أقلام حرة

قلوب لا تعرف الخوف

ضياء محسن الاسديكانت الحرب العراقية الإيرانية في بداياتها من الثمانينات القرن الماضي تدور رحاها بين الطرفين على قدم وساق لتلتهم الحجر والبدر وتزهق الأرواح في أوائل أيامها العجاف حيث تزف ضحاياها إلى أهليهم على مدار الساعة ورائحة البارود وأزيز المدافع والبنادق يصم آذان السماء وجبهات القتال لا يسلم من جحيمها أحد ورائحة التراب الممزوج بالبارود يغطي أرض المعارك والأسلحة الفتاكة تدك حصون الطرفين من غير رحمة ولا هوادة والكل ينتظر يومه الموعود أما جريحا أو شهيدا والإجازات ممنوعة لأكثر من شهر ونصف بسبب شراسة المعارك بعيدين عن الأهل نعانق الخوف والمجهول والموت في كل لحظة قابعين في الخيام المكشوفة لنيران العدو أو في مواضع تحت الأرض بيننا والموت شعرة واحدة تكاد أن تنقطع في لحظة ما.

وفي يوم من الأيام القائض  الحار المترب بالغبار المتصاعد والمتلاطم في عنان السماء ظهرا وإذ بمنادي ينادي علي أن شخصا يريدني في خيمتي التي غادرتها توا لأمر ما وحين دخلتها أذهلت من هول الصدمة ورهبة المنظر الذي تجسد أمامي وتسمرت قدماي في الأرض وارتعشت فرائصي وكادت أن تلامس الأرض من المفاجئة وانعقد اللسان عن النطق سوى الدموع المنهمرة على الوجنتين وأنا أنظر لهذا الرجل الكهل الذي تسلق سلم الستين من العمر بثيابه الرثة المتربة وعيناه الغائرتين وجسمه النحيل وقدماه الشبه عارية يعلوها التراب وآثار الشمس الحارقة على وجهه الأسمر ورسمت عليه آثار وتعب السنين وحطت على ظهره أوزارها  ألقيت نفسي على صدره لأعانقه بعد الصحوة من الصدمة بحرارة شديدة ممزوجة بين فرحة اللقاء والحزن على حاله أنه ذاك الجبروت الذي كنا نخشاه في حضرته وتوبيخه لنا أنه الوالد رحمه الله تعالى كم كان عظيما بقلبه العطوف وحنانه الذي لا يقدر بثمن حيث تخطى الصعاب والأهوال من سيارة إلى سيارة عسكرية ومدنية ومن قاطع إلى قاطع حربي ومن وحدة عسكرية إلى أخرى حتى وصل ليلبي نداء الأبوة ونداء العاطفة والحب للأبناء التي لا يضاهيها حب في الكون تجسد أمامي بكل عنفوان ما زلت أذكرها بعد مرور هذه السنين باقية محفورة في الذاكرة خالدة ترتسم على صفحات مخيلتي لقد رأيت هذا الجبروت الذي نخشاه في البيت كيف يتذلل أمام الضابط للحصول على أجازة لي ليوم أو أكثر حينها عرفت من أبي الشموخ والكبرياء والاحترام بمعناه الحقيقي عرفت أن لا شيء يقف أمام لحظة واحدة من حب الأولاد والأسرة فشخصيته كلها تصاغرت أمام حبه وحنان الأب والخوف على هذا لبيت الصغير الذي يكلله بقلبه الواسع . أن لهذا المنظر كان له وقعا كبيرا على الضابط وعلي حينها تحركت مشاعره واختلطت دموعه مع دموع والدي وهو يراه كيف يتوسل به رق قلبه ليمنحني أجازة ليوم واحد فقط بعد أن أخذ مني المواثيق والعهود  على العودة لساحات القتال أيقنت بعدها بزمن طويل أن الوالد يمكن أن يتخلى عن مبادئه وقوته للحظة واحدة لحب الأولاد مهما كلفه الأمر رحمك الله أبي ما أكبرك وأعزك في الدنيا والآخرة.

***

ضياء محسن الاسدي

 

في المثقف اليوم