أقلام حرة

حدثنا عيسى بن هشام فقال:

لا يوجد في العراق ما يدعو إلى الشعور بأنّك على قيد الحياة. ما من شيء إلا أصابه الجمود أو الممات.

أغلقت المصانع وعلا مكائنها الصدأ وقُطعت الأشجار. وتعطّلت المدارس وتوقفت العقول وماتت الأفكار. وتصدّعت السدود وانهارت الجسور وجفّت الأنهار. والتهمت الفوضى الدوائر والبنوك وأغرقنا الوبال.

وكأن (ميدوسا) ذات الحسن وشعر الحيّات، ملأت ناظريها من زوايا البلاد، فآلت إلى حطامٍ أصمّ. لا حياة لا حركة لا بنيان، إلا هياكل كمعبد سليمان، ألفاه المسيح عامراً بالأوثان، عبيد يصلّون وقلوبهم تسامر الشيطان.

في بلدي لا تَشرى إلا طقوس العنف وشعائر العبادات. ولا ينعُم إلا السرّاق والساسة ورجال العصابات، ولا يقود الناس غير مَن لفظتهم المدارس إلى السراديب والحارات. ينهلون من الإنغلاق ويتخرجون رجال دين للمآتم ونشر الخرافات، تفرّقهم المصالح ويجمعهم تعفير الجباه وتكبير العمامات. لا صنعة، لا شغل غير الطقوس والمقدّسات.

في بلدي أثرى الملتحون من رجال الأحزاب، نمت صلاحياتهم وقلّ صلاحهم، وبرعوا في تسويق النفاق، وتفنيد العلوم وازدراء الآداب، وفي منع النظر في المعتقدات، حتى صار لدينا جيلٌ جديد لطيف الأخلاق، منعدم الضمير، طيب السجايا، يلاحق البنات.

يتلهف خلف (الموضة) الشبان، وتكسو وجوه الصبايا طبقاتٍ سميكة من الألوان. يزفّون في مولد النبيّ، ويبكون في ذكرى الوفاة، ويحتفلون بِ (كريسماس) وفي عيد الحبّ يرفعون حُمُر البالونات. يلطمون وجوههم في عاشوراء ويطينون ثيابهم، ثم يرقصون حول (أشجار الميلاد)!

في بلدي يبجّلون المنشد ”سلطان المنبر“، فتوّجوه يوم الجمعة بتاجٍ طلاؤه الذهب يفوحه العنبر، كأيّ ملكٍ أو فرعون أو قيصر! وليته لم يزِد عن مطربٍ في حفلات السمر، فاكتفى في أشعاره بالصلاة على النبي، وندب الحسنين وتكريم عليّ، ولم يُشرك بالله ولم يفتري. ولو سجد مطربٌ يوماً لبشر، لأوسعوه ضرباً وقذفوه بحجر. وصاحبنا يشترط عشرة آلاف دولارٍ نقدا، في طاعةٍ يغرف فيها المال غرفاً!

فخلتُ الزاهد أمير المؤمنين، يشترط المال لإمامة المصلين! يعلوه تاجٌ مذهّب وبيده صولجان، يضرب به من لا يسجد مرتّلاً ولهان! فنفضت رأسي واستغفرت.

وإن لم تر في أمر ذا (الرادود) سخفا، فعجبٌ ألا يرى ذوو العمائم في شعره شططا، ولا في تهافت الشبان عليه نططا، ولو هزّوا الرؤوس والأكتاف هزّا، ولو ضربوا الصدور وصاحوا صخبا. وهو عندهم لا يقتضي التحذير أو البراءة، إنما يعينهم على عقول العامة.

فها هو خطيب الجمعة في مقام سيدنا الحسين، ينهى عن سوء الظن بالمسؤولين، حتى استغربت خنوع رجال الدين، وخلت رأس الإمام فوق الرمح ينهى البريّة، عن الافتراء وسوء الظنّ ببني أمية، فلا (يزيدُ) أمَرْ ولا (ابن أبيه) نَفَر، ولا يعدو الأمر عن قضاءٍ وقدر! فقرصت يدي واسترجعت.

وفي حيّ ذين الكربلائيين إياهما، مسقط رأس جدي لكني أبرأ منهما، وقع يوم الجمعة أمرٌ ذا خطر، فتحسّرتُ على وطنٍ أمسى بعد عينٍ أثر. استهدفوا أستاذاً جامعياً وروائيا أغر، بثلاثة عشر رصاصةٍ زيّنت صدره، أردته قتيلاً لمّا قال رأيه، وخالف السائرين وراء الضلال.

ففررتُ شمالاً عبرت الحدود، وركبت بحاراً أرجو النجاة، لعلي أعيش قليلاً قبيل الممات، أو أغرق نأياً عن أرض السواد. أسموها كذا حين كانت رخاءً، فإذا في العراق يسود الفساد.

وانتهيت إلى قعر البحر غرقا، فرأيت من آيات ربي عجبا، بدت لي الأحياء تحتدم سعيا، لا نحيب لا طقوس لا حداد. لا ترف لا جوعى لا فساد. عبادة الله لديها في العمل، لا بجلد الذات والأكل والبكاء. فدعوت ربي وأنا ببطن الحوت وجِلا: ربّ اهدِ قومي، وألهمهم حكمة الأسماك!

 

أقباس فخري

ميسيساغا - أونتاريو - كندا

 

في المثقف اليوم