أقلام حرة

الخبز.. قبلة الجياع وملهم الثوار

للخبز أهمية كبيرة ومكانة خاصة في حياة المجتمعات، ورغم الشعارات التي جعلت الحرية والكرامة من ضرورات البقاء ومكملات العيش الكريم لأنه (ليس بالخبز وحده يحيا الانسان) الا انه وطوال التاريخ ظل الخبز يحظى بكرامة لدى الانسان الشرقي الذي عاش مرارة الجوع وقسوة الحصارات، واكرام الخبز تربية تعلمناها منذ الصغر فمذ كنا صغارا كان الآباء ينصحوننا بإزاحة كسرة الخبز الملقاة في الطريق ووضعها في مكان لا تداس فيه بالأقدام لأنها في نظرهم (نعمة الله)، كما ان امهاتنا في البيوت لا تعامل الخبز مثل بقية اصناف الطعام وتتجنب خلط بقاياه مع باقي القمامة اكراما لهذه النعمة التي أسهمت في انقاذ المجتمعات من خطر المجاعات والأمراض، وعلى الصعيد السياسي ظل الخبز صمام أمان الشعوب وسببا كافيا لحيازة الاستقرار الاجتماعي والأمني فاذا قل الخبز في الاسواق اضطربت وتغيرت احوال الناس ولنا خير شاهد على ذلك (انتفاضة الخبز) التي حدثت في مصر عام 1977 فعندما قامت حكومة السادات برفع اسعار الخبز خرج الجائعون الى الشوارع في انتفاضة كبرى منددين  بإجراءات الحكومة التعسفية التي استهدفت قوت الفقراء وكادت تلك الانتفاضة تطيح بنظام السادات لولا تراجعه السريع عن تنفيذ اجراءاته. ولقدرة الخبز على تحريك الشارع واستقطاب الجماهير فقد حظي باهتمام السياسيين حيث جعلت الحركات اليسارية من اسم الخبز وسيلة للدخول الى بيوت وقلوب الفقراء فكم من لافتات وشعارات حملت اسم الخبز وكم من الشهداء الذين سقطوا في مظاهرات وثورات كانت تطالب بالخبز وصار عند الثوري الحقيقي مطلبا غير قابل للمساومةّ وهدفا أسمى من الحب وهذا ما جسده الثائر تشي جيفارا في قوله (لا تعشقي يسارياً.. سينساك ويفكر في العمال الكادحين.. سيحدثك في ليالي الرومانسية عن الأرض والخبز والسلام).

في الديوانية كان هناك رجل ابيض البشرة مهيب الطلعة نظيف الشكل يرتدي دشداشة بيضاء وسترة داكنة ويضع على رأسه العقال واليشماغ وعلمنا فيما بعد انه ميسور الحال، كان هذا الرجل مثيرا للاستغراب على الأقل عندنا نحن الصغار الذين لم نتعلم بعد من دروس الحياة حيث لم يكن هناك ملاءمة بين هيئته وفيما كان يفعله، فهو يقضي الصباح يدور في شوارع محلة الجديدة الشعبية وكنت اتابعه بدهشة وهو ينبش في قمامة الشارع ويلتقط منها زوائد الخبز ويضعها في زنبيل كبير مصنوع من الخوص وحمالات من الجنب وعند الضحى ينهي عمله بالذهاب الى شط الديوانية حيث يقف عند ضفته ويرمي ما جمعه من قطع الخبز الى النهر. لا شك انه كان يجد في الخبز بركة ولكي لا تنقطع هذه البركة عن البيوت فقد تطوع ولسنوات طويلة لتخليص بقايا الخبز ــ نعمة الله ــ من القمامة ورميها في النهر لكي تكون طعاما للأسماك فيكسب بذللك أجرين أجر الحفاظ على البركة وكرامة الخبز والآخر في اطعام السمك.. اعتقد انه كان يشعر بسعادة غامرة وراحة ضمير وهو يقوم بعملة التطوعي الغريب.

***

ثامر الحاج امين

 

 

في المثقف اليوم