حوار مفتوح
المثقف في حوار مفتوح مع ماجد الغرباوي (207): رهاب القداسة والأخلاق
- التفاصيل
- كتب بواسطة: صحيفة المثقف
خاص بالمثقف: الحلقة السابعة بعد المئتين، من الحوار المفتوح مع ماجد الغرباوي، حيث يواصل فيها حديثه عن الأخلاق:
رهاب القداسة
ماجد الغرباوي: نفهم مما تقدم أن القداسة كمفهوم: سلطة تفرض محدداتها على فهم النص الديني، وأجوبة ما تطرحه الأسئلة عليه، مثل:
- ما دور الإنسان في الحياة وفقا لقدسية الكتب السماوية؟
- ما مدى فعلية أو عدم فعلية الأحكام الشرعية عند تغيّر الظروف والأحوال؟.
- هل الأحكام الأخلاقية إرشادية لحكم العقل أم هي أحكام تعبدية؟.
- هل يجوز مقاربة النصوص المقدسة رمزيا؟
- هل يجوز إشراك العقل كمعيار لإدراك دلالات الآيات؟.
وأسئلة أخرى ترتبط بمصير الإنساني وفق اتجاهين متقاطعين: منطق العبودية الذي يكرّس المعنى السلبي لمفهوم القداسة. ومنطق الإنسان الذي يقدم معنى إيجابيا لذات المفهوم. وعلى كلا الاتجاهين تختلف رؤية الفرد لذاته والآخر. ويختلف فهم العلاقة بينه وبين خالقه. هل هي علاقة: "عبد بسيده" أم "مخلوق بخالقه". الأولى رؤية قَبَـلية، سليلة قيم عبودية وتفاوت طبقي فاحش يكرّس روح العبودية، ويرسي فواصل صلبة تبقى السيد سيدا والعبد عبدا، كما يرى أرسطو الذي يعتقد أن الناس يُخلقون سادة وعبيد. فتكون العبودية والتبعية المطلقة قدرا أنطلوجيا. بينما الاتجاه الثاني، اتجاه إنساني، يفهم العلاقة بين الفرد وربه، علاقة مخلوق بخالقه. وهو فهم يكرّس حرية الإنسان، وحيثيته ومكانته، حينما يعتقد أنه مخلوق لا للعبودية بالمعنى التعسفي السائد الذي يسحق الفرد ويلغي قيمته الإنسانية، بل مخلوق لمهمة أسمى، وبهذا الاتجاه تقع طاعته لخالقه، وعباداته وتعبّده، جميعها يأتي من باب الشكر والاعتراف بنعمة الخلق، فتكون العبادة قضية أخلاقية. وسبق أن قاربت الآيات التي تتحدث عن عبودية الإنسان، كآية ما خلقت الإنس والجن إلا ليعبدون، وفقا للرؤية القرآنية، ومصاديق العبادة والعبودية والفرق بينهما. وقدمت تفسيرا مغايرا لها.
إن مفهوم القداسة من المفاهيم المفتاحية التي يتوقف عليها فهم روح القرآن ومقاصده وغاياته وفلسفته. يضع المتلقي بين رؤيتين، إيجابية تنفتح على آفاق تأويلية واسعة. ورؤية سلبية تكرّس الجمود والانغلاق. ولا تخفى تداعيات الفهم الثاني وخطورته على مستقبل الدين، حينما يسري فائض القداسة من النص إلى رموز دينية وتاريخية وأمكنة ومناسبات، تختزل مهمة الإنسان بالطاعة والانقياد، وتصبح الحرية رهابا وشرا مستطيرا، يتقيه باستقالة العقل، وتعطيل ملكة التفكير بالتسليم والاصغاء، بعيدا عن النقد والمراجعة، سيما عندما تأتي القداسة في سياق الصراع حول الرأسمال الرمزي، فلا يرضى لرموزه دون الكمال المطلق، ولا مانع لديه من أجل كسب المعركة أسطرتهم ورفعهم إلى مستوى فوق بشري، وحينئذٍ تنغلق جميع نوافذ الوعي. وهذا ما دعاني لتأمل المفهوم طويلا والبحث عن دلالات مغايرة، تنسجم مع الاتجاه الإنساني في فهم الدين. رؤية لا تهدر قيمة النص، وتتيح إمكانيات أكبر لتحري دلالاته وأنساقه ومضمراته. فالقداسة لها مركزيتها، سواء كانت بمعنى خصوبة وثراء النص أو بمعنى (كمون تأويلي مفتوح على أفق التاريخ والخبرة الحياتية). وأعني بها قداسة النص تحديدا في مقابل قداسة الرموز التاريخية والمناسبات والأمكنة، التي يصدق عليها المفهوم بصفة أخرى. فالحديث عن القداسة يأتي في سياق تحليل ونقد وتركيب مجموعة مفاهيم مفتاحية يمكننا من خلالها تقديم فهم مغاير للدين، يأخذ بنظر الاعتبار مركزية الإنسان، ودوره في الحياة الدنيا. والخروج من العقل الديني إلى دين العقل، وهذا يساعد على توظيف الطاقة الروحية للنصوص الدينية، وتعضيد قيم الأخلاق والفضيلة، وهو ما نتوخاه. وكان من جملة المفاهيم الأساسية التي قاربها البحث، وانتهى إلى نتائج مغايرة للنسق العقدي المتداول والمألوف دلالات قصة الخلق، التي يصّر اتجاه القداسة التقليدي على وقائعية القصص، ويؤكد على خلق الإنسان من طين بالمعنى الحرفي للآيات وليس المعنى الرمزي، الذي خلصنا له خلال البحث. وأيضا: الإمامة، العصمة، الاصطفاء، حجية السنة النبوية، وغيرها من مفاهيم مركزية تختل باختلالها الأنساق العقدية الموروثة، وتفضي إلى نتائج تُسخط الاتجاه التراثي، المتحفظ في فهم الدين. إن فهما جديدا للقداسة يسير باتجاه تأسيس نظرية نتخطى بها: عثرات الماضي، تراجع الوعي، التخلف الحضاري، منهج التراث في فهم الدين، الإنغلاق على الفتوحات المعرفية، تهميش العقل، إدمان التلقي، وغير ذلك.
لا حدود لتداعيات رهاب القداسة بالمعنى المتداول والمألوف في الوعي الجمعي. والأمر لا يقتصر على الكتاب الكريم، بل يتعدى السيرة النبوية، ليشمل، أقوال الصحابة، وروايات الأئمة لدى الشيعة. وجميعها يسلّم بها الفقيه من وحي المفهوم، حينما تثبت عنده صحة صدور الرواية وفقا لمنهجه في الجرح والتعديل، فتجد بعضهم وهم السلفية من السنة والشيعة، يصححون جيمع الروايات الواردة في كتبهم الروائية المعتمدة، مهما بلغت رثاثة بعضها، ومخالفتها للعقل والذوق، وهي الصحاح الستة عند الأول والكتب الأربعة عند الثاني، وبعضهم أضاف بحار الأنوار، وغيرها من كتب التراث. ومعنى رهاب القداسة هنا حجية الرواية مطلقا بغض النظر عن أسباب صدورها وضرورات الواقع التي كان وراء صدورها. والجمود على ظاهرها، والبحث عن مبررات وتأويلات حينما تتعارض فيما بينها، أو عندما تخالف المنطق والعقل ومعطيات العلوم الحديثة، لصدورها عن عقل مقدّس، مطلق، يعلم كل شيء. علمه يعلو على جميع العلوم، وتعاليمه ملزمة كما هي تعاليم الكتاب. ورواياتهم مطلقة على كل حال، فالظروف التي أنتجت موقفا سياسيا تلبّس بلباس الدين على شكل روايات، يبقى حكما مطلقا وعلى كل حال. كاحتكار الحقيقة وإقصاء الآخر بدواعٍ سياسية وطائفية. وهذا ما نلمسه واضحا في تصانيفهم: تكفير الأديان والمذاهب بعضها للآخر، تكفير الشيعي من قبل السني، وتكفير الثاني من قبل الأول. أو الموقف من المرأة ارتكازا لروايات دينية وتاريخية تثقّف على دونيتها واحتقارها، وهي روايات تعكس القيم القَبَلية السائدة آنذاك، غير أنها تكتسب حجيتها من مفهوم القداسة ذاته. إن دونية المرأة تعكس طبيعة الثقافة الذكورية للمجتمع. بل حتى من لا يرى ذلك من الفقهاء يحكم بدونيتها لقداسة النص وعدم جواز طرح الروايات. رغم أن ما صدر بعد وفاة الرسول من روايات منسوبة لغيره، تمثّل وجهات نظر اجتهادية وشخصية، لا يصدق عليها مفهوم الرواية الدينية والشرعية. فهي تصدر عن فقهاء تتحكم بهم قناعاتهم العقدية والفكرية وثقافتهم وبيئتهم ومصالحهم السياسية والطائفية، فرواياتهم عن الآخر خاصة، تعكس مضمراتهم، ويقينياتهم التي يسعى المجتهد التستر عليها، لكنه يخفق لا شعوريا. وإلا كيف يقصي مسلما ويخرجه من الدين لمجرد خلاف سياسي تاريخي. أو تحميل الآخر كل ما حصل تاريخيا من أحداث سياسية؟ فلماذا يتحمل السني مسؤولية قتل الإمام الحسين مثلا. أو يتحمل الشيعي مسؤولية مقتل عمر بن الخطاب؟. ولماذا يتحملون مسؤولية المعارضة السياسية التي قادها الحزب العلوي طوال التاريخ، وترى الريبة لا تفارق نظرات السني، وهكذا الشيعي في موارد أخرى. لكنها روايات صدرت عن عقول تعتبر مقدسة، معصومة، لدى الطرفين، رغم عدم وجود ما يؤكد عصمتها قرآنيا. فهي وفقا لمنظومة الفقيه العقدية حجة مطلقا وعلى كل حال. بل أن المعصوم وفقا لمفهوم العصمة مصدر من مصادر المعرفة وربما مصدر وحيد لها، فهو يعلم الغيب، وعنده علم الأولين والآخرين، فعلا أو بالقوة كما هو مفهوم العصمة لدى الشيعة، رغم نفي الكتاب علم الغيب عن أنبيائه فكيف بغيره: (قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ)، (وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ). فالتراثي يتمسك بمضمون الرواية مهما تعارضت مع معطيات العلوم الكونية، بحكم خلفيته القروسطية، ويقدم تفسيرات خرافية بحجة أنها صادرة عن المعصوم، لذا أؤكد في كل مناسبة على تقديم العقل على النقل، لتحرى مدى صدقيته من جميع الجوانب. حتى الروايات الأخلاقية، تؤسس لأخلاق الكراهية والإقصاء والتكفير، ويتمسك بها الفقيه بوصفها نصا مقدسا، حجة على كل حال. والرواية التي صدرت آنذاك تحت ظرف معين تبقى وفقا لقناعات الفقيه ومبانيه الأصولية حجة مطلقة، ويفتي وفقها، وهذه إحدى الأسباب التي كرست البعد الطائفي وشوهت معالم الدين. وتحول دون تطور الفقه ومواكبته لحاجات الفرد والمجتمع. بمعنى أدق أن تشريع الحكم الشرعي قد أخذ الواقع بنظر الاعتبار (ويسألونك .. ويستفتونك)، فيكون جزءا من موضوع الحكم الشرعي، وعندما يختلف الواقع يفقد موضوع الحكم فعليته، ويفقد الحكم بدوره فعليته المرتهنة إلى فعلية الموضوع. كما بالنسبة لأحكام المرأة، والموقف من الآخر. ولعل تعطيل حد السرقة من قبل الخليفة الثاني عمر بن الخطاب في عام المجاعة ما يؤكد على دور الواقع في تحديد فعلية الأحكام الشرعية.
بل أن القداسة خاصة قداسة الرموز الدينية، تدفع باتجاه أسطرتهم، والارتفاع بهم فوق البشر دون الإله. وأحيانا تخلع عليهم صفة إلوهية بلا أي تحرج!!!. كما عند الاتجاهات الطائفية المغالية. فيكون الرمز ملتقى اللاهوت والناسوت، فإذا كان مفهوم القداسة نزولا من الأعلى للأسفل بالنسبة لنصوص المدونة الأولى، وهي نصوص مقدسة، أجمع عليها المؤمنون بها، فإن ترقية القداسة، من الأسفل إلى الأعلى. تأتي لتلبي حاجات نفسية وطائفية، تشحن الرمز الديني بدلالات تجريدية موحية، تزرع الرهبة والخوف في قلب المتلقي، حداً ترتعد فرائصه في حضرة الرمز المقدس، يناجيه وكأنه حيا يسمع كلامه ويستجيب دعاءه. خصوصا في الأضرحة والمناسبات، فيمضي مع خياله مهما تمدد خارج اللامعقول، وأوغل في خرافاته، حتى يصدق كل أوهامه. وقد يخترع طقوسا يقدسها، وطالما قدس الإنسان رموزا تاريخية تمت أسطرتها، ويحسب أنها معطى ألهي، لها حق الهيمنة على عقله ومشاعره وسلوكه. فتأتي استجابته استجابة عقدية، ما لم يقم هو بتفكيكها وتحري حقائقها، وهنا يلعب الوعي دورا مؤثرا، فثمة نفوس أدمنت العبودية والخمول العقلي، تشعر بسعادة فائقة بظل أوهام الحقيقة.
وبالتالي القداسة: مشاعر نفسية، ورغبات داخلية، تقوم على أحكام مسبقة، مسكونة بالتوجس والريبة وأوهام الحقيقة. وهي بالنسبة للنصوص المقدسة: (كمون تأويلي مفتوح على أفق التاريخ والخبرة الحياتية). قوة حضور المقدس تتناسب طرديا مع قوة إيحاءاته التي يستمدها من غموضه الحقيقي لكل ما هو غيب، يثير شهية الخيال البشري. أو مصطنع كالرموز التاريخية والأمكنة والمناسبات التي تحاك حولها الحكايات. وعندما نفهم القداسة في سياقها التاريخي والأنثربولوجي والسيسيولوجي نتحرر من سطوتها النفسية وسلطتها المعرفية. فاقتحام الأسيجة المقدسة يكشف هشاشة مرتكزاتها السكيولوجية، ويؤهل لمحاكمة أنساقها، وما تستبعد وتهمش من مفاهيم ومقولات.
تلقي المفهوم
ثمة عوامل موضوعية وذاتية وراء قوة وضعف حضور المفاهيم الميتافيزيقية. فالبيئة المسكونة بالغيب تؤهل الفرد نفسيا لتقبل الغرائبيات والخرافات، والعكس البيئة المنفتحة على النقد وآفاق العلم والمعرفة، وتتمتع بقدر كبير من هامش الحرية، وحق التساؤل، مهما بلغت خطورة القضايا المطروحة. فنكتشف ثمة بيئة تمثّل عاملا موضوعيا مؤثرا، إيجابا أو سلبا. وهناك واقع سكيولوجي يتجلى عبر يقظة العقل وقدرة الوعي على تشيخص الحقيقة. فالعقل الساكن يرضخ لإيحاءات المفهوم، بينما يتمرد العقل اليقظ. ولا تقتصر خشوع النفس أمام المقدس كمفهوم على هذا السبب وحده، بل أن ثراء المفهوم وقوة رمزيته وما يرافقه من خطاب عاطفي. وأيضا نوع التلقي والظرف الموضوعي، سيما مرحلة التلقي الأولى التي تترسب فيها المفاهيم بعيدا عن وعي المتلقي نفسه، يلعب كل واحد منها دورا مهما. فعملية رسوخ المفهوم ومن ثم فعليته وفرض محدداته عملية معقدة جدا، بدءا من الخلفية الفكرية والعقدية، وما تشتمل عليه من شبكة مفاهيم ومسلمات ومقولات. فمن يقدس رمزا هناك قبليات تسبق عملية التصديق تبدأ بتصورات أولية ثم تنمو وتتطور في ظل القداسة. أي ثمة علاقة جدلية بين القداسة كمفهوم موحٍ بقوة، وبين المنظومة الفكرية والعقدية للفرد. ففعلية القداسة ترتهن لعوامل موضوعية وذاتية. وهي تراكم تاريخي، وليس معطى وهبة ربانية كما يتصورها بعض الناس. القداسة كمفهوم له بداية وقد يتهاوى بمراجعة الذات، حينئذٍ يكون الرهان على النقد ويقظة الوعي ناجحا. خاصة أن رسوخ المفاهيم الميتافيزيقية والمجردة تراهن على التلقي، وقدرة الخطاب على تمرير رسالته. فيصدق أن التلقي رهان فعلية القداسة. أو أنها تبقى مجرد تصور ذهني، كما بالنسبة للمفاهيم الفكرية، غير أن طبيعة التلقي والظرف النفسي للمتلقي هو الذي يرسخ المفهوم ليغدو عصيا على الزوال. فالقداسة ترتهن لاستعداد الفرد نفسيا وذهنيا. ورهاب القداسة ينمو ويتطور على إيقاع الخطابات العاطفية، وإيحاءات المفاهيم وما يحاك حول الرموز الدينية والتاريخية والأمكنة والمناسبات. وهو كغيره من المفاهيم، ينمو ويترعرع في أحضان البيئة الثقافية، بدءا من مرحلة الفترة الحرجة = critical period.
إن رهاب القداسة وخشوع الفرد بين يدي المقدس تربية وايحاءات نفسية وتلقٍ عاطفي، يرتكز للغة أدبية تأسر المتلقي. القداسة تحشيد نفسي، تقوّضه الأسئلة الاستفزازية. وتنطفئ هالتها بالتمرد على سطوتها. وهي هالة رخوة تغذيها روافد نفسية وموروثات وعادات وتقاليد مستفزة، تخشى المساءلة، وتحري حقيقتها. فزحزحة المقدس يتيح رؤية الحقيقة. وهي حجاب تستمد قوتها من رهابها، وهو رهان ناجح في المجتمعات المسكونة بالغيب والجن والعفاريت واللامعقول. ولا ريب أن جميع الاتجاهات الأيديولوجية ترتكز للمقدس كفمهوم يكرّس الطاعة والاستسلام، ويحد من طرح الأسئلة. لذا تخشى هذه الاتجاهات يقظة العقل والوعي والتنوير. إن لوثة القداسة لوثة لا شعورية تتحكم بإرادة الفرد، وهو مكمن الخطر على مسيرة الوعي والحداثة، ولا بد من تركيز النقد، وكشف بشرية كل مقدس، ومقاومة تشبثها بالغيب واللامعقول.
المقدس مفهوم تاريخي لا يتعالى على النقد. ونقد القداسة يبدأ من نقد جذرها العقدي وبيان تاريخيتها. فثمة رفض لبشرية الرموز الدينية لحماية هيبة المقدس، ونحن في المقابل علينا المغامرة والتوغل في أعماق المفهوم لكشف ما يستبعده ويهمشه شرطا لهيمنته. القداسة سريان لا شعوري لا يقاوم إلا بوعي مستنير، يكشف حقائقه وخلفياته. لذا تتخذ القداسة من الطقوس وسيلة لحماية سلطتها ومحدداتها، رغم أنها مصدر طاقتها. لكن ثمة علاقة جدلية بينهما كفيلة بتحقيق ما تصبو له. سيما الطقوس المرتبطة بالرموز التاريخية الملهمة بفضل ما يحاك حولها من معاجز وغرائبيات، وعلم غيب، لا يتحقق للناس العاديين، فتكتسب الطقوس شرعية أكبر. فلا مناص حينئذٍ من تمسكهم بها، سيما رجال الدين والمؤسسات الدينية التي تمنحها الطقوس مصداقية أكبر، وتسمو برأسمالها الرمزي. فهناك وعي يؤهل لقبولها، وهناك نوايا تراهن عليه، لذا تجد أصحاب المشاريع الطائفية يدفعون دائما باتجاه طقسنة الدين، لضمان تعاطف جماهيري يضمن مصالحهم الأيديولوجية. كل إنسان يؤمن بالمقدسات بشكل ما، ويبقى العقل معيارا لتحديد معقولية التقديس، ومدى ارتهان الفرد لمحدداته، وبما أن القداسة قضية نفسية، مدعومة بمجموعة تصورات، فمن السهل قهر النفس من خلال التلقين الإيجابي، وتحدي رهابها بفعل معاكس. كان أحد أخوتي مسكونا برهاب القداسة، وكان يرتعد من أحد الرموز الدينية، ويخشى الاقتراب من ضريحه لإدمانه منابر الوعظ وحكايات كبار السن حوله. وكان والدي يحاول إقناعه بأنها مجرد أوهام نفسية يمكن تجاوزها، بمجرد زيارة بسيطة ليس أكثر. وبالفعل شجعه وذهب مع أحد الأقرباء، ولما عاد أعلن أن كل ما كان يعتقد به مجرد وهم، ولا أظنه عاد لزيارة الأضرحة منذ خمسين عاما أو يزيد بعد اكتشاف حقيقة أوهامه!!!. فتلقين النفس علاج مؤثر لتخليص العقل من أوهامه.
إن الكلام حول الرموز الدينية والتاريخية جاء في سياق الحديث عن قداسة النص، الذي هو المقصود أساسا بالبحث، وكيف يمكن توظيف المفهوم توظيفا إيجابيا لتعزيز قيم الفضيلة والأخلاق. ومهما بالغنا بقداسة النص يبقى نصا لغويا يمكن استنطاقه ومساءلته ومقاربته بمختلف مناهج العلوم الحديثة للكشف عن أنساقه ومضمراته ودلالاتها وإيحاءاته. فالقداسة بمعنى ثراء النص وكمونه التأويلي يعطي للمفهوم دلالة مشرقة، لا تستبعد العقل، وتكرسه لفهم النص. وما القداسة بالمفهوم التراثي السائد سوى قضية نفسية، ينهار رهابها بالمراجعة والنقد، وبانهيارها تسقط كل الدلالات السلبية للمفهوم، وتذهب مقاصد تكريسه من قبل التراثيين ورجال الدين هباء.
المقدس الديني
الأديان هي الأخرى تستعين بالمقدس لضمان الإيمان بالغيب. وعليه تتوقف صدقيته: (الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ). غير أن الأديان ترفض التسليم الأعمى: (وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا)، وتحيل على الكون وآياته لتأكيد صدقية المقدس الديني، لذا يعتبر مفهوم الإله من أغنى المفاهيم دلالات وإيحاء، لقدرة الإنسان على المقارنة والتثبت من حقائق الأمور، من خلال ما يحيط به من عجائب الخلق، فيكون التقديس استحقاقا تفرضه الرؤية العقلانية للعالم. الأديان لا تستغني عن التقديس، ولها أسلوبها في ترسيخه، واستثمار طاقته، من خلال خطاب موحٍ، كما في الآيات التالية كمثال: (فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى، إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى). هكذا فرض الخطاب الإلهي إجراء يعي موسى دلالاته، ويعلم متى ينبغي خلع النعال، فثمة خلفية عزف عليها الخطاب الإلهي. فكانت الآية استفزازا لمشاعر القداسة المتوثبة أساسا في بيئة كبيئة موسى، حيث عاش في كنف نبي لمