مقاربات فنية وحضارية

ظاهرة الاستنساخ عند بيكاسو

في عام 1957 رسم بيكاسو لوحة – الاميرات – لفيلاسكس ونفذها بثمانية وخمسين لوحة - 58 - مكررة بين التخطيط والرسم بالزيت وباسلوب بين التجريد والواقعية التعبيرية، ويذكر انه عمل لها تخطيطات تحضيرية (اسكيجات) وصلت الى اكثر من 150 تخطيطا، وهذه الاعمال نجدها اليوم معروضة في متحف بيكاسو في برشلونة وهي مثيرة ومدهشة، وتبين القدرة الهائلة والطاقة الفنية الكبيرة لعبقرية بيكاسو.

كما كان بيكاسو معجبا باعمال مانيت، فكان يعتبره من رواد التجديد، فكلما يرى لوحته – الغذاء على العشب 1863– يقول (ساصاب بالصداع)، من شدة اعجابه بهذه اللوحة ولهذا رسمها باسلوبه ومعالجاته الحديثة - 27 - مرة بالمواد الزيتية، وقد نفذها بين اعوام 1959 و1962.4656 الغذاء على العشب

وفي عام 1955 رسم بيكاسو 15 لوحة زيتية وهي عبارة عن استنساخ للوحة ديلاكروا – نساء جزائريات 1832 – وقد رسمها باسلوبه التكعيبي والتجريدي الحديث، وتذكر زوجة بيكاسو فرانسواز خيلو بان بيكاسو كثيرا ما كان يتردد على متحف اللوفر لمشاهدة لوحة ديلاكروا ودراستها وكان مغرما بها وبموضوعها الشرقي، وهو ما يؤشر الى الحنين الى الجذور الاندلسية وتاريخه العريق، وكان من أسباب ذلك التعلق ايضا هو شكل زوجته جاكلين ذات الملامح الشرقية وعينيها السوداوين الواسعتين وحواجبها المقوسة كالسيوف، وكذلك حرارتها النفسية والغيرة على بيكاسو حد المغالات. علما ان جاكلين عاشت في الجزائر مع زوجها المهندس السابق فترة طويلة واكتسبت كثيرا من العادات والتقاليد الشرقية التي تشترك بها مع بيكاسو... كما ذكرت رواية اخرى ان بيكاسو التقى مع الفنانة الفطرية الجزائرية باية حداد 1931 في باريس واطلع على اعمالها وطلب منها ان تبقى معه ليعلمها الرسم، ومكثت معه عدة اشهر وقد اوحت اليه برسم موضوع - نساء جزائريات – واقتنت بلدية باريس عدة لوحات من اعمالها كما قامت لها معرضا خاصا في باريس...4659 نساء جزائريات

و من الاعمال التي عملت شهرة لبيكاسو هي صورة فتاة جميلة اسمها Sylrette David، تعرف عليها بيكاسو عام 1954 واستخدمها كموديل للرسم، وقد عمل لها اكثر 40 لوحة بالالوان الزيتية والتخطيط، وظهرت باشكال محورة وواقعية، وانتشرت صورها بشكل سريع في كل انحاء العالم بواسطة تجار اللوحات، وتمتاز الصور بتسريحة شعرها الانيق والجميل، وربطه من الخلف بما يطلق عليه اسم "ذيل الحصان" وكانت موضة جديدة في ذلك الوقت، كما ان اسلوب بيكاسو الجديد في التعامل مع الموديل وسمعته، كل ذلك ساعد على انتشار الصور والانبهار بها.

و عندما مات ماتيس عام 1954حزن عليه بيكاسو حزنا عظيما، فقال لماذا لا نتبع اسلوب اصدقائنا في رسم المواضيع الشرقية ؟، وهو يعني بذلك ماتيس الذي عاش فترة طويلة في بلاد المغرب ورسم كثيرا من اللوحات ذات المواضيع المغربية والتي يطغي عليها الطابع الفني الاسلامي، من الزخرفة والالوان الحارة الساطعة والخط الذي يحدد الاشكال، وقد كانت هذه البيئة ومؤثراتها الفنية العامل الرئيسي في ظهور المدرسة الوحشية التي تزعمها ماتيس، بعض النقاد العرب اطلق عليها اسم "المدرسة العربية" .4657 ماتيس

و يذكر ان بيت بيكاسو كان يعج باعمال الفنانين الكبار المعروفين امثال سيزان وماتيس وكوربيه وكوكان وفان كوخ وغيرهم، وكان بيكاسو يقول (انه يعيش بيئة سيزان) فقد كان معجبا بجمال مناظر والوان سيزان وطريقة تعامله الحديث مع الطبيعة، فاثرت هذه على اعمال بيكاسو في مراحله الفنية الاولى.

وكان بيكاسو في سنواته العشرين الاخيرة قد كرس كل حياته للرسم والاستقرار والهدوء وكانت جاكلين قد اصبحت بمثابة ممرضة له بالاضافة الى ادارة وتنظيم زيارات الاصدقاء والصحفيين ووضع المواعيد. وقد حول بيكاسو كل غرف البيت الى ورشة عمل ومتحف وصالة لاستقبال الزوار، وكانت جاكين تهيئ له كل شئ من مواد الرسم وتحضير اللوحات والاوراق والالوان وغير ذلك، كما عملت له مصعدا كهربائيا للصعود الى الطابق الثاني. وكان بيكاسو ينتج في هذا المكان كل يوم ثلاث لوحات او اربع، وهو ما يشير الى ديمومة طاقته واستمرارها في الخلق والابداع رغم تقدمه في السن.

***

د. كاظم شمهود

في المثقف اليوم