حوار مفتوح
المثقف في حوار مفتوح مع ماجد الغرباوي (188): النسخ والأخلاق
- التفاصيل
- كتب بواسطة: صحيفة المثقف
خاص بالمثقف: الحلقة الثامنة والثمانون بعد المئة، من الحوار المفتوح مع ماجد الغرباوي، رئيس مؤسسة المثقف، حيث يجيب على أسئلة الأستاذ الدكتور صادق السامرائي:
النسخ والأخلاق
ماجد الغرباوي: أصبح واضحا إن عدم قدرتنا على إدراك الملاكات البعيدة للأحكام الشرعية في القرآن، وراء شبهة التعارض بين العقل والنقل. وأما حقيقتها فهي قائمة على العدل ونفي الظلم، فينتفي الحرج الأخلاقي. خاصة على الاتجاه الإنساني / الإنسان الخليفة، الذي يرى أن التشريع يدور مدار الإنسان ومصالحه أو مركزية الإنسان: (فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ). وقد بينت جملة من الآيات غاية التشريع، وغاية الخلق، وجميعها يصب في صالح الفرد. وفي هذا السياق ينبغي فهم الآيات التي شرعت لاستخدام القوة، كآية السيف، فثمة ما يدعو لاستخدام القوة لتطبيق القانون وحماية المجتمع من الظلم والجور والعدوان، وتأمين السلم الأهلي وهامش الحرية لتأكيد الذات من خلال المساواة والقدرة على الاختيار بعيدا عن أية سلطة مادية أو رمزية تقمع الرأي الآخر. وكل هذا عدل، يستوجب القوة القانونية، وتكون عنفا مشروعا، لحماية العدالة وحقوق الناس. وعندما حرّض الكتاب على ملاحقة وقتل مجموعة من المشركين في آية السيف، بيّن مبررات الحكم في سياق الآيات أنهم لا يراعون عهدا ولا ذمة، ويتربصون بالمؤمنين ليقتلوهم، فحياتهم باتت تهدد حياة جميع المسلمين. لا شك أن القوة المفرطة تستفز المشاعر الأخلاقية، خاصة عندما تُحمل الآية على إطلاقها، كما يفعل جملة من الفقهاء، ولازمه أن يكون العمل اللاأخلاقي (استباحة الدماء) مشروعا وحسنا. وهو اتجاه فقهي رادكالي، يأخذ بظاهر الآيات، دون مراعاة أسباب نزولها، ودواعي تشريع الأحكام، إما جهلا أو لغايات سياسية، كما عليه الحركات الدينية المتطرفة. وليست آية السيف أو آية الجزية الوحيدة في الكتاب، فهناك آية أخرى، كقوله: (إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ، إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ). وهي أخطر حينما توظف قضائيا لقمع المعارضة واستغلال الناس. وبالفعل تجد المحاكم السعودية والإيرانية، وكل نظام حكم يرتكز لأحكام الشريعة الإسلامية، يعتمد على هذه الآية في إقصاء المعارضة، وتأديب كل من تسول له نفسه المساس بثوابت وحدود النسخة الرسمية للدين، القائمة على أساس ولاية الفقيه كما في إيران مثلا. من خلال تطويع الآية، فمعارضة الولي الفقيه أو نظام حكمه تصبح محاربة لله ورسوله، وذات المعارضة حينما تهدد نظام الولاية تغدو فسادا في الأرض، مادام معنى الفساد ملتبسا غير واضح، ويمكن تكييفه وفقا لرغبة القاضي، وبهذا الطريق يحكم على معارضي النظام بأحكام قاسية، قد شرعت في ظرف زمني اقتضته ضرورات