حوار مفتوح
المثقف في حوار مفتوح مع ماجد الغرباوي (169): فلسفة الخلق وصدقية التناص (3)
- التفاصيل
- كتب بواسطة: صحيفة المثقف
خاص بالمثقف: الحلقة التاسعة والستون بعد المئة، من الحوار المفتوح مع ماجد الغرباوي، رئيس مؤسسة المثقف، حيث يجيب على أسئلة الأستاذ: أحمد مانع الركابي.
المرأة ومشهد الخلق
ماجد الغرباوي: إن لازم وحدة الخلق من نفس واحدة، كما في آية: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ)، وحدة النفس البشرية، ووحدة القيمة الإنسانية للذكر والأنثى. لآدم وحواء، غير أن الأمر بالسجود لآدم دونها، يثير استفهاما حول صدقية لوازمها، التي تشي بعدم استحقاقها السجود، لوجود فارق نوعي، قد يتعلق بإنوثتها وطبيعتها البايلوجية. وهذا يكفي لتكريس دونيتها وتبعيتها للرجل. ولا يخفى الانحياز في السجود له دونها. فهو انحياز للرجل، ليبقى سيد الحياة، وتبقى الأنثى هامشاً، تدور في فلكه، وتخضع لإرادته. وهذه المرة نتساءل عن العنف الذي يتستر بآيات الكتاب، وتغدو مرجعية يستمد منها المجتمع الذكوري شرعية قمع المرأة. فنحن أزاء نص مقدّس نعيد قراءته للوقوف على دلالته، ومدى صدقية الإشكالات المطروحة، التي هي إفراز لوقائعية القصص. غير أن المنهج المعتمد في تحري دلالات القصص القرآني يزعزع هذا الرأي رغم تداوله في كتب التفاسير، واعتماده ضمن المدونة الرئيسية للإسلام الرسمي، ويشكل إحدى مقولات النسق العقدي المألوف.
لا ريب بشمول الآيات الآمرة بالسجود للبشر، للذكر والأنثى، مادامت آيات مطلقة لم تخص آدم بالسجود: (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ). فيقتصر الإشكال على السجود لآدم دونها. لنسأل عن سبب استبعادها. هل الأمر يتعلق بإنوثتها، أم بما هو أبعد وأعمق؟. علما أن الإشكال سينتفي من باب السالبة بانتفاء الموضوع، إذا احتملنا وقوع السجود قبل خلق حواء. وسيكون الآمر مقصودا في حالة التزامن، وهو الأرجح لمجيء آية: (وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) بعد السجود لآدم. لنسأل عن مبررات اختصاصه بالسجود دونها. وهو سؤال مشروعة. وفي نسخ التوراة أنه خلق حواء بعد أن وطن آدم في الجنة وقبل معرفة الأسماء.
لا شك نحن أمام نص متعالٍ في هيمنته وقدسيته وقدرته على ترويض الأسئلة. إضافة لقوة إيحاءاته التي تمهّد لقهر المرأة، واستلابها رمزيا، وتوظيف النص لتعزيز قيم المجتمع الأبوي. وهذا يفرض تدبّر دلالات النص، وفهم سياقاته، وفقا لمنهج فهم القرآن، والتركيز على رمزية القصص. وقد بينت أن قصة آدم تتحدث عن الحقيقة الإنسانية في شخص آدم، عبر سرد قصصي رمزي، يعبّر عن ثيمتها. فلسنا أمام حقائق واقعية تستدعي ترابط الأحداث بل لكل آية وظيفة رمزية ضمن هدف السرد. ومادامت الشواهد النصية تؤكد رمزية قصة الخلق، كما تقدم، فمن المقصود بآيات السجود؟ هل هو آدم الفرد أم النوع؟ فكما أن آدم اسم علم لأول رجل وطأت قدماه الأرض، يأتي صفة، مشتقة من أديم الأرض: (قيل سمي بذلك [آدم] لكون جسده من أديم الأرض. وقيل لسمرة في لونه). (أنظر: الراغب في: غريب القرآن). ويبدو هو المراد من لفظ آدم في القصة الثانية من سفر التكوين: (والحقيقة فإن كلمة آدم التي استخدمها سفر التكوين كاسم علم للرجل الأول، هي كلمة سورية قديمة، تدل على الإنسان بشكل عام، وتعني البشر، وقد وردت بهذا المعنى في أكثر من موضوع في نصوص مدينة أوغاريت. ومنها ما ورد في ملحمة كِرت، حيث نجد الإله الأعلى إيل يلقب بأبي آدم أي البشر، وبينما كِرت يبيكي وقع عليه السبات، بينما هو يذرف الدموع غلبه النعاس، ولكنه ما لبث أن أجفل، إذ ظهر له في الحلم إيل. في رؤاه. ظهر أبو آدم). (أنظر كتاب: القصص القرآني ومتوازيات التوراة، ص: 184 – 185). وهذا النص يبين تاريخ كلمة آدم. وأنها موضوعة للبشر. فظهر أبو آدم / ظهر أبو البشر. (واستوى في لفظ البشر الواحد والجمع وثُني... وعلي هذا قال: إنما أنا بشر مثلكم، تنبيها أن الناس يتساوون في البشرية، وإنما يتفاضلون ... "غريب القرآن، مادة: بشر". ولاحظ: كتاب الفوارق اللغوية أيضا)، ولم يميزوا بين الذكرى والأنثى، فيكون شموله لهما أمرا متفق عليه ضمنا. ويؤيده قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)، فصيغة الجمع في جعلناكم تعود للذكر والأنثى.
نعترف أن الحدود بين آدم الفرد وآدم النوع في قصة الخلق تستدعي فهمَ رمزية القصص لتحدي مداليل السرد، ومعاني الكلمات. ويبقى السياق قرينة على تحديد المعنى. ومن هذا المنطلق تكون الآيات التي أمرت الملائكة بالسجود للبشر بما هو بشر، قرينة واضحة على إرادة النوع من كلمة آدم في الآيات التي أمرت الملائكة بالسجود له، لوحدة الموضوع: هو السجود لما خلقه بيده. بمعنى أدق، لدينا آيات أمرت بالسجود للبشر، وجميع آيات خلق الإنسان تحدثت عن خلقه بما هو إنسان، وعندما نشك هل الآيات التي أمرت بالسجود لآدم كانت تقصد آدم الفرد أم آدم النوع؟. فنفهم من الجميع بينها أن المقصود هو آدم النوع / الحقيقة الإنسانية، ولا خصوصية لآدم الفرد سوى كونه مصداقا. فنحمل كلمة آدم على إرادة النوع بقرينة ما تقدم من آيات. ويتجلى هذا المعنى بوضوح في آية: (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ). فالسجود هنا لآدم النوع، مادام الحديث عن خلق الإنسان بما هو إنسان بصيغة الجمع. فآدم لفظ يستخدم اسماً للمفرد وصفة للجمع، كما في آيات الخلق التي تتحدث عن خلق الإنسان، باستثناء آية واحدة فيها إشارة لآدم يمكن حملها على إرادة النوع دون الفرد، عند مقارنة خلق عيسى به. ولازمه أن الأمر بالسجود لآدم كان أمرا بالسجود للحقيقة الإنسانية، وسجودا (بمعنى الإعان والاعتراف) لآدم النوع / البشر / الإنسان. ولم تكن الآيات وهي تأمر بالسجود ناظرة للذكر والأنثى، وكانت تتحدث دائما عن الإنسان. والحديث عن الإنسان يستبطن الأنثى والذكر، ويستبعد الذكورة والأنوثة.
ومن يتأمل مشاهد الخلق بدءا من: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً)، تدله ثيمة القصص أن الحديث يدور حول الحقيقة الإنسانية المتجسدة في آدم سواء الشخص أم النوع. ومراد الآية من "الخليفة" مطلق الإنسان، الذي سيرث الأرض، ويتحكم بخيراتها، ويمسك بأسباب تطور الحياة. فيكون آدم أول إنسان وطأت قدماه الأرض مصداقا له وفقا للرواية القرآنية. ويتأكد الأمر وفقا للمفهوم الرمزي للسجود كما بينته سابقا. وأعني به الإذعان للحقيقة الإنسانية المتجلية في آدم. إذ معنى السجود: الخضوع لمبرر رمزي أو مادي. وبعد أن تعلم آدم الكلمات، التي هي تجلٍ للعقل، استحق التبجيل لا تشريفا واعتبارا فقط، بل بمعنى الإذعان للعقل وقدراته الخارقة. إضافة لوعي الذات التي يختص بها الإنسان، والكائن الوحيد القادر على تطوير حياته. فسجود الملائكة يرمز للتفاعل الإيجابي مع العقل ومعطياته. كل هذا يدل عليه، مجيء طلب السجود بعد أن أنبأهم آدم بالأسماء، فالإنباء تجلٍ للعقل الذي فرض عليهم الإذعان، بعد الاعتراف بحقيقة جديدة اسمها الإنسان العاقل، الذي هو تجلٍ للعقل الكلي / الله، ونفحة من نفحاته القدسية. حيث كان الخطاب القرآني في مقام التحدي للملائكة عندما اعترضوا على خلقه. وهذا يؤكد رمزية السجود، لا واقعيته التي حار بتكييفها المفسرون والفقهاء. وبالتالي فالأمر بالسجود كان متوجها للحقيقة الإنسانية، وليس لآدم الشخص، كي يرمى النص بالتحيز. غير أن الأمر سيختلف مع التفسير الوقائعي لقصة الخلق، وسوف لن يجد العقل التراثي سوى الفهم الذكوري مبررا له، فهو عقل ينتمي لمجتمع أبوي، محكوم لقيمه وعاداته وتقاليده. ثمة نقطة جديرة، طالما أكد القرآن أن ما يتلقاه الأنبياء وحي: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا). فتختلف دلالات التلقي باختلاف قبليات الأنبياء وخزينهم المعرفي وثقافتهم ومستوى وعيهم: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم). فيكون النبي شريكا في انتاج المعنى بناء على مفهوم الوحي الثاني والرابع. وما يتمثلها من مفاهيم مجردة ومفارقة يخضع لإكراهات التأويل.
العنصر المشترك التاسع: وعلم آدم الأسماء:
اختلفت صيغة استطلاع الملائكة بين التوراة والقرآن كما تقدم، وباختلافها اختلف الرد الإلهي، فبينما كان جواب الإله الرب بعد اعتراض الملائكة: (فقال لهم من أجل مَن خلقت طير السماء وسمك البحر وحيوان الأرض؟. وما نفْع وليمة أعدت فيها كل الطيبات، وما من ضيف يتمتع بها؟)، كان جواب الخالق في قصة الخلق: (قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ). والأجوبة جاءت متسقة مع فلسفة الخلق التوراتية والقرآنية. الأولى كان هدف الخلق تولي آدم أعباء العمل في الأرض، والسيطرة على الطير والحيوانات والبحار. فجاء الجواب مناسبا له. بينما فلسفة الخلق قرآنيا قائمة على جعل خليفة في الأرض، والفارق واضح بينهما، فأتى الجواب منسجما مع وعي فلسفة الخلق، فقال إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ. ووقع الاختلاف في أسلوب التحدي، مع الاتفاق على موضوعه. أي معرفة آدم بالأسماء، وجهل الملائكة بها.
ولم تتحدث الأساطير عن الأسماء وتعلمها، وقد اكتفت بسرد أسطوري لمراحل خلق الإنسان، في إطار فلسفة الخلق القائمة على خدمة الآلهة، بشكل تكون تلك الخدمة هدفا أساسا لخلقه، ومعيارا لاستقامته، وحينما تتجلى الآلهة في الملوك كما في مجتمعات العبيد، تغدو خدمة الملك معيارا للاستقامة والاخلاص، وهو إيذان بتفويض السلطة السياسية حق التحكم بمصير الإنسان. وهي فلسفة نابعة من قيم المجتمع العبودي. وبالتالي لا يحتاج الإنسان لتعلم الأسماء، مادام منقادا بطبيعته، ولا ضرورة لها، فهو كائن يصغي ويتلقى. وهذا ما دأبت عليه الأيديولوجيات الدينية وغيرها، تغرس في معتنقيها روح التبعية لعقول مطقة / معصومة، يقتصر فيها دور المتلقي على الإصغاء والانقياد.
لقد نسجت التوراة حكايتها على أساس وقائعية القصص الديني مطلقا. فجاء في القصة الثانية من سفر التكوين: (وَجَبَلَ الرَّبُّ الإِلهُ مِنَ الأَرْضِ كُلَّ حَيَوَانَاتِ الْبَرِّيَّةِ وَكُلَّ طُيُورِ السَّمَاءِ، فَأَحْضَرَهَا إِلَى آدَمَ لِيَرَى مَاذَا يَدْعُوهَا، وَكُلُّ مَا دَعَا بِهِ آدَمُ ذَاتَ نَفْسٍ حَيَّةٍ فَهُوَ اسْمُهَا. فدعا آدم باسماء جميع البهائم، وطيور السماء وجميع حيوانات البرية). (سفر التكوين 2: 19). وأول ملاحظة أن مصدر معرفة الأسماء هو آدم وليس الرب الإله: (فَأَحْضَرَهَا إِلَى آدَمَ لِيَرَى مَاذَا يَدْعُوهَا). وآدم لم يتعلم، ولم يعلمه الرب الإله، وهو من وضع الأسماء للمخلوقات، وهي رؤية مثالية لآدم، تكون معها علومه "لدنية"، ليست مكتسبة. ولم تبين التوراة كيف أطلقها، وما هي مصادر معرفته. كما أن القصة لم تشر لاستطلاع الملائكة، لأنها لم تذكره أساسا. وقد اشتمل كتاب "الهاجاده" تفصيلات إضافية: (بعد أن أسكن الله آدم في الجنة أراد أن يثبت للملائكة الذين عارضوا في خلق آدم تفوقه عليهم، فجمع حيوانات الأرض وعرضها عليهم لينبؤه باسمائها، ولكنهم عجزوا عن ذلك، ثم عرضها على آدم بعد أن علّمه أسماءها وحيا، فسماها آدم باسمائها). (القصص القرآني ومتوازيات التوراة، مصدر سابق، ص: 188). وهنا اختلف السرد عن سفر التكوين، فالله هو مصدر معرفة الأسماء، وكان الهدف من تعلمها تحدي الملائكة، ولتعريف بآدم وقدرته على التعلم. فثمة تطور واضح في وعي المعرفة ومصادرها.
وفي القرآن: (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ، قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ، قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ). وهنا تتفق الآيات مع ما جاء في الهاجاده، أن الله مصدر معرفة الأسماء، وأنها جاءت في سياق تحدي الملائكة وبيان عجزهم أمام آدم، تؤكده نهاية الآيات. غير أن مصفوفة آيات الكتاب لم تشر لموضوع الأسماء، وأجملت بقولها: وعلمه الأسماء كلها، وهو اختزال يتناسب مع ثيمة القصص، وعدم الاسراف في سرد أحداثها. خلافا لنسخ التوراة التي ذكرت أصناف الحيوانات، لأنها تلاحق تفصيلات وقائعيته.
وقد مرَّ الحديث عن دلالة وعلم آدم الأسماء كلها. ملخّصه: إن تعلّم آدم للأسماء كلها، تعبير آخر عن استعداده التكويني للتعلّم واكتساب المعرفة. ولا خصوصية لها وما هي حقيقتها كما هو دأب العقل التراثي الذي يهتم بجزئيات لا علاقة لها بجوهر الأشياء. وكل الأسماء لا تعني بالضرورة كل مفردة من أسماء الوجود أو أسماء ما يحيطه من أشياء وصور ذهنية، بل تعني القابلية والقدرة على التحليل والتشخيص وانتزاع الصفات وتسمية الأسماء. نفهم هذا من كلمة "علّم"، ولم يقل أخبره بالأسماء كلها، كي لا يكون دوره مرآتياً، يردد ما سمعه. فكان يُنبئهم بها بما أودع الله فيه من قابليات المعرفة، وتعدد الطرق لاكتسابها، لذا كان الجواب: أعلم ما لا تعلمون، فثمة استعدادات في النفس البشرية أهلت الإنسان ليكون خليفة في الأرض. فمعرفة آدم للأسماء إحدى مشتركات السرد القصصي بين التوراة والقرآن، إجمالا لا تفصيلا.
العنصر المشترك العاشر: الجنة:
لم ترد الجنة في النص البابلي الثاني الذي تحدث عن (أوليجار وألجار)، وكانت فلسفة الخلق فيها محدودة. ثم تحدثت القصة الثانية من سفر التكوين عن الجنة، سكناً لآدم. كما في أدناه:
(- وغرس الرب الإله جنة في عدن شرقا، ووضع هناك آدم الذي جبله،
- وأنبت الرب الإله من الأرض كل شجرة شهية للنظر وجيدة للأكل
- وشجرة الحياة في وسط الجنة
- وشجرة معرفة الخير والشر ...
- وأخذ الرب الإله آدم ووضعه في جنة عدن، ليعملها ويحفظها.
- وأوصى الإله آدم قائلا:
- من جميع شجر الجنة تأكل أكلا
- وأما من شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها،
- لأنك يوما تأكل منها موتا تموت.
- وقال الرب الإله ليس جيدا أن يكون آدم وحده فأصنع له معينا نظيره). (سفر التكوين: 2).
والملاحظ في هذا النص أن حيثيات الجنة مشخصة، تقع في عدن شرقا، فهي جنة أرضية. وتأتي في مشهد الخلق قبل معرفة آدم الأسماء. (أنظر سفر التكوين: 2: 1-25). بينما سكن آدم الجنة بأمر الخالق بعد معرفة الأسماء وبعد السجود له. وتضيف الهاجاده عناصر أخرى لقصة سفر التكوين: (ولقد خرج آدم من يد الخالق إنسانا تام التكوين في العشرين من عمره، فأسكنه في جنة عدن ليحفظها ويرعاها، لا بواسطة عمله الجسدي وإنما من خلال دراسته للتوراة، والتزامه وصايا ربه. هذه الجنة قد زرعها الله في عدن شرقا وذلك في اليوم الثالث من أيام التكوين). (القصص القرآني ومتوازيات التوراة، مصدر سابق، ص:187 - 188). ثم راح يصف الجنة ودرجاتها السبعة، وكيفية استقبال الملائكة للرجل المؤمن، وما يحيطونه من تبيجل وتقدير، وكيف يلبسونه المجوهرات والحرير. وأغلبها قد وردت بصيغ أدبية مغايرة في القرآن.
وتحدثت آيات الكتاب عن الجنة التي سكنها آدم:
(وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ
وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا
وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ).
وقد أشار القرآن إلى جنات عدن، بصيغة الجمع، لا جنة عدن كما في الهاجادة: (وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ). ويراد بـ"عدن"، لغة: (الثبات والاستقرار)، فتأتي صفة (أنظر في غريب القرآن، وغيره)، وليست موقعا محددا يسمى بعدن. وهذه نقطة مهمة. وجاء وصف القرآن للجنة ترغيبا من خلال عدد كبير من الآيات (وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ)، (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ، يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ، لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ).
نخلص أن الجنة عنصر مشترك بين القرآن والتوراة، رغم اختلاف بعض التفاصيل، غير أن المتفق عليه أن آدم سكن الجنة رفقة زوجه، وكان مكانا مثاليا.
لكن ينبغي التنبيه ثمة فرق بين القصص التوراتي والقرآني، هو ذات الفرق بين الواقعي والرمزي. وقد أشرت إلى مفهوم مختلف للجنة بناء على رمزية القصص. هو أنها مرحلة حضانة، عبّر عنها بالجنة، في إشارة إلى مثاليتها، ليغلق الباب أمام أي مبرر مادي لارتكاب المعصية، سوى نفسه. فالجنة أو الحياة المثالية كانت أجواء مثالية ومناسبة لاختبار العقل، وإرادة الإنسان، وهما شرطا الخلافة، التي كانت الهدف الأساس وراء خلق الإنسان. فوصف الجنة يأتي وصفا للمكان المثالي. وهو وصف متداول بين الناس لوصف البيوت المثالية في موقعها وخدماتها وتجهيزاتها. وهي دلالة تنسجم مع رمزية القصص، وتساهم في تعزيز ثيمتها. لذا لم يحدد القرآن مكان الجنة لأنه غير مقصود بذاته، وإنما جاءت وصفا لشروط الحضانة المثالية لاختبار خصائص الإنسان.
يأتي في الحلقة القادمة
.......................
للاطلاع على حلقات:
للمشاركة في الحوار تُرسل الأسئلة على الإميل أدناه
الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها.