مقاربات فنية وحضارية

حقيقة فن التصوير عند العرب

كاظم شمهودذكر المؤرخون بان صناعة فن التصوير كانت منتشرة قبل وبعد الاسلام فكانت كنائس اليمن والشام والعراق ومصر مليئة بالرسوم الجدارية الدينية، كما كانت قصور الامراء والملوك تعج بالزخارف والتصاوير مثل قصري الخورنق والسدير في العراق (الحيرة) والاول بناه النعمان بن امرأ القيس في القرن الرايع ميلادي وكان هذا القصر عنوان حضارة ومجد عربي خالد . والثاني يقال انه بناه اللخميين المناذرة .

2202 الرسم عند العرب 1(و يمكن الاطلاع على كتاب – قصور العراق العربية والاسلامية – للمؤلف طالب علي الشرقي- 2001) . وقد كان اعيان وامراء اهل العراق قد قلدوا قصور ملوك الفرس مثل طاق كسرى الموجودة حاليا آثاره في المدائن، حيث قلدوها من ناحية العمارة المترفة والزخارف والفسيفساء والجدران المصورة بالاصباغ المدهشة، وقد بلغت حدا كبيرا من الترف وفخامة الجمال ومظاهر الراحة والمصابيح المذهبة والسجاجيد البارعة والمطرزة .. كذلك شيدت قصور في اليمن مثل قصر غمدان في صنعاء الذي يعد من عجائب قصور العرب قبل الاسلام وقد سكنه آخر ملوك اليمن سيف بن ذي يزن وهدمه الخليفة عثمان بن عفان ويقال انه نقل حجارته لبناء المسجد النبوي؟ . وذكر ابن الكلبي بانه وجدت عبارة بالخط الحميري (غمدان هادمك مقتول) فهدمه عثمان فقتل . وكان هذا القصر مزينا بانواع الرسوم والزخارف . وكان يتكون من سبعة طوابق وترى اضويته ليلا من مسافات بعيدة ..

2202 الرسم عند العرب 2كما يذكر ان الصور كانت منتشرة في المدينة (يثرب) في زمن الخليفة عمر بن الخطاب مثل منزل ياسر بن نمير خازن بيت المال، كما ان مبخرة الخليفة عمر بن الخطاب التي يستخدمها في المسجد كانت مزينة بالصور الآدمية .. وغيرها من الامثلة

و كان الخليفة عثمان بن عفان هو اول من سمح ببناء القصور وان الناس تشجعت على ذلك في عهده وتحولت الحياة الى ترف وغنى وزخرف وزينة . وشيد معاوية بن ابي سفيان قصرا على غرار قصور الروم من ترف وابهه واقيمت به الحفلات الغنائية وضرب الدفوف . ثم بنى خلفاء بني امية القصور الخيالية وكانت مزينة بالتصاوير . وذكر ان عبد الله بن زياد والي البصرة بنى قصرا سماه الابيض وقد زخرفت حيطانه بالصور الحيوانية وملئه ايضا بالريش والطنافس . وقد ورد ذكر بعض هذه المعلومات في كتاب - تاريخ الاسلام - للدكتور حسن ابراهيم . وفي زمن الدولة الاموية شاع الطرب والغناء، ومن اشهر المغنين هو طويس حيث كان ينقر بالدف ويغني شعر الغزل والحب . وينقل المؤرخون بعض الاشعار التي يغنيها :

يا خليلي نابني سهدي       لم تنم عيني ولم تكد

وهو – تناهى فيكم وجدي  وصدع حبكم كبدي

فقلبي مصعرا حزنا    بذات الخال في الخد

فما لاقى اخو عشق   عشير العشر من جهد

2202 الرسم عند العرب 3

و في زمن الخليفة الاموي عبد الملك بن مروان / 86 هجرية (706 م) كانت خيام الحجاج الاغنياء مزينة بالصور الآدمية .. كما كانت الصور منتشرة على الاقمشة التي ترد من اليمن وعلى الادوات المنزلية وستائر المنازل .

وكانت مظاهر النشاط الفني ايضا مرتبطة بالعمارة الاسلامية ففن الفسيفساء والصور الجدارية كانت تغطي جدران وسقوف قصور الخلفاء ومنازل الامراء والاعيان مثل قصير عمرة وقصر الحير الغربي وقصر المشتى ، وقد وجت جدرانها مزينة بانواع الصور الآدمية والحيوانية منها صور عارية ... اما في العصر العباسي فكانت الاباحية قد انفتحت على مصراعيها ولم يعد هناك خجل او خوف من مسألة التحريم . وكان قصر احد الخلفاء العباسيين مزينا برسوم قصة يوسف وزليخة، كما ان قصر الجوسق في سامراء كان مزينا بصور الراقصات .. ونذكر بعض الابيات التي يرد فيها التصوير والاباحية للشاعر ابو نواس .

تدار علينا الراح في عسجدية   حبتها بانواع التصاوير فارس

قرارتها كسرى وفي جنباتها    مها تدريها بالقسي الفوارس

فللخمر ما ذرت عليه جيوبها    وللماء ما دارت عليه القلا نس

و من ناحية تاريخية يذكر القرآن الكريم بان التماثيل كانت تصنع في زمن النبي سليمان- ع - للزينة ورمزا للقوة والشموخ، ويذكر انه كانت تصنع تماثيل للاسود وتوضع في مداخل القصور او المدينة، ولكنها عندما عبدت كسرت هذه التماثيل .. وكان هناك من العلماء من فهم التحريم على انه منصبا على العبادة فقط فكل نمط من انواع التصوير والذي تكون غايته العبادة من دون الله فهو محرم سواء كان آدميا او حجرا او شجرا، فقد كان هناك اقوام قبل الاسلام تعبد الشجر (شجرة الايكة) والحجر (الانصاب)، وبالتالي فان صناعة التصوير من اجل المتعة والرفاهية والتعبير غير محرمة عند البعض ..

2202 الرسم عند العرب 4

و يذكر ان العالم ابن خلدون كان واسع الفكر ومتنور بحكم احتكاكه بالفكر الغربي عن طريق الاندلس، وقد ذكر بان التحريم يقتصر على تصوير الذات الآلهية فقط . ومثال على ذلك ما رسمه مايكل انجلو 1475 م في كنيسة بطرس حيث رسم الله على شكل رجلا ضخما متربعا على كرسي العرش تحيط به الملائكة والانبياء، وهذه اللون من العمل التجسيمي لله يعتبر محرما في الاسلام على اطلاق . اما غير ذلك فيعتبر جائزا عند البعض مثل شيخ الازهر محمد عبدة حيث قال : (لا مانع من التصوير طالما ان هناك متعة ومنفعة للمسلمين) .

ورغم ظهور التحريم والشك في مصادره وغموض تأويل الاحاديث والايات القرآنية الا أن صناعة التصوير بقت مستمرة دون توقف . وكان الخطاطون والمزوقون لهم القدرة والمهارة العالية في تصوير الكائنات الحية مثلما هو في (الارابسك) وغيرها وكان النساخون والخطاطون هم في الحقيقية مصورون ممتازون وكانوا يقومون بتصوير وتزويق وزخرفة المخطوطات ولكنهم يفضلون ان يذكروا كخطاطين وليس كمصورين خوفاً من غضب الفقهاء المتعصبين .

الحقيقة نحن اليوم نعيش مع عقل انساني متفتح ناضج يقيس ويحلل الامور دون خوف او خجل ولا يمكن قبول الروايات ذات النزعة الخرافية . فلا يمكن وضع هالة قدسية على كل من هب ودب من عاصر او شاهد او سمع من بعيد عن الرسول –ص- ان يدخله الله الجنة .. فالناس تقاس بصدق اعمالها ونواياها وليس بالصحبة او القرابة وبالتالي فقد كان التصوير وتشييد القصور واللهو وشرب الخمر منتشرا في العراق وبلاد الشام والجزيرة العربية والشواهد المادية الاثرية نجدها بكثرة ماثلة امامنا اليوم، بل ان انحراف بعض رجال الدين قد انكشف بعدما امسكوا بالسلطة والمال وهو خير دليل على اننا يمكن ان نرى الماضي من خلال الحاضر.

 

د. كاظم شمهود

 

في المثقف اليوم