أقلام حرة

ليلة بنغالية بامتياز ولكن في أربيل

لفت نظري وانا في الطريق من مطار أربيل الى الفندق عددا كبيرا من البنغاليين، كانوا في المطار وفي الأسواق والمحلات والفنادق، رايتهم كذلك ليلا في الحديقة المقابلة لقلعة أربيل يبيعون الشاي والقهوة والعاب الأطفال ولمست من اهل المدينة تعاطفا كبيرا تجاه هذه الشريحة ويصفونهم بالصدق والأمانة، ويبدو ان الحكومة المحلية هناك لا تريد ان تتعرض لهم بسوء لأنهم يسدون حاجة المدينة الى اليد العاملة الرخيصة علما باني كل من سألته من البنغاليين عن الإقامة قال بانه لا يحمل أي إقامة مشروعة.

كان سكني في فندق مقابل قلعة أربيل يعني وسط المدينة تماما حيث المطاعم والمقاهي ومحلات بيع الحلويات والكرزات والملابس، رأيت البنغالي حارسا لمسجد وعامل نظافة وبائع فواكه وتمور وحتى اللبلبي والباقلاء وكلهم يتكلمون العربية بلهجة عراقية.

يبدؤون عملهم في الصباح الباكر ويستمر طوال النهار لينتهي بعد منتصف الليل عندما تغادر العوائل مقاعد حديقة النافورة مقابل القلعة ويهرع كل واحد منهم الى فراشه علما بانهم يسكنون على شكل مجموعات في البيت الواحد وقد ينام في الغرفة الواحدة اكثر من سبعة اشخاص.

وفي الفراش ومع ظلمة الليل تبدأ الهواجس والمواجع وتهيج الاحزان وتزداد الاشواق الى الاهل والزوجة والأطفال، كلهم عندهم موبايلات وفي كل لحظة ينظرون الى الشاشة لعل رسالة او خبرا يأتي عبر الواتساب او الفيسبوك وقد يلجأ البعض الى الأفلام الإباحية لإشباع رغباته الفطرية وهروبا من الكبت الجنسي المفروض عليهم، كلهم بلا نساء وما عساهم وهم بشر يفعلون امام جمال النساء المتواجدات في الأسواق والحدائق واجسادهن المغرية وما اكثرهن في مدينة سياحية مثل أربيل.

رجال بعواطف مكبوتة لا يحق لهم احتضان امرأة وتقبيلها فضلا عن الاقتران بها كلهم بلا نساء فاين تذهب شهواتهم ورغباتهم.

كلهم بلا اقامات وبلا كفيل وفيهم من كل الاعمار اشكالهم متعبة ومنهكة عليها اثار الذل والارهاق ولكنهم رغم ذلك يضحكون وقد يتبادلون النكات والطرائف وهناك ألف سؤال وسؤال في عيونهم ويبتسمون دائما لأنهم ضعفاء وغرباء، لا يستطيعون السفر لأنهم لن يتمكنوا من العودة ثانية، وتتخلل السنوات الطويلة التي يقضونها هنا موت الإباء والامهات وزواج الاخوان، أولادهم يكبرون، الشهور تتعاقب والسنوات تمر والعمر ينقضي وهم يذوبون في المنافي كالشمع، هؤلاء  كانوا يوما أطفال يتطلعون الى العيش الرغيد والمستقبل الضاحك وكانوا قرة عين لوالديهم، فرحوا بهم وقضوا طفولة بهيجة رغم الصعوبات بصحبة اهاليهم وعندما كبروا وجدوا انفسهم في وضع مزري مليء بالبطالة والمرض والجهل والمشاكل والفقر ولم يبق امامهم سوى الهجرة  وكانت المحطة القادمة أربيل وكانت أربيل رحيمة بهم وقد وصلوا من قراهم ومدنهم عبر رحلة سفر شاقة ومتعبة، قطارات مطارات مدن نقاط تفتيش بهذلة اهانات خوف من حرس الحدود وشرطة الداخل ومن بلد الى بلد الى ان وصلوا واستقروا في اربيل، وكل بنغالي في النهاية عبارة عن حقيبة سفر فيها بعض الصور والعطور الرخيصة  والملابس وجواز سفر منتهي الصلاحية ، يقيمون ولكن بصورة غير قانونية في بلد غريب.

عدت الى غرفتي في الساعة الثانية عشرة ليلا وصورهم تتقافز في ذهني وظللت افكر بهؤلاء وبحياتهم الصعبة ثم شعرت بالنعاس ولعلي نمت ولكن فجأة رأيت ان باب الغرفة مفتوح على مصراعيه ليدخل منه عشرات المهاجرين من البنغاليين وتزاحموا حول سريري فجلس البعض على الأطراف والبعض ظل واقفا، امتلأت الغرفة بهم هذا يضحك وذاك ساهم وغارق في الخيال واحدهم كان يبكي، مسحت دموعه وكانت ساخنة جدا انهم يشتاقون الى اعزاءهم ومرابع صباهم وطفولتهم، كنت اتفرس في وجوههم وأقول كم من البنغاليين يتواجدون الان في لندن ونيويورك ودول الخليج ينعمون بالعيش الرغيد والاستقرار.

عندما استيقظت في الصباح علمت بأنهم زاروني في حلمي من كثرة تفكيري بهم فكانت ليلة بنغالية بامتياز ولكن في أربيل وتساءلت قائلا: اذن متى يستقر هؤلاء وأين وكيف وهم بلا اقامات ينتظرهم يوم اسود يصاحبه اعتقال وسجن وتسفير قسري، وقد بدأت حملات التفتيش فعلا في بغداد ضد المقيمين بصورة غير قانونية واعتقالهم وسجنهم ثم تسفيرهم قسرا والعودة الى المربع الأول من المعاناة.

ملاحظة: ان المثال البنغالي ينطبق على جميع اللاجئين والباحثين عن العمل من مختلف الجنسيات في مختلف دول العالم.

***

د. حسين أبو سعود

 

في المثقف اليوم