أقلام حرة

الناس كراسي

asya rahahliaولجتُ قاعة الإجتماعات رفقة زميلات وزملاء الحرف وكانت ثمة رائحة مميّزة، تشبه رائحة الكتب الجديدة أو ورق الصحف، لعلّها رائحة الثقافة، أكيد، فنحن في دار المكتبة الولائية لتلك المدينة المضيافة. المكان رحبٌ ونظيف، والمدخل تم فرشه بالزرابي . كان الصباح مشمسا ودافئا كأّن فصل الشتاء قد قرّر الدخول على استحياء . الحضور محتشم ولكنه مميّز. لفيف من أهل الشعر والأدب والإعلام قدموا للإحتفال بالمناسبة الوطنية. المنصّة خشبية لامعة مرصّعة بالميكروفونات، والحائط خلفها مزدان بالعلم الوطني كأبهى ما يكون وأيضا صورة لرئيس الدولة. كل هذا وجدته جميلا يبعث في النفس شعورا بالراحة . لكن شيء واحد خدش الجمال وشدّ انتباهي، وأكاد أجزم بأنّه أوّل ما يثير إنتباه كل من يدخل القاعة هو ...الكراسي . مرصوصة بانتظام شديد ومتشابهة كلها ماعدا صفّين من الكراسي في المقدّمة، قبالة المنصة تماما يبدو أنها خصّصت لكبار الشخصيات أو الأعيان والمسؤولين .. مختلفة تماما عن الكراسي الأخرى، مختلفة في كل شيء، في الشكل والحجم واللون وأيضا المادة التي صنعت منها. وبنظرة واحدة إليها ومن بعيد تستطيع أن تعرف أنها وثيرة ومريحة وفخمة، وأنّها ليست لك ! ظهورها مرتفعة لدرجة أنّ الجالس فيها يغرق تماما فلا يرى الجالسون في الخلف منه شيئا ولا حتى صلعته أو شعيرات وسط رأسه ولا هو يستطيع أن يلتفت إلا بصعوبة لو خطر له أن ينظر لمن هم خلفه، طبعا، لأنّ المسؤول لا ينظر إلى أبعد من قدميه، ولا حاجة له بالنظر إلى ما يجري في الخلف أو رؤية من يقف وراءه، أو يلهث أو يستغيث ! ولا حاجة لمن في الخلف أن يروه ..يكفي ظهر الكرسي ! بالنسبة للحجم، ومقارنة بكراسي " الغاشي " العادي، كانت تلك الكراسي كبيرة، جدا، قلت في نفسي، طبعا أيضا لأن المسؤولين عادة يكونون طوال القامة، ذوي بنية قوية، أجسامهم ضخمة وكروشهم، عادة، كبيرة، فلا يعقل إذا أن تخصص لهم كراسي صغيرة الحجم لأنّها لن تحتويهم ولن يشعروا فيها بالراحة لكي تأخذهم السكرة فلا يفيقوا إلا كما أفاق البعض على قرع طبول الربيع .

وإنّ للكرسيّ لسحرٌ، وإنّ له لسلطانٌ! لم أكن متأكّدة من هذا حتى وجدتني وجها لوجه أمام الكرسي،أو قل وجها لقفا!، ومع أنّه عادي جدا ولا يكاد يوصف مقارنة بكراسي الملوك والرؤساء والأباطرة إلا أنه نجح في إثارة شيء ما في داخلي .. أصدقكم القول شعرت بما يشبه الرهبة..خفت من تلك الكراسي، ولم أجرؤ على الجلوس في الصف الأول رغم أنّ الكراسي لم تكن مشغولة لأنّ " أصحابها " لم يحضروا . تقدّمت بخطى حذرة وجلست بكل هدوء خلفها وأنا أدقق النظر فيها خلسة كأني خشيت أن تتهجّم عليّ .. جلست أفكّر كيف أنّه من أجل مثل هكذا كراسي تراق الدماء وتزهق الأرواح وترتكب الجرائم وتقام الحروب وتخلق الدسائس، وكيف يصاب المسؤولون بـمرض ملازمة الكرسي فتعمى أبصارهم وبصائرهم .. ويتشبّثون بها إلى آخر رمق فيهم. وعلى ذكر الكراسي فإنّ من أغرب ما قرأت عنها هو كرسي صممه " البرلين فابيان" ونصب في حدائق أوربية .. وهو يحوي مسامير تبرز وتختفي في زمن معيّن، وهكذا لا يمكن الجلوس إلا لمدة محدودة لأنك إذا جلست على المقعد أكثر من المدة المطلوبة، فأنّ المسامير سوف ترتفع إلى الأعلى، ويتحتّم عليك الوقوف. وجدت الفكرة رائعة وتمنيت لو كانت كراسي رؤسائنا ووزرائنا ومسؤولينا من هذا النوع، ربما لما كانوا عاشوا وناموا وماتوا وهم جالسون على الكراسي. لا أومن حقا بمقولة "الناس مقامات"، إذ وجب الإتفاق أولا على ما يحدّده المقام...المال؟ الأصل؟ الجاه؟ الخلق؟ المباديء؟ العلم؟ الفكر؟ لكن القائمين على ديكور تلك القاعة أرادوا أن يمرّروا لنا رسالة مفادها أن الناس مقامات و...كراسٍ أيضا .

2011مارس

في المثقف اليوم