أقلام حرة

التأثير الشرقي في المنجزات الثقافية والحضارية اليونانية

محمود محمد عليفى مجال الفكر الإنساني عبر عصوره المتلاحقة، ثمة ظاهرة ضمن ظواهر عديديه تسترعى النظر وتجذب الانتباه: ألا وهى ظاهرة التأثير والتأثر بين الحضارت المتعاقبة، بحيث تؤثر الحضارة السابقة في الحضارة اللاحقة، وتتأثر هذه بتلك تأثراً تتعدد أبعاده أحياناً، وتختلف مجلاته وتتفاوت درجاته بين طرفي الظاهرة؛ أعني بين المؤثر والمتأثر . فتارة يكون التأثير من جانب السابق في اللاحق تأثيراً قوياً عميقاً، وعلى درجة من الشمول تكاد تذهب باستقلالية المتأثر وهويته العلمية . ومن ثم تظهر العلاقة بين الطرفين في صورة علاقة تابع بمتبوع ومقلد بمبدع، وتارة يكون التأثير ضعيفاً في درجته، محدودا في مجاله، بحيث يظل كلا الطرفين المؤثر والمتأثر محتفظاً بفرادانيته واستقلال نظرته وفكره، ومن ثم تتوارى معدلات التأثير. وإن كان الأمر كذلك، فإن لهذه الظاهرة في نظرنا دلالات تسمح بالقول بأنها ظاهرة إيجابية مفيدة ومثمرة بدرجة تعد عاملاً فاعلاً في تحقيق ما أنجزه الفكر الإنساني من تطور وازدهار على أصعدته كلها، وخاصة على الصعيدين: الثقافي والحضاري للشعوب والأمم التي سجل لها التاريخ ضرباً أو أكثر من ضروب التقدم والازدهار .

ولعل من أوضح الأمثلة على تجليات هذه الظاهرة في الفكر الإنساني، ما نحن بصدده الآن، وهو ما حدث من تأثير وتأثر بين حضارات الشرق القديم والحضارة اليونانية فى مجال العلم والمعرفة، فمثلاً لم يكن المجتمع اليوناني القديم مجتمعاً مغلقا تنحصر قيمته الثقافية والحضارية أساساً فى المنطقة التى قام بها على قسم من الشاطئ الشمالي للبحر الأبيض المتوسط ؛ بحيث لا تتعدى هذه المنطقة أن تتأثر أو تؤثر في غيرها إلا بشكل عابر أو جانبي؛ وإنما كان هذا المجتمع منفتحاً على غيره من المجتمعات التي سبقته الى ازدهار النشاط الحضاري، تلك التي ظهرت في منطقة الشرق الأدنى في مصر، وسوريا، ووادى الرافدين، وفى منطقة آسيا الصغرى (تركيا الحالية)، وقد تأثر بهذه الحضارات الكبيرة السابقة علية.

ويظهر هذا التأثير الحضاري لمنطقة الشرق الأدنى القديم في المنجزات الثقافية والحضارية للمجتمع اليوناني في أكثر من جانب، وأسواق في هذا الصدد عدداً من الأمثلة منها : فقط أخذ اليونان عن المصريين، على سبيل المثال أولى مبادئ الطب والتشريح وهى مبادئ لم يقتصر مجالها على الخبرة الناتجة عن الممارسة فحسب، وإنما دونها المصريون فى شكل قواعد علمية، كما يظهر لنا ذلك بوضوح في عدد من البرديات التي ترجع إلى العصر الفرعوني، والتى ثم اكتشافها فى أرض مصر منتصف القرن التاسع عشر الميلادي مثل بردية "ابيرز " Ebers  وبردية "إدرين سميث "Edwin Smith، وهذه البرديات وغيرها من تلك التي تركت آثارها على المنجزات الطبية فى المجتمع اليونانى، وهو أثر ظهر لنا جليا فى كتابات " ديوسكوريدس" Dioskorides  وهيبوكراتس ( ابقراط ) Hippocrates وجالينوس Galenos(57).

وعن وادى الرافدين أخذ اليونان المبادئ لعلم الرياضيات التي لم يقتصر فيها البابليون والكلدانيون على التجارب العلمية، وإنما توصلوا فيها الى درجة التنظير ؛ ويكفى في هذا المجال أن الأصل الذى أخذ عنه الفيلسوف اليوناني فيثاغورث Phythgors  نظريته توصل إليها البابليون والكلدانيون ومن قبلهم المصريون.

