مقاربات فنية وحضارية

شمس الدين العوني: في سياقات التجربة الفنية.. نبض الحجر.. معرض الفنانة التشكيلية نسرين الغربي

فسحة جمالية من عالم الموزاييك الفاتن والشاق والممتع والصعب والبديع وفق عناوين شتى ذات دلالات فائقة منها " تواصل " و" تشابك " و" السالب /الموجب " و" تمركز لولبي " و" تعاكس " و" تمركز" ...

المعرض للخروج عن المعتاد / المألوف في فن الفسيفساء من خلال تنويعات على مستوى المواد وطرق الانجاز والاخراج..

حوار بصري حياكي فضائي لا مسبوق سواء بالإبصار أو حتى اللمس ،يهدف لشد المتقبل في تفاعل مباشر..

في هذا السفر المفتوح على العوالم تخير الكائن ذهابه نحو الأقاصي ينحت دربه مثل مياه النهر تنحت مجاريها في الصخر..هكذا هي الرحلة بعطور الفن النادرة ..الفن كمجال للنظر واللمس والحلم بفكرة الجمال في هذه الأكوان..

من فكرة الحجر القديمة كانت الرحلة حيث الكائن يمضي مع سؤاله وهو يبحث في الآفاق عن صوته اذ لا مجال لغير النشيد والقول بالعذوبة ازمنة اليباب..ثمة بهاء كامن في الروح وبوح ونظر وأنامل تكتب سيرتها...سيرة الأجداد ..

2866 نسرين غربي

الفن في ضفافه المتعددة ياخذ الكائن طوعا وكرها الى ينابيعه يمنحه رفعة الاكتشاف والكشف والاطلاع ليغدو كائنا بجمال العناصر وألق الأشياء وسحر التفاصيل..هي فسحة باذخة تؤول الى شعرية لا تضاهى..هي ما خلفته الانامل وما يتركه الطفل في غفوته من الأحلام..

من دروب الفن جهات تعلي من شأن الحجر ونشيده ..تصغي الى نبضه في هذا الضجيج الكوني العالي..تمنحه العبارة في القها وتشكو اليه شجونها وشؤونها..قال الشاعرالعراقي  عبد الوهاب البياتي في عنونة ديوانه ذات شعر..كنت أشكو الى الحجر..نعم هي لعبة البوح حيث الحجر يصغي بلطف للكائن ولأسراب الطيور ولمياه النهر...و للفنان وهو يبثه شيئا من تداعياته وأمله وألمه..

هكذا نمضي مع عوالم تجربة فنية تشكيلية تسافر في هذه الدروب مفعمة بالغناء وقد تخيرت الانصات الى الحجر بل الى نبضه في كثير من الدأب الجمالي..الفنانة نسرين الغربي تقتحم هذه المجالات بحواس فنان ماهر وبفطنة بستاني وبجمال المعاني عند شاعر باذخ..فسحة جمالية من عالم الموزاييك الفاتن والشاق والممتع والصعب والبديع وفق عناوين شتى ذات دلالات فائقة منها " تواصل " و" تشابك " و" السالب /الموجب " و" تمركز لولبي " و" تعاكس " و" تمركز" ...نسرين الغربي في معرضها الخاص " نبض الحجر " تلعب لعبتها المثلى مع العناصر في صبر وعناد جميلين يحيلان الى مشهدية راىقة النظر حيث المساحة للعمل الفني ورشة تعتمل فيها رشاقة ذائقتها الفنية والجمالية ..لعبة البهاء والجمال بإستعمال خامات صلبة  صمّاء تنوعت بين الحجر والرخام والبلور والقرانيت ....لعبة هي بمثابة لعبة الأطفال في براءاتهم الأولى..

معرض مميز من حيث الفكرة والتقنية ومجالات الابتكار فاللعب على الأبعاد والخروج عن المعتاد في التعاطي مع هذا الفن الفسيفساء الذي تعوده الناس بشكله المعروف..

نسرين عمقت فكرة اللعب الفسيفسائي حيث التلقي والقراءة والتقبل بشكل مختلف كما أن المتقبل هذه المرة للأعمال يسافر مع مناخاتها وكأنه يحلق مع الكواكب في الفضاء أو أنه يتوغل في أمكنة أخرى من الأرض .. هي المغامرة حيث الفنانة نسرين الغربي  الباحثة المتأملة تحاول وتحاور ذاتها في نظر يشبه النظر لأمواج  البحر والكواكب في مسحة فنية فيها  الحركة بألوان وأحوال التجريدية .. والايحاء بالتشخيص أيضا..

معرض فني رائق احتضنه رواق المعهد العالي للفنون والحرف بصفاقس في الفترة من 16 الى 23 من سبتمبر المنقضي ..نسرين الغربي باحثة وفنانة تشكيلية متحصلة على دكتوراه في علوم وتقنيات الفنون متخصّصة في فن الفسيفساء وقد شاركت في عديد التظاهرات والمعارض الفنية الجماعية نذكر منها المشاركة في جائزة الشارقة للصورة العربية في نسختها الخامسة ،و صالون الجنوب الثالث بالأقصر،و ملتقى الفسيفساء ببرج القلال ... والمهرجـانات الـدولية للفـنون التشكيلية بالمنستير والجم وغيرها ،نشرت لها عديد المقالات العـلمية في مجلات محـكمة ومتحصله على عدة جوائز ،عـضوه وناشطة فـي العـديد مـن الجمعيـات الفـنية والـثقافية، الـوطنية والعالمية.يضّمُ هذا المعرض زهاء العشرين من الألواح الفسيفسائية متعددة القياسات انجزت بتقنيات مختلفة .. فيها استثمار المحيط  الطبيعي الذي يزخر بخامات مطردة التنوع.كانت بمثابة المكونات الأساسية لهذه المنجزات الفسيفسائية التي تواشجت فيما بينها محدثة انساقا وايقاعات  تتداخل وتتشابك فيها مختلف الوحدات الفسيفسائية تجسمت منها تراكيب اسـتدعـت مفاهـيم التكرار والـتقابل والتفتت والاختراق  كلها تتقابل في ديناميكية من حيث الشكل اوالمضمون في تواصل بصري حياكي صلب اللوح ذاته أو حتى حوار ثنائي تفصله الفضاءات والمسافات وتربطه الحياكات ، في استنطاق للحجر الاصمّ وتطويعه لينبض بخفايا التشكيل الفسيفسائي عبر تناولات تركيبية تتباين بين التجريد والايحاء بالتشخيص بإستعمال خامات صلبة  صمّاء تنوعت بين الحجر والرخام والبلور والقرانيت ...حوامل احتضنت مقاربات فسيفسائية تمردت أحيانا على سطحياتها لتعانق الفضاء المشترك بينها وبين المتلقي فتدعوه إلى حوار بصري حياكي فضائي لا مسبوق سواء بالإبصار أو حتى اللمس ،الهدف منها شد المتقبل في تفاعل مباشر فاتحة له المجال كي يغوص في غمارها ويتحاور معها في جدال بصري لغـته الـحـيـاكـات ومعانـيـه الألـوان قد تستحوذ على ابعاده عدة تأويلات ودلالات discours polysémique.

حياكات تخفي حكايات ،ترويها مشاهد مستنبطة من واقع مرئي يراوح بين البحث عن المعنى إلى حد التشخيص وبين اختفائه في غياهب الحجارة لحد التجريد الذي يحاول إستنطاق نبض الحجر ،حجر وإن بدا أصما ،فمن الحجارة ما يتفجر منه الأنهار ،أنهار المعاني والدلالات والإيحاءات التي طوعتها الأنامل فتداخلت الألوان والفوريقات الضوئية بين ثنايا الجزئيات الفسيفسائية في تراصيف تنوعت بين التثبيت المباشر والغير مباشر محدثة تفاوتا في درجات البروز حسب وِضْعات تراوحت بين الأفقي والمائل والعمودي ...هذه التراصيف والوضعات وان اختلفت مصادر استلهامها الا انها تحاول في كثير منها ان تخرج من بعدها المسطح من خلال التلاعب  بمستويات ارتفاعاتها ما من شانه ان يخلق بؤرا يسكنها الظل في تضاد وتباين مع بقية المساحات المضاءة والتي بدورها تتفاعل مع التدرجات اللونية والخطية  الموظفة القائمة على مفهوم الجزئية اي انها تتكاثف احيانا وتتفرق احيانا اخرى في نهاية الامر ستستقر في تالف وتجتمع مع غيرها من الجزئيات لتمثل الكل ...هذا الكل  وان  اختلفت جزيئياته في تجميع هجين بين مادتي الحجر والبلور الا انها تتصف بنفس الصلابة  جعلت من هذه الفسيفسائيات أرضية تستدعي النظر إليها والتفكير فيها للبحث عن منطق في التزاوج والاجتماع والتي بدورها حققت بعدا حركيا كان حاضرا في مستوى الشكل والمضمون  والتاثير على اسقرارها البصري وكسر الجمود من خلال بعض الاسطح المنظمة بمفردات التجريد الهندسي او بتحريك الاطار الى ثلاثي الابعاد وهذا من شانه يعمل على تقاسم جل الاعمال لمفهوم الحركة باسلوب تجريدي غير صريح في نفس الوقت تحافظ على روح الفسيفساء وابعاده الجمالية ...اجمالا يعمل هذا المعرض على الخروج عن المعتاد / المألوف في فن الفسيفساء من خلال تنويعات على مستوى المواد وطرق الانجاز والاخراج لكسر الحدود النمطية الفسيفسائية الكلاسيكية وتقديمها في أشكال تنشد الجِدّة والطرافة  ...

معرض وتجربة وذهاب فسيح ممتع رائق في متاهات من البحث والتجريب والابتكار ضمن عالم الفن..الفن التشكيلي الذي يبرز هنا ضربا من تخير الفنانة الغربي..تخير الجديد والمبتكر والاصعب...أليس الابداع الفني ذهاب في الطق غير المطمئنة..

 

شمس الدين العوني

 

في المثقف اليوم