أقلام حرة

لماذا اختفى السيد السيستاني من الساحة السياسية العراقية بأشد الفترات حاجة له؟

إثر اصدار السيد جواد الشهرستاني، "الوكيل المطلق" للسيد السيستاني في ايران، بيانا ادان فيه "اعمال الشغب" في ايران، أصدر مكتب السيد السيستاني في النجف على الفور، بيانا نصه: " باسمه تعالى، ننوه إلى الجميع أن سماحة السيد السيستاني دام ظله ليس لديه أي وكيل يعبر عن مواقفه السياسية. ويمكن معرفة مواقفه السياسية من خلال موقعه الرسمي فقط."

والحقيقة ان لا "الموقع الرسمي" للمكتب، ولا اية جهة أخرى باسم المرجعية، قد قدمت في الفترة الأخيرة أية مواقف سياسية، عدا حالة واحدة، وهي اقرب الى الشذوذ الذي يؤكد القاعدة، حين زار البابا المرجع في النجف، وحينها عبر السيد السيستاني عن مواقفه الإنسانية وبشكل خاص أعطى القضية الفلسطينية مكانة خاصة من الخطاب.. ثم ساد الصمت من جديد! ونلاحظ هنا أن زيارة البابا كانت إطلاقا لفعاليات لمؤامرة الديانة الابراهيمية، وربما لولا أهمية تلك المؤامرة بالنسبة لمن يدير الموقف، وحاجتها الى الزخم، لما جاء البابا ولما رأينا السيد لفترة أطول!

لقد بدأت ملاحظتي لاختفاء السيد من الساحة السياسية العراقية بشكل خاص بعد فشلنا في إيصال رسالة له كان تحتوي طلبا من السيد السيستاني من خلال مكتبه، تبيان موقف المرجعية من التطبيع بفتوى رسمية تبين بوضوح الموقف الشرعي من قضية التطبيع بالذات، وليس القضية الفلسطينية بشكل عام. وقد مر على الرسالة اكثر من عامين، ولم يصلنا أي جواب عنها حتى اليوم! ولم يكن الدافع وراء تلك الرسالة التي وقعها معي اكثر من 350 مشاركا، التأكد من موقف السيد السيستاني او اختباره، فموقفه من القضية الفلسطينية واضح تماما، إنما كان استعانة بمنزلته الكبيرة لدى الناس واستعمال فتواه حجة دامغة بوجه محاولات التطبيع النشطة والخبيثة التي تجري في العراق وبشكل خاص بعد زيارة البابا وحتى اليوم، وسيطرة الإعلام المعادي وسهولة وصول كلمة السيد إلى الناس لتنهي ما قد يكون لديهم من تردد، خاصة وأن هناك جهات تدعي الدين شيعة وسنة، ومن الشيوخ والسادة أولاد المراجع، ممن ساروا في ركاب التطبيع، ودخلت البضائع الإسرائيلية العراق ثم تجرأ أحد الأحزاب الجديدة ليعلن بصلافة وقوفه مع التطبيع وكذلك عقد مؤتمر تطبيع في أربيل شاركت فيه وزارة الثقافة بشكل غير رسمي، وأخيرا وليس آخرا، تم إقرار قانون وافق عليه البرلمان، وتحت اسم "قانون تجريم التطبيع"، كان الهدف الواضح منه، فتح ثغرة في قانون منع التطبيع السابق بسماحه بالزيارات الدينية، والتي يعلم الله الى اين ستقود.

كل هذه الأحداث أكدت ان قلقنا ودوافعنا لطلب عون السيد السيستاني كان في محله، وان من اعترض على ذلك بحجة ان الموضوع غير مطروح، ولو كان كذلك لبادر السيد بنفسه الى اصدار بيان به، كان مخطئاً، وان الخطر قائم بالفعل ويتقدم بنشاط متزايد. لم نحصل حتى اليوم، أنا وال 350 الذين وقعوا معي على جواب او تبليغ بوصول رسالتنا للمرجعية، رغم اننا ارسلناها خلال ما لا يقل عن خمسة طرق تبرعت بإيصالها.

ومثل هذا الموقف الذي ينتظر من السيد ان يقدم موقفا كما اعتدنا منه، مرت مواقف حرجة عديدة وتعرض البلد الى فتن متعددة ومخاطر كثيرة لكن الصمت كان دائما يلف مكتب المرجعية، وسط حيرة الناس ومحاولة الكثير من محبي المرجعية الدفاع عن ذلك الموقف والتأكيد ان كل شيء على ما يرام في المكتب. لكن هذا الدفاع لم يكن مقنعا، ومع مرور الوقت واستمرار الصمت، تزداد القناعة بين الناس بوجود مشكلة في المكتب وصمته، ويزداد القلق.

فعلى سبيل المثال، تم إيقاف خطبة الجمعة التي اعتاد الناس على متابعتها، ومن خلال ذلك، الاطلاع على موقف المرجعية من مختلف الأحداث التي تمر بالبلد، اثر جائحة كورونا. لكن المدهش ان إيقاف الخطبة استمر بعد انتهاء الجائحة وعودة التجمعات الدينية (مثل اربعينية الإمام الحسين) وغيرها. وكان هذا القرار باستمرار إيقاف او تعليق الخطبة اشد الإجراءات دهشة وتساؤلا لدى الناس. وقد حاول السيد الصافي تبرير ذلك الصمت في فيديو له، بالقول:

"للأسف ان بعض الكيانات السياسية لم تكن تستجيب لكثير مما بينته المرجعية. نعم الناس قد تطمئن وترتاح وهناك صوت يدافع عنها. لكن المرجعية لا تريد ان تخطب فقط، تريد ان الخطاب يؤثر. البعض كان استجابته ضعيفة جدا مع تكرار مضمون الخطبة في اكثر من مرة، الاستجابة كانت ضعيفة جدا. فإلى الآن لا يوجد قرار قريب في إعادة الخطبة، ما لم تكن هناك ضرورة اكبر من قضية التعليق." (الفيديو موجود على اليوتيوب).

هذا الكلام ملفت للنظر وغير مقنع. ان كان يكفي أن "بعض الكيانات السياسية" لم تكن تستجيب "لكثير" مما بينته المرجعية، لكي تتوقف المرجعية عن تبيان موقفها، يعني أن المرجعية تشترط ان تستجيب "كل" الكيانات السياسية لمعظم ان لم يكن كل بياناتها! وهذا شرط غريب وتعجيزي وغير معقول. وهو شرط يخرج المرجعية من المهمة التي اناطت نفسها بها. بل ان مثل هذا الشرط يتيح لـ"بعض الكيانات السياسية" الفاسدة، الفرصة لتتعمد اسكات المرجعية، بمجرد "عدم الاستجابة لها"، وتتخلص بذلك من تأثيرها الذي يهددها. إن مثل هذا الموقف قد يكون مفهوما لو أنك "تعاتب" القوى السياسية، وليس أن تحارب الفاسدة منها، كما هو المفروض.

هل كانت كلمة "بعض" رمزية فقط، والمقصود أن كل أو معظم الكيانات السياسية لم تكن تستجيب للمرجعية؟ حتى هنا يطرح السؤال: وهل تتكلم المرجعية من اجل ارشاد الكيانات السياسية ام المسلمين؟ من الواضح ان الكثير من خطابها كان موجها مباشرة الى الشعب، ان لم يكن كله. فمثلا الدعوة الى التصويت على الدستور، لا علاقة له بالكيانات السياسية! وهذا ينطبق على بقية البيانات لو راجعناها. وفي فتوى الجهاد ضد داعش استجاب الناس بشكل كبير جدا وبشكل كفى لدحر الخطر عن العراق!

وفوق ذلك، من غير الصحيح ان "الكيانات السياسية" لم تكن تستجيب للمرجعية! فالمتداول ان المرجعية من الجهات التي لا تستطيع حكومة ان تشكل بدون موافقتها او مباركتها، أو على الأقل عدم اعتراضها. وقد ذكر ذلك علنا احد قادة الفصائل المقاومة في لقاء علني على التلفزيون إجابة عن سؤال حول كيفية الاتفاق على المرشح لرئاسة الحكومة.

كذلك فقد أضاف عادل عبد المهدي في كتاب استقالته من منصبه، انه فعل ذلك نزولا عند رغبة المرجعية! وبالفعل كان لدى المرجعية من خلال خطب ممثليها، دعوات واضحة للبرلمان لتغيير السلطة! ونلاحظ هنا أن المرجعية (او مكتبها) قد مارس سلطة لم يمارسها حتى الآن الولي الفقيه في إيران. فلم يسبق له ان طلب من البرلمان اقالة حكومة أو من رئيس حكومة منتخب ان يستقيل! وهذا أمر يستحق التوقف عنده كثيرا، فمن الناحية العملية فأن مكتب المرجعية يمارس بالفعل صلاحيات الولي الفقيه، رغم عدم اعترافه بها كمبدأ أساسي في سياسته!

إذن، فللمرجعية تأثير هائل، وهي اكثر جهة تحظى بالطاعة في العراق، وبالتالي فأن السيد الصافي لم يقل الحقيقة حول سبب "تعليق" خطبة الجمعة، ولا نعرف السبب الحقيقي وراء القرار. ولنلاحظ أيضا، ان طريقة كلامه لم يقل بشكل مباشر أن قرار تعليق خطبة الجمعة هو قرار من السيد السيستاني نفسه. ولا تحدث عن تاريخ صدوره ولا تفاصيل رؤية السيد السيستاني لاحتمال عودته ومتى، بل كان يتحدث بشكل اقرب إلى من يتحدث عن قراره هو شخصيا ويعبر عن "غضبه شخصيا" من عدم استجابة الساسة!

ويصبح هذا ملفتا للنظر، إن تذكرنا ان السيد الصافي سبق ان اعلن بعد بيان له، اثار لغطا، ان ذلك البيان كان رأيه الشخصي ولم يكن رأي السيد السيستاني! فكم يا ترى مما قال السيد الصافي سابقا هو رأيه الشخصي، مما لم يثر اللغط ليدفعه للاعتراف بذلك؟

إن غياب المرجعية التام عن الوضع السياسي العراقي مباشرة بعد تسلم عميل السفارة الكاظمي الحكم وارتكابه الجرائم الأكبر بحق العراق، أمر يثير الاستغراب والقلق. كذلك مثير للقلق عدم ابداء السيد السيستاني رأياً في مضي السوداني بكل العقود المدمرة التي وقعها الكاظمي وزاد عليها، ومضي السوداني ليوقع عقود التراخيص الخامسة مع شركات مشبوهة ومحظورة في القائمة السوداء في العراق وتصريحه المشين بحاجة العراق لبقاء الجيوش الأجنبية فيه واستخدامها العراق كمرر لوجستي الى سوريا التي تحتلها!

هذا إضافة إلى أن التكتم العام على السيد السيستاني عموما، غير مفهوم. فلم ير الناس السيد إلا في مناسبات نادرة جدا ربما لا تزيد عن مرتين في تصوير قصير جدا. وقد أتاح ذلك للبعض اثارة بعض البلبلة بالادعاء أكثر من مرة، بأن السيد (اطال الله عمره) قد فارق الحياة! والملفت للنظر ايضاً ان حالات التصوير النادرة التي نقلت، ومنها لحظة لقائه بالبابا، كانت بدون صوت! فما هو المبرر لذلك؟ وما الداعي لكل هذه السرية والتكتم على ظهوره؟

هذه المقالة هي الثانية والأخيرة في موضوع غياب السيد السيستاني بشكل عام، وقد نشرت الأولى أمس بعنوان " ما موقف المرجعية من قانون الانتخاب ومن يزوره"، والتي ركزت على خطبة ممثل المرجعية السيد أحمد الصافي والتي كان قد هاجم فيها نظام الانتخابات النسبي للمحافظات بشدة ووصفه بالمنحاز للأحزاب وغير المنصف، وبينت من خلال فيديو آخر للحاج حامد الخفاف أن كلام السيد أحمد الصافي لا يمكن أن يكون من السيد السيستاني لأن السيد السيستاني هو نفسه من ألح لإقرار قانون الانتخابات الذي وصفه السيد الصافي بالتحيز وانعدام الإنصاف وغيرها من الصفات.

لقد ترددت طويلا في نشر هذه التساؤلات لحساسية الموضوع، لكني اشعر أن البلد يسقط بسرعة في يد اعدائه ويسير في نهج التطبيع، ولست متفائلا بتلك المسيرة، ولا مفر من استدعاء كل ما يمتلك البلد من قوة ومن أهمها مرجعية السيد السيستاني لوقف الانهيار. فلم يعد انكار وجود مشكلة ممكنا، بل ان التصور ان السيد السيستاني يعلم بكل شيء ويسكت عنه بإرادته، اتهام ابرئ السيد منه لما عرف عنه من مواقف عظيمة في الماضي انقذت العراق مرتين على الأقل، من التدمير. لذلك فإن تجمع كل هذه التساؤلات يثير علامات استفهام غير مجاب عنها، وهي تنتشر ليس فقط بين المغرضين ضد السيد السيستاني بل أيضا يثير هذا الغياب القلق والتساؤل، بين محبيه واتباعه، ومازال بدون جواب، مثل رسالتنا التي طلبت فتوى عن التطبيع قبل أكثر من عامين، ولا تفسير لذلك غير انها منعت من الوصول اليه، مثلما منعت الاخبار التي لا يراد لها ان تصله، فلم يكن له منها موقف.

***

صائب خليل

 

في المثقف اليوم