كذلك أخذ اليونان عن وادى الرافدين ومن قبلهم المصريين مبادئ علم الفلك، فلقد سبق كل من أهل وادى الرافدين والمصريين العلماء اليونانيين إلى رصد النجوم والكواكب واستخدام أدوات رصد مناسبة مثل المزولة والساعات المائية، كما سبقوا إلى معرفة التقويم الشمس والتقويم القمري، حيث قسموا السنة الى أثنى عشر شهراً والشهر إلى ثلاثين يوماً، فتكون السنة الشمسية 365 يوماً، فى حين تكون السنة القمرية 354 يوماً، كما رصدوا ظاهرتي الكسوف والخسوف، هذا بالإضافة الى معلومات فلكية كثيرة.

كما نجد تأثير وادى الرافدين في مجالين آخرين : أولهما، هو مجال الأدب الملحمي الذى ظهر عند السومريين والبابليين في عدد من الملاحم الشعرية، أبرزها ملحمة " جلجاميش"، وملحمة " إينوما إبليش " وأثر الملحمة الأولى يظهر فى أكثر من جانب في ملحمة " الإلباذة والاوديسة " المنسوبة الى هوميروس Homeros، والمجال الثاني هو مجال الأساطير التي كان الإنسان في العصور القديمة يحاول عن طريقها أن يفسر ظواهر الطبيعة، وظواهر الكون المحيط به، مثل ظواهر الخلق أو الحياة والموت والخصوبة والإنجاب وغيرها ؛ ومن ثم يحدد علاقته بها وموقفه منها، وهنا نجد قدرا غير قليل من الاساطير اليونانية تكاد تتطابق فكرة وتفصيلا مع الأساطير الى سبقتها فى وادى الرافدين ؛ مثل الأساطير المتعلقة بقصة الطوفان وقصة خلق الإنسان من طين وماء وروح إلهية، واسطورة أنانا ودوموزى (عشتار وتموز) البابلية ونظيرتها أسطورة (أفروديتى وأودنيس) اليونانية التي وصلت إليهم عن طريق الفينيقيين.

أما عن التأثير السومري في المجتمع، فإنه لم يقتصر على نقل التأثيرات الحضارية من وادى الرافدين ومصر، وإنما تعدى ذلك التأثير الإيجابي المباشر، وحسبنا فى هذا الصد أن نذكر أن الحروف الهجائية المصرية نقوها، خلال هذا التطور من آخر المقاطع التصويرية التي  كانت لا تزال عالقة بها، بحيث أصبحت أبجدية تمثل القيم الصوتية فحسب، قد نقلوها في أثناء نشاطهم التجاري في البحر الأبيض المتوسط إلى بلاد اليونان لتصبح بعد أن زاد اليونان عليها الحركة أداة طبيعة لسرعة انتشار الكتابة ومن ثم انتشار الحركة الثقافية بكل عمقها واتساعها (61).

وأما عن التفكير النظري الديني، فقد أخذ اليونان ما خلقه لنا قدماء الشرقيين من مصريين وبابليين وهنود وذلك من وجوه النظر العقلي في الألوهية والبعث والخير والشر، والمبدأ والمصير .. وغير هذا من مجالات توصلوا بصددها إلى آراء تردد صداها بعد ذلك عند فلاسفة اليونان، ومنذ أكثر من ثلاثة وثلاثين قرناً من الزمان توصل في مصر القديمة " أمنحتب الرابع " المعروف باسم "أخناتون" إلى وحدانية الله مع شيوع الشرك الوثني في عصره ن وتوصلت " الزرداشتيه " الفارسية الى الثنائية Dualism  التي ارتد فيها العالم الى إله الخير وإله الشر أو مبدأ للموت، كما عرف الهنود منذ أقدم العصور حلول الله في مخلوقاته .. إلى آخر ما يمكن ذكره فى هذا.

وإذا كان الإغريق قد أخذوا كل هذه المعارف المتراكمة عن الشرقيين، فقد طور علماء وفلاسفة اليونان بعد ذلك من أمثال طاليس وفيثاغورث وأفلاطون وإقليدس وأرشميدس وغيرهم، لتشكيل نتيجة لذلك قسما أساسيا من التراث العلمي اليوناني، ومن ثم يكون اليونان شأنهم شأن العرب كما يقول "جوستاف لوبون" ؛ حيث يقول في كتابه الحضارة المصرية " .. أن العدل والانصاف يقضيان علينا إزاء اليونان والرومان، فالإغريق والعرب ساروا بعلوم لم يبتدعوها، ولهذا أتيح لهم تقدمها والرقى بها بسرعة ".

 

د. محمود محمد علي

مركز دراسات المستقبل - جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم