أقلام حرة

صادق السامرائي: ما فات ما مات!!

صادق السامرائيقال لنا حكيمنا "قس بن ساعدة الإيادي" قبل أكثر من أربعة عشر قرنا، في إحدى خطبه، وهو من مشاهير خطباء العرب في زمانه.

"أيها الناس إسمعوا وعوا، وإذا سمعتم شيئا فانتفعوا، إن مَن عاش مات، ومَن مات فات، وكل ما هو آتٍ آت....."

ويبدو أن الكلام يشير إلى علة التمسك بالغابرات، وعدم التفاعل مع الحاضر والإستعداد للآتيات.

وتجدنا اليوم نردد بسلوكنا " ما فات ما مات"، فنجيد النبش والخراب والدمار، ونفي الحاضر وإنكار المستقبل، والهرولة وراء مخلفات الآخرين، وما تجاوزوه من العطاءات، فكأننا مغرمون بما عفى عليه الزمن.

هذه الحالة تبدو وكأنها وسوسة سلوكية مزمنة متعضلة، ومتوطنة في مسيرة الأجيال وتتكرر على مدى العصور، ونمضي على سكتها، ولا نعرف التحرر من قبضتها، بل نستسلم لدوائرها المفرغة، التي تدور بنا في فضاءات الخسران والعدم.

ففي وعينا ما مضى ما إنقضى، ولهذا فأن ما ننشره ونطرحه، ونتناوله من موضوعات، يهيمن عليها "ما فات ما مات"، وتجدنا من أكثر مجتمعات الدنيا هوسا بالدين، والكثيرون منا أفنوا أوقاتهم في التفاعل مع الموضوعات الدينية، التي لا تجدي نفعا مهما توهمنا غير ذلك.

فالسائد ينطبق عليه "نعيد ونصقل"، فلا نزال نعزف ذات الإسطوانة المشروخة، ونهيم بإيقاعاتها المتآكلة المتنافية مع نبض المكان والزمان.

والعجيب أن مواقفنا أيا كانت تقرنها بما مضى، ونحاول أن نجد لها تفسيرا في طيات القرون الغابرات، وكأننا نستعمل الموروث لتخديرنا وتأمين نوامنا، وشدنا إلى التبعية والإستسلام، وتعزيز مشاعر الدونية والإنكسارية والإنتكاسية والنكباوية الفاعلة فينا، والتي نساهم جميعنا في تعاظمها، بل أن البعض من المتنفذين يستثمرون فيها لإستعباد الأجيال وتخنيعهم، وكسر ظهورهم، وتدمير ذاتهم وموضوعهم، وتحويلهم إلى قطيع راتع في مرابع القهر والظلم والحرمان من أبسط حقوق الإنسان.

فهل صدق "قس بن ساعدة"  في تشخيص علتنا، وتسليط الأضواء على عاهتنا السلوكية، التي لا نستطيع التعافي منها؟

و" إن في السماء لخيرا، وإن في الأرض لعبرا...."!!

 

د. صادق السامرائي

 

 

في المثقف اليوم