أقلام حرة

صادق السامرائي: القوسان وما بينهما!!

من غرائب سلوكنا المتواصل على مدى العقود أننا لا نقول أللهم إحفظ الوطن، أللهم إرحم الوطن،  أللهم بارك الوطن.

ونسعى لتغييب الوطن من الأهمية والدور في حياتنا، ونجنح بقوة لنستحضر للأشخاص الغريب من الأوصاف ومفردات المديح المهينة.

شعوب الأرض تتغنى بمباركة أوطانها وحفظها، وترجو من ربها أن يديم نعمته عليها ويجنبها المكاره والويلات.

وفي صحافتنا ووسائل إعلامنا العجب العجاب من نعوت الأشخاص، التي نضعها ما بين قوسين كبيرين، كدلالة على التقديس والإحترام المطلق والتبجيل.

فنتخذ الأقواس لإخراج الفرد من بشريته، وتجريده من آدميته، وتحويله إلى حالة خارجة عن قدرات الجذب الأرضي.

فنجعله معصوما ومنزها،  وما ينطق مثلنا، ونتوهم بأن أقواله من وحي الأعالي.

عالم ما بين القوسين الذي يتملك وعينا يحتاج إلى كتب ودراسات، وهو غريب عن ثقافات شعوب الأرض، وركن مهم من ثقافتنا الإجتماعية والسياسية.

وعجائب ما بين القوسين تتكاثر بكثافة عالية، فلا ترى إسما لفرد كائن مَن يكون تلقفته الأضواء، حتى إخترعنا له ما نضعه بين القوسين، لنرفع من شأنه ونبعده عن أجواء الأرض، ونحسبه فوقنا ونحن دونه، وعلينا أن ونتبعه، ونكون بوقا لكلماته وأفكاره، وأغراضه ونواياه ودسائسه، لأنه يمتلك ما بين القوسين.

إن هذه النزعة ذات درجة عالية من الخطورة، وتعارض أبسط مبادئ الحرية والتفاعل البشري الصحيح، لأنها ترفع أفرادا وتضعهم فوق البشر، وتقضي بأن على البشر الآخر أن يكون تابعا مشلولا لهم، ولا يحق له أن يرى ويسمع، إلا كما يرون ويسمعون، ويقر بمصادرة عقله، والقضاء على رأيه،  لأنه لا يتوافق وصاحب تاج المديح المبجل الساكن ما بين القوسين.

إن سلوكنا الذي يحكمه القوسان، يدفع لتأكيد الإستبداد المشين، في أعماق اللاوعي، ويحقق التبعية المذلة المهينة.

فلا يوجد في هذا العالم أفرادا مهما علا شأنهم في الحياة، وعندهم قوسين تابعين فيهما أوصافا عجيبة وغريبة.

إن الدنيا تنظر إلى هكذا سلوك على أنه بعيد عن معايير الحقيقة البشرية، وكون البشر سواسية، ويتعارض مع الكثير من قيم وأخلاق الإسلام، التي لا تقر برفع المخلوق إلى مراتب الخالق.

إن الإسلام مبني على التواضع والرحمة والإحسان، وبأن البشر مهما كان فأنه من آدم وآدم من تراب، وعليه أن يقوم بالطيبات الصالحات، ليكون في مقام أفضل.

فهذه النزعة الوبائية، تؤكد أن التبعية صفة متأصلة في أعماقنا، وحرية الرأي لا تتحقق، لأنها ستتعارض مع مَن إمتلك قوسين تابعين لإسمه.

ولا يوجد منطق ومعايير تستند عليها عجائب ما بين القوسين، بل أنها تقليعات غريبة في زمن غريب، تندفع لخلق فرد وتتوجه بآيات الإستبداد والطغيان، وتحرره من إنتمائه إلى الناس الذين من حوله.

