أقلام حرة

علي بن أبي طالب في ذاكرتي

جواد عبد الكاظم محسنذات يوم وأنا في الصف الرابع الابتدائي حصلت على كتاب (ألف كلمة مختارة للإمام علي بن أبي طالب "ع") المطبوع في إحدى مطابع مدينة النجف الأشرف، فانكببت عليه قراءة وحفظاً لما وجدت فيه من عبارات الحكمة الجميلة، وأذكر مما أعجبني منها: (لا غنى كالعقل، ولا فقر كالجهل، ولا ميراث كالأدب، ولا ظهير كالمشورة)، و(ما أضمر أحدٌ شيئاً، إلا ظهر في فلتات لسانه، وصفحات وجهه)، و(الدهر يومان: يوم لك ويوم عليك، فإذا كان لك فلا تبطر، وإذا كان عليك فاصبر)، و(اثنان لا يشبعان؛ طالب العلم وطالب المال)، و(أعقل الناس أعذرهم للناس)، و(إياك ومصاحبة الأحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرّك)، وغيرها.

وحدث في شهر رمضان سنة 1385ه/1965م، وكنت في الصف الخامس الابتدائي في مدرسة الثورة للبنين بمدينتي المسيَّب؛ إذ دخل الصف معلم التربية الدينية الأستاذ حمودي كاظم النجار – متعه الله بالعافية وأطال في عمره - وهو يحمل كتاباً ملفوفاً بقطعة قماش خضراء وباعتناء شديد، وفتحه بهدوء وقدسية، وهو يقول: هذا كتاب (نهج البلاغة) لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وقرأ لنا منه صفحات مع الشرح الموجز، وكانت هذه أول مرة أرى فيها كتاب (نهج البلاغة) وأعرف أنه للإمام علي عليه السلام، وتمنيت يومها بل حلمت أن تكون عندي نسخة منه، وقد تأخر حصولي عليها لبضع سنوات، فرأيته أماماً للبلغاء والمتكلمين والعارفين.

وفي رجب 1386ه/1966م؛ شاركت صبيان وشباب المحلة في التهيؤ للاحتفال بمولد الإمام عليه السلام، فجمعنا كل (يومياتنا)، وهي مبالغ بسيطة جداً، واشترينا بها ورقاً ملوناً رفعناه بخيوط للزينة وكمية من (الـﭽكليت) للتوزيع على المارة ابتهاجاً بهذه المناسبة السعيدة، ومازال مكان الاحتفال والتجمع شاخصاً أمام عيني في شارع زين العابدين قرب بيت المرحوم خضير النجار، فمرّ مصادفة المرحوم عزيز محسن الجواد وهو ضابط مفصول سياسياً وأمضى ثلاث سنوات في السجن، فطلب قطعة طباشير، وكتب على الحائط بخط جميل (مولد الإمام علي عليه السلام مولد للحق والعدالة) وطلب منّا تكملة العمل، فقام أكبرنا سناً وأفضلنا خطاً ناجي النجار بطلاء هذه العبارة ب(البوية) لتظهر أكثر جمالاً ووضوحاً، ومنذ ذلك اليوم كتبت في عقلي وقلبي مقالة (علي صوت العدالة الإنسانية).

في بداية عقد الثمانينيات قبل بدء الحرب العراقية الإيرانية نقل لنا المرحوم حمزة حسن علوان، وهو أمر وحدة عسكرية في ديالى ما شاهده في الشارع حين داهمت مفرزة أمنية من السلطة يومذاك بيت عائلة فقيرة وأخرجتها عنوة للتسفير بذريعة التبعية، وقال: آخر من خرج من هذه العائلة الأب وهو شيخ كبير، فوقف أمام صورة للإمام علي عليه السلام في مدخل البيت، وخاطبها بصوت عالٍ وبحرقة (والله ما أخرجونا من بيتنا للتسفير إلا لحبّنا لك .. وسنبقى نحبّك يا علي مهما كلف الثمن) ثم أجهش بالبكاء!! وحينها عرفت مقدار حبّ الفقراء والمظلومين لعلي عليه السلام واستنجادهم به، وقد توّجوه في  قلوبهم (إمام الفقراء والمظلومين).

بعد اشتعال نيران الحرب العراقية الإيرانية التي أحرقت الأخضر واليابس، ودمرت البلدين بلا مسوغ، اكتشفت مصادفة قائمة طويلة وزعت على المدارس والجامعات والمكتبات العامة والتجارية، وقد تضمنت أسماء الكتب الممنوعة من التداول، وصدمني فيها وجود كتب تتحدث عن سيرة الإمام علي عليه السلام، وآراء المفكرين الحسنة فيه، بل ومنعت حتى الكتب والدواوين الشعرية التي تضمنت أبياتاً من الشعر في مدحه أو رثائه!! فهالني ذلك أشد الهول، بل وجعلني أبدأ قراءة جديدة لكل ما كتب عن الإمام علي عليه السلام مدحاً أو قدحاً، من محبيه ومبغضيه لأقف في النهاية على حقيقة ناصعة أنه (نصير الحرية وملهم الأحرار ومرعب الطغاة).

وفي حرب الخليج الثانية سنة 1991م وهزيمة الطاغية وخروجه مستسلماً ذليلاً من الكويت؛ وقيام الانتفاضة الشعبية ضده، وإصداره الأوامر بقمعها وقتل واعتقال المنتفضين والأبرياء على حد سواء في مناطق الفرات الأوسط والجنوب، وتفجير بيوتهم وهدم جوامعهم بلا رحمة ولا أخلاق، وحدثت أبشع الجرائم، ومن هذه الجرائم المؤلمة التي أرقتني يومذاك اعتقال وتغييب المفكر عزيز السيد جاسم وقد عرفته عن قرب، وكل جريرته أنه ألف كتاباً عن علي عليه السلام وسيرته العادلة، وأيقنت يومها عظمته واستحقاقه للقب (علي سلطة الحق) بل و(إمام المتقين) أيضاً.

وعندما دخلت هذه المرحلة المهمة من حياتي وقد شكلت منعطفاً كبيراً فيها، أعدت النظر في أفكاري وثقافتي ومواقفي جذرياً، ومضيت بلا مبالغة في قراءة مئات الكتب المهمة  التي تناولت سيرة الإمام سيرة علي عليه السلام وفكره ، وقررت جهد الإمكان أن يكون موقفي حيادياً ولا أبغي به سوى الحقيقة، ورسمت منهجاً لتلك القراءات، وجعلتها متنوعة من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال، وخرجت منها بحصيلة فكرية أضافت لمعلوماتي ما كنت أجهله، وأرشدتني لغيرها، وأنعشت روحي وعلى ضوئها حددت مواقفي من قضايا عديدة، وقد احتلت تلك الكتب والموسوعات القيمة في مكتبتي مكاناً مميزاً ولائقاً بها.

وأقول بصراحة كم أعجبتني كتابات غير المسلمين عن الإمام علي عليه السلام، فقد كانت أكثر إنصافاً ومعرفة به وقرباً منه وصدقاً بما روت عنه وإقناعاً لما ذهبت إليه، وكانت بعيدة عن المبالغات التي لا يحتاجها الإمام علي عليه السلام أبداً، بل هي لا تقل ضرراً عن سموم الحقد في كتب الأعداء المعاندين، وطالما تذكرت عند مروري بالاثنتين قوله عليه السلام (هلك فيّ رجلان: محبٌّ غالٍ، ومبغضٌ قالٍ)!!

وكان في مقدمة تلك الكتب دورة (علي صوت العدالة الإنسانية) لجورج جرداق الفائز بجائزة التأليف النجفية سنة 1967م، و(الإمام علي نبراس ومتراس) لسليمان كتاني، و(أسد الإسلام وقديسه) لروكس بن زائد العزيزي، والكتابان كانا من الكتب الفائزة أيضاً في تلك المسابقة، ولا يفوتني ذكر أشهر الملاحم الشعرية لغير المسلمين، وهي ملحمة (عيد الغدير) لبولس سلامة، فضلاً كتب وموسوعات وشروحات أخرى خارج نطاق العد والإحصاء أبدع فيها مؤلفوها المسلمون.

وكانت حصيلتي المعرفية من تلك القراءات إن امتلأ وجداني قرباً من الإنسانية بعد معرفتي وتأثري بجوانب من إنسانية علي عليه السلام، وهو القائل: (الناس صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق)، وموضوعيتة، وهو القائل: (إن الحق لا يعرف بالرجال وإنما الرجال يعرفون بالحق، فاعرف الحق تعرف أهله قلّوا أو كثروا واعرف الباطل تعرف أهله قلوا أم كثروا)، وعفته ونبله مع أعدائه، وهو القائل عليه السلام وقد سمع قوماً من أصحابه يسبون أهل الشام أيام حربهم بصفين: (إني أكره لكم أن تكونوا سبابين، ولكنكم لو وصفتم أعمالهم وذكرتم حالهم كان أصوب في القول وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبّكم إياهم؛ اللهم احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم حتى يُعرف الحق من جهله، ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به).

ولست أرى كلمة أدل على عدله ورحمته عليه السلام بالمحكومين من قوله، وهو خليفة المسلمين: (لقد أصبحت الأمم تخاف ظلم رعاتها، وأصبحت أخاف ظلم رعيتي)، وبلغ به تواضعه عليه السلام إن نهى أصحابه بألقاب العظمة ويكلموه بما تُكلم به الجبابرة ويتحفظوا منه، وقالها لهم صريحة: (لا تخالطوني بالمصانعة، ولا تظنوا بي استثقالاً في حق قيل لي، فإنه من استثقل الحق أن يقال له أو العدل أن يعرض عليه كان العمل بهما أثقل عليه، فلا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل).

***

جواد عبد الكاظم محسن

 

في المثقف اليوم