أقلام حرة

النواب حتى في موته لا يعرف الرتابة

راضي المترفيعرفت الراحل مظفر النواب وانا طالب في المتوسطة يوم كان مشرفا تربويا حيث كان له حضورا لافت للنظر رغم عدم تواجده الدائم وكان ذا صمت مهاب واخبار تتداولها النخب والسوقة من الناس وسارت أشعاره باللغة المحكية سيرورة الأمثال بسبب كونه مختلفا عن من سبقه ولم يلحق به من أتى خلفه إذ كان فارسا شجاعا صريحا لايحابي أحد ولم يطرق أبواب السلاطين والحكام ولم يتكسب بشعره واخلص بحبه لمعشوق واحد هو (العراق) ولا معشوق غيره ومع أنه ابن مدينة (حضري) الا انه اوغل في أعماق الريف حتى أصبح مرجعا للمفردات المتداولة فيه بعد أن وظفها جيدا في تجلياته الشعرية مع ان لكل مفردة من مفردات الريف تخريجات شتى ومعان قد تختلف عن الاستخدام من منطقة إلى أخرى ومن الطريف أن الملحن طالب القره غولي واجه وهو يلحن واحدة من روائع النواب للمطرب ياس خضر مشكلة تبديل إحدى المفردات في القصيدة لتتماشى مع اللحن لكنه لم يفلح وبقيت فجوة يشعر بها من قرأ النواب جيدا حيث فقد التبديل عمقه وصدقه ودقة التشبيه التي وضعها الشاعر حيث كانت في أصل القصيدة: (تعال بحلم واحسبها الك جيه .. واكولن جيت .. يا تل جل يللي ما وجيت..) وكان البديل هو (ياثلج اللي ماوجيت) ومعلوم أن النواب اختار لتوصيفه مادة قابلة للاحتراق لا بل سريعة الاحتراق بمجرد اقتراب النار منها وهذا ما يفعله الفلاحين بعد الحصاد من أجل تهيئة الأرض لزراعة محصول آخر والذي هو (الجل) والذي عنى به سيقان أعواد القمح بعد الحصاد في حين اختار الملحن (الثلج) وهو ماتطفى به الحرائق بحالته العادية (الماء) فكيف اذا كان متجمدا الا يصبح اشتعاله مستحيلا مما يجعل تشبيه الملحن البديل نوعا من (الفنتازيا) على عكس تشبيه الشاعر الذي كان في أعلى مراتب الواقعية ومع ذلك لم يؤثر هذا التبديل على مجمل القصيدة لغناها بالصور الشعرية والاستعارات الوصفية التي ضمنها الشاعر من دون خدش للذوق او خروج على المألوف الاجتماعي مع قصدية كاملة على الخروج عن النمط السائد للشعر الشعبي في حينه ومن هنا نستطيع التأكيد على أن مظفر النواب الإنسان والمناضل والشاعر والمواطن ولد مختلفا وعاش حياة مختلفة عن غيره واختلف عن الآخرين حتى في تشييع جنازته وان وجد تطابق مع آخر فهو كان قريب من سلفه العراقي ابو الطيب المتنبي الذي وصف بأنه ملا الدنيا وشغل الناس ..

الذكر الطيب والرحمة والخلود للنواب الذي كان عراقا يمشي على قدمين .

***

راضي المترفي

 

في المثقف اليوم