أقلام حرة

الغامض والعارض!!

الغموض ليس عيبا، وإنما يضفي على الإبداع نكهة فكرية ذات متعة معرفية، والإبداع المحلى بالغموض نوع من الترف الحضاري، وهو إبن مرحلته والمعبر الأصدق عنها.

فعلى سبيل المثال، أقوال الجاحظ في وقتها حيث التوهج الحضاري في بغداد والبصرة والكوفة، متوافقة مع زمانها، لكنها بعيدة عن الواقع الزماني الذي نعيشه.

فلو كان الجاحظ بيننا لما أتى بما طرحه من آراء وتصورات، لأن الحالة التي نحن فيها دون ما كانت عليه في زمانه.

فالفرق كبير بين إبداع حضارة قائدة وأخرى غائبة وتابعة لغيرها، وما يسود عبر الأجيال منذ بداية القرن العشرين، أن التقدم والمعاصرة يكونان بإقتلاع الجذور وقطع التواصل مع ذات الأمة، وجوهرها ومميزاتها وخصائصها، وهو غير ممكن، ولو توالت على نهجه قرون وقرون، فالأمم لا تموت، وإن خمدت أو نامت فستستفيق ذات يوم.

وواقعنا المعاصر تحقق فيه تسويق المستورد، وصار الإبداع أن تقلد الآخرين وتستنسخ عنهم، وما نبت وترعرع في تربتهم وتساقى من مياه ما فيهم.

وعندما تتساءل أين مروجنا الإبداعية النابتة في تربة ذاتنا وموضوعنا، تُحسب من المتأخرين والمناهضين لما يسمونه بالحداثة.

وحقيقة ما يجري أن قاطرة الإبداع الإنساني، تسير كقطار الإطلاقة ونحن نسير كقطار الموصل – بغداد أيام السبعينيات الذي كان يعجز عن مسابقة السلحفاة.

إن الأمم الحية تطلق ما فيها، لا تستحضر ما عند غيرها من أشكال إبداعية، وحالات نابعة من بودقتها التفاعلية مع عصرها.

فالإتيان بما لا يمت بصلة إلى أرضية وجودنا، لا يُسمى إبداعا بل إستيرادا لبضاعة سيصيبها الكساد في غير ديارها وأسواقها.

فالتوهم بتسويق ما عند الآخرين، لن ينجح لأن الترويج مهما كان متطورا، فالذوق العام لا يستسيغها، فلن تجد مَن يشتري كباب لحم الخنزير في ديارنا.

إن المشكلة ليست بالفنون الإبداعية التي جربتها الأجيال قبلنا في زمن التوهج الحضاري، المشكلة أننا لا نجيد التفاعل الحضاري الإبداعي مع معطيات غيرنا، ونحسب الإستنساخ الوسيلة المثلى لكي نتوهم بأننا مثلهم، فهل إستنسخنا في زمن المأمون، ما ترجمناه من الثقافات الأصيلة، أم لتجربتنا أريجها المتميز القداح!!

***

د. صادق السامرائي

 

في المثقف اليوم