مقاربات فنية وحضارية

كاظم شمهود: الفنان الفرنسي الدادائي كلين الازرق (2)

3035 الدادائي كلينيبيز كلين / Yves Klein

ولد كلين في مدينة نيثا الفرنسية NIZA عام 1928 وكان احد اعمدة الحركة الدادئية الجديدة ومن مؤسسي الواقعية الحديثة. وكان ابويه رسامان ولهذا نشأ في ارضية فنية خصبة، كما هو الحال مع بيكاسو الذي كان ابوه رساما ومدرسا في مدرسة الفنون في ملقا الاندلسية. فاندفع كلين بكل موهبته وطاقته وميوله متعطشا لدراسة الفن عام 1942 في المدرسة الوطنية مارينا ميركانتي marina mercante، كما درس فيها مادة اللغات الشرقية، ثم التحق باحد الاندية الرياضية لتعلم لعبة الجودو وثقافتها الروحية الشرقية (البوذية). وعندما كان عمره 19 سنة كون صداقة مع رسامين هما ارمان فرناندث وكلاوديو باسكال واخذوا يرسمون ويعرضون سوى. وفي احد الايام اجتمع هؤلاء الشبان الثلاثة في جنوب فرنسا وقرروا ان يقسموا العالم بينهم، ارمان اخذ الارض وباسكال اخذ اللغة ومفرداتها، وكلين اختار الفضاء الغير محدود. ومن ذلك الحين بدأ كلين يدرس عالم الكون وما فيه من ابعاد تأملية وروحانية وخاصة انه كان معجبا ودارسا للثقافات الشرقية منها البوذية.

بين اعوام 1948 و1952 سافر كلين الى ايطاليا وبريطانيا واسبانيا واليابان. وخلال مكوثه في اليابان حصل على الجائزة الرابعة في الجودو بعد مشاركته في احد المسابقات. وكانت قوانين هذه اللعبة ورموزها الروحية لها اهمية كبيرة في ادخالها في اعماله الفنية، كما الف كتابا عن رياضة الجودو اسمه (الاسس في لعبة الجودو).3036 الدادائي كلين

اعماله وتقنياته

سمي كلين بالازرق لكثرة استخدامه اللون الازرق وقد انفرد وتميز به عن غيره، وهو لون شديد الزرقة غامق احيانا فسفوري، وسيطر هذا اللون معبرا على بقية الالوان الاخرى واخذ مساحة كبيرة من الشكل، وكان يستخدم في طلاء اللون – روله - وهي الة يستعملها الحفارون في طباعة فن الكرافيك، كما استخدم الاسفنج والفرشاة باحجامها المختلفة. ويطلق بعض النقاد على هذا الاسلوب من الاستخدام اللوني بالاسلوب – النقي - حيث يستخدم اللون من اجل اللون نفسه وليس من اجل الشكل. ويتجسد هذا الاسلوب بشكل ملحوظ في فن المنمنمات واسلوب ماتيس.

3037 الدادائي كلينوكان كلين يغطي موديله العاري باللون الازرق ثم يتمدد الموديل على لوحة القماش او الورق ويضغط جسمه عليها فيطبع نفسه فيخرج شكله، وفي احد المشاهد الاخرى بعد ما يطلي كلين الموديل بالالوان يطرحه ارضا ويسحبه على سطح الورق تاركا اثره عليه بعفوية ولطخات وشخبطة طفولية..

احيانا ينفذ هذه الاعمال مصحوبا بفرقة موسيقية عازفة. فيمزج مشهد الرسم مع الموسيقى ليختلط الفن البصري مع النغم الموسيقي الروحي. وهنا اتذكر مقولة للفيلسوف شوبنهاور: كل الفنون تعبر عن الارادة بطريقة غير مباشرة عن طريق الصور اما الفن الذي يعبر عن الارادة المباشرة هو فن الموسيقى. وكتب والتر باتر 1877 يقول ان كل الفنون تطمح لان تكون حالة من حالات الموسيقى يعني الوصول الى المتلقي تجريديا روحيا بشكل مباشر..

هذه المشاهد التي يقدمها كلين يذكرنا ذلك بقصة طريفة لبيكاسو رويت على لسان احد اصدقاءه المخلصين وهو الشاعر اليساري رافائيل البرتي، حيث كان هناك معرضا لبيكاسو في مطلع الثمانينات في احد كالريات مدريد وقد افتتحه البرتي، فصعد على المنصة ليلقي قصيدة اسمها على ما اعتقد - عيون بيكاسو- لكنه لم يحيي الجمهور كالعادة بل اخرج مشطا واخذ يمشط شعره الابيض الطويل امام الجمهور، وهذه المقدمة لها دلالات ومفهوم دادائي وهو يعني رفض للتقاليد الجارية. ثم اخذ يتحدث عن حياة بيكاسو فقال في يوم من الايام كان بيكاسو قد وضع امامه مشهدا جنسيا حيا واخذ يرسمه؟... هذه الطفرات المزاجية تتكرر احيانا عند بعض الرسامين مثل كلين وذلك لخلق تجارب جديدة وفكر جديد قد يكون له الاثر الافضل في تقدم الفن. او حسب المثل القائل –خالف تعرف -.

كما اخذ كلين يصبغ منحوتاته باللون الازرق الغامق الفسفوري، ونفذ رسومه ايضا باللون الازرق الذي اخذ يتناغم مع نفسه منفردا على سطح اللوحة، بدون عنصري الضوء والظل. وكان كلين دائم التجريب والتقلب حيث يستخدم جميع الطرق المتاحة ولم يتوقف عند حد. وفي يوم من الايام وضع لوحة على سطح السيارة مشربة بالالوان فاخذ يسير بسرعة 110 كم في الساعة تحت هطول الامطار، وكان يهدف من ذلك كيفية تأثير المطر في عملية تشكيل الالوان وعفويتها..3038 الدادائي كلين

في عام 1957 عرض كلين في ميلان (ايطاليا) 11 لوحة زرقاء وقد استخدم فيها مادة صمغية مع اللون الازرق حتى يحافظ على بريقه وثباته، وفي هذه المرحلة حصلت معارضه على نجاح كبير في باريس ولندن والمانيا وغيرها.. وفي معرضه الذي اقيم في باريس في كالري ايريس كليرت عام 1957 اطلق يوم الافتتاح 1001 بالون ازرق كما ارسل عددا كبيرا من بطاقات الدعوة ذات الون الازرق مع ختم ازرق.

في عام 1958 عاد وعرض مرة اخرى في كالري ايريس ولكن هذه المرة ترك الصالة فارغة بدون اي عمل فني ما عدا كتابة تقول (ان الاحساس بالمادة الفنية هو شعور ذهني يتمثل في الفراغ) وعمد الى اخلاء الكالري من كل شئ وصبغ الجدران باللون الابيض ووضع في مدخل الكالري فرقة من الحرس الجمهوري مع كوكتيل باللون الازرق. وقد عمل حملة ضخمة من الاعلانات والدعوات لزيارة المعرض، وكان يوم الافتتاح هناك 3 الاف شخص ينتظرون الدخول الى المعرض. ومن المؤكد ان هؤلاء الزوار ليس لديهم اي فكرة مسبقة عن مادة العرض وانما الذي قادهم للمعرض هو شهرة وسمعة كلين وفنتاسياته..؟

يقول الناقد اوليفر بيرغروين Berggruen ان كلين يعمل على التحرر المطلق من كل شئ محاولا عمل رابط بين الطقوس (الرذيلة) وبين القناعة بالشموخ والاستخفاف من الاخرين). كما يذكر ان كلين استخدم طقوس الجودو كمبرر لعدم اعتقاده باي شيئ واتخذه كوسيلة للوصول الى عالم التجريد والكون وعالم الارواح ثم العودة الى الارض وهو كاءن جديد ممسوخ في مادة معينة، وهذه هي من المعتقدات البوذية ونظرية المسخ.3039 الدادائي كلين

في عام 1960 عرض في كالري الفن المعاصر في باريس وفرض على الزائرين ارتداء ملابس الزينة غالا gala المعتاد لبسها في مراسيم زيارة الملوك او الحفلات الخاصة. وعند الافتتاح دخلت الكالري ثلاثة نساء عاريات مصبوغات باللون الازرق القاتم وكان جدار الكالري معلق عليه ورق ابيض كبير الحجم، فقاد كلين الموديلات الى الجدار امام الجمهور وضغط اجسامهن عليه فظهرت آثار الاجسام باشكال عفوية ولطخات لونية مختلفة.

هذه الاعمال المباشرة هي تشبه الفن الحركي paintings Acción الذي ظهر في العشرينات من القرن الماضي وهو مفهوم اطلقه الناقد الفني هورلو روسنبرك Rosenberg. وايضا هو ينحو نحو فن الجسم body art الذي ظهر في الستينات والسبعينات في اوربا ونمى بشك خاص في امريكا والذي اتخذ الجسم الانساني ميدانا للرسم.

من ناحية فلسفية فان كلين متأثر بفلسفة Suzuki Zen الياباني 1870 ومذهبه البوذي حول حرية الفكر والتحرر من كل شئ والتامل في الكون والحياة والفراغ، والتي تعتبر في راي كلين من اهم عناصر الراحة الابدية والعيش في عالم اصم فارغ. ويقدم كلين اعماله الفنية على شكل رسم ونحت وكتاب وموسيقى. ويمكن تقديم لوحاته بدون رسم، وموسيقى بدون موسيقيين، فقط اشارات النوط ماثلة. بمعنى انه يقدم اجواء فنية ذهنية مفتوحة غير مقيدة.

ومع ذلك فانه يبدو ان التضاد فيما بين البحث عن الحرية المطلقة والشكل الجوهري وبين اختيار العناصر كثير ما شوشت افكار المتلقين ووقفت سدا منيعا امام تقديرهم الصحيح للاعمال الفنية المعاصرة...

 

د. كاظم شمهود

 

 

في المثقف اليوم