أقلام حرة

قاسم الكفائي: في الوحل النووي الإيراني

قاسم محمد الكفائيبمجهود سريع حاولتُ معرفة أصعب المباحثات التي مرّت على الإدارة الأمريكية حول قضايا مختَلَفٍ عليها مع الدول الأخرى خلال النصف قرن المنصرم، فلم أجد بالبحث المتواضع ما هو أصعب من مباحثاتها مع حكومات إيران المتعاقبة منذ قيام الثورة الإيرانية عام 1979بقيادة الإمام الخميني في أمور كثيرة إبتداءً من إحتجاز موظفي السفارة الأمريكية في طهران واعتبارها وكرا للتجسس، ثم تلتها المباحثات 5+1 بخصوص الإتفاق النووي الإيراني منذ العام 2015 ومازالت تترنح في العاصمة النمساوية، فكانت نهاية الجولات الإتفاقية التي وقعتها حكومة أوباما وألغاها الرئيس ترامب بأسلوب وقح خارج بنود الإتفاقيات الدولية وضربٍ لكل معاني الإلتزام

والدبلوماسية. لقد مرّت المباحثات التي تتعلق بالنووي الإيراني بمنعطفات متباينة تعقدت فيها طروحاتُ المتباحثين، وتراوحت الأفكار واختلفت الى حد اليأس كان فيها الفريق الأمريكي ما بين ورطة الإنسحاب من المباحثات، أو التنازل بقبول ما يمليه عليه المفاوضُ الإيراني على طاولة النقاش الذي تأرّقت فيه عيونُ الفريق الأمريكي وكانت النتيجة قبوله ببنود هذه الإتفاقية المبرمة في عهد إدارة الرئيس أوباما كما أشرنا سلفا.

فسقوط المفاوضُ الأمريكي في وحل تفاهماتِه مع الجانب الإيراني دليل على شعوره بهزيمة مواقفه، وأنه كما ثبُتَ لا يستطيع الصمود بحكم المنطق أمام الحق الطبيعي لإيران، الدولة المستقلة، ذات سيادة بتخصيب اليورانيوم للأغراض السلمية، كذلك تشجيع حكومات الدول النامية لمخالفة القرارات الأمريكية المجحفة عندما تصبر وتقرر وتتوحد. بعيدا عن التصريحات الإعلامية المتضاربة بشأن الإتفاق النووي للفريقين 5+1 فإن المنزعج الحقيقي منها هو الجانب الإسرائيلي الذي يهدد ويتوعد منذ سنوات مضت في كل مناسبة بتدمير المنشآت النووية الإيرانية فوق وتحت الإرض دون أن يلتفت اليه فريقٌ أوروبي مفاوض يسعى للحصول على أفضل النتائج، حتى الجانب الأمريكي فإنه في الآونة الأخيرة لم يبدِ كثيرا أيَّ اهتمامٍ أو حرصٍ على هاجس الجانب الإسرائيلي الذي تُسمع دقاتُ قلبه في فينا ولندن وعواصم دول الإتحاد الأوروبي حين تبدأ المباحثات وحين تنتهي، فهو يتمنى فشلها وعدم التوصل لأي اتفاق. هذا التهديد الإسرائيلي الذي دام لعقود لم يكن جادا كما يراه الخبراءُ الإستراتيجيون وأنه لا يتعدى أكثر من حرب ناعمة تحاول فيها الماكنة الإعلامية الصهيونية إرباك المفاوض الرسمي الإيراني وتعزيز حركة المفاوض الأوروبي في فينا، (زيارة الأمير طحنون الإخيرة الى طهران أثارت الشكوك بإتجاه آخر غير مسبوق، فقد يلجأ سلاح الطيران الإسرائيلي بضرب أهدافٍ في الداخل الإيراني والدليل أن الزيارة جاءت بأسلوب براءة ذمة وتطمين خاطر كونها زيارة تجسسية ليس إلا). ما تحلم به الحكومة الإسرائيلية ومنذ تسعينيات القرن المنصرم قصف المواقع النووية الإيرانية وتدميرها بغرض الظهور أمام دول العالم وحلفائها العرب (المتصهينين) بمظهر المتفوق، والمُدافع عن النفس أمام الخطر الإيراني القادم. لكن هذا لم يتحقق جرّاء السلوك المنضبط والعميق الذي شهدناه بالجانب الإيراني في معالجة كل قضاياه التي واجهته إبتداء من الحصار الإقتصادي الأمريكي الخانق عام 1980 الذي يتضاعف بين حين وآخر، أو الحرب المفروضة التي شنها صدام حسين، كذلك الملف النووي الذي أرَّق إسرائيل وأمريكا ودول الإتحاد الأوروبي بينما هي تسعى لمنع إيران من تخصيب مادة اليورانيوم للإستخدام السلمي. لقد وقفت حكوماتُ طهران بحق بصلابة وتحدٍ غير مسبوقين أمام هذا السلوك المتجبر الغير إنساني، فهي بموقع الدفاع عن مصالح البلاد، وإن تضررت كثيرا جرّاء هذه المواقف.

تسعى الإدارة الأمريكية ومازالت الهيمنة على الدول النامية مستغلة الظروف الرخوة التي تحيط بها وتعتبرها أسبابا لتكبيدها كل طاقاتها وحريتها وكرامتها، لكن إيران امتلكت الوعي قبل أن تبدأ أولى خطوات الصراع، فكما تشير الوقائع أن الفريق الإيراني يمتلك السطوة في هذه المباحثات الأخيرة كصاحب حق مسلوب ومُتجاوّزٍ عليه. أما إسرائيل فهي في وضع لا يُحسَد عليه بعد إن خسِرت عنفوانهَا الذي عاشته في زمن ترامب حين شعرت بانهيار مواقعها التي بنتها عبر مراحل من عمر كيانها. إن نجاح إيران بجميع قضاياها هو تحصيل حاصل وبفضل وقوف حلفائها معها، والرأي العام كذلك. أما حلفاء أمريكا وإسرائيل فقد شعروا بالندم لمواقفهم المغلوطة التي ارتكبوها بحق إيران، وتيقنوا أنهم في نهاية نفق مظلم أحسَّت فيه إسرائيل هي ذاتها بحاجة لمن يحميها، وقد يستعيد بعضُ هؤلاء المتصهينين قواه لتصحيح مواقفه، فيستعيد اعتبارَه بين المُعتبَرين.

 

قاسم الكفائي

 

 

في المثقف اليوم