أقلام حرة

ليس في الكذب ما يدعو للزهو أو الفخر (2)

حميد طولستلم يتأكد بعد ما إذا كانت أنوف الكذابين تستطيل عند الكذب، كما في قصة "بينوكيو"، لكن الحقيقة المؤكدة هي أن البشر يكذبون كما يتنفسون - وقبل أن يسارع أحد المتخلفين إلى اتهامي بتعميم هذه الصفة، أذكره بأنها صفة غالبة على الجميع لا يلاحظها المنغمسون فيها- ويعتقد أغلبهم أن كذبهم سلوك آني عابر أو عادة منهجية متأصِّل، هو عندهم بعض من النفاق الاجتماعي الذي يجنبهم الكثير من مشاكل الحياة اليومية، والذي يصطلحون على تسميته بـ "الكذب الأبيض" رغم أنه ليس هناك أدل على قبح سواده من أن أكذب الناس لا يرضى أن يُنسب إليه، أو يتهم به، أو يقبل أن يكون في مصاف ممن يحققون أهدافهم عن طريق فحشه، الذي يبقى ظاهرة عصية لا تستطيع كل قوانين الدنيا وتشريعاتها السماوية والوضعية إلغاءها كليا من سلوكيات الكائنات الكذابة التي تؤمن بالمثل العامّي "الكذب ملح الحياة" وتطبقه بحذافره، الى أن أصبح لوناً من ألوانها، وشرطا أساسيا من شروطها، وربما من أهم متطلباتها التي لا يقدر إنسان العصر الحديث على الاستغناء عنه من أجل تسيير أموره بسلاسة، وبنسبة أقل من المشاكل والصعوبات، ما جعله مسألة حياة أو موت بالنسبة للسياسيين، لارتباطه القوي بينه وبين السلطة التي كلما زادت سهل الكذب، الحكمة التي بنى عليها "مكيافيلي" وصفه لهذا النوع من الكذب بــ"الكذب البديل" -كتابه "الأمير"- الذي دعا حكام عصره إلى استخدامه كمتطلب ضروري للعمل السياسي، والذي بالغ في اقترافه دهاقنة السياسة ومنظريها وممارسيها في عصرنا الحاضر، إلى درجة أن تصدر "دونالد ترامب" قائمة أكثر السياسيين كذبا، حسب " واشنطن بوست " التي أحصت عليه أكثر من 8 آلاف كذبة خلال تولية رئاسة أمريكا، و"فازت" المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بلقب "الكذاب الرئيسي لهذا العام" الذي اجرته الطبعة الألمانية " Alles Schall" للكشف عن أكثر السياسيين كذبا في العالم لسنة 2015، التي احتل فيها الرئيس الأمريكي "باراك أوباما" المركز الثاني، والرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" والمركز الثالث، وحصل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على المركز الرابع، واغلق الرئيس الأوكراني "بيترو بوروشينكو" لائحة أكثر 5 زعماء كذبًا لعام 2015 حسب الاستطلاع .

وهذا لا يعني أن عادة الكذب مقصورة على رجال السياسة وحدهم، وأنها لا تكثر إلا قبل الانتخابات وخلال الحرب وبعد الصيد، كما قال "بسمارك"، فإننا نجده في جميع مجالات الحياة والعلاقات البشرية حتى الغرامية منها، كما قال " آل باتشينو" مستغربا :"لا أفهم كيف يستطيع الناس الكذب في العلاقات الغرامية والإدعاء بالحب،أنا لا أستطيع أن أقول مرحباً لشخص لا أستلطفه".

صحيح، بل ومن المسلم به، أنه لا وجود لوصفة تمنع الكذب، كظاهرة سلوكية غير أخلاقية، تهدم القيم، وتفسد المعاملات، وتحطّم العهود، وتؤدي إلى انهيار الحياة، لكن يبقى رهان الحد من غلوائه مرتبط بتطوّر ملكات الإنسان الإنسانية وقدراته العقلية على التمييز بين الصدق والزيف، وكشف الكذب والكذابين، وإرتقاء وعيه وإدراكه لمعرفة مخاطرهما على الأفراد والجماعات، المر المقترن وبذات القدر بتطوّر المنظومة الأخلاقية والقيمية، ومواكبتها لتشريعات الدينية المحرمة تي للكذب والنفاق وماقتة للكذابين والمنافقين وشهادي الزور وناقضي العهود ومخلفي الوعود، وغيرها من الصفات و السلوكيات التي لا تليق بالمؤمن الصادق الإيمان، وتكرهها جميع الديانات،والتي قرنها سبحانه برجس الوثنية في قوله تعالى: "فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور" الحج30، وأكد رجسيتها الأثر : "أنّ المؤمن يقتل ويزني ويخطئ، ولكن المؤمن لا يكذب"، وأنه إذا كذب فمن مهانته، أو عادة السوء أو قلة الأدب التي تشرب مظاهرها المنتشرة بالوسط المجتمعي الذي يعيش فيه، والذي تتحمل كل الأطراف والفاعليات مسؤولية ديوعها، من الأسرة والمدرسة والشارع والحكومة ورجال الدين من شيوخ ودعاة وخطباء المساجد، الذين من أوجب واجباتهم التصدى لها وغيرها من الظواهر التي بدأت تستتب في المجتمع، بدلا من توجيه النقد اللاذع للباس المرأة او للفساد المزعوم الذي يتسبب فيه دور "شيخة" في مسلسل تلفزيزني، وغير ذلك من الترهات التي يدعي الوعاض معالج امراض المجتمع واحداثه الصادمة بها، من خلال فتاويهم التي لا تخلو في مجملها من تكرار الأسطوانة المشروخة التي ترجع سبب امراض المجتمع وظواهره الصادمة، إلى الابتعاد عن الله، وانخفاض منسوب الوازع الديني لدى المسلمين؛ التحليل الآني البسيط والمناقض لكل استطلاعات الرأي الصادرة عن مراكز الدراسات المؤكدة على أن الشعب المغربي مجتمع متدين، والتشخيص السهل الخاطئ، الذي ربما تترتب عليه اعراض جانبية خطيرة، كخطورة وصفة طبيب خاطئة التي تؤدي بالمريض الى الوفاة، حيت أنه لا علاقة لما يعيشه المواطن من أوضاع مأساوية وتراجع في السلوك العام بالبعد عن الله، فهناك أسباب كثيرة ومتنوعة -لا تعد ولا تحصى- منها المرتبط بظروفه المهنية، والعائلية، بالشعور بغياب العدالة، وصعوبة تحصيل الحقوق، وتفشي الفساد بكل أنماطه، وغموض المستقبل، ونذرة الفرص، ومنها المتعلقة بالقضايا التربوية والأخلاقية والثقافية والاجتماعية والساسية والاقتصادية والديني المرتبطة بمنظومة القيم والسلوك المجتمعي، التي لن ينصلح أمر أي مجتمع بدون إعادة بنائها بشكل يتناسب مع الدين والعرف المجتمعي الذي تربى عليه آباؤنا وأجدادنا، والذي لن يتأتى إلا بدراسة سلوك المجتمع و اعادة غرس القيم النبيلة -التي بدأ سلوكيات الناس تتغير بإندثارها - التي لن تنغرس إلا بتغيير المناهج واساليب التدريس، الأمر الرهين بوعي ذوي الضمائر اليقظة والسرائر النظيفة .

***

حميد طولست

 

في المثقف اليوم