مقاربات فنية وحضارية

مقاربات فنية وحضارية

الفنان الفطري، هل له موقف ما من العالم ؟

هل يملك صوته الخاص أو لغته التعبيرية، وهل حاول من خلالهما تحديد موقفه أو موقعه من هذا الوجود؟

هذا الفنان البسيط المغمور، يرى العالم من خلال منظوره الخاص، وقد تلتبس عليه الرؤية إذا ما وجد أن وسائله التعبيرية لا تمنحه قدرة الوصول الى المقاييس الجمالية التقليدية المعروفة، فهل يحزن لهذه النتيجة أم أنه، داخلياً لا يريد أن يكون أسيراً لها؟.. أم أن اللعبة لا يعرفها أصلاً، وهو بالنتيجة لا يعرف أصولها.

الفطرية مفهوم قائم بذاته، متأثر بالرغبة في خلق شعور بالجمال البدائي، والتعبير التلقائي الخالي من أي تعقيد أو غموض، أو رقابة فنية أو فكرية، وهذا ما تجسد في فخاريات العراق القديم التي صنعها انسان تلك العصور.

ويشار الى الفن الفطري أحياناً باسم الفن البدائي، كما يتداخل مع ما يسمى بالفن الخارجي، أو مع الفن الفرنسي المتوحش، وهذا يشمل ما يرسمه الأطفال، أو ذوي الحاجات الخاصة، مثل، السجناء والمعاقين، والمصابين بامراض عقلية، على خلاف الفن الفولكلوري أو الشعبي، الذي يتبنى نهجاً تبسيطياً مشابهاً، وبالضرورة لايستند الفن الفطري  الى سياق ثقافي أو تقليد متميز، انما امتاز ببساطة التنفيذ، وميل نحو الألوان المشبعة اللامعة، مع غياب المنظور في أغلب الأعمال.3880 الفن الفطري

في العراق تبدو تجربة الفنان الفطري منعم فرات مثالاً للمعادلة الصعبة في العطاء باعتباره وجوداً استثنائياً، اذ دخل حيز الاسطورة ومجالها الواسع والحيوي من مكونه البيئي وتلنفسي، فهو خضع للمخزون المعرفي الشعبي، أي ان الرؤى المتحكمة في وعيه هي الحقيقة الشعبية التي انتجت مقاربات اسطورية تعيش في عالم لم نصل بعد اليه، على حد وصف النحات محمد غني حكمت، ومضى أحد المستشرقين الايطاليين أبعد من ذلك، في القول أنه يفضله على بيكاسو لانه شيئ نادر.

وهكذا يلتقي مع كل الفنون العفوية التي يبدعها الانسان، اعتباراً من فنون البدائيين حتى عفويات الفن الطفولي، ولكننا باستخدام الخيال، نستطيع أن نكون في ألفة عاطفية مع الأعمال التي ينجزها الفطريون، فالامتثال الهادىء لمخلوقاتهم الطيبة المستكينة، ستقودنا الى ينابيع أحلامهم، فأنت المتلقي، أنظر فقط، وكي لا تبدد ذلك السحر الذي ينتشر كالفرح حول هذه العذرية، اكتف بالتأمل في هذا الشيء المختل النسب، الصغير الكبير، الخارج على المقاييس الجمالية، البعيد والمباشر معاً، ثم انتقل معه الى عالم آخر هو غير عالم الجماليين، انك بذلك فقط، سترى كيف تكون الأيدي هي اللغة الكاملة بكل أصواتها، وان العيون تضيء بنور داخلي، والشفاه تخاطب على البعد أناساً غير منظورين، وان الابحار عبر هذه المخلوقات غير مأمون لمن يركب مركب الناقدين، ولهذا يغدو استذكار هذه العذريات أمراً في غاية الصعوبة، لأنها سرعان ما تغادر شبكية العين وتختفي في الداخل.

ثمة خيط سري غير منظور يوصل مابين الاعمال الفطرية، وبين ابطفولة التي ودعها كل متا وهاجر الى مرافئ لا سبيل للرجوع منها الى نقطة المبتدئ، إلا برؤية هذا الضرب من الفن، انه لون من ألوان التعزية لمن يعاودهم الحنين الى تلك المرافئ الجميلة إبحاراً بعين الخيال المظلمة.

في بحر الوجود تلتقي كل الأشرعة، غير أن من يزعم بأنه قادر على فهم هذا الفن بالتعريفات كمن يجازف بأن يجعل من النجمة حليةً لزوجته !

الجوهري المهم، ان في هذا الفن تكمن الأجوبة الصامتة لأسئلة محيرة كانت قد أفلتت من النفس بفعل الحيرة أمام روعة الوجود ذاته، وسيان أن تكون هذه الأجوبة في منطقة الضوء من أبصارنا، أم في منطقة الظل من بصائرنا، فهي على كل حال، كالأثمار المضيئة في أشجار غابية وهبتها الأرض دفق حليبها المغني، لتهب الوجود ثماراً دانية من دون إمنان.

ثمة من يفسر هذا الاثمار العفوي كشرعة من شرع الطبيعة، أوغلت في الوجود الانساني حتى كهوف "التاميرا"، وان يقظات زمنية ما، تلازم تاريخ الانسان تحدث فيه مثل هذا الانفعال، ليتبعه من بعد، التعبير عن الرؤية وما يوازيها من تأليف تشكيلي يوحي بالجانب الوجودي ذاته، وهنا تكمن قوة الفن الفطري، المبرأ من عقدة العلم، لانه أشبه ما يكون باشجار "سيزان" التي يصعب على المرء تسلقها، أو أن يأكل فاكهتها.

هؤلاء الفنانون يريدون التحدث بلغتهم الخاصة، وحين كان عليهم أن لا يلثغوا باصواتهم ومخارجها الصعبة أحياناً، والسهلة أحياناً أخرى، أخضعوها لقوانين نطق أشبه ما تكون بقوانين الطبيعة ذاتها، فولدت عفوية كأحجار الجبال التي تجرفها السيول الى أعماق الوديان، ما تستطيع أن تشفّ عنه دمية مرمرية من معان ٍ، هو تاريخ النفس التي تفجرت ينابيع، وهو السيرة الذاتية لفنان أراد أن يصبح حراً وعارياً كمولود جديد.

***

جمال العتّابي

ظهرت خلال تاريخ الفن شخصيات كبيرة وعظيمة اغنت واثرت على الحركة الفنية العالمية المعاصرة من امثال الفنان الاسباني الكبير خواكين سورويا - Joaquín Sorolla - وهو ما تتوجه اليه عادة انظار الفنانين الحديثين حيث تتفاعل خبراتها مع الماضي لتكون مصدرا راقيا للعطاء والابداع..

خواكين سورويا من مدينة بلنسية الاندلسية Valencia – ولد عام 1862 وتوفى عام 1923 في مدريد ونال شهرة عالمية وعرضت اعماله في المتاحف والكالريات والمؤسسات الثقافية في مختلف البلدان الاوربية وامريكا الشمالية والجنوبية.. بعض النقاد اعتبروا اعماله ضمن المدرسة الانطباعية ولكن البعض الآخر يرون انه قد انفرد باسلوب خاص وخلق مدرسة اطلق عليها النقاد اسم – الاعمال المضيئة – iluminada - حيث تميزت اعماله بالالوان الساطعة المضيئة وفرشة طلقة حرة سريعة الحركة حتى تبدو احيانا بعض الاعمال وكانها غير مكتملة..3854 سورويا

كما اخذ سورويا بانتاج الاعمال الكبيرة ذات المواضيع الاسطورية والتاريخية والاجتماعية وعرضها في الخارج مثل باريس وروما وبرلين وغيرها. كما كان يرسم في الهواء الطلق بفرشة طلقة تدل على تمكنه وقدرته الابداعية والسيطرة على التقنية وكانت اغلب اعماله تمثل مناظر للصيادين وشواطئ البحر في بلنسية.. كما تخصص برسم البورتريت وابدع فيه حيث رسم كثير من الشخصيات السياسية والملوك منهم الملك الاسباني الفنسو الثالث عشر ورئيس الولايات المتحدة وليم هوارد تافت وغيرهم..3855 سورويا

بلنسية –Valencia

تقع مدينة بلنسية التي انجبت الفنان سورويا شرق مدريد على شاطئ البحر المتوسط. وكانت من اعظم القواعد الاندلسية ايام المسلمين وتعتبر ثالث المدن الاندلسية من حيث عدد سكانها الذي بلغ ربع مليون نسمة يومذاك... كانت اراضيها زراعية فسيحة تخترقها عدة انهار منها نهر توريا Turia.. واشتهرت بلنسية بصناعة الفخار كالاواني الخزفية والبلاطات -الكاشاني - ولازالت لحد هذا اليوم..

وقد ذكرها الحميري في كتابه: الروض المعطار (هي مدينة سهلية وقاعدة من قواعد الاندلس عامرة القطر كثيرة التجارة , وبها اسواق وحط وقلاع وبينها وبين البحر ثلاثة اميال , وهي على نهر جار ينتفع به ويسقي المزارع ولها علية بساتين وجنات وعمارات متصلة والسفن تدخل نهرها وسورها مبني بالحجر والطوابي , ولها اربعة ابواب.....)3856 سورويا

السيرة الذاتية:

ولد سورويا عام 1862 في مدينة بلنسية وتوفى والديه وكان عمره حوالي سنتين فتكفلت برعايته وتربيته اخته اوخينيا Eugenia. وقد اشتغل الطفل في بداية حياته مع زوج عمته والذي كان يعمل حدادا وصانعا للاقفال وكانت النية ان يتعلم الحرفة... ولكن الطفل غادرها رافضا تلك المهنة فتوجه الى مدرسة للهوات وتعليم الرسم. وعندما بلغ 15 سنة من العمر سجل في مدرسة – سان كارلوس للفنون – واشترك في المعارض التي تقام في المدينة.... وفي سنة 1879 سافر الى مدريد وكان عمره 18 سنة. وهناك اشترك في المعرض الوطني للفنون بثلاثة لوحات تمثل مناظر من البحر.. وقد استغل وجوده في مدريد فذهب الى متحف البرادو El Prado واخذ يدرس ويستنسخ اعمال الفنان الاشبيلي - فيلاسكس – 1599-1660 -... ويبدو ان الفنان فيلاسكس كان نقطة انطلاق وتعلم لكل الفنانين الكبار.. فعندما حط غويا 1748 -1826 في مدريد كان قد توجه الى دراسة اعمال فيلاسكس.. وعندما ظهر بيكاسو قام برسم واستنساخ الكثير من اعمال فيلاسكس منها لوحة – الاميرات – Las Mininas وقد رسمها بيكاسو اكثر من 50 مرة باسلوب تكعيبي حديث وبالوان متنوعة وكان قد اثبت فيها مهارته العالية وعبقريته الفذه.. وهي الآن معروضة في متحف بيكاسو في برشلونة..3857 سورويا

حصل على منحة دراسية الى روما عام 1884 لدراسة الرسم لمدة اربع سنوات. ثم سافر الى باريس عام 1885 واطلع على الحركة الفنية الحديثة.. عاد الى بلنسية وتزوج من كلوتيلد غارثيا عام 1888 وانجب منها ثلاثة اطفال.. ثم استقر في مدريد عاصمة الثقافة والفن وكانت له علاقات فنية واسعة مع عدد من الاساتذة في مدريد منهم البروفسور خوسيه خمينث اراندا حيث استطاع من خلالهم رفع مستواه ووعية الفني , متطرقا الى رسم المواضيع الاجتماعية...

في عام 1900 استطاع سورويا ان يحصل على مركزا عالميا في المعرض العالمي الذي اقيم في باريس من خلال لوحاته الانطباعية التي تمثل مواضيع البحر والشواطئ والصيادين... وفي عام 1906 اقام سورويا اول معرض له في باريس في كاليري Georges petit. ثم عرض في مدن اوربية اخرى.. وفي سنة 1911 كلف سورويا برسم 14 جدارية للمعهد الاجتماعي الاسباني الامريكي وبدأ بالعمل سنة 1913 وانتهى منه سنة 1919 وكانت تمثل مشاهد من العادات والتقاليد الاجتماعية الاسبانية... ومن اشهر اعماله – حزن الوراثة – التي رسمها سنة 1899 وتمثل اطفال معاقين قرب البحر. وقد عرضت اللوحة في المعرض العالمي في باريس عام 1900 ونال الجائزة الاولى. وفي سنة 1981 اقتنيت اللوحة من قبل كنيسة في نيويورك...

توفى سورويا عام 1923 في مدريد بعد مرض عضال..3858 سورويا

متحف سورويا:

انشأ المتحف في مدريد رغبة من زوجة الرسام سورويا - كولتيلد غارثيا - حيث اعلنت بشكل رسمي ترك الورثة الفنية الى الدولة الاسبانية عام 1925 على ان ينشأ لها متحفا خاصا بها.. ثم تقرر ان يكون المتحف هو نفس منزل وورشة الفنان سورويا.. وفعلا تم ذلك وكان اول من شغل مديرا للمتحف ابن الرسام خواكين سورويا حتى وفاته سنة 1948... لقد زرت المتحف اكثر من مرة وهو غاية في الجمال والسحر..

***

د. كاظم شمهود

لم يستمع الزوج (اللورد ليوفريك) حاكم ولاية كوفنتري الإنكليزية إلى نداءات زوجته (الليدي غوديفا)، بعد أن اشتكت إليه مراراً، وتوسلت إليه أن يخفف ضرائبه التي فرضها على الناس الفقراء، إلى أن جاء اليوم الذي وجد نفسه في تحدٍ وقح لمطالبها، فعرض عليها موافقته في الاستجابة لها، بشرط أن تمتطي جوادها عارية، وتجوب شوارع المدينة، معتقداً أنها سترفض عرضه الرخيص، وسيكون قد تخلص من مضايقاتها بالشكوى الدائمة، لكنه تجمّد في مكانه حين وافقت الزوجة على شرطه وتنفيذه في الحال، لم يكن يتوقع من زوجته المتواضعة الخجولة إقدامها على هذا القرار، ولا الناس كانوا سيصدقون ما تفعله الزوجة من أجلهم، فجهّزت جوادها وامتطته عارية، على هيئة الفارس الرجل، لا يغطي عفافها إلّا شعرها المسترسل الطويل.3798 alhakika

كأغلب القصص المثيرة في التاريخ، استهوت هذه الحكاية العديد من الرسامين والنحاتين لما تتضمنه من معانٍ إنسانية نبيلة، فقدم الفنان "جون كوليير*" واحدة من أشهر أعماله الفنية "امرأة عارية على ظهر حصان" التي نفذها عام 1897، وهي محفوظة الآن في متحف هربرت للفنون في مدينة كوفنتري البريطانية.

السيدة غوديفا ليست مجرد قصة تاريخية أسطورية، المرأة العارية، الشابّة النحيلة على ظهر جواد، هي محور أفكار ما قبل الروفائيلية؛ إنه السعي وراء الجمال وضبط النفس والقرب من الطبيعة، التواضع والجمال والتحدي هنا هي الفكرة الأساسية للعمل.

ما كان صادماً أكثر للأمير ليس جرأة زوجته وحسب؛ إنما صدمته الأكبر كانت من أهالي كوفنتري الذين امتنعوا من النزول إلى الشارع، والتزموا بيوتهم تضامناً مع غوديفا، أسدلوا ستائر نوافذ منازلهم ليتجنبوا النظر إليها، وإحراجها تقديراً منهم لتضحيتها وتفانيها من أجلهم، مما أجبر ليوفريك إلى الرضوخ لتنفيذ مطالبها ورفع الحيف عن أبناء المدينة، وإلغاء الضرائب المجحفة.

ووفقاً للأسطورة التي يعود تاريخها إلى القرن الثالث عشر، أن شخصاً واحداً فقط هو الخياط (توم)، لم يستطع مقاومة فضوله في اختلاس النظر إليها، ففتح نافذته قليلاً، أغواه تهوره ورغباته المكبوتة إلى عدم الاستجابة لمناشدات أبناء مدينته في ملازمة المنازل، لُقّب لاحقاً بـ(توم مختلس النظر)، تقول الأسطورة إنه أُصيب بالعمى كعقاب من السماء لفعلته الدنيئة، ومن هذه الحكاية اشتهر المثل الإنكليزي " peeping tom" أو توم المتلصص. في علم النفس يعرّف التلصص، بأنه سلوك قهري مرضي يرافقه اضطراب نفسي، يصيب أولئك الذين يعانون من انحراف جنسي، يجد صاحبه نفسه مضطراً ومدفوعاً إليه لا شعورياً لإشباع حاجته النفسية.

منذ ذلك التاريخ أصبح هذا الحدث تقليداً ثابتاً تحتفي به كوفنتري سنوياً في شهر حزيران؛ إذ تجوب (غوديفا الرمز) الشوارع على حصان أبيض يرافقها رجل يوحي أنه "توم مختلس النظر"، وفي حينها تم نحت تمثال خشبي للخياط توم، ونصبه في الشارع المؤدي إلى سوق كوفنتري ليصبح أيقونة للسلوك المنحرف، وتوجد نسخة طبق الأصل عن التمثال أمام كاتدرائية كوفنتري.3799 alhakika

تستمد اللوحة قوتها من المشاعر الإنسانية، والتخيل الفردي للأحداث، الفنان أراد هنا أن تلامس تجربته حدود الكشف عن طاقاته للتعبير عن روح الخجل التي تختفي في الأعماق، هناك حوار متعارض بين رأس الجواد المرفوع إلى الأعلى بتحدٍ، ورأس غوديفا المنحني إلى الأسفل، وهي تستعين بيدها اليمنى لتغطية صدرها بشعرها الطويل، المشهد يوحي بالعفّة والحياء، شوارع المدينة خالية، صامتة، خافتة، توقظ في نفس المتلقي مشاعر أنيسة حانية، مثل هذه المجاورة تبعث فينا إحساساً بعدم إغفال إغراءات اللون في الطبيعة، حتى الألوان الخافتة بدت مشعّة، متوهجة، تتدفق من أعماق الظلال الشفافة في توافقات نغمية نابعة من التقاطعات الحادة التي تفصل بين النور والعتمة، في الجدران والأقواس والأعمدة، بين الفضاء والداخل، في اللون وإبداعه تتحدد فلسفة الفنان، بل إن اللوحة ترتكز على توافق الألوان وانسجامها، كوليير أتقن توزيع الكتل والحركة، ومنحها امتداداً وعمقاً من خلال حركة الجواد، المفردة التشكيلية القابلة للتجريب والتعبير عن الرؤى والأفكار المتعددة، الجواد بإزاره الجميل المرصّع بالذهب يرمز إلى القوة والجمال والحب والبطولة.

الرسام كان مغرماً بالحصان، كمن يستنطقه أو يحاوره حواراً خفياً، بلا ادّعاء بمهارة الفنان في قوة الإبلاغ، عبر حركة الحصان وتوثبه، أو في إشراك المشاهد بشعور تأنيب الضمير، فإذا كان هذا المنجز قائماً على تضاد لوني الجسد والإزار؛ فإنهما اجتمعا في نقطة واحدة ما كعائلة لونية منسجمة، وبذلك نجح كوليير في توصيل المشاعر الإنسانية للمتلقي بكل ما تمتلك نفسه من وهج حدسي، فالقوة التي يمتلكها هنا قابلة على ترصين التعبير، بفعالية وجمالية سامية، كما قدم الرسام درساً أخلاقياً تقاسمه أبناء المدينة مع السيدة غوديفا، الأخلاق التي لا يجافيها الذوق والوجدان، والوعي بحقيقة (العري).

وضِمن هذا النسق تأثر فنانو القرن التاسع عشر وما تلاه في أحداث القصة الأكثر جاذبية لهم في الموضوع، تناقلوها، وحاولوا تمثلها كل حسب رؤاه الفنية وأسلوبه، ومن بين أهم النصب النحتية التي نفّذت وفق هذا السياق، تمثال السير وليام ريد ديك الذي أنجزه لصالح بلدية كوفنتري عام 1949، بطريقة مختلفة تماماً عن عمل كوليير، ووفق وضعية ركوب الخيول من قبل السيدات آنذاك، السيقان تتدلى على جانب واحد، على خلاف وضعية الامتطاء الرجولي للحصان من قبل غوديفا.

حصان وليام ريد أكثر قوة في التقاطيع والحركة، يبدو متوثباً جامحاً، لعلّ التوثب من أجل اجتياز العقبة، واحدة من علامات القوة في بلاغة التعبير، مع إضمار الدعوة في الرفض وعدم الخضوع للضعف أمام معوقات الوجود، كما يتكامل جمالياً مع الجسد العاري المنساب بهدوء واطمئنان من على ظهر الحصان.

خلاصة القول؛ إن الموقف الأخلاقي يجد تبريره المطلق في إحياء هذا الحادث الفريد في التاريخ، وتسليط الضوء على كثافة العمل الدرامية، بما يحمله من صدق ووضوح، فالبرغم من أن العري كان محوراً أساسياً للفن الأوربي؛ فإن كوليير لم يفتعل الحدث، ولم يذهب للجسد العاري كوسيلة مقنعة للتعبير الإبداعي، إنما اكتسب جسد الأنثى العارية معنى جديداً ومختلفاً، فكانت اللوحة مقيدّة بالحياء والوقار وجاذبية الجمال.

***

د. جمال العتّابي

........................

*  جون كوليير John Collier (1850- 1934)، فنان تشكيلي ومؤلف إنكليزي، تأثر بأسلوب ما قبل الروفائيلية، وهي رابطة لمجموعة من الفنانين يركزون على استخدام الضوء والألوان الزاهية في الطبيعة، انضم للرابطة التي تشكلت عام 1848 احتجاجاً على المستوى المتدني للفن الإنكليزي آنذاك.. وكان أحد أبرز رسامي البورتريه من جيله، ينتمي لعائلة موهوبة، يحتفظ المتحف الوطني البريطاني والمتاحف الأخرى بعدد من أعماله الفنية. مُرسل من بريد Yahoo لجهاز iPhone

بعد خمسة 45 عاما في الرسم والحفر والطباعة بكافة تقنياتها الفنانة نعمت الناصر في معرض اسعادي بابل

لم تنل الفنانة نعمت الناصر نصيبها من النقد الفني والنقل الاعلامي، مع انها كانت ولما تزل من بين افضل الفنانين في اقليم الشام ( سوريا، الاردن، فلسطين، لبنان ) ربما لأنها لم تتنازل عن ثوابتها المهنية والاجتماعية والثقافية وحتى السياسية، لصالح التيارات الثقافية والاعلامية التي غطست في مستنقع التضليل الثقافي والاعلامي الغربي، الذي يروج لمشاريع تسعى الى تدمير البنية الانسانية السوية وفطرتها. لصالح خرافات عقائدية، كالبقرة الصفراء واخواتها .

ويبدو ان الفنانة نعمت الناصر تظلّ تحمل تاريخها الفني او عينات منه وتعرضه في هذا المكان او ذاك مستهدفة نشر الثقافة البصرية على مستويات عديدة اهمها الارتقاء بالذائقة الفنية والحس الانسانيين، ليس في حدود الفن وحسب بل في مفهوم العدالة والنبل ومقاومة الظلم ونبذ الكراهية لكل ما يخرج عن سوية الانسان وفطرته، نجد هذا التنوع الكبير متجسدا بالمواضيع والتقنيات والاساليب والرؤى، والذي قد يحيله البعض إلى مراحل نمو وعي وثقافة وابداع الفنانة، ولكنها ليست الحقيقة كاملة، فالفنانة مجبولة على السعي المستمر نحو التغيير مع متزن ثقافي دقيق، أذ هي في قرارة نفسها تبحث عن شيء ما . شيءٌ يقلقها ويشكل لها همّآ وهاجسا انسانيا وفنيا تحاول استظهاره او المرور عليه او حتى تحقيقه، بعضه تحقق والبعض برسم التحقيق وبعصه صعب جدا تحقيقه وبعضه يتعدى عمرها الزمنى وبعضه ابدا لن يتحقق، فغاية ما يبحث عنه المبدع الحقيقي لم تحققه بعد الانسانية بتوالي وتكامل اجيالها،، ربما اخره الخلود !!.

الناصر منشغلة كثيرا بالإنسان وانفعالاته وحركاته وحضوره وغيابه أكدت هذه الحقيقة عناوين اللوحات، باعتبارها مفاتيح الاعمال الفنية اذ نلاحظ عناوين مثل (انتظار ولقاء ورقص وحوار وفرحة ولا للحرب ولا معقول وتحرر... تلصص والمصلوب و امرأة وام وامومة وعدد آخر من عناوي اللوحات وكلها تتناول الإنسان حتى تلك الأعمال البعيدة عن الانسان، حاولت الفنانة وبجدية عالية أنسنتها .3792 nimat

يلاحظ جليا في بعض اللوحات انفعالات الانسان وحسب الحالة التي هو فيها او يمر بها ولكن الغالب والطاغي هو الحزن الذي يغلف الخط ويفرش نفسه ممتدا علي مساحات اللون بينما الاسود والابيض في لوحات الكوليغراف يظل الخط هو الاداة والطريق الذي يمر منه حزن الفنانة ليستريح في الظل اللون الرمادي،

احيانا يرتفع الحزن ليصل درجة الغضب، عندها تظهر الشدة مجسدة في الحركات العصابية التي تدعمها الخطوط القوية الحادة والمستقيمة وعملية الحفر التي تضيف لها الثبات والعمق ... مع هذا كله يظل المهيمن على اعمال الفنانة والغالب هو الحزن الهادئ والتأمل. ومحاولات الالتآم والتعشيق مدفوعة بالانتماء المتبادل لعنصرين من عناصر الوجود وهما الإنسان الرجل والمرأة . يغلب على الخطوط الانحناء فهي خطوط منحنية بشكل رقيق وحنو مفعم بالعاطفة والود ولكن لم يغادره الحزن . كما تنوعت المواضيع عند الناصر فان تعدد التقنيات والاساليب والادوات كان كبيرا ومتنوعا.. وكما بقي الإنسان سيد مواضيعها، فان الحفر بقي سيد اساليبها والفاعل الأكثر حضورا وتأثيرا في أعمالها، ذلك لانها على علاقة طويلة وقوية مع هذا الفن الذي جعل من اناملها اشبه ما تكون باسنان سنجاب فنان ليس على الخشب فقط بل على صفائح المعادن ايضا فقد تعاملت بالحفر علي الزنك واللينوليوم والمونوبرنت ولكنها لم تتوقف عند هذه التقنية والادوات وقد نفذت بعض اللوحات التي تخوض قلق الانسان بالكوليغراف او قلم الرصاص كما في لوحة - أم - ويتضح من خلال التمعن في اعمالها ان الفنانة تختار التقنية او الأداة التي تناسب الموضوع بعينه لكي تضيف عليه الأدوات والتقنيات، ما لديها من قوة تعبيرية . وهذا الاسلوب الفني الذي ظل يتنقل في اعمالها من الواقعية حتى التجريد.، ولكن الهيمنة كانت وظلت للتعبيرية بحكم الموضوع واسلوب العمل التقني والملاحظ أيضا ان جميع اعمالها من الحجم الصغير والمتوسط وكأنها تقدم عينات وخلاصات فنية مكثفة، وبهذه الاعمال المتنوعة موضوعات وتقنيات واساليب ورؤى فنية وفي عملها هذا تخط نعمت الناصر خطا فنياً منفردا وخاصا بها قد يكون التنوع أهم وأبرز ملامحه ولكنه يختزن الكثير من الإبداع الذي يحتاج الى منقب يعلمه ويعرف قيمته ويستظهره.

***

محيي المسعودي

في كتابه التأسيسي الأهم "مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة" يلاحظ مؤسس الأركيولوجيا والأنثروبولوجيا العراقية الحديثة الراحل طه باقر أن آراء الباحثين اختلفت في أصل اسم العراق القديم ومعناه. وتتوزع الآراء على ثلاثة احتمالات؛ الأول هو الأصل العربي لكلمة عراق؛ والتي تعني شاطئ البحر أو الشاطئ مطلقاً، والاحتمال الثاني الفارسي من كلمة (إيراه) أي الساحل بالفارسية، وعربها العرب إلى عراق، أو من الفارسية "إيراك" كما يرى الباحث هرتسفلد والتي تعني البلاد السفلى والاحتمال أو التفسير الثالث الذي يعيد الاسم إلى التراث اللغوي العراقي القديم "الرافداني" والأكدي تحديدا.

أعتقد شخصياً أن التفسير الفارسي هو أضعف التفاسير والاحتمالات المعروضة هنا، لأن الفرس شعب حديث النشأة والظهور على المشهد التأريخي في المشرق، فلم يكن له ذكر قبل أن يُسْقِط الدولة البابلية الحديثة "الكلدانية" في القرن السادس ق.م، ويدمرها بحرب غادرة بعد أن كانت حليفته ضد الدولة الآشورية، ولكنه غدر بها وأسقطها سنة 539 ق.م، بل أن دولة عيلام في جنوب غربي إيران الحالية وذات اللغة التي لا علاقة لها باللغة الفارسية أقدم من الدولة الفارسية الأخمينية بكثير، في حين أن دول حضارة وادي الرافدين تعود إلى أكثر من ثلاثة آلاف سنة قبل ظهور الفرس الأخمينيين. وطَوال قرون السيطرة الفارسية على العراق القديم لم نجد أثرا لهذا الاسم سواء بلفظ "إيراه" أو "إيراك" بالمعنيين المذكورين. والراحل طه باقر نفسه يذكر في موضع آخر من كتابه أن اسم العراق لم ينتشر بهذا اللفظ إلا في أواخر العهد الفارسي الساساني أي في عصر ما قبل الإسلام "العصر الجاهلي". وعلى هذا، يمكن الاستنتاج أن تكون كلمتا إيراه وإيراك الفارسيتان ذاتيْ أصل رافداني كما سنوضح بعد قليل مع اسم "إيرقا" الذي ظهر في القرن الثاني عشر ق.م. ويبقى الاحتمال الثالث والأخير وهو الأصل الرافداني القديم لاسم العراق وهو شديد الصلة والارتباط باسمين رافدانيين قديمين، وفيه يفصل باقر فيقول:

يعتبر طه باقر هذا الرأي القائل بالأصل الرافداني "رأيا جديراً بالاعتبار رغم عدم إمكانية الجزم به تماما" كسائر المواضيع والاسماء التأريخية التي لا تتوفر نصوص كافية ودامغة تؤكدها. وخلاصة الرأي الأخير هي أن اسم العراق يرجع إلى تراث لغوي قديم سومري أو لقوم قبل السومريين (صدر كتاب باقر سنة 1951 ولم يكن أحد يشكك آنذاك بوجود السومريين كشعب، كما هي الحال الآن. رغم أنه أبدى بعض الملاحظات التي يفهم منها أنه لا يتفق مع بعض كريمر الذي رسخ وجود السومريين كشعب وحاول أن يجعلهم أسلافا للعبريين كما يقول تلميذه الباحث نائل حنون).

ووفقا لهذا الرأي لباقر فإنَّ اسم العراق مشتق من كلمة مستوطن، وتلفظ (أوروك / أونوك). وأصبحت هذه الكلمة اسما لمدينة أوروك (عُربت إلى الوركاء). ونقطة ضعف هذا الافتراض أن هذا الاسم "أوروك" لم يتم تعميمه بهذا اللفظ ليطلق على البلاد كلها. ويبدو أن الراحل طه باقر أغفل هنا قرب هذا اللفظ من اللفظ العربي بعد تحولاته التي يوجبها المذاق اللغوي العربي والظرف التاريخي المتغير من أوروك إلى عوروق إلى عُراق وأخيرا عِراق. ثم يتوقف باقر عند رأي الباحث الأميركي إلبرت أولمستيد مؤلف كتاب (HISTORY OF ASSYRIA)، غير المترجم إلى العربية، وفيه يذكر على ص 60، أن أول استعمال لكلمة عراق جاء في وثيقة تأريخية ترقى في تأريخها إلى العهد الكيشي في القرن الثاني عشر قبل الميلاد. وجاء فيها اسم إقليم على هيئة "أريقا" الذي صار هو الأصل العربي لبلاد بابل. وأعتقد أن هذا الرأي هو الأقوى والأرجح بين الآراء المطروحة هنا. ويستعرض باقر ولادة وتحولات اسم الإقليم عبر التأريخ كالآتي:

* كان حكام دويلات المدن في العراق القديم، في مطلع الألف الثالث قبل الميلاد، يلقبون أنفسهم باسم (المدينة / الدولة) التي يحكمونها فيقال "حاكم لجش = آنسي لجش" أو "حاكم أور = آنسي أور". وفي حدود أواخر ذلك العهد الذي يسمى عصر فجر السلالات (2800 – 2400 ق.م) ابتدع الحاكم لوكال زاكيزي اسما ملكيا لنفسه هو (ملك الأقاليم، تكتب بالعلامات السومرية = لوكال – كلام – ما). وكلمة أو علامة (كلام) تضاهي إقليم العربية لفظا ومعنىً. وتعني تحديدا وطن الشخص. أما كلمة (كور) فتعني بلاد أجنبية.

* في حدود ذلك الزمن أو بعده بقليل ظهر اصطلاحان جغرافيان مهمان الأول هو (بلاد سومر وبالعلامات السومرية = كي – إن – جي) للقسم الجنوبي من السهل الرسوبي العراقي القديم والثاني هو (بلاد أكد وبالعلامات السومرية= كي – أوري) للقسم الأوسط من ذلك السهل.

*في الكتابات الأكدية السامية تكتب بلاد سومر (مات شومريم) ولا تعني هذه العبارة أية إحالات قومية إلى شعب أو عِرق محدد بل تعني حرفيا "أرض سيد القصب" أي أنها وصف للبيئة التي عاش فيها الناس في جنوب العراق المكتظ بالقصب والبردي والمستنقعات. أما العبارة التي ترجمها كريمر إلى السومريين أو الشعب السومري فهي " ساد دك" أي سود الرؤوس وهي تضاهي العبارة العربية "سواد الناس" أي عامة الناس وتلفظ باللغة الأكدية "صالمات قاقدم". وربما كانت هذه العبارة تضاهي من حيث المعنى عبارة في لهجات المغرب العربي هي "كُحل الروس/ أو الراس الكحلا" كما سمعتها في الجزائر الوسطى في ثمانينات القرن الماضي كصفة وتشير العبارة إلى الناس ذوي الأصل العربي أو إلى عامة الناس في مقابل المستعمرين الفرنسيين البيض السابقين. أما بلاد أكد فكانت في اللغة الأكدية تلفظ (مات آكاديم) أي بلاد الأكاديين بمعنى الناس الناطقين باللغة الأكدية.

* استعمل الملك سرجون الأكدي مؤسس السلالة الأكدية (2371 – 2316 ق. م) أو حفيده نرام سين (2291- 2255 ق.م) لقبا سياسيا جديدا هو ملك الجهات الأربع (بالعلامات السومرية = لوكال – أن – اوب – دال – ليمو –با) وفي الأكدية (شار – كبرات – أربايم) لاحظ كلمة (أربايم) التي تضاهي لفظا ومعنى كلمة (أربعة) العربية.

* وفي أوائل عصر سلالة أور الثالثة (2112 -2004 ق.م) وفي عهد الملك أوتو حيكال الذي حرر الإقليم من الاحتلال الكوتي ظهر اسم ملك بلاد سومر وأكد واستمر خلفاؤه في استعمال هذا اللقب إلى جانب لقب (ملك مدينة أور). وظل هذا اللقب مستعملا حتى عصور متأخرة.

* استُحْدِثَت أسماء أخرى في عصور لاحقة منها بلاد بابل (بابيلونيا) وبلاد آشور (أسيريا) ومن هذا الأخير سيشتق الغزاة السلوقيون اسم ولاية "سوريا" في القرن الرابع ق.م، ويطلقونه على أجزاء متجاورة شرق وغرب نهر الفرات. وابتكر الكيشيون الذين استولوا على الإقليم بعد سلالة بابل الأولى في منتصف القرن الثاني عشر ق.م، اسم (كار دونياش) أي " بلاد دونياش". ودونياش هو أحد الآلهة الكيشية.

* الكيشيون شعب جبلي لا علاقة له بالفرس ولا بالإغريق لغةً وأرومةً وثقافةً، وقد اجتاح بلاد الرافدين منطلقا من موطنه في جبال زاغاروس واستولى على بابل سنة 1551ق. م وأقام سلالة حكم اندمجت بالحضارة الرافدانية واتخذت لغتها وأديانها ثم هزمها العيلاميون فزالت من الوجود سنة 1155 ق.م في عهد ملكها الكيشي البابلي إنليل نادين أخي.

* وقد استعمل بعض المؤرخين والجغرافيين الإغريق والرومان وأولهم هيرودوتس اسم بابيلونيا واسم آسيريا أي بلاد آشور على الإقليم كله او على الجزء الأوسط والجنوبي منه. ونذكِّر بأن اسم (أسيريا) تحول في القرون اللاحقة وبالضبط في عهد الاحتلال الإغريقي السلوقي (307 ق.م) إلى اسم مقاطعة سوريا المحتلة كما أسلفنا والتي تقع في سوريا العربية الحالية والجزء الغربي من بلاد آشور (مات آشور) القديمة في العراق الحالي. كما استعملوا اسم بلاد كالدية أو كلدية نسبة إلى الكلدان الآراميين الذين حكموا بلاد الرافدين قبل انتهاء عصر الحضارات الرافدانية القديمة.

* بين القرنين الرابع والثاني قبل الميلاد ظهر كتابات اليونانيين والرومان المصطلح الجغرافي المعروف بلاد ما بين النهرين بالتسمية الإغريقية (ميزوبوتامية) وشاع استعماله عند الكتاب الأوروبيين لإطلاقه على هذه البلاد كلها أو بعضها. وأوضح استعمال لهذا المصطلح ورد في كتاب المؤرخ الروماني بوليبيوس (202 -120 ق.م) وبعده استعمله سترابون وأطلق الاسم على الجزء المحصور بين دجلة والفرات حتى حدود بغداد المعاصرة.

إن انتشار هذا المصطلح يعود إلى الترجمة السبعينية لتوراة إلى اللغة اليونانية في عهد البطالمة في القرن الثالث ق.م.

* لكن الإقليم الذي ورد ذكره في التوراة باسم "آرام نهاريم - سفر التكوين: 10-24" وتعني "بلاد ما بين النهرين" يرجح أن المقصود به تلك الأرض الوقعة بين نهر الفرات ورافده الخابور أو رافده البليخ أو كلا هاذين النهرين مع الفرات وليس البلاد كلها. ولكن، وبعد أن تم ترجمة هذا الاصطلاح الى اليونانية من التوراة السبعينية، شاع في اللغات الأوربية وصار يعني بلاد العراق القديم كلها.

* وقد وردت تسمية بابلية قريبة من التسمية التوراتية وأقدم منها بأكثر من الأف عام وهي (مات بريتم) أي "أرض المابين". كما ورد اسم "بريت نارام = بلاد مابين النهرين" واسم " نهارينا " الذي أطلق على المملكة الميتانية شمال بلاد الرافدين في تركيا المعاصرة في وثائق تل العمارنة بمصر والمكتوبة باللغة الأكدية في القرن الرابع عشر قبل الميلاد.

* وفي أواخر عهد الاحتلال الفارسي الساساني للعراق ساد اسم العراق عند العرب في العصر الجاهلي، وتكرس في أشعارهم. واقترن اسم العراق عندهم بالرخاء ووفرة الخيرات، إلى جانب أسماء من قبيل أرض السواد لخضرته ووفرة المزروعات وغابات النخيل فيه، واسم (عراق العرب) تمييزا له عن (عراق العجم) الذي يشمل / إقليم عيلام في جنوب إيران.

* صورة غلاف الطبعة الثانية من الكتاب وهناك طبعات مقرصنة منه طبعت بعد احتلال العراق من قبل دور نشر لم تحصل - كما قيل - على أي إذن من ورثة العلامة الراحل أو تمنحهم حقوقهم من عائدات الكتب! ولكن الطبعات اللاحقة التي صدرت في حياة العلامة باقر كانت أكثر تدقيقا ومزيدة كما قال هو نفسه في مقدمته لآخر طبعة من الكتاب وهي التي اعتمدتها كمرجع في كتابة هذه المقالة والمقالات الشبيه بها.

***

علاء اللامي

 

ولد خالد في بغداد عام 1926و يعتبر من ابرز النحاتين العراقيين الذين لازالت اعمالهم شاخصة في كثير ميادين بغداد وروما.

نشأ خالد في بيئة عائلة فقيرة وترعرع وتربى في ازقة بغداد القديمة، ومع شبابها الطليق المتمرد، وتذكر زوجته المغربية مليكة بان والديه كانا يتعاملان معه بقسوة وشدة حد الضرب، ولهذا كان يلتجأ الى الشارع لحماية نفسه ويعيش اشبه شئ بالمشرد. هذه البيئة الفقيرة والقاسية تركت بصماتها على نفسية خالد وسلوكه طيلة حياته. وتذكر مليكة انه كان حاد المزاج وعصبي جدا، فاذا ثار يحطم ويكسر كل شئ امامه، وكأن قساوة والديه وسوء تعاملهم معه، تظهر عليه بين الحين والاخر، ثم يهدئ ويعود الى وعيه ورشده الطبيعي.3706 خالد الرحال

في احد الايام زار الناقد والكاتب الالمعي جبرا ابراهيم جبرا ورشة خالد وكانت تقع في الحي التجاري في بغداد وكان يصنع فيها تماثيل يكلف بها من جهات رسمية وغير رسمية. فقال جبرا " (لن انسى ابدا كيف في احدى الامسيات في عام 1948، كان يبلغ من العمر 22 سنة وغير معروف اخذني الى غرفة صغيرة رثة في منزل صغير رث في احدى اقدم احياء بغداد، حيث جلسنا على عجل من امرنا على حصيرة، ثم اخرج مثل الساحر كومة من اجمل الرسومات، وكثير منها كانت دراسات نحتية. كانت في الغالب رسومات لنساء في الحمامات او الرقص الشرقي او ممارسة الحب (... ) كلها سمينة مليئة الجسد تهتز بقوة الحياة).

كان خالد قد درس في معهد الفنون الجميلة على يد جواد سليم وكان من احب التلاميذ اليه. وتخرج منه عام 1947. وكان قد عمل في المتحف العراقي لاستنساخ القطع الاثرية القديمة كغيره من الفنانين الرواد الذين اشتغلوا تحت اشراف مدير الاثار العامة ساطع الحصري في بداية النظام الملكي، وكان صاطع مؤسس الفكر القومي في العراق. ثم تغير وجاء من بعده مديرا للاثار ناجي الاصيل وكان خالد يعمل تحت اشرافه.. بعد ذلك حصل خالد على منحة دراسية في مطلع الستينات لدراسة النحت في اكاديمية روما، وحصل من هناك على الماجستير في النحت عام 1964.3707 خالد الرحال

حكى لي صديق (فنان سوري اسمه ممدوح قشلان ـ 1929 دمشق) قصة طريفة عن خالد، وكان قد درس الفن مع خالد وفي نفس الصف. فذكر لي انه في يوم من الايام كان عندهم درس نحت لموديل عاري وكانت المرأة تقف امام الطلبة عارية ويشكل الطلبه حولها نصف دائرة ويبدؤن بتجسيدها على مادة الطين او غيرها. وذكر انه في اثناء الدرس كان خالد بين فترة واخرى يذهب الى الموديل ويلمس صدرها ونهديها ليتحسس الحجم والطراوة.. فكان ذلك يثير الضحك واستغراب الجميع..حتى قال له الاستاذ، هذا العمل غير جائز تمسك صدرها ومؤخرتها. فنهاه وامتنع.

كان خالد رجل عملي (شعبي..) وكان كل شئ يقع في يده من مادة خام يطوعها وينحتها، وقد كلف بتنفيذ كثير من الاعمال النحتية في روما. ولكنه لم يتقن اللغة الايطالية كما ينبغي.. ويذكر انه في يوم من الايام كان مسافرا في قطار وكانت الى جانبه امرأة عجوز، فعندما وصلوا الى احد المحطات سألته المرأة العجوز، في اي محطة الان هم ؟ فاخرج خالد رأسه من النافذة ورأى قطعة مكتوب عليها عبارة، فقراها الى السيدة. فتعجبت ونظرت اليه باستنكار ثم اخذت حقيبتها وانتقلت الى مكان اخر؟ فادرك خالد ان هناك شئ غريب حدث؟، فالتفت الى احد الركاب وطلب منه قراءة الكتاب التي في تلك القطعة فقال له مكتوب عليها (ممنوع التدخين). فضحك خالد وعرف السبب من هروب السيدة الى مكان اخر..

وتذكر المصادر التاريخية بانه اثناء الحرب العالمية الثانية كان قد تواجد في بغداد ثلاثة من الفنانين البولونيين وكان لهم الاثر الكبير على الفن والفنانين العراقيين حيث غيروا دفت مسيرة الفن العراقي نحو المدارس الاوربية. وكان خالد واحد من الذين استقبلوا هؤلاء الفنانين وتأثر بهم.3708 خالد الرحال

اعمال خالد

عندما كان خالد يعمل في مديرية الاثار كان قد استنسخ رأس الملكة السومرية شبعاد وزينها بجواهر حلي الملكة التي عثر عليها في مقبرة اور. مما اتاح له هذا العمل دراسة الوجوه السومرية ومقارنتها بوجوه نساء الجنوب. فيقول خالد : ان بائعات اللبن هن استمرار لحياة الشعب السومري خاصة الحواجب الملتقية والعيون المفتوحة الحادة البصر. وكانت اغلب اعمال خالد مستوحات من تماثيل بابل واشور وكذلك الفن الاسلامي.

و بعد عودته من روما كان في زمن سقوط الملكية وقيام الجمهورية 1958 حيث قام بعمل تمثال الامومة في زمن عبد الكريم قاسم عام 1961. وفي زمن صدام كلف بعدد من الاعمال العملاقة ضمن الخطة التي وضعتها الحكومة لتزيين العاصمة بغداد والتي تتماشى مع الفكر القومي. ففي عام 1973 قام بعمل نصب المسيرة وتمثال المنصور عام 1976 وقوس النصر عام 1986 ونصب الجند المجهول عام 1979. وتقول مليكة زوجة خالد ان اكثر الاعمال التي اخذت منه وقتا طويلا هو الجندي المجهول حيث استعان بمعماريين ومصممين بعضهم اجانب. والنصب يمثل درع محارب ساقط. وترك خالد وصية ان يدفن قرب نصب الجندي المجهول، وفعلا نفذت الوصية ولازال القبر في ارض خضراء بسيطة محاط بسياج ارتفاعه 15 سم وهو مهمل..3709 خالد الرحال

وكان لخالد ولدا اسمه محمد وكان نحاتا ورساما، وحسب قول مليكة انه متقد الذكاء والمهارة اكثر من ابوه؟. ولكنه لم يعش طويلا فمات بعد ذلك..و انظم خالد الى جماعة بغداد عام 1953 وكان احد ابرز افرادها وصديقا حميما لجواد. وعندما سمع بموت استاذه وصديقه جواد حضر الجنازة قبل تشييعها واجهش بالبكاء، ثم اخرج مادة (خاصة جلبها من روما وقيل جبس) وغطى بها وجه جواد بهدوء واعتناء واخرج قالبا اصليا لشكل وجه جواد، اصبح اليوم مرجعا لجميع الفنانين والباحثين.

***

د. كاظم شمهود

موجة ضياء خافت تغمر المكان (المنزل) الذي يعود تاريخه إلى القرن التاسع عشر، تعيدك إلى عالم بلزاك الروائي الفرنسي توفي في آب/أغسطس 1850، الذي يضج بالنداء، بيت يجنبنا همّ الكلمات، ينسيك ثقل السنوات الصدئة، خصلات من الأشجار تظلل البيت المتواضع الذي يتصدى للنسمات المقبلة من (السين) أشهر أنهار العالم.

عناصر أليفة تتجاور فيه، تستمر في الحوار، نصغي‏ إليها بكل جوارحنا، إنصات هادئ حميم، سيجعلنا أقدر على فهم هذا التراث الذي يرتقي فيه الحب والاعتزاز بمنجز الخالدين، حد التنغيم اللوني في التشكيل، قطعة فنية مبسطة تحمل المتلقي نفسه على مشاهدة حرارة الحياة التي عاشها الكاتب، إنه ما يزال يطعم أزهاره المحيطة به بحنان، أليس هو القائل: إذا كان الجمال هو الذي يثير الحب، فالحنان هو الذي يصونه. كل الأشياء تصبح شواهد قوة، هذا وفاء للراحلين ما بعده وفاء.3677 بلزاك

غرف بتضادٍ لوني حاد، تماثيل نحتها فنانون كبار، كتب الروائي ومقتنياته، هدايا وأوراق وصولجان، مكتب من طاولة خشبية وكرسي تهفو النفوس الآن، إلى أن تجلس عليه لدقيقة واحدة، صندوق يمنحك بهجة جذلة، مكتبة صغيرة تشعرك بنكهة الكتابة، عطور تنثال من خفايا الماضي، وجه بلزاك الممتلئ الصارم، وشعره الكثيف المرسل بتفنن، يحدق فيك بعينين تلتمعان بزرقة شفافة، تحييها بسمة مكبوتة، كل الأشياء تصبح شواهد قوة، تغرينا بالتأمل في محاولات بلزاك السحرية لاقتناص أسرار العالم.

تندس حزيناً بين الزائرين، تفضحك أنفاسك التعبة فتتوارى في هذا الصمت، تعود لنبع الحنين، يا لقلبي! كل الدروب هنا لا تموت، إنها بلا نهايات، أعرني أيها الساكن هنا قلمك وأوراقك لأتوسدها، وحبرك لأشمّه، هاتني صولجانك لأطلّ به من نافذتك على تلك السحابات البيض الموشاة بأضواء الصباح، على متنها أروح إلى أودية الأحلام والسحر. أعرني أيها الطير جناحيك لأرفرف على ضفاف النهرين، إذ لا شيء سوى الأنقاض والوحشة.3678 بلزاك

منذ الخطوة الأولى على عتبة المنزل كان الرثاء الأول لمبدعينا في العراق، جميعهم من دون استثناء، أولئك الذين يجاوروننا بالحب والمعايشة الصافية، لِمَ نجافي هذا الجار ولا نصافيه؟ نختصم معه على الرأي الآخر، نقتسم معهم خبز المحبة سنين طويلة، فهم مشاريع كبيرة للحب والأمل والعطاء، تباريح فكرية وثقافية، كتابة وخلقا ونبلاً، ومواقف إنسانية، لا نحتفي بها إلا بالموت اللئيم، لنبدأ رحلة الإطراء بعد الرحيل.

صار على الأحياء أن يموتوا حتى يصبحوا أفذاذاً، وأن يمعنوا في الغياب حتى يتحولوا إلى عباقرة تجتمع في دفاتر أيامهم كل مآثر الرجال العظام.

هي أمنية أن نرى بيوتهم متاحف نعاودها بزهرة حب أو تحية وداد، أن نناديها من وراء أسوار حديقة. أفلا يحق لنا أن نشيّد رمزاً للمباهج العراقية الإبداعية العميقة؟ ونوفر الأسباب التي ترعى الحقوق، وتكفل الحد المناسب لحياة كريمة تحرر المبدع من الأسر الرسمي، بعيدا عن مزاجيات من ما زالوا يعيشون تحت خيام القبائل والطوائف.3679 بلزاك

العشرات، بل المئات من بيوت المبدعين اندرست، وتحولت إلى ركام ـ لا ضرورة لذكر الأسماء التي نعرفها جميعا، ترى من رأى منكم بويب، أو زار جيكور؟ من تجول في بصرياثا؟ يقيناً، القلة من يتذكر مقهى البرازيلية، ومقهى البلدية في بغداد– يا للحسرة أن تضيع الهيبة التي تمنح البلدان والشعوب مقامها على قدر احترامها لرموزها، ونسجت من ماضيها وحاضرها فضاءً لهواء التحضر والتقدم، وألفت ما بين فصوله، هل في إمكان الزمن أن يكون قادرا على إيقاف مواقف التأسيسات المكررة؟ لينقل المبدع إلى وجود الحياة في ولادة جديدة لا ينالها الزمن بنسيان، فشاهد المرمر البارد لا يعود برجع مؤثر، ولا يتحول إلى مزار مقروء بالمعاودة الحية.

***

د. جمال العتّابي

لقد شاع اعتقاد في القرن السادس عشر لدي النقاد وجمهور المثقفين بان النحت يتقدم على التصوير بثمانية درجات من ناحية الاداء الجمالي والجودة وضربوا مثلا، كالشجرة او الجسم معكوس ضله على صفحة الماء، فالجسم هو النحت والضل هو التصوير، ويعنون بالتصوير كونه ضلا لانه في الواقع مسطح له بعدين وان النحت  مجسم له ثلاثة ابعاد. غير انه هناك اراء مختلفة في الافضلية.. فدافنشي يعتقد ان التصوير اسمى من النحت لانه اكثر ذهنية وانه يفتح افاق واسعة امام الابتكار والخيال. اما مايكل انجلو فقال ان الاشياء ذات النهايات المتشابهة تتشابه هي نفسها وانه لا يمكن ان يكون هناك فرق بين النحت والتصوير فيما عدا تلك الفروق في العمل الاكثر صدقا واكثر اجتهادا.

نداء كاظم سار في اسلوبه على التقليد الواقعي التمثيلي. والمعروف ان الواقعية في الفن تنقسم الى قسمين الاولى الواقعية الحرفية والثانية الواقعية التمثيلية. وكل ما رأيناه في النحت والتصوير في العصور السابقة هو في حقيقته نموذج للاسلوبين الواقعي الحرفي  والواقعي  التمثيلي.. وعند التفحص والتأمل لاعمال نداء نجد ان هناك وعيا كاملا لمعرفة شخوصه التي نحتها من ناحية صفاتها الخارجية والنفسية الداخلية. وقد ساق كل اعماله الواقعية مساق التعبير عن واقعها النفسي والعاطفي. مثلا عندما نحت تمثال السياب في السبعينات اظهره بشخصية مهزوزة ومريضة جسمانيا.. ويذكر نداء انه كان تلميذا للسياب في مدرسة المعقل في البصرة ووصفه با نه كان يسير مرتعشا نتيجة لضعف بنيته الجسمية وانه عصبي المزاج، وكان يتكأ على عكازة اثناء المشي. وانه استوعب هذه الصفات وجسدها في تمثاله. من ناحية اخرى يذكر ندا انه كان احد تلاميذ جواد سليم قبل رحيله الى فلورنسا لعمل نصب الحرية، وانه يرى ان مواصفات تنفيذ النصب غير دقيقة مما احزن جواد. كما ان الجمهور لم يفهم في بداية الامر هذا النصب. ووصفه احدهم بالضفادع المعلقة على الجدار. هذه الامور وغيرها كانت من الاسباب التي احزنت جواد وعجلت في رحيله عام 1961.3664 نداء كاظم

الاسلوب والتقنية

كان نداء يخشى ان تسرق افكاره واعماله ولهذا كان حريصا ان لا يطلع عليها احد اثناء العمل. ولكن المتابع اليوم الى حركة الفن الحديث والعولمة ووسائل التواصل الاجتماعي، كل ذلك جعل من الصعب على اي فنان او مفكر او اديب ان يحبس افكاره داخل ورشته او نفسه، فكل شئ اليوم مخترق (ولو كنتم في بروج مشيدة فانكم مدركون).. هذا من ناحية. اما الاسلوب  الواقعي التمثيلي فهو اسلوب كان شائعا منذ العصور القديمة وظهر بارزا في زمن الثورة الروسية الاشتراكية عام 1917 وتأسيس المدرسة الاشتراكية في الفن.

نداء كاظم يعتبره البعض اخر المبدعين في فن النحت العراقي بعد جواد سليم وخالد الرحال ومحمد غني حكمت، حيث انجز اعمالا خالدة لشخصيات تاريخية ومعاصرة وهي الان تحتل كثير من ساحات المدن العراقية. ويقول نداء ان انجازاته النحتية هي عبارة عن تجارب تتابعية (مازال التجريب يستهويني ومازلت انجز كل اعمالي بنفسي) بمعنى ليس هناك من يساعده في تنفيذ اعماله كما يفعل بعض كبار الفنانين. وقد رأينا ان بعض النحاتين العالميين يقوم بعمل نحتي صغير (ماكيت) ثم يحيله الى ايدي اخرى تعمل على تكبيره كما هو عند الفنان الاسباني ادوارد جييدا.

يمتاز عمل نداء كاظم بالدقة والتأني والصبر الطويل في اداء تنفيذ اعماله ويمكن للشخصية  التي  تجلس امامه (الموديل) ان يتكرر جلوسها عدة مرات ولفترات طويله. وقد جلس امامه عدد من الشخصيات المعروفة مثل الشاعر الجواهري ومظفر النواب.3665 نداء كاظم

اعمال نداء

نداء انجز اعمالا كثيرة لشخصيات تاريخية ووطنية معروفة مثل تمثال الفراهيدي والسياب في البصرة وابو تمام في الموصل والمرأة العراقية في بغداد، وتمثال ابو جعفر المنصور في بغداد وتماثيل نصفية لشخصيات معروفة مثل الجواهري ومظفر النواب وعبد الملك نوري وغيرهم.. كما لديه مشاريع اخرى قيد التنفيذ مثل سلسلة التماثيل لعبد الكريم قاسم والجواهري وملحمة كلكامش وربطها مع نصب الحرية لجواد. وساهم نداء في تأسيس اول معمل لصهر وصب التماثيل بالبرونز عام 1970 وكان قبل هذا التاريخ  ينجز صب التماثيل خارج العراق. واشتغل نداء بخامات اخرى مثل الخشب غير انه كان حذرا منها لان الخطا فيها يكلفه الاعادة او تغيير ملامح التمثال ولهذا يرى ان لكل مادة خصائصها ويجب التعامل معها على هذا الاساس..

اما فكرة القوالب فقد ظهرت على يد النحات الفرنسي رودان وهو اول من استخدم القوالب في استنساخ النحت او تكراره. مما يجعل البعض يعيب فكرة القوالب حيث يعاد التمثال من قبل ايدي اخرى غير يدي الفنان.3666 نداء كاظم

السيرة الذاتية

ولد ندا في البصرة عام 1949 وتخرج من معهد الفنون الجميلة في بغداد عام 1965 ثم سافر الى روما  لدراسة النحت. كان احد جماعة المجددين التي ظهرت عام 1965 وكان اول معرض لها عام 1965 في قاعة المتحف الوطني كولبنكيان في بغداد. واتخذت هذه الجماعة طابع التحدي واستعمال جميع الخامات المتاحة في تنفيذ اعمالهم الفنية سواء من ناحية التصوير او النحت.. ويذكر نداء ان ورشته مملوءة بالتماثيل الطينية لشخصيات معروفة ولا يجد  احد يساعده في تنفيذها بمادة البرونز حيث ان ذلك يحتاج الى مبالغ مادية كبيرة، كما يذكر انه يحلم بانشاء متحف يضم جميع اعماله، ولو ان ذلك بعيد المنال.

***

د. كاظم شمهود

كتبت هذه المقالة في حوار شخصي مع الفنانة عشتار جميل حمودي في خريف العام 2002 في بيته بالعاصمة بغداد وهي جزء من كتاب عن تطور الفنون التشكيلية في العراق في القرن العشرين باللغة النرويجية قمت بتأليفه مع زوجتي آلا بوغدانوفا (ماجستير في تاريخ الفنون التشكيلية، أكاديمية الفنون الجميلة، سانت بطرسبورغ، روسيا 1983) .

Irakisk kunst – dannelsen av egne visjoner.

Kunstutviklingen i Irak i 20 århundre

Sanaa Mustafa & Alla Bogdanova

الفنانة الشهيرة عشتار جميل حمودي هي ابنة جميل حمودي الشهير. والدها هو أحد الفنانين الذين وقفوا إلى جانب تأسيس الأتجاهات الوطنية في الفن التشكيلي العراقي، والدتها فرنسية.

ولدت عشتار جميل حمودي في فرنسا سنة 1952 ودرست هناك. وكان من الطبيعي أن تتأثر بالانطباعيين وما بعد الانطباعيين. حللت نفسها: "يمكن العثور على الروح الأوروبية في أعمالي، ويقول الكثيرون إنه لا يزال من الممكن اكتشاف آثار ماتيس، ولكن مع الرموز الوطنية التي أدخلها، أبدو كفنانة عراقية حقيقية".179 عشتار حمودي

في تكوينها كفنانة، كانت النقطة المهمة هي أن والدها، جميل حمودي، كان معلمها الأساسي. وجه نواياها في الابتكار نحو الطابع الوطني العراقي وساعدها بنصائحه حول القيم الحقيقية في الفن. لهذا السبب بدأت بمواضيع مليئة بالحالة المزاجية العراقية

نجد الطابع الوطني العراقي يتكرر باستمرار في أعمالها. تقول عشتار: "حينما أبدأ العمل مع التشكيل، أفكر مليا في الموضوعات لفترة طويلة وأميل إلى الوقوف بلا حراك أمام قماش فارغ والاستماع إلى ذواتهم الداخلية. الصمت داخل روحي، أحب الهدوء والعزلة. عادة ما أحدق من خلال النافذة وكل الانطباعات التي أحصل عليهاعابرة مثل امرأة أو شجرة نخيل أو قط يعبر الشارع، أحتفظ بها في ذكرياتي. مع اقتراب فترة حضانة الأفكار من نهايتها، يأتي يوم أبدأ فيه الرسم والعمل دون تخطيط مصغر للوحة". غالبا ما توظف الفنانة عشتار في صورها ما هو معتاد في أي مزاج عراقي من الحزن والكآبة. موضوعها الدائم هو المرأة العراقية في المواقف المختلفة.

 ترمز لوحة رسمتها عن صورة السيدة العذراء مريم إلى معاناة وقوة المرأة العراقية. في الوقت نفسه، يرمز الشكل إلى روح الأمومة المقدسة باعتبارها واحدة من السمات المميزة للمرأة العراقية. "الموضوع الأخير الذي يهمني هو المرأة العراقية التي تكافح من أجل الخير والغبطة وسعادة الناس. ترتبط الأزهار بالشخصيات النسائية وتجد مكانا في أعمالي ". شخصياتها الانفرادية من الإناث والأطفال، مع باقات من الزهور أو الكتب، تحتل في الغالب مواقف هادئة. يبدو الأمر كما لو أن الوقت تحت فرشاتها قد توقف عن مساره، ولا وجود له وليس له قيمة. اللوحات الزيتية مثل "العراق، الترقب"، "على الشرفة" وغيرها مشبعة بمزاج، مليئة بالهدوء والانتظار. إن الشعور بحياة متناغمة، لم تمسها الحضارة، موجود في جميع إبداعاتها. يتم التأكيد على هذا المزاج من خلال حقيقة أن الأشكال الموجودة على اللوحات توضع في غرفة مضيئة من الخلف. غالبا ما يكون من السهولة في هذه الحالات ادخال المشاهدة التي يحتاج التكوين إليها.180 عشتار حمودي

 تمتلئ صورها برموز نموذجية للعراق الوطن الأم، مثل أشجار النخيل والمباني القديمة. "أشجار النخيل تمثل وطني الأم - العراق. النوافذ التي غالبا ما أضعها كأجزاء في مؤلفاتي، هي سلسلة من الشرفات العراقية التقليدية - الشناشيل.

التراث هو الاتجاه الذي أتبعه باستمرار مع هذه التفاصيل. بالإضافة إلى ذلك، تتميز أعمالي بسمة من سمات الهوية العراقية التي نسميها "الونين الداخلي" - وهي فرحة هادئة أعبر عنها باللوحة. ولكن مع وجود قوة حكيمة في لوحتي، عبرت عن المرونة والتفاؤل الموجود في الحياة على أي حال. لهذا السبب رسمت آلاف الصور للمساعدة في هذه العملية. وإظهار أنه على الرغم من الحصار المفروض على العراق، يواصل الفنانون العراقيون الإبداع".

 تتبع في فنها القيم التي أطلق عليها أسلافها، بمن فيهم والدها، اتجاه "العراقيات". "عندما أصور العراق، أصور زخارف من جميع أنحاء الوطن الأم. إنها ليست مجرد "بغداديات" التي يمكنك العثور عليها في أعمالي، فأنا آخذ الموضوع على نطاق أوسع بكثير في "اتجاه العراقيات" – تؤكدعلى ذلك الفنانة نفسها.

***

د. سناء عبد القادر مصطفى

نادى الفنان كلود مونيه لزميله بازل: حاول أن تجد لي مئة فرنك.. فأنا أكاد أتضور جوعاً. كان ذلك في خريف 1866 ومونيه، إذ ذاك في السادسة والعشرين، عندما قطع عنه والده البقال، كل معونة، كان من العسير عليه أن يجد مشترياً للوحاته، وأرهقه الدائنون بفواتيرهم، فهرب منهم إلى مرسم صديقه بازل، ومن فرط غضبه مزق معظم لوحاته حتى لا يراها تباع في المزاد، ولم يحتفظ منها بشيء سوى لوحة (شرفة سانت إدريس) نسبة إلى المنطقة التي عاش فيها في بيت خالته التي آوته في بيتها قرب مدينة (le haver) الفرنسية. بعد وفاة والدته وهو ما زال صبياً.

لوحة الشرفة عمل محكم مثير للاهتمام، خطوط عريضة حادة للأشياء، في تدرج لوني ساحر، يمثل مشهداً مطلاً على ساحل بحر، في الشرفة شقيقه، وخالته، بينما وقف خاله مع ابنته يتحادثان من بعيد، المشهد ينقل إحساساً بالهدوء وسحر الطبيعة، كما يظهر افتتان مونيه بالطبيعة والظل والضوء، وألوان القوس قزح، وكان للمياه والساحل الوعر لشمال فرنسا تأثير فني عميق عليه في سن مبكرة، وهو ملمح يكاد يطغى على معظم أعماله الفنية. إذ يعد كلود مونيه رائداً للحركة الانطباعية في أوروبا، بل إن الحركة أخذت اسمها عن لوحته الشهيرة (انطباع شروق الشمس) التي كانت تهدف لإشباع العين من الطبيعة بتسجيل الظاهر الحسي للأشياء، ليصبح بعدها من أهم فناني عصره.3612 كلود مونيه

رسم الانطباعيون الجمال الفخم، ومشاهد الحياة الرغدة للطبقة الوسطى في أوروبا، وصوروا مشاهد من حفلات الرقص، والقصور والحدائق، ومشاهد داخلية للمنازل الأنيقة، فكانت لوحاتهم فاتنة جذابة يسهل فهمها دون حاجة إلى ثقافة فنية أو ذوق خاص، كانت ببساطة مرادفة للجمال والبذخ الحسي. مضى مونيه يناشد زميله بازل: أني أبيع هذه اللوحة، أبيع كل أسرتي، اشتدت الضائقة الماليه عليه، وفجأة يدخل عليه بازل ذات يوم هاتفاً: فرجت لقد بيعت لوحتك..

– بكم؟

– 400 فرنك (نحو 14 جنيهاً استرلينياً في ذلك الوقت).

– برافو.. إنها ثروة!

هكذا خاطب مونيه صديقه، وابتسامة الفرح تعلو شفتيه.

لم تنته قصة اللوحة عند هذا الحد، إذ هي سلسلة من المفارقات التي رافقتها، منذ أن ظلت معلقة لمدة نصف قرن من الزمان، في منزل مشتريها في مدينة مونبليه الفرنسية، حتى وفاته عام 1913، فباعتها الزوجة لتاجر لوحات بمبلغ 27000 فرنك، وبدوره نقلها إلى مكتبه في نيويورك، محتفظاً بها لمدة 12 عاماً، وفي عام 1926، وهي السنة التي توفي فيها مونيه، اشتراها آخر من ولاية بنسلفانيا بمبلغ 11 ألف دولار، وظلت اللوحة مختفية في قرية لحين نقلها إلى مزاد في لندن عام 1967، فبيعت بمبلغ 700 مليون فرنك، وأصبحت بذلك تحتل المرتبة الخامسة بين اللوحات العالمية.

***

د. جمال العتابي

سأبدأ هذه المقالة الخفيفة بهذا التوضيح ذي الطابع الشخصي لعلاقته بما سوف يرد في هذا النص  وبنصوص أخرى شبيهة به نُشرت أو ستنشر مستقبلا: لا أزعم، ولم أزعم يوما في جميع كتاباتي أنني باحث أنثروبولوجي "إناسي" أو أركيولوجي "آثاري" أو متخصص في علوم الأديان واللغات والحضارات القديمة بل مجرد كاتب وإعلامي يهتم بهذه المجالات العلمية في إطار "الإعلام التخصصي" الشائع في الثقافات الأجنبية، حيث نجد العديد من الإعلاميين المتخصصين بالعلوم التخصصية التجريبية والإنسانية وبالرياضات البدنية او الذهنية من دون أن يكونوا باحثين متخصصين أو رياضيين بل هم بكل تواضع إعلاميون ومحللون يناقشون أبحاث ودراسات الباحثين. هذا النوع من الإعلام العلمي التخصصي ليس له وجود واضح في الثقافة العربية وهو ما جعل كل من هبَّ ودب وقرأ كتابا أو كتابين في التاريخ القديم يفتي ويفصل ويقرر ويؤلف الكشاكيل تلو الكشاكيل في هذه العلوم المعقدة والدقيقة!

إنني لا أنفي كوني باحثاً متخصصاً من باب التواضع الزائف أو خوفاً من نقد علمي رصين متوقع أرحب به أشد الترحيب، بل لسبب موضوعي هو أن صفة الباحث الأكاديمي المتخصص في الأنثروبولوجيا "الإناسة" أو الإركيولوجيا "علم الآثار" أو في علوم الأديان والأساطير واللغات والحضارات القديمة أو أحدها تتطلب عددا من المؤهلات من أهمها:

1- معرفة لغة أو لغتين قديمتين وخصوصاً الأكادية القديمة والسومرية على الأقل.

2- تجربة فعلية في التنقيب الآثاري الفعلي لعدة سنوات معززة بإنجازات حقلية موثقة.

3- دراسة أكاديمية تخصصية معززة بشهادة من جامعة معترف بها في الميدان المعني.

إضافة إلى شروط لازمة أخرى منها حيازة الباحث لثقافة عامة واسعة، ولغة تأليف سليمة نحوا وصرفا وأسلوبا، والأمانة والدقة في النقل والاقتباس عن الآخرين، والتواضع والصرامة في البحث والتحقيق والتحليل، الصبر والتأني والحذر البحثي والإخلاص للحقيقة وللحقيقة فقط.

ولهذا لا أريد أن أدرج نفسي أو يدرجني محب متسرع أو كارهٍ متربص في خانة الباحثين أو الأكاديميين المتخصصين إنما يشرفني أن أكون كاتباً وإعلامياً مهتماً بهذه العلوم، أعتز بمساهمتي المتواضعة - ذات المنحى التعريفي والتوضيحي التثقيفي لجيل الشباب والقراء غير المتخصصين - التي أنجزتها، متتلمذاً دائماً على تراث وإنجازات كبار المعلمين من أمثال طه باقر وفؤاد سفر وبهنام أبو الصوف وراجحة النعيمي وفاضل عبد الواحد ونائل حنون وخالد إسماعيل وغيرهم، إضافة إلى الباحثين والمستشرقين الأجانب المنصفين الموضوعيين المخلصين للعلم واشتراطاته، ويبقى الحكم على ما كتبتُ في الدراسات والكتب القليلة الصادرة للمنهج العلمي وحده وليس لأمزجة الكُتاب أيا كانوا فليرد علي من تناولت كتاباتهم بنقدي وليحاولوا تفنيد ودحض ما كتبتُ ولا يكتفون بممارسة سياسة النعامة التي تدفن رأسها في الرمال حتى لا ترى الخطر الذي يتهددها!

عوداً إلى عنوان موضوعنا فأقول؛ إن بلاد الرافدين أو بالاسم الأكدي "ما بين النهرين/ أرض الما بين – مات بريتم" أو بالاسم اليوناني الذي ظهر بعد أكثر من ألف عام (ميزوبوتاميا/ مترجمة عن التوراتية: آرام نهارايم) لا تعني العراق فقط! إنَّ العراق الحالي بحدوده السياسية الراهنة هو جزء من وداي الرافدين، وهو قلب هذا الوادي ولكنه ليس كل وادي الرافدين، ولأنه يمثل قلب الوادي فقد دأب الناس قديما وحديثا على أن يخصوا العراق باسم بلاد الرافدين المرادفة لبلاد ما بين النهرين والتي ترجمت لاحقا الى اليونانية وشاعت في الغرب بلفظ "ميزوبوتاميا".

إن هذا الوادي والإقليم الجغرافي الحضاري، يمتد كما هو معروف من منابع دجلة والفرات شمالا وحتى مصبهما عبر شط العرب في الخليج العربي جنوبا (بل ويمتد حتى سلطنة عمان كما تؤكد المكتشفات الآثارية الجديدة التي تحدث عنها الباحث العراقي نائل حنون مؤخرا). أما هل تشكل حضارة وادي الرافدين حضارة واحدة منسجمة أو عدة حضارات متداخلة، فهذا أمر آخر ينطوي على سؤال مهم ومنتج سنؤجل البحث التفصيلي فيه إلى مناسبة أخرى.

وعلى ذلك، فمواقع الحضارة الرافدانية ومدنها القديمة لا توجد في العراق الحالي فقط، بل أينما وجدت هذه المواقع والمدن والآثار والمدونات باللغات الرافدانية القديمة بالخط والعلامات المسمارية على امتداد ضفاف النهرين الكبيرين وروافدهما في هذا الوادي، أما حدود سايكس بيكو التي رسمها الغرب لدول المنطقة المعاصرة تقع أجزاء منها في وادي الرافدين ولا علاقة لهذه الحدود بعلوم الإناسة والآثار وعلوم التاريخ القديم بل هي حدود سياسية رسمية وليست حدود بين حضارات منفصلة ومستقلة. وسيكون من المضحك أن يتعارك رواد الفيسبوك - كما حدث قبل أيام على إحدى الصفحات حول تبعية مدن مثل ماري وكركميش وشُباط إنليل القديمة وهل هي سورية أم عراقية أم تركية! ومثل ذلك يقال عن الاتهامات التي وجهت الى الباحث حنون لأنه قال إن الأدلة الإركيولوجية تؤكد أن الكتابة التصويرية (السابقة للكتابة بالعلامات المسمارية) ولدت في منطقة الجرف الأحمر على نهر الفرات ضمن حدود الدولة السورية المعاصرة فسارع بعض الجهلة بديالكتيك العلاقات بين الكيانات الجغرافية والأخرى الحضارية إلى اتهام الرجل بأنه "قومجي" يريد التضحية بعراقية ابتكار الكتابة لمصلحة دولة عربية هي سوريا التي يقع فيها موقع الجرف الأحمر الأثري! والحقيقة هي أن الجرف الأحمر ومدينة ماري الأثرية صعودا حتى آثار مدينتي كركميش وكورح التي عثر فيها على مسلة المسلك الآشوري شلمانصر الثالث ونزولا حتى أور ولجش جنوبا تقع كلها في وادي الرافدين، ولكن في أكثر من دولة حديثة، وإن عمرَ هذه المواقع سابق لأسماء وكيانات وحدود تركيا وسوريا والعراق بآلاف السنوات!

أعتقد أن الدقيق علمياً هو القول إنها مدن رافدانية تقع في هذه الدول المعاصرة رغم أن العراق يمثل قلب هذا الوادي، فنقول مثلا (كركميش وكورح مدينتان رافدانيتان تقعان في تركيا الحالية، وماري وشُباط إنليل مدينتان رافدانيتان تقعان في سوريا الحالية وبابل وأور مدينتان رافدانيتان تقعان في العراق الحالي). بلاد الرافدين تستمد اسمها من الواقع الجغرافي "الكيانية الجغرافية"، التي صارت لاحقا كيانية حضارية اسمها حضارة بلاد الرافدين، وهي حضارة منقرضة وموضوع للدراسات والبحوث العلمية، ولكنها لم تكن قط كيانية قومية لغوية ثابتة وصافية. ثم إنها بدأت كيانية جغرافية صغيرة وتعني الأرض الواقعة بين نهري البليخ والفرات أو الخابور والفرات أو بين الفرات وهذين الرافدين الصّابين فيه.

 هذه هي نواة مشروع كتابي القادم والذي سأحاول فيه تفكيك هذه النزعات والعصبويات القطرية الفارغة والمتشنجة والناتجة عن الأوهام التي زرعها وغذّاها المستشرقون الغربيون وتلامذتهم الببغاوات العرب!

***

علاء اللامي

كتبت هذه المقالة في حوار شخصي مع الفنان الراحل جميل حمودي في خريف العام 2002 في بيته بالعاصمة بغداد وهي جزء من كتاب عن تطور الفنون التشكيلية في العراق في القرن العشرين باللغة النرويجية قمت بتأليفه مع زوجتي آلا بوغدانوفا (ماجستير في تاريخ الفنون التشكيلية، أكاديمية الفنون الجميلة، سانت بطرسبورغ، روسيا 1983).

Irakisk kunst – dannelsen av egne visjoner.

Kunstutviklingen i Irak i 20 århundre

Sanaa Mustafa  & Alla Bogdanova

في زيارتنا إلى بغداد، كان من حسن حظنا أن نلتقي بأحد أساطين  الفن  التشكيلي العراقي، جميل حمودي. كان يبلغ من العمر حوالي 80 عاما وحتى ذلك الحين كان جالس على كرسي متحرك ساعدته في دفعه ابنته الفنانة عشتار التي سوف نتحدث عنها في حلقة قادمة. ولكن على الرغم من المرض، يمكن للانسان المقابل له أن يشعر بقوة وجهه الروحية وحدة نظراته اثناء المحادثة التي أجريناها معه. كما أعرب جميل حمودي  عن سعادته  حيث قال: " إنه يقدر كثيرا نشر الفن العراقي في الدول الاسكندنافية ". 176 جميل حمودي

 يروي جميل حمودي: "شاركت في تطوير الفن  التشكيلي في العراق منذ العام 1932، وعشت جميع مراحل الفن العراقي. كان العمل مع الزملاء في إنشاء الفن العراقي مثل جواد سليم وعطا صبري وحافظ الدروبي وعيسى حنا غنيا بالأفكار الإبداعية المحفزة. كنت أول من حول الخط العربي إلى فن حديث بارز".  جميل حمودي هو شخصية بارزة بين المثقفين العراقيين الذين استوعبوا الكثير من أفكار ومصطلحات التكعيبية الفرنسية في أعماله. كان أول ظهور له في أوائل  الأربعينيات كنحات.  قام في أعماله  بخلط مواد مختلفة: الجص والحجر والخشب والمعادن والبرونز والزجاج والرخام والبلاستيك والسيراميك. وفي الوقت نفسه بدأ  بإصدار مجلة "الفكر الحديث"  في العام 1945. نشر في مجلة الفكر الحديث مقالات عن أندريه جيد وفاليري وكوكتو وهنري مور وبرنارد شو وسارويان، بهدف توجيه العراقيين نحو الفن والثقافة الأوروبية. درس في باريس وعاش هناك من العام 1947 إلى العام 1965، وقد استوحى الكثير من أفكاره من الفنانين الفرنسيين والمجتمع الفكري الفرنسي بأكمله.

بادئ ذي بدء، انجذب إلى السريالية، وكان السريالي الوحيد في العراق في  أربعينيات القرن العشرين. ولكنه عندما تعرف عن قرب على مجموعة أندريه بريتون، اكتشف أن السريالية، مع ميلها إلى التدمير النفسي، لم ترضيه. "أعمالهم لها مزاج شيطاني يمتص اليأس والاكتئاب ويعبر عن شعور قاتم بحدوث كارثة ". هذه الأنواع من الافكار كانت بالضد مم معتقداتي. وهكذا حدث الفراق  معهم كما حدثنا به جميل حمودي عن ذكرياته مع السرياليين.

كتب  بول بالتا كاتب سيرة جميل حمودي، "هذا الفراق لم يوقف سعيه وحبه للاكتشاف". هناك، في باريس، تعرف على التكعيبيين سارتر وغابرييل مارسيل وماتيس وبيكاسو وسيزار الذين كانوا أعضاء في جمعية مدرسة الفنون الجميلة. كان للتكعيبية تأثير كبير عليه وتقبل تبسيطها للشكل.

ساعدته هذه الاتصالات المستمرة مع الفن المعاصر في باريس على قطع أساليب العمل المثالية. في الوقت نفسه، كان مفتونا بشدة بالفن الشرقي وألوانه الرائعة والخط المقدس للكتاب المقدس. وروى حمودي أن فنان المنمنمات يحيى الواسطي (القرن 13) وأساليبه اللونية أثارت إعجابه وأثارت حماسه. "في منمنمات يحيى الواسطي، يجد المرء الحرية والدقة في الخطوط التي توفر حيوية لا تصدق". هذه المنمنمات هي مصدر إلهام للخط في أعمال حمودي. وصف البروفيسور ريمون باير من جامعة السوربون في باريس انطباعاته عن أعمال جميل حمودي في أربعينيات القرن العشرين: "إنه يختار تدرجات الألوان مع الحدس والمعرفة، ويخلق رفقة مناسبة تجذب البصر وتسمح لأعيننا بالعثور على نقطة دعم تلامس المشاعر التي نضمرها في أعماق أرواحنا". بحث حمودي عن الإيقاعات الصحيحة ووجدها في الإيقاعات المتكررة للشعر والموسيقى العربية، وفي الحركات الدائرية للرقص الصوفي. المزاج التوافقي الموجود في الرقص والأغنية الصوفية يوحون له بتناغمات وأشكال خاصة به. 

يحول جميل حمودي أشكاله الرمزية إلى أنماط زخرفية بعناصر من السمات التكعيبية: "الخط العربي"، "الحروف باللون الأزرق". واحدى التراكيب والتشكيلات  الأخيرة هي آية من القرآن الكريم. تشكل حروف الآية نمطا إيقاعيا ومتناسقا بأشكال تكعيبية هندسية: دائرة ومثلث وقوس. يضع الفنان رمزية عميقة في هذه الأشكال. ترمز الدائرة إلى الشمس والوجود والحياة والتوحيد. المفصل الذهبي يرمز إلى الإنسانية. يشير المثلث إلى كل من الأروقة والأبدية التي تمثلها الأهرامات ويضيف مزاجا شرقيا. كشف أسراره عندما أوضح: "يبدأ الجمهور الذي ينظر إلى أعمالي في البحث عن معنى أدبي ولكنه يجد رمزية الصوفية. يتوقعون الرومانسية، لكنهم يكتشفون التأمل.  ان فني هو شكل من أشكال الصلاة والعبادة". كان أول من استعاد الخط العربي بتنسيق أكبر ووضعه مع ميزات تكعيبية. فتح جميل حمودي أعماله للفلسفة الإسلامية بالرمزية والزخرفة والأساليب المصغرة. استكشف الإمكانات الرسومية والتجريدية للخط  العربي وحوله إلى شكل فني، مما ساهم في حقيقة أن الحروف العربية أصبحت في كثير من الأحيان جزءا عضويا من الأعمال الفنية ولهذا يعتبر جميل حمودي الحروفي الأول في الوطن العربي والذي أدخل الحرف العربي في أعماله التشكيلية.

***

د. سناء عبد القادر مصطفى

شواغل نظرية وجمالية تثير الاسئلة

الكتب القليلة التي بين يديه في سني الصبا لم تمنحه أكثر من مفتاح صغير للدخول إلى العصر، كان أول فنان التقاه هو (موندريان)، ولكن بضع عبارات من كتاب (كاندنسكي) (الروحي في الفن) منحته القدرة على التفكير  وطرح الأسئلة : ما التجريد؟؟

هذا السؤال ظل يشغل الفنان مهدي مطشر المولود في بابل  1943 كلما وقف على أبواب مدن العالم، ينصت إلى الأصوات الآتية من الماضي فلم يفلح في استرجاع صوت (الهاون)، بل يداهمه ضجيج الآلات، ودويّ المركبات، ثم يبدأ من جديد يعيد صياغة الأسئلة ويبحث عن أجوبة مقنعة لها.170 مهدي مطشر

غادر مهدي العراق عام 1967، واستقر في باريس، بعد أن أكمل دراسته في أكاديمية الفنون، وتأثر بأستاذه شاكر حسن آل سعيد في تأملاته الصوفية، وكشوفاته في البعد الواحد، في فرنسا تعرف عن كثب على الأشكال الفنية التبسيطية، بما في ذلك التجريد الهندسي، وكان مطشر قد بدأ محاولاته الاولى في فن (الأوب الآرت)، وعرض أعماله في بغداد، بغية بلوغ لغة بصرية شخصية أثارت جدلاً واسعاً وقتذاك بين نقاد الفن التشكيلي والجمهور المتلقي حول جدوى ومعنى هذا الفن، اذ تجرأ الفنان هاشم سمرجي أن يسبق الآخرين في تجربته الفنية، فكانت مثل الصدمة البصرية التي أنجزها في هذا الفن.

بدايات طفولة مطشر الأولى حين كانت الأيادي تحفر في الطين والتراب طرق سيارات وهمية لنقل الراكبين بين محطات خيالية، الخطوط المحفورة تزداد عمقاً كلما انحسرت أشعة الشمس رويداً رويداً عن عالم القرية، فتبدو الخطوط كما لو كانت نحتاً بارزاً، يجسد انشغالات مهدي مطشر الطفولية غير الواقعية، تلك هي الصورة الأولى للرؤية، والمحاولة في البحث عن عالم بديل للعالم الطبيعي ولظاهراته المختلفة.171 مهدي مطشر

غير أن أفق القرية الصغير سيتسع كثيراً كلما تقدّم الزمن حتى يصل المدينة ويلتحم بها، ولكن صورة الأبواب والحصر والبسط، وترتيلات قرّاء القرآن، ستظل كامنة في أعماق لاوعي الفنان مطشر أمداً طويلاً، حتى تستيقظ في زحمة الحياة الباريسية فتدفعه من جديد لتأمل الوطن من بعيد. 

كان لمطشر نصيب أن يقتفي أثر سابقيه، بقدر واسع من الجرأة والشجاعة والتفرد ليخوض أولى تجاربه بأسلوب مغاير وحديث متأثراً في مايعرف بفن (الاوب آرت op art) اختصاراً للفن البصري (optical art)، وهي حركة فنية برزت في ستينات القرن العشرين اعتمدت الأوهام الفيزيائية البصرية لتخدع عين المشاهد، وتستكشف الوسائل التي يمكن أن تحفّز الاشكال التجريدية بصر المتلقي، يعد هذا اللون شكلاً  للفن الحركي، اذ يعبّر عن التصاميم  الهندسية التي تخلق مشاعر الحركة والاهتزاز.

أو امتداداً للتجريد الهندسي، الا انه يركّز على خلق حالة الوهم والادراك الحسّي، يرجح انتسابه لفنون أكثر قدماً مثل trompe i'oeil اي خداع العين، وهو غالباً له علاقة بالتحليل النفسي في تأثير الصورة التي لا يبدو موضوعها واضحاً الا عندما ترى من زاوية مائلة.173 مهدي مطشر

منذ نهايات العقد السادس من القرن المنصرم، وجد مهدي مطشر في عمله الفني قضية فكرية طرحت نفسها ضمن التقنية والبحث في الشكل، اذ تبلورت لديه مفاهيم جديدة ازاء اللوحة في تجربة أساسها وحدات  بنائية يكون الفضاء والملامح الهندسية هي العناصر المكونة لانضاج الشكل العام لديه، ان معالجته الفنية تخضع لعين الزاوية الرياضية في بنائها الهندسي.

ومع سحر هذا العالم ستظل البداية معلقة برؤية أول  كتاب مصور عن الفنان (بول كليه)، وستحيا على خطوط رسومه الشاعرية، خطوط المحاريث في أرض قريته السمراء، وستستيقظ ألوان الفجر بكل انعكاساته وليونتها المائية العذبة، وهكذا رحل من هناك على شراع سندباد يفتش عن كنز يعرف أوصافه ثم ضاع.

الثابت ان بدايات (الاوب ارت) حافظت على ثنائية الاسود والابيض، ولم يلق قبولاً واسعاً لدى النقاد، فلا جديد فيه سوى تحويل القيمة الفنية نحو التجربة الادراكية، كما لم يجد أفقاً واسعاً نحو الانتشار إلا بعد انتباه عالم الإشهار والإعلان الى جمالياته.174 مهدي مطشر

هذه اليقظة التي غالباً ما يعبر عنها مطشر في أكثر من مناسبة في مرحلة لاحقة من تجاربه الفنية حين اخذ بأسلوبه نحو فن آخر  لا علاقة له بالأوب آرت، هو فن (الأرابيسك)، الذي يعرف بفن التزويق والنقوش أو الزخرفة العربية الاسلامية، ليشكل أنماطاً خطّية إيقاعية ونماذج هندسية معقّدة، تعود أصولها  إلى أكثر من ألف عام في فترة امتزاج الحضارة العربية مع حضارات الشعوب الاخرى، وكانت الريادة تعود للاندلسيين في هذا الفن، لذا يقول مهدي مطشر أن فنه يمثل برزخاً صوفياً متوسطاً بين الفن الاسلامي والتيارات الغربية الهندسية المعاصرة، واهتم بالعمارة لأنها تمثل خصوصية الثقافة الاسلامية، وأعاد صياغتها بلغة معاصرة بوصفها ضرورة وشرط لبناء وعي جديد بالنمو الحضري.

هذا التحول يأتي استجابة لمتطلبات تسويقية وذوقية وجمالية تجد لها جمهورها الواسع في معارض الغرب والخليج، مم أهّل مطشر للفوز بجائزة رفيعة عام 2019 في دبي، المخصصة لتكريم الفنانين والمصممين الذين يستلهمون فنون التصميم الاسلامي وثقافته البصرية، تعرف بـ (جائزة جميل للفن الاسلامي) التي شهدت مشاركات واسعة للفنانين من مختلف أنحاء العالم.

يكتشف مهدي عالمه البديل: عالم الأرقام والمعادلات الرياضية والنظريات الهندسية، في مقابل أن تختفي طرق السيارات الحلمية، والسواقي، وخطوط المحاريث، وصور القرية. يذهب الى الزوايا والطيّات والفجوات، والأطر والستائر، فهو كما يرى أحد النقاد معني بالفراغ أكثر منه بالإمتلاء، أعماله تفصح عن مزايا غير   متوقعة للفضاء المحيط،  تدل على جهد  فكري يجد له سبباً في النظرة ذات (البعد الواحد) للوحة الفنية.3346 مهدي مطشر

في مرحلة مبكرة من الدراسة فكّر مهدي بعبارة (السراط المستقيم)، ودفعه التفكير في البحث عن واقعية العبارة، ووجد أن نوعاً من الألفة والتعاطف غير المفسّر  مع ذلك الخط المستقيم، قد تمّتا  في نفسه حتى أصبح حباً، وفي مرحلة تالية كان ما يزال يتذكر تلك النشوة السحرية التي امتلكت حواسّه كلما رسم شكلاً هندسياً، أو مارس اثبات نظرية أو حل معادلة.

مطشر في سعي دائم لتطوير أساليبه، فوجد ان (المينيمالزم) الأقرب لأفكاره، وهو فن الاستمتاع بالفراغ والتبسيط في عناصر العمل الفني، في احدى المعارض تصدر واجهة المدخل لوحة من حرفين يمثلان الضمير (هو)، وتعني الآخر، ومنها الهوية، (هو) ذاك الذي يعكس صورتي ويشهد على انسانيتي، واذا تجاوزنا المعاني اللغوية للكلمة، فانها تعني الذات الالهية عند الصوفيين.

تتكشف في أعمال مطشر ريادته حول وحدة العمارة مع الفن التشكيلي، وذلك بتصميمه العناصر البصرية بناء على الشروط الفراغية والجدارية، ونسب الفراغ والامتلاء في صالة العرض. اعتمد المسافات السومرية وطورها بتكنيكه الخاص، وغالباً ماتنفذ أو تعرض كل أعماله بأسلوب (الأنستليشن). أو ما يعرف بفن التركيب الذي يقوم على صناعة اشكال مجسمة ذات أبعاد ثلاثية، يقتبس من فن النحت طابعه التصويري، ومن فن البناء قواعده الهندسية.

***

د. جمال العتّابي

عَبوساً لمن قد جاء في غيرِ ضاحكٍ

وهلْ وجهُ رضوانَ كسحنة ِ مالكِ

محي الدين بن عربي

ثمة تحد خاضه الفنان العراقي علي رضا سعيد من خلال معرضه الاخير (بورتريهات) على قاعة الاور فلي في عمان الأردن معتمدا على التخطيطات بقلم الرصاص الاسود والابيض على الورق دون سواها من الأعمال. وتعد مجازفة حقيقية ولكنها واعية ومدركة لما تقوم به وخاصة أن المعرض احتوى على مئة تخطيط لمختلف الشخصيات العراقية والعربية المهمة التي تركت أثرها الإبداعي في المشهد الثقافي. نادرا ما نجد معرضا فنيا تشكيليا لم يحتو الا على تخطيطات بقلم الرصاص وعلى الورق كفن بورتريه فغالباً ما نجد المعارض عموما أما تكون لوحات ملونة أو أعمال نحت لوجوه الشخصيات: اما علي رضا أراد أن يخالف السائد والمعتاد لهذه المعارض التي اعتدنا عليها بهذا الفن الجميل كأنه يوثق شهاداته عن هذه الشخصيات التي تركت بصمتها وسيرها في ذاكرة الابداع العراقي وكأنه أراد القول إننا اليوم نحتفي بكم ايها المبدعون الذين صنعتم الحضارة ونحن سنكمل مسيرتها هذا من ناحية القراءة الظاهراتية للمعرض والشخصيات.3276 علي رضا سعيد

في حقيقية الأمر أن الفنان علي رضا أطلق صرخة مدوية من خلال معرضه الاخير وربما تحمل رسالة عتب على التاريخ والناس الذين فرطوا بمبدعيهم الذين تركوهم في الشتات وهم أنكروا عطائهم ومنجزهم بل اقصوهم عنوة لغايات ايدلوجية أو جهل أو ثأرا .

ما يميز علي سعيد في رسم البورتريه هو إختيار الشخصية بعناية وقد لا يختلف عليها اثنان برؤية المثقف الذي يعي من هي الشخصية المجسدة على سطح بياض ورقته.

وما يلفت الإنتباه للشخوص والأعمال المصورة من خلال محاورتها والاحتفاء بها ؛ فأعطاها بريقها من خلال تقنية الضوء والظل واقتناص اللحظة الزمنية لحركة الوجه والعينين وتعابيرهما إضافة إلى حركة الرأس والشعر والجبهة والصدر والملبس والاكسسوارات فكل علامة من علامات الجسد أعطاها ديناميكية التعبير والغرض من المنشأ .3277 علي رضا سعيد

شخصيات ووجوه علي سعيد بدت في سحناتها وحضورها ذات الصفات الإنسانية من الوقار والهيبة وتحمل حكاية وسيرة تجبل المشاهد للبحث عن ماهية وكينونة هذه الشخصية وهنا تكمن رسالة الفنان الثقافية والإنسانية واعترافا منه بالجميل لما تركوه من منجز أضاف إلى تأريخ وحضارة العراق إشراقا ونصاعة ومجدا.

أن تكثيف الضوء وشدته وتسليطه على أماكن معينة ويناقضها اللون الأسود وتدرجات الظل فهو بمثابة رؤية الفنان لقيمة الشخصية وأهميتها وبعدها الزمكاني وقوة الوشاىج التي تربطه بها من علاقات امتدت لسنين طويلة.

مما لا شك فيه أن الحدة في السواد وشفافية اللون الأبيض وتدرجات الظل والهرمونية التي اتسقت بين كل هذه العناصر تعطي حوارا قد عقده علي رضا سعيد مع هذه الشخصيات وكانه كان يحاورها ويستعيد ذكرياته معها ويذكرها بالماضي الجميل أو يشكي لها لما ألم بالوطن ولكن ثمة شعاع وبريق تلحظه من خلال النص البصري المجسد يعطي للمشاهد بارقة أمل.3278 علي رضا سعيد

الفنان هنا من خلال توظيفه للشخصيات ومن خلال حواره معها أراد التأكيد على أن مهما عصفت بنا المدلهمات واشتدت الصعاب فلا خوف على العراق لانكم اي مبدعي العراق انتم من سينقذ الوطن وأنتم هوية العراق.

أن معرض السعيد هو رسالة حب وعرفان منه لمئة شخصية ثقافية عراقية وعربية وليس هذه نهاية المطاف لكنها محاولة من شخصه ليستذكرهم بمبادرة شخصية فتلاحظ على النصوص البصرية سيمياء المحبة ودلالتها مع كل خط من خطوط قلمه وخاصة وضعها وعرضها على شكل ألبومات جماعية.

***

رياض ابراهيم الدليمي

في مرسمها، الدهشة تقتاد العقل محفوفا بمشاعر واحاسيس تتراقص مثل عصافير الصبح في بستان يبذخ فاكهة ناضجة... في مرسمها تلبس الأفكار والرؤى الوانا مائية في الصيف، وفي الشتاء تلتحف الوانا زيتية، اعمالها تتمخض فيها ثلاثة ارحام قبل ولادتها على لوح او جدار. الرحم الأول حس يشتعل في موقدها اليومي، تتلوى قربه بين برد قارص ولهيب حارق. ينتفض العقل يبحث عن خيار غير الاثنين ويمارس كل وسائل التجريب، يبقى منشغلا في الحال. يُدخل برودة الحياة القاسية في حريقها اللاهب، منتِجا طقسا قد يمتد مناخا لعديد من الأعمال. هذا هو الرحم الثاني، اما الرحم الثالث الذي يلد العمل الفني فهو هجين بين الرحمين. اذ يتقاسم العقل بخياله ومعارفه ورؤاه وكل طاقاته العملَ مع الاحاسيس والمشاعر بشفافيتها ورقتها وهواها ووجعها ونشوتها.

يتداخل الواقع والرؤى والاحلام في اعمال المحيسن اذ تُعبر الألوان عن مضامين ودواخل الاشكال التي خلقتها الأفكار والاحاسيس. ففي لحظة انفعال ما تجد الألوان تتدفق هائلة كانها عاصفة عاتية تجتاحك وانت تتأملها. وفي حال أخرى تسحرك الوان دافئة عذبة تدخلك عالما مخمليا، ومرة أخرى تجد نفسك تائها امام اعمالها وهي تغور بك في عوالم الخيال والتاريخ وحتى الجغرافية الطبيعية التي لم يرها احد.

169 مها المحيبس

مشاريعها كثيرة جدا وأُفقها واسع بسعة الفضاء الذي يسبح فيه عقلها واحاسيسها ولكن الواقع ضيق جدا لا يتسع حتى لضربة فرشاة من خيالها. تعمل باحتراف متقن ولكن الاحتراف لا يجد سوقا تسبح فيه الاعمال كسمكات بحرية، لتكون قوتا لفن لا يعيش بدون مردود يساوي قيمته، آخير اعمال الفنانة وليس آخرها مشروع فني يحاكي مدينة اربد عروس شمال الاردن. ومع انه عمل جداري يُجسّد ويُرمّز تاريخ المدينة منذ عشرات القرون والى حاضرها الان الا انه لم يجد الاهتمام والتمويل فظلّ منتظرا على الورق المقوى يتلوى حسرة على حياة كانت ستمنحها له مها المحيسن .

في لحظات وحالات ما، تصبح اللوحة مرآة عند المحيسن بشكل سحري تكشف لها كنه المستقبل، ترى فيها ما لا يستطيع الواقع ان يكشفه، اللون والشكل والخطوط تشكل صورة لمستقبل الفنانة، ولما قد يحدث لها في المستقبل. وهنا تنحاز اعمالها – في هذا المضمار – الى عالم الغيب، غيب في الغالب كان صادما للفنانة التي شرعت بتجنبه خوفا مما لا تريد ان يقع لها. فعندما ترسم نفسها انما ترسم ما سيُحدثه الزمن القادم في حياتها.محيي المسعودي

المحيسن امرأة مسكونة بالود والخوف والترقب تستشعر المستقبل ولا تستطيع تغيره او تجنبه، فتتكأ على الشجاعة والحب، وجناحها – الفن – لتطير في عوالم الامل والحلم والخيال والأفكار وترسم مجرة جديدة من التكوينات الحسية والعقلية في غيمة الوان، عاصفة ممطرة مرة، وهادئة متريثة تنثر زهرا مرة أخرى، تسبح فيها، وفي الغالب يقطر احساسها في مساراتها الوانا تتنفس منها حياة جديدة بعناصر تكفي للوجود الحي الفاعل.  

***

عمّان \ محيي المسعودي

الصرخة او الصيحة ليس من الضروري ان تكون معبرة عن الالم رغم انه من المعتاد ان تكون اشارة اليه. فربما تكون تعبيرا عن شيء مكبوت في داخل انفسنا منذ زمن طويل. او قد تكون تعبيرا عن شدة الفرح حيث تترك صدمة في اعماق مشاعرنا فننفجر بحركات عشوائية. ونجد ذلك ظاهرا في مدركات الطفل ودلالات صرخاته عن الجوع او الرفض او الالم او المنادات.3247 كوكان

و تدخل الصرخة في علم النفس فيذكر انها حاجة ملحة لتفريغ شحنة من الطاقة السلبية والغضب وذكروا بان الصراخ ممكن ان يعيد التوازن الداخلي ويجعل الانسان هادئا ومرتاحا بشرط ان لا يكون الصراخ موجها الى احد فيفسد العلاقات.. و يقترح البعض ان يذهب الشخص المكبوت الى مكان بعيد كالغابة وهناك يبدأ بالصراخ...   

ونحن نعلم بان العقل الباطني يختزن عددا لا يحصى من السجلات ومستودع لمعارف وصور وعلوم وقصص وخيلات واسعة مكبوتة منذ زمن. تظهر احيانا الى السطح بغير ارادة لاسباب كثيرة، ويمكن للفنان السريالي من استغلالها والشاعر من اقتناصها فيرسمانها على شكل صور محسوسة خيالية قادمة من عالم اللاوعي. وتبرز تلك الصور على شكل رموز واشارات خاضعة للتاويل والتامل.

والحياة العقلية توجد في شكلين الاول محدد ذو تفاصيل وشكل خارجي واضح. والثاني ربما هو الجانب الاكبر من الحياة مخفي غامض ولا وضوح فيه.. فالكائن البشري ينساب خلال الزمن كجبل ثلج لا يطفو منه الا جزء صغير فوق مستوى الوعي.

وعندما تظهر الصور المكبوتة تحول  الى رموز كما هو عند بول كلي حيث يطرح امامنا الطبيعة الخالصة النقية لهذا العالم الخفي الذي لا نشعر به الا اذا خرج الى السطح عن طريق العقل الابداعي. والاشارات والرموز هي نماذج متفق عليها تتطابق مع افكار مجردة مثل الحمامة تدل على السلام. والصليب يدل على المسيح-ع- كما يمكن القول بان الرمزية محددة مثلا تكون الدائرة رمزا للكمال والاكتمال بل رمزا للقواعد التي تحكم الكون، وان الهرم رمزا للثبات، وان الخط المتموج رمزا للرشاقة واللطف، وهكذا.

ونجد الكثير من الفن التكعيبي قائم على الرمزية وعادة ما تستخدم الرمزية صور محددة مشيدة اثناء ذلك خيالات عقلية وعناصر لتجارب عقلية ويمكن ان تتجمع باسلوب واعي.. ويمكن للرمزية ان تاخذ معاني مختلفة حسب ثقافة كل شعب وكل عصر.. وقد شاهدت بعض التقاليد القديمة في جنوب اسبانيا ان العريسة تلبس ثوبا اسود بدلا من الابيض المتعارف عليه اليوم..

3248 بول كلي

كما ان أعمال تابيس لها معاني فلسفية رمزية وعلى النقاد تأملها، مثلا نرى في اعماله ان حرف - T - يتكرر في معظم لوحاته ويرمز الى اسمه Tapies او اسم زوجته Teres، كما ان اسمه يعني الجدار Tapique ولهذا نجد الاعمال التي تظهر آثار الجدران وشقوقها نجد عليها مرسوم حرف - T - وكذلك  نرى ان رسم الصليب يتكرر في اعماله، وحسب تفسيره ان الخط الافقي يرمز الى الحياة المادية  والخط العمودي الى العلو او السمو الروحاني وليس من الضروري ان يرمز الى المسيحية. علما ان تابيس رجل علماني. اما حرف - X - والذي يستخدمه بكثرة في لوحاته فهو غامض ايضا وربما يرمز الى رفض الشيء او الغائه Tachar.

وفي اعمال شاجال نجد ايضا نوع من الرمزية حيث ياتي التناغم من الالوان المتالقة كالوان قوس القزح، وهي الوان لا تنتمي الى مشهد من مشاهد الطبيعة ولكنها ترمز الى عالم من الخيالات اللاواعية. ويظهر لنا شاجال عالم من الصور قادر ان يرمز الى خصوبة روؤيا الفنان وثرائها.

3250 شاجال

في عام 1888 التقى كوكان مع الشاعر والمفكر بول سيروسيه في باريس فعكف الاخير على دراسة اعمال كوكان وشرحها بتامل بعد ذلك اطلق عليها اسم- الرمزية – وقد ادخلنا هذا الراي في ثورة عارمة اجتاحت كل التراث القديم طوال خمسة قرون متعاقبة ومدرسة جديدة تبناها كوكان.. وقد ساق لنا هذا الرجل العصامي المثقف رأيا ثاقبا وجريئا لتلك المرحلة حيث قال (في الرسم يجب على المرأ ان يطلب الايحاء اكثر من الوصف كما في الموسيقى). وكانت اعماله تتمثل فيها العودة الى البدائية والفطرة. وقد اسس له مذهبا جديدا – هو مذهب الرمزية - كما ذكرنا ذلك سابقا والذي ولدت من رحمه المدرسة الوحشية.

3249 دالي

وكان كوكان 1848 ولد من اب صحفي فرنسي وام من امريكا الجنوبية من بيرو وقد عاش معظم طفولته في ليما عاصمة بيرو. ثم انتقل الى باريس وعمل في بداية حياته كسمسار لتحويل العملات ثم اخذ يتعلم الرسم نفسه بنفسه ومع صديقه بيسارو.. ثم اخذته عاطفة الام والحنين ان يترك الحضارة الاوربية وباريس وزوجته واولاده ويهرب الى البحار الجنوبية فاخذ يتجول فيها ثم استقر في جزيرة هايتي، ومات هناك في جزر الماركيز عام 1903.

و عند كوكان يعني الرمز ذلك الجوهر الذي تنطوي عليه الاشياء والاشكال دون ذلك الظاهر السطحي الذي هو اساس التصوير الواقعي. وقد اشار كوكان الى هذه الرمزية عن احد تخطيطاته يمثل صليبا تشتعل فيه النار قائلا (ذلكم هو شعار الرمزية).

***

د. كاظم شمهود

Réquiem por Granada

قبل عدة سنوات مضت عرضت احد القنوات التلفزيونية الاسبانية مسلسل تمثيلي عن تاريخ غرناطة وآخر ملوكها ابو عبد الله الصغير وحمل المسلسل عنوان réquiem por Granada - صلاة الجنازة لاجل غرناطة. الانتاج مشترك ايطالي واسباني ويقع في 8 حلقات.. المخرج وعامل النص هو السيد بيثنتي اسكريبا Vicente Escriva ويمثل شخصية ابو عبد الله الصغير مانويل بانديرا عندما كان صغيرا Mnuel Pandera ويعتبر مانويل اليوم صفحة مشرقة في السينما العالمية ومن اكبر الممثلين العالمين. وكان له فلم مع عمر الشريف اسمه- المحارب رقم 13 - (el guerrero.n. 13 )- والذي يتحدث عن شخص اندلسي ذهب الى اقصى شمال اوربا لتبليغ رسالة الاسلام... والمسلسل يبدأ على شكل حكاية وذكريات يرويها الامير ابو عبد الله محمد الى احد الامراء عندما يصل بلاد المغرب وهو متعبا ومثقلا بالهم والحزن ولوعة الفراق وضياع البلاد..3229 عبد الله الصغير يسلم مفاتيح غرناطة

المسلسل راقي جدا وممتع من ناحية الاخراج والتمثيل والتصوير والمناظر الجميلة. كما ان الممثلين والممثلات قد ادوا ادوارا رائعة جدا.. وتم تصويره في قصور الحمراء وضواحي غرناطة وبعض المشاهد في بلاد المغرب. ويبدو ان هناك مبالغ طائلة قد رصدت لهذا العمل الكبير ويشم من وراءه رائحة الكنيسة... ويلاحظ ان هناك بعض الاخطاء في النصوص التاريخية ’ مثلا ان المؤرخين العرب منهم الدكتور محمد عنان في كتابه –دولة الاسلام في الاندلس – يذكر ان اسم ام ابو عبد الله محمد (الصغير) هي عائشة بينما في المسلسل تسمى فاطمة.. كذلك يذكر المؤرخون ان عائشة هربت من السجن مع ولديها (محمد ويوسف) بعدما هم زوجها الملك ابو الحسن بقتل ابو عبد الله محمد. بينما يظهر في المسلسل ان الذي هرب هو ابو عبد الله محمد وحده. كما ان هناك لقطات تظهر فيها ثريا الزوجة الثانية لابو الحسن (ايزابيل الاسبانية) عارية تستحم وسط القصر امام الآخرين او انها تستقبل عشيقها النصراني السابق في القصر وتقبله ثم تقتله. كما تظهر انها عشيقة ابو عبد الله الصغير الابن ووصل الامر بين الاب والابن الى القتال عليها... هذه الامور والظواهر الثقافية يمكن ان نجدها عند النصارى ولكن عند المسلمين من الصعب ان تجدها في ذلك الوقت الا اللهم في الستر والاخفاء لهذا فقد ادخلوا ثقافة النصارى في المسلسل. ربما مقصودة او ان المعلومات التاريخية اخذت من مصادر اسبانية غير موثوقة. كالتعري والتقبيل واالمضاجعة وغيرها.. ومن خلال قراءتي - لكتاب دولة الاسلام في الاندلس - لم اعثر على ان ثريا او ايزابيل الاسبانية كانت عشيقة لابو عبدالله او من الامور التي ذكرتها سابقا.. كما يظهر في المسلسل ان الامير ابو عبد الله كان شجاعا مقاتلا ومعاديا للنصارى قام بعدة حملات عسكرية ضد النصارى رافضا مشاريع الاستسلام... بينما نجد المؤرخين العرب يقللون من مكانته وانه كان متفقا مع النصارى في الاعتراف بسلطتهم وعدم التعرض لهم في زحفهم على المدن الاسلامية مقابل الحفاظ على سلطته...3230 حي البائسيتن غرناطة

غرناطة

قامت مملكة غرناطة عام 1238 م على يد محمد بن يوسف النصري المعروف بالاحمر بعد انهيار دولة الموحدين.. وفي زمن الملكين الكاثوليكيين (فرناندو وايزابيل) كان قد تولى حكم غرناطة علي ابو الحسن الملقب -الغالب بالله – عام 1463م وكان متزوجا من عائشة العربية التي ولدت له ابنين هما ابو عبد الله محمد (الصغير) وابو الحجاج يوسف.. ثم تزوج بفتاة نصرانية تدعى ايزابيل وسميت بعد ذلك ثريا.. وقد لعبت هذه الفتاة دورا مخربا مع عائشة حيث تطمح ان تكون الخلافة الى احد ابنيها (سعد ونصر)... وقد سجن ابو الحسن عائشة وولديها ثم هم بقتل ابو عبد الله محمد تحريضا من زوجته النصرانية.. ولما علمت عائشة بذلك هربت من السجن مع ولديها.. ثم سيطر ابو عبد الله على غرناطة. وفي احد معاركه مع النصارى وقع في الاسر ثم اطلق سراحة.. من قبل الملكين وشرطا عليه عدة شروط وكان الهدف من اطلاقه هو زيادة الصراع بين الاطراف العربية الحاكمة واضعافها.. ثم زحف الملكين على غرناطة وحاصراها مدة سبعة اشهر كانت فيها مناوشات المحاربين كر وفر كما حدث نقص في المؤنة وضجر الناس واشتد بهم الجوع.. بينما كانت المفاوضات تجري بين امير غرناطة والنصارى للتخلي عن غرناطة ومغادرتها وتسليمها الى النصارى.3231 ابو عبد الله الصغير غرناطة

ويذكر بعض المؤرخين ان الملكين قاما بدفع اموال طائلة للقواد والحاشية في سبيل الخروج بسلام وامان من غرناطة... هذه الظاهرة وجدناها قد تكررت في العراق اثناء الاحتلال الامريكي 2003 حيث قامت الاستخبارات الامريكية بدفع اموال كبيرة الى القيادات العسكرية في الحرس الجمهوري والجيش العراقي ثم هيئت لهم طائرة خاصة ونقلتهم الى الخارج من مطار بغداد.3232 قصر الحمراء

و دخل النصارى غرناطة في كانون الثاني 1492م ولكن عندما استقروا فيها نقضوا كل المواثيق والعهود... ثم توجه ابو عبد الله محمد الى فاس ونزل عند ملكها الوطاسي وهناك شيد له قصورا على غرار قصور غرناطة وبقى حوالي 43 سنة ثم توفى فيها عام 940 هجرية وخلف ابنين هما يوسف واحمد ويذكر المقري في كتابه نفح الطيب انه زار هذه القصور ورأى احفاد ابو عبد الله وقد انتهى بهم المطااف ان اصبحوا مساكين وشحاذة يطلبوا المساعدة.. وهكذا يدور التاريخ وان الامور تجري بما لا تشتهي السفن وان حياة حضارة العرب قد انتهت في الاندلس ولابد للتاريخ ان يدور لغيرهم وهذه هي سنن الحياة.

***

د. كاظم شمهود

احتفت بلدية (جيبا) إحدى مقاطعات مدينة فالنسيا الأسبانية بمعرض  للفنان العراقي "سعد علي" المقيم هناك منذ عقود من الزمن، وبعنوان " جماليات الهدوء في مرسم" للمدة من 14 نيسان لغاية 19 منه،  ضمّ المعرض 40 عملاً فنياً بقياسات مختلفة، بمادتي الزيت والاكريليك، رافق حفل الافتتاح عرض موسيقي وغنائي قدمته أربع فتيات من فرقة أوبرا المدينة، كما تخللته جلسة حوارية بين الفنان وعدد من النقاد التشكيليين الأسبان، الذين واكبوا تجربة سعد الفنية، وقدّموا دراسات عنها.155 سعد علي

ما المعنى الكامن الذي يحاول الفنان الإفصاح عنه في عنوان معرضه الجديد؟ بعد أن قدّم مشاريعه الفنية السابقة " صندوق الدنيا، أبواب الفرج، حديقة الحياة"، للإجابة عن هذا السؤال يجدر القول : ان البيئة الجديدة المحيطة بالفنان، بصمت المساحات الشاسعة، وتناقضها الغريب والساحر، أوحت اليه أن ينقل هذا المشهد كعنوان للمعرض، وموضوع في اللوحة، هذا المشهد من دون شك عمل درامي مثير، غير انه في الوقت نفسه لا يكفي لتحقيق عمل فني ابداعي ممزوج بحرارة الانسان، وقلقه.

الفنان في مرسمه يطل على نوافذ واسعة، تسمح لضوء الشمس أن يتحول الى عنصر مكمّل في بناء اللوحة، مرتفعات وغابات شديدة الخضرة، داكنة، سهول فسيحة تلمع تحت وهج الشمس، والأخرى تطل على سفوح وحقول تمتد نحو الوديان، يقطف ثمارها صبح مساء.156 سعد علي

ما يزال يمارس سعد تواصلاته الوجدانية مع عمله الفني، كما لو كان يمارس طقساً مقدساً من طقوس الحياة، وهو يرقص (الفلامنكو) مع موسيقى غجر الاسبان، لذا جاء اختيار عنوان المعرض منسجماً مع هذا الطقس اليومي، في مرسمه الذي أودع فيه أسرار اللون، وأوراق العمر، هيأ له كل مستلزمات التفرغ، ومنح أسلوبه صفاء التوجه الكامل لروح الفن، ليلمّ سنواته التعبى في سلال من البهجة.

لعل تلك البيئة أوحت له أن يتوقف عند سحرها، فوجد نفسه مشدوداً بقوة فعل دينامية شديدة لعالم محيط به، يمنحه حرية مطلقة في التأمل والحلم والحوار مع الذات، ومع الأشياء من حوله، للتعبير عن ذاته، وابتهاجه الأعمق بما ينجز، حتى يبدو وكأنه يمارس هوايته من دون قيد، بانسيابية الهاوي على هواه، برغم تجارب السنين الطويلة في الرسم، فهو (سعيد) بنفسه، مثل كل الخالدين، وكما يقول "ديلاكروا" في رسالته الى جورج صاند * :  "سأظل أعمل حتى ساعة الاحتضار " ذلك لأن القوانين العليا في الفن لا تتيح فرصة اللعب بالخواص الجوهرية للفن، وما يحمله الفنان من عذاب أليم خلال مخاضات الابداع، لا يعادله شيء في الوجود إلا بالوصول الى نقطة الخلاص المبهج: الولادة المبدعة للعمل الفني الخالد.157 سعد علي

كيف لنا أن نضع اشتراطاتنا لفهم أعمال سعد علي، الذي راح بعيداً من مدينته الديوانية الى بلد سلفادور دالي، ولوركا، والجورنيكا، ومصارعة الثيران، وهستيريا مشجعي كرة القدم؟ فبرغم الفرار، لا يستفيق من غيبة الحلم الذي يظل يلازمه، مشدوداً لأزمنته الاولى، منتعشاً بأريج تراب تراثه العميق، بمذاقاته الفطرية، الحكايات والأساطير، الماء والطين، الموروث الرافديني، رذاذ طلع النخيل المتعلق بأهدابه، الجذور الممتدة عميقاً في سهوب مستوطنات ما قبل التاريخ، أبواب البساتين التي تنفتح تلقائياً مع ندى الفجر، حيثما الشمس غافية، عالم من الشبابيك والأبواب والقباب والبيوت والأضرحة والوجوه، وقصص وأشعار للحب، عالم من الألوان يستدعيه سعد علي، يستحضر كل مخيلته لهذا الفردوس كي تفيض اللوحة بالنضارة والنعومة والإغراء، والوجوه بخطوط لينة ورقيقة، عذبة الامتلاء.158 سعد علي

ما يزال سعد " عوداً طرياً " في رحلة البحث عن مساره الفني، مفتوناً بطاقته الابداعية، ومهارته الفنية، بما مخزون في أعماقه من تجارب الفن التشكيلي العالمي، واعياً بانتقالاته في الأسلوب والموضوع، لاتغادره مدينته الأولى التي شهدت فتوته الفنية والإشارة الأولى المعلنة عن موهبة ستأتي، ولعل سعد أحد الفنانين العراقيين  القلائل الذين استطاعوا أن يحققوا حضورهم التشكيلي في المجتمع الأوربي، وهي حالة نادرة لم ينلها فنانون كبار، ذلك أنه أبدع هويته  من خلال أسلوبه الخاص، مراعياً بذكاء ذائقة الجمهور الغربي، ملبياً حاجاته البصرية، للاجواء الشرقية الحلمية، والفضاءات المفتوحة بالألوان الزاهية التي تحيله الى عالم الف ليلة وليلة، محرراً من القياسات والمسافات، ينتقل اليهم، ويديم حياته بينهم، فشكل بذلك اضافة جديدة لحركة التشكيل العراقية، تتطلب باعتقادنا وقفة تأملية عميقة تبدأ بالعصر وتنتهي بذات الانسان الفنان.

ومع ان النظرة العابرة لايمكن أن تستقصي كل أبعاد أعمال الفنان سعد، كما انها لا تستطيع أن تقع على حرارة الاخلاص التي تشعّ منها، الا انها تستطيع أن تؤكد حقيقة واحدة، وهي ان الفنان لم يبتعد عن منظوره الروحي، ولا نوازعه الانسانية الصافية، بل أراد التعبير عنهما بقدر وافٍ من المشاعر الطازجة، وقد أوفى بذلك.159 سعد علي

يمنح سعد علي تشكيلاته قدرة التحليق والالتحام، عبر طاقة تعبيرية مكثفة، لتقيم حواراً بين سطح اللوحةالخارجي، ونظر المتلقي، وعمد الى تكرار ثنائية المرأة والرجل في أكثر من عمل، بعيون تتسع نحو السماء، وأخرى مخفية، عيون الجسد، وعيون الخيال، والبصيرة التي ترى ما وراء الظواهر، ولكي نرى الاشكال بوضوح، بفهم وعاطفة، علينا أن نمرّن العين الاولى على النظر الى الأشياء، ونساعد الآخرى على الغوص فيها وراء المنظورات.

قد تفيض التجربة، فتلامس حدود المألوف، أو تتعداه الى مواطن الكشف، بهذه الحقائق يقودنا سعد الى النظر والتأمل في عالم مفتوح لانهائي، تنبسط على مساحاته الوجوه الشائهة، والقبل الساخنة، والعناق الأبدي لكائنات تمتد أطرافها وأناملها بحركات رشيقة نحو السماء، أحسب أن دهشة اللوحة تكتمل بالتنوع اللوني الزاهي، ووجه المرأة الطاغي على التفاصيل الأخرى، والجرأة في الاداء والتحوير، واكتساب ملامح الشخصيات الخاصة بالفنان،

ما من شيء يتموضع في هذه الكتل الحميمة، حتى الحيوانات المدجنة في أعمال سعد تبدو أليفة وادعة تتجاسد فنياً مع حالة الاسترجاع الزمني، وتفرض وجودها عند البشر، بل تبدو معادلاً لحنان الطبيعة، ووجوداً يتصادى مع التذكارات. حقيقية هي الأشجار المثقلة بالطيور والأثمار، بالعناقيد ولآلىء الوهم، لكنها تظل مرسومة بريشة التوق للمجهول، فلا تمتلكها اللحظات العابرة، ولا يمتد لها حصار الأزمنة، تتوهج آناً وتنطفئ تارةً أخرى، فالرحلة تبدأ من هنا، إذ يتنفس جسد العالم كل الظلمات المحبوسة وراء الأقفاص.

كل هذه الرؤى الفضائية الجميلة، تعيش مأسورة في جنائن (سعد)، في إيناس حدائقه، يحيا آشور، وگلگامش، وعلى ضفاف أنهارها الصغيرة تخفق الريشات (الواسطية)، حيث تولد (فينوس) الشرق، من لهب الإبداع والتأمل.

***

جمال العتّابي

الأشجار ولوحة اللون الواحد أسلوب خاص للرسام السويدي الأصل، الأمريكي اندرش كنوتسون وهو من مواليد مدينة مالمو الساحلية والميناء الجميل الذي تربطه بالعاصمة الدنماركية كوبنهاكن بجسر يقطع بحر الشمال. هنا في هذه المدينة درس الفن والهندسة. وفي عام 1967 هاجر إلى الولايات المتحدة للعمل في صناعة الطائرات وحصل على الجنسية الأمريكية عام 1976. درس الفن وطور أسلوبه باستمرار. اتخذ قراره في عام 1970 ليتجه نهائيا الى الرسم كمحترف عاش في مدن: إلينوي وأوهايو وكاليفورنيا وفيرمونت وتورنتو (كندا) ومنذ 1976 في مدينة نيويورك.

يقول الرسام:

- أتمكن من سماع ما في داخل نفسي. إن أفكاري وعقلي يحاولان المحافظة على الزمن والعمر، وأنهيار سر الحياة. تقف الأشجار القديمة على مسافات بمراعات واحترام من بعضها البعض.3200 رسام سويدي

زرت احد معارضه الشخصية في السويد قبل ١٤ عاما خلت ووقفت امام اللوحات الكبيرة للاشجار وكاني ادور بين دروب غابة كبيرة. من هنا ينطلق افكار الرسام ليرى تاريخا يعود الى ايام الفراعنة وحضارة بابل ليرسم الجذور ويشكل منها لوحات رائعة. لا اعرف لماذا تذكرت شجرة ادم التي كانت تقف شامخة في القرنة قبل نصف قرن في بصرة الابلة ربما لانها ذكرتني بتلك الجذور التي رغم كونها منغرسة في تراب الان اغصانها في عنان السماء وكانها تدعوا وتناجي الرحمن رغم خلوها احيانا من اوراقها فانها مثل تلك الادعية التي تربط على مراقد الاولياء والصالحين لنذور البشر والتي تحمل احلامهم في بلاد الرافدين.

الشجرة كاحد ادوات اللوحة الفنية استخدم في اللوحات الفنية كاشارة الى وجود الحياة واستمراريتها في حين رسم الرسامون الحياة الجامدة في لوحاتهم للتعبير عن رتابة الحياة، ربما. لكن اندرش ياخذنا في عالم خيالي يربط بين الأغصان اليابسة وجذع الشجر متخيلا اشكالا بديعة. كاننا نتامل حكايات وروايات ونحن نزور الايك.3201 رسام سويدي

اما الأشجار اليابسة فتذكرنا ما يجري اليوم من تغيرات مناخية وهذا رمز لما يقوم به الإنسان من تدخل مباشر في البيئة مما يؤدي الى اختفاء الغابات والمناطق الخضراء وتغير المناخ والغطاء النباتي في المعمورة.

السويد كدولة يغطي ربما اكثر من نصفها بالغابات والنصف الاخر بحيرات. يقول الرسام:

أعتقد أن هناك شيء سويدي في فني وذلك واضح في النمط والتصميم والأسلوب. والأكثر ملموسا هي اهتمامي بالضوء.

الضوء حس روحي ورمزي

الغابات وما يدور بين احراشها موضوع فني نراه حتى عند الرسام (يون باور) الذي يتضمن اعماله جميع الحكايات الخرافية التي تدور في غابات "أقليم سمولاند" والتي استلهم العديد من الأدباء حوادث رواياتهم بين أحراش تلك الغابات أمثال كاتبة قصص الأطفال المعروفة (استريد لينكرن) وآخرون.

يقول الرسام بان الشجرة كموضوع، حيث إن الإلهام والمعنى قوي جدا بالنسبة لي".3202 رسام سويدي

ويبدوا متاثرا جدا بالمشاريع الزراعية البيئية لتشجير الأراضي القاحلة خاصة ما قام بها الناشطة الكينية الدكتورة (وانجاري ماثاي)‏، والتي كانت من دعاة حماية البيئة. والحاصلة على جائزة نوبل للسلام. ساعدت أفكارها حول البيئة في زراعة ملايين الأشجار عبر كينيا لمنع تآكل التربة، وتحسين ضروف الحياة لابناء البلد.

قام الرسام وخلال عقود وخاصة في الفترة التي قضاها وفي ضروف صعبة في الولايات المتحدة ، نيويورك وفي بروكلين 1990 بالذات والحديقة النباتات القريبة من مرسمه ، بروسبكت بارك (ب Prospect Park) وهي حديقة عامة تبلغ مساحتها 2.37 كلم مربع، صممها فريدريك لو أولمستد وكالفرت فاوكس. وبين أشجارها التي كان يقضي أوقاته فيه اثر في أسلوبه ومن ثم في لوحاتة أحادية اللون من أوائل السبعينيات عندما قرر الرسم باحتراف ، خاصة بعد انتقاله إلى مدينة نيويورك عام 1976.3203 رسام سويدي

وأسلوبه تلك قدم لوحات "أحادية اللون" أي ذو اللون الواحد واستخدام ظلال مختلفة بقيم ودرجات مختلفة في اللوحة. كما استعمل الرسام الألوان الفسفورية في لوحاته لرؤية اللوحة حتى في الظلام. تاركا ارثا من اللوحات التي تحاكي تلك الأشجار الباسقة التي نمت مرتفعة من الثرى وهي تعانق عنان السماء.

عرض أعماله في المتاحف والمراكز الفنية والمعارض والجامعات والشركات والكنائس والأماكن الرسمية وغير الرسمية وفي العديد من البلدان. واستخدمت لوحاته وأزياءه وأشياءه المضيئة في عروض الرقص والإنتاج المسرحي والمناسبات المختلفة.

***

د. توفيق رفيق التونجي - السويد

كتب الفنان والناقد شاكر حسن ال سعيد عن اعمال كمال سلطان بمقالة تجاوزت 400 كلمة وكالعادة فانه غاص في رمزيته ودلالاته وكلماته التي يطغي عليها الطابع الصوفي، وقد وضعنا امام مصطلحات فلسفية كثيرة تدعو للتأمل كالارادة واللارادة والعفوية والتلقائية والقصد واللاقصد، كما اعتبر الوجود الانساني هو وجود تلقائي.. (لم يكن سلطان في اعماله الفنية يبحث فيما هو (مرئي) ولا (متصور) ولكن هو (قابل لان يمثل نقطة الوصول) بين (القصدي) و(العفوي اي اللاقصدي) وتلك هي (اشكالية) وجودنا المعاصر) (في حين ان (الوجود) في حقيقته هو وجود تلقائي لا تتحكم فيه أليات اية رقابه انه وجود (عفوي).. طبعا هذا العمق الفلسفي في تحليل الاعمال ليس من السهولة فهمه، مثل قول المتصوفة: ان الحياة موت والموت حياة.

في يوم من الايام سألوا الناقد والمؤرخ جبرا ابراهيم جبرا عن رأيه فيما يكتبه شاكر حسن. قال احيانا لا افهم منه شيئا... ولكن دعونا ان نفهم اولا ما معنئ التلقائية والعفوية والتي وصف بها شاكر حسن اعمال سلطان.150 كمال سلطان

العفوية والتلقائية

يذكر بعض النقاد بأن الشخبطة او العفوية في العمل الفني قد تحدث جمالاً ولكنها ليست فناً بالمعنى الاصطلاحي أي ذلك العمل الإنساني الهادف الى إشباع الاحتياجات الذهنية والفكرية والنفسية للوعي الفردي او الجماعي.

والبعض الأخر يعرف العفوية بأنه سلوك ينبع من الفرد او المجموعة بدون تخطيط. او انه ظاهرة نفسية اجتماعية تتحقق أذا تم التركيز في الإبداع او التلقي إلى درجة يغفل فيها الوعي عن كثير من وظائفه السلوكية. وكذلك هو مجموعة تصرفات تبدر عن الإنسان وتظهر جليه في حركته وكلامه وتحدث اثراً ايجابياً او سلبياً وذلك بناءً على العلاقة بين النفس والنفس وبين النفس والاخر.

والعفوية هو أتجاه ظهر في الفنون التشكيلية المعاصرة ويعتبر الفنان الأمريكي سي تومبلي 1928 من أبرز رواده وكذلك لكل من جاك بولوك واخوان ميرو ورسوم الأطفال وغير ذلك.

و التلقائية هي حدوث أشياء بعيدة عن مراقبة الوعي، أي عدم تدخل الإرادة الواعية كما يحدث للأطفال في سن مبكر عندما يرسمون فأنهم يقومون بالشخبطة. وبالتالي يمكن أن يكون العقل اللاواعي مساهماً في ذلك.

والتلقائية والعفوية يشتركان معاً في ان مصدرهما هو اللاوعي ولكن هناك اختلافا بسيطا بينهما هو على ما اعتقد ان العفوية تحدث اثناء نشاط العقل الواعي وتركيزه في الابداع فتظهر هناك أشياء أثناء العمل عفوية غير مقصودة بمعنى تدخل العقل اللاواعي. وبالتالي فيظهر العمل مشتركاً بين العقلين الواعي واللاواعي ثم القوة الابداعية او ما يسميه بعض الفلاسفة بالعقل الابداعي..

و يذكر ان اول من استخدم مصطلح العفوية هو الفنان الامريكي هارود روزنبرغ حيث اطلقه على مجموعة من الفنانين الامريكيين في مطلع الخمسينات ويتميز باستخدام الرش بالالوان علئ القماش او الورق وضربات الفرشة العفوية والخطوط الطلقة الحرة كما هو عند جاك بولوك. وكل هذه الرسوم لها علاقة نفسية بحالة الانسان او الفنان، ومن هذه الاعمال تدرس شخصيته فهي تعبر عن حالات داخلية تظهر من خلال تصرفات الانسان وحركاته.151 كمال سلطان

المحنة بعد التخرج

عاش سلطان فترة حرجة في حياته بعد تخرجه من معهد الفنون الجميلة في بغداد عام 1977 حيث عين مدرسا في قرية نائية تسمئ عفك (عفج) وهي قرية فلاحية يعيش اهلها على البساطة والفطرة.. هذه الانتقالة من مناخ مدني فني متحضر في بغداد الى قرية يسودها الفقر والحرمان ولدت له ردود فعل مؤلمة ومأساوية اثرت على نفسيته واعماله، فاصبح الخط وعفويته او كما يصطلح عليه في رسوم الاطفال الشخبطة، هي من سمات اعماله. ويذكر سلطان انه غير متذمر من اهل تلك المدينة بقدر ما كان يقلقه الوضع المأساوي للبلاد.. ورغم شحة الالوان في اعماله ولكن نرى تعبيرية كثيفة مليئة بالخطوط والعلامات الايحائية. كذلك يذكر سلطان انه عندما كان يدرس الطلاب استفاد من رسوم الاطفال الى احد انه كان يلصق بعضها في لوحاته على طريقة الكولاج. ويضيف سلطان ان الرسم عنده الخط اولا ثم تاتي بعده الالوان.. وهذا يذكرنا بقول الفنان الانكليزي بليك (ان القاعدة الذهنية للفن كما هي الحياة هي كلما كان الخط المحدود شائكا وحادا ومتميزا ازداد كمال العمل الفني فاذا قلت حدته و وضوحه عظم الدليل على ضعف الخيال)

الخيال في الاعمال الفنية:

هناك فرق بين عالم فن الاطفال وعالم فن الكبار فالكبار يتصفون بالواقعية في التحليل والنظر الى الامور الموضوعية والاطفال يمتازون بالخيال الواسع وحب القصص الاسطورية ولكن يشترك الاثنان في الحساسية الجمالية والتي تجمعهما ايضا مع الفنان البدائي، فخيال الاطفال يبتعد كثيرا عن حدود الواقعية. والتخطيط العفوي يبرز عند الرسام كما هو عند الطفل بطريقة الشخبطة التي تمتاز بالحركة التلقائية والانكباب على اداة التعبير وعدم الاهتمام بالتمثيل للاشياء وبالتالي فهو ايقاع جسمي يشبه بايقاع القلب ونبضاته.. وهذا مانجده عند الفنان سلطان العفوية والتلقائية في الرسم وطلاقة الخط وتحركه يمينا وشمالا وبعثرة الالوان على شكل بقع او نقاط لتكون مكملة لدور الخط في عملية التعبير.

من الفنانين الذين مارسو التلقائية في العمل الفني هم جماعة كوبرا التي ظهرت عام 1948 كرد فعل على مآسي الحرب العالمية الثانية وكذلك ضد دكتاتورية اندريه بريتون زعيم المدرسة السريالية، ومن ابرز هؤلاء كارل آبييل 1921 وهو هولندي الاصل وكان شاعرا ورساما ونحاتا، حيث كانت اعماله تتصف بالشخبطة الطفولية والعفوية وتتجه خطوطه الى جميع الاتجاهات وبطش الالوان والقوة التعبيرية التجريدية ويتمثل هذا الاسلوب في كثير من اعماله مثل الاطفال المتسولون ورقصة عاشق (متحف التيت).

ولنعود الى شاكر حسن وما قاله عن سلطان (فباي معنى وباية (قابليات) يحاول كمال سلطان ان يلتقي مع العالم وهو يعلم ان لهذه (العفوية) شروطها المشتركة ما بين الانسان والمحيط ؟؟ لا ريب ان اعماله ستعكس لنا حالة هي وسط تقتضي تحول الرؤية الفنية من(المرئي) الى (اللامرئي) او هو (ما وراء) المرئي...)

و يفهم من ذلك ان شاكر يشير الى ان اعمال سلطان لازالت في طور النمو و انها(ستعكس) (وهي كلمة مستقبلية) على ادراك البعد الروحي او التحول الى العقل اللاواعي في عملية اكتمال الاداء والبحث وهي نظرة سريالية. وحسب منظري السريالية بانهم يطمحون ليس فقط في ادماج العقل الواعي مع العقل اللاواعي وانما تحطيم الحدود القائمة بينهما.

و شاكر حسن رجل متصوف كتصوف الحلاج من ناحية الفكر والصفصطة التي تنحو نحو الجدلية داخل دائرة مفرغة.. يقول شاكر (اني اسعى للوصول. وان علي ان اكون كائنا كونيا. ولكن سرعان ما يظهر الشق في الخيمة. ثم اترنم: انها هناك تهمس في اذني ولا ابصرها. وقد ابصر سواي واسمع عنها). ثم يستشهد شاكر بقول الحلاج في بعض بحوثه (اسألك بحق هذه التربة المقبولة، والمراتب المسؤلة ان لاتردني الي بعدما اختطفتني مني، ولاتريني نفسي بعدما حجبتها عني..).

لا يمكن ان نحكم على الفنانين الكبار الذين يمارسون الفن البدائي او العفوي وبطريقة رسوم الاطفال بانهم قليلي الذكاء او عاجزين عن الرسم الاكاديمي بل بالعكس لان آفاق العقل الواعي عند الكبار يستشرق الخزين التراكمي وفعالية العقل اللاواعي الذي نراه نشطا و فعالا عند الاطفال وبالتالي فان الاثنان يملكان من الحس الجمالي بلا حدود، والعنصر الجمالي هو غريزة مخلوقة بالفطرة نجدها عند كل انسان سواء كان قد عاش في العصور الغابرة او في عصرنا الحاضر، تنشط او تتوقف  حسب ظروف الانسان والمحيط وحركة المجتمع.

احد المفكرين فرانز تشزل قال ان اهم شئ في رسوم الاطفال هي اخطاءه حيث فيها، الحس، الجمال، البراءة ، فهو يرسم بفطرة لا تحمل عداء فاذا كفحت هذه الاخطاء فانها ستقتل شاعرية الطفولة وحسها الجمالي. وبالتالي فان (فن الاطفال هو اساسا فن). ويذكر ان بول كلي وصف رسوم ابنه فيلكس بكونها اجمل واعظم من رسومه واصفا اياها بالبساطة والنقاء، وهي افضل من رسومه لانها لا تمر من خلال مختبر الدماغ.152 كمال سلطان

التجريد في اعمال سلطان

هناك اسلوب في النقد والتقييم يسمى النقد السياقي يبحث في السياق التاريخي والاجتماعي والنفسي للفنان والفن حيث يتناول سياق العمل الفني والظروف التي ظهر فيها وتأثيراته في المجتمع، واصبح النقد السياقي اليوم مادة تدرس في اوربا كأي مادة علمية اخرى. حيث ان فكرة النقد السياقي ان الشئ لا يمكن فهمه منعزلا بل بدراسة اسبابه ونتائجه وعلاقاته المتبادلة..

نحن اليوم نقف امام اعمال سلطان التي نفذت في محطته الاخيرة في اسبانيا اما عصر دراسته في معهد الفنون الجميلة في بغداد، وما بعدها عندما كان مدرسا في احد المدارس الريفية في اواخر السبعينات فقد وصلنا منها بعض الاعمال التي تؤرخ تلك المرحة، وعند قرائتها سنجد هناك خيوط تربط الماضي بالحاضر بشكل يمثل خصوصية الفنان.. ويذكر سلطان انه درس الحفر على يد الاستاذ المرحوم رافع الناصري وان الاستاذ اهداه احد لوحاته بعدما تفوق على زملاءه في دورة التخرج الاخيرة.

ان القراءة البصرية لاعمال سلطان تكشف لنا طريقته التجريدية في الاداء والحرية المطلقة في اختيار عتاصره التشكيلية من خطوط والوان ورموز وكتابات شعرية واشكال لنساء جنوبيات وغيرها، وكلها نفذت بطريق تلقائية وعفوية نرى فيها التسطيح والاختزال في الشكل واللون كما هو عند الصوفية. وكان اللون الاسود والالوان الرمادية تطغي على اعماله الفنية. وكان  التركيز على الفكرة او ما وراء المرئي حسب تعبيرات شاكر حسن هي من مميزات اعماله ، وبالتالي يصبح سطح اللوحة ساحة للتمثيل والتجارب الذهنية. ويبدو انه استخدم الكولاج ولصق الورق والخشب ومسحوق المرمر او ماشابهه فاعطى ملمسا خشنا للوحة كما هو عند بعض الفنانيين الحديثين المعروفين امثال تابيس الذي كان سلطان متأثرا به.

عندما حل سلطان في مدريد درس الحفر في معهد التطبيق للفنون الجميلة وكان قد وجد قبله بعض الاصدقاء العراقيين يدرسون في نفس القسم، وفي هذا المناح الجديد وجد سلطان بيئة فنية متطورة على صعيد التقنيات واستخدام الخامات والعلاقات المنفتحة التي تختلف كليا عما كان قد آلفه و تعلمه في بغداد بالاضافة الى وجود اساتذة لهم باع كبير في تعليم الفن الاوربي الحديث، وانه وجد نفسه في احتكاك مباشر مع المدارس الفنية الحديثة وروادها امثال ميرو وكلابي وتابيس وجماعة الباسو el paso  مثل ساورا وكونوكار وميارس وغيرهم.. وكان سلطان متأثرا جدا في اعمال ساورا وتابيس رغم ان بعض الاعمال ذات مواضيع عراقية مثل المرأة الجنوبية بائعة الروبة والدجاج وغيرها.

ولهذا نجد ان المؤثرات البيئية والمناخية والعوامل الوراثية حيث يتكيف بها وينطبع كل من المزاج العقلي والعاطفي وتكوين الاذواق والميول والمثاليات التي يتصف بها كل فنان فيما يميزه عن غيره من الفنانين، وتلك التي يبدو اثرها جليا في ذلك الطابع الفني والجمالي الذي تتسم به اعماله.

فالذوق ينبع من الغرائز والميول النفسية، وكذلك الجانب العاطفي له اثره من ناحية الاحاسيس والمشاعر التي تلعب دورا كبيرا في عامل الذوق الذي تتحدد به الاساليب الفنيه سواء كانت في بساطتها او تعقيداتها من الوجه التخطيطية واللونية، كما ان للجانب العقلي اثره من تلك النواحي الممثلة بالتصورات الفكرية التي تقوم عليها الموضوعات الفنية، وكذلك من الخيالات التي تستنبط من العقل الباطني. ولهذا فان للبيئة تأثيرات كبيرة في رسم وتكوين الذوق والميول العاطفية والنفسية وهي من العوامل المؤثرة في العملية الابداعية والطريقة الادائية.

عاش سلطان فترة طويلة في مدريد القشتالية Cantillana ثم انتقل الى برشلونة المدينة العريقة التي اسسها القائد الفينيقي اميليا باركا barca والد القائد الاسطوري هانيبال، وهي مدينة اوربية تعج بالسواح طيلة ايام السنة، وفي برشلونة درس في مدرسة سان جوردي للفنون وطور تجربته الفنية التي تلقاها في مدريد وفيها درس الحفر والرسم واحتك ببيئة كاتالانية جديدة Cataluña. بمفاهيمها وطرز حياتها التي تختلف نوعا ما عن مدريد. وفي الحفر يجد الدارس تقنيات عديدة ومتنوعة واكثر سعة من الرسم بالزيت او المواد الاخرى، وربما اكثر تعبيرية وابداعا من التصوير حيث يجد الحفار عوالم من التقنيات لا عد لها ولا حصر، فعندما يسيطر الحفار على مواد الحفر وتقنياته  يكون امامه مهمتين الاولى هي عملية صناعية بحتة من طبع وتحميض وحفر على المعادن والاخشاب ولينوليو وترطيب الورق والحجر- ليتوغرافية - وغيرها، والمهمة الثانية هي العملية الابداعية والتعبيرية والجمالية والفنية والتقنية، وفيها تعلو الفكرة والموضوع على التشكيل، حيث حرية الخط واللون او الانسجام بين عناصرها.153 كمال سلطان

السيرة الذاتية

ولد كمال عبد الوهاب سلطان في مدينة (الحمزة) الديوانية عام 1956 ودرس في معهد الفنون الجميلة في بغداد وتخرج منه عام 1977 ثم رحل الى اسبانيا عام 1978 ودرس في معهد التطبيق للفنون الجميلة قسم – ليتوغراف – ثم انتقل الى برشلونة ودرس في مدرسة سان جوردي للفنون الجميلة.. اقام عدد من المعارض الشخصية والجماعية في العراق واسبانيا والدول الاجنبية الاخرى كما حاز على عدد كبير من الجوائز والشهادات التقديرية من خلال مشاركاته العديدة في المسابقات والمهرجانات الفنية، يضاف الى ذلك كان طباعا ممتازا كلف بتنفيذ عددا كبيرا من الاعمال الفنية من قبل بعض الكالريات وتجار اللوحات. اليوم كمال سلطان متفرغ للفن ويعيش في مزرعة في ضواحي مدينة طرقونة Tragona.

***

د. كاظم شمهود طاهر

الفخار، من الفنون التشكيلية الاولى التي مارسها الانسان القديم، يعاد احيائها اليوم على يد احد الفنانين المميزين، وهو الخزاف الرائد موسى جاسب الميساني.

الفخار – هو كل ما يصنع من الصلصال – الطين – ثم يحرق بعد جفافه. والخزف – هو الطين المزجج المفخور او منتج فخاري مع الطلاء الزجاجي ثم يحرق مرة ثانية.. وفي اوربا يطلق على الخزف بالسيراميك...3143 موسى جاسب

كان ظهور صناعة الفخار عند الانسان القديم وليدة الحاجة المعيشية، ففي عصر الزراعة احتاج الانسان اشياء لحفظ حبوبه وبعد ان عرف النار اخذ طينا وصنع منه قدورا واوعية فجففها ثم حرقها في النار.. بعد ذلك عرف الرمال تنصهر بفعل النار وتتحول الى زجاج.. ثم اهتدى الى طلاء الفخار بطبقة زجاجية شفافة واحيانا ملونة.. وقد اشتهرت بلاد وادي الرافدين ومصر بصناعة الخزف وظهر ذلك واضحا في باب عشتار وقصور الآشورين في نينوى. كما اشتهرت الصين بصناعة الفخار والخزف... واطلق على الخزف في اليونان بالسيراميك وهي كلمة اغريقية تعني صانع الفخار او الخزف. ولازالت تستخدم لحد هذا اليوم...3144 موسى جاسب

الفنان موسى جاسب شنين

الخزاف موسى جاسب احد الخزافين العراقيين المميزين والذين لهم باع طويل في هذه الحرفة وكان احد روادها في القرن العشرين كان قد اسس له جمعية للخزافين وكالري للتشكيليين التعاونيين في مطلع السبعينات في شارع ابو نؤاس في بغداد، وكانت هذه الجمعية ملتقى لكل الفنانين التقدميين الرواد ودردشاتهم الثقافية الدائمة في ذلك الوقت. وهو من مواليد مدينة ميسان عام 1943 كما كان لديه كالري في السوق البغدادي تحت عنوان كالري الخزاف موسى وعيسى ثم اغلق بعد احداث عام 2003.. واخيرا استقر مع عائلته في مدريد ولديه صفحة تحت عنوان قصص قصيرة وخواطر متنوعة كما لديه مشغلا للخزف في مدريد (موستلس). وقد التقيت معه عدة مرات وعملنا معرضا مشتركا في في مؤسسة اهل البيت في مدريد.3145 موسى جاسب

ان الخاصية التي تميز اعمال موسى يمكن حصرها في قسمين الاولى هي استخدام وسائل العمل بشكل واعي يعني انه يصور وينحت بدافع مشاعر واحاسيس ذاتية اي انه يصنع بوعي وطريقة ارادية طبقا لمشروع ذهني سبق له ان صممه. ويتمثل ذلك بالاشكال التقليدية الاسلامية من لوحات بارزة ذات طابع ديني وغير ديني وهي اشكال متوارثة عن الاجداد كالشناشيل واالقباب والكفوف والاعين والكتابات الشعرية والدينية والصحون والعلب والجرات وغيرها والتي تعج بالزخارف المختلفة الملونة والاخاذة. وفي هذه الاعمال يبرز العقل الواعي كاساس للفن ويسميه البعض بالتصورات العقلية وهو منهج لبعض الفنانين المعاصرين مثل بيكاسو الذين يمكن ان تعتبرهم رواد التنظيم والحساسية الحديثة للفن. فاذا تراجع نشاط العقل فهناك نشاط الغرائز بمعنى الميل والمشاعر والعواطف وفي كل الحالتين يصبح كلا مركبا. والفن الاسلامي ينحو في اصله الى ابراز العنصر الجمالي خاصة في الاشكال الزخرفية السرمدية حيث يعتقد ان العنصر الجمالي قادر على عكس صوره سلوكية للانسان جميلة تؤدي بالاخير الى الابتعاد عن الممارسات القبيحة والشريرة.3146 موسى جاسب

القسم الثاني في اعمال موسى هي الاشكال الفطرية والتي تشبه الاشباح او الاقزام اذ تبرز فيها العيون كبيرة والايدي والارجل قصيرة ويطغي عليها الطابع الطفولي ولكنها معبرة بشكل مثير للتامل والتفكير وتذكرنا باعمال الفنان الفطري منعم فرات. وهناك فرق بين عمل الاطفال وعمل الفنان حيث الاول يعتمد في عمله على الغرائز والعواطف بينما الثاني يعمل بعقلية ذهنية ناضجة.. وهذه الاعمال التي نراها، تشبه اعمال الانسان البدائي وافكاره الغيبية المرتبطة بالسحر والدين والخرافة وهي تنحو نحو العقل الباطني. وكان الفنان البدائي يحاول اخراج العالم المخفي المخزون وراء الحجب فهو يريد ان يكشفه ويبرزه الى عالم المدركات الحسية معتمدا على وعيه الثقافي البدائي وايمانه بذلك العالم الميتافيزيقي... وقد يتبادر الى الذهن ان اعمال موسى تمثل عالم اخر غير عالمنا فهي اشكال مشوهة واقزام مخيفة خرجت من عالم اللاواعي او الغيبي الى العالم المرئي مجسدة ومحسوسة ماديا في ساحة الذهن الواعي...3147 موسى جاسب

والفن الفطري يمارس بدون تدريب او دراسة رسمية وكانت هذه من صفات الفن البدائي الافريقي خاصة العيون المفتوحة وملامح الوجوه المتشابهه مثل الاقنعة المصنوعة من الخشب والفخار. وقد طغت الرمزية والاسطورة الدينية والسحر على هذه الاعمال كما نجد انها تفتقر الى الواقعية ولكنها لها سمات انسانية وغالبيتها اشكال صغيرة توحي بصناعة الدمى للاطفال..

ونجد هذه الظاهرة ايضا في اعمال هنري روسو.

التماثيل الفخارية عند موسى تمتاز بالتعبيرية والمهار والحرفة والتجربة الطويلة حبث صنع من مادة الطين روائع فنية صادمة. اضف الى ذلك ما توحيه من اشكال تعبيرية وافكار وجمالية تتجسد في المنحنيات والجسم المبالغ فيه والتشويه في الشكل والعيون البارزة.. وقد تخلى موسى عن التفاصيل لصالح الرمزية كما كان الفنان البدائي يفعل ذلك حيث كان يطيل شكل الثور ليوحي بالقفز وهو من نوع الرمزية ذات المغزئ الاسطوري. كذلك نرى موسى يقزم الاشكال من اجل التعبير عن افكار قد لا نفهمها بسهولة.

وقد هرب كوكان من الحضارة الغربية وزيفها وذهب الى جزر هاواي ليرسم هناك النقاء الروحي والفن الفطري في مجتمع يكاد ان يكون بدائي..

بعض النقاد عد هذا اللون من التشويه في الاشكال يعود الى مشاكل نفسية او اجتماعية او قد تكون ايضا نقد للمجتمع وانحطاطه الاخلاقي وامراضه النفسية.. يقال في قصة طريفة ان احد فلاسفة الاغريق كان في يوم من الايام يسير وسط النهار بين الناس وهو يحمل شمعة او مشعلا مضيئا فقيل له ماذا تبحث قال عن رجل طيب. ؟.

اما المعري فيصف مجتمعه بالجهل.. فقال (لما رايت الجهل في الناس فاشيا.. تجاهلت حتى ضن اني جاهل).

***

د. كاظم شمهود 

1- خوليو غونثالث 1876 :Julio Gonzalez

يعد خوليو غونثالث Julio Gonzalezالاسباني 1876-1942 اسطورة الفن الحديث والاب الروحي المجدد الطلائعي للنحت المعاصر. وقد فتح قرائح الفنانين الحديثين في شتى صور الفن وروائع الابداع.. وهو الاول الذي شق الطريق لفن النحت الحديدي ذو الاشكال الهندسية بطريقة الطرق والصهر بالنار. وكانت اعماله تطبع تكوينه وميوله الحرفي والفني الذي انطبع به منذ نعومة اظفاره يوم كان مع ابيه يعمل حدادا. فخرجت اعماله بجمالها وروعتها اصيلة تعبر عن ذلك الخيال والانتماء لحرفة الحديد. ولد خوليو في برشلونة عام 1876 وكان ابواه من اصول اندلسية، وكان ابوه وجده يعملان في الحدادة وكان خوليو يساعد والده في ورشة الحدادة عندما كان صغيرا.. وفي عام 1898 توفى والدهم. وفي عام 1900 قررت العائلة بيع ورشة الحدادة والانتقال الى باريس. هناك نصب خوليو له ورشة عمل حدادة ونحت كانت محط لقاء الفنانين امثال بيكاسو وبراك وغيرهم من المعروفين الباريسيين..

و يذكر بعض المؤرخين ان حركة التجديد للنحت بدأت بعد الحرب العالمية الاولى او قبلها بقليل وان خوليو غونثالث في اعماله النحتية المعدنية الذي استخدم فيها اللحيم من ابدع ما ظهر في بداية القرن العشرين. وكانت تعتبر نقطة هامة في التحول النحتي الحديث الجاهز والمركب.. يضاف اليه النحات الامريكي ريتشاد ليبولد في الاربعينات وكذلك النحات البريطاني ادواردو باولتس والفنان الفرنسي مارسيل دوشامب الذي لفت النظر الى النحت الجاهز وكذلك الفنان جون دوبوفيه الذي استخدم طريقة التركيب في منحوتاته وصنع بعضها من الاسفنج...3120 دافيد

2: دافيد اسميث 1906: David smith

و هو نحات ومصور امريكي ولد في نيويورك عام 1906، كان موقعه في النحت الحديث كموقع بولوك في التصوير، وتمتاز اعماله كونها من نتاج الحضارة التكنولوجية المتقدمة، كان في شبابه يعمل في معمل سيارات ثم في الصناعات الثقيلة خلال الحرب العالمية الثانية، وذكر انه اخذ الراية من الفنانين الاسبان خاصة بيكاسو وخوليو غونثالث وخورخي اوتيثا وادواردو جييدا، فقد استغل مادة الصلب خير استغلال في اعمال ذات جمالية وسحر. كما تأثر بموندريان وكاندنسكي والتكعيبية. وقد كان سميث طلائعيا متمردا على التقاليد الفنية التقليدية وفنانا مذهلا في مرحلة الخمسينات وسريع الانتاج. وقد قدم اعمالا غاية في الابداع والابتكار، فكان يستغل قطع الحديد المختلفة الاشكال ويبني ويركب منها اعمالا خيالية. ففي سنة 1946 اقيم له معرض في نيويورك وكان من اعماله المعروضة مكعبات من الحديد بعضها فوق بعض قائمة على قاعدة عمود. وفي ايطاليا وجهت له دعوة للعمل والعرض، فهيأت له مصنعا قديما بمثابة ورشة عمل فانتج 26 عملا نحتيا جاهزا في غضون 30 يوما وباحجام مختلفة..

British artist Sir Anthony Caro poses for photographers with his sculpture entitled 'Early One Morning' during the press view of the 'Modern British Sculpture' exhibition at the Royal Academy of Arts in London, on January 18, 2011.  The exhibition will examine British sculpture of the twentieth century and will run from January 22 to April 7, 2011. AFP PHOTO/Ben Stansall

3: انطوني كارو- 1924: Antony Caro

و هو نحات انكليزي وقد تمتع بسمعة كبيرة كما هي عند دافيد سميث، استخدم انطونيو الاشياء الجاهزة من الصلب وقضبان الحديد وقطع من الهشيم المعدني الخشن وعمل منها تكوينات لولبية تتدفق حيوية وخيال، وكان تلميذا للنحات الانكليزي هنري مور، وكانت اعماله تأخذ في بنائها مركزا افقيا بينما معظم اعمال سميث راسيا او عمودية. وبالتالي فان اعمال كارو تبتلع الفراغ والارض في تحتها وقد تم الغاء القاعدة. بينما سميث يفضل ان تكون اعماله في الهواء الطلق معلقة.. كاروا يأخذ القطع الجاهزة من حديد البناء مثل (الشيلمان) والقضبان والاسلاك والانابيب والاسطوانات وغيرها من المعادن ويشكل منها اعمال نحتية جاهزة تعبر عن خيالاته وافكاره. وقد شاهدت له معرضا ضخما في لندن في كالري تاتي TATE قبل عدة سنوات كان غاية في الجمال والابداع وكانت قطع الصلب كبيرة الحجم وضخمة ولا اعرف كيف ادخلوها صالات العرض. او ان الاعمال قد تم بنائها داخل الكالري.3122 اوتيثا

4- خورخي اوتيثا 1908: Jorge otiza

. ولد الفنان خورخي اوتيثا Jorge Oteiza في مدينة سان سيباستيان عام 1908 وتوفى عام -2003 والتي تقع شمال اسبانيا، وهي عاصمة مقاطعة غيوبوثكوا الباسكوس Guipuzcua ويعد الاستاذ الاول في النحت في اسبانيا.. كما يعتبر هو ومواطنه ادواردو جييدا من ابرز النحاتين العالميين في القرن العشرين.

اذا تأملنا الانتاج الفني لخورخي والمرحلة التأريخية التي عاشها في بداية القرن العشرين. نجد هناك تأثيرات كثيرة قادمة من بعض الفنانين الاوربيين والاسبان امثال الفنان الاسباني خوليو غونثالث 1876 الذي ذكرناه سابقا. وكان خورخي كثير السفر والتنقل بعيدا عن موطنه الاصلي، كما كان يساريا مطاردا من قبل نظام فرانكو.. ويذكرنا هذا الفنان المغامر ورحلاته التي دامت حوالي 15 سنة بالفنان الفرنسي كوكان الذي هرب من جحيم الحضارة الاوربية وذهب للعيش مع الشعوب البدائية في جزر تاهيتي.. وفي عام 1950 كلف في عمل عدد من المنحوتات الدينية لاحد الكنائس في- غيوبوثكوا – الباسكو – وقد نفذها باسلوب حديث غير مألوف للذوق الديني الكنسي مما دعى رجال الدين الى ايقاف العمل. وبقى العمل معلقا حتى سنة 1968 اي 12 سنة، ثم سمح له مرة ثانية بالاستمرار فيه بعدما تطورت الذهنية وتغيرت الاذواق.. ومنذ الخمسينات غادر خورخي الشكل التشبيهي ( التمثيلي ) ودخل عالم الاشكال الهندسية إذ احدث حوارا بين المادة والفراغ، وجعل الفراغ جزءا من تشكيلة العمل الفني...

و بعد حصوله على الجائزة الاولى في بينال البرازيل عام 1957 اصبحت اعماله مرغوبة الطلب من قبل الكالريات والمؤسسات والمتاحف الفنية وكسب شهره عالمية. وقد دخلت اعماله في عالم العمارة والشعر والفلسفة، وهو يقول (لاحظت ان اعمالي النحتية تتكلم...) ويمثل ذلك بعدا روحيا وفلسفيا متطورا في حياته الفنية. كما اعتمد على الاسطورة والخيال في تنفيذ ومعالجة اعماله. وقد شاهدت له اعمال ضخمة في عدة مدن اسبانية خاصة مدن الباسكو. كما شاهدت له فيديو يتحدث فيه عن افكاره واعماله بفلسفة وبعد روحي وكان ينتقد المؤسسات الحكومية لعدم اهتمامها باعماله، وكان طليق الحديث والنقد، ولديه ثقافة واسعة جدا. ويقول انه وصل الى قناعة مفادها أنه وصل الى مرحلة قدم فيها كل ما عنده من شئ ولا حاجة له في الاستمرار بالحياة، واخيرا انتحر.3123 جييدا

5- ادواردو جييدا 1924: Eduardo chillida

ولد جييدا في مدينة سان سيباستيانSan Sebastian – بلاد الباسكو – في اقصى شمال شرق اسبانيا عام 1924... بدا جييدا حياته كشاب رياضي ينتمي الى نادي - ريال سوثيداد - كحامي مرمى وكان ابوه يشغل رئيس النادي. ثم ترك الرياضة بعدما اصيب باحد ركبتيه.. بعد ذلك انتقل الى مدريد ودخل مدرسة الفنون. وبدأ يمارس النحت مستخدما مادة الجص. بعدها عاد الى موطنه الاصلي واخذ يتعامل مع مادة الصلب في تنفيذ اعماله النحتية. ثم سافر الى باريس واشترك بعدة معارض فنية.. ومن هنا بدأت سمعته تأخذ طريقها الى الانتشار.. بعدها عاد الى موطنه عام 1951. واستقر فيها حتى وفاته عام 2002..

لقد تأثر جييدا باعمال الفنان والمثال الكبير خورخي اوتيثا Jorge Oteiza 1908 وهو من مدينته سان سيباستيان ايضا – وسلك الطريق تفسه في التعامل والحساسية مع مادة الصلب المطاوع والمعالجات والتشكيلات. وهناك نجد تشابها كبيرا بينهما. وحدثت مشاكل بين الاثنين فقد احتج خورخي على جييدا واتهمه بانه يستنسخ اعماله.

كانت اعمال جييدا نتاج تأمل هادئ للفضاء وعلاقته بالانسان.. استخدم مواد الصلب والغرانيت – حجر السماقي – والخشب والطين. وتعامل مع الحديد المطاوع بالطرق والصهر.. وشكلت اعماله حوارا مؤدبا جميلا بين الفراغ والشكل والفضاء. وكانت اعماله معضمها تجريدية واختزالية اي مسطحة بتشكيلات تركيبية رائعة، معظمها مكعبات وباحجام كبيره.

ويذكر انه كان يعمل ماكيتات صغيرة لاعماله، ثم ينفذها مساعديه باحجام كبيرة. وهي منتشره اليوم في انحاء العالم وقيمتها الفنية تعادل اعمال كبار رواد الفن الحديث امثال بيكاسو وتابيس وميرو.

***

د. كاظم شمهود

لو راجعنا الفنون الاسلامية لوجدنا انها فنون متشابهه رغم انها تنقسم الى عدة مدارس فنية وجغرافيات متباعدة، ولكن هذه المدارس ترتبط فيما بينها بعناصر مشتركة وعوامل جغرافية محلية تلعب دورا كبيرا في تمييز مدرسة عن الاخرى، وهذا البحث يحتاج الى متخصصين في الفنون الاسلامية لفرزها وتصنيفها. مثل المدرسة البغدادية والمغولية والصفوية والتركية والهندية وغيرها.

في النصوص الدينية وفي تفسير القران الكريم ورد مصطلحان هما المحكم والمتشابه والمحكم هو واضح معناه ولا يحتمل التاويل الا وجها واحدا اي لايحتاج الى نظر وتدبير وقد ورد في القران الكريم معنى المحكم مثلا (حرمت عليكم امهاتكم) وهذه لا تحتمل الا وجها واحدا اي معنى مفهوم عند الجميع.

اما المتشابهات فهو ما احتمل من التاويل اوجها واحتاج الى تامل وتفكير في الوقوف على المراد، مثلا (يد الله فوق ايديهم) وهنا يحدث التاويل حيث يد الله تعني القدرة ولهذا هناك تاويل للصفة فاليد معروفة عند الانسان ولكن عند الله تعني شيئا اخر..

وقد وصفت المحكمات بانهن ام الكتاب واخرى متشابهات...3098 فنون

في مجال الفنون البصرية نجد هذه المعاني والمفاهيم موجودة في المدارس الفنية الحديثة والتي بدات منذ القرن العشرين حيث هناك محكمات اي المدراس الاساسية والتي تعتبر ام كل الفنون المعاصرة بمختلف اتجاهاتها وفلسفاتها واساليبها، وهذه المحكمات يدور حولها كل الفن المعاصر ومنطلقا الى افاق واسعة وكبيرة.. اما المتشابهات فهي التي ولدت من رحم المحكمات والتي تشكل غالبية فنون العالم اي انها تحمل تاثيرات من المدارس الام وقابلة للتاويل والتفسير. ولا تجد عملا فنيا اليوم الا وهو ينتمي الى احد المدارس الاصلية الحديثة والتي ظهرت في بداية القرن العشرين. ويمكن ان نشبه المحكمات مثل المدرسة الانطباعية والواقعية والتكعيبية والتجريدية والسريالية والمفاهيمية وغيرها..

الا ان مع تطور الانسان على درج التقدم والخبرة الفنية كان لا بد لتلك الاساليب ان تدخل في طور الصقل على ضوء العديد من المحاولات والتجارب التي يقوم بها الفنانون الرواد..3099 فنون

ويمكن ان نصف الفن العربي المعاصر بالمتشابهات اي انه يستنسخ عن المدارس الاوربية الحديثة بمعنى ان فلان الرسام يشبه في عمله المدرسة التجريدية وان الاخر يستنبط عمله من المدرسة المفاهيمية وهكذا.. ولكن لكل فنان خصوصية يمتاز بها عن غيره مثل ضربات الفرشة او نوع الالوان ومواد الخام المستخدمة وغير ذلك. وقد اعترف الكثير من الفنانين العرب بتبعية الفن العربي للغرب ، ولكن الناقد جبرا ابراهيم جبرا ذكر بانه لا ضير ان ناخذ من الغرب ما داموا هم اخذوا منا حضارتنا سابقا.. كما ان فلسفة بعض المدارس الحدبثة بعيدة كل البعد عن المحاكات الطبيعية حيث تشيع فيها الخطوط المستتقيمة والمسطحات اللونية والخطوط المنكسرة او العفوية، اذ هي بهذا التبسيط تعتبر ممثلة لحركة فنية تجريدية تهدف الى اظهار ما هو جوهري ومعنوي وخفي دون تصوير ذلك الجسد الفاني بتفاصيله الواقعية..3100 فنون

و لهذا يكون النقد اليوم في محنة وورطة التصنيف والبحث فاذا كان الناقد ليس لديه خلفيات ثقافية عن تطور تاريخ المدارس الفنية القديمة والحديثة. وخصائصها وفلسفاتها وروادها فمن السهل ان يقع في المحذورات ويكون بحثه ليس فيه مصداقية. وقد وجدنا ان كثير من كتابات النقاد اليوم غالبيتها تتصف بالاسلوب البلاغي اللغوي وكثرة المفردات المنمقة، واحيانا تاخذ صفة الصفصطة ثم تاخذ اسلوب الوصفية بمعنى انه يصف تفاصيل اللوحة تاويلا وتفسيرا من الفكرة الى التقنية.. وهو يذكرنا باسلوب نجيب محفوظ في كتابة رواياته حيث تتصف بالوصفية اي انه يصف بطل الرواية من الراس الى القدم.... يقول المفكر الانكليزي هربرت ريد مازال النقد اكثر بعدا عن الدقة الفلسفية بحكم كونه في اصوله وتطوره امتداد لمراحل تطور النقد الادبي..

كما لاجظنا من المفارقات الغريبة ان بعض الطلبة في الفنون الجميلة يعملون مشروع رسائل الدكتوراة عن اعمال اساتذتهم؟ ولا اعرف اي مسوغات تدعو الطلبة الى عمل هكذا لون من الرساءل اذا كانت اعمال الاساتذه هي مستنسخة من رواد الفن الحديث اي تقليد للمدارس الاوربية الحديثة ؟؟.

***

د. كاظم شمهود 

 

سايكولوجية الألوان ورمزية وظيفتها الابداعية

يجتمع في شخصية الفنانة التشكيلية سميرة الخياط فيض من السمات التي خلقت منها انسانة ذات حضور مؤثر في محيطها الإجتماعي والفني سواءً في العراق أو في بلدان عديدة كفرنسا والاردن ولبنان وتونس ومصر وليبيا واليمن ودول الخليج وغيرها عبر مشاركاتها الوطنية والعالمية والتي تتجاوز المائة وخمسين مشاركة، وتتمثل هذه المشاركات بمعارض شخصية افتراضية وواقعية للوحات الزيتية والمائية فضلا عن لوحاتها المبهرة لتنسيق الزهور الطبيعية والتي جسدت من خلالها نبض الطبيعة والبيئة العراقية.

في تعاملها اليومي فهي في منتهى الرقة والعفوية، ولها بصمتها الفنية المميزة، وقبل كل هذا فهي تمتلك في أعماقها قوة لا يستهان بها في مقارعة المرض الخبيث الذي تعاني منه منذ عدة سنوات.. وترجح بأن ارادتها الصلبة وتفاؤلها وثقتها المطلقة بالله وبنفسها كفيلة بقهرالمرض وتجاوزهذه المرحلة العصيبة في حياتها.

163 سميرة الخياط

تشي لوحات الخياط المرسومة بالألوان المائية في غالبيتها تبنيها لقواعد المدرسة الانطباعية أو التأثرية في الفن وهي مدرسة فنية أوجدت في القرن التاسع عشر وإستمدت إسمها من عنوان لوحة للرسام الفرنسي كلود مونيه الموسومة (انطباع شروق الشمس) التي قام بإنجازها في العام 1872 م، وتعزو الفنانة هذا التأثر لأنها ترى بان الانطباعية (تقترن بمفاهيم الفن الكلاسيكي القديم) ولأنها تيسر سبل (تفكيك الالوان علی اللوحة ثم اعادة تركيبها امام العين) وتذهب بالقول الى (ان عشقها للالوان والطبيعة تصل حد النخاع وان فترة الرسم لديها تشبه فترة الصيام أو تطهير النفس من ادرانها والتسامي الكلي في الاحساس الی حد التلاشي واحيانا الشعور بنوع من الخشوع والتنسك اللذين يسبقان الاحتفالات الدينية، وان رسم البيئة والطبيعة هو نوع من التلاحم بين الانسان والطبيعة او هو حالة التوحد مع الله). ومن هذا المنطلق فإنها تستمد من نسغها الصاعد في شراينها التصاقها الروحي بالطبيعة العراقية رغم سياحاتها السندبادية حول بلدان العالم. ولاشك أن طبيعة تلك البلاد فاتنة ومهيمنة على أحاسيس ومشاعر الإنسان، وهي ملهمة بالخاصة للفنانين لكي يعكسوا جمالها الاستثنائي وتوظيف معطياتها الآخاذة في منجزهم الابداعي، وقد تغدو طبيعة العراق مقارنة بها متواضعة بحكم الطقس وعوامل الجغرافية ورعاية الإنسان لها، لكن تمسك سميرة بالانغمار بطبيعة بلادها في جلّ لوحاتها يتجاوز كل تلك المغريات، وتعكس وفائها لأرضها وناسها وحرصها على إبراز موروث وأدب وحضارة العراق في ارجاء المعمورة.164 سميرة الخياط

يقول الكاتب الفرنسي دوشاتوبريان أشهر كتاب عصره والمتوفى في ١٨٤٨م أن ” الفن هو الأسلوب، والأسلوب هو الإنسان” ولأن الأساليب الفنيّة بمعناها الحديث تعني هي الطرق التي يتّخذها الفنان أو المتخصص في مجال فني معين في التعبير عن اتجاهاته وأرائه وأفكاره الخاصة، فمن هنا فإن دراسة أسلوب لوحات الفنانة سميرة تفسر قدرتها على استباط مدلولات المنهج الانطباعي الذي يلزم الفنان بإبراز محصلة تفاعله الإنساني مع الطبيعة والألوان بتركيز شديد، وبراعة فائقة لكي يستطيع أن يرسُم فكرته بشكلٍ مُتقنٍ وأن يتنفّس من عبق موهبته، ويستطيع محاكاة فكره بل ويعبر عنه بوضوح بصيغة جاذبة للاهتمام ومريحة للعين ومحفزة للعقل، ويبدو أن إختيار الألوان المائية بالذات في اللوحة لا يتيح الكشف عن معالم الطبيعة فحسب بل ويحل توتر الفنان ويتحكم في عناصر الماء والطلاء الذي هو الأكثر إثارة في الرسم.165 سميرة الخياط

دلالات الالوان

تطغي الوان الازرق والاصفر والاخضر والابيض المائية على لوحات سميرة التي في جلها مناظر لطبيعة الريف العراقي، ولاشك أنّ مدلولات الألوان واسعة للغاية وتحتاج معرفة سايكولوجيتها الى الكثير من الدراسة والتعمّق، فالفنانون البارعون يدرسون سيكولوجية الألوان وتأثيرها على المشاعر والأمزجة بفهم ودراية مستفيضة قبل المباشرة بلوحاتهم، لذا فإن تفسير انحياز سميرة الخياط الى اللون الازرق في لوحاتها المائية تفسر رغبتها في التفاعل بين مضامينها والمتلقين لها فضلا عن اجواء الثقة والهدوء التي يعكسها هذا اللون، فيما يعمق توظيفها للون الأخضرفي داخلها تمسكها ببساطة الحياة في الريف العراقي وعشقها اللامحدود للطبيعة والحياة، اما المساحة الواسعة للون الاصفر التي تهيمن على الالوان الاخرى في أغلب لوحاتها فإنه يفسر رغبتها في إشاعة التفاؤل والسعادة، والانعتاق من واقعها الصحي الموجوع الى آفاق من الشغف والمتعة الروحية التي تبصم صلاتها بالناس من حولها، فهي تحيل المكان حيثما تكون فيه الى فسحة من البهجة والصميمية وكأنها توحي باصرارها الذي لا يلين على قهر المرض الذي يجابه شتى صنوف المقاومة النفسية والجسدية فيها فتجعل من الرسم عملية مُحاكاة لما تستشعره في أعماقها من معان ٍ أو ما تراه رأي العين، فتحيل اللون الى صوت مسموع له صخب وصدى، اما اللون الأبيض فمن نافلة القول عن مدلولاته الشائعة والمعبرة عن النقاء والبساطة والبراءة وهذه سمات سلوكها اليومي المشحون بالنشاط والإنجاز والتوق للجمال وهو الذي وشحت به معرضها الشخصي الثامن عندما اختارت له عنوان ( القلب اضناه عشق الجمال).166 سميرة الخياط

من الواضح ايضا أن الوفرة الابداعية للخياط من خلال حركتها الدؤوبة وحجم منجزها الفني الذي يجسد توقها وانجذابها إلى الفن والرسم بالذات تفسر ايضا انهماكها في التأكيد على دور المرأة ككيان إنساني له حضور مميز في مجتمعنا الحديث، فهي بذلك تطرح وتعمق في المخيلة الاجتماعية الصورة البديلة للمرأة كإنسانة فاعلة في بيئتها الاجتماعية عندما تغدو تلك المبدعة، والقوية، والمالكة للغتها الخاصة والتي تنجح في تخطي الانطباع النمطي عنها كونها تابعة وضعيفة، وتتسم بملامح سلبية، وتوصيفها بمحدودية دورها الانساني، من هنا فإن الصور الملهمة والقدرة الفذة لهذا النوع من الفن اي الرسم بالالوان المائية على التعبير بشكل غير مباشرعن تطلعاتها، فربما يعتبر الرسم المتنفس لها حتى ادركنا هذه المرحلة في هذا الوقت الذي لا يوجد فيه عوائق تحد من طموح الفنانة العراقية، وانطلاقها في فسحة التعبير من خلال اللوحة المنجزة بالالوان المائية خاصة بل في تجربة الفن التشكيلي بشكل أعم الى آفاق الحياة الفسيحة.

3241 سميرة الخياط

ان فرشاة سميرة الخياط المغموسة بالالوان توحي في حركتها الابداعية بنوع من التأمل في الطبيعة الذي يؤسس لعمل فني يمتاز بعمق العواطف وسحرها، فهي تستقي من روحها لغة أعمق من الكلام أوالكتابة، فتسبق الفكرة إلى الإلهام، لتحيل اللوحة الى قطعة فنية رمزية ومعبرة تفيض بالتفاؤل والحيوية وقاهرة للياس والقنوط.

***

محمد حسين الداغستاني

جاك ريـــڤـير (1886-1925) Jacques Rivie’re أديب وناقد فرنسي وصف بأنه أحد أقطاب النهضة الفكرية الفرنسية بعد الحرب العالمية الأولى. وهو الذي ترأس تحرير مجلة La Nouvelle Revue التي تعتبر مجلة الطليعة الفكرية في فرنسا آنذاك.

في مقالة تحليلية له بعنوان "عن الاتجاهات المعاصرة في الفن" المنشورة عام 1912 في Revue d’Europe et d’Amerique كان التركيز على اعمال النخبة الاولى من التكعيبيين (بيكاسو وبراك وليجيه وديلوني ودوشامب وميتزنگر وآخرين) ومعالجاتهم التشكيلية وتبريراتها في هذا الاسلوب الجديد.

يؤكد ريفير بأن التبرير الاساسي العام للاتجاهات الحديثة في الفن وخاصة التكعيبية هي تصوير محتوى وجوهر الاشياء وحقيقتها غير المرئية (profound reality; sensible essence) بدلا من مظهرها الخارجي الذي تؤهلنا قدرتنا البصرية على ادراكه. ويرى الناقد في ذلك بأنه من اجل اظهار محتوى الاشياء وترجمة جوهرها بمفردات تشكيلية على الكانفس، لجأ التكعيبيون الى عدة معالجات تشكيلية، كانت الاساسية منها هي:3039 cubism9b

- إلغاء الإضاءة:

نحن نعرف ان الضوء المسلط على أي شئ يمثل في الحقيقة لحظة معينة من الزمن، وهو بالتالي حالة مؤقتة يتطلبها تصوير مظهر الاشياء كما هي في ذلك الوقت المعين والموضع المعين ايضا، مما يؤدي الى تغير الفورم بتغير مساقط الضوء الناتجة عن تغير الوقت والموضع. نستدل من ذلك بأن رسم مظهر الاشياء كما تبدو لأعيننا ليس بحالة ثابتة انما متغيرة. فاذا كان الرسام لا يهدف الى تصوير الاشياء كما هي بل الى التقاط حقيقتها ومحتواها وجوهرها وهي حالات ثابتة فانه لن يفلح باتباع الطريق المعتاد الى تصويرها بحالها المتغير الذي تجسده الاضاءة. ومن هنا اتضح ان الغاء الاضاءة سيمهد الطريق الى الوصول لكينونة الاشياء الثابتة! ولكن ماذا سيعوض عن الاضاءة عمليا؟ أي كيف سيجعلنا الرسام ندرك المحتوى اذا اختفت الاضاءة من على الاشياء؟ يجيب الناقد على هذا السؤال الصعب بتصحيح العبارة أولا، فيقول ان الاضاءة لا يمكن حذفها بالكامل لكن المقصود هو تخلي الفنان عن تتبع مسار الضوء الفيزياوي الذي يسير بخط مستقيم فيسقط على من امامه من الاشياء والتي قد تحجبه عما يقع خلفها من اشياء اخرى لتصبح هذه الاشياء معتمة. وهذا بالطبع ما ينتهجه الرسام الواقعي فيكون الضوء في لوحته موزعا على الاشياء في اللوحة بشكل غير متساو ولا منتظم تبعا لتضاريس تلك الاشياء وكيفية حصولها على الاضاءة. وهذه هي الخاصية الفيزياوية التي يتخلى عنها الرسام التكعيبي فيسمح لنفسه بتوزيع النور على سطوح الاشياء بطريقة عشوائية تشبع قناعته التشكيلية. وهكذا نرى الضوء في اغلب اللوحات التكعيبية وقد توزع على التضاريس المختلفة بطريقة لاتشبه ما اعتدنا على ادراكه. فقد تكون متجانسة ومتناوبة ومتباينة بدرجة سطوعه وخفوته ، حتى اننا نرى كل مساحة مظللة تتبعها مساحة مضاءة بالتعاقب. وهذا ما يحمل التكعيبي على تحطيم المشهد واعادة بناءه وترتيب اجزاءه بغض النظر عن مساقط الضوء عليها! وهو البديل لمسألة الغاء الاضاءة من اجل الابتعاد عن حالات الاشياء الموقتة الطارئة والسعي لاظهار محتواها الثابت.3040 cub5b Juan Gris

- إلغاء المنظور

المنظور ايضا ظاهرة طارئة وليدة اللحظة، تماما مثل الاضاءة. فحين تعكس الاضاءة لحظة معينة من الزمن، يعكس المنظور زاوية النظر التي يحتلها الناظر. وبهذا يكون المكان هو المحدد الاساسي للفورم، وما سيكون عليه ترتيب الاشياء تبعا لقربها وبعدها عن نقطة الموقع تلك. خذ مثلا اذا اراد الرسام ان يرسم كرسيا في وسط الغرفة، فبامكانه ان ينتج عشرات الاشكال لنفس الكرسي وهي تختلف باختلاف موقعه منه في الغرفة، يمينا وشمالا ومن الامام والخلف ومن اعلى وادنى من مستوى النظر الافقي التقليدي.

وهكذا فالفورم تتغير بموجب المنظور الذي يتحدد تبعا لموقع الناظر والمحكوم بقوانين الضوء الفيزياوية المعروفة. وبذلك فخاصية عدم الثبات تحيلنا من جديد الى ان السعي وراء اظهار المحتوى والجوهر يستلزم التقاط ماهو ثابت لايتغير، وهذا يعني التخلي عن المنظور وايجاد بديلا عنه. فما الذي ياترى سيحل محل المنظورالمحكوم بقوانين فيزياوية صارمة لامفر منها؟ يقول ريفير ان البديل يمكن ان يكون عن طريق الاهتمام فقط بزاوية النظر الاهم والاكثر هيمنة على المشهد والتي قد تسهم باظهار المحتوى بأفضل مايمكن. كما يمكن ان يكون البديل متجسدا باظهار اكثر من هيئة، اي مجموعة هيئات متداخلة تمثل كل زوايا النظر الاخرى. وفعلا فاننا قد نتذكر بعض الاعمال التكعيبية الاولى التي يظهر فيها وجه الانسان وقد تجمعت فيه عدة وجوه من زوايا مختلفة. فكل ذلك التحوير هو من اجل الوصول الى تقديم الشكل بما يتطلبه المحتوى حسب ما يعتقد الفنان. فالفنان في هذه الحالة يستطيع الولوج الى داخل الاشياء واظهارها على حقيقتها الجوهرية الثابتة.3041 cubism2

اخطاء التكعيبيين

يواصل ريفير فيعيب على التكعيبيين بعض مبرراتهم. يبدأ بذكر المعالجة الانطباعية بقصد المقارنة. فيقول لم يخرج الفن بعد من خيمة الانطباعية، فكل الفنون انطباعية بمعنى انها لا تعكس فقط مانراه، انما مانشعر نحوه ايضا. والقصد واضح وهو ان الانطباعيين قدموا معالجتهم الاساسية على انهم لم يصوروا الاشياء بحذافيرها الفوتوغرافية كما فعل من قبلهم من فنانيين، بل انهم ضخوا في اللوحة ما يشعر به الفنان أزاء المشهد، فالفورم واللون والتكوين ظهرت في لوحاتهم كما تراها العين بل كما تشي به احاسيس الفنان الداخلية أزاء المشهد عموما. وبذلك فان الانطباعية قد وضعت وسيطا فيما بين العين (وفعلها الفيزياوي الثابت) والمشهد (ومظهره الخارجي في تلك اللحظة). هذا الوسيط هو مايتبلور من أحاسيس في دواخل الفنان والمتلقي على اختلافهما. ثم يعرج الناقد الى ما ارتكبه التكعيبيون من هفوات. هفوتهم الاولى تتمثل بما قد يحدث عندما يلجأ الفنان الى تصوير كل وجوه الشئ من مختلف زوايا النظر من أجل ان يمثل هذا الجمع غير المتجانس الحقيقة التي يخفيها المنظور الذي يقدم زاوية نظر واحدة. والخطأ في ذلك ان هذه المعالجة، وبغياب المنظور، ستؤول الى تصفيف الوجوه من زوايا نظر مختلفة على مستوى خط النظر. فماذا ستكون النتيجة ؟ سنشعر بأننا نرى الشئ وقد فُتح امامنا كما نفتح الخارطة على سطح مستو، وهذا ما يعود ليخالف القصد بتصوير حجم الشئ وحقيقته الداخلية الثابتة.

والهفوة الثانية التي يشير لها الناقد هي التي يقول فيها لو جرى حذف الاضاءة والمنظور معا فإن ذلك سيلغي النظر الى الاشياء اصلا، وبالتالي يتعذر النفوذ الى محتواها، مما يؤول الى الفوضى واللامعقول. ويواصل فيذكر الهفوة الثالثة المتعلقة بمعالجة "عمق الميدان" كما يحدث مثلا في رسم بناية من مسافة معينة فان التخلي عن المنظور قد يؤول الى تعويض الفضاء بين نقطة النظر والبناية بامتداد صلد يحاكي رسم جدران البناية! أي ان خطوط المنظور الوهمية الممتدة في الفراغ تتحول الى استطالات مجسمة كونكريتية من أجل تمثيل العمق دون الاستعانة بالمنظور، باعتبار ان وظيفة العمق هي التفريق بين جسم وآخر حسب بعد الاجسام عن زاوية النظر! ولكن حسب ما يقول الناقد ان مثل هذه المعالجة ستؤدي الى اضافة كيانات اخرى تزحم المشهد وتشوش الادراك مما يفسد تبرير الغاء المنظور.3042 cubism6b

رأي شخصي:

- بادئ ذي بدء، لابد ان اقول انه ليس من السهل عليّ ان اقبل استعارة كلمة "نظرية" في حقل الفن. لماذا؟ النظرية هي مجموعة المبادئ التأملية التجريدية العقلانية التي تفسر الواقع العملي أو أي نشاط أو ظاهرة معينة. والتعريف العلمي للنظرية لايكتفي بالمبادئ التي تقدم تفسيرا ارتجاليا مجردا للواقع، انما ينبغي في التفسير ان تكون له القدرة الكافية على البقاء well-sustained، أي انه قابل للتكرار للحد الذي ينبثق عنه نمط واضح pattern ومعزز ومدعوم بالأدلة والقرائن، ومصمم بالشكل الذي يخضع للاختبارليتسنى من خلاله بناء التنبؤات القادمة وصياغة التعديلات الضروية لضمان تطابق النظرية مع الواقع. فأين الفن من ذلك ؟ وهو حقل تعبير الفنان عن انطباعاته حول موضوع معين، مستخدما وسائل تكنيكية، وهنا اتحدث بالذات عن الفن البصري. فطالما سلمنا بان كل الفنون هي تعبير عن اعتقادات وانطباعات فنانيها، يصبح الفن حقلا ذاتيا بالكامل وليس للموضوعية فيه أي مجال. وأرجو ان لايحدث اللبس بين هذه الموضوعية وبين معناها في الطرح العادل المنصف.

- لديّ مشكلة اخرى مع ذلك الاعتقاد الذي انتشر كالنار في الهشيم منذ بداية القرن العشرين حيث تفجرت تيارات الحداثة ولحد اليوم. ذلك هو الاعتقاد حول السعي لتصوير المحتوى والجوهر! خاصة في تعميم المفهوم على كل ما يرسمه فنان الحداثة. فأي محتوى وجوهر للاشياء اذا كنا نصور الاشياء الجامدة كالبناية والكرسي والشجرة؟ انني أرى ذلك ضربا من التخريف.3043 cubism8

نعم، ربما هناك شرعية في التحدث عن المحتوى الانساني اذا كنا نصور شخصا معينا او شعب او ثقافة. ولكن لم يجر الحديث عن هذا المحتوى، وهو المؤلف من عوامل غير تشكيلية ، اجتماعية ونفسية واقتصادية وتاريخية!

- لم أفهم وجهة نظر الناقد في نهاية المطاف! فهو الذي صاغ كل تلك التنظيرات وهو الذي انتقدها وأشار الى فشلها في المعالجة.

- لا اعتقد ان التكعيبيين، الأوائل والأواخر، يحسبون لمثل هذا التنظير حسابا قبل ان يمسكوا بالفرشاة ويشرعون برسم لوحاتهم. فالحقيقة التي ينبغي ان نعرفها جميعا هي ان الرسام، تكعيبي ام غيره، يبني مفردات لوحته ، يختار ألوانها، ويكمل انشائها بوحي من حسه الفني. والحس الفني التشكيلي جزء من الوعي العام الذي يتطور بالمراس والمعرفة ويتأثر بالثقافة والمحيط. فالرسام ابعد ما يكون من ان يلتزم بقواعد فيزياوية صارمة كالتزام الخطاط العربي الكلاسيكي، مثلا، بقواعد تقييس الحروف.

- رغم انني أرى ان قسما من هذا التحليل مفيد لفهم اللوحة التكعيبية، خاصة الغاء المنظور، لكنني لست مقتنعا بموضوع الغاء الاضاءة وادراك المحتوى. كما انني استغربت في ان الناقد همل ذكر البعد التشكيلي الاهم في التكعيبية وهو اختراق خط النظر عبر الاجسام المختلفة وكأن كل الاجسام في اللوحة اجسام شفافة، وهو دليل على وجود الضوء في اللوحة التكعيبية، وليس غيابه!

على انني اعتقد ان التنظيرات المتعلقة في السعي وراء الجوهر، في هذه المقالة وغيرها، هي التي فتحت الابواب امام الطوفان فسمحت لكل من هب ودب أن يتمسك بذريعة اظهار المحتوى والجوهر ويرسم ماشاء من خزعبلات، ليس فقط غير تكعيبية، انما بعيدة عن الحس الفني والذوق العام ومستخفة بوعي المتلقي وادراكه، وغير مكترثة بأي حياء او كرامة. وهذا الطوفان لم يشمل فقط اجيالا عديدة من ادعياء الرسم بل شمل ايضا اجيالا من النقاد والصحفيين واصحاب گاليريهات العرض والمتاحف وكذلك مؤرخي الفن. وهو السبب الذي غالبا ما یضعنا امام سيل من الانشاء الادبي الذي لا قرار له المكتوب من قبل اولئك المحسوبين كخبراء في الفن.

***

ا. د. مصدق الحبيب

تقانة الظهور التدريجي عبر فضاء تقاطعات الأنا وهواجسها

توطئة: اعتمد أسلوب الرسامة التشكيلية وفاء آرت على مناهج ومستويات فاعلة من الرسم التشكيلي، فهي تارة تنتهج أسلوب (المنهج الواقعي) وتارة (المنهج الرمزي) تركيزا انطباعيا بالمعنى الذي يمنح أشكال وهيأت أفكارها تلك المقاربة المتصلة وديمومة تأملاتها الحسية ونوازعها الذاتية المغايرة في تقديم العمل الفني بصورة الشعور المؤبد بظلال (القيد ـ المكبوت ـ الرقيب) وهذه المحاور الثلاثية الاقطاب ببساطة جل ما وجدناها من التحكم والدافعية والتحفيز في مجال الفضاء التشكيلي في خطاب اللوحة لدى الفنانة.

ـ المنظور الشكلي وتمثيلات الرؤية الذاتية:

نلاحظ بادىء ذي بدء إن دال المكبوت هو من يهيمن ويغزو تلك المساحات من الإدراك الحسي المبثوث على فضاء ومقادير وملامح الخطوط المتشكلة على هيئة أشكال مجسمة بأبعادها المباشرة أو اللامباشرة.فعلى سبيل المثال، تواجهنا هيئة رسومية تتمثل بما يقارب تصوير ذلك الجسد الذي يعزف الكيتار، حيث تكون سماته الظاهرة شبه متكاملة، ما عدا فقدانه إلى عضو الرأس بشكل انشطاري، كما ويجانب العازف وجود ذلك الكلب المكتمل بهيئته التكوينية، ودون أية حالى إحالية من شأنها تجريد دوره إلى علامة تشكيلية مرمزة بطريقة ما.فالا توافق في هيئة ذلك العازف هو فقدانه للرأس كما أسلفنا بذلك النحو المشطور، أي الهوية الظاهرة من محددات الواقع التعييني لهذا المجسم، ما يجعلنا ندرك بأن علاقة الذات هنا وعبر حدود وجودها، كانت تأكيدا على حضورها الموقفي من الوجود الجسدي الذي لا يتحدد ضمن (العالم ـ الوعي) ولكن من جهة ما يتمكن هذا الجسد رغم الفقدان من مواصلة العزف، دون الإشارة الواردة طبعا، من إن ذلك الكائن الحيواني الذي يقع بمحاذاة أقدام الجسد في جلسته فوق مكعب الأزرار، كان متفاعلا أو غير ذلك من طقوسية ذلك العزف الشارد في مهاوي اللاكينونة الواجدة والمؤشرة دالا على سلامة هذا الجسد الرابض في مناشدة فقده للديمومة الصحية والذهنية لحياته الطبيعية.وهكذا تتابعا تواجهنا لوحة المرأة الظلية وهي تجلس القرفصاء داخل علامات ذلك الحضور المجزأ من خلفية أحجار مسننة ومجعدة، وكأنها أوجه أخاديد من ضفاف على شاطىء مهجور.وعندما نمعن النظر في سمات اللوحة، نشعر وكأنها تمثل حالة من حالات المشاهد الأكثر انعزالا عن الزمن والديمومة الحياتية الذاتية.فيما تنقلنا تشعبات لوحة الذات المشرنقة بتقاطعات الشباك نحو خلفية فضائية معتمة تتمثلها حالة من الوجود الترميزي، الذي يقودنا نحو التأويل بالانطباع بأن اللوحة عبر كيفياتها التكوينية تؤول لنا مدى محكومية تلك الذات داخل أزلية خيوطها الجسدية المؤتلفة منها وبها إلى حقيقة الاعتراف بالخلود الانعزالي ـ الأبدي داخل وثنية شرنقية من خيوط الشباك التي صنعتها فرضية مضمون جسدها المتبلور بمكونات العقدوية الخيطية اللامحددة إلى أية جهة زمنية ومكانية وذاتية نواتية يبقى إليه مقترنا قرارها المصيري .

ـ تقانة الظهور التدريجي: التقطيع ـ الكشف المخبوء

مهما حاولنا الحديث الاستقرائي والمقارب في مؤشرات اللوحة التشكيلية لدى الفنانة وفاء آرت، قد نكون حينها ليس من البلوغ الأكيد في تأويل مشاهدات المواطن التعبيرية القادمة من حالات اللوحة ذاتها.ولو حاولنا على حين غرة تسليط بعض الضوء نقديا على تقانة وأسلوب بعض الصياغات المتوفرة في مشغل الفنانة، لأكتشفنا بأن هناك حالة عفوية إلا إنها تقانية في أسلوبها الممنهج، ناهيك كونها حالة مفصلية في مهام العرض الشكلي للوحة ذاتها.إذ هناك بين الظاهر الجزئي والباطن الكلي، ثمة ظهورات أقرب ما تكون إلى شيفرة (التقطيع ـ التجزئة) وليس التشظي بالمعنى الألواني فوق مقاطع وخطوط البنية الرسمية.فهناك بواعث للإيحاء بماهية ظهور مشاهد وحجم من اللقطات المختارة على هيئة نشر تقطيعي لكل جزء من أجزاء اللوحة داخل فضاء من التجرد والعلامة الهاربة من تعيينات الاستعمال التوضيحي في مكامن الشكل المجسد ـ تكاملا ـ لذات اللوحة ومحورها التكويني كما الحال الذي تقع فيه لوحة الفتاة المشرنقة داخل نسيج العنكبوت، وهو بذاته إن صح لنا تسميته ذلك الحاجز والعائق الخارجي، الذي راح بدوره يحيط بكينونة الذات منذ ميلادها داخل حجب مستلة من ملامح فكرة الزمن العنكبوتي ترميزا دالا، والذي يذهب بالذات المحوطة بخيوطه إلى أقصى علامات مفاهيم (المكبوت ـ القيد ـ التابو) لذلك وجدنا الرسامة قد قامت بنشر الأجزاء المفصلية من عالم لوحتها، ذلك لغرض تحديد المراحل الشكلية والنواتية في صيرورة زمنها المزامن لحدود أنصاب تلك الشراك المضفورة عبر مسافات عنفوانية تتماشى وتتوازن مع نمو كينونة الذات المصفدة داخل حضورها الغيابي المرير.

ـ الذات المنتصرة وحركة الزمن المعطلة:

إن طبيعة أفكار ومنظورات المشغل الفني للرسامة، يحتمل في أشكاله وبنياته عدة محاور توظيفية مستلهمة وتصويرية في الوازع من إمكانية العامل التشكيلي المبثوث في مرجحات الذات الراسمة ذاتها.فهناك تواجهنا حالة من أسلوبية الأنثى المنتصرة داخل فضاء لوحة تتوزعها وشاحات من القماش الأحمر، فيما تستقر في خلفية اللوحة ساعة محطمة ومعطلة تماما، وعندما نتفرس في حاضنة أرضية اللوحة، نعثر على ذلك الثور المنكس الرأس والقرون أرضا، ذلك تألما لما أصاب ظهره من الجهة العلوية بأحدى السهام التي قامت تلك الفتاة بطريقة فاصلة بغرزها أعلى جسده.في الواقع أن الفتاة ذات الثياب الحمراء اللون، تهم بتشخيص موجهات بصرها نحو موقع ذلك العقرب أو البندول للساعة الذي قامت بنزعه من هيكل الساعة المهشم، لتوقف الزمن وتعطله تماما، ذلك لأن ما يظهر في اللوحة تجسيدا إلى دال الثور وطغيانه الفاحش فيما سبق حادثة اللوحة، أي عبر ذلك الزمن الذي أخذت فيه الرسامة تصوره لنا عبر المشهد التشكيلي، كحالة تحررية ودفاعية بلغت حدا في اعتبارها الأنثى التي انتصرت على مرحلة القيود والتابو، بطريقة جعلتها أبرز من أوقف ذلك المشروع الذكوري المتجبر على أدق مفاصل حياتها النفسية والسيكولوجية .

ـ البيئة القلبية المصفدة وعلامات الوجه المحجوب:

ويبدو لنا تتابعا أن هناك حالات متقدمة في مشغل الرسامة، تعنى بما تعنيه هويات (الأصفاد ـ الحجب ـ الذات المسورة) ما بدا لنا الأمر في حقيقته قادما من معايير ذاتية انفعالية خاصة بزمن تراتيبية الذات الآنوية المحجوبة خلف أشكال بوحها وحظورها واقترابها من دائرة وجودها المغلق.نعاين معالم لوحة ذلك القلب الذي يتصدر تصدعات الفضاء في اللوحة، وكأنه المقارب المعادل لهوية الذات التي يضمها ذلك القلب التابع إلى زمن الطاغوت ـ الرقيب، فذلك الوجه الظلي القابع خلف شرايين القلب، ربما هو المعادل الصوري عن حقيقة الذات المحجوبة، التي تسعى إلى التحرر من زمن صاحب القلب، أو لربما هي ذاتها الكينونة الأنثوية التي تؤثر التواصل مع ذلك الزمن الخارجي عبر حالاته ومؤثراته الدورية والصوتية والواقعية.ولكن اللوحة قد غلب عليها طابع المستوى الرمزي الذي بدا متألفا مع الصورة المرئية وبذلك يتعمق الاحساس لدينا بأن الأهمية القصوى لهذه اللوحة تكمن في تراكيبها الوظيفية المضمرة في التدرج التشكيلي في إيصال الأبعاد الدلالية.

ـ المرايا وآلية محو الزمن التعارفي في الهوية الذاتية:

كثيرا ما شاعت تقانة (المرآيا) في التجارب الشعرية منذ زمن العقد الستيني وحتى زمن التحقيبات الصاعدة من الأجيال الشعرية، وقد بدت هذه التقانة من أبرز المكونات الشعرية الحداثوية (توظيفا ـ تقويما) غير أننا ولا شك وجدنا هذه التقانة سائدة وراسخة في أصولها الأولية في مجال الفنون الجميلة بوصفها نوعا وملمحا ودالا بصريا.نتعرف من هنا على واحدة من هذه الخصوصية التقانية لدى الفنانة وفاء آرت، ولكنها لدى إجرائية اللوحة ومنظورها الصوري، لا تحمل لنا أي ولادة حلمية ما من شأنها استثمارها في تشكيلات تذويتية تتجاوز الحد (الميتاواقعي) بل أنها جسدتها في درجة من احتدام الهيئة المجردة مع سيول المادة اللونية البشرية كخيوط مائية أخذت تتساقط وتراق ظلالا، إلى جانب توليد قيمة أسلوبية في المحو الشكلي والمضموني لملامح الذات عبر انعكاسات الصورة المراوية في المرآة.في الواقع حاولت الفنانة عبر مشهد لوحتها تجسيد المنهج المراوي كحالة محاكية لمفردات الحياة الأنثوية التي أخذت تابو الممنوعات والعوائق الخارجية إلى جعلها منسلخة عن زمنها الطبيعي، لذا بدت الكينونة الذواتية عبر صورة المرآة، وكأنها منزوعة الهوية والانتماء والملامح، ما جعلنا نشعر بأن المرآة ذاتها ليست هي المرآة الزمنية التي أحتوت زمن الذات، بقدر ما كانت هي المرآة التي فتت وتشظيت من خلالها تقاسيم الملامح الحقيقة للذات.كذلك هناك بالمقابل ثمة تقانة خاصة من الظهور التدريجي، تتبعها في الآن ذاته تقانة في الأختفاء التدريجي، وذلك ما وجدناه بأكثر من مرحلة متقدمة ومتأخرة من أعمال الفنانة، وبالأخص في طبيعة لوحاتها التي تتبع زوايا فضاء الأوضاع (الأفقي ـ العامودي) وللأسباب ذاتها من تفاصيل اللوحة وظهوراتها التدريجية وأختفاؤها في مراحل زمن عوائق الأنا عبر مراكز ولغة غرائبية الذات عبر كينونتها المغامرة في سطوح اللوحة المتقاطعة في الأجزاء والكليات التوظيفية المؤثرة.

ـ تعليق القراءة:

إن آليات وكيفيات عوالم ورسوم الفنانة وفاء آرت موضع قراءتنا، يمكننا القول عنها بكونها مقتربات تعبيرية ـ تشكيلية، ذات محمولات مرمزة في بعض أوجه تمثيلاتها الدلالية، فيما تبقى أدلة موضوعتها في اللوحة محصورة في حدود (إشكالية الذات ـ مأزومية الواقع ـ استحالات بلوغ المراد من الحلم) وعلى هذا النحو وجدنا أغلب أعمال الرسامة، لا يتعدى رؤية (الحجب الذاتية) داخل شرنقة محيطة من صيغة الاغتراب والسوداوية في الوجود بما يلائم مقاصد الذات والموضوعة التشكيلية.وتبعا لهذا عثرنا دائما على عاملية الذات وهي تطرح نفسها وبهيئة شبه مكتملة في طابعها العضوي، كما الحال في لوحة عازف الكيتار ذا الرأس المشطور، حيث العازف يطيل سماع معزوفته الصامتة في فضاء تعليلي مشحون بعوائق المنحنيات والمنكسرات من تصدعات حياة الذات التشكيلية عبر نقاط تلاقيها وتقاطرها في عوائق الأنا ووهن وجودها الذاتي المقيد.

***

حيدر عبد الرضا - ناقد

 

يتواصل معرض الفنان التشكيلي التونسي نصر الدين العسالي حتى الثالث من شهر افريل/ ابربل القادم في رواق علي القرماسي الكائن بنهج شارل ديغول بقلب العاصمة التونسية.

اللافت في لوحات الرجل البحث الدقيق في العملية التقنية المتعلقة بتركيبة اللوحة وخلق تناغم مدهش بين الألوان والأضواء والظلال والزوايا الأمر الذي يجعل المرء منشغلا بشكل واضح ولا ليس فيه.. كيف لهذا الرسام ان يشتغل تشكيليا وبمهارة عالية واتقان لا عبارة عليه والحال أنه لم يدرس الفنون التشكيلية في معاهد عليا.لحظة دخولك إلى رواق القرماسي تاخذك اللوحات إلى عالمها الفاتن وكانها خارجة من اقاليم الروح وهنا بيت القصيد...145 العسالي

أغلب لوحات العسالي تتجلى فيها عوالم الروح بكل تعبيراتها وطوافها وتحليقها الخلاق في فضاءات الدهشة والحلم وهروب الكائن البشري من ادران الحياة وما تحملها من إنكسارات وخيبات وطموحات وآمال واحلام. إن فرادة التجربة التشكيلية للرسام نصر الدين العسالي تكمن تحديداً حسب قراءتنا المتانية للوحاته ان ثمة علاقة عضوية بين اللوحة والواقع مثلما وصفناه سلفا. بقدر ما تكون الوحة غاية في الجمال والإتقان الفني والتناسق والتناغم بين كل مكوناتها فهي أي اللوحة منغرسة في الواقع بل هي في مواجهة واضحة وجلية مع رداءة الواقع بكل تفاصيله على إختلاف المكان والزمان والثقافة والحضارة والدين واللغة والعرق. بمعنى آخر لو ان هذا المعرض اقيم في أي مكان من اقاليم الكون فان المتلقي سيدخل مباشرة في علاقة عشق خرافي ولون مبالغة مع أي لوحات من لوحات.146 العسالي

الفنان التشكيلي التونسي العربي نصر الدين العسالي الذي حسب تقديرنا نحت لنفسه بصمة خاصة في عالم الرسم فهو لا يشبه أي كان من المشهد التشكيلي التونسي والعربي دون نسبان ان الرجل عاشق لفن الشعر الذي لاحظناه في إقتراب اللوحة من القصيدة عالما وخيالا وطقوسا. بالامكان هنا التاكيد ان الرسام العسالي ينهل كثيراً من عالم الشعر على مستوى الترميز وعدم إعطاء المتلقي التفسير لمقاصد اللوحة وابعادها الرمزية مثلما يفعل الشعراء المتمرسين والعارفين بخبايا اللغة ومنعطفاتها التخييلية. نثلا لوحة فلسطين البديعة ليست سهلة الفهم والتفكيك تشكيليا أو لوحة المهاجرون عن سوريا وما حدث فيها في السنوات الأخيرة رغم ان عنوان اللوحة واضح تمام الوصوح إلا ان الرمزية هي المسيطرة....147 العسالي

إن الفنان التشكيلي التونسي نصر الدين العسالي بمعرضه هذا واللوحات الغارقة في البهاء والحلم، لسنا نبالغ حين نكتب ان فرادته واضحة في المشهد التشكيلي التونسي والعربي وبامكانه ان يحلق عاليا وبعيدا ويشرفنا في المحافل الدولية..هنا وهناك.. في مشارق الأرض ومغاربها....

في ختام مقالتنا لابد من تحية شكر وإمتنان لكل الأستاذة المشرفين على الفضاءات التي تحتضن المعارض الفنية التشكيلية في تونس الراهنة كرواق علي القرماسي ورواق الفنون ببن عروس ورواق قصر خير الدين بمدينة تونس ورواق البالماريوم ورقاق الهادي التركي بسيدي بوسعيد ورواق يحي.....

