مقاربات فنية وحضارية

كاظم شمهود: هل الفنان مبدع او مخترع؟

كاظم شمهودوماهو الفرق بين الابداع والاختراع والخيال؟

المخترع هو الذي يكتشف صنوفا من الاشياء النافعة التي تخدم الانسانية ولكن نجاحه في اكتشافها يفصله عنها، كاختراع الطائرة والمذياع والتلفون والشفرة وغيرها. بينما الفنان لا يكتشف شيئا خارج ذاته بل ان ما يبدعه يظل قائما ما انطبع بشخصيته، وان القيمة الفنية فيما يبدعه انما تتحقق بالمكاشفة التي يخلفها الفنان على آثاره من ذاته مستقلا عن كافة القوانين الموضوعية للفكرة والعادات، وبالتالي فان الفنان وحسب هذه النظرية فهو مبدع اكثر منه مخترع.

2460 بيكاسو 1بالاضافة الى ما يملكه الفنان من ابداع فانه ايضا يتمتع بخيال واسع، وكان فن ماتيس قائما على الخيال، وكانت طريقته الواعية في العمل تثير الاهتمام وخاصة مهارته في فرض الرقابة على ذهنه خلال اداءه الابداعي.

بعض النقاد يذكر ان نشاط الخيال لا يمكن ان يبدا الا بعد ان يتخلص الفنان من سيطرة الفكرة، والمقصود بهذا هو مشاغل التفكير العملي اليومي. ومن خلال تلك الجدلية يتحرر خيال ماتيس ليشكل ارقى المشاعر من كل نوع، ومن اجل ذلك تتجلى طريقته الابداعية على نحو نادر من الصفاء والجمال. ركز ماتيس على التأليف بين تعدد الالوان وتحديد الاشكال بدلا من استخدام الضوء والظل، كما هو عند الانطباعية، وكان استخدام الخط في تحديد الاشكال كان شائعا في الفنون الشرقية القديمة خاصة في الفنون الاسلامية. علما ان ماتيس مكث عدة سنوات في المغرب وتأثر بالفن الاسلامي وارتدى الجلباب المغربي.

2461 ماينس 1اهتم ماتيس بالحياة الانسانية وكان وثيق الصلة بذاته بمعنى انه مبدع ويمتاز بالصفاء الفطري حيث يغور بين الوانه واشكاله محلقا خياله في عالم الكون، وقد امتازت اعماله بالتسطيح، مما حدى ببعض النقاد الى اتهامه بفقدان اعماله البعد الثالث. والمعروف ان الشكل الواقعي له ثلاثة ابعاد ويتحقق ذلك في المنحوتات والتماثيل، ولكن في التصوير استخدم الفنان خدعة بصرية باستخدامه عنصري الضوء والظل ليعطي الاشكال المرسومة احساسا بالتجسيم. وبالتالي فان حقيقة اللوحة هي عبارة عن بعدين في ذهنية الفنان والمتلقي. وقد اشارة افلاطون سابقا بان فن التصوير خدعة وان الحقيقة توجد في عالم المثل.

2461 ماينس 2وبالتالي يكون التسطيح في اللوحة هو عبارة كالبعد الثالث، بتأثيرات ابداعية وتقنيات مختلفة توحي بذلك. بمعنى اوضح ان البعد الثالث يتجسد في اللوحة المسطحة بنوع من خدعة البصر بتأثيرات الضوء والظل وغيرها.

وكلما ازدادت تجارب الفنان ازداد خياله وعطاءه وابداعه واظهار قدراته الكامنة، كما ان الخيال صفة ينفرد بها كل فنان ومبدع، وانه يرتبط بالنشاطات الروحية والمادية بكل انواعها، وكذلك العاطفية التي تنبض بالحياة البشرية. وكان بيكاسو مبدعا وصاحب خيال واسع، وكان يرسم يوميا لا يكل ولا يمل، ويقال انه ترك 15 الف عملا فنيا. لا يهمه ما يقوله الاخرون في فنه بل كان مقداما وواثقا من نفسه وعمله. لا يحفل بتغييرات الاذواق او تطور العواطف والخيال والفكر فهو يؤمن بخلود ما تراه عيناه ولا يلقي بالا في تلك التغييرات في الحياة الانسانية او الى طرق النظر اليها. وقد وضع بيكاسو كل ما هو انساني في صورة مادية.. مع ذلك فان الكثير من لوحاته عليها مسحة عاطفية وفي نفس الوقت يملك طاقة ذهنية كبيرة وله دوافع شوق للاختراع والتأمل.

وكان بيكاسو دائم التقلب في اسلوبه وافكاره تبديلا شاملا خاصة عندما يستوحي نماذجه من فنون الماضي كما كان اكثر تواضعا كفنان منه كرجل اذ كانت اراءه مطبوعة بالعنف والمعارضة، مشبعة بالثقة بذاته في شدة وحزم. في يوم من الايام عمل بيكاسو معرضا شخصيا اطلق عليه اسم – انا بيكاسو – وهو ما يشير الى الثقة الكبيرة بنفسه وكأنه يتحدى الآخرين، وفعلا تم له ذلك.

2460 بيكاسو 2

2460 بيكاسو 3في عام 1988 صدر كتابين عن صديقة بيكاسو الفرنسية الاولى على شكل مذكرات وهي فرناندي حيث عاشت معه ايام الفقر والعوز المادي في باريس وفترة البوهيمية بداية عام 1901، وتذكر ان بيكاسو كان يحمل مسدسا فعندما يخرجون من الكابريه في ساعة متأخرة من الليل كان يطلق عيارات نارية في الهواء الطلق وسط مرح وقهقهات اصحابه. كما تذكر فرناندي ان بيكاسو في عام 1906 رسم الكاتبة الامريكية ستين كموديل، ولكنه عندما انتهى منها ورأتها رفضـت اخذها بحجة انها لم تشبهها. وبعد فترة عاد بيكاسو الى اللوحة واعطاها بعض اللمسات وبتأثيرات افريقية، ولكن مازال النقد مستمراً في غرابة اللوحة ورفضها: فرد عليهم بيكاسو (لا تقلقوا بالاخير ستشبهها) وقد رسم بيكاسو هذه الكاتبة حسب رؤيته الفنية التعبيرية وبعناصر جديدة تمهد لمرحلة واسلوب جديد. وكلمة (لا تقلقوا بالاخير ستشبهها) يعني بها انه ذهب في رسمها الى ابعد من الشكل الظاهر، وانما الى الباطن والتعبير عنه بهذه الطريقة. وبالاخير قبلت ستين اللوحة على كراهية، واليوم بيعت اللوحة بملايين الدولارات. وعلق صديق بيكاسو الشاعر ابو للينير على ذلك بأن الشعراء والفنانين يتحدثون بلغة عصرهم والمستقبل بشكل راقي ومتطور. وهكذا كان بيكاسو علما من اعلام التحدي لا يبالي باذواق الآخرين او طرق النظر الى اعماله بقدر ما يهمه رأيه وقناعاتة الذاتية.

 

د. كاظم شمهود

 

في المثقف اليوم