مما يتسبب بتنامي النتائج السلبية، ويقضي على التقدم والتحرر والتطور، ويمنع الإستقرار والأمن، ويفضي إلى صراعات دامية ما بين الأفراد المتوجين بقوسين، ومَن صار تابعا لهم ويدور كالمُغفل في فلكهم، حاسبا أنه يقوم بفعل نبيل،  حتى لو تطلب ذلك إزهاق أرواح الأبرياء، دون ذنب إلا لأن الفائز بتاج القوسين،  لا يتفق وما يرونه أو يعتقدونه، وأنهم قد يهددون عرش القوسين، ويهدرون معاني الإسم الرفيع، ويجرحون بهائه الساطع، وعطاءاته التي لا يمكن لبشر أن يقوم بها.

ترى لماذا نغدق على الأفراد تاج القوسين، ونكون أكثر كرما مما نتصور في إبداع الأوصاف، التي لو كان الفرد حقا صاحب مقام رفيع ومستوى معرفي منير لرفضها وتبرأ منها و منع الآخرين من فعلها، لأن مَن يعرف كثيرا يتواضع أكثر، ويكون أقرب إلى التقوى والزهد في الدنيا من التلذذ بها وبأوصافها، وبالنعوت التي تعبر عن حاجات مخبأة في دياجير أعماقنا الظلماء، والتي تحركها النفوس الأمّارة بالسوء وأباليس الضلالة والبهتان.

فلا نجد في ما بين القوسين وصفا يتبع إسم الوطن، لكننا نقول فلان الفلاني (......) وقد يكون هذا القوس متضخما ومتجاوزا لطول إسم فلان، وقد نتكرم على الفرد بأكثر من قوسين وهلم جرا.

بينما الأدب والخطاب السياسي في العالم يصرح دائما بمباركة الأوطان فعلى سبيل المثال: اللهم بارك أمريكا، أللهم بارك فرنسا، أللهم بارك إنكلترا، أللهم بارك ألمانيا وأللهم بارك روسيا.

ولا يمكنك أن تسمع أو تقرأ الرئيس الفلاني (....) أو المسؤول الفلاني (......) أو رجل الدين الفلاني (......) أو العالم الفلاني (....)، وإلى غير ذلك من بديع الجهل الذي نتقنه أحسن الإتقان، ونمتلك مهارات فائقة للتعبير عنه والتصريح به في وسائل الإعلام، الواعية الرشيدة ذات القدرات المعرفية الفائقة ( وفقها الله )...!!

إن التقدم والتحضر لا تصنعه عجائب ما بين القوسين، بل تؤكد الجهل والتأخر والضياع، وتبني وجودا خائبا وخطوات خاسرة، وتغلق أبواب المستقبل، وتدفن التطلعات المنيرة في ظلام البهتان والتضليل والتحريف، والتخريف الفكري والنوازع الدفينة القائمة في دنيا أصحاب القوسين النبيلين.

فلابد من التحرر مما بين  القوسين، والخروج إلى فضاءات الفكر الرحبة، ومعالم الإنسانية الطيبة، والتحلي بمبادئ الدين والحضارة الساطعة الواضحة، والمختزنة لآليات الصيرورة والتقدم وجواهر الإبداع والتطور.

هذه الجواهر الفكرية والأخلاقية لو وعيناها وتواصلنا معها لكنا في علاء وشمم، لكننا نخسر حاضرنا ومستقبلنا، بسبب تنامي الجهل، وسيادة التبعية، ومصادرة العقل، وتهميش دور الإنسان في صناعة الحياة، وتنمية أسباب الرجاء والأمل.

لماذا نضع قوسين خلف أسماء البشر ولا نضعهما بعد إسم الوطن؟

لماذا نصنع من البشر ما لا يمت بصلة إليهم ونخرجهم من أطوارهم البشرية؟

فهل نحن نعشق التبعية ونكره الحرية ولا يمكننا إلا أن نتبع؟

تساؤلات لا بد لنا من التفكير بها مليا والإجابة عليها بوضوح!!

وتبا لمَن يَستطيب ما بين القوسين!!

***

د. صادق السامرائي

في المثقف اليوم