آمنية آنذاك، فهي خاصة بزمن النزول. وبهذه الطريقة يتم تزوير الوعي والحقيقة وتوظيف الدين لغايات سياسية، بينما شروط الآية صارمة جدا، إذ كانت ناظرة لمن يحارب الله حربا فعلية. ويحارب الرسول حربة واقعة. وثالثا، يعبث بالأمن والنظام والإطاحة بقيم المجتمع، والتجاوز على السلم الأهلي، بحيث يصدق مفهوم الفساد في الأرض عليه حقا. وهذه هي شروط فعلية الحكم، وهي واضحة صريحة. فعندما تعارض رجل دين لا يعني أنك حاربت الله ورسوله، وإذا كان لك موقف من الدين لا تشمله أحكام الآية، فالموقف لا يعني إعلان الحرب والفساد في الأرض. لكن عندما تُحرر الآية من شروطها تعكس صورة قاسية عن الشريعة. فالتوظيف السياسي هو الأخطر على الدين. والأخطر المنهج الانتقائي في التعامل مع آيات الكتاب، وعدم الأخذ بقرائن النص القرآني. تلك القرائن سواء كانت لفظية أو سياقية، تضيء فضاء الآية وتحدد فعلية أحكامها، ومدى إطلاقاتها. والغريب أن المنهج الانتقائي يستعين بالروايات والأخبار لتحديد دلالات الآيات، ومدى فعليتها، وهي روايات تتحدث عن وضع خاص بعصر النص. وأما ما يروى عن الصحابة والتابعين فهي روايات مؤدلجة، لتكريس شرعية غزوات المسلمين، التي لا شرعية لها سوى توسيع دائرة نفوذ الخلافة. فتجد الاتجاهين الفقهي والكلامي يسعى لشرعنة الغزوات، وتقديس الخلفاء حتى ارتفعوا بهم فوق النقد والمحاسبة. فينبغي لنا فضح هذه الاتجاهات من خلال التعرف على شروط فعلية الأحكام، ومن خلال السياقات القرآنية ومعرفة أسباب النزول، والتمعن في تاريخ النص وفلسفة الحكم. حينئذٍ فقط يمكن الكلام عن ثقافة التسامح والاعتراف بالآخر، والتفكير بوجود مجتمع مدني حقيقي.
سبقت الإشارة مفصّلا أن فعلية الأحكام تدور مدار فعلية موضوعاتها. وعندهم: أن (الحكم يدور مدار علته). وعندما يتعذر معرفة علل الأحكام وملاكاتها، فقد اقترحت ما أسميته بـ"مقاصد الجعل الشرعي": العدالة الاجتماعية، والتوازن الروحي والسلوكي. يكون لدينا من خلالها مؤشر، يمكن الاستعانة به لتحديد درجة فعلية الحكم. فعندما تختل العدالة الاجتماعية نفهم أن عمل مرتكزات تلك المبادئ باتت معادلة غير صالحة للواقع الجديد، فنتحرى الحكم الملائم. وأعني بمقاصد مرحلة الجعل الشرعي: تلك المقاصد التي تقتضيها حكمة وفلسفة التشريع، في ضوء مجموعة من آيات الكتاب المجيد، كقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)، والاستجابة التي يترتب عليها الإحياء أو الحياة الفاضلة، هي استجابة فعلية من خلال الالتزام بالأحكام الشرعية والأخلاقية. وليست الحياة الفاضلة سوى استتباب العدالة الاجتماعية، وتحقق التوازان الروحي والسلوكي. وهما مقاصد مرحلة الجعل الشرعي. وهي تختلف عن مقاصد الشريعة التي يلتزم بها الفقيه في فتواه: (حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ النسل وحفظ المال). (أنظر مفصلا كتاب: الفقيه والعقل التراثي).
انهيار القيم الأخلاقية
إن فوضى الإفتاء كانت وما تزال إحدى أسباب انهيار منظومة القيم الأخلاقية. فعندما ينظّر الفقيه لشرعية المستبد والطاغية، يبيح السلوك الاستبدادي التعسفي. ويساهم في نشر ثقافة الكراهية والتنابذ والاحتراب وربما سفك الدماء عندما يكفّر الآخر. وعندما يشرّع جواز تفخيذ الرضيعة يبيح عملا لا أخلاقيا. وعندما يأمر بالتقية مطلقا، حتى وإن لم يكن هناك خطر محدق بصاحبه، يثقف الفرد على النفاق الاجتماعي والسياسي والديني. وعندما يفتي بعدم شرعية السلطة بدوافع طائفية، يقضي على مقومات الدولة، ويشجع على هدر قوانينها، وسرقة ثرواتها التي هي ثروات الشعب. وعندما يحرّم الزنا ويبيح المتعة بلا حدود، فهي إباحية جنسية بغطاء ديني. وعندما يجيز سبي النساء يتجرد من إنسانيته وأخلاقه، ويساهم في انهيار قيم الدين والإنسانية. فينقلب الدين إلى معول هدم، بلا مروءة، ولا رادع أخلاقي. (قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ). يجب على الفقيه أن يجعل من الوازع الأخلاقي منبها فطريا لفهم الفتوى وعدم الانصياع للدليل مطلقا، دون معرفة محكمات الكتاب، وما يشكل الإطار العام للقرآن، والدين الذي يعتبر الإنسان محور الكون. خاصة عندما يتجاهل تاريخ الحكم وفلسفته. وما لم ينتهج المجتهد منهجا جديدا في استنباط الأحكام الشرعية، يبقى الفقه مصدرا لشرعنة السلوك غير السوي. والمشكلة حينئذٍ يتعذر عليك ردعه وهو يعتمد على رأي الفقيه في سلوكه العدواني، كتكفير المخالف، الذي يعني الكراهية والنبذ وعدم الاحترام، وقد يصل الأمر إلى استباحة الدماء، بلا أي دليل من كتاب الله.
لكن لماذا يقع اللوم على الفقيه دون مصادر التشريع التي ارتكز لها في فتاواه؟ وهو اعتراض مشروع. فالفقيه، تارة يجد دليلا شرعيا لفظيا، آية أو رواية، فيستدل به على الحكم الشرعي، كآية: (وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ)، أو حديثا نبويا، كقوله: (لا يقبلُ الله صلاةً بغير طُهور)، فيستدل به الفقيه على شرطية الوضوء في الصلاة. وحينئذ لو أفتى بقتل المشركين فقد جعل من آية السيف دليلا على فتواه، ولا يلام. لكن هنا مغالطة، فالمجتهد ليس فردا عاديا كي يأخذ بظواهر النصوص، دون الرجوع لمحكمات الآيات وقرائنها وسياقاتها، ومعرفة كافية بفلسفة الحكم وتاريخه وأسباب نزوله، وهل كان حكما مطلقا مأخوذا على نحو القضية الحقيقية كما يصطلحون؟ أم كان حكم الآية ناظرا لقضية خارجية محدودة؟. لكن الفقيه يقفز من القرآن إلى السنة وأحاديث الصحابة لمعرفة دلالات الآية، رغم أن آراءهم اجتهادات شخصية وفقا لقبلياتهم وظروفهم الاجتماعية والسياسية. وبهذا الطريق غيبت النصوص الثانوية مدونات التشريع / آيات الأحكام، وصار الفقيه يفتي وفقا لآراء الصحابة وليس وفقا لكتاب الله. نعم صحيح يستدل بالآية على فتواه، لكنه يفهمها وفقا لفهم الصحابة ممن فعل آيات القتال لأغراض سياسية، تبرير غزوات المسلمين بحجة نشر الرسالة الإسلامية. أي يفهمها ضمن ظرف مختلف أو يسقط عليها قبلياته ويقينياتها. فينبغي الانتباه جيدا لهذه المغالطة. فالفقيه ليس معذورا كي يقال: "المجتهد إن أصاب فله حسنتان وإن أخطأ فله حسنة". بل يحاسب وبعسر على آرائه واجتهاداته وفتاوه، ويكون مسؤولا عنها أمام الله تعالى: (وَقِفُوهُمْ ۖ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ). الفقيه لا يفتي لنفسه فقط وهناك من يتبعه ويلتزم بفتاواه، فيتحمل مسؤوليات تبعاتها.