148 العسالي

البشير عبيد / تونس

إنَّ الفنون عامة والتشكيلية منها خاصة هي مكمن من مكامن التعبير عن الذات الإنسانية المعبرة عن العصر الذي دونت فيه هذه الفنون وقدمت صورة عن أهم ما يميز هذا المجال الفني وعلاقته بما هو ظاهر ومميز للجوانب التي يعيشها الأفراد في المجالات الأجتماعية والنفسية والأخلاقية وغيرها، والأخرى المرتبطة في المجالات الأقتصادية والسياسية والتربوية فيها. ويعمل الفنان من خلال أدواته الخاصة على أظهار ما هو مستتر ومخفي ومضمر، كون ما يدوّن في مجال التعبير عن الحالات الإنسانية غايته أظهار ما هو مخفي ومغيب عن انظار أفراد المجتمع، على الرغم من المشاهدات اليومية التي تجعل هذه الصور من فرط بديهياتها غائبة، أو منسية في خضم الانشغالات المتعددة للإنسان الذي يصحى عليها عندما تصبح ماثلة أمامه بطريقة أو بأخرى عندما يعيها ويعي ضرورة تفحصها، وهذا النوع من الظهور في داخل الوعي، أو قصدية أثبات ظهورها جاءت نتيجة تنبيه هذا الوعي المغيب عن المشاهدة الحقيقية بوسيلة صادمة غايتها أعادة الرؤية والتفكير الحقيقي في هذه الأشياء . ويعد الفن التشكيلي هو من الوسائل المهمة في أعادة التنبيه، وهو وسيلة من وسائل التذكير في ما خفي عن المجتمع وأفراده من خلال أظهار وإعادة صياغة البديهي في صورة جمالية فنية تجعل من هذا البديهي المغيب ظاهراً وشاخصاً جمالياً على الرغم من الألم والمعاناة التي تظهر في هذا المجال .

ميسان مدينة عراقية جنوبية فيها من (المرئي / اللامرئي) الكثير الذي يجعلها مدينة زاخرة بتنوعها الطبيعي والاجتماعي، مما تشكل مادة ثرية للباحث عن الجمال من جهة، والباحث عن التشخيص لما هو مغيب من جهة أخرى، فيها من العادة والتقاليد وما تسايرها من أشتغالات يومية قد تصور الأنثروبولوجيا الأجتماعية بين ثناياها وما تحويه من تصورات تجعل للباحث في مجال الفن التشكيلي يقع أمام أفكار عديدة ومتنوعة فيها من الموضوعات ذات المغزى الفني والجمالي التي تعبر بصدق عن أوضاع هذه المدينة ذات البعد الحضاري كونها ترجع الى الحضارة السومرية، وهي مملكة ما قبل الإسلام وصولاً الى مدينة حضارية ذات نشأة مدنية تعود الى بدايات القرن التاسع عشر .

وفي وسط مدينة العمارة مركز مدينة ميسان يقع بيت ذات طراز معماري يعود الى بدايات القرن العشرين تقريباً تستأجره جمعية التشكيلين العراقيين فرع ميسان، واعتاد رواد الجمعية أن يقيموا معارضهم التشكيلية السنوية كل عام وما ميز المعرض التشكيلي هذا العام هو المشاركة المهم لرواد الحركة التشكيلية من الذين كان لهم دور مهم في الحركة التشكيلية العراقية وخاصة من الذين قدموا أعمال تشكيلية في العاصمة بغداد ومركزها التشكيلي في منطقة الكرادة وسط العاصمة، وحضورهم المهم فيها، كما ضم المعرض مشاركة عدد من الفنانات التشكيليات وعدد من الفنانين التشكيليين الشباب وهم (زاهد الساعدي، حسن الياسري، قتيبة حسين، فلاح حسن، كريم محمد، أحمد قاسم، أحمد فياض، أحمد كاظم، جاسم محمد مجيد، أيمان النجدي، رعد محمد خلف، حيدر طه ياسين، صبا طه ياسين، سيناء محمد، شيماء عبد الرزاق، فرح حسين، فارس عباس، نجاة ريحان، رياض كاظم، فرح حسين، عبد الزهرة وحيد، سجا حسين)، مما جعل المعرض هذا العام يقع في ثلاثة تقسيمات من حيث التجارب في فن الرسم :

1. تجارب تشكيلية لفنانين اصحاب خبرة طويلة في هذا المجال لهم حضورهم على مستوى العراق وخارجه.

2. تجارب تشكيلية لفنانين شباب لهم حضورهم على المستوى المحلي في مدينة العمارة وخارجها .

3. تجارب تشكيلية نسائية لفنانات تشكيليات ذات نشاط مستمر في العمل الفني في مدينة العمارة وخارجها .

قدمت في هذا المعرض العديد من الأعمال التشكيلية المتنوعة، لكن ما ميز أعمال الفئة الأولى في أغلبها، وهو ما سنتناوله في هذا المقال، وحسب ما يراه الفنان التشكيلي حسن الياسري أحد المشاركين في المعرض هو الأتجاه الواقعي التعبيري الذي أتخذ منه عدد من المشاركين أسلوب يميز مشاركاتهم لهذا العام، على أعتبار أن الواقعية التعبيرية في هذه الأعمال المشاركة تميزت في كونها تحاكي أحداث عبر عنها الفنان في تقديمه الانفعالات الإنسانية من خلال تصوير واقعية الأشياء والأشخاص في داخل اللوحة ذاتها بوسائل تعبيرية خاصة بالفنان ذاته، كما قدمت في العديد من اللوحات ذات السمة الواقعية التعبيرية نوع من الأماكن المعبرة من خلال عن ما في وعي الرسام لاستنطاق الجمال الكامن فيها مصوراً من خلالها التفاصيل الدقيقة، ومنها ما قدمه الفنان حسن الياسري في لوحة الولد الصغير الواقف قرب جدار منزله وباب البيت ذات الألوان الباهتة كون المكان يصور فيه حالة من الفقر يبرزه الفنان الياسري من خلال طبيعة جدار المنزل وأرضية الباب التي تبدو غير منتظمة لكن حرفية نقل الفنان للتفاصيل الخاصة بطبيعة المكان جعلته يستنطق حالة الفقر بواقعية معبرة عن وجود وطريقة ظهور الولد في اللوحة، حتى أن ملامحه كانت دالة مع حركة يده ووقوفه المنكسر على طبيعة التعبير عما في داخله في واقعية تمثلت فيها التفاصيل الدقيقة للمكان والبيئة الدالة على هذه الحالة . إنَّ هذه العلاقات اللونية والخطوط التي تمتد بشكل متقاطع مع وقوف الولد دالة على التمركز الواقعي وتعبيرات الحالة في الموضوع ذاته ما يساعد على أن يكون الموضوع في واقعيته التعبيرية ذات لمحة إنسانية حياتية دالة لهذا الأسلوب الذي يميز لوحات أخرى للفنان الياسري .4956 لوحات ميسان

وفي لوحة المرأة الريفية التي تصنع خبز (السياح)، وكل ما في اللوحة هو تعبير دقيق في واقعية تناولت كل التفاصيل الخاصة بطريقة صنع الخبز عند النساء الريفيات، وقد أستنطق الفنان تفاصيل دقيقة ومعبرة عن هذا الشيء ومنها طريقة اقتراب وجه المرأة من النار وكأن تفاصيل الوجه المعبرة المتزامنة مع حركات يديها، وشكل الألوان المستخدمة في هذا التعبير الفني في داخل اللوحة ذاتها وخلفية الألوان وتنوعها بين اللون الرمادي الدال على الدخان والأسود في ملبسها واللون الداكن المائل الى طبيعة البيئة الريفية، وقد كرر الياسري هذا الأسلوب من حيث التعبير عن الملامح القريبة من ذات الموضوع في لوحة ثانية للمرأة التي تخبز خبز (الطابك) وولدها الجالس جنبها، وكأن وجهه ينطق بتعابير عالية في المعاني الدالة على البيئة مع جلسته التي يتميز بها أولاد البيئة الريفية .

4958 لوحات ميسان

أما الفنان زاهد الساعدي الذي شارك بعدد من اللوحات التي عبرت عن واقعية ذات بعد خاص بأهل المدينة وفقرائها من خلال لوحة باعة أدوات التنظيف أو ما يسمى باللهجة العامية لأهل العمارة (المكانيس) في جلستها وهي مستغرقة بحالها الرث وملابسها وما وضع أمامها من بضاعة مزجاة، فالفنان في هذا اللوحة حاول أن يظهر تفاصيلها الدقيقة وملامح الوجه وتجاعيده، والدقة في رسم شكل الأدوات أمامها، مع صندوق فيه حاجياتها، فقد أعتمد الفنان الساعدي على الألوان التي تتناغم مع واقعية اللوحة وتعبيريتها العالية في كل من اللون والخطوط وطريقة التجسيد الفني مما جعل هذه اللوحة هي أفضل ما يمكن أن يعبر عنها لواقعية هذه المرأة البسيطة .4959 لوحات ميسان

ويكرر الفنان زاهد الساعدي أظهار أسلوبه في واقعيته التعبيرية في لوحات أخرى ومنها لوحة الزقاق والذي ينقل فيه حركة ثلاثة أشخاص وهم المرأة وولدها الصغير القادمان من داخل الزقاق، والرجل الكبير في العمر الذي يرتدي الزي الشعبي المسمى بـ(الدشداشة) وهي لباس معروف لدى أفراد المناطق الشعبية، كما يظهر في لوحته معمار المحلة من خلال أسلوبه الواقعي الذي يعبر عن التفاصيل الدقيقة لمعمار المناطق الشعبية وأبنيتها القديمة وبعضها متهالك وآيل للسقوط، وهذه الميزة في نقل الأزقة والمحلات الشعبية يكررها الساعدي في أكثر من لوحة من لوحاته المشاركة في المعرض التشكيلي على الرغم من كون أغلبها تشير الى واقعية معبر عنها في التفاصيل المعمارية لكنها تشير الى المستوى الحياتي للقاطنين فيها وتحاكي حالتهم الأجتماعية، وهو ما يكشف طبيعية الحياة وتناقضاتها بطريقة واقعية تعبيرية في أدق تفاصيلها .4960 لوحات ميسان

أما الفنان أحمد قاسم الذي تميز بأسلوبه اللوني المختلف عن ما ذكرناه من الفنانين المشاركين في المعرض، إذ تنوعت مشاركته في مجال استلهام موضوعات فنية قائمة على البعد اللوني في واقعيته التعبيرية، كما في لوحة الطفلة الصغيرة بملبسها الدالة على المستوى المعيشي المغاير لما سبق ذكره، فهي تمثل حالة أجتماعية أخرى تحاكي قصة في مضمونها الإنساني كون أن تفاصيل اللوحة والألوان المستخدمة المتناغم مع هذا البعد الإنساني يصور الانتظام في شكل المكان وتفاصيله الجزئية، فقد عبر الفنان أحمد قاسم عن الجانب المعتدل في الحالة الإجتماعية على الرغم من طبيعة الألوان في بعدها الدلالي والذي يشير الى المكان ذاته كونه مسكن بسيط لكنه يشير أيضا الى حيوية ما يكمن خلفه من حيث الترتيب والتنظيم الذي يبدو على الشكل في اللوحة وخاصة الطفلة ، كما يتميز الفنان في استخداماته للظل والضوء وملامح الطفلة الصغيرة المنشغلة بطريقة فتح الباب أو غلقه، والذي أراد أن يعبر بذلك عن واقعية الحدث ودلالاته من حيث التشكيل الفني والألوان المتناسقة وخطوط اللوحة الأفقية والعمودية والمائلة من خلال فتحة الباب وجانبيه وقياساته المتناغمة مع حركة الطفلة الصغيرة .4961 لوحات ميسان

أما الفنان كريم محمد في لوحة المعبرة عن الطبيعة الريفية ويظهر فيها الماكنة الزراعية بتفاصيلها المختلفة مع (الكلب) الباحث عن الطعام بالقرب منها والذي أتلف صوتها وهو ما عبر عنها الفنان بطريقة التعبير عن جسد الحيوان بالقرب من الماكنة، ويبين الفنان في لوحته تفاصيل مختلفة عن الغرفة وفي جانبها الفضاء الذي يصور من خلاله الفنان أشجار بعيدة متساوية الحجم يعبر فيها عن أسلوبه الذي يتميز بواقعيته المعبرة عن البيئة التي رافقته في أغلب لوحاته المقدمة في معارضه السابقة مما يدل على أن الفنان يتمحور في اشتغاله في الواقعية التعبيرية على الطبيعة التي يختزل فيها البعد الجمالي بإبراز التفاصيل الصغيرة للطبيعة في واقعية لا يبتعد فيها كثيراً بتعبيراته الفنية عما في داخله من أحاسيس وتعبيرات لطبيعة الحياة في أطارف مدينته.4962 لوحات ميسان

إنَّ الواقعية التعبيرية في الفن التشكيلي في ميسان تميزت بها عدد من أعمال الفنانين المشاركين الذين قدموا تكنيكيات لونية مختلفة في هذه الأشتغال التشكيلي، تمظهرت هذه الاشتغالات بفلسفة فنية قائمة على الموضوعات الإنسانية خاصة، والطبيعة ودلالاتها المختلفة وتنوعاتها بين الريف والمدينة، وتباينت من خلالها الموضوعات بحسب الواقعية التعبيرية عند كل فنان على الرغم من أن المعرض قد شهد أشتغالات فنية أخرى لكن ما كان يميز هذا المعرض بالإعمال المعبرة عن الموضوعات التي تكلمنا عنها سابقاً، وقد بلغ عدد المشاركين في المعرض التشكيلي لفرع جمعية التشكيليين العراقيين في ميسان ثلاثة وعشرين رساماً وأكثر من أربعين لوحة عبرت عن طبيعة المدينة وريفها وابنيتها ومحلاتها ونماذج مختلفة من أبنائها من الطبقات الفقيرة في المدن والأرياف .

***

أ. د. محمد كريم الساعدي

 

كانت بداية نشأت الفن الاسلامي معتمدة على التراث الحضاري للامم القديمة التي شملها الاسلام كالحضارة الرافدية والفارسية والمصرية والبيزنطية والهندية والصينية . وبالتالي كانت هناك بواعث ودوافع وارضية خصبة لاحداث تحول وتطور على  صعيد التفتح العقلي والنمو الوجداني وقد تمثلت هذه الارضية بوجود الزقورات وقصور الآشوريين وطاق كسرى والقصور الساسانية التي كانت تعج بمحاسن الرسوم وجمال العمارة، وهناك الاهرامات والكنائس البيزنطية المنتشرة في الجزيرة العربية والتي كانت مزينة بانواع الرسوم والمنحوتات الدينية. وكذلك المعابد الهندية والمخطوطات المزينة بانواع الرسوم مثل مخطوطات ماني التي ظهرت في القرن الثالث ميلادي.. ثم وفد عدد من المصورين المانيين الى العراق في القرن الثالث الهجري للعمل في تزويق المخطوطات. وكان ماني مصلحا اجتماعيا ومصورا ماهرا من الطراز الاول. ويذكر بان مصطلح منمنمات جاء من اسم ماني.. وكانت صناعة الخزف والتزجيج اول ماظهرت في وادي الرافدين، حيث الالوان الساحرة المتلئلئة والتي نشاهدها تزين باب عشتار والقصور الآشورية و بنغمة اسطورية حضارية جميلة . كما كانت مادة الفسيفيساء مستخدمة بكثرة خاصة في جداريات الكنائس الشرقية وهو ما استفاد منه الفنانون المسلمون في تزيين مساجدهم مثل قبة الصخرة.4859 ابو علي

غير ان الفنانين المسلمين استطاعوا بعد ذلك من ان يبتدعوا سواء في فنونهم المعمارية او الزخرفية اوالتشكيلية ذلك الطابع المميز النابع من وجدانهم العقائدي. وقد شارك في انبعاث هذا الفن وازدهاره خلال مسيرته الكبرى التي استمرت اكثر من عشرة قرون عددا كبيرا من كبار الفنانين المسلمين منهم هذه الكوكبة الطلائعية وهم :

1 – ابن الرزاز الجزري -1206 م – مصور كتاب الحيل الميكانيكية.

2 – عبد الله بن الفضل – 1222 م- مصور كتاب خواص العقاقير.

3 – علي بن حسن بن هبة الله – 1209 م – مصور كتاب البيطرة.

4 – يحيى بن محمود الواسطي – 1237 م – مصور كتاب مقامات الحريري وصاحب مدرسة بغداد.

5 – كمال الدين بهزاد – الذي اشتهر في اواخر القرن الخامس عشر - 1450 م- حيث يعتبره بعض النقاد من اعظم الفنانين المسلمين.وهو مزوق كتاب – البستان- للشاعر سعدي وبعض من كتاب - المنظومات الخمسة- للشاعر نظامي. وشارك في تزويق الشهنامة للفردوسي. ويعتبر بهزاد مؤسس المدرسة الصفوية للفن.

6 – رضا عباس 1565-1635 الذي برز واشتهر في النصف الثاني من القرن السادس عشر ويعتبر رائد المدرسة الاصفهانية في زمن الاسرة الصفوية.

7 - عبد الجبار بن علي –الذي ظهر توقيعه على المخطوطات التي ترجع الى عام 1229 م لديوسقوريدس والتي انجزت في سوريا.

8 – ابن عزيز العراقي وقصير المصري– في اواسط القرن الحادي عشر– وقد اشتركا الاثنان في مسابقة للرسم امام الوزير الفاطمي اليازودي الذي كان مولعا بجمع الصور. والقصة مشهورة ينقلها معظم المؤرخين العرب.

9 – احمد الخراط البصري وهو من اقدم المصورين المسلمين حيث ظهر في النصف الاخير من القرن الثاني الهجري / الثامن الميلادي – سبق الواسطي باحوالي اكثر من خمسة قرون. وقد اشتهر برسم الاشخاص وكذلك رسم الكاريكاتير. وقد كلفه الشاعر بشار بن برد – 96-168هجرية - ان يرسم له على الزجاج طيرا فرسمه ولكن بشار لم يعجبه ذلك فهدد البصري بالهجاء.. فرد عليه البصري( ساصورك على باب داري بهيئتك هذه وعلى عاتقك قرد آخذ بلحينك فيراك الصادر والوارد.. فقال بشار اللهم اخزه انا امازحه وهو يأبى الا الجد ).4860 بوكلي

وقد ذكر المؤرخ المقريزي -1364-1442 نقلا عن كتاب – ضوء النبراس وانس الجلاس في اخبار المزوقين من الناس –للمؤلف ابو عبد الله القضاعي القرن الخامس الهجري -الالحادي عشر ميلادي – ذكر ان هناك مئات المصورين العرب والمسلمين كانوا يزوقون ويزخرفون المخطوطات وكذلك رسم الجداريات.. ولكن هذا المخطوط قد اختفي مع الاسف، ولم يبقى الا العنوان، مثله كمثل آلاف المخطوطات العربية والاسلامية التي نهبها المستعمرون الاجانب، كما حدث ويحدث للعراق اليوم عندما دخلته القوات الاجنبية حيث نهبت معظم تراثه العظيم ونقلته الى الخارج على مرآ ومسمع من الناس والمسؤلين. ؟ في عام 1845 بدأت التنقيبات من قبل البعثات الاجنبية في ارض العراق وبدأ من ذلك الوقت النهب والسرقة لتراث العراق مقابل دفع اموالا للسلطات العثمانية التي لا يهمها او يقلقها تاريخ وحضارة العراق..؟

وقد دخل الفن الاسلامي جميع مرافق الحياة. و نشط بعد حركة الترجمة والتأليف. حيث كانت المخطوطات تزين بالزخارف والخطوط والصور التوضيحية، كما نشط بعد النهضة العمرانية كبناء القصور والمنازل والمساجد والقباب والمآذن وزخرفتها بالنقوش العربية. كذلك زينت الاواني والملابس حتى وصلت الزخرفة الى قباقيب الحمامات.4861 مايس

لقد انفرد الفن الاسلامي من بين فنون العالم بالخط الزخرفي الذي استعمل في اوسع نطاق وفي جميع المنتجات الفنية. فقد حل الخط العربي بجماليته ومعانيه الروحية محل الصور التي نراها في الكنائس. فادرك الفنانون المسلمون الاوائل اهمية هذا الخط فجعلوا منه عنصرا تشكيليا طيعا في الزخرفة. فابدعوا في تشكيلاته وتنويعاته وجعلوا نهاياته احيانا تنتهي بالازهار او الاوراق. وكان القرآن الكريم هو الميدان الاول الذي اهتم به الخطاطون، حيث ذهبوا وزخرفوا عناوين السور ووضعوها داخل اطارات مزخرفة بانواع الزخارف النباتية والهندسية.

كما انفردت العمارة الاسلامية بطابعها المميز والذي لا نضير له في الحضارات الاخرى، وكان المسجد الميدان الثاني بعد القرآن الذي نال اهتمام المهندسين والفنانين حيث فاضت فيه ابداعاتهم وعبقرياتهم، فاصبح المسجد بمثابة المتحف الذي يرى الزائر من خلاله جمال وروح الفن الاسلامي. وقد ابدع هؤلاء الفنانين في جعل المساجد تتجه الى السماء في قبابها الزرقاء ومنائرها العالية وكأنها في صلاة دائمة.

فجاءت اشكال المباني الدينية راسية ضخمة عالية. وقد ظهر ذلك واضحا في اعمال المهندس التركي سنان الذي صمم جامع السليمانية سنة 1550 وجامع السلطان سليم. وتمتاز هذه المساجد بقبابها المتعددة ومنائرها العالية المضلعة والممشوقة والتي تنتهي بمخروط. اما في الاندلس فقد وصلت العمارة الاسلامية الى مستوى رفيعا من المعرفة وذلك لان الاندلس اصبحت مركزا تنتهي

عنده الحضارة الاسلامية. وقام عبد الرحمن الناصر في بناء مدينة الزهراء حيث كانت مبانيها افخر ما عرفه ذلك العصر. كذلك ما عمله بني نصر من عمارة قصر الحمراء الذي يعد آية في الجمال والرونق . اما مسجد قرطبة والذي بناه عبد الرحمن الداخل سنة 784 فقد ذكر بان العمل استغرق فيه قرنين من الزمان. فهو اكبر اثر تركه العرب في اسبانيا يحكي قصة امجاد وعظمة

الهندسة المعمارية الاسلامية الى حد هذا اليوم. ورغم ذهاب اكثر من اربعة عشر قرنا على نشأة الفن الاسلامي الا انه لم يتغير بتغير العصور والانظمة فقد ذهب الخلفاء والسلاطين والحكام واحترقت مدنهم الخيالية التي بنوها.... ولكن الفن الاسلامي بقى حي لايهتز انيقا يزين المساجد والمصاحف والسجاجيد والاواني وغيرها. ان سر هذه الديمومة هو ان الفن الاسلامي يتجاوز الافكار الوضعية والاشكال الظاهرية وانه لم لم ينحاز الى عصبة او حزب او قوم...... فبقاءه قائم مع وجود المساجد واماكن العبادة مدى الحياة..

لقد ولد الفن الاسلامي في المسجد ورغم ان وظيفة المسجد هي العبادة الا انه يبقى المكان الذي تتجلى فيه معاني وروح الفن الاسلامي وفلسفته المحكمة. وهذا يدلنا على العلاقة الوثيقة بين العقيدة والفن وان هذه العلاقة تسري كالدم في عروق الفن الاسلامي. فنجد هذا الفن يزين المصحف الكريم والسجاجيد واواني الوضوء والمنابر والقباب والمصابيح التي تتدلى من سقوف المساجد وغيرها. غير ان هذا التلاحم والترابط لا يفسر بان الفن الاسلامي عامل مساعد في شرح تعاليم الدين كما هو عند الاديان الاخرى. وانما دوره هنا يشير الى فلسفة الفن الجمالية النابعة من قوله تعالى :

( يابني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد )4862 قصر الحمراء

لهذا نرى ان القرآن يؤكد على تمتع الانسان بمظاهر الزينة والجمال وان احساس الانسان بالجمال واندفاعه نحوه انما هو شعور فطري ينبع من احساس النفس وتوجهها الفطري نحو الكمال وهذا الاندفاع لا يقف عند الاحساس المادي والصور الظاهرة وانما يتعدى ذلك الى الغور في العمق ليوقض في النفس الاشراق الروحي والاحساس الوجداني ورفعها من ركودها المادي الى عالمها

العلوي وتوجهها الاخلاقي. فعندما يمارس الانسان المظاهر الجمالية من اناقة وملبس وزينة وغيرها، وعندما تنعكس هذه الامور على ذاته الباطنية وتتفاعل معها لتكون بالتالي صورة حية للحس والذوق الجميل فيصبح سلوكا ومواقف انسانية تبتعد عن الممارسات الشريرة والقبيحة.

(ان الله جميل يحب الجمال)

*** 

د. كاظم شمهود

كان الفنان سابقا يعمل لارضاء الطبقة الارستقراطية وطبقة النبلاء ورجال الدين ولهذا كانت اعماله لا تخرج عن حيز الصناعة، ولا تمثل احاسيسه وخلجات صدره ووجداناته وانفعالاته الجمالية، ولا حريته في اختيار الموضوع، وبالتالي فان الفن الارستقراطي يكون الفنان فيه مجبرا ولا يعبر عن فكره وذوقه. وفي نفس الوقت يكون بعيدا عن ذوق العامة.. اما رجال الدين فقد جندوا الفنانين لخدمة العقيدة، وضل كبار فناني عصر النهضة امثال مايكل انجلو ودافنشي ورافائيل وتيثيانو يعملون للكنيسة طيلة حياتهم. وبالتالي كان ارتباط الفن بالدين يمثل ارتباطا عضويا ومنذ ايام العصور القديمة. ولم يتحرر الفنان من هذه القيود الصارمة الا بعد الثورة الفرنسيبة عام 1789 حيث يعدها المؤرخون من اهم احداث التاريخ البشري. فالطبقة الارستقراطية كانت شبحا طاغيا على انتاج الفنانين الذين يعملون مجبورين في ظلهم، ولهذا فهي تحاول بكل جهدها منع اي تغيير في نمط الحياة من فكر وتقاليد وعادات لان ذلك يلحق بها ضررا ويؤدي الى تفتح اذهان الناس والتمرد عليها.4832 تيثيانو

الفنان وعصره

بعد ان تحرر الفنان نوعا ما من قيود الطبقة الحاكمة اصبح انتاجه يتسم بالفردية والاجتماعية كون الفنان مرتبطا بتاريخه وتراثه وتقاليد مجتمعة، كما ان المجتمع له مذاقا وعاطفة وحسا، وبالتالي يكون عمل الفنان مرتبطا بالمذاق العام الذي تتتسم به البشرية،، يقول الفيلسوف الالماني كانت (ان الفن من ذاتية الفنان، رغم ما ينطوي عليه من فردية، الا انه يتخذ اتجاها موضوعيا يستند الى الشمول حيث تحتمها ضرورة اخلاقية). لا فن بدون مجتمع ولا مجتمع في رقي الا وكان الفن عاملا هاما في حياته، من هنا نجد الطابع الفردي يذوب في الطابع الاجتماعي.

فاذا كان الفنان لم يكن نتاج ظروف زمانه والمحيط الذي يعيشه فربما اعماله تكون بعيدة عن المجتمع وغير قابلة للتفسير.. قرأت عن احد النقاد الاسبان يطالب في مقالة له من الفنان المعروف تابيس ان يفسر اعماله للجمهور حيث تشتبك فيها الرموز والاحرف والاشارات والتي لا يفهما احد سوى الفنان. علما ان تابيس اتجاهه صوفي بوذي روحاني يغرق اشكاله بالرموز البصرية..4833 ملليه

الغيرة والتزييف

كانت ولازالت الغيرة تفسد العلاقات وتؤدي الى الفن الهابط فالكتابات الزائفة التي يسودها التخبط والنقد السيء وعدم المعرفة بتاريخ الفن والنزعات الشخصية كلها عوامل تؤدي الى حرمان الفنانين الاصليين من المساهمة في تسجيل حضورا مميزا قد يكون افضل من الاخرين... يذكر ان الفنان الفرنسي تيودور روسو 1812 رفضت اعماله نحو 14 عاما من قبل لجنة التحكيم المشرفة على العرض في صالون باريس، كل ذلك نتيجة للغيرة والحقد.. واخيرا اعترفوا بمكانته الفنية واصبح عام 1867 رئيس لجنة التحكيم في صالون باريس ومنح جائزة الشرف.. كما رفضت اعمال كوربيه 1819 وملليه والتي تتصف برسم الطبقة الفلاحية والعمالية، واعتبرت تحدي للطبقة الارستقراطية ورفع من شان الطبقة العاملة. وتعتبر هذه الرسوم بمثابة دعوة للمساوات والى النظرية الاشتراكية وعلى اثر ذلك نفي كوربيه الى الحدود الفرنسية ومنعت اعماله من العرض، الا ان القدر اقوى من الحسد وهذه التخبطات الغير اخلاقية، فاصبح كوربيه بعد ذلك مؤسس المدرسة الواقعية التي ولدت من رحمها المدرسة الاشتراكية في روسيا.4834 رافائيل

كان العراق قد مر بمراحل سياسية كان الفن فيها يشكل خطا بيانيا بين ارتفاع وهبوط حسب سياسة الحاكم.. ويذكر ان افضل مرحلة مر بها الفن العراقي المعاصر هي فترة الخمسينات والستينات حيث ظهرت فيه التجمعات الفنية والبعثات الى الخارج ونشطت فيها المعارض واسست المتاحف وصالات العرض وتزينت الساحات العامة بالنصب الفنية الراقية الكبيرة التي تسجل ملاحم تاريخ العراق القديم والحديث.. بعد هذه المراحل دخل العراق في ظروف صعبة جدا من سيطرة الحزب الواحد والايديولوجية الواحدة والحروب التي راح ضحيتها ملايين العراقيين بين قتيل وجريح ومنكوب وفقر عاشه الشعب العراقي.. ولهذا كان هناك تزييف في مشاعر الفنان لارضاء الحاكم وطبقته. ربما كان مجبورا بسبب الخوف او قطع الارزاق.. مثلما كانت تفعل الكنيسة سابقا في العصور المظلمة.. اما الذين يرددون اليوم جملة - الزمن الجميل – ماذا يعنون بذلك؟. اعتقد انهم متوهمين ومغشوشين وحاقدين على الشعب؟ اين الزمن الجميل وكله كان حروبا ومأسيا وبكاءا ومقابر جماعية وضرب المدن بالمواد الكيمياوية وفقر حتى اضطر الناس الى بيع ابواب وشبابيك مساكنهم؟. ولا يعني ذلك ان السلطة الحاكمة الحالية هي مقبولة ومحبوبة من قبل عامة الناس، فكلهم ظلمة؟..

انتبهوا واستفيقوا ايها العرب

فقد طمى الخطب حتى غاصت الركب

***

د. كاظم شمهود

وكيف حولوهم الى ملوك واساطير وآلهة؟

ان علم الآثار وحده لا يمكن ان يكون له مصداقية مئة بالمئة مالم تدخل علوم وعناصر اخرى في معرفة تاريخ الامم السابقة، مثل مادة التاريخ والدين والفلسفة والعقل وعلم اللغة والاخلاق. فدوره هو مترجم ومفسر للمادة التاريخية القديمة، وكذلك التاريخ الذي يتتبع الاحداث وينقل ويفسر عن الآخرين او يشاهدها عينيا، اذن فكلاهما لديه ايجابيات وسلبيات. وكلاهما يعتمد على اهم الاسس الحضارية وهي الاخلاق. ولن تكتمل هذه الصورة الا بالاعتماد على كل المصادر الانسانية..

يذكر ان العلماء والمحققين الآثاريين الذين يعتمدون في تدوين التاريخ على ما كشف من الآثار المادية المنتشرة في ارض الرافدين والمطمورة تحت الارض منذ آلاف السنين. هؤلاء سواء كانوا اجانب ام عرب نجد في ترجماتهم وتأويلاتهم تناقضات لا تحصى ولا تعد للنصوص السومرية والاكدية..

اين الانبياء في النصوص السومرية

يذكر الدكتور خزعل الماجدي في كتبه ومقابلاته في التلفزيون بان علماء الاثار لم يعثروا على نصوص سومرية واكدية تؤكد على وجود الانبياء كما ان النصوص الهيموغروفية الفرعونية لم تذكر شيئا على الاطلاق عن قصة موسى وفرعون...؟4779 تمثال منبلاد سومر

والرد على هذه الادعاءات تتلخص بما يلي:

اولا: ان اسماء الانبياء ورد ذكرهم باللغة السومرية وبالخط المسماري مثل الملك "الوليم" وهو ادم الذي نزل من السماء وحكم مدينة اريدو، كما ورد ذكره باسماء اخرى مثل "لولو" و"آدابا" كما ورد اسم زيوسودرا في النصوص السومرية وهو "نوح" الذي حكم مدينة شروباك.. وذكر له اسم اخر وهو اوتنابشتيم او اتراحاسيس.

ثانيا: حور السومريون  حياة الانبياء الى اساطير والهه. وان الملوكية هبطت من السماء وان الاب الاعظم (اي الاله) هو ("ان" او"انو") وهو الله تعالى في الكتب السماوية.

ثالثا: ان النصوص السومرية اشارة الى سبعة حكماء ظهروا قبل الطوفان والذين وضعوا خططا للبشرية حسب تعاليم السماء اولهم الوليم "ادم" وكان يلقب بالصانع والاب العظيم.

رابعا: ذكرت قصة الطوفان في النصوص السومرية وزيوسودرا "نوح" او اوتنابشتيم، في ملحمة كلكامش اللوح الحادي عشر.

خامسا: ان هناك قصور في فهم وترجمة النصوص السومرية وتناقضات كبيرة بين ترجمات علماء الاثار وقد اشار اليها عالم الاثار كريمر والاستاذ طه باقر.. يضاف الى ذلك ان هناك تعمد من قبل بعض علماء الاثار في عدم اظهار قصص الانبياء ودورهم في ثورة الاصلاح والحرية في المجتمع.. 

اذن كيف لم يذكر الانبياء في النصوص السومرية والاكدية؟ وهذه النصوص واضحا تصرخ باسماء الانبياء.

سادسا: المشكلة تقع في علماء الاثار وترجماتهم الناقصة والغير مدروسة ودقيقة.

سابعا: ان علم الاثار في تطور وكل يوم تكشف معلومات جديدة تناقض احيانا القديمة.. ثم ان امام عالم الاثار مهمة صعبة جدا لان النصوص السومرية والاكدية تسودها الاساطير وعليه ان يفرز الحقائق عن الاساطير والخرافات والتحويرات ويحكم بالعقل.. ومن جانب اخر هل يوثق بالكتاب السومريين الذي كانوا يعملون تحت امر وحكم الكهنة والملوك الطغاة الذين نصبوا انفسهم كالهه وشكلوا خطا مناقضا لثورة الانبياء والمصلحين..؟ ولازالت مدن واثار مطمورة تحت الارض لم تكتشف لحد الآن كما هو في اهوار العراق الجنوبية. وبالتالي ان قدرة علماء الآثار محدودة، فاذا لم يجدوا ذكر لقصة فرعون وموسى في النصوص الهيموغروفية فهذا لا يعني عدم وجودها كما ان علم الاثار ليس هو المصدر الوحيد لمعرفة تاريخ الامم السابقة فهناك مصادر اخرى حددها الباحثون..4781 كتابة مسمارية

من جانب اخر يتناقض الدكتور خزعل الماجدي في اقواله حول علم الاثار وترجمات علماء الآثار (هنا يكمن الخطأ في النقل واعادت بناء الثقافات السابقة حيث تجري التحويرات عن قصد من اجل تعزيز السردية الجديدة للشعوب الجديدة كي تحل محل الثقافات القديمة ولكي تساهم في دحرها). من هذا نفهم  بان علماء الاثار غير موثوق بهم كليا وانهم يحتاجون الى دراسة دقيقة وموضوعية.

تحوير الرسالات السماوية الى اساطير

ولكن كيف حول وحور اهل سومر الرسالات السماوية التي جاء بها الانبياء الى اساطير وقصص تمتزج بها المفاهيم الغبية واخرى خيالية وخرافية، وكانت ارض الرافدين قد خرجت منها اولى الاساطير في العالم حيث حورت القوانين الربانية وحوادث الانبياء مثل الطوفان الى اساطير تجمع بين الحقيقة والخيال وكان حادث الطوفان قد ورد في النصوص السومرية. وقد عثرت بعثة امريكية تنقب في مدينة نفر اعوام 1889 و1900 على اللوح الطيني الذي يحتوي على القصة السومرية للطوفان والتي تذكر بأن هنالك ملك صالح يدعى زيوسودا (نوح) قد أمره مجمع الالهه بحدوث الطوفان بعدما كان قد دعاهم الى عبادة رب السماء فلم يطيعوه. ورغم ان هذا الرجل الصالح الذي عاش معهم اكثر من الف عام لم تذكر سيرته الا في بضعة اسطر، وهو دليل على تجاهله له ولدورة المميز كرسول من اله السماء. وقد وصفوه بالساحر والمجنون.

كما حور السومريون قصة ابراهيم وصحفه فجعلوا حمورابي 1792-1750 ق م، يستلم القوانين من آلهه الشمس ومعظم هذه القوانين في الحقيقة مأخوذة من صحف ابراهيم والذي قبله، حيث ظهر ابراهيم قبل حمرابي بحوالي 250 سنة. كما ان حمورابي يعني الخليل وهو اسم ابراهيم الخليل، وحمورابي رجل بدوي جاء من الصحراء الغربية مع قبائله وسيطروا على المدن السومرية التي كانت متمدنة ومتحضرة وتعج بالثقافات والرسالات السماوية... ثم وضعت هذه القوانين داخل اطار اسطوري وكتبت على مسلة من حجر الديورت، طولها 225 سم وعرضها 60 سم، وفيها دون 282 مادة قانونية، وعثر علىيها عام 1901 -1902 في مدينة سوسة الايرانية من قبل بعثة فرنسية، وهي اليوم موجودة في متحف اللوفر.4782 نرام سين

ادريس في الاساطير السومرية:

جاء اسم ادريس في اللغة السومرية هو - انمين دور انا – ويكتب ايضا "انميدور انكي". وفي العبرية "خنوخ" وعند المصريين القداما "هرمس" وارميس باليونانية. كما جاء في القرآن باسم ادريس. ويعتبر انمين دور انا الملك السابع في التاريخ السومري قبل الطوفان وحكم في مدينة سيبار. وقد وصف بانه اله وابن الاله انكي، وانه من العباد الكهنة والحكماء والعلماء في الطب والفلك، ولهذا جاء في التراث السومري كملك وليس نبي. اما في القرآن فقد جاءت قصته بانه من العباد الصالحين وان الله رفعه الى السماء العليا (ورفعنانه مكانا عليا)، كما ذكرت التفاسير الاسلامية قصصا كثيرة عن حياة ادريس –ع-

اذن ما جاء في الاساطير السومرية هي ربما حقائق محورة اخذت صفة الآلهه وانها تمثل الخط الرسمي للدوله ومصالحها وليس المعارضين لها، كما ان التدوين الذي وصلنا على الالواح الطينية كان بيد كتبة الكهنة والملوك. وان الانبياء كانوا يمثلون الخط الشعبي الذي كان مبعدا ومحاربا وليس بيده شئ.. ولهذا اعتقد ان علماء الآثار لازالوا غير قادرين على حل رموز الماضي ودراسة تاريخ الانبياء واسمائهم ومقارنتهم بالملوك السومريين والبابليين والآشوريين وغيرهم.. نعم هناك محاولات لذلك ولكنها قاصرة ويشوبها الغموض حيث لازالت لم تتخلص من روايات الكتب المقدسة القديمة مثل التوراة والتي لا يعول عليها كثيرا.

***

د. كاظم شمهود

يقابلنا اسمُ لوحة" أمي" للفنان الليبي رضوان أبي شويشه Redwan Abu shwesha كما نقابل إنساناً مفقوداً منذ آلاف السنيين. الحُروف مرهقة جراء ترحال لم يتوقف بعد، والشحنة الوجودية تزدادُ ثقلاً دون تراجع، وصوت الكلمة بعيدٌ إلى درجةٍ كبيرة. لدرجة أنَّ الوصول إلي الصدى المهموس للأم أمر بالغ المشقة مع الألوان والنقوش الباهتة.

ثم ها هو الفنان يدعُونا للتعرف على معناها كما يتعرف القارئ العابر على وشمٍ أو نقشٍ أو حزٍ صخري. وهو التعرُف الوجودي في المقام الأول. لم يُصِغْ أبو شويشه كلمة الأم بألف ولام التعرف ولا بصيغة المجهول. ولو أراد ذلك، لكان قد قال الأم قصداً. لكنه أراد إرجاع الأم إلى نفسه في حركة متبادلة بينه وبين كيانها( أمي). ذلك من غير أن يتدخل أحد حتى ولو كان الموت، لأنه سيرجع إليها طوال الوقت في جميع حياته وسيعتبرها أصل وجوده البعيد والقريب.

140 ابو شويشة

وإسم" أمي" حين يُهمس بالنداء، يطرحه الفنان خجلاً وتسللاً إلى حضرتها، لأنه يرى في أمه شيئاً نفيساً يستحيل على غيره أنْ يدرك مغزاه. وفي اللوحة السابقة، يتهيب أبو شويشه من الإطلالة على أمه وهي مجرد مومياء متصلبة وملفوفة في أهاب الموت. وقد ظهرت اللوحة السابقة مكونة من تجاور لوحتين ما بين مومياء أمه واختلاس النظرات إليها، إلاَّ أنها لوحة معبرة تماماً. كأنَّ الفنان ينظر إلى الأفق اللامتناهي من ورائها، ويتوجس من علامات معينة تجاهه، أو ربما يخشى الظهور بجوار أمه.

مومياء الأم

أودع الفنان أبو شويشه أمه طيّ اللوحة كأيقونة حفرية بحنين الفقدان الذي يتجلى داخل حروف" أمي". وأمي هي عنوان اللوحة كما أشرت، وهو عنوان يعبر عن مفارقة فقدانها وتذكرها، غيابها وحضورها. إنه يرسم بصيغة الأرشيف مومياء الأم، حتى أن الرسم عبارة عن علامة زمنية لتخليد الأم. وحرص الفنان خلال اللوحة على وجود الزي التقليدي الذي تتزي به المرأة الليبية، وكأن أبي شويشه يريد القول إن أمه حيّة ومازالت بلباسها المعهُود بين الناس.

141 ابو شويشة

 

لنلاحظ (من مقارنة اللوحة والصورة) أنَّ الفنان قد نحت أيقونة أمه بالمطابقة تخليداً لكيانها، هذا الخلود الذي يسكنه منذ الأزل. فعندما اختار الشكل الأيقوني (والموميائي) لرسم الأم، كان يردد بأنها أسبق من الزمن، أنها هويته التي ينتمي إليها ويستقر. هوية معبرة عن وجوده بالمقام الأول. وليس أدل على ذلك من كونه قد رسمها بكامل هيئتها ومثلما كان يجلس في حضرتها دائماً. إنه نوع من التخليد الفني بإيقاف عجلة الحياة عند وجودها طالما غادرت هي الحياة دون رجعة. والتشبت بصورة الأم ونحت مسماها الكوني عند تلك اللحظة أمران مهمان للاحتفاظ بوجودها الأصلي كما هي.

ولعل رسم الفنان أمه على هيئة مومياء إشارةٌ فرعونية إلى حميمية وجودها. فالفراعنة كانوا يحنطون موتاهم بأبهى صورة وأزهى الألوان من أجل أن يبعثوا بتلك الكيفية ولكي يحيوا حياتهم الأخرى سعداء النفس وصحيحي الجسد. والفنان نحت مومياء أمه بالرسم التشكيلي على جدار اللوحة، وليس بالصخر أو الحجر، وقد ربط نظرنا بكيانها الفني، لأن الصورة توضح المعالم وتعطينا انطباعاً بالشكل، والهيئة بينما المومياء تعطي كيان الأم درجة من الوجود شبه المكتمل.

هكذا يرغب الفنان أبو شويشه أنْ يمارس التشكيل الفني والتشكيل الوجودي معاً، وهذا هو السر الفني القائم على أن الأم هي الهوية، فنحن نقف أمام الأم كهوية عميقة الجذور في أنفسنا. وليس هناك من جذور غيرها. الهوية عادة تريد أن تتشّخص لا أن تغيب وتتوارى. فإذا كانت توجد خاصية أساسية لأية هوية، فهي تتسم بالتوجه الذاتي نحو التشخص في كيانات ملموسة. كل هوية تدعو أن تكون هوية خالقة بالمعنى الوجودي. ولذلك ليس غريباً علينا أن نتمسك ببعض الأشياء والعلامات المادية داخل أوطاننا بحسبانها معبرة عن هويتنا.

من جانب آخر، ترجع الياء في كلمة" أمي" نسباً إلى الفنان في صرخة مكتومة عبر معنى أصيل لم يمسسه بشر ولا يتيح لأحد انتهاك وجوده. إنَّه يُسمعنا المعنى بالفرشاة والألوان، ويضعه تحت أيدينا حين يترك عليه غبار الألوان الترابية. فالأم ليست واحدة، لأن الأرض أم كذلك، والطبيعة بمثابة الأم ولغة التكوين الفني يمكن اعتبارها أماً. إذن هل الموت يجمع داخله عدداً من الأمهات؟!

142 ابو شويشة

لكن الرتم الخفي للوحة الأم يجري كأنَّه أصل لا نظير له إلاَّ بالمصير الوجودي في طيات الماضي العميق، هذا الماضي الساخن بلهب العواطف الأمومية لدى الفنان. بحيث ينطبق لفظ " أمي " على نداء كل من يشاهد اللوحة. من تلقاء نفسه يقف العنوان " أمي " داخل عين الناظر، لا لأنه موضع تلقٍ، لكنما باعتباره تجربة حياة وهوية. ولذلك من الصعب النأي عن الهوية أثناء التقاء أكثر من أم في تابوت واحد هو الوجود الذي يحملنا جميعاً. فالوجود يجمع كل الأمهات داخل هويتنا الأصيلة.

لقد كان الرسم الفني للأم مومياء قديمةً، جفت وبهتت وأضحت ورقة مهترئة كبردية فرعونية أو كرقائق حجريةٍ. هو بذلك يُسمِّي ظل الموت أمه، فيجسد الحاضر فناً منقوشاًحين يتوارى غياباً بلا رجعة، فهو– الابن- بعضٌ منها بينما هيبمثابة كلُّه المتواري. لذلك تعلق بها بقدر مراسم الدفن ضمن عمق اللوحة. الأم هي الغائب الحاضر طالما فقدناها مثلما كانت سراً لنا وفيناً. ليس ممكناً إداء شعائر الأمومة خلال تلك الفجوة السوداء من كيان الإنسان دون نزيف العدم. وليس المرجُو غير البحث الدؤوب عما فقدناه من قبل وبعدما فقدناه بالمثل.

الفكرة المهمة أنَّ حياتنا هي الأم حين ضاعت قبل أنْ تضيع كما قد نظن. فكل أم لنا تعود بكيانها البعيد إلى جنة آدم الضائعة، ويوم أن هبط آدمُ من الجنة ظللنا كبشر من أبنائه نبحث عبثاً عن أمهاتنا التي تتشخص في الجنة المفقودة. ولهذا أخذت تجليات الأم تظهر مع الممارسة الإنسانية، فكانت الأم كنفاً هي حواء أو سعادة هي حياة يرجوها الإنسان أو أملاً يسعى إليه طوال مسيرته على الأرض. في هذا المقام كثيراً ما نسمع عبارة " الجنة تحت أقدام الأمهات"، وهي ليست مبالغة لأنهن كنّ جناناً عندما حملن أبناءهن جنيناً ومستقبلاً. لذلك من غير المستغرب التقارب الدلالي بين كلمتي " الجنة والجنين".

فالجنة معروفة بكونها الفكرة الموجودة في ذاكرة وأحلام البشر، وهي موضع الحنين القديم لكل آدمي. أما الجنين فهو الموجود البكر في الرحم الأمومي كأنه البديل عن الجنة الموعودة.  تلك الجنة التي يفقدها الإنسان بمجرد خروجه إلى الحياة. والفنان أبوشويشه يريد إرجاع الحلم إلى أصله وتثبيت الأم فوق الأصل والحلم معاً بأن جعل أمه أيقونة متطلعاً إليها ومتشوفاً إلى الجنة التي تعد بها.

أرشيف الأم

على افتراض أنَّ الأم لغة تسبق اللغة المعروفة، فعلام تدل؟ وعلى افتراض أنها رسم فني يقطن الأثر، فكيف يتشكل؟ وعلى افتراض أنها حقيقة متولدة عبر المجهول، فماذا ستكون؟... هذه هي الأسئلة التي تحدد خريطة رسم معاني الأم إجمالاً. إذ عندما نشعر برمزية الأمومة لا بالأم البيولوجية فقط، فإن إنساناً بما هو إنسان سيتكلم، سيتكلم عن ماهيته، وعن جوهر حياته، وكيف– مع فقدانها- سيشعر بشيء اسمه ضياع الوجود.

إنَّ تلك الأطر الإنسانية تقف في نواة كل هوية تشد أبناءها بولاء وايمان لا ينتهيان. وتمتزج معاني الهوية لدينا نحن البشر بصدى الأمومة، لكونها منبعاً لما يربطناً بأسرارنا البعيدة. ومن ثمَّ، ستنفتح الهوية دائماً على تداعيات سياسية واجتماعية واخلاقية وتراثية. فهل نتحدث عن الهوية حين نفقدها أم أننا نبقى تحت التهديد بفقدانها الدائم؟ هل لا يحق لنا ارجاع الأم إلى أنفسنا إلاَّ حينما تتلاشى من حياتنا؟143 ابو شويشة

على أن الفنان أبي شويشه قد عاد ليجعل الرسم الفني شكلاً حياً. فملابس الأم مثلما أشرت بها علامة تمارسها النساء الليبيات بتغطية الوجه بطريقة معينة. وهذا الوضع يُبقي ورقة المومياء القابلة للقراءة بمنطق التقاليد الاجتماعية السارية، والتي تشعرنا بالبقاء على قيد الحياة. بالتالي تعد لوحة أمي للفنان أبي شويشه سؤالاً حول معاني الهوية، فهل تعد فقداً لما هو حاضر أم غياباً لعناصر نشعر تجاهها بالأصالة؟ إن الرسم الفني للوحة( مظهراً ولوناً وحفراً ) تشكيل لهوية لن تأتي كحال أية هويةٍ أخرى. ففي اللحظة التي نتصور خلالها أن هويتنا ذات حضور حاد ندفنها في مواكب الموت. و ربما لا نتمكن من التوحد بها، رغم أنَّها رمز أمومي لنا في الحياة والثقافة، كما نردد عادة باستعمال لفظة الأم حيال الأوطان وبعض الأفراد.

وهنا تكون الأم هي رسالة الموت الحي، كل هوية لنا هي موتنا في وضع أمومي لابد من دفنه بثرى الخيال والحرمان الحاضرين. إن أمي هي علامة على أناي المفقودة، هي إشارة إلى حقيقتي التي دفنت وسأشعر معها باللاوجود. ستأتيني مع الخيال كشبحٍ هو مجمل ما أعرف عن ذاتي. ستنتظرني بالحرمان داخل لوحة هي أنا ولن تعود إلاَّ بعودتي من جديدٍ إن كان هذا الشيء ممكناً. لهذا تحتاج الحياة إلى تجديد العلاقة مع الشيء الأكثر غموضاً المسمى بالهوية. فإذا اطمئن إنسان لمعرفة هويته، فلنعلم عندئذ أنَّها قد أفلتت من قبضته. وما ينطبق على الأفراد ينطبق على الجماعات التي تسعى إلى نحت أصنام الهوية على شكل ثابت داعية إلى طقوس العبادة والتقديس.

السؤال الجدير بالطرح: هل لنا أمُ كونية غير الأم بالمعنى البيولوجي؟ يبدو الاستفهام محيراً وملتوياً، غير أنّه لا يتوقف عن التداعي. كلما فقدنا أماً كان هناك الفطام الوجودي لأصالة لم تعد في هوية مع أنفسنا. مما يشعرنا عادة بالاغتراب الوجودي عن أصالة مفقودة باحثين عن بقاياها طوال الوقت.

ولذلك في أرشيف لوحة أمي لأبي شويشه، توجد دلالة (الهوية- القبر). وعلى تلك الخلفية ترمز الأم إلى: الحجر- التابوت- الطبيعة- الأرض- الحقيقة- الغياب- الأثر - الكتاب- النقش - المومياء داخلنا. وفي وضع الأم كعلامة محنطة، تنزوي كل هوية ضمن أعماق ذاكرتنا البعيدة. إنَّ الهوية أمٌ تتلقى من أبنائها يومياً مزيداً من الرثاء والبكاء الوجوديين.

***

د. سامي عبد العال

 

ينظر الناسُ إلى الأشياء الهشّة كأنّها بلا قيمةٍ، فهي- من وجهة نظر البعض– تعكس معنى الضّعة والفوات والتحلُّل. وليست القضية إلاَّ مسألةَ وقتٍ وتصبح الهشاشة نسياً منسيّاً. لكن الفن له توجهات أخرى تماماً، ولاسيما الفنون التشكيلية التي تجعل من الهشَّ ذات أهمية قصوى إزاء أي شيء قوي. وهنا ليست النظرة العادية هي المعيار دائماً، لأنَّ الاعتيادي يحمل ما هو فائق الإبداع والقدرة على الاختلاف. الفن يكتشف الأشياء من جديدٍ، ويعرفنا على العالم كما لو لم نعرفه من قبل، كما هي جوانب لوحة الحذاء لفان جوخ.

4728 الهشاشة

ليست الهشاشةُ ضرباً من اليأس نتيجة حالةٍ موضوعيةٍ، ولا هي مُعطى مباشر مقذوفاً به أمام النظر من أولِّ وهلةٍ. ولكنها قد تمثل عملاً فنياً مكتفياً بذاته إزاء قبح العالم. فالفن يُعطي ما هو هش دلالة نافذة الوجود إلى إقصى مدى، ويجعل من الضعف قوة فنيةً غير عاديةٍ. ذلك أنَّ الفن به (فائض وفرة) على القول عبر كل متلقيه في وقت واحدٍ، كما أنه يردد أصداء ما يشكله طوال الوقت دونما إبطاءٍ. وحدّهُ الفن التشكيلي يعطي الإنسان فرصة "نفخ الروح" فيما يُبدع مشتركاً في أبرز السمات الجوهرية للفنون عموماً.

من تلك الزاوية، تعدُّ الهشاشة طاقة فنية متمردةً، متفلتةً، لدرجة العصيان أحياناً. إنَّها لا تخضع لمقولات العقل ولا مقولات الأخلاق، وتتمنّع أمام النظر المباشر حتى يأخذه الوضع إلى التنحي جانباً. والأمر أكثر من ذلك، فقد تكون الهشاشة حالةً واقعةً خارج السيطرة، بسبب كونها موقعاً منسيّاً رغم بروزها وانكشافها، وقد تكون نقطة وهن إنساني ألقاها الزمن في مجرى الحياة. ولكنها في كل ذلك تعد ذروة الواقع وقوته القصوى التي لا يملك الإنسان سواها.

الهشاشة في الفن ليست حادثةً ولا واقعةً تسير بإمكانية الدفع الذاتي، لأنها محض هشاشة ببساطة وكفى. ومن غير المنطقي أنْ تصدر عنها قوة غير متوقعةٍ، لكنها أثر يستعيض عن القوة بالمعنى الخاص بها. فقد تتجلى في شكل من الأشكال أو في فعل من الأفعال أو في لقطة حية أو مرسومة بشكل فذ، غير أنها في كل هذه الصور تشب عن الطوق. وتأتي معاني الهشاشة من قدرتنا على الملاحظة والتخيل لا من مصدر آخر، فالطبيعة لا تبالي بما هو هش ولا مكان له في الحياة، لأن الأكثر عنفاً وتعبيرا عن وجوده هو الذي يأخذ كلَّ المساحة الممكنة.

هكذا يسري ذلك المعنى الصامد عبر لوحة الحذاء للمبدع" فان جوخ " التي تكشف حالة خاصة من الهشاشة المعبرة،... وهي لوحة الشهيرة ترسم البؤس والشقاء بأقرب التفاصيل اليومية. الحذاء ممزق ويُفرّغ مضمونه الحسي باقياً عند الدرجة الأبعد لدلالته أمام الرائي. أي ليس يهم أية أرجُل كانت سترتديه ولا أية أرجل قد ارتدته بالفعل، إنما الأهم هو حالته الممزقة التي تجسد وضعاً مزرياً لمن كان يرتديه. وهو بذلك حذاء يُوجد في إطار لوحة لا ينفصل عنها بحال من الأحوال، وبالتالي لا ينبغي النظر إليه إلاَّ عبر هذا الإطار الحي.

تستدعي لوحة الحذاء لفان جوخ كلَّ حالات البؤس مرةً واحدة، فللناظر أنْ يملأ الفراغ بما شاء من أرجل، من أصابع، من تاريخ مرتبط بتشقق الأقدام والجلد والكد والفقر والبؤس، بل من أجساد وأشكال ووجوه وخطوات ومسارات في الحياة. فالبؤس يكمل بعضه بعضاً حتى النهاية التي تستمر عبر أذواقنا إلى الآن. وهذا ما يجعل اللوحة منشوراً ثورياً بالأساس، يجدد نفسه أمام أية عملية تلقٍ. لأول وهلة، فإن الحذاء يضمر تاريخاً من الحياة الدالة على إفرازها الإنساني وعلى ذاكرتها النوعية. ولهذا فالحذاء كعمل فني لفان جوخ مختلف تماماً عن أي حذاء آخر.

4729 الهشاشة

وقد جاءت الهشاشة واضحةً في تجريد الحذاء من أية سلطة، حتى من نفسه. أنه مجرد تماماً مما نتصوره عنه من معطيات وعلاقات بالوسط الموجود فيه. أي تمَّ انتزاعه من كونه حذاءً يعتد به في (سوق الأحذية) عاكساً القيمة والقوة إلى أن غدا كياناً دون قيمة. فلو ارتداه إنسان، فكأنه لا يرتدى شيئاً بسبب التمزق الذي أصابه. ولو اقترب منه أنسان آخر سرعان ما سيغادره دون رجعة، وفي الوقت نفسه لا يصح وضعه خلف فاترينة العرض، فهو حذاء منهك حدَ الإفلاس وبائس حدَ التمزق ومنكفئ على نفسه لدرجة التفرد في حالةٍ من الإزدراء.

الفن التشكيلي حين يصور موضوعاته الهشة، الضعيفة فإنما يلتقط لحظة نادرة الوجود. وكأنه يقلب الطاولة أمام الطرف الأقوى في أرجوحة: الهش – العنيف، القبيح – الجميل، الأعلى - الأدنى، علماً بأن الطرف العنيف لا يدع فرصةً للآخر. والمغزى أن الفن يعطى موضوعاته" قوة اللاشيء" power of nothing. لأنَّ جوهر العمل الفني هو التعبير عن أصالة الوجود البشري بكافة صوره الممكنة. يتساوى الوجود في ذلك مع ما يُسمى على الأقل قوةً في سياقها العام. والمعايير التي تبدو مفروضةً بحكم الواقع ليس لها مبرر مقنن أمام ما يقدمه العمل الفني.

ذات مرة اعترف فان جوخ بأنه لم يلجأ إلى نظام بعينة أثناء انجاز أعماله الفنية، ولم يستعن بخبرة فنانين آخرين لتطبيق فكرة الطلاء على القماش.. في رسالة إلى أحد أصدقائه المقريبن قال فان جوخ معبراً عن تقنية الإبداع التلقائي: " في ضربات الفرشاة  الخاصة بي لا أحاول العثور على نظامٍ معين، فقط أحاول أن أرسل الضربات مباشرة إلى القماش، وهي عادة ضربات غير منتظمة من الفرشاة، وأتركها كما هي تعبر عما أقوله بشكلٍّ حر". ولكن على القماش أن يواصل ما تخطه الألوان ويتحول إلى طاقة فنية هادرة، وعليه أن يؤسس وجوده الآخر والمستقل. فالألوان على القماش ليست مادةً خاماً، لكنها قيم يعبر بها الفنان عن درجات الحياة ومعانيها.

قد يرى البعض ذلك نوعاً من العبثية على نحو عام، إلاَّ أنه لا يمكن وصف أحذية فان جوخ بأنها صور سيريالية للواقع، فهي أحذية مرسومة بطريقة دلالية في المقام الأول، وهي حالات مدروسة فنياً بكل عناية وإهتمام. فكل منعطف وكل ثقب وكل ترقيع وكل إهتراء وكل مزق وكل ترهل .. أشياء متقنة ومعدة إلى درجة الإبهار. يمكننا فقط ملاحظة المفاجآت الإبداعية الكامنة فيما وراء تلك الأحذية، إنها معطيات لعالم من قطع القماش الذي يحكي ويسرد أزمنةً بمجملها.

4730 الهشاشة

إن ما قاله جاك دريدا عن لوحات الأحذية يظل أمراً فلسفياً مُعبراً عن إبداع فان جوخ: "هناك في لوحات الأحذية لفان جوخ نسق آخر من الخصائص المستقلة المميزة لا يكشف عنه جوخ بسهولةٍ. فهي لوحات نموذجية تعكس قدرات الفنان الخاصة وتمتعه بإعادة اكتشاف المألوف وتقديمه للمشاهد. هذا النسق ينفصل في نقطة ما ليجتمع بأطرافه وعناصره مرة ثانيةً في نقطةٍ أخرى. وبإستخدام خيط غير مرئي خفي يثقب قماش (كأنفاس حية) اللوحة ويخترقها كما تثقب المقرنة الورق، ومن ثمَّ تخرج منه لتصير أجزاء القماش كُلاً متكاملاً مجسداً لروعة امتزاج العالمين الداخلي والخارجي للوحة، يجمع جوخ ما بين عوالمه الداخلية والخارجية في لوحة فنية مازال معناها محل نقاش وجدل".

في تلك النقطة يمكن للقارئ أنْ يطرح سؤالاً مهماً: ما الذي كان يقصده جوخ من وراء رسم هذه اللوحات؟ أحياناً الأحذية ما هي إلاَّ أحذية كما تبدو، غير أن المتلقي الذي يتأمل اللوحات قد يدرك أن لهذا الحذاء المهتريء خصوصية متفردة دون سواه. يقول الحذاء: " أنا لست شيئاً ذال بال، فلتنظروا إلى وضعي المزري الذي فاق الحدود، ولا أجد لي مساحة معتبرة سوى الإلقاء على قارعة الحياة. فعلى أفضل الأحوال لا أريد أنْ أظهر إلاّ كما أنا مرمياً ومطروداً من الاستعمال. ولن يكون هناك إنسان مثلما كان إنساني الذي ضممت رجليه يوما ما، وربما تعد ملامحي الجلدية وثيقة على حقبة بأكملها ".

بالفعل كأنَّ الحذاء عند جوخ هو الحذاء – الوثيقة Shoe- document، لأنه علامة فنية تكتب على الجلد المهترئ المصنوع منه تاريخاً آخر ليس أقل من وصفه بحياة عاشها أناس بعينهم. الحذاء نوع من البوح الفني الإجتماعي بأن الأجل لا تقل شقاء عن حال الحذاء. وجميع درجات التمزق والإنزواء التي تميز الحذاء هي ذاتها درجات البوح التي تقول بملء الكلمة ما لم تقله كتب وصفحات بمجمالها. والحذاء دعوة للقراءة الفنية الاجتماعية لما يشكل وجود الإنسان. الحذاء هو وجود الإنسان من الأساس. انتظر الإنسان طويلاً حتى يكون الحذاء علامة على وجوده، على الرغم من كون لوحة الحذاء تعبر عن هذا بكل سهولة وبساطة منقطعة النظير.

4731 الهشاشة

من هذه الزاوية فصاعداً، لئن انتفت الحاجة الى هذا الحذاء وقُضي بأهماله، فلأنه يحمل عدة أشياء:

أولاً: قد جُرد الحذاء من الأقدام العارية التي كانت تنتعله ومن عملية الانتفاع من قبل مالكه ومستخدمه وبالتبعية من نشاط الشخص الذي كان يرتديه. والحالة التي عليها الحذاء تشف بطرف آخر ما معنى الأقدام التي ارتدته يوماً ما. لأنَّ الحذاء مُنهك الخطوات وفاقد الوجاهة ووصل إلى بقية حياته التي تثقل كاهله. وبالتأكيد هي قد أثقلت كاهل الشخص– صاحبه. وفان جوخ في هذا الإنتزاع للحذاء قد أخذ الأخير كرهينةٍ وكدليل مدى الحياة: على ماذا فعل به الزمن؟!

ثمَّ تحول الحذاء إلى أيقونة لا تقل قيمةً عن الإيقونات التي تزين الجدران والبيوت المقدسة والمعابد وغيرها. ولا يفتقد رائي الحذاء لتداعيات المشهد إلى صور بديله أخرى عبر خياله التاريخي. فلكل منا حذاؤه الخاص بالطبع، ومن ثم سيكون الحذاء  كتاب معرفة بحكم أننا نعرف ماذا حدث مع الحذاء طالما كان بهذه الكينونة. ولو كانت ثمة عبارة جامعة معبرة في هذا الشأن، لكانت أنَّ " الحذاء هو الإنسان". إنه يرتبط بكل مساره في الحياة، عثراته ونجاحاته والأحداث التي مر بها والمفاجآت التي توالت عليه وإقتحمت وجوده الهش.

ثانياً: كون الحذاء حذاءً مرسوماً في لوحة فنيةٍ يعني أنه مفيد ضمن حدودها التي ينبغي التفكير بها بصيغ الألوان وخامة القماش والرباط الذي يدخل في ثقوب الحذاء. يمر الرباط مباشرةً عبر الفتحات (ثقوب صغيرة في طرف حذاء يُدخل فيه الشريط) التي تتخذ شكل أزواج متقابلة يخترقها الرباط بصورة متعاقبة، ليظهر للمشاهد في جانبه الخارجي ويختفي في مقابله الداخلي. لكن هل يعني الظهور والاختفاء المتعاقب للرباط عبر ثقوب الحذاء في اللوحة دمجه جلد الحذاء كنقوش الرسم؟ يخترق الرباط الثقب عبر الفتحات المعدنية (الحواف)، وهو بذلك يخترق الجلد الذي صُنع منه الحذاء وقطعة قماش الرسم في آن واحد. وأكثر من هذا إنه يخترق وعي المُشاهد الغفل ليربطه بالجوانب الأخرى للعالم الذي يتأمله ويتلقاه. وكأن رباط الحذاء هو رباط اللوحة والحياة بصورة متداخلة ومتسللة إلى درجة بعيدة.

ثالثاً: يفتح الحذاء طريقاً للوراء لا إلى الآتي، ذلك بقدر ما يبدو مستعملاً وبه كم من فقدان الصلابة المطلوبة. لأنه بحرفية العبارة قد تفتت، أي تمت دغدغته، ومعه تمت دغدغة كل آمال بإمكانها أن ترى عودته للإستخدام كرة أخرى. فكأنه قد وصل إلى محطته الأخيرة مقذوفاً بعد أن قطع المسيرة مع الأقدام البشرية. والافتتاح المقصود أنه يجعل وجوده فضاء للتذكر والعودة إلى الخلف بشكل قوي. وهذا ما يعبر عنه وجه اللوحة وتنويعاتها الفنية مع درجات الألوان المختلفة.

رابعًاً: إذا كان" الحذاء هو الإنسان " معبراً عن حياته، فالمعنى الطريف في لوحات فان جوخ أن الإنسان ذاته– من جانب عام- هو حذاء العصر في أي زمان ومكان. بمعنى أن هناك إسقاطاً من لوحات فان جوخ على تحول الإنسان نفسه إلى حذاء للقهر والفقر والبؤس والمعاناة. وذلك نتيجة القمع الواقع عليه والمستعمل له حتى أمسى حذاء ملبوساً حد التمزق. ومثلما يرتدي الإنسان البائس حذاء مهترئاً، فإن الأنظمة المستبدة وظروف العصر قد لبست (إرتدت) كيان الإنسان كأنه حذاء ليس أكثر. وغالباً ما تتركه الظروف مرمياً وهشاً بلاقيمة على قارعة التاريخ. إحدى اللوح يظهر فيها ثقبان بأعلى رقبة الحذاء، كأنهما عينان لإنسان منهك وفاقد إنسانيته ولا تظهر ثقوب أخرى في هذا المشهد. والعينان يعطيان حرية التخييل لدى المتلقي في اعتبار الإنسان هو (حذاء البؤس) الذي قد تعيشه بعض المجتمعات.

خامساً: يبدو أنَّ الحذاء في لوحات فان جوخ بمثابة" استعارة سيميائية " تستحضر استعارات القهر ومسيرة الإنسان المنهكة في الحياة. فلئن كانت ثمة أحذية تحمل تبعات حياتنا من مرحلة إلى سواها بهذه الشاكلة، فاستعارة الحذاء تستحضر الإستعارات الأخرى التي تضعها وسط الصراع والتفاعل داخل المجتمعات. مثل استعارات المشي والشقاء والكد والعمل المتواصل والفقر التي تتداخل في أجواء اللوحات. وربما تلك الفكرة جعلت فان جوخ تاركاً الحذاء لمن يرى فيه نفسه كما هو بلا رتوش أخرى.

***

د. سامي عبد العال

 

غسان فيضي المولود في معقل البصرة، يعرف من أين جاءت السفن، وأين رست؟ حرارة التوابل تخطف رغباته عندما تقع الشمس على أطراف النخيل تطير كالحمامات، ههنا حاضر له زمان ومكان يتذكر فيه موت أبيه، باحة البيت تتوسطها شجرة سدر، طالما تلعنها الأم بإعتقاد منها أنها تجلب النحس إليهم، ها هي العائلة تعدّ نفسها للرحيل، ينسون أيامهم خلفهم.

يشعر الفنان التشكيلي فيضي المقيم في فرنسا بالحزن لأن مدينته البصرة تنسى أبناءها ، حين لا يجد أثراً لاسمه من بين (تشكيليو البصرة)، الكتاب الذي أصدره الناقد التشكيلي خالد خضير الصالحي عام 2017، وهو يستعيد الأيام والأحلام والذكريات كواحدة من صفحات تاريخ الفن في العراق، وقد أدركها الغياب من طول ما بعدت عنه ونأت، إذ تبدو له من وراء شفيف ضباب السنين، وردية قليلاً، شاحبة في أكثر الأحيان:

كنت قد اخترت يوماً غائماً لأغادر البصرة، ورحت أشرب حفنة ماء من نهر (بويب)، وأقول لأهلها: سلاماً أيها الباقون، سلاماً أيها النخل، لم آخذ أدوات قلبي كلها، تركت بعضاً منها هناك، يقول فيضي المولود عام 1948: استحضرها على الدوام في أعمالي الفنية، بعد أن تركت الوطن عام 1974،نحو باريس بعد عام واحد من تخرجي في أكاديمية الفنون الجميلة، كنت أحمل معي حقيبتي الصغيرة وآلة العود. بكفالة صديقه الفنان فيصل لعيبي، الذي سارع هو الآخر للالتحاق بغسان، ينطبق عليهم المثل المحلي (عصفور كفل زرزور واثنينهم طيارة)!138 غسان فيض

اصنع بنفسك ما تشاء يا غسان، فقد اخترت طريق الرحيل، واسم حضارة الرافدين والموروث العراقي يرنّ على خطاك، ربما امتلأت رئتيك بهواء المعقل وبغداد، فرحت الى مواجهة الزمن المتحرك، بما يحمله من توقعات حادة ومفاجئات قد تعطّل في نفس الفنان تلك الطاقات الحبيسة التي تريد أن تعلن عن ذاتها بسرعة.

ومثل هذه المعادلة الصعبة التي تفضي الى حالة من اللاتوازن مع العالم الذي يحاول الفنان جاهداً أن يبقى على علاقة سليمة به، قد لا تسعفه في المضي بالتجربة حتى نهايتها لانه حينما يقف إزاء كل جبريات الحياة ويواجه امتحاناتها ومعضلاتها، يجد أنه في حاجة الى معين يتجدد من طاقة الحياة لاينضب، حملت عودك الى أنفاق مترو باريس ترسم على جدرانه، وتعزف كي تأكل، مغامراً في آن أو مكتشفاً في آن آخر، كنت تعمل طبقا لمزاج خاص لم تهزّك عواصف التحديث.

أدرك غسان ذلك حين بدأ الدراسة في معهد (البوزار)، وتخرج منه عام 1980. لتغتني تجربته كشاهد للطبيعة وملوّن رصين شغوف بعراقية المنظر، وهو يمنحه قدراً كبيراً من العاطفة المشبوبة، يضيف اليه بصريات ريشة عريضة ذات سحبات جريئة وواثقة، ما يمكن أن يؤلف غنائياً نسيج اللون التعبيري، متأثراً باستاذه الفنان الفرنسي (جان برتول) الذي طالما يحثه وينصحه في العودة الى ثقافته الشرقية ومنابع حضارته وتاريخه، وهو بهذا القدر من الحرية التقنية يتيح لنفسه قدراً من المساحة الكافية بين أسماء فناني جيله (صلاح جياد، نعمان هادي، فيصل لعيبي، منقذ شريدة)، ويبتعد عنهم بمعالجات مغايرة، شكّلت ملامح اسلوبه الخاص.

يطالعنا أبداً وجه العراق السومري في أعمال غسان فيضي التشكيلية، إذ استأثر بالنظرة الصافية للمشهد العراقي، وظل متوازناً مع ذاته من دون مفارقات ولا مواقف دراماتيكية مفتعلة، ولا حتى محاولات فنية تهدم عالماً منظوراً لتشيد نقيضاً له، ربما كان ينظر الى تلك المحاولات نظرات فنان يحلل ويركّب، ويقارن ويجانس ويغاير، لكنه لا يستسيغ الدخول الى التجربة الفنية مغامراً، حين يعمد الفنان الى الكشف عن الجوهر في جماليات الطابع الديني في جداريات نفذها في كنائس فرنسا ضمن اختصاصه الدراسي، سعياً منه الى اقتناص لحظات الإيماض في ولادة الخلود.139 غسان فيض

تأثر فيضي بمعلميه رواد المدرسة البغدادية، يقدم نفسه كامتداد لمدرسة جواد سليم في موضوعات الحب والحنين والفرح، والأجواء العراقية بطقوسها وقصصها، شناشيل بغداد والبصرة، وألوان الزجاج والأقواس في النوافذ والأبواب. وللمرأة حضور غالب في أعماله، في أوضاع منحنية ومكورة، بحالات حنين وإنسانية مشبعة بالعطف، وجوه النساء مليئة بالرموز والألغاز التي تتطلب لمعالجتها قدرة حلمية ولونية لا حدود لها، عناصر اللوحة لديه في تناغم وانسجام جميل ومتناسق، يبرز لنا دلالة رمزية في الأشكال المكونة لها، والنسب الفنية الظاهرة فيها تعطيها قيمة بنائية عالية في تجسيد اللون والحركة بما يحقق القيمة الجمالية. لوحات (بغداد حبيبتي، وبغداد بين نافذتين).

في ضوء هذه المعطيات، يمكن القول ان لغة فيضي التشكيلية تحولت الى مادة فنية مطواعة مؤهلة للتعبير عن ذلك الإيقاع البصري المؤثر بالمضامين غير معقدة التركيب، بعيدة عن سطوح التجريد، والاستخدام الفج والمباشر للفولكلور لعل أغلب موضوعاته تأخذ نمطاً شكلياً واحداً للتعبير عن أفكاره وعواطفه، في الذهاب نحو النستولوجيا كمتنفس من ضغوط الغربة، فيجد نفسه مشدوداً بقوة الى مصادر وعيه وجذوره الاولى، الحضارية والروحية، فضلاً عن حالة القلق وأسئلة المصير التي منحته قدرة التعبير عن افكاره بنمط صريح يعالج عبره الموضوعات الانسانية والاجتماعية، فكان أكثر أمانة من سواه في حدود تجربته الفنية أن يتمثل بعض ما جاءت به التيارات الفنية المعاصرة، فلم يخضع كلياً لتأثيراتها، كما لم تحمله على التقليد فيسقط في هاوية المماثلة الرديئة.

ينسب بعض النقاد التشكيليين اعمال غسان فيضي الى تأثرها باسلوب الفنان العالمي فاسيلي كاندنسكي بألوانه الراقصة، وايقاعات الانسان الداخلية، والبعض يشبّه رقاب نساء فيضي بأعمال الفنان مودلياني المفعمة بجمال الشرق وسحره.

ان لوحة (على طريق البصرة)، التي تصور نساء جاثمات او منحنيات على دبابة محترقة، تجسد عذابات المرأة العراقية في وطن يتحول الى رماد، كما انا تعبير صارخ ضد الحروب، وفي لوحة (أضواء نارية على سماء بغداد)، تبدو التعبيرية قاسية جداً كونها النداء الداخلي والقوة الخفية التي منحت فيضي صرخته في الاحتجاج على صلف الطيار الامريكي في أثناء لقاء تلفزيوني، راح يتغزل بليل بغداد وهي تحترق بفعل القنابل والصواريخ الامريكية التي سقطت على العاصمة. الفنان هنا قدم عملاً ابداعياً مقاوماً له دوره في التغيير. الحفاظ على مضمون العمل، والجانب الوثائقي فيه.

الوجوه يحددها بإمارات الحيرة والتأمل، الانسان في دوامة الوجود يبحث عن وسيلة يحرر فيها روحه التي تعاني الحصار، انسان غسان فيضي لا يعيش العزلة، انما هو متصل بالآخر، متلاحم معه، في أغلب الأعمال تجد كتلاً من البشر متراصّة، بوجوه مذعورة غارقة في السؤال لمواجهة مصيرها ومحنتها المشتركة (لوحة جراح البصرة)، غير ميّال للاهتمام بأجزاء الجسد الأخرى. جمالية اللوحة تبدأ بالوجه، بتضاد لونين أحدهما السعادة والآخر الحزن، الضوء والعتمة، العالم يبدو هكذا، أقصى حالات التعبير الانساني تجسدها الوجوه، ليس بالضرورة ان تكون وجوه الرجال حاضرة في اللوحة لانها تتجسد في وجه المرأة كذلك، هكذا يقدم لنا فيضي تبريراته عن خلو اعماله الفنية من وجه الرجل. لوحات (انتظار وعودة السنونو).

تجربة غسان تبدأ عادة من نقطة الإشارة الى المرأة ، تتجمع في مختبره الداخلي كل الطاقة التعبيرية على أداء الفعل، لتفرغ في النهاية بالتشكيل الذي يمثل شخصية الفنان وأسلوبه، المرأة في أعماله مثل رغيف الحياة، وجوه مدوّرة بعيون مفتوحة واسعة، الصغار من حولها يتمسكون بأصابعها، يتشبثون بأذيالها لائذون، اللوحة تسبح بلون الضياء، والخدود كلون الأجاص، نجوم شفيفة تضيء، وهمس النساء الغارقات بحزن الفقدان يتحول الى صراخ من خلف الاسوار (لوحة سبايكر) مثلاً.

اللوحة عند فيضي تحفل بمعاني الخط كوسيلة تعبير عن الحقيقة والحركة على رقعة مسطحة ساكنة، و شدّة اللون في عام الأساطير الشرقية، ألوان الزجاج والسجاد، والأقواس الرقيقة، والمثلثات، أعماله واسلوبه على وجه التحديد. عالم ألف ليلة وليلة الذي ينتظره الأوربي أن يقدمه الفنان المقيم في بلدان الغرب. فكان أميناً لما تمناه معلّمه جواد سليم في أن يجد امتداده بتجارب شابة، أصيلة المنابع، منفعلة بالأحداث، غير غائبة عن التأثيرات الاوربية، بما يمنح فن جواد القدرة على النمو والانتشار.

***

د. جمال العتّابي

في عام 1957 رسم بيكاسو لوحة – الاميرات – لفيلاسكس ونفذها بثمانية وخمسين لوحة - 58 - مكررة بين التخطيط والرسم بالزيت وباسلوب بين التجريد والواقعية التعبيرية، ويذكر انه عمل لها تخطيطات تحضيرية (اسكيجات) وصلت الى اكثر من 150 تخطيطا، وهذه الاعمال نجدها اليوم معروضة في متحف بيكاسو في برشلونة وهي مثيرة ومدهشة، وتبين القدرة الهائلة والطاقة الفنية الكبيرة لعبقرية بيكاسو.

كما كان بيكاسو معجبا باعمال مانيت، فكان يعتبره من رواد التجديد، فكلما يرى لوحته – الغذاء على العشب 1863– يقول (ساصاب بالصداع)، من شدة اعجابه بهذه اللوحة ولهذا رسمها باسلوبه ومعالجاته الحديثة - 27 - مرة بالمواد الزيتية، وقد نفذها بين اعوام 1959 و1962.4656 الغذاء على العشب

وفي عام 1955 رسم بيكاسو 15 لوحة زيتية وهي عبارة عن استنساخ للوحة ديلاكروا – نساء جزائريات 1832 – وقد رسمها باسلوبه التكعيبي والتجريدي الحديث، وتذكر زوجة بيكاسو فرانسواز خيلو بان بيكاسو كثيرا ما كان يتردد على متحف اللوفر لمشاهدة لوحة ديلاكروا ودراستها وكان مغرما بها وبموضوعها الشرقي، وهو ما يؤشر الى الحنين الى الجذور الاندلسية وتاريخه العريق، وكان من أسباب ذلك التعلق ايضا هو شكل زوجته جاكلين ذات الملامح الشرقية وعينيها السوداوين الواسعتين وحواجبها المقوسة كالسيوف، وكذلك حرارتها النفسية والغيرة على بيكاسو حد المغالات. علما ان جاكلين عاشت في الجزائر مع زوجها المهندس السابق فترة طويلة واكتسبت كثيرا من العادات والتقاليد الشرقية التي تشترك بها مع بيكاسو... كما ذكرت رواية اخرى ان بيكاسو التقى مع الفنانة الفطرية الجزائرية باية حداد 1931 في باريس واطلع على اعمالها وطلب منها ان تبقى معه ليعلمها الرسم، ومكثت معه عدة اشهر وقد اوحت اليه برسم موضوع - نساء جزائريات – واقتنت بلدية باريس عدة لوحات من اعمالها كما قامت لها معرضا خاصا في باريس...4659 نساء جزائريات

و من الاعمال التي عملت شهرة لبيكاسو هي صورة فتاة جميلة اسمها Sylrette David، تعرف عليها بيكاسو عام 1954 واستخدمها كموديل للرسم، وقد عمل لها اكثر 40 لوحة بالالوان الزيتية والتخطيط، وظهرت باشكال محورة وواقعية، وانتشرت صورها بشكل سريع في كل انحاء العالم بواسطة تجار اللوحات، وتمتاز الصور بتسريحة شعرها الانيق والجميل، وربطه من الخلف بما يطلق عليه اسم "ذيل الحصان" وكانت موضة جديدة في ذلك الوقت، كما ان اسلوب بيكاسو الجديد في التعامل مع الموديل وسمعته، كل ذلك ساعد على انتشار الصور والانبهار بها.

و عندما مات ماتيس عام 1954حزن عليه بيكاسو حزنا عظيما، فقال لماذا لا نتبع اسلوب اصدقائنا في رسم المواضيع الشرقية ؟، وهو يعني بذلك ماتيس الذي عاش فترة طويلة في بلاد المغرب ورسم كثيرا من اللوحات ذات المواضيع المغربية والتي يطغي عليها الطابع الفني الاسلامي، من الزخرفة والالوان الحارة الساطعة والخط الذي يحدد الاشكال، وقد كانت هذه البيئة ومؤثراتها الفنية العامل الرئيسي في ظهور المدرسة الوحشية التي تزعمها ماتيس، بعض النقاد العرب اطلق عليها اسم "المدرسة العربية" .4657 ماتيس

و يذكر ان بيت بيكاسو كان يعج باعمال الفنانين الكبار المعروفين امثال سيزان وماتيس وكوربيه وكوكان وفان كوخ وغيرهم، وكان بيكاسو يقول (انه يعيش بيئة سيزان) فقد كان معجبا بجمال مناظر والوان سيزان وطريقة تعامله الحديث مع الطبيعة، فاثرت هذه على اعمال بيكاسو في مراحله الفنية الاولى.

وكان بيكاسو في سنواته العشرين الاخيرة قد كرس كل حياته للرسم والاستقرار والهدوء وكانت جاكلين قد اصبحت بمثابة ممرضة له بالاضافة الى ادارة وتنظيم زيارات الاصدقاء والصحفيين ووضع المواعيد. وقد حول بيكاسو كل غرف البيت الى ورشة عمل ومتحف وصالة لاستقبال الزوار، وكانت جاكين تهيئ له كل شئ من مواد الرسم وتحضير اللوحات والاوراق والالوان وغير ذلك، كما عملت له مصعدا كهربائيا للصعود الى الطابق الثاني. وكان بيكاسو ينتج في هذا المكان كل يوم ثلاث لوحات او اربع، وهو ما يشير الى ديمومة طاقته واستمرارها في الخلق والابداع رغم تقدمه في السن.

***

د. كاظم شمهود

كنت أتساءل دوما عن سر ذاك الحضور الخجول للأنثى ضمن الحركة التشكيلية السورية.. وكان الجواب حاضراً يومض ليحفزني ثم يمضي مكسور الجناح وحيداً يواجه قدره والرياح وقد وجدني غير آبه تشغلني أنانيتي والحياة ويبدو ان تأخري هذا كان محكوماً بمحدودية العلاقات فمهما ادعيت لن تجد في مجتمعك العربي السبيل سهلا لسبر الأغوار واستكشاف ذات لم تعد تتحكم بالقرار وستعزي نفسك حين تقول أن أجمل ما في الأنثى هو مالم أعرفه عنها بعد هو ذاك الجانب الغامض المجهول وهو سر قوتها وعلانية عفتها والحقيقة أن كبريائها الجامح هذا يخفي خلفه هشاشة ورغبات مستترة.

تلك المقدمة عبر منظوري ومنظاري الجامع وسنقترب أكثر باتجاه هدف ضائع وحاشى أن أدعي أني أسلط الضوء فالضوء منبعه في ذاته ولكني أحاول بسلاسة تفسير بعض من مفرداته بدأ من الكلية وانتهاءً بالأجزاء كما ضيعة ضائعة تحتضن جميع الأبناء وأولى أبطالها فنانة نبرات صوتها وصمتها تعكس ذاك الضجيج الداخلي وتلك الرغبة العارمة في إثبات الذات عبر مجموعة غنية من الملونات هي شعلة ذكاء متقدة هي تلك الطفلة الشفافة التي كانت تحصد الجوائز وهي صغيرة كبرت سريعاً وصارت وردة تفوح بعطرها وكان مصيرها أن تقطف كما باقي الورود.. لتزرع في مكان آخر تنضج فيه بشكل آخر يضطرها لتؤجل لفترة وجيزة مضحية بطموحاتها والرغبات مقابل أمومتها واستمرار الحياة هي الفنانة سوسن حاج ابراهيم كنت ضيفا في مرسمها بظل فراشة وربما فيل والحكم في هذا لها ولزوجها الراقي الجميل هذا ما شهدته عيناي وأذناي منزل بمنتهى الأناقة والرقي تحولت أركانه لمرسم في خدمة الزوجة وبتشجيع زوجها وحماسه (الد كتور أيمن الصواف والشكر موصول له) لم يأتي هذا من عدم هي ثقة متبادلة وإيمان مطلق بذاك الجمال وما يخفي خلفه من تعابير كانت حبيسة الصدر ثم آن لها أن تقال هي بصيرة واعية من الزوج لمكانة تلك اللوحات وقدرت زوجته على دخول المعترك وعلى إثبات الذات من باب المدخل قادتني قدماي بغير إرادتي للوصول إلى حيث اللوحات التي تزين الجدران وإلى عمل قيد الإنجاز في الوسط وأعمال أخرى تستند على الحيطان.4639 سوسن حاج ابراهيم

إن لم يكن تصرفي هذا لبقاً فأنا أنتهز الفرصة عبر هذا المقال للاعتذار وأقول أنني بحكم طبيعتي أنسى تعب يوما كان مرهقاً جداً أمام أعمال جديرة ولوحات ..ومن خلال مارأيته أخمن وأحلل ثم أسبر الأغوار أقول مخمناً أن لتلك القطيعة التي فرضتها مهام الأمومة أثرها الإيجابي الذي لازال مستمراً منذ عودتها وإلى الآن كونها كانت متابعة لكل التغيرات على الساحة التشكيلية المحلية والعالمية لتتشبع بصرياً وتتكون مواقفها ويتجلى ذاك الأثر من خلال تلك الرغبة الحارقة بالتجريب كمن يسابق الزمن ويسعى لقول كل مايريده وكل ماكان مختزننا من حرقة الشوق وهي تعلم تماما أنها لن تستطيع طرح عوالمها دفعة واحدة وضمن لوحة واحدة كي لا تتعرض للسقوط في نشاذ فهي تحسن التحكم بتلك المشاعر والرغبات لتسقطها على سطح العمل بتلقائيتها وعفويتها المعهودة وعبر حس مراقب يقظ لكل التحولات - سوسن الحاج تعلم جيداً أن اللوحة ليست مكاناً للتفريغ فحسب كونها تقتنص اللحظات الأكثر صدقاً والأكثر تعبيراً و جمالاً ضمن عوالم الذات ليتشكل في بعض أعمالها الموحية ومن خلال ملامح الوجوه مفهوم أخر للجمال ينبض بتعابير لها إسقاطاتها (جمال البشاعة).4638 سوسن حاج ابراهيم

أما أعمالها بالمجمل فهي تحمل ذاك النفس التعبيري التجريدي وبحس انفلاتي يوزع الألوان وفق ايقاع داخلي يرفض أي حصار.. اللوحة عندها مكان للعب يوحي باللامبالاة ويعكس سلاسة تلك الانتقالات وفق تراتبية تناوبية ما بين الدسامة والشفافية ما بين الخط واللون والحف برؤوس حادة وأحيانا ترسم بأصابعها بحثاً عن نسيج خاص لعملها في أعمال سوسن يبقى السؤال مطروحاً.. إلى أين؟ ففي خضم تلك التقاطعات ما بين العاملين ضمن إطار التعبيرية التجريدية تصير الفرادة مطلباً ملحاً وأقصد تلك الفرادة التي تسمح لمتابع مقل من العامة التعرف على لوحات الفنان أما أنا فأستطيع أن أمسك بذاك الخيط الذي يميزها وربما أخمن من خلاله لما ستؤول إليه لوحتها فذاك المجموع الغني والمتنوع في لوحاتها الذي يعكس دلالات رغبتها العارمة في التجريب قد يأخذها لاحقا لتختار مجموعة لونية لكل مرحلة تؤكدها من خلال معرض وربما تسير تلك المراحل جميعها بالتوازي وقد تتأكد بعض الرموز عبر رحلة بحثها هذه حين تتكرر عفويا وتلقائيا محملة بالدلالات التي تشير بشكل غير مباشر لواقع الحياة.. وحين أتحدث عن تقاطعات واردة فأنا أقصد هنا (محليا وعالميا) المجموعة التي تحمل نفساً واحداً فمن خلال دراستي للفن السوري وبغض النظر عن الجيل أو المستوى يمكن أن أدرج الفنانين الى مجموعات ضمن جداول تحمل نفس الروح وبالتالي يمكن لكل مجموعة أن تتفق على معرض يستطيع من خلاله المتلقي أن يواكب تلك الروح الأحادية كما نغمة مترابطة ومتواصلة يرتفع وينخفض إيقاعها تدريجيا عبر هذا المفهوم تبقى التقاطعات واردة طالما اتسعت الحياة ولكن البقاء لمن يواصل ويؤكد تمكنه وتتكشف على المدى الأوسع بصمته وخصوصيته بالعودة أقول في البدايات يبقى الفرق واضحاً في العموم ما بين الذكورة والأنوثة في التشكيل ففي حين تميل الأنثى للتفاصيل والخطوط المنحنية وللزخرفات وتتفوق اكاديمياً يبدو الميل الذكوري لخطوط حادة أكثر تمرداً وسعياً للتجديد ولكن تلك الفوارق تتقلص تلقائيا بحكم الظروف والمشاهدات وطبيعة الحياة ويبدو أن سوسن الحاج قطعت شوطاً ما بين الذكورة والانوثة وما بين هدوءها وشفافيتها الظاهرة ونبرات صوتها التي تخفي جراح أنثى فذاك البركان المتقد بداخلها يعكس رغبتها الدائمة بالتجديد والانفلات عبر تعبيرية تجريدية لا افق لها في تلك.

***

الفنان والباحث حسين صقور (الفينيق) مكتب المعارض والصالات المركزي

 

أحب فن الرسم منذ خطواته الاولى في طريق الحياة الصعب. اكتشفت موهبته معلمته خلال دراسته في الصف الاول. بعدها لفت أنظار المحيطين من أهل واصدقاء، فما كان منهم إلا أن قاموا بتشجيعه على مواصلة طريقه مع الفن. غادر مقاعد الدراسة مبكرًا. لم يتلق تعليمًا منظمًا عاليًا، وخرج إلى ساحة العمل مبكرًا. عمل في توزيع اسطوانات الغاز مدة نافت على نصف القرن من الزمان، غير أن حلمه الفني رافقه خلال هذه الفترة، قبلها وبعدها، ولازمه ملازمة الظل لصاحبه. خلال عمله وجد من يُشجعه للالتحاق بدورة فنية على مستوى رفيع فالتحق بها. دفتر مذكراته عامر ولكل لوحة قام برسمها قصة وحكاية. شارك في العشرات من المعارض الفردية والجماعية داخل البلاد وخارجها. باع عددًا من اللوحات وتوجد لوحات من إبداعه في داخل البلاد وفي العديد من دول العالم. أصدرت جمعية "ابداع للفنانين العرب"، كراسة تعريفية عنه، وعن انتاجه الفني. قطع مسافة زمنية واسعة جدًا مع الفن ومع ذلك يعتبر أنه ما زال في البدايات الاولى المبشرة.

قدمت العشيرة البدوية التي ينتمي إليها الفنان حسن طوافرة إلى البلاد من الريف السوري، منطقة حماة، قبل أكثر من مائة وخمسين عامًا، وأقامت في مواقع وأماكن مختلفة من البلاد. أهله أقاموا في مدينة طبرية وفيها ولد عام 1945. عندما كان في الثالثة من عمره وقعت مواجهات بين الاهالي العرب في المدينة والقوات اليهودية المدجّجة بالعتاد والسلاح، وكانت النتيجة أن أهله اضطروا لمغادرة المدينة والانتقال إلى بلدة المغار للإقامة فيها.. في بيت ابتنوه على قطعة من الارض قاموا بشرائها بشق الانفس.

في قرية المغار تلقى تعليمه الاولي، وهو يتذكر أن معلّمته نهاد خنجر، ابنة بلدة الرامة، حكت له ولأبناء صفه حكاية خيالية وطلبت منهم جميعًا أن يضعوا رؤوسهم على سطوح المقاعد أمامهم وأن يسرحوا في دنيا الخيال. بعدها طلبت منهم أن يقوموا بر سم ما تخيلوه وما خطر في أذهانهم. يقول حسن مرفقًا قوله بلمعة لافتة من عينيه اللماحتين، إن ما رسمه لفت انظار معلمته، فقامت بتشجيعه وأوحت إليه أن الفن سيكون هو المكتوب عليه.4439 حسن طوافيرة

علاقة حسن وأهله بمدينتهم الام طبرية لم تنقطع بمغادرتهم لها مكرهين، يقول حسن طوافرة إن تشجيع معلمته له دفعه بقوة لمواصلة السير في طريق الرسم والابداع، وإنه في كل مكان كان يحل فيه يلقى التشجيع المماثل لتشجيع معلمته تلك. في العاشرة من عمره أو نحوها التقى في مدينة طبرية بالفنان اليهودي المشهور شمعون هارتمن، وأطلعه على موهبته في الرسم فدهش الفنان لقوة موهبته هذه وبشّره بما بشّرته به معلمته في الصف الاول.

يذكر حسن طوافرة أن بدايته الفعلية الحقيقية مع الفن تمّت بعد تعرّفه على الفنان اليهودي ومعلم فن الرسم اوري مزار، "في اوائل الثمانينيات تعرفت على هذا الفنان المبدع، وطلبت منه أن يضمّني إلى دورة إرشادية في مجال الفن التشكيلي"، يقول حسن طوافرة ويضيف:" طلب مني مزور أن اقوم بوضع رسمة كي يقرّر إلى أي من قسمي المشاركين انتسب، المبتدئين أم المتقدمين. عندما شاهد ما رسمته قرّر أن التحق بقسم المتقدمين. من مزور تعلّمت الكثير من أسرار الخط واللون".

بعد انهائه الدراسة في تلك الدورة، شعر حسن أنه بات بإمكانه الانضمام إلى عالم الفن والفنانين، فراح يواصل إبداع اللوحة تلو سابقتها، حتى تراكمت لديه العشرات ويكاد يقول المئات من اللوحات. ابتداءً من التسعينيات انفتحت المجالات أمام فناننا، وكان أن انضم إلى العديد من الجمعيات والمجموعات الفنية، في مقدمتها جمعية ابداع للفنانين العرب. وهو ما ساهم في تمكنه من المشاركات في العديد من المعارض الفردية والجماعية.

بإمكان مَن يشاهد ابداعات حسن طوافرة في الفن التشكيلي، أو حتى عدد منها، ملاحظة أنه فنان مسكون بالمكان، وأن بحيرة طبرية تستولى على مساحة من أفكاره، أما المساحة الاخرى الكبرى في ابداعه اللوني، فقد امتدت إلى المكان والانسان والطبيعة. يؤشر حسن إلى لوحة تظهر فيها صورة امرأة، يقول إن لها اسوة بسواها من اللوحات المنتشرة في طول بيته وعرضه، حكاية طريفة، فبعد أن وضعها، قام زوج صاحبتها بإخباره أنه سيقوم بتعلّم الفن التشكيلي معه وإلى جانبه، وذلك بعد عودته من حرب لبنان، سوى أن هذا لم يعد من تلك الحرب وقضى فيها. "هذه واحدة من عشرات القصص التي تكمن وراء وضعي لكل من لوحاتي"، يقول حسن وينظر إلى البعيد. واضح أن الفنان حسن طوافرة يضع رسوماته ضمن المفهوم الواقعي للفن التشكيلي ويغلب على رسوماته الطابع الرومانسي الحالم. كما يرى العديد من زملائه الفنانين.

عندما ابتدأ حسن طوافرة طريقه مع الفن التشكيلي، لم يكن في بلدته المغار فنانون وكان بالتالي الفنان الاول هناك، أما اليوم فقد ظهرت اسماء كثيرة من الصعب عليه عدها وحصرها أو حتى تذكر اصحابها مجتمعين، لهذا هو لا يريد أن يذكر اسمًا مُعينًا خشية أن ينسى آخر مستحقًا للذكر.

رغم أن فناننا بات منذ سنوات بعيدة جدًا واحدًا من أصحاب الاسماء المعروفة في البلاد إلا أنه لم يحترف الفن، " الفن لا يطعم خبزًا ولا يقوّم اودًا في بلادنا.. لهذا كان علي أن أعمل أكثر من خمسة وخمسين عامًا في شركة توزيع اسطوانات الغاز في مدينة طبرية للمحافظة على مستوى حياتي لائق لي ولأبناء اسرتي. في الكراس التي أصدرته جمعية ابداع للتعريف بالفنان حسن طوافرة.. كتب الاستاذ الاعلامي نايف خوري، ما مفاده ان طوافرة عاش الفن هوايةّ أقرب ما تكون إلى الاحتراف، بمعنى أنه عاش الحالة الفنية لكنه لم يعتش منها.

***

ناجي ظاهر

......................

*اسم الطوافرة جاء من الطفرة وهي الوعاء الذي يوضع فيه مخيض اللبن الرائب، بهدف تقديمه إلى من يود شربه من أهل، اصدقاء وضيوف. يقول حسن إن الاجداد والآباء اخبروه أن عشيرتهم اشتهرت بالطفرةعُرفت بالتالي بالطوافرة.

كانت بيرث موريسوت BERTHE MORISOT احد  رواد  جماعة الانطباعيين و من مؤسسيها  وابرز شخصية فنية في تاريخ الفن الطلائعي الحديث، وقد اطلق عليها اسم –  المدام الكبيرة في الفن  - ولدت في عام 1841 في مدينة BOWGES في فرنسا من عائلة برجوازية تهتم بالفن والموسيقى، وقد اهتمت العائلة بتعليم  اولادها الثلاثة باحسن المستويات الثقافية والفنية وانفقت على ذلك اموال طائلة حيث سجلتهم في مدارس وورشاة خاصة ليتعلموا شتى علوم المعرفة خاصة الفن.. وقد مالت بيرث الى تعلم الفن واخذت تتعلم الرسم على يد احد اصدقاء مدرسة بارببزون وهو كاميل كورو مع اخواتها، وكانت هذه الجماعة قد هجرت باريس عام 1830  ليتجمعوا في قرية صغيرة تدعى باربيزون  على بعد 48 كم عن باريس وقد استوحت من الطبيعة مواضيعها في الرسم.. وظهرت في هذه الفترة الطبقة البرجوازية مع ازدياد الطبقة المتوسطة. وقد ساعدت هذه التغيرات الاجتماعية الى ظهور طبقة من المصورين ابتعدت عن الموضوعات التي ترسم في داخل المراسم وفضلت الخروج الى الطبيعة ودراستها مباشرة.. بعد ذلك اخذت بيرث تتردد على متحف اللوفر لاستنساخ بعض  اعمال كبار عصر النهضة، وهي عادة كانت تمارس سابقا عند كل الذين يرومون  تعلم الرسم، وكان كويا وبيكاسو وغيرهم يذهبون الى متحف دل البرادو في مدريد لاستنساخ  اعمال كبار الفنانين العالميين حيث يتعلمون منهم الاساليب وطريقة استخدام اللون والتخطيط والتشريح وغيره.. وفي متحف اللوفر تعرفت بيرث على الفنان ادوارد مانيت عام 1858 وتكونت بينهما علاقة عاطفية وجلست له كموديل ورسمها  بعددت لوحات لازالت تزين بعض متاحف العالم..4421 berthe morisot

اسلوبها وتقنياتها..

ورغم ان الرجال كانوا هم الطليعة في التجديد والتحديث الا ان بيرث كان لها دورا استثنائيا في المناقشات والطروحات  الفكرية بين جماعة الانطباعية والذين كانوا  يجتمعون في مقهى تسمى CAFÉ GUERBOIS   وكانت تشترك في المناقشات الدائرة بينهم حول الفن الحديث ومواجهة التقاليد القديمة، حتى اطلق عليها  - مدام الفن – وقد كان اسلوبها يمتاز بحبك المواضيع وحرية الفرشة والعفوية حيث تحاول ان تغور الى اعماق الشكل لتعبر عن وضعه النفسي.. وسجلت مرحلة مهمة في تطور جماعة الانطباعيين حتى فاقتهم في بيع اللوحات.. وفي عام 1873 رفضت اعمال الانطباعيين من قبل صالون العرض في باريس وكانت بيرث معهم فقرروا ان يعرضوا اعمالهم المرفوضة في مكان اخر في استوديو المصور المعروف نادار عام 1874.. وقد  امتاز اسلوبها كذلك بالرقة والشاعرية ومغلف بالوان رومانسية حالمة يطغي عليها الالوان  الازرق والرصاصي ومشتقاتها،   وقد فاقت مصوري الباربيزون والانطباعيين شهرة حيث  اضاءة الطريق امام  المدرسة الانطباعة وتمردها على التقاليد الكلاسيكية القديمة  بعدما نالت من الاستخفاف والرفض من قبل المجتمع وصالونات العرض في بداية ظهورها... وكان ينظر الى بيرث  بغرابة  عندما تلتقي مع الفنانين الذين كانوا كلهم ذكور وترسم وتناقش، وهي عادة غير مالوفة في ذلك الوقت..4422 berthe morisot

وفي عام 1874 تزوجت بيرث مع اخو ادوارد مانيت اوخينيو مانيت وهو رجل اديب وسياسي وهاوي للفن، ثم سافرا الاثنان الى لندن وهناك اطلعت بيرث على اعمال الفنانين الانكليز مثل تيرنر  وكونستابل وغيرهم وتاثرت بهم حيث تطور  اسلوبها واصبحت فرشاتها تمتاز بالضربات السريعة والحزوز والخطوط الطلقة ظاهرة على سطح اللوحة ، وبجمالية وحداثة ما لم نجده عند زملائها الانطباعيين ومن هنا تميزت وعرفت اعمالها بين الوسط الفني في ذلك الوقت..

وفي عام 1886 عرضت اعمالها في نيويورك ولندن ونالت شهرة كبيرة. وفي عام 1892 قامت باول معرض شخصي لها في كالري BOSSOD  في باريس، وفي هذه السنة توفى زوجها اوخينيو مانيت. وفي عام 1895 توفت بيرث عن عمر بلغ 54 عاما ودفنت الى جانب زوجها اوخينيو في مقبرة PASSY .. وبعد سنة من وفاتها عمل لها اصدقائها مانيت وبيسارو ورينوار وديغا معرضا شخصيا،  وفاءا  وتكريما لهذه الفنانة  الكبيرة الشجاعة والجريئة والتي انارة الطريق الى  ظهور الفن الحديث، وقد ضم المعرض  380 لوحة مختارة..

***

د. كاظم شمهود

في الندوة العلمية التي نظمها ليلة أمس كل من المجمع الدّولي للآداب والفنون البصرية بباريس ( AULAV  créations) والمنظمة الدولية للثقافة والتّنمية وحوار الحضارات. تناول الدكتور محمد البندوري الفرق بين الخط والحروفية والتشكيل، من خلال بعض الخاصيات التي يتميز بها كل صنف، والخاصيات المشتركة: على مستوى أشكال الحروف، وعلى مستوى التركيب. وهذه الخاصيات تسهم في إنتاج مختلف الجماليات منذ النقوش القديمة. نقش النمارة مثلا، وهو تركيب عربي خاص، تتوافر فيه جماليات نوعية بالرغم من كونه يضرب في أعماق التاريخ ويواجه عاديات الزمن.

من هذا المنطلق، قال البندوري: إن الإلمام بالمادة الخطية أو ببعض أركانها يقود إلى استقاء نظريات أو إعطاء مفهوم قصد الخروج من وضعية خطية إلى أخرى او بعبارة أدق رسم معالم التفوق وضبط مسار التطور والإبداع. والإبداع طبعا هو الإتيان بالجديد، التمرد على الجاهز، الخروج عن المألوف، الانزياح عن المعتاد، تقديم صيغة أو صيغ جديدة. وهنا رصد اجتهاد بعض النقاد القدامي من بينهم: أبو حيان التوحيدي حين حدث عنده إلمام بمقاييس الحروف ووضعياتها، فاستقى منها نظريته الجمالية. حيث تبدت مؤهلاته جلية في خط النسخ فكان يقوّم كل ما يخرج عن الضبط. باعتباره أحد المفكرين الذين صرفوا عنايتهم للبعد الجمالي للخط من خلال عدم تقبله لتردي عملية الكتابة من وجهة نظره وكيفية رؤيته للجمال من جهة، ومن خلال نظرته الفنية للخط العربي من جهة أخرى. فصرف عنايته للبصر والذوق وللبعد الجمالي، فوضع شروطا للخط الجميل المجود، يقول:" والكاتب يحتاج إلى سبعة معان: الخط المجرد بالتحقيق، والمحلى بالتحذيق، والمجمل بالتحويق، والمزين بالتخريق، والمحسن بالتشقيق، والمجاد بالتدقيق، والمميز بالتفريق. والمراد بالتحقيق إبانة الحروفِ كُلِها منثورها ومنظومها مفصولها وموصولها بمداتها وقصراتها وتفريجاتها وتعويجاتها، والمراد بالتحذيق إقامة الحاء والخاء والجيم وما أشبهها على تبييض أوساطها، والمراد بالتحويق إدارة الواوات والفاءات والقافات وما أشبهها مصدرة ومتوسطة ومذنبة بما يكسبها حلاوة ويزيدها طلاوة، والمراد بالتخريق تفتيح وجوه الهاء والعين والغين وما أشبهها، والمراد بالتشقيق، تكنف الصاد والضاد والكاف والطاء وما أشبه ذلك، والمراد بالتدقيق تحديد أذناب الحروف بإرسال اليد واعتماد سن القلم، والمراد بالتفريق حفظ الحروف من مزاحمة بعضها لبعض، وملابسة أول منها لآخر.

يضيف البندوري فهذه المعاني السبعة محددة جدا ودقيقة للغاية، وترسم طريقا صريحا لجمالية الخط حسب أبي حيان، وفي المقابل نجد عددا من النقاد الذين اجتهدوا ولولا اجتهادهم لما بلغ الخط مبلغه من الرقي والتطور.

وشدد البندوري على ألا يجب أن نبقى حبيسي نمط محدد من طرف شخص محدد، جميل أن نقتدي وأن نتعرف على ما بلغه من الاجتهاد، ولكن لا يجب أن نحبس أنفسنا ونبقى مقلدين. وقال إن كلامه واضح في هذا المعنى: فهناك بعض الخطاطين لا يسألون أو يتساءلون: كيف وصل ذلك الخطاط القدوة إلى ذاك المستوى؟ إنه الاجتهاد يا سيدي، وصياغة معاني جديدة يا مولاي. إذن عليك أن تجتهد ( ووضح أنه يتحدث فيما يتعلق بالخط العربي الكلاسيكي) من خلال ما وصل إليه ابن مقلة أو ابن البواب أو المستعصمي أو شوقي أو البغدادي أو غيرهم ممن اجتهدوا فأصابوا.  المهم كل أولئك بلغوا مبلغهم من الدقة والجمال والتقييس الدقيق وتثبيت الشكل المناسب في رسم الحرف باجتهادهم وإبداعهم، ولم يصلوا بالتقليد الأعمى، ولم يبقوا حبيسه ومنغمسين فيه.

ومن جهة أخرى خاض محمد البندوري في  مسألة التحرر من رقبة التقليد والرغبة في إطلاق سراح الحرف من كل القيود باعتبار أن التحرر هو الذي يعطي منجزات حروفية مختلفة، منها ما ارتبط بخلفيات تشكيلية مع الحفاظ على القواعد، وهذا في حد ذاته ظل في حيز من الركود. لأن الاجتهاد ارتبط بالخلفيات وبنوع قليل من التغيير في الشكل العام للوحة. بينما انطلق عدد من الخطاطين المجددين في الحرف والشكل فجددوا في الحروفية على أوسع نطاق ومزجوا بين التشكيل والحروف في حرية مطلقة أعطت للحرف رمزية داخل النسق التشكيلي.

وهنا عرج الدكتور البندوري على نقد المبهمات مشيرا إلى أن اعتقاد البعض بأن الفارقيات بين الخط والحروفية والتشكيل هي حلقات مفرغة وتضر بالخط العربي، بينما واقع الحال غير ذلك، فالحروفية هي كيان عربي يعطي للتشكيل العربي هويته في المنظومة التشكيلية العالمية. والحروفية في التشكيل العالمي هي فن تشكيلي  بهوية عربية إسلامية يختص بها العالم العربي الإسلامي. فالحلقة التي يحسبها البعض مفرغة هي ذات إيجابيات كبيرة في التشكيل العالمي. والحروفية لها مقوماتها الخطية والتشكيلية. فهي تجمع بين الحسنيين، وتقدم منجزا فنيا عربيا متطورا ومتفردا. إنه في الواقع اشتغال رؤيوي يروم الخط العربي من ألفه إلى يائه بكل تفاصيله. ويشكل مساحة مركزية في الإقرار بأحقية التطور التدريجي دون قطيعة ثقافية أو فنية. فقط يجب الإحاطة بأساليب الخط العربي عبر التاريخ منذ نقش النمارة الذي ذكره في بداية المداخلة، لأن هذا النقش يعطي للقارئ صورة واضحة. إذن يجب الإحاطة بأساليب الخط العربي عبر التاريخ للتمكن من إجراء المقارنة والمقاربة بين الشكل الخطي القديم وبين الأشكال الخطية الكلاسيكية وبين الأشكال الخطية المعاصرة عبر مختلف المحطات التطورية. ولأن العلاقة بين النص الخـطي القديم والنص الخطي المعاصر علاقة عضوية؛ فإن الحلقات البؤرة تتجلى في صيغ خطية متعددة، وفي أنواع خطية متنوعة، ما يجعلنا نلمس جماليات هذا الخط من خلال الشكل، سواء على مستوى رسم الحرف أو على مستوى الشكل المدمج في التشكيل، ما يُنتج لنا فهما عميقا بهذا الخصوص.

ولعل الذين يتناولون جماليات الخط العربي والحروفية والتشكيل ويخوضون هذه التجربة نظريا وممارسة يرون بأن الجماليات المبهجة التي تتأرجح بين الخط والحروفية والتشكيل تبني بلاغة خطية عربية صرفة بتنوع في الصيغ والأساليب. وقال البندوري بأنه لا ينكر بأن الفترة المعاصرة قد أنتجت أساليب حروفية عربية جديدة مغايرة للمألوف تتخذ من الحروف العربية بعدا جماليا، ومن الشكل الجديد بعدا بلاغيا. وبين تين الخلتين تتبدى الحلقات الرابطة بين الخط والحروفية والتشكيل حمالة لأوجه من الدلالات والتي ظلت مبهمة في النقد العربي، وهي تبرز أهمية التطور التدريجي الذي انتقل من الخط إلى الحروفية ومن التشكيل إلى الحروفية، وهو ما أعطانا حروفيتان إحداهما تستند على خلفية تشكيلية وتحافظ على قواعد الخط، والثانية متمردة على قواعد الخط وتنصهر في التشكيل كليا. وهي ليست مفارقة بين الاتجاهين، علما أن كل اتجاه له أساليب متنوعة، ولكنها خطوات تطورية تحمل عددا من المعاني والبلاغة الخطية، والبيان، والصيغ الجمالية. وأضاف البندوري: أنه يعتقد أن المبهمات تقلب المفهوم السائد للخط، وتقدم منجزات جديدة في نطاق التطور الذي يعرفه مجال الحرف بصريا، وهو يمثل نسقا مغايرا في الشكل الكلاسيكي للخط العربي ويعيد بناءه. وأوضح أن هذا لا يعني أنه يجهز على الشكل القديم، بل هي سنة الحياة التي تعرف التطور في كل شيء.

فالخط لم يعد بمفهومه النفعي المتعارف عليه، وإن ظل في الشكل الكلاسيكي من خلال اللوحات الخطية التي تعنى بالقواعد محببا لعامة الناس وخاصتهم، فإنه في الآن نفسه أصبح مفهوما يستغل البعد الجمالي والبلاغي ويحمل في جوهره عناصره الإيجابية ومفرداته الفنية ومكوناته الأساسية المتجددة. وهو توجّه مغاير وصـريح. فممارسة الخط لا تعتريه حلقات مفرغة، وإن المبهمات توجه وعي الخطاط نحو البلاغة بمعايير جمالية معاصرة. ولا شك أن تطور الخط ملازم لتطور الجمال والبيان والبلاغة، فلكل صناعته وآلياته. ولذلك لابد للخطاط والحروفي والناقد من الاستجابة البلاغـية والانتهال من الثقافة الخطية المعاصرة. فهناك مشاريع تنظيرية ونقدية جديدة في الساحة الثقافية العربية والعالمية يجب أخذها بعين الاعتبار. فبين الخط والحروفية والتشكيل حلقات انتقالية تطورية أثرت الحضارة العربية الإسلامية عبر التاريخ الإسلامي المجيد.

***

د. يوسف مدني

........................

* الصورة للدكتور محمد البندوري

 

كان محضر وفاة الفنان التشكيلي الهولندي (رمبرانت) موقعاً عليه بإمضاء الخادمة وطبيبه كشاهدين، يتضمن محتويات بيت الفنان: سرير قديم غير متماسك من خشب، وسادة خالية متّسخة، لحاف متهالك لا يمكن بيعه، طاولة خشبية ذات أربع أرجل مفككة، مقعد برجل مكسورة والقش متآكل، منشفة قديمة معلّقة على الحائط، اطارات فارغة معلقة، لا وجود للستائر على النوافذ.

هذه هي مخلفات رمبرانت العظيم المولود في 15 تموز 1606 في ليدن الهولندية. الذي كان نصيبه الاهمال في آخر أيامه إلى ان توفي عام 1669 في مدينة امستردام.

يوصف رمبرانت انه أستاذ النور والظلال يقف في مقدمة الفنانين في الغرب لما يتمتع به من قوة في التعبير، وما تتضمنه افكاره من قيم انسانية نبيلة، وتأملاته الشخصية حول مصير الانسان. ينتمي الى الاسلوب الباروكي في عصر ه الذهبي الهولندي، وهو ما يعرف بمصطلح الثقافة الذي ساد غربي اوربا وامريكا اللاتينية في الفترة الممتدة من أواخر القرن السادس عشر حتى أوائل القرن الثامن عشر، كأسلوب جديد في فهم الفنون البصرية انطلاقاً من سياقات تاريخية وثقافية متنوعة في حقول ابداعية : النحت، الرسم، الموسيقى، العمارة،

وإحدى خصائص فن رامبرانت تركيزه على الأضاءة والصورة وهي من سمات فن الباروك الأكثر شيوعاً، حيث يلجأ الرسام الى خلق جو مفعم بالتباين والدرامية، وابتكار طرق جديدة في تأكيد عمق المعاني ووضوح الشخصيات.

4354 رمبرانتفي أوائل سبعينات القرن الماضي يكون قد مرّت ثلاثة قرون على وفاة رمبرانت، وفي هذا التاريخ خرجت عربة رمادية مغلقة ذات جدران حديدية مزدوجة لا يخترقها الرصاص من ستوكهولم عاصمة السويد متوجهة إلى أمستردام، وقد رافق العديد من الحراس المسلحين جيداً هذه العربة الغريبة، وكانت الحمولة في صندوق أحكم غلقه باللحام طوله أربعة أمتار.

ترى ما محتويات الصندوق؟ أهي سبائك ذهبية أم أحجار ثمينة؟ كلا بالطبع، فالعربة المصفحة تحمل شيئاً مختلفاً عن الذهب والمجوهرات، لا يقدر ثمنه بشيء، انه كنز يمشي على الأرض تحرسه الآلهة، هكذا وصِف وصول اللوحة المشهورة لرمبرانت (تمرد كلاوديا سيفيليس)، لعرضها في الاحتفالية الخاصة في امستردام بهذه المناسبة، توجب على الشاحنة أن تقطع جزءاً من رحلتها عبر الممر المائي، لذا فقد وضعت اللوحة في صندوق خارصيني محكم، يحميها من أية أخطار محتملة في البر أو البحر، كالعواصف البحرية المفاجئة، أو إذا تعرضت للغرق،  فاللوحة النادرة ستظل محمية في صندوقها  راقدة في قعر بحر الشمال تنتظر انتشال الغواصين لها.

تعد لوحة (تمرد كلاوديا سيفيليس) من أروع ما رسم رمبرانت، من بين مئات الأعمال له، ولكل عمل منها وحده قصة وحكاية محفوظة في الذاكرة. كان كلاوديا الملقب بـ(الأعور) أحد الثوار من أجل الاستقلال والحرية.

تعود قصة لوحة تمرد كلاوديا التي لا تحسد عليها، هي ان رمبرانت استجاب لطلب مجلس بلدية امستردام لتزيين مبنى البلدية، (الآن القصر الملكي)، وتمكن من انجاز اللوحة عام 1662، لكنها لم تعجب أصحاب الطلب، فادّعوا انها ليست على قدر من الجمال والدهشة، وطلبوا من الفنان ان يجري عليها بعض التعديلات حسب مزاجهم، كان رمبرانت منزعجاً جداً من هذا السلوك، فرفض نهائياً ان يلبّي رغبة هؤلاء، وامتنع أن يقوم بأي تعديل على اللوحة.

حين ذاك قرر عرضها للبيع على الأثرياء من محبي اقتناء الاعمال الفنية للرسامين الكبار، لم يتقدم أحد من هؤلاء لشراء اللوحة، وظلت مركونة لفترة طويلة، وكان قياسها الكبير أحد الأسباب في تأخر بيعها، إذ يبلغ حوالي الخمسة والعشرين متراً مربعاً، مما يتعذر كذلك ضمّها  الى المجموعات الخاصة بالأفراد،  وكان رامبرانت يواجه ضائقة مالية قاسية في تلك الفترة، وعرف عنه انه بذل جهداً جباراً ليقتصد في الانفاق، فاضطر الى تصغير قياس اللوحة، وقيل انه طلب مبلغاً اضافياً لقاء التعديل، ويمكننا أن نتصور مقدار الألم الذي عانى منه رمبرانت، وهو يقتطع بسكين حاد أجزاءً من لوحته الرائعة لأجل تسويقها بالقياس المطلوب الاعتيادي، وكان ما أراد بعد أن أصبح قياسها أقرب إلى النصف، فاشتراها أحد أثرياء هولندا من أصل سويدي، وهكذا انتقلت اللوحة الى ستوكهولم، ثم عادت إلى أهلها بعد عدة قرون من (الغربة)، عادت الى امستردام المدينة التي غادرتها كفتاة منبوذة ثم عادت كابنة ملك لغرض عرضها في الاحتفالية لمناسبة مرور 300 سنة على وفاة رمبرانت، ثم أعيدت الى المتحف الوطني السويدي.

اللوحة مثال رائع للرسم الدرامي الباروكي، فيها يؤكد رمبرانت على أهمية الضوء الأبيض المشّع في أشد حالاته، ويذكر ان آخر لتقييم اللوحة كان في عام 2008 بمبلغ قدره 123 مليون دولار، في حالتها المشوهة. فكل ما تبقى منها هو كلاوديا تحيط به جماعته الثائرة على طاولة كبيرة يقسمون بالسيف أمامه.

رسم رمبرانت الحياة بتفاصيلها، وكل ما من حوله، حتى الحماقات الصاخبة والقذارات المخزية، والنساء العاريات، وتابع النهوض بفنه عن طريق تجارب عزيزة لدية، في تصوير شخصه، (62 على الأقل)، لوحته ( صورة الفنان)  الموجودة في اللوفر، نراه مبتهجاً في قبعة مزدانة بالجواهر وسلسلة ذهبية في  صدره، وصوّر نفسه بملابس(الضابط) يبدو فيها جميلاً مهيباً، بقبعته التي غزت العالم، كما رسم أباه الذي أحبّه جداً إحدى عشرة مرة، وأمه في اثنتي عشرة مرة، ورسم احدى روائع الدنيا وهي (درس التشريح)، وتواصل الفنان ينتج التحفة تلوالأخرى.

كانت (ساسكيا) الابنة اليتيمة لمحام وقاض ثري، ويقال عمّها، ذات جمال باذخ، بعينين راقصتين، وشعر حريري ناعم، وقوام أهيف، أغواها المحامي وهو وسيط في تجارة التحف الفنية بالجلوس أمامه ، كانتا جلستان فقط كافيتين للتقدم لطلب يدها للزواج منه.

(سيسكا) شريكة حياة رمبرانت، وموديله الأخّاذ في جسدها المتفتح، كان يدثرها في أزياء غريبة ليرسم لها( فلورا آلهة الشر) المشرقة الباسمة، الموجودة في متحف لندن، و(فلورا الحزينة) الموجودة في متحف بنيويورك، وفي احدى اللوحات صوّرها جالسة على ركبته، يفيض بالابتسامة وهو يرفع كأساً عالية ابتهاجاً بموفور الصحة والمال.

عاش رمبرانت حياة مليئة بالمفارقات، بين الفقر والثراء، والشهرة والانزواء، المغامرة والسكون، ووسط كل هذا الحال كان كثير الانتاج للروائع، في سنوات عمره الاخيرة كان مسكنه ضيقاً، ومرسمه سيء الاضاءة، ولا بد ان يديه فقدتا بعض اتزانهما نتيجة تقدمه في السن والخمرة.

كان طبيبه يقرأ له بصوت خفيض ومتهدج، لانه يعلم ان  حالته سيئة، وبمجهود مفاجئ حاول رمبرانت ان يرفع رأسه من على الوسادة، حدّق في وجه صديقه الطبيب بيأس بحثاً عن اجابة يعلم انها لن تأتي أبداً.

***

جمال العتّابي

 

الصفحة 1 من 4

في المثقف اليوم