أقلام حرة

رمضان ليس للتجويع ولكن لإعادة برمجة النفوس وإعدادها!

الإيمان لا يقاس بالزمان و لا بالمكان ولا بالمظاهر، فهو أمر باطني بامتياز، لا يستطيع غير الله التمييز بين المؤمن من الناس وغير المؤمن، فلا العمائم المنتفخة يمكنها أن تصنع المؤمن الحق، ولا الخلابيب القصيرة،ولا اللحى الطويلة، ولا زبية الصلاة البارزة، ولا نقاب وجه المرأة، ولا شدة سواد غطاء شعر رأسها، ولا حتى صيام يومي الإثنين والخميس والاعتكاف في المساجد، وغيرها كثير من مظاهر التعبد الرمضانية المبالغ فيها، بقادرة على استشعار المرء بحقيقة الإيمان، غير الإحساس الإنساني النابع من رقي معاملة الأغيار، والتحضر في التعامل معهم واحترام مشاعرهم، بدليل "الدين المعاملة" والتي هي من أهم صور الإيمان وأبرز مداخله التي ألزم الله عباده بها نحو بعضهم البعض، والتي نجد أنها مع الأسف، اختفت بشكل كامل من حياة غالبية المسلمين، وبرزت بالمقابل، وبجلاء تام، في سلوكيات الغربيين الحضارية وتعاملاتهم المتحضرة مع غيرهم- حتى المخالفين لهم في الرأي والفكر والعقيدة- السلوك الذي ينم عن تشبعهم بمنظومة أخلاقية راقية ومتكاملة، والتي يدعي الكثير من دهاقنة رجال الدين وشيوخه وفقهائه ودعاته، بأنها صناعة إسلامية، ويتبجحون بالقول - وما أظنه إلا مجرد قول- بأن الغربيين تعلموها من المبادئ والقيم الأخلاقية التي جاء بها الإسلام لتربية الإنسان المسلم على الفضائل، وتهذيب سلوكه، وتليين نفسه، وتطهير روحه، وتنقية قلبه، وتقوية ضميره، وتعليمه كيف يلتزم الأدب والذوق في أقواله وأفعاله نحو نفسه وغيره، والتي فشلت الغالبية العظمى من المسلمين في تعلمها والتحلي بها، رغم تضمن جل العبادات لروحها وفلسفتها، وعلى رأسها الصيام -الذي نعيش هذه الأيام أجواءه المتميزة - وما تقدمه مدرسته من دروس عملية في التربية الدينية والنفسية والاجتماعية، وبناء وتطوير المجتمعات وبناء الأمم واستمراريتها، والتي عجز المسلمون عن استثمارها لتحقيق ما يبغيه الشارع الإسلامي من أغراض الصيام الحميدة، التي تختزل كل مقاصد وأهداف الشريعة الإسلامية، في فلسفته ومقاصده الجزئية، ببعديها الداخلي، الذي يجرد النفس من هواها، ويخلص الباطن من شوائب الشرك والخضوع لغير الله، والخارجي المتجسد في وربط بجوع الصائم، في ذروة شهر رمضان، بفعل الخير والصلاح والعطاء والإحسان والإطعام الذي يشمل البؤساء والجائعين وكل من ضاق ذرعاً من شغف الحياة وكدورتها، وذلك ابتغاء لوجه الله تعالى، ووفاءً لحق الإنسان على أخيه في الوطن، مسلما كان أو غير مسلم ومن أي بلد كان حول العالم . الأمر الذي يدفع للحيرة والتساؤل لماذا لم يحدث ذلك ؟ ومن المسؤول على تحريف الصيام عن سمو أهدافه ورفعة غاياته، حتى تحول لمجرد إمساك عن أشياء مخصوصة في زمان مخصوص، كأي عمل غريزي أعمى وأجوفَ لا قيمة له، يُنتظر التخلص من ألمه البدني وشقائه الجسدي، شوقا للعودة إلى مألوف التشرذم والتنابذ والتناحر والتباغض والتكاره والضغائن والأحقاد والانقسام والتلاعن والتكفير والشتائم والسباب، كما عبر على ذلك الشاعر بقوله:

رَمَضانُ وَلّى هاتِها يا ساقي   مُشتاقَةً تَسعى إِلى مُشتاقِ

ولاشك أن الذي يتحمل مسؤولية هذه الإزدواجية المقيتة وما أوصلت المجتمع إليه من الهوان والتخبط وسوء السلوك والتنافخ والحقد والكراهية وقلة الحرص والشعور بالمسؤولية الأخلاقية والوطنية والدينية، هو غياب القيم الحضارية الإسلامية عن سلوكيات المسلمين، الذي يتحمل كامل المسؤولية فيها الفقهاء والدعاة والشيوخ المعزولين عن مشاكل واحتياجات الجماهير، بإنشغالهم -عن قصد وسبق إصرار -بالأمور الغيبية والقضايا الخلافية مقابل القيم والأخلاقيات التي تضبط سلوكيات الإنسان وتهذب أخلاقه بقيم وآداب الإسلام الرفيعة، وعجزهم عن تقديم الدروس التثقيفية في العلوم التجريبية والاكتشافات والفلسفة والسياسة والاقتصاد والدينية وباقي تطوراتها الاجتماعية والإنسانية، القادرة، في حالة شيوعها وانتشارها،على إنقاذ البشرية من الهرطقات والتخريفات، بدل اقتصارهم على الترديد الببغائي لأدعية واستغفارات أئمة التجهيل الثراتي المؤثر سلبيا على العقل والفكر المطوع للشعوب ومسكتها .

وهنا أعتذر من القارء الكريم إن كنت قد أفسدت عليه إستهلاله لهذا الشهر المبارك بتناولي هذا النكد المتمثل في هذا السلوكيات المستفزة التي اوصلت مجتمعنا الى ما هو فيه وعليه من الامراض النفسية السلوكية التي أسهمت بدور كبير في انتاج العقول المتصلبة المنغلقة البعيدة عن الواقع والواقعية حيث لا تبصر إلاّ نفسها، والتي إرتأيت أنه من واجب محبتي لوطني وغيرة على مصلحة مواطنيه ومستقبلهم، كما هو من واجب كل انسان شريف وغيور على مجتمعه وأمته، أن يتتبعها ويكتب عنها، علنا نتحرر من ربقة أغلال التخلف والشعوذة، ونتمثل مخلصين الأغراض الحميدة والمقاصد العظيمة للصيام.

وفي الختام ارفع الأكف عالية نحو أبواب السماء المفتحة، راجيا الله سبحانه وتعالى ان يشملنا برحمته الموعودة، ورمضان مبارك على الجميع .

 ***

حميد طولست

في المثقف اليوم