أقلام حرة

قصة كتاب

عند استلامي أول راتب في حياتي الوظيفية وكان في نهاية شهر أيلول سنة 1973م قصدت سوق السراي الذي كان يعج بالمكتبات القديمة، واستوقفني في أحدى المكتبات كتاب (تاريخ الأدب العربي) لمؤلفه حنا الفاخوري، وتصفحته فأعجبني جداً، فسألت البائع عن سعره؟ فأجابني: عشرة دنانير!! وهو ثمن باهظ جداً بالنسبة لي يومذاك!!

كان راتبي الشهري ثلاثة عشر ديناراً فقط!! إذ كنت عاملاً بسيطاً في الشركة العامة لصناعة الحرير براتب ضئيل؛ وقد حصلت على عملي هذا بعد بحث طويل ودوران متعب بين الدوائر والشركات والمعامل في المدن القريبة من دون جدوى؛ إذ كانت سنة تقشف بعد إعلان تأميم النفط (1973م)، وكنت محارباً من الدوائر الأمنية لانتمائي قبلها إلى جهة سياسية معارضة (أنا نادم الآن على كل حياتي السياسية في شبابي أشد الندم!!)، لذا وافقت على هذا العمل الشاق والراتب الزهيد بسرور بالغ لتأمين لقمة عيشي وإكمال دراستي!!

أعود لقصتي مع كتاب حنا فاخوري، إذ بعد لحظات من تقليبي له تذكرت أن في جيبي عشرة دنانير فقط، وهي تعادل سعر هذا الكتاب فقط!! إن دفعتها وأفرغت جيبي منها!! فكيف سأعود لمدينتي المسيَّب؟! ولو افترضت عودتي ماشياً بقناعة وطيب خاطر لأكثر من ستين كيلومتراً من أجل هذا الكتاب!! فكيف سأتدبر مصروفي الشخصي لشهر كامل وهو أمر مستحيل!!

لاحظ صاحب المكتبة حيرتي من خلال ما ارتسم على وجهي من حرج!! وهو رجل كبير وخبير بعمله وقراءة وجوه المرتادين لمكتبته يومياً فقال: هل تعرف يا أبني ما هي مشكلتنا في بيع الكتب؟! فنظرت إليه صامتاً وبخجل!! فواصل الكلام: أغلب من يحبون الكتب ويقبلون عليها ويتمنون قراءتها هم من الفقراء والعاجزين عن شرائها!!

وصدق الرجل في كلامه!! فأغلب محبي الكتب وقرائها - كما رأيت - من الفقراء المعوزين !! أما أغلب الأغنياء فهم يعيشون في عالم آخر، ويهيمون عشقاً بمقتنيات لا صلة لها بالثقافة وتفاصيلها!!

أعدت الكتاب بهدوء وحزن واضح إلى مكانه، وغدرت المكتبة بصمت وألم مودعاً صاحبها وشاكراً له على صبره وحكمته البالغة التي لم تغادرني طوال العقود الماضية، وكانت درساً بليغاً لي ..

وتكملة لهذا الموقف أقول ظلت صورة كتاب حنا فاخوري (تاريخ الأدب العربي) حلماً جميلاً في مخيلتي، حتى إذا وجدته بعد سنوات وقد تحسنت الحال المادية معروضاً بنسخة نظيفة جداً في إحدى مكتبات شارع المتنبي، فاندفعت لاقتنائه مسرعاً والحصول عليه بلهفة قبل أن أسأل عن سعره!! وكان سعره الجديد ضعف السعر السابق!! فحملته بفرح كبير لا يوصف من دون أي انتظار أو مراجعة أو مماكسة للسعر، واستعدت صورة موقفي الأول الذي لم يغب عن بالي إلى الآن!!

***

جواد عبد الكاظم محسن

 

في المثقف اليوم