وتارة لا يجد الفقيه دليلا من الكتاب والسنة، فيرتكز إلى ما يسمى بأصول العملية. وهي مجموعة قواعد تم التنظير لها، لتحديد الوظيفة العملية من الحكم المشكوك، هل هي البراءة أم الاحتياط أو الاستصحاب. وهي أصول اجتهادية، ووجهات نظر أصولية، لا تصمد أمام النقد العلمي، غير أن اتفاقهم عليها جعل منها مرجعية أصولية. كما قالوا بحجية خبر الواحد، لتدارك تداعيات انسداد العلم والعلمي. وغير ذلك. فالفقيه هو الذي وضع قواعد أصولا ثم ألزم نفسه بها. ويبقى السؤال عن صدقية الاجتهاد، وحدود التشريع، وكل هذا مرّ مفصلا. وبالتالي وهذا ما يهمنا أن اللوم يقع على مصادر التشريع عندما تبيح شرعنة السلطان الظالم، وتبرير سلوكه وعدوانيته ولو باسم الدين وتطبيق شريعة سيد المرسلين. وعندما نعود للمحكمات من آيات الكتاب، والتي يعود لها في فهم وتفسير الآيات المتشابة، نجد العكس، كقوله: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ). وممالأة السلطان الظالم عدوان صارخ على قيم الدين ومبادئه. بل الموقف القرآني من الظالمين: (وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ). فيكف يرفع الفقيه الخليفة فوق النقد والمراجعة، وقد يصل به لمرتبة العصمة، ويشرعن سلوكه وتصرفاته، مهما تمادى في القتل والاسراف وسرقة ثروات المسلمين تحت حجج واهية؟. بل والتف على آيات الكتاب، لتبرير القتل، فكيف لا يفرز هذا الفقه ثقافة العنف، ويسمح بنبذ الآخر، وهي من مساوئ الأخلاق. فإذا كان وراء انحراف المسلمين أسباب، فإن أحدها وأهمها الفقه السلطاني، الذي هدر حدود المقدس الديني لصالح السلطة ومصالح السلطان. ولعل في نسخ الآيات مثالا واضحا، حيث ذهب جملة من الفقهاء إلى أن آية السيف التي أباحت سفك دماء المشركين، قد نسخت جميع آيات الرحمة والود والتسامح والعفو، جاء في كتاب: الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم، لابن حزم الاندلسي (إن آية السيف أو قوله تعالى: (فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)، أو آية: (قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) قد نسخت (47) موردا من آيات الكتاب في أكثرها إشارة إلى الرحمة والمودة والعفو والتسامح وعدم الإكراه . وراح يعدد موارد النسخ الأخرى في كل سورة من السور، فيعتقد أن (40) سورة دخلها النسخ، و(25) دخلها الناسخ والمنسوخ، و(43) فقط لم يدخلها النسخ، كما مرت الإشارة لذلك في القسم الأول. فهناك أكثر من ستين آية شلت حركتها القراءات المتطرفة، وجمد فاعليتها الفهم المبتسر، واختزلت تأثيرها التفسيرات المتطرفة، فينبغي نقد النسخ وتفكيك الأسس التي ارتكز لها، كي يصار الى تشكيل منظومة قيم تستند إلى القرآن الكريم وتهدي بهديه الإنساني، لتساهم في خلق مناخات تساعد على سيادة قيم التسامح والاخاء والمحبة والوئام والعفو والرحمة والمغفرة، أي عملية إحياء لنصوص بات من الضروري وعيها وإدراك معانيها من إجل مستقبل زاهر)، (ينظر كتاب التسامح ومنابع اللاتسامح، ص141)
فالنسخ هو المسؤول عن تكثيف خطاب العنف واللاتسامح في القرآن، من خلال تأسيس فهم للآيات الكريمة على أساس نزع فاعلية بعض الآيات وتفعيل غيرها، فنتج عن ذلك خطاب لا يتسامح ولا يرحم ولا يتفاهم ويرفض التعايش مع الآخر، أيا كان نوعه. وهذا أحد أسباب العنف الديني، والسبب الرئيس وراء السلوك الإرهابي القمعي السمج. فالسؤال كان مشروعا عندما قال: (هل أفلح القرآن في تهذيب وضبط سلوك المسلمين، ولماذا؟!!). فالسائل الكريم قد وضع أمامه نماذج الانحراف السلوكي الديني للراديكالية الإسلامية، وما تسببته من نفور وكراهية للدين، رغم قدسية الأديان. فالنسخ تسبب بتفعيل كل آيات الموت والشطب على جميع آيات الرحمة، وكل هذا لا ينسجم مع الأخلاق الحميدة والقيم الإنسانية.
لا نعمم الأحكام وهناك من الفقهاء من يرفض اختزال القرآن الكريم في بضع آيات من آيات القتال التي كان لها ظرف خاص، ولها قيودها وشروطها التي تتوقف عليها فعلية أحكام الجهاد. غير أن الاتجاه المتطرف في الإسلام بات شديد الحضور من خلال تبنيه أعمال إرهابية تستند بلا شك إلى هذا اللون من الفهم والتفسير. للأسف لم تميز العقليات المتطرفة بين مبادئ الإسلام الثابتة، والأوامر الصادرة في ظروف المعركة، التي تنتهي بنهايتها، ليعود الإسلام حيا من خلال مبادئه الإنسانية وقيمه العقلية الرائعة. وإنما عولوا على فهم متقدم يلغي جميع الآيات الآمرة بالرأفة والرحمة والتسامح وعدم الإكراه، باعتبارها نسخت بآية السيف. فتحول الدين، بموجب هذا الفهم، إلى صارم ما زال مشهورا ليقطع وتين كل من سولت له نفسه مخالفة المتطرفين الدينيين بالرأي، أو الاعتراض على سلوكهم وتصرفاتهم. بينما مقتضى الفهم المتزن أن يصار الى التمييز بين الثابت والمتغير من أحكام الدين.
تعتبر فتاوى التكفير وخطب التحريض وليدة فكر ظلامي متطرف، وقراءات أحادية للنصوص الدينية (القرآن والسنة). وقد لعبت الفتاوى التكفيرية والخطب التحريضية دورا خطيرا في تأجيج مشاعر الكراهية والحقد بين الناس، ولم تتورع في إباحة قتل الأطفال والأبرياء والمدنيين وغير المحاربين، باعتبارهم كفارا مباح قتلهم والتمثيل بهم ومصادرة أموالهم. ولا شك أن الإسلام الذي يحرم اقتلاع الأشجار والاجهاز على المريض ويحرم قتل الشيخ الكبير (كل ذلك في ظروف الحرب) لا شك أنه لا يجيز قتل العزل والأبرياء والأطفال. لكن المشكلة في فهم النص وتحديد الثابت والمتغير من الدين، ومعرفة الناسخ والمنسوخ بشكل دقيق يستوفي شروطه العلمية التي منها الوثوق بأخبار النسخ إلى درجة الاطمئنان بل اليقين والجزم، لخطورة الأحكام المترتبة عليه، إذ ليس من السهل تعطيل الأحكام القرآنية المنصوصة بحجة النسخ إلا إذا ثبت ذلك بدليل قطعي صريح لا لبس فيه. فالمناهج اللاعلمية عمدت الى تعميم النسخ لكثير من الآيات القرآنية، ولم تبق من آيات المودة والرحمة والتعامل مع الآخر بالحسنى، سوى الآيات الآمرة بقتال الكفار والمشركين. فلا غرابة حينئذ أن ترتكز فتاوى التكفير وخطب التحريض على هذا القسم من الآيات بينما تتجاهل الآيات الأخرى، حداً تستثنيها من أدلة استنباط الأحكام الشرعية. بينما تقتضي مهمة الفقيه النظر في جميع النصوص وإجراء المقارنة بينها ودراستها دراسة تفصيلية قبل أن يصار الى فتوى يعمل بها من يقلده من المسلمين.
تأسيسا على ما تقدم يحق لنا إثارة علامات استفهام واسعة وأسئلة كثيرة عن حقيقة النسخ الذي أحدث كارثة على مستوى فهم القرآن وتعطيل الأحكام، وأطاح بمنظومة الأخلاق. هل النسخ صدر فعلا بهذه الكثافة التي تتحدث عنها الكتب التراثية وما زال بعض يتشبث بها، أم أنها اسقاطات تمثل فهم الرواة والمحدثين والفقهاء والمفكرين المسلمين، أو مشروع سلطاني لتكريس الحروب والقتال؟. أليس أغلب الآيات المنسوخه تمثل جوهر الدين وحقيقته وخطابه الإنساني المفعم بالحب والرحمة والمودة والمغفرة، فلماذا يصار الى نسخها والابقاء على آيات العنف واللاتسامح واجتثاث المخالف والمعارض؟ أليس منهج القرآن الكريم هو: (قل هاتوا برهانكم ان كنتم صادقين)، (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)، (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ)، (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا)، (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)، فلماذا تلغى جميع هذه الآيات لتبقى آيات السيف والقتال ومطاردة الآخر المختلف دينيا مطلقة وفعلية على مر السنين والأيام؟ أليس النسخ بهذه الكثافة كان أسلوبا استبداديا أريد به تبرير حروب الخلفاء والملوك والسلاطين؟ أو شرعنة قتال الشعوب غير المسلمة وإن كانت مسالمة؟ أو كمبرر لحث المسلمين على القتال وتوسيع رقعة الحرب من أجل ملء الفراغ، واشغال الجند، وتحصيل الثروات، وتكريس المكاسب والفتوحات لمصالح شخصية، ثم تحول الى حقيقة معرفية أحكام شرعية يتناقلها الرواة والفقهاء؟
لا نريد نفي النسخ مطلقا فربما هناك بعض الاحكام نسخت فعلا كما في آية النجوى، لكن ليس لدينا أدلة قطعية تثبت هذه الكثافة من النسخ التي ما زال بعض الفقهاء يصير عليها ويعتبرها ركيزة اساسية في فهم القرآن الكريم وآياته البينات، وعلى اساسها يفتى بقتال كل المخالفين عقيدة ودينا، ويحرض ضد الآخر وحقه في اعتناق عقيدته وممارسة شعائره.
نخلص كما أن القرآن كان مصدرا للأخلاق الحميدة، كذلك صار بسبب القراءات الأحادية مصدرا لأخلاق التطرف، وثقافة العنف وازدراء الحياة، ونفي الآخر، واستبعاده. وبهذا يجد السؤال مشروعيته. وتبقى المناهج السلفية اتجاها داخل الثقافة الإسلامية، ما لم يرقَ المسلمون إلى مستوى النقد والمراجعة والتخلص من قبلياتهم الموروثة، ووضع العقل فوق النص، لمعرفة منطق النص، وما هو ثابت ومتحرك فيه، وتحديد ما هو فعلي، وما هو غير فعلي من الأحكام الشرعية. فالتعرف على منطق العلاقة بين القرآن والأخلاق سيمهد لفهم صحيح للأخلاق.
يأتي في الحلقة القادمة
............................
للاطلاع على حلقات:
للمشاركة في الحوار تُرسل الأسئلة على الإميل أدناه
الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها.