حوار مفتوح
المثقف في حوار مفتوح مع ماجد الغرباوي (204): النص والأخلاق
- التفاصيل
- كتب بواسطة: صحيفة المثقف
خاص بالمثقف: الحلقة الرابعة بعد المئتين، من الحوار المفتوح مع ماجد الغرباوي، حيث يواصل فيها حديثه عن الأخلاق:
النص والأخلاق
ماجد الغرباوي: رغم الاستثناءات المتقدمة غير أن منابع الإلهام لا تنضب. تجدها نابضة في جملة نصوص دينية وأخلاقية، ومجمل التراث الثقافي الإنساني. نصوص غنية بدلالاتها وإيحاءاتها، تمثّل الأصل والأساس، وماعداها، رغم غلبتها، استثناء، تفرضه تداعيات صراعات المجتمع، ونزاع السلطة، واستفحال الظلم والاستبداد والجور وأهواء النفس. بل كل نص يمكن أن يكون مصدر إلهام أخلاقي تبعاً لزاوية النظر، وقبليات المتلقي، ومدى استعداده بين متمرد، صاخب في سلوكه، يعاني تشوهات أخلاقية، وعاهات نفسية، مطمورة في أعماقه. وشخص منفتح، يتسم بنقاء السريرة، تلامس قلبه نسمات النص، فتُضيء ومضاتُه الأخلاقية روحه، ويفيق ضميره من غفوة الكسل، ويكتسب مناعة تقاوم المنكر والرذيلة، فيمتلئ وجدانه، ويزداد حبه للفضيلة وعمل الخير، ويستجيب للواجب الأخلاقي برؤية إنسانية منفتحة. هذا النوع من الناس ينصت، تؤثر فيه الثقافة. سرعان ما يؤوب لنفسه، ويكتشف خطأه. لا يكابر ولا يخاتل: (بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ)، يصارح نفسه، ويكاشف سريرته. يتألم ويندم، ترق مشاعره، ويلين قلبه، ثم يعود لفطرته، لتلك المشاعر الإنسانية يصغي لها، يتعهدها، حتى تغدو طبعا وسجية، لا تغادر سلوكه. بهؤلاء ترقى المجتمعات. بالعقل والتأمل والأخلاق الحميدة. لا يوجد إنسان معصوم (وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ)، لكن بالتربية والتذكر والندم يستعيد الإنسان إنسانيته: (وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ).
وأقصد بكلامي "أن كل نص يمكن أن يكون مصدر إلهام أخلاقي"، مجموعة نصوص جاءت في سياق ما تم استثناؤه من نصوص الشريعة، كقوله تعالى: (وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ)، التي تمثل موقفا أخلاقيا، خاصة والآية تؤكد على السلم حتى مع الريبة والشك. فتكون نصوصا استثناء داخل الاستثناء. كأحكام الحرب، التي هي أحكام تاريخية طارئة، يتنافى ظاهرها مع العدل كآية السيف وغيرها. لكن رغم سياقات آيات القتال، تجد ثمة آيات تمثل خلاصة أخلاقية، كهذه الآية. حيث نفهم منها أصالة السلم، عندما ترتفع ضرورة العنف والقتال. وأن الحرب ليست مقصودة بذاتها لولا ضرورات الدفاع عن النفس والرسالة آنذاك. وأيضا الآية التي تنهى عن الحرب الابتدائية، والآية التي تؤكد الالتزام بالعهود والمواثيق، وعدم مؤاخذة من لم يتورط بالحرب والعدوان، وإن كان في جبهة الأعداء. هذه الآيات بالذات تصلح أن تكون منطلقا لمكافحة دعاة العنف والإرهاب أخلاقيا، فهي بحد ذاتها موقف أخلاقي. السلم موقف إنساني أخلاقي. عدم البدء بالحرب والعدوان موقف أخلاقي إنساني. بمعنى أدق بما أن السلم قيمة أخلاقية، ينبغي الاستجابة له بدوافع إنسانية خالصة. فهذه الآيات تشكل وسطا للتفاهم مع الآخر، الذي يحتكم للشريعة في تقرير الحُسن والقُبح، فتكون حجة عليه. بهذا تعضّد هذه الآيات رصيد النصوص الأخلاقية الملهمة، لتزكية النفس وصلابة الضمير. ويمكن توضيح الفكرة بشكل أفضل من خلال آية: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ). التي جاءت في سياق أحكام القتال، بعد النهي عن تواد الذين كفروا، ثم يأتي الاستثناء ليفسر لنا سبب القطيعة. وأن التحريم جاء بفعل عدوانية الطرّف الآخر. وأما التواد والتواصل مع غير المحارب فلم ينه عنه، وهذا موقف أخلاقي. بل نفهم من الآية أن الأصل هو العلاقة الإنسانية، حالت الحرب والعدوان دون استمرارها. بمعنى أدق نفهم من تأكيد الدين على العلاقة الإنسانية أنها الأصل في العلاقات الاجتماعية، لا يؤثر فيها اختلاف الأديان، فمن استثنتهم الآية كانوا في جبهة العدو، وكان المتوقع أن تشملهم العقوبة، لكنه استثناهم باعتبار أصالة العلاقات الاجتماعية وخطورة دورها على الوشائج بين أبناء القبيلة الواحدة. فالتأكيد على العلاقات الإنسانية خطاب أخلاقي ملهم، في ضوئه يمكن رسم علاقتنا بالآخر. وبهذا الشكل يمكننا تقصي نصوص كثيرة، تعزز ثقافتنا الإنسانية الملهمة.
تقدم أن الضمير أحد مجسات العقل العملي، توقظه إيحاءات النصوص، وتؤثر فيه الخطابات الإنسانية. تنفض عنه غبار التقاعس والكسل والتردد. وتنزع عنه غشاوة العمى والزيغ، وتجعله أكثر إخلاصا لمبادئه، لا يفكر بالخيانة. وتمده بثقة تعزز دوره الرقابي، وهذا غاية ما نطمح له من الروافد الثقافية لاستعادة القيم الإنسانية، واستتباب قيم الفضيلة. إن مغريات الحياة، السلطة والمال والجنس، تشكل خطرا حقيقيا عندما يتخلى الفرد عن قيمه ومبادئه الأخلاقية. ونكوص الضمير أو انهياره سبب أساس وراء ذلك، من هنا أجد أن يقظة الضمير وحمايته، تضمن استقامة الفرد وهو يخوض معترك الحياة اليومية، تتجاذبه قوى الخير والشر. صحيح أن الأخلاق مستقلة عن الدين بمعنى التشريع، غير أن للدين بمعنى الإيمان دورا مهما، لقوة إيقاعه وتأثيره على مشاعر الفرد، سواء من خلال تجربته الفردية أو ضمن السلوك العام للمجتمع. الأخلاق لها وازع ذاتي، نابع من فطرة الإنسان، غير أن الضمير يتعرض لخطر المراوغة فيحتاج للتذكرة والتنبيه. وهذا هو الدافع وراء الاهتمام بمرجعياته وروافده الثقافية والإيمانية، لتفادي زلاته وتقهقره. بل بشكل صريح، ما نقوم به إجراء احترازي لترويّض الوحش الرابض في أعماقنا، وتفادي خياناته وموته. فهي، سواء كانت نصوص دينية أو نصوص إنسانية، روافد أخلاقية تهشّم تراكمات أيديولوجيا التطرف الديني والطائفي، وترقى بوعي الفرد إلى مستوى إنساني رفيع. تثري الفكر، وتضفي معنى مشرقا للحياة، وتقدم تفسيرا جميلا لدلالاتها، كي لا تختزل بالجانب المادي والجسدي، ويرقى الفرد إلى مستوى الفضيلة، والقيم الإنسانية الرفيعة، ميزانا في أعماله وسلوكه ومواقفه.
إن انهيار القيم الأخلاقية على جميع الأصعدة السياسية والاجتماعية، وتفاقم العنف والإرهاب والفساد، وتفشي قيم الرذيلة وانعدام الضمير، وتلاشي الإرادة الخيرة أمام مغريات المال والسياسة والجنس، وضمور القيم الأخلاقية والدينية، وكل ما يعزز مشاعر الخير والمحبة، كل هذا وغيره يدفع للتفتيش عن روافد ثقافية تعضد قيم الفضيلة. تبعث الروح ثانية في ضمائر ماتت تحت وطأة جنون الإنسان، وزيغه عن الحق، وتشبثه بالباطل طريقا لتحقيق مآربه، فكانت ضحاياهم ضلوع الفقراء التي سحقتها الفاقة والجوع، وضياع حق الناس المساكين، وانعدام العدل والأمن، وسيادة الظلم والجور والعدوان. ويمكن الإشارة لمجموعة مفاهيم تطرقت لها النصوص الديني، هي مشتركات إنسانية، أكتسبت بانتمائها للكتب المقدسة، قدسية سماوية، كالرحمة والتراحم والعفو والصدق والإخلاص، وغير ذلك. مفاهيم يمكن توظيفها لتعزيز قيم الفضيلة.
رؤية مكثفة
سبق أن قدمت مفهوما للدين يحتاج استيعابه قدرا كبيرا من التأمل والخروج من نمط التدين والنسق العقدي السائد. (يراجع كتاب الفلسفة النسوية في مشروع ماجد الغرباوي التنويري). وهو مفهوم يعوّل عليه في استرداد الأخلاق الانسانية السامية، مهما تباعدت الانتماءات الدينية والاجتماعية، لكن يبقى الدين بهذا المفهوم قدرا مشتركا، يتفق عليه الجميع باستنثاء من يرفض الدين، بل حتى هؤلاء يعترفون بالجانب الروحي للإنسان، وقدرته على تزكية النفس وثراء القيم الإنسانية. ولا ريب في مثالية هذه الصيغة، لأنها لا تشبع فضول الحس الطاغي للدين في مجتمعاتنا، والارتهان له في تحقيق أهدافهم السياسية. بات الدين يشغل مساحة واسعة من حياة الناس، وبات الفرد مرتهنا للفتوى في جميع تصرفاته وسلوكه. ومن يدمن التقليد ويلتفت للعمامة في كل إيماءة يرتاب من العقل ويرفض اختزال الدين، ويتسع مفهوم الدين لديه لكل تفاصيل حياته. لذا نخلص إضافة لما تقدم أن الدين وفقا لما هو سائد ومتداول: (نسق من الأفكار والمعتقدات، يوجه وعي الفرد وسلوكه. ويجيب على الأسئلة الوجودية الكبرى، ويقدم تفسيرا لظواهر الحياة والموت وما بعد الموت، والغاية من خلق الإنسان. وكيفية النجاة يوم المعاد. ويتسم بقدرته على ربط الإنسان بالغيب والمطلق، وارتهان مشاعره وقلبه. وهو تجربة روحية ومنظومة أخلاقية تضبط الأداء السلوكي للفرد والمجتمع). وهو وفقا للرؤية الكونية للديانات الإبراهيمة يقوم على وحدانية الخالق، وتحرير الإنسان من جميع العبوديات، وجعل الآخرة امتدادا للحياة الدنيا، وفق تصور عقدي يربط مصير الإنسان بعمله، ويعتبر الدنيا ممرا للآخرة: (وَمَا هَٰذِهِ ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَآ إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلْآخِرَةَ لَهِىَ ٱلْحَيَوَانُ ۚلَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ). فالدين برؤية مكثفة حزمة مفاهيم عقدية وأخلاقية ونفسية وشعورية تلامس مشاعر الإنسان وتؤثر فيها. وهذا القدر من الفهم للدين كفيل بالتأثير على ضمير الإنسان وارتهانه، شريطة الإيمان بالله واليوم الآخر. وتأثيره يتطلب إيمان الفرد، برؤية كونية، تمهّد للتسيلم والانقياد فيؤوب لنفسه وقيمه الأخلاقية: (الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ، والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ، أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). ومن يفتقر لهذا المواصفات لا يستجيب لنداء الضمير الديني بسهولة، وقد يتمرد عليه، بل يمكن استخلاص نتيجة: أن "سيء الخُلق لا دين له". أو "من ساء خُلقه ساء دينه"
إن ميزة النص الديني في قدرته على تحريك مشاعر الإنسان، وهيمنته على مكامن الوعي، من خلال خطاب يتمتع بقوة إيقاعه، حينما يختار من اللغة ما يخدم أهدافه، ومن البلاغة والبديع ما يثير الدهشة والحيرة، ويختار مناطق اشتغال قلقة، لا يمكن للعقل البتّ فيها، سوى مشاعر لا يعرف مصدرها، هي تجليات القلق المصيري الذي هو قلق وجودي متجذر في النفس البشرية. وقد دأب القرآن قياس الغائب على الحاضر. والغيب على الشهادة وفق مسلّمات قرآنية: (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ)، (عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ)، (وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ)، (أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ). ليفسح المجال لتمثّل الغيب وغرائبية عالمه، وفق نسبية الحقيقة. أي أن الحقائق المجرّدة والحقائق الميتافيزيقية تبقى نسبية لا حقيقة لها خارج النص والفضاء المعرفي للفرد، الذي يختلف في روافده الثقافية من شخص لآخر، فيكون وعي المرء مرتهناً لقبلياته وطبيعة فهمه للنص المقدس. بهذا نفهم أن الفرد شريك في تشكيل الحقيقة النسبية. وبما أن الخطاب إملاء، والموقف منه موقف تأويلي، تتحكم به قبليات المتلقي، فيتفرد الدين في رسم الحقيقة، من خلال النص ذاته، والخبرة الحياتية في أفق النصوص المقدسة. فيبقى المتلقي محاصرا في تلقي معارفه. لذا ما لم يترك المتلقي مسافة بينه وبين النص، ويخرج من هيمنته، لا يمكنه فهم دلالته، ويكتفي بالانقياد اللاشعوري. وعليه فالمشترك الثقافي الذي يتوقف عليه الفهم، يتأسس عبر ثقافة دينية. بمعنى آخر أن قبليات المتلقي تمت صياغتها وفق ثقافة دينية. أو شاركت فيها بنسب متفاوتة، تؤهله لفهم النص ضمن سياقاتها. إذ نفترض أن المتلقي ينتمي أساسا لبيئة دينية أو مجتمع تهيمن الثقافة الدينية على مفاصل وعيه الاجتماعي. كل ذلك في إطار رؤية كونية توحيدية للعالم. فهو منذ البدء يسلم بيقينيات مكتسبة حيث تترسب المفاهيم الأولية والمقولات الأساسية لا شعوريا، بفعل التربية والمحيط والخطاب العاطفي والمقارنات البسيطة وإثارة المكامن النفسية، وبساطة القدرات العقلية. وهذه المرحلة لا يغادرها الإنسان إلا بيقظة حقيقية تقاوم إغراءات الخطاب وهو يمرر مسلّماته، ويحجب دوره في التأثير. لذا تجد بعض الناس مرابطا في هذه المرحلة حتى مماته، مهما كان مستواه العلمي والأكاديمي. فالوعي غير العلم والمعرفة. الوعي مرتبط بقدرة الفرد على الإدراك والتشخيص، وقراءة ما وراء الكلام، والتكهن الصادق بمراميه ومقاصده. فلا يخدعه النص. بل يتحرى صدقيته، وسياقاته، ويتأنى في فهمه. وهذا يعتمد على يقظة العقل. (كتاب النص وسؤال الحقيقية، 78). فترى الفرد يتأثر بالنص رغم علمه بضعفه أحيانا، مما يعني أن مركز اشتغال النص خارج وعي المتلقي، فهو يستهدف بنية المقولات الأساسية التي يراهن عليها في وجود حقيقته. (المصدر نفسه، ص8). فنخلص أن المتلقي يشارك في تشكيل حقيقة المفاهيم المجردة والقضايا الماورائية. وهذا سبب تفاوت التمثل، حيث يلعب المخيال دورا أساسا فيه، لأنه تأويل. إضافة لقبلياته، التي هي نتاج تربية وبيئة ثقافية دينية. فيكون تأثير النص مضمونا تقريبا ما لم يكن الفرد بطبيعته متمردا، يرفض إملاءات النص ما لم تخضع لنقد عقلي، ومراجعة علمية بحثا عن مدى صدقية دلالاته وإخباراته.
في ضوء هذه المقدمة حول فهم النص من قبل المتلقي يمكننا تحديد نسبة احتمال تأثير النص الديني على مسار الفرد، لنعرف قيمة الرهان على النصوص الدينية في المسألة الأخلاقية، وهل ثمة سبب معقول للتفاؤل؟. أعتقد أن فائض الرهان على النص الديني في المسألة الأخلاقية سببه صورة مضخمة، هي ذات الصورة التي عطلت وظائفه، وورطته في قضايا خارج اختصاصه، لولا رغبات أيديولوجية وسياسية. لا يكفي وجود نص ديني أو خصوص النص المقدس، ما لم يكن الفرد مؤمنا، كما دلت الآية المتقدمة. فالإيمان يلعب دورا في رفع وخفض احتمال الهداية، بينما احتمال هداية غير المؤمن من ذات النص فضئيلة أو غير محتملة، وهو ما عبّرت عنه آية: (خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ). كما أن وعي المتلقي وقبلياته، تلعب هي الأخرى دورا أساسا. لذا لا يمكن الذهاب بعيدا في رهاننا على النص الديني خاصة، ويكون البحث عن روافد غيرها مبررا جدا. وهذا يفسر سبب انهيار الأخلاق رغم طغيان الدين في المجتمع، كما هو حال مجتمعاتنا المسكونة بالدين، غير أن سلوكها يعكس مستوى التزامها الديني والأخلاقي. وهو ما أشرت له مفصلا سابقا. فوجود نص ديني لا يكفي لتزكية النفس وحماية الضمير والالتزام بالأخلاق، بل يشترط حرية المتلقي وإرادته وقدرته على اتخاذ القرار. بينما نجد العقل المسلم مرتهن للتراث، لا يلامس القرآن إلا من خلال نصوص ثانوية. فلا يصدق مفهوم الحرية هنا، بل هو عقل أسير جهله وتخلفه ودوغمائيته. كما ليس كل الناس قادرين على التمييز بين آيات الكتب، وفرز ما كان مطلقا أو مقيدا بظرفه، لذا تجد دليل الحركات الإسلامية المتطرفة كداعش هي ذات آيات القتال. لأنهم يعتقدون بإطلاقها، ويؤمنون بنسخ جميع آيات الرحمة والمودة والعفو والمغفرة بآية السيف. وهذا ليس موجبا لليأس، ومازال طيف واسع من الناس أوفياء لقيمهم، وكل ما يحتاجونه تذكير متواصل بحقيقتهم. فالإنسان يغفل، ومفاتن الحياة واسعة، والتحدي في داخل النفس البشرية.
يأتي في الحلقة القادمة
............................
للاطلاع على حلقات:
للمشاركة في الحوار تُرسل الأسئلة على الإميل أدناه
الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها.