كتب واصدارات

جواد وادي: الكحول يا حصاني الهرم.. أحدث إصدارات الشاعر معتز رشدي

جواد واديأول ما يتبادر الى ذهن القارئ ثيمة العنوان الملتبس وغرائبيته، للفرق الظاهر بين الكحول والحصان الهرم، ولا يتسنى للمتابع من فهم قصدية الشاعر من العنوان حتى يكتشف نية الشاعر من خلال نص يحمل ذات العنوان.

الديوان من إصدارات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق بطبعته الأولى عام 2021 بطبعة أنيقة وورق بلون مناسب، واعتزازا بموهبة ولده آدم يستثمر الشاعر موهبة نجله في الرسم، فيزين واجهة الديوان بلوحة بريئة وموحية يذيّلها الرسام الصغير بعبارة كتبت باللغة الإنجليزية (أحاول أن أرسم أبي، آدم) تنم اللوحة عن اعتزاز الطفل بأبيه وهذا بحد ذاته موضوع يستحق التوقف عنده بنزوعه البريء ووداعته ليعبر بموهبة فطرية وما يشعر الطفل آدم إزاء أبيه. يقع الديوان في 142 صفحة من الحجم المتوسط.

يهدي الشاعر هذه المجسّات الشعرية الفاتنة لبلقيس، زوجة الشاعر حيث نجد نصين عن بلقيس:1/2 ص 72/75.

يفتتح الشاعر بنص أسماه أحلامي يقول فيه:

نبتت/ في حياتي/ شجرة/ جرداء/

ـ حتى ـ في الربيع/ لكأنني خريف دائم.

يفاجئ الشاعر قارئه بهذا النص الصادم تعبيرا عن الإحساس بالضياع وبجفاف وجوده خريفا دائما حتى وأن كان الوقت ربيعا.

تمر شهوة القراءة لهذه النصوص مثل نسيم عذب يؤثث للحظة الاستمتاع بلغة شفيفة ورذاذ شعري عذب، يجمّل لحظة القراءة رغم الألم الممض الذي يختزنه الشاعر بين جوانحه، وكأني به يحمل هموم وطن مغتصب، انتزع من بين جوانجه.

في نصه: تباين ص13

عالمي/ أشجاره وغيومه/ تتكلم/ لا باب يُطرق فيه/ أبوابه مفتوحة دائما.

هنا وحيث الوطن المستباح لا يملك الشاعر أمام صيغ الخراب إلا المناجاة مع روحه الكسيرة مخاطبا الآخر همسا لمحايثة الراهن المترب بكل تفاصيله، وبين فواصل الفرح النادرة يدسّ الشاعر بين مفردة وأخرى بعض المداعبات ليخفف من وجع الإحساس بالخيبة:

الصدى دراجة الصوت الهوائية. ص13  

عالمي/ ليس عالمكم/ يقول الطفل.

يعود الشاعر هنا الى طفولته العالقة في ذهنه ليغاير الآخرين اعتزازا بذاته أو اختلافا مع كينونته ليخلق ذلك الحيز الخاص بعالمه المتوحد.

كأن/ لا معنى / لبياض، من دون سوادك/ أيها الغراب. سواد ص15

تكاد تشي عناوين القصائد بهم من نوع خاص لم نألفه في الغالب، يغلب عليها الغم والوضع المعتم، بمداعبات سردية وبمعجم لغوي مغري ينم عن فهم واسع ببواطن اللغة الشعرية.

في نصه: السلطة ص16

في مكانٍ وزمانٍ اختارهما بدهاء، أدخلوا الجني الى جسده.

عاد الى البيت. نام/ عندما استيقظ وجدهم فيه...!/ من فتح الباب لهم؟

وأنا أسافر في هذه الرحلة الشعرية الشيقة، لم أبرح من مكاني، فأشعر بأن نسيما عذبا يغزو بدني، لأنتقل من محطة شعرية لأخرى وبفرح غامر.

ما كانت لتلتفت اليه/ ما كان ليلتفت اليها/ لولا إنهما وجدا نفسيهما على خشبة طافية/ بعد غرق السفينة. الزواج ص18

يستحضر الشاعر هنا مأساة الباخرة تايتانك وما جرى من مصير كارثي للعاشقين، كما يبدو لي ذلك. وهي إحالة فاطنة ليسقطها على راهن وجوده الموجع المطوق بالمواجع.

من السماء هذا الحبل الملتف حول الرقبة

إلهي:/ اجذبه إليك/ بكل ما أوتيت. الحياة ص21

تلك هي العلاقة الصوفية المتماهية بين الشاعر وما يفترضه ربا له، بعلاقة سمو روحي هابط عليه من عليٍ لتتحد روحه مع روح الله، ليذكرنا بمأساة الحلاج بقوله: نحن روحان حللنا بدنا... ولا تخلو روح التحدي هذه لتحقيق الغاية والإصرار في الإمساك بهذه العلاقة السامية وبنفَس صوفي خالٍ من شوائب اليومي الرث.

حينما ترى رجلا/ يشربُ/ طوال النهار/ ويبكي/ طوال الليل، فاعلمْ أن لصا سرقه أعز ما يملك. عني: سرقوا بلادي. اللص ص22

ما أمضى على الشاعر وعلى قارئه المضام كذلك هذا الإحساس بالانتماء لوطن نهبه اللصوص دون أن يفعل شيئا غير النحيب.

كلما انتقلت من نص لآخر تتعاظم لحظة القراءة العاشقة دون أن تترك لنفسك متسعا من الإفلات من ربقة هذه النصوص المدهشة، لما تستحق من متابعة ومشاركة الشاعر وجدانيا، أشعر بأنني اكتشفت ضالتي للتماهي مع عالم شعري يشبع فضول القراءة الفاتنة بما للنصوص من لغة وخطاب وسردية شعرية تبيح لك الغور في ذات الشاعر الكسيرة التي هي ذات المعاناة التي تشعر بها.

دعها في حوارها العجيب مع الجذور/ دعها في إصغائها الأزرق/ لثرثرة الطيور/ لُمّ كلامها الأحمر.../ لُمّ تفاحها... الشجرة ص23

إن نصوصا شعرية كهذه تستحق وقفة نقدية منصفة، لأنها تمثل بحق لغة نثرية يدور في فلكها جل الشعراء الشباب دون أن نمسك للحظة نصا يحترم ذائقة المتلقي، إنها ظفائر شعرية مرة تجدها مائعة وغاية في الطراوة ومرة تواجهك بدقة التوظيف وصلابته، وهذا التمازج الذكي والمتحول يمنح القارئ نبضا شعريا مجللا بالمحبة والعشق الآسر.

كالستائر أرتعش/ الكحول حصاني الهرم/ أسقطُ منه كل مساء أمام الناس... كالستائر ص24

هذه الميوعة الشعرية كميوعة المخدَر كحوليا حد الثمالة والذي يحمل عنوان المجموعة لندخل في مواجهة مع الشاعر وهو يبحث عن حالة من التوحد الإنساني حتى وإن كان يبحث عن التوازن الجسدي وهو يسعى لخلق علاقة بين حالة احتسائه للكحول وبين الرمز الذي يصل حد التقديس وهو القنينة وهي بمثابة لحظات احتواء وسمر ومحطات آسرة تنهي الشاعر لأن ينال ما يريد من عطاء أنساني وهو في حالة صفاء روحي وتوحد مع خمرة الروح وفاء لا يريده أن يهرب منه لحظة واحدة.

وضع قدمه اليسرى على عتبة عام جديد/ اليمنى مفقودة/ لا يتذكر متى... أو أين/ إنه يقفز بساقه الوحيدة بين الأيام، / وقد يجد نفسه وحيدا على عتبة عام/ من أعوامه الماضية. المنفى ص25

إن شعراء العراق سيما أولئك المنفيين منهم والموزعين في أصقاع الكون دائمو الألم والحنين واليتم الحقيقي بفقدان وطن، ليصبح المنفى ملاذهم القسري الوحيد للهروب من سياط الجلاد والملاحقات الظالمة، وهذا النص تعبير وجداني حقيقي لحجم الألم والإحساس بالضياع، حين يجد الشاعر نفسه دون ملاذ ولا أرض تأويه  ليتوسد ترابها محملا بأوجاعها وبلاويها، متنقلا بين الأمكنة بإحساس وجودي مهين، تلك هي المعاناة الحقيقية للمبدعين المنفيين، ليكون الشاعر وبصدق لسان حالهم وينوب عنهم بصراخه وبغلٍ بوجه الهمجية والسلوك البهيمي للطغاة.

دائما ما تكون طفولة الشاعر حاضرة براهنية موجعة فيتذكر أيام طفولته وصباه دون أن ينسى تفاصيل وجوده الإنساني منذ يفاعته ومتعة الطفولة التي عاشها تواصلا بالواقع الراهن بمقاربة لا تخلو من الإيلام مهما تباعدت الأزمنة واتسعت الأمكنة وتحولات التفاصيل:

حين أنام/ يعود الغائبون/ أطفالا/ بدشاديش مقلّمة/ ترتفع بهم الأراجيح/ عاليا/ عاليا/ وتعود فارغة. بلا عنوان ص26

أين ذهب شاغلو تلك المراجيح، هذا هو الفقد العظيم والضيم الذي يلاحق العراقيين منذ طفولتهم وحتى شيخوختهم، دون فسحة أمل للإحساس للعيش بسلام كبقية خلق الله. إنها كوابيس تلاحق العراقي ولا يمكن الفكاك منها حتى وإن كان حضورا ذهنيا.

  حين نتفحص بدهشة المكتشف عناوين نصوص المجموعة تتشخص أمامنا مأساة الشاعر قبل أن نلج بعد لمتون النص، وهنا نلاحظ في الغالب أن الشاعر يمكنه أن يوصل فكرة النص من خلال عنوانه.

في نصه: بكاء ص 27 يقول:

إلهي: / لا أجد من أحدثه سواك/ هذه الليلة/ أنت ترى عزلتي/ عزلة العش/ في غابة تحترق.

هذه المناجاة الصوفية من شاعر لربه بنفس صوفيٍ متماهٍ ونقي وهو يعيش حالة العزلة واليتم حين لم يجد من ينادمه لحظته فيتجه الى من يواسيه في عزلته ويتمه والشعور بالفراغ القاتل ليخاطب إلهه صديقا يؤانسه في وحدته بعد أن بلغ به الضياع مداه.

وحشتي/ وحشة قارب/ مقلوب/ على وجهه. ص27

هذا الكولاج الشعري يحيلنا الى حالة الضياع وكأن الشاعر طائر وحيد يعيش منكفئا في عشه وبإلام ممض لقارب مقلوب على وجهه.

صورة شعرية معبرة حقا، تمكن الشاعر من رسم لوحة تحتوي العديد من المعاني والتأويلات وفهم حجم ما يعانيه بلغة شعرية غاية في الدهشة والتوظيف بدربة فاتنة وموحية.

حياتي تنهار أمامي/ قبضة الزلزال أقوى من السقف/ تزوجت الكحول/ هل يدوم زواج كهذا؟ حياتي ص29

كم هي قوية وفاعلة في وجود الشاعر موضوعة الكحول، وكم هو عاشق ليكون احتساء الكحول مهربه الوحيد من الواقع الحسي المرير، بحضور رمزي يبغي الشاعر أن يبني تلك الوشيجة القوية بينه والكحول، نافذة للهروب مما يعانيه، وهذا هو قدر العراقيين المنفيين قسرا، حين لم يجدوا من سبيل للواقع المر غير منادمة الكحول ليحققوا توازنا جسديا وروحيا وهم بهذا الوجع القاتل.

إنه سِفر شعري لكل من يبحث عن ترطيب ذاته المتيبسة من بلاوي حاضره المتعب، وأقصد هنا تحديدا المثقف العراقي، حين ينهي الشاعر رحلته الآسرة بنص طويل أسماه: قهقهة الحفاة قرب أطلال أور ص133

مثلك أنا أيها القارئ الحائر/ المتشبث بسطور هذه القصيدة/ المخفي في ما بينها/ الساقط من سطر الى سطر/ المشيح الوجه عنها/ المسحول من أولها الى آخرها/بدؤها أنت وخاتمتها.

يربط الشاعر قصدا قارئه بحبل القصيدة ليجرجره لعوالمها ويلج مكنونها ليحيله الى مشارك فاعل في هموم النص.

ودائما ما ينح الشعراء المجدون الى اشراك همومهم الشعرية مع قرّائهم، ليحمّلوهم مسؤولية التلقي والمشاركة في متاعب النص ومخاضاته، وأعتبر أن حالات التوحد هذه بين الشاعر وقارئه سمة يتصف بها الشعراء ممن تثقلهم هموم الكتابة فيخففون أعباء ما يعانون مع قرّائهم لتكون المسؤولية الإبداعية مشتركة. وهو تجسير فاطن ومطلوب لتلك العلاقة البهية لا بقصدية لا مراعاة فيها، بل مشاركة وجدانية في كتابة النص. وأظن أن الشاعر المجّد إن أفلح في ذلك ستغمره نشوة لا حدود لها وتفاخر كبير لأنه أشرك القارئ الفطن لا ذلك المتابع الكاسد.

فيا ليت لي مهنة أخرى/ غير رصف الكلمات في جمل/ وغير رصف الجمل/ في قراطيس، سيرهنها القارئ/ لدى بائع الباقلاء/ آمالنا تضيق كصحراء تكبر/ وأيامنا تتلوى/ في حبال المطر الأسود المتيبس/ أجبل الله مصائرنا من لعاب إبليس/ وحراشف جنده؟ ذات النص ص 135

   في هذا المقطع المعبر وكما ذهبنا اليه، نجد الشاعر يشعر بخيبته وانكفائه وهو يرى قارئا طارئا يلف بوريقات الشعر ما يبتاعه من الباقلاء و(اللبلبي). وهذه هي محنة الشعر التي تنسحب بقوة على ذات الشاعر وبشكل محبِط.

آمالنا تكبر لا كمساحات خضراء مورقة، بل كصحراء تتعاظم في جدبها وضررها الكبير، وهو انحسار لا محدود للأمل الذي يعتمل في دواخل الشاعر الإنسان.

في نهاية المجموعة نجد بعض النصوص المطولة، ولعل الشاعر قد أنجزها للمشاركة في الملتقيات الشعرية التي تتطلب نصا طويلا نسبيا بجمل مركّبة وسرد شعري، يكون المتلقي متعطشا للاقتراب من تجربة الشاعر.

إنها أسئلة أطرحها على نفسي/ أنا الجالس، الآن، الى طاولة/ ترتجف، لا عن وهن في عظامي،/ بل عن بلاد أكلت غرائزُها أبنائها/ فدب في أرجائها/ الدودْ... ذات النص الطويل ص139

لا نعرف قصدية الشاعر لينهي نصوص المجموعة بهذا النص الموجع والمستفز للمتعبين من القراء، وكأني بالشاعر يوزع عذاباته على عموم من جايلوه أو من سبقه، لينتهي بهذه الرحلة الإبداعية مثلما بدأ وهو يدور في ذات الهموم والمواجع والمكابدات.

تحية للشاعر أبو آدم على هذه الإضافة الشعرية للمشهد الشعري العراقي الذي ينتظر منه ومن أقرانه من الشعراء الشباب المزيد من العطاء والرفد لتأثيث الحالة الشعرية العراقية بالمبهر والجديد والمدهش، لنتفاخر به وبتجربته الشعرية الفاتنة، جميعا. 

 

جواد وادي

 

في المثقف اليوم