما اشتهر هذا المفهوم أو النظرية، في أوروبا العصور الوسطى حيث راح ينظر له من قبل الكنيسة، التي أقرت بأن الله هو الذي يختار الشخص أو الأشخاص أو الأسر التي لها حق الحكم السياسيّ في الدولة. وهذا يعني أن سلطة الملوك مستمدة من الله الذي أختارهم وأيدهم بقوته ليرعوا مصالح الأفراد الذين يفرض عليهم الواجب طاعتهم، ولهذا فإن الله تعالى باختياره للحاكم وما يملكه من أجهزة الإكراه والعقاب التي تمثل التنظيم السياسيّ، هي بسبب طبيعة الإنسان الفاسدة التي فرضها الله عليه بسبب الخطيئة الأولى، لهذا يجب على الإنسان هنا طاعة الحاكم أيا كانت تصرفاته ما لم يخالف تعاليم الكنيسة لأنها إرادة الله، (7) .

وهذا في الحقيقة ما بنى عليه آباء الكنيسة الأوائل نظرتهم  للحكم. حيث كان الملك يستمد شرعيته من الله مباشرة، ولا يحق لأي قوة أرضية أن تنازعه في حقه الإلهي هذا، أو حتى محاكمة الملك ومقاضاته، فهذا من شؤون الله وحده وليس من شأن البشر الذين عليهم الطاعة فقط كما بينا أعلاه، ويعتبر أي نوع من العصيان والخروج على الملك أو الحاكم ذنباً بحق الله. وعقب الثورة المجيدة في بريطانيا (1688–1689) ونجاح الثورتين الأمريكية بين عامي 1765 و1783. والفرنسيّة، من 1789 حتى 1799 قلل من جاذبية المفهوم السلطوي المرتبط بالحق الإلهي، إلى أن تم التخلي عنه تماما في أوروبا والأمريكيتين في القرن العشرين. (8).

أما تبرير هذه السلطة الدينية القائمة على الحق الإلهي من قبل الكنيسة فنجد لها ما يؤكدها في النصوص الدينيّة المقدسة . ففي المسيحية جاء  في رسالة "بولس الرسول" إلى أهل رومية: "لتخضع كل نفس للسلاطين الفائقة. لأنه ليس سلطان إلا من الله والسلاطين الكائنة هي مرتبة من الله. حتى أن من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله، والمقاومون سيأخذون لأنفسهم دينونة. فإن الحكام ليسوا خوفا للأعمال الصالحة بل للشريرة. فأتريد أن لا تخاف السلطان. إفعل الصلاح فيكون لك مدح منه. لأنه خادم الله للصلاح. ولكن إن فعلت الشر فخف. لأنه لا يحمل السيف عبثاً إذ هو خادم الله منتقم للغضب من الذي يفعل الشر"

وبناءً على ذلك، اعتبرت الكنيسة جرياً على مفاهيم قسطنطين، أن الملك هو ممثل الله وصورته على الأرض، وعلى هذا الأساس فهو ليس موضعا لنقد ومعارضة من أي قوة أخرى كما بينا في موقع سابق. إلا أنها – أي الكنيسة – استغلت هذه الرسالة لتعميق سلطتها على الملك ذاته فيما بعد، عندما اعتبرت الملك أقل شأنا من القوانين الإلهيّة والتي يمثلها صاحب الكرسي الرسوليّ. وبناء هذا الموقف البراغماتيّ النفعي الانتهازيّ، أستعمل مارتن لوثر هذا (النص المقدس) لتحريض السلطات على قمع حرب الفلاحين الألمانيّة .(9).

إن هذا التبريرٌ للسلطة السياسيّة في اعتمادها على مرجعيةٍ دينيّةٍ /لاهوتية، مثل النسب المقدّس (الدماء الزرقاء)، أو التجسيد الفعلي للسلطة الإلهيّة على الأرض من خلال الملك، هو ما ساهم في ترسيخ المُلكيات المطلقة التي سادت في الكثير من بقاع العالم تاريخياً.

أما الحق الإلهي في السلطة، فقد ظهر أيضاً في الحضارة الاسلامية، ويتفق الكثير من المسلمين على أن الاسلام دين ودولة، وتنطبق عليها النظريّة الثيوقراطية الدينيّة التي ترجع أصل السيادة ومصدر السلطة إلى الله، فهو وحده صاحب السيادة واليه ترجع السلطة الآمرة، وهو من يفوض في هذه السلطة. كما جرى في السقيفة عندما اتخذ حديث الرسول (الخلافة في قريش) مرجعا دينيّاً للسلطة وأحقيتها. أو في مسألة عليّ وآل بيته في حديث الغدير، الذي اتكأت عليه الفرق والطوائف الشيعية، والتي راحت بدورها تؤول بعض النصوص القرآنيّة بما يتفق وجوهر هذا الحديث لتثبيت هذا الحق. بينما راح يؤصل لها مع التيار الجبري، الذي تبناه الأمويون منذ خلافة معاوية الذي خاطب الناس بأن سلطته مقدرة من قبل الله وعليهم الطاعة. واستمر حتى سقوط الخلافة الإسلاميّة.

الحق المدني:

الحقوق المدنيّه أو القانونيّة، هي  الحقوق التي  يحوز عليها الفرد وبالتالي المجتمع من دولتهم او حكومتهم بحكم القانون. والحقوق المدنيّه تعتبر من أهم الأفكار التي تجسد حرية الإنسان وعدالته ومساواته. أو بتعبير آخر: الحقوق المدنيّة والسياسيّة هي أنموذج من الحقوق التي تحمي حرية الأفراد وصد التعدي عليهم من قبل الحكومات والمنظمات الاجتماعيّة والأفراد، والتي تضمن قدرة الفرد على المشاركة في الحياة المدنيّة والسياسيّة للمجتمع والدولة دون تمييز أو اضطهاد.

وإن انتقال الإنسان من حالة الحقوق الطبيعيّة إلى حالة الحقوق المدنيّة لا يعني فقدانه كل الحقوق الطبيعيّة، وإنما يعني أن الحياة الاجتماعيّة تتولّى ضمان الحقوق بوصفها تشمل الحقوق المدنيّة. أي ضمان التكامل الجسديّ والعقليّ للشعوب داخل مجتمعاتها. أي ضمان الحياة والسلامة العامة لمكونات المجتمع، ممثلة هذه الحياة والسلامة العامة في الحماية ضد التمييز على أساس العرق أو الجنس أو الأصل الوطني، أو اللون، أو الميول الجنسيّة أو العرقيّة أو الدينيّة، أو الإعاقة، وكل مفردات الحقوق الفرديّة مثل الخصوصيّة، وحرية الفكر والضمير والكلام والتعبير والدين والصحافة والتجمع والتنقل.

لقد أكّد الفيلسوف الإنجليزي (جون لوك)، بأنه لا يوجد مجتمع سياسيّ مدنيّ إلا حيث يتنازل كل فردٍ عن حقّه الطبيعيّ للجماعة، وكل الأفراد الذين يؤلّفون جماعةً واحدةً ويعيشون في ظلّ قانونٍ ثابتٍ وفضاءٍ عادل، إنما يعيشون في مجتمع مدنيّ.

وتتأسس الحقوق المدنيّة على قاعدة كون الإنسان له قيمة باعتباره كائنًا عاقلً، حرًا، إراديًا وذا كرامة. وينطلق هذا الإيمان بقيمة وكرامة الإنسان من مبدا أساسيٍّ وثابتٍ، وهو: أنّ من الضروري أن تُصان حقوقه، لأنه إنسانٌ أولًاً وأخيرًا، ومن الضروري، نتيجة ذلك، أن يكون حرًّا وأن يتساوى في الحقوق مع الآخرين. وهكذا، يتأسس كل حق مدنيّ على حق طبيعيّ محايث للفرد. (10).

إذاً لا يمكن تصور الحق المدنيّ بوصفه نقيضًا للطبيعة، وإنما هو استجابة وتنظيم لحق الطبيعة الانسانيّة في الحرية والمساواة. وهنا يبرز الوجه السياسيّ لمسألة الحق المدنيّ، حيث تطرح علاقة الفرد بالسلطة وعلاقة المجتمع المدنيّ بالدولة، وما يتفرع عن ذلك من قضايا، تهم السيادة والشرعيّة والواجب ودولة الحق والقانون والمؤسسات والتشاركيّة أو التعدديّة وتداول السلطة... الخ.

هذا وقد تم الاشتغال على الحق المدنيّ في السياسة بدء من القرن (17م) مع "توماس هوبز" "وجون لوك"، حيث برزت الدولة ككيان اصطناعيّ أسسه التعاقد الاجتماعيّ المفترض بين السلطة والأفراد، هدفه التشريع للتنازل عن الحقوق الطبيعيّة مقابل السلم والامن وتامين الخيرات وتحقيق المصالح الجماعيّة. ثم في مرحلة القرن (18م) من خلال أفكار" مانويل كانط" الذي ربط بين الدولة والمسألة الاخلاقيّة والاستخدام المنير للعقل من لدن الأفراد في المجال العموميّ، وهو ما يسمح بنشوء دولة الحق والقانون التي تقوم على نظام تمثيلي برلماني، وفي الأخير مرحلة القرن (19م) عند الحديث عن موقف فريدريك هيغل الذي أعطى مساحة واسعة للمجتمع المدنيّ في تدبير شؤون الأفراد لكونه ممثلا للمؤسسات السياسيّة عكس الدولة التي تظل مجرد فكرة عقليّة موضوعيّة تتحقق من مضامينها من خلال المجتمع المدنيّ باعتباره مؤسسة وسيطة بين الأسرة والدولة نفسها. (11).

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة

......................

الهوامش:

1- راجع موقع موضوع.

2- الويكيبيديا.

3-  للاستزادة راجع - الحقوق وانواعها في القانون. (موقع حماة الحق). بواسطة حماة الحق – محامو الأردن – 25 سبتمبر -2010.

4- المرجع نفسه - (موقع المعرفة – الحق الإلهي للملوك.).

و(للاستزادة في موقف سبينوزا راجع: موقع الحوار المتمدن - التأصيل للدولة : العودة إلى الحق و القانون الطبيعيان عند اسبينوزا).

5- (موقع فضاء الفلسفة – الحق والعدالة – يراجع موقف توماس هوبز).  وللاستزادة في الحق المدني يراجع: (مجلة القبس للدراسات النفسية والاجتماعية - الدولة والمجتمع المدني في الفكر السياسي الحديث، (توماس هوبز، جون لوك، امانويل كانط، فريدريك هيغل - الكاتب : حمون حسان).

6- http://www.bahzani.net/?p=20772)

فلسفة الحكم/من “الحق الالهي” إلى الحكم الشعبي : د. خليل جندي.).

7- افكر السياسي في العصور المسيحية الوسطى يوليو 28، 2011.).  http://hkbraveheart.blogspot.com/2011/07/blog-post_28.html -

8- موقع المعرفة – الحق  الإلهي للملوك.).

9- موقع المعرفة – الحق  الإلهي للملوك.).

10- للاستزادة في معرفة فلسفة لوك راجع موقع  https://hekmah.org

11- (موقع فضاء الفلسفة – الحق والعدالة – يراجع موقف توماس هوبز).  وللاستزادة في الحق المدني يراجع: (مجلة القبس للدراسات النفسية والاجتماعية - الدولة والمجتمع المدني في الفكر السياسي الحديث، (توماس هوبز، جون لوك، امانويل كانط، فريدريك هيغل - الكاتب : حمون حسان).

 

في البدء، لَعَلّنا نحتاج للتّذكير بتعريف (المُقدّس) ولو بنحو الإيجاز، ويُمكننا القول إنّه: كلّ ما ينتمي إلى حقل الممنوعات من آلهةٍ وكائناتٍ وأمكنةٍ وأفكارٍ وحتّى طقوس في بعض الأحيان، وهو الذي لا يُمكن المساس به والشّكّ في وجوده، وقد تصاحبه بعض الطّقوس والاحتفالات، والتي من شأنها أن تعيد حضوره بلا هوادة بين الفينة والأخرى.

(والمُقدّس أيضاً، هو حقّيقيّة غير استطراديّة، فهو يُعيدنا إلى تجربةٍ ذاتيّةٍ لا يُمكن قياسها، إلى درجة أنّ الجدل الفلسفيّ لم يتمكّن من فهمها حتّى الآن)1.

وإذا ما نعرف أنّ البيئة والجغرافيا من اشتغالات الإيكولوجيا، فإنّه ثَمّة علاقة ضروريّة بينها وبين المُقدّس، و(الإنسان وبواسطة التّاريخ، يؤسِّس لوجوده الطّبيعيّ والإنسانيّ فوق تضاريس الجغرافيا وبين طبقاتها الجيولوجيّة، وبالتّالي فهو - ومن خلال الحضارة - يُحقّق لفعله الاجتماعيّ الامتداد الطّبيعيّ في بيئتها الإيكولوجيّة، ويضمن لوعيه الرمزي بالاضطراد في إطار حدودها المكانيّة. وفيما إذا تعرّضت العناصر البنيويّة للجغرافيا إلى ما يخلّ بوحدتها الطّبيعيّة أو يسيء إلى شخصيّتها الإقليميّة، فإنه سرعان ما تدبّ عوامل الانحلال إلى ميدان التّاريخ والاضمحلال إلى حقل الحضارة)2.

وهذا التّأسيس الذي يقوم به الإنسان لوجوده الطّبيعيّ، هو بلا شكّ يتضمّن عنصر القداسة، إذا ما اتّفقنا أنّ الدّين من أهمِّ العناصر الأساسيّة في تكوين الإنسان وثقافته منذ بدء الخليقة، وبالتّالي فإنّ الدّين والقداسة يسيران في خطٍّ متوازٍ واحد، بل أنّ القداسة في أغلب الأحيان تولد من رَحِم الدين.

والإنسان المُتديّن ينظر إلى الطّبيعة، ليس باعتبارها طبيعة على وجه الحصر، بل يراها مُثقلة دائماً بقيمٍ دينيّة، لأنّ تفسيره للكون على أنّه إبداع إلهيّ خرج من يدي الآلهة، وأنّ العالَم يبقى مُغرقاً بالقداسة. وليس المقصود بالضّرورة قداسة موصولة بالآلهة فقط، بل تلك القداسة التي قد ترتبط بمكانٍ أو شيءٍ، مُكرّس بحضورٍ إلهيّ مثلاً3.

ينظر الإنسان المُتديّن إلى الكون، بأنه ينبض بالحياة، وهذه الحياة تدلّ على قداسته، أيّ قداسة الكون، لأنّها من نتاج الآلهة، وأنّ هذه الآلهة تُشير إلى وجودها للنّاس من خلال حياة الكون هذه.

ولهذا السّبب، ومنذ أن تَشكّلت واتّضحت عناصر الثّقافة، أدرك الإنسان بأنّه كون مُصغّر، وقد ذُكِرَ في الموروث الشّعريّ العربيّ بهذا الصّدد:

وتَحسبُ أنّكَ جرمٌ صغير... وفيكَ انطوى العالمُ الأكبر

أدرك ذلك، لأنّه يُشكّل جزءاً من خلق الآلهة، وبعبارةٍ أخرى، أنه يجد القداسة في ذاته، والتي تعرّف عليها في الكون4.

وهكذا أخذ الإنسان يُقارن حياته بحياة الكون الكبرى، كونها هي الأخرى من صنع الإله، وفي هذا الصّدد الكثير من الأمثلة التي يُمكننا سوقها، ومن أهمّها، موضوعة الزّواج، فقد قارن بين الأرض والسّماء والرّجل والمرأة، حيث مَثّلت المرأة دور الأرض، وهذا ما أيّدته الكثير من النّصوص في الكتب المقدّسة، ففي سورة البقرة من القرآن وفي الآية 223، يقول النّصّ: (نساؤكم حرث لكم)، وفي كتاب "الاتهارفافيدا" وهو من أهمّ الكتب الهندوسيّة المُقدّسة في الجزء (14-5-24) يقول: (هذه المرأة كأرضٍ حَيّة، ازرعوا فيها البذور أيها الرجال).

لقد تَمكّنت الإيكولوجيا من إنتاج الكثير من المُقدّسات على المستوى البيئيّ والجغرافيّ، ومنذ أزمانٍ بعيدة، وأيضاً بإمكانها إعادة إنتاج المُقدّس ومفاهيم جديدة تتفرّع عنه، وسنسوق بعض الأمثلة على ذلك.

جغرافيّاً، انتجت الإيكولوجيا الكثير من المُقدّسات، لأنّ الإنسان المُتديّن ينظر إلى المكان بوصفه شكلاً غير متجانساً، فهو يُمثّل بالنّسبة له انقطاعات وانكسارات، ويرى بعض الأجزاء على أنّها مختلفة نوعيّاً عن بعضها.

(لا تقترب من هنا، قال الرّبّ إلى موسى، اخلع نعليك من رجليك، لأنّ المكان الذي توجد فيه هو أرض مُقدّسة)، سفر الخروج: 3:5، وذات النّصّ يردُ في القرآن في سورة "طه" الآية "12" لكن بصياغةٍ مختلفةٍ بعض الشّيء: (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى).

ولنأخذ مثالاً عاديّاً على ذلك، وهو مثال الكنيسة، فشكل الكنيسة في مدينةٍ حديثة، تختلف رؤيته وتقييمه عند الإنسان المُتديّن عن غير المُتديّن، فعند المؤمن تُشارك هذه الكنيسة في مكانٍ آخر غير الشّارع الذي توجد فيه، فالباب الذي ينفتح نحو داخل الكنيسة يدلّ على حلٍّ للاستمراريّة، والعَتبة التي تفصل المكانين تدلّ في آنٍ واحدٍ على المسافة بين طريقتين للتكوّن، دينيّة ودنيويّة.

إنّ العَتَبة هي في الوقت ذاته، الفاصل والحَدّ الذي يُميّز ويُقابل عالمين، والمكان المتناقض حيث يتوصّل هذا العالمان، وحيث يُمكن انجاز المرور من عالمٍ دنيويٍّ إلى عالمٍ مُقدّس5.

ونفس الحال لو أخذنا مثال أيّ مسجدٍ أو مقامٍ عند المسلمين، نرى أنّ صفة القداسة بدأت تلازم ذاك المكان، بل حتّى كامل المنطقة التي يكون فيها، كما هو مشهور (الكعبة المُشرّفة) و(كربلاء المُقدّسة) و(النجف الأشرف).

أي أنّ إضفاء القداسة هنا، يرتبط ويتعملق مكانيّاً في ذهنيّة الإنسان المُتديّن، ففي الواقع ليس كُلّ كربلاء مُقدّسة حتّى عند ذات الإنسان المُتديّن، بل هي فقط البقعة التي ضَمّت قبر الحسين بن علي، وكذلك ليس كُلّ النّجف وهكذا، إلّا أنّه يُسقط صفة القداسة على كلّ المكان، بسبب حمولات القداسة المكنونة في وعيه.

وما زالت الإيكولوجيا قادرة على إعادة إنتاج المُقدّس مكانيّاً، بسبب توفّر ذات الظّروف التي تساعد على تغوّل المفاهيم الدينيّة المغلوطة داخل المنظومة الإدراكيّة للفرد، لا سيّما المُتديّن.

ومن أبرز الأمثلة على ذلك، هو كُثرة ظهور المراقد الدّينيّة المُزيّفة، فبين الحين والآخر، يتمّ الإعلان عن اكتشاف مرقد جديد هنا وهناك، تحت ذريعة أنّ أحدهم قد شاهد في أحد أحلامه أن هذا المكان دُفن فيه شخصاً مُقدّساً ينتمي إلى عائلةٍ مُقدّسةٍ عند طيف واسع من النّاس، وبالتّالي يكتسب المكان صفة القداسة بعد أن يتمّ بناؤه بشكلٍ جيّد، ويُصبح مزاراً للكثير من الوافدين، الذين يلتمسون بعضاً من تلك القداسة لقضاء حوائجهم.

وبيئيّاً، أيضاً ما زالت الإيكولوجيا قادرة على إنتاج المُقدّس، فما زلنا ونحن في هذه الألفيّة، نشهد من يُقدّس بعض الشّخصيّات، لا سيّما الطّبقة العُليا من رجال الدين بمختلف مشاربهم ودياناتهم، فنسمع (قداسة البابا) عند المسيحين و(قُدّس سرّه) و(طاب ثراه) وعند المسلمين.

ومما لا ينبغي إغفاله هنا، هو أنّنا لا نجد هذه التّصرّفات الدّينيّة المموّهة أو المختلفة في الدّيانات الصّغيرة أو الصّوفيّة فحسب، بل نتعرّف عليها كذلك في حركاتٍ تُعلن عن نفسها صراحةً بأنّها علمانيّة، بل وضدّ الدين. وهكذا نجد في مذهب العُري أو في الحركات من أجل حريّة الجنس المطلقة6.

***

علاء البغداديّ

كاتبٌ وباحثٌ من العراق

....................

1  - فالح مهدي: البحث عن جذور الإله الواحد، ص 223

2  - ثامر عبّاس: الجغرافيا الشِقاقيّة، ص 113

3  - مرسيا الياد: المُقدّس والمُدنّس، ترجمة عبد الهادي عبّاس المحامي، ص 89

4  - مرسيا الياد: المُقدّس والمُدنّس، ترجمة عبد الهادي عبّاس المحامي، ص 123

5  - مرسيا الياد: المُقدّس والمُدنّس، ترجمة عبد الهادي عبّاس المحامي، ص 28

6  - مرسيا الياد: المُقدّس والمُدنّس، ترجمة عبد الهادي عبّاس المحامي، ص 150

نعت الاوساط الاكاديمية والفلسفية في اوروبا يوم 9حزيران ٢٠٢٣ الفيلسوف الفرنسي آلان تورين Alain Touraine الذي توفي عن عمر قارب الثامنة والتسعين عاما.

ويعتبر تورين مع زميله الفرنسي ادغار موران (بلغ ١٠٠ سنة هذا العام) اكبر معمرين في الفلسفة المعاصرة اضافة الى الالماني اورغان هابرماس (٩٣ عاما) الذي اهتم بالمجال العام للدين.

تتقدم الفلسفة في القرن الحادي والعشرين تقدما بالموضوع وليس بالشخصيات الفلسفية. اذ تتوسع الميادين الفلسفية المعاصرة بتوأمة الفلسفة وعلم الاجتماع بعد توسع اهتمامات مدرسة فرانكفورت في الستينيات اذ اضافت لمجالها علم النفس خاصة في اهتمامات اريك فروم وهربرت ماركوزه اللذين اثرا في جيل الستينيات وفي الثورة الطلابية عام ١٩٦٨ في اوروبا.

اهتم تورين بمشكلات الحداثة (نقد الحداثة) والديمقراطية (ماهي الديمقراطية؟) ووسع الاهتمام بتطور المجتمع المعاصر ومواجهات الديمقراطية مع التطور الرأسمالي الليبرالي- البرجوازي وبروز دور منظمات المجتمع المدني مقابل السلطة، والصراع بين الفاعل الاجتماعي والفاعل السياسي. وصاغ تورين تطورا في مفهوم الثقافة الديمقراطية باعتبارها تنطلق من الايمان باستحالة عودة الديكتاتورية لمجتمع اصبح ديمقراطيا.

تؤكد افكار تورين على ان الديمقراطية ليست منجزا كاملا يتم تركيبه على جميع المجتمعات. فهناك تجارب متباينة. فالديمقراطية كما يقول: افضت اكثر فاكثر الى التنظيم المستقل لحياة سياسية، لا يمكن ان تتماهى مع الدولة ولا مع طلبات المستهلكين. ويستنتج مؤكدا: ان ذلك التنظيم المستقل، اضحى في الغالب على درجة من الاهمية جعل الحياة السياسية تبدو غريبة حيال مشكلات الدولة، على قدر غرابتها حيال طلبات المجتمع المدني.

كتب تورين هذا الاستنتاج عام ١٩٩٣ اي قبل ثلاثين عاما، الامر الذي نراه جليا وواضحا تحت تأثير تطورات شتى، خاصة مع بدايات القرن الحادي والعشرين منذ احداث الحادي عشر من ايلول/ سبتمبر ٢٠٠١ والحرب على افغانستان والعراق تباعا وصولا الى جائحة كوفيد ١٩ والحرب في اوكرانيا، حيث تحولت الديمقراطية الى ممارسة مبدأ: كل من ليس معي فهو عدوي. في حالة انفصال بين الديمقراطية والفلسفة.

في ندوة في امريكا وجه مقدم الندوة سؤالا الى نيلسون مانديلا يكشف ورطة الديمقراطية فعليا ويحولها الى ايديولوجيا استفزازية.

كان السؤال: سيد مانديلا كيف يمكن لك ولجنوب افريقيا ان تتحالف مع ارهابيين مثل فيدل كاسترو ومعمر القذافي وشافيز وغيرهم؟ كان الرد قاسيا وواقعيا يكشف الادعاء بان الديمقراطية ليست سوى اداة تعريف لمصالح الغرب في العالم. اي ان الديمقراطية سلاح قمع وابتزاز الشعوب التي تختلف مصالحها عن مصالح دول الغرب.

اجاب مانديلا السائل: لماذا تفترض ان اعداءك يجب ان يكونوا بالضرورة اعداءنا؟

تكشف لنا الاحداث ذلك اكثر من الاوهام. ففي نموذج العراق مثلا، كان (الشرط) الاساسي هو الديمقراطية كتبرير للحرب. وبعد اربعة اشهر عليها حصلت على خريطة من اذاعي بريطاني لمحطات الراديو التي انشأوها في العراق. ولما سألته عن المسافة بين ناحية الشوملي التابعة لمحافظة بابل عن مركز محافظة بابل قال يمكن ان تكون خمسين كيلومترا قلت له انها تبعد اقل من عشرين كيلومترا فانزعج واعتبر قولي (تدخلا) في شؤون (بلده) وليس بلدي. كانت الخريطة تؤشر محطات الراديو التي انشأوها في محافظات الجنوب حيث كان مركز محافظة بابل ومركز محافظة كربلاء (اقل من اربعين كيلومترا بين المحافظتين) قد شهد تأسيس اربع او خمس محطات راديو في مركز كل محافظة، وفي الاقضية التابعة للمحافظتين اكثر من عشر محطات. وعينوا فيها مئات من الهواة الذين ليس لديهم ادنى فكرة عن وظيفة الاعلام، وكانت النتيجة هي زرع الفوضى والتهريج والشعور باستقلالية كل مدينة عن الاخرى باسم نظام فيدرالي ملفق دمر الشعور بالانتماء لبلد موحد.

درس تورين التجربة الايطالية للديمقراطية ولكنه لم يدرس بعد ذلك التجربة العراقية او تجارب ما اطلق عليه الربيع العربي ليتأكد ان الديمقراطية ليست سوى منتوج اوروبي يمنع تصديره او اعادة انتاجه في العالم. ولكنه يستخدم خارج الغرب الامريكي والاوروبي تسويغا للتقسيم وتأويلا للاستقلالية المنعزلة ولاشاعة الفوضى.

خلال نقاشات عديدة بعد غزو العراق مع كتّاب واكاديميين اوروبيين (بعضهم عمل مع امريكا وبريطانيا في العراق بعد ٢٠٠٣) كنت اسمع ردودا غاية في العنصرية والاستخفاف في اغلب الاحيان، تبدأ من (الايمان) بان الديمقراطية لاتصلح للعرب ولا لدول الشرق الاوسط وكأن دول الغرب قد ولدت ديمقراطية وورثتها عن طريق جينات الاجداد والاسلاف الذين اغرقوا اوروبا بالدماء عبر حروب دينية استمرت اربعمائة عام اجبرت المانيا المسيحية على السماح بتعدد الزوجات خلال الحروب الكاثوليكية - البروتستانتية بسبب النقص في الرجال الذين ابتلعتهم الحروب.

ولسوءالحظ فان اغلب منظري الديمقراطية لا يهتمون بمصيرها في دول خارج الاوروبية المركزية ويبقى علينا نحن سكان ومواطني تلك الدول بحث امكانيات وشروط (نقل) الديمقراطية (Democracy Transmission) التي انشغل بها عدد قليل من المنظرين ومنهم (لاري دايموند) الذي عمل مع القوات الامريكية في العراق بعد ٢٠٠٣ دون ان يقدم شيئا ملموسا.

يؤكد تورين على اهمية حماية الديمقراطية من اخطر اعدائها: وسواس القومية او العرقية او الدينية، والتخلي عن تراخي القوى الاقتصادية التي تتولى تكييف الاستهلاك العام. ويأخذ من تفكيك يوغسلافيا مثلا على ذلك، ويقول ان اختزال مجتمع وتحويله الى سوق واخضاعه للحلم التوحيدي والتجانسي للدولة امران متناقضان مع الديمقراطية. ذلك يعني اشاعة نظام الفيدراليات. ولكن لنرى كيف تم تطبيق هذا المبدأ في العراق الذي اصبح نموذجا تبعته ليبيا واليمن وسوريا والسودان, وربما تتبعه لبنان فيما بعد.

ان الدعوة الى اعتبار كل مجموعة، عرقية او طائفية او دينية او ثقافية او حتى مناطقية، بغض النظر عن حجمها او تأثيرها، فدرالية اصبح يتناقض مع الديمقراطية لانه على سبيل المثال، يعطل القوانين الوطنية والمركزية التي تتعلق بالوحدة الوطنية والدستورية لحقوق الانسان وحقوق المواطنة، والعدالة، ويعجز عن وقف تفشي الفساد وتحويله الى منظومة حكم وسلطة، ويضعف الى حد كبير فعالية الدستور. ويجعل حقوق الانسان عرضة للانتهاكات من قبل السلطات المحلية التي تنتهك الدستور ولا تسمح للسلطة الفدرالية التدخل كما يحدث في العراق الآن، الذي شهد في الاونة الاخيرة دعوة علنية وصريحة لاعلان تركمانستان الكبرى تمتد من مندلي شمال- شرقي بغداد الى سوريا مرورا بالحسكة، وستكون موازية لدعوة كردستان الكبرى من جنوب- شرقي بغداد الى سوريا.

ان اضعاف الدول المركزية باسم المبدأ الديمقراطي، الفدرالية، وتشكيل حكومات هشة وفق انتهازية مبدأ المحاصصة، يضعف الديمقراطية كثيرا. وقد اشار لذلك ايضا لاري ديموند (قبل تجربته الباهتة في العراق بعد ٢٠٠٣) مما جعل التناقض بين النظرية والتطبيق حالة لم تتفرد بها الانظمة الشيوعية في العالم، وانما واجهتها الديمقراطية في عدد من البلدان خارج اوروبا وامريكا.

يثير تورين مسألة العلاقة بين الدين والديمقراطية قائلا: لقد اثبت المجتمع السياسي، تحت اشكال مختلفة، في بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا، انه يأخذ شرعيته من نفسه ومن السيادة الشعبية لا من الله او من التقاليد او من عرق من الاعراق. لكن بلدانا مثل العراق، شهدت تدميرا للسيادة الشعبية (اقتصرت السيادة الشعبية على اجراء الانتخابات غير النزيهة) باحياء قوى غير ديمقراطية تتصف بالتنظيم البدائي كالعشيرة والطائفة والغيتوات الصغيرة في المناطق، مما يعني العودة الى دويلات المدن القديمة في بلاد الرافدين , الامر الذي يلغي الدولة القومية التي تمهد للتحول الديمقراطي على اساس المواطنة والمساواة، وكذلك العدالة التي ينبغي ان يستند عليها النظام الاجتماعي كما يؤكد توكفيل. وفيما يتعلق بالعدالة فان جون رولز اضاف صفة ديمقراطية واجتماعية اخرى هي الانصاف، فالعدالة تبقى مفهوما عاما قابلا للتأويل اذا لم تفض الى الانصاف. الانصاف الذي يحول العدالة من مراقب الى فاعل.

ان رحيل منظر ديمقراطي من طراز تورين اهتم كثيرا بالعلاقة بين الفاعلين الاجتماعيين والفاعلين السياسيين في اطار الدولة، يجعلنا نتساءل في عصر تغلب فيه الفاعلون السياسيون على الفاعلين الاجتماعيين وزحفوا على مجالهم المدني، مما يسمح للدولة ان تعود قوة قهرية وتكف عن ان تكون مؤسسة رمزية للهوية، كما تكف عن ان تكون منظمة قانونية تشرف على فض النزاعات داخل فئات المجتمع؟

قال تورين بعد ام لا؟ يقوم تورين باستقصاء جملة من الأسئلة المتعلقة بالوقائع: ينبغي التساؤل بصيغ سياسية مباشرة اكثر فيما اذا كانت الافكار والقوى السياسية التي تستعين بالشعب ديمقراطية على الدوام، ويجيب: لقد كف استدعاء الشعب عن ان يكون ديمقراطيا، بل قام بمحاربة الديمقراطية كلما وضع الدولة، وهي الوكيل الطوعي للتغييرات التاريخية، فوق الفاعلين الاجتماعيين وعلاقاتهم. اي ان العقد الاجتماعي الذي يمثله الفاعلون الاجتماعيون كطرف ثان قد تعرض للإبطال والإلغاء، وهو الامر الذي يلوّح بمساندة النظام الديكتاتوري سواء من اليمين او اليسار بحجة طالما رددتها الانظمة المتسلطة (في الداخل) والانظمة الغربية الديمقراطية (في الخارج) هي عدم نضج مجتمعاتها او وجود تهديد خارجي او داخلي (خطاب الديكتاتورية في الداخل وخطاب دعم الديكتاتورية من الخارج).

في التقرير الذي اصدرته مجموعة مستقبل العراق الامريكية برئاسة السفير ايان كروكر الذي صدر عام ٢٠١٧ واشترك فيه عسكريون اميركيون عملوا في العراق ودبلوماسيون وعراقيون متعاونون مع المشروع الامريكي ومولته مؤسسة الحريري ترد مغالطات مقصودة لتضليل الرأي العام واقناعه بان ثمن الحرب كان مبررا وهو اقامة نظام ديمقراطي في. العراق.

كان من تلك المغالطات الشنيعة على سبيل المثال ان العراق يملك اقوى مجتمع مدني في منطقة الشرق الاوسط ولذلك ليست هناك مخاوف على الديمقراطية في العراق. بمثل هذا التقييم المضلل والكاذب يتم خداع الجميع. وحين سألت احد العراقيين المشاركين في التقرير عن قناعته بما ورد ابتسم بغباء وقال ان ذلك موجه للشعب الامريكي لتبرير الحرب.

في شهر حزيران عام ٢٠٠٣ خطب جورج بوش مؤكدا ان حدود العراق مفتوحة ليكون العراق ساحة مواجهة ضد الارهاب، وهكذا تم تحويل العراقيين الى درع واق للداخل الامريكي. ويبدو ان هذا هو مبرر وهدف رفع شعار الديمقراطية من قبل امريكا في بقاع العالم الاخرى. ما حدث بعد ذلك هو ان الديمقراطية اصبحت الدافع لخراب العالم.

ماحدث بعد ذلك هو ان أستخدام شعار الديمقراطية اصبح منطلقا لخراب العالم.

***

الدكتور نبيل ياسين

 

هربرت سبنسر(1820-1903) فيلسوف وعالم اجتماع بريطاني، من الراعين الأوائل لنظرية التطور، ركز جهده لإنتاج معرفة تركيبية متعددة الحقول، داعيا ألى أسبقية الفرد على المجتمع، والعلم على الدين. كتابه The synthetic philosophy(1896) كان عملا شاملا احتوى على مبادئ البايولوجي وعلم النفس والاخلاق وعلم الاجتماع. اشتهر سبنسر بعقيدته في الدارونية الجديدة التي بموجبها يمكن تطبيق مبادئ التطور بما فيها الاختيار الطبيعي على المجتمعات الانسانية والطبقات الاجتماعية والافراد بالاضافة الى الانواع البايولوجية. في أيام سبنسر جرى التركيز على الدعوة للدارونية الاجتماعية لتبرير عدم تدخّل الدولة في الشؤون الاقتصادية وتقليل حجم الدولة الى أدنى حد اعتقادا بانه يعزز المنافسة الحرة بين الافراد ويقود الى تحسّن تدريجي للمجتمع من خلال (البقاء للأصلح) المصطلح الذي أدخله سبنسر ذاته.

"حريتي تنتهي حيثما تبدأ حريتك" هي نوع من الحقيقة البديهية التي يؤمن بها معظم الناس عند مناقشة السياسة ومهما كانت فكرة الحرية التي يؤمنون بها. انها ترتكز على "الوعي بالقيود التي يستلزمها وجود أشخاص آخرين لديهم مطالبات مماثلة" (مبادئ الاخلاق، الجزء الثاني، ص267)(1). هذا الوعي قاد هربرت سبنسر ليأتي بقانون الحرية المتساوية: "كل انسان هو حر للقيام بما يرغب، بشرط ان لا ينتهك الحرية المتساوية لأي انسان آخر" (جزء 2، ص272).

اذا كانت فكرة الحرية "المتساوية" اليوم مجرد كلام سهل لدى معظم الناس، فهي لدى سبنسر تشكل مطلبا أساسيا للاستمرار بفهم منافع التعاون الانساني الذي يمكن الحفاظ عليه "فقط بالإمتثال لمتطلبات معينة يفرضها ترابط الجماعة" (جزء 2، ص259).

وهكذا فان العدالة "هي أخلاق الحياة الاجتماعية". يؤكد سبنسر انها ترتكز على كل من اللامساواة والمساواة – وان الخطأ الكبير للتعريفات الاخرى للعدالة يكمن في الانحياز الى احد هذين المفهومين على حساب الاخر. ان حجة فريق "اللامساواة" تتجذر في قانون السلوك والعواقب law of conduct and consequence. هذا القانون "يُعبّر عنه في المبدأ بان كل فرد يجب ان ينال الخير او الشر الذي ينبثق من طبيعته الخاصة" وانه بالنسبة لسبنسر "القانون الاساسي الذي يحكم كل المخلوقات". ولذلك فان "كل فرد يجب ان يستلم المنافع والشرور حسب طبيعته وسلوكه اللاحق".

عندما "يختلف الناس في سلطاتهم، يجب ان تكون هناك اختلافات في نتائج سلوكهم. ذلك يشمل ضمنا كميات غير متساوية من المنافع". من المهم ملاحظة ان هذا ليس فقط حول المكافئات. صحيح، الناس (بمن فيهم رجال الأعمال) مؤهلون لثمار كدحهم. لكن هم يجب ان يدفعوا الثمن في حالة اتخاذهم اختيارات غير مدروسة. ان حجة المساواة تأتي مع قانون الحرية المتساوية. شعار "حرية متساوية" هو شيء مُلهم لكنه اليوم يخلق بعض الإلتباس. سبنسر لا يهدف لمساواة الظروف التي عاش بها الرجال والنساء، ولا ما يقومون به حقا في حريتهم. المساواة التي يتحدث عنها هي في تلك القيود المتبادلة. انها مساواة في الإكراه، وليس في الحرية، كل واحد منا يحتاج ليكون مقيّدا بشكل مشابه، لكي لا تتضاعف دون مبرر المشاجرات والإشكالات في ذلك المسعى المعقد من العيش المشترك. هنا تأتي فكرة المجتمع الحر كفضاء تُبرر فيه اللامساواة، ولكن تُخفف بمبدأ التعامل المتساوي في ظل القانون. بكلمة اخرى، اللامساواة تُبرر بمقدار ما تكون نتيجة لتفاعلات طوعية، وليست امتيازات تُوزع من جانب احد ما على حساب آخر. نظريات اخرى للعدالة جرى نقدها من جانب سبنسر لكونها لا تأخذ بالاعتبار كلا العنصرين. وبالذات، الرؤى القديمة للعدالة التي ركزت كثيرا على عنصر اللامساواة، فكانت منسجمة مع السياق الذي تأطرت به. هناك مفارقة تاريخية هي، بالنسبة لسبنسر، أكثر الأعداء غدرا للانسانية. نحن يمكننا إلحاق ضرر كبير عند تطبيق أفكار جرى تصورها في مجتمعات بسيطة مرتكزة على حجم صغير من تقسيم العمل وهياكل تنظيمية صارمة على عالم فيه تقسيم عمل معقد. ونفس الشيء بالنسبة للعائلة لايمكن ان تُحكم بقانون السلوك والعواقب. الأعضاء الشباب هم في نفس الوقت يستفادون بشكل غير تناسبي وتتم حمايتهم من أخطائهم. لكن تطبيق أخلاق العائلة على حكومة بلد سوف يعرضها للخطر.

"في عالم كعالمنا، حيث التعقيدية هي الكلمة الشائعة، يمكن قراءة سبنسر كقصة تحذيرية: انتبه بان التعقيدية هي فكرة هشة". العديد من النقاد رأوا هذا كبرهان على "دارونية" سبنسر الاجتماعية المملة، التي تجعل منه صورة كاريكاتورية للمفكر الذي يكشف الى أي مدى تكون الليبرالية الكلاسيكية باردة وصماء للحاجة والمعاناة. لكي ندرك لماذا لا يجب ان تُطبق أخلاق العائلة على جماعة أكبر، يجب على المرء ان يدرك ان البلد ليس عائلة. افتراض ان الحكومة يمكن ان تكون حارسا مرنا بنفس طريقة العائلة يعني افتراض انها يمكنها توزيع المكافئات والعقوبات مع معرفة تامة بالنتائج التي سوف تنتج عن ذلك. هذا ليس هو الموقف. كلما كان المجتمع أكثر تعقيدا، كلما كانت النتائج غير المقصودة اكثر انتشارا ودهشة.

هذه الحكاية التحذيرية منسجمة مع نظرية بانورامية أوسع تتأطر فيها جميع مساهمات سبنسر. هو كان باني – نظام، منشغل بمحاولة دائمة لتطوير "فلسفة جامعة"، نظرية شاملة تتعامل مع البايولوجي والسايكولوجي والسوسيولوجي والأخلاق. هو اعتقد انه حدد نمطا لتعقّب الكيفية التي تتطور بها المجتمعات. انها تتحرك، حسب سبنسر، من البسيط الى المعقد، من اللامختلف الى المتخصص، من الاكتفاء الذاتي الى المترابط بنيويا. انه مفكر طموح جدا أثار حماس معاصريه لكن، ربما لنفس الأسباب، كان أقل حظا مع الأجيال اللاحقة.

مبادئ الأخلاق هو عمل سبنسر النهائي والمتكامل في هذا الحقل. جزئه الرابع "العدالة" الى حد كبير هو إعادة صياغة لـ (الإحصاءات الاجتماعية، 1850)، والذي جاء فيه سبنسر لأول مرة بـ "قانون الحرية المتساوية".

أثناء حياته، أنتج سبنسر أربعة أعمال رئيسية في الفلسفة السياسية: المجال المناسب للحكومة (1842)، والاحصاءات الاجتماعية (1850)، والانسان مقابل الدولة (1884)، والعدالة الذي هو الجزء الرابع من مبادئ الاخلاق (1891). الاول كان يرتكز على رسائل الشاب سبنسر التي أرسلها الى اللاملتزمون The Non conformists- وهم جماعة مسيحية بروتستانتية لا تنتمي الى كنيسة انجلترا - رسمت الخطوط العريضة لليبرالية لوك (انظر جون لوك).

الاحصاءات الاجتماعية كانت محاولة اكثر طموحا. الكتاب كن موجها كتصحيح للفلسفة النفعية وكإعادة صياغة لمبادئ الليبرالية الكلاسيكية في تفكير مرتكز على "معنى أكثر منطقية مما سبقه". حاليا، يتم تذكّر ذلك العمل على أفضل وجه خاصة الفصلين اللذين يتعلق احدهما بقضية الارض والثاني بـ "حق تجاهل الدولة".

كل من الانسان مقابل الدولة، و "العدالة" اعتُبرا من جانب البعض كمحاولتين صعبتين من جانب سبنسر لإعادة صياغة أفكاره بطراز اكثر محافظة. هذا هو رأي هنري جورج الذي اتّهم سبنسر بالالتحاق بمراتب الكبار والأقوياء، وبذلك جعل فلسفته اكثر قبولا لهم.

 في سيرته الشخصية، يوضح سبنسر التالي:

1- في أول أعماله، الإحصاءات الاجتماعية، زعم ان سحب ملكية الاراضي من الناس هي غير عادلة، وانه يجب ان تكون هناك إعادة لها للدولة او للجماعة بعد دفع تعويض مناسب لمالكي الأراضي الحاليين.

 (السيرة الذاتية، 2، ص459).

في نفس الوقت هو ذاته يعترف بان هناك "محافظة مقارنة نسبيا للعصر القديم" (السيرة الذاتية، 2، 463). "في ما بدا شرا بالكامل اكتُشف فيه تحت السطح عناصر للخير، وما بدا مرة بلا نفع اكتُشف انه نافع بطريقة ما ان لم يكن ضروريا".

ومع نضج وجهة نظره، عزا سبنسر تلك التغيرات الى ما حصل له من "ملاحظة أوسع وتفكير أطول" (السيرة، 2، 464). هو ادّعى انه فهم بشكل أفضل ان "المؤسسات من أي نوع يجب اعتبارها نسبية لشخصية المواطنين وللظروف التي وُجدوا في ظلها، وان لا يتم الحكم على الظروف المسخرة لمصلحة هذه المؤسسات من خلال ملائمتها المطلقة وانما من خلال ملائمتها النسبية" (السيرة، 2، 465).

في عالم الشؤون الانسانية، يحدث التطور بين قطبين هما النموذج المثالي: "مجتمعات محاربة او متشددة" militant societies و"مجتمعات صناعية". النموذج الاول هو نموذج هيراركي يكون فيه التعاون الاجتماعي مفروضا بالقوة. هي مجتمعات من "المكانة"، بمعنى ان لا وجود هناك للحراك الاجتماعي وان نطاق العلاقات التعاقدية الطوعية يكون محدودا. النوع الثاني هو المضاد للاول: مجتمعات تعاون تتشكل فيها الترتيبات الاجتماعية من خلال العقود والتنظيمات. الاخلاق"المطلقة" بالنسبة لسبنسر، تعود لهذا النوع الأخير، وهو عالم متطور لحسن الحظ. الاخلاق "النسبية"يتم تكييفها لمجتمعات العالم الواقعي التي هي بالضرورة مزيج من النوعين المثاليين.

بينما كان سبنسر يأمل ان يزودنا بـ "تاريخ طبيعي للمجتمعات" واعترف بدور التشدد والحرب والخضوع لهيراركية صارمة في خلق تعاون على نطاق أوسع، هو تعاطف مع المجتمعات الصناعية حيث تنمو وتتقدم فيها المؤسسات الحرة. ورغم انه جعل افكاره متلائمة مع نظام أوسع، لكن بعض افكاره الاساسية لها تاريخ طويل في الليبرالية الكلاسيكية. المجتمعات "المتشددة" و "الصناعية" جاءت من قبل تحت العديد من الاسماء. هي تذكّرنا بحرية القدماء وبحرية الزمن الحديث، مع ان سبنسر كان لديه القليل من الحنين للاولى.

افكار سبنسر كانت مشبعة بالتفكير الاقتصادي، حيث يمكن لقرائه اكتشاف ذلك بسهولة. الحوافز لعبت دورا كبيرا فيه، وفي الحقيقة، تطور سبنسر هو في عدة جوانب كان نموا وتوسعا لتقسيم العمل. بمعنى ان المجتمعات "الصناعية" تتصف بالدور البارز الذي تلعبه الوسائل الاقتصادية، مقابل المجتمعات "المتشددة" التي يمكن النظر اليها كأماكن تُنجز فيها معظم الأهداف الاجتماعية بوسائل سياسية.

مع ذلك، يرى سبنسر ان التطور نحو المجتمعات الصناعية هو ايضا عملية تحضّر وتهذيب للمشاعر الانسانية. هو لم يحتقر شيئا اكثر من الامبريالية، فكرة إخضاع وهيمنة الدولة على الآخرين. هو اعتقد ان نظامه جلب كل من "الصرامة والرقة" وندم على "توجيه انتباه أكبر نحو الصرامة". معجم سبنسر الخاص الذي يبدأ بتمييز فيكتوري بين استحقاق الفقر وعدم الاستحقاق له، يصعب فهمه. هو لم يكن أعمى لشرور الفقر. حيث وصف رواية Mary Brton للكاتبة اليزابيث غاسكل بانها "عذّبت مشاعره"(2)، و اعتبرها " هامة جدا" لدرجة يجب على كل فرد قرائتها (السيرة، 1، ص350). هو فهم مشاعر اولئك الذين يسعون للتخفيف من شرور الحاجة، واعتبر ان هؤلاء الناس يمكنهم الازدهار فقط في المجتمع الصناعي، لأنهم سيتم اكتساحهم في ظل النظام المتشدد.

من المقلق بشكل خاص ان سبنسر لم يكن ابدا سعيدا بالنوايا الطيبة لذاتها. هو يكتب، مثلا:

"اذا كان واجب الإهتمام بالجرحى هو معترف به عموما، لكن هناك واجبا اضافيا نال اعترافا جزئيا اخيرا – وهو واجب اكتساب المعرفة والمهارة لأنها تجعل جهود المساعدة فعّالة. حتى الوقت الحالي، كان هناك 99% من الناس الذين يرغبون بمساعدة الجرحى لم يترافق عملهم مع قدرة منظّمة – وما هو أسوأ من ذلك انه ترافق مع جهل يقود الى تدخلات مزعجة. القلق من القيام بشيء ينتهي بالتسبب بأذى، لأنه لا يوجد هناك وعي كامل بحقيقة ان هناك عدة طرق للخطأ مقابل طريقة واحدة للصواب (2، ص443).

هذا يصح ليس فقط على الناس الكرماء حسني النية، وانما على الحكومة ذاتها. وهو درس نادرا ما يتم تعلّمه. دعوات التدخل دائما ما تقوم على نوايا حسنة وتؤكد على النتائج المقصودة، لكن نادرا ما يتم تقييم النتائج، وايضا لم يحصل توقّع لحدوث أضرار جانبية قد تقع حتى من جانب أفضل المخططين.

بالنسبة لإولئك الذين يبشّرون بحكومة كبيرة، سبنسر يعارض وصفة الحقوق الفردية – مع انه يدرك تماما مدى مرونة كلمة "حقوق". في كل من الاحصاءات الاجتماعية ومبادئ الاخلاق، اشتق سبنسر من قانون الحرية المتساوية تلك الحقوق التي تخلق مجتمعا حرا – من حرية الكلام لحرية التبادل والعقود. لا اختلاف عن عالمنا، حيث "الحقوق" هي من وقت الى آخر تتعدد بفعل قرارات سياسية، رأى سبنسر ان "الحقوق" كلمة ملتبسة، اراد ان يحررها من الارتباك السائد. هو أكّد ان "الحقوق ليست الاّ عدة أجزاء منفصلة من حرية الانسان العامة في متابعة أهدافه في الحياة". هي في الحقيقة مواصفات لقانون الحرية المتساوية، وليست نتاجا للرغبة السياسية.

جادل سبنسر ان "الحقوق السياسية" بما فيها حق التصويت، ليست حقوقا ابدا. "اولئك المواطنون المشتركون في السلطة السياسية كما هو حاصل في الدول الأكثر تقدما، والتي أظهرت التجربة انها ضمانة جيدة للحفاظ على الحياة والحرية والملكية، يتم الحديث عنها كما لو كانت المطالبة بها هي من نفس الطبيعة كالمطالبة بالحياة والحرية والملكية ذاتها. لكن، لا صلة هناك بين الاثنين". سبنسر ليس غافلا عن حقيقة ان درجة معينة من المشاركة السياسية في الامم الحديثة سارت جنبا الى جنب مع الترتيبات المؤسسية بشكل أقرب لحكومة محدودة من غيرها. لكن مثل هذه القدرة للمشاركة بسياسة البلد ليست "حرية" بحد ذاتها، هي في أفضل الاحوال، حكومة "تعطي المواطنين سلطة مراقبة الإنتهاكات لحقوقهم" (2، 343). هناك "حالات متطرفة" فيها "يستعمل الناس ما يسمى حقوقهم السياسية للتنازل عن سلطتهم في الحفاظ على حقوق الملكية "، مثلما عندما تفتح الانتخابات الحرة الباب للاوتوقراطية (سبنسر يستشهد بنابليون الثالث، مع ان الأمثلة الأكثر فظاعة لم تأت بعد)، لكن ايضا المشاكل المخففة، لدى الدول المحكومة ديمقراطيا تتزايد سطوتها على حياة الافراد. وهكذا فان، "ما يسمى الحقوق السياسية التي قد تُستعمل للحفاظ على الحريات، ربما تفشل في هذا وقد تُستعمل لتأسيس الاستبداد". في (الانسان مقابل الدولة)، الكتاب الذي يتم تذكّره كثيرا، يتعامل مطولا مع ما يمكن ان تنتجه الديمقراطية من أخطار للحرية، خاصة بمقدار ما تصبح الليبرالية ايديولوجية للديمقراطية، أي، بمقدار ما يُعتبر أي خيار جمعي شرعيا فقط لأنه نشأ من رغبة الأغلبية القانونية.

في (المبادئ)، كانت لسبنسر صفحات لا تُنسى حول المسألة، والتي تتنبأ بالعالم الذي نعيش فيه.

عزل المساعدات والمساهمات في المجال العام يراها سبنسر فكرة سيئة."لو ان كل مواطن يدفع بشكل مرئي وملموس من حصته من الضرائب، فان مجموع المبلغ الكلي سيكون كبيرا جدا لدرجة ان الجميع سيصر على الترشيد في آداء الوظائف الضرورية وسوف يقاومون الوظائف اللاضرورية، بينما في الوقت الحاضر، تُعطى لكل مواطن مساعدات معينة هو غير واعي بدفعها له، فيميل للإسراف ويُحفز لإختيار طريق غير نزيه بعلمه او دون علمه للحصول على المساعدات على حساب الآخرين.(2، ص354).

سبنسر لم يتقن الكلمات عندما قال ليس فقط "الضرائب بدون تمثيل هي سرقة" وانما "التمثيل بدون ضرائب يتضمن سرقة" ايضا. عند التفكير بعمالقة الليبراليين يميل الناس للاعتقاد انهم اما جون ستيوارت مل او الكسيس دو توكفيل. مشكلة استبداد الأكثرية كانت واضحة للكثير. لكن تطورية سبنسر تضيف فهما معقدا لما نسميه اليوم علم النفس الاجتماعي.

الناس دائما ما يميلون للبحث عن أسباب مرئية، وإصلاحات مرئية مهما كانت المشاكل الاجتماعية الناجمة. جزء كبير من عمل سبنسر كان يؤكد بان هذا ليس هو الموقف، وان المؤسسات عادة هي طرف مستفيد خارجيا (3) لم يصممها احد وان المركب العضوي للمجتمع لم يُخطط او يُصمم.

كل من المشرّع والمواطن بالمتوسط "ليس لديهم إيمان بالعمل المفيد للقوى الاجتماعية، بالرغم من التوضيحات اللامتناهية لهذا العمل المفيد. هو يستمر في التفكير بالمجتمع كمصنع وليس كنمو غافلا عن حقيقة ان التنظيم المعقد والواسع الذي تستمر به حياة المجتمع، نتج عن التعاون التلقائي لاناس يتابعون أهدافهم الخاصة. مع ذلك، عندما هو يسأل كيف تمت تسوية سطح الارض وجُعلت خصبة، كيف نمت المدن، كيف نشأت المصانع بمختلف أنواعها، كيف تطورت الفنون، كيف تراكمت المعرفة، كيف اُنتج الادب، هو اُجبر للاعتراف بحقيقة ان لا شيء من هذه ذو أصل حكومي، وانما العديد منها عانى من عرقلة الحكومة، لكنه متجاهلا كل هذا، هو يفترض انه لو اُريد للخير ان يُنجز، او الشر ان يُمنع، فلابد من الركون للبرلمان (2، ص378)".

لو كان سبنسر معنا اليوم لاشك سيندهش بمدى التقدم الاقتصادي والاجتماعي، بما فيه القبول المتنامي للسلوك الشاذ للفرد. لكنه ايضا سوف يُصاب بالخيبة من الكيفية التي لازال بها التفكير السياسي يميل ويعترف بالمجتمعات القديمة والصغيرة ويشعر باليأس من الكيفية التي نستمر فيها بالبحث عن اصلاحات اسطورية للشرور الاجتماعية، بصرف النظر عن التعقيدية العلمية التي نعيش فيها اليوم.

***

حاتم حميد محسن

......................

الهوامش

(1) هربرت سبنسر، مبادئ الاخلاق. Liberty fund Books

(2) رواية ماري بارتون للكاتبة الانجليزية اليزابيث غاسكل نُشرت عام 1848، تتناول الصعوبات التي كانت تواجهها الطبقة العاملة في العصر الفيكتوري. تدور أحداث الرواية في مدينة مانشستر البريطانية. انها قصة عائلة من الطبقة العاملة انحدرت نحو اليأس اثناء الركود الاقتصادي لعام 1839. تصف الكاتبة الأحياء القذرة والفقيرة في المدينة وتتحدث عن مستويات البطالة المرتفعة آنذاك وعدم الاهتمام بمطالب النقابات مما قاد الى اتساع الفقر وتعميق اليأس وظهور كراهية طبقية مريرة أيقظت الضمير الوطني.

(3) المنافع الخارجية الإيجابية positive externality في الاقتصاد هي المنافع التي يستلمها طرف معين كنتيجة غير مباشرة لعمل طرف آخر دون اتفاق ودون دفع أي تعويض، كما عندما نتلقّى تعليما نحصل منه على منافع خاصة لكن هناك ايضا منافع تنساب منه لبقية المجتمع، حيث يمكن تعليم اشخاص آخرين سينتفعون من ذلك التعليم، او عندما نذهب الى مقر العمل مشيا على الأقدام، حيث سنخفف من الزحام والتلوث فيستفيد كل شخص في المدينة. بالطبع هناك منافع سلبية تعمل عكس الاولى، فيها يحقق طرف منفعة له على حساب طرف آخر، كما في حالة صاحب المصنع الذي يلقي النفايات الكيمياوية في النهر فيسبب ضررا لمربي الأسماك في المنطقة المجاورة.

 

في المثقف اليوم