أقلام حرة

محمد حسين النجفي: خمس دقائق

كنا في بداية ستينات القرن العشرين نحمل راية الأفكار التقدمية، سواء الغربية منها المتعلقة بالحرية والديمقراطية ام الشرقية متمثلة بالفكر الثوري وتحقيق العدالة الاجتماعية عن طريق بناء مجتمع على أسس اشتراكية. وكانت كل لقاءاتنا كأصدقاء تنصب على حوارات ثقافية حول التجارب العالمية، وقراءاتنا للكتّاب المشهورين. هذا يحدثنا عن ثلاثية نجيب محفوظ وذاك عن وجودية جان بول ساتر، والآخر عن كولن ولسن وكتابه "اللامنتمي" الذي أحدث ضجة كبرى بين مثقفي المجتمع الأوربي.

فاجأنا أحد أصدقائنا الذي يكبرنا سناً بحوالي ثلاث او أربع سنوات، من انه سوف يتزوج قريباً. وجه الينا الدعوة باعتبارنا اصدقاءه الشخصيين. وجاء يوم العرس وكانت الجلسة في بيتهم. البيت متواضع وفي محلة شعبية، وطبيعة المجتمع والجوار ريفية عشائرية، وان كانت من ضواحي مدينة بغداد. جهز غرفة الضيوف لتكون لنا فقط، واعد لنا المشروبات الكحولية والمزة المرافقة لها. بدأنا نشرب فرحين مع العريس، والبيت حولنا في حالة من الفوضى والضجيج. المئات من الشباب يدخلون ويغادرون في بيت لا تعدو مساحته أكثر من 100 متر مربع، وهو من البيوت الأولى التي وزعها الزعيم عبد الكريم قاسم في اعوام 1961/1962 على ساكني الصرائف في مدينة بغداد. معظم الحاضرين من نفس المنطقة السكنية او ربما من نفس العشيرة، فيما عدانا نحن سكنة الكرادة الشرقية التي كانت في ذلك الوقت تعتبر من المناطق الأرستقراطية.

جاءت اللحظة الحاسمة بشكل مفاجئ. لحظة زفة العريس لعروسه التي لم تتعدَ خروجه من غرفة الضيوف ونحن معه الى غرفة النوم أو غرفة ليلة الدخلة المجاورة لها. مشينا معه وخلفه، وفعلنا ما هو دارج ومعتادٌ عليه ان يقوم به أصدقاء العريس ونحن نزفه الى القفص الذهبي. دخل الغرفة وسط الهلاهل والهتاف: "شايف خير ومستاهلها". لم نرَ العروس لأنها كانت في الغرفة بانتظار العريس في تلك الليلة المباركة. الليلة التي تحلم بها كل فتاة. الليلة التي ستمارس بها الحب والمحبة لأول مرة، لتبدأ حياة خصبة بالأفراح والعشرة الطيبة.

تصورنا ان الحفلة قد انتهت حينما دخل العريس الغرفة، وعليه كان لزاماً علينا ان نهمّ بمغادرة الدار كي ينعم العروسين بالخصوصية المطلوبة في ليلة العرس. ولكن قبل ان نخرج من باب الدار فاجئنا العريس بالخروج من غرفة الزوجية، ملوحاً بيده منديل ابيض ملطخ بالدماء، رافعاً رأسه عالياً بكل فخر واعتزاز. بدأت الهلاهل والأهازيج تصدح عالياً، وبدأ إطلاق النار في الهواء، وبدأ الاحتفال الحقيقي.

بالنسبة لنا الاحتفال قد انتهى، لذا قررنا توديع العريس والحضور. لاحظنا في هذه الأثناء ان بعض الأشخاص ينظرون الينا بطريقة خاصة، وبنوع من الغضب، ويتشاورون فيما بينهم. لم نعطِ لذلك أهمية ولم ينتبه الجميع لذلك. لم نستطع عدم الحديث عما حصل ونحن في طريق العودة. خمس دقائق لا أكثر ولا اقل. كيف يمكن ذلك! ولماذا الاستعجال! وهل هي التقاليد! وهل هذا ما كان يتوقعه الجميع، عدانا نحن اصدقاءه المقربين!!! هكذا انتهت ليلة الدخلة بوقت زمني قياسي لم يتجاوز الخمس دقائق. لقد اخذنا الموقف على حين غرة. سمعنا بمثل هذا من قبل، ولكن في القرى والأرياف، وممارسات يقوم بها الجهلة غير المثقفين، فما بالك ان قام بها من يدعي الثقافة والتقدمية ويدافع عن حقوق المرأة ليل نهار.

التقينا بصاحبنا بعد حوالي أسبوع او أسبوعين من تلك الليلة. وتدرجنا بالحديث لنصل لما حدث في ليلة الدخلة. كانت اجابته واضحة ومباشرة. قال ان الكل ينتظر نتيجتين في تلك الليلة: من أني رجل، ومن ان زوجتي باكر حينما دخلت عليها. ولكن يا صديقي هذه عادات وتقاليد نحن نستنكرها ونسعى الى ازالتها وندعو الى العلاقات الزوجية الحميمة المبنية على المحبة والتكافؤ والمساواة بين الرجل والمرأة. قال وانا أؤمن بذلك، ولكني لا أستطيع ان اتغير بمفردي. نحن ندعو ان يحصل تغيير اجتماعي شرط ان يكون جمعي وليس فردي، وإلا سيكون مظهرنا شاذاً ومستنكراً من قبل المجتمع.

ثم أردف يقول ان هناك موضوعا آخر حصل تلك الليلة اريد ان اخبركم به. هل تعلمون ان وجودكم بيننا لم يكن مرغوباً به! وحينما تساءلنا عن السبب؟ قال لأنكم لستم من بيئتنا. مظهركم وملبسكم وانطلاقتكم كانت استفزازاً للآخرين. كذلك لاحظ الشباب ان بعض الفتيات كانوا منتبهين لوجودكم أكثر من انتباههم على شباب العشيرة. لذلك لم يتحملوا وجودكم بيننا، لدرجة قرر بعضهم ان يلحقوا بكم ويقتلوكم او على الأقل يعتدوا عليكم ضرباً. ماذا تقول يا صاحبنا! صدقوني لولا توسلي بهم في تلك الليلة لحدث ما حدث.

***

محمد حسين النجفي

 

في المثقف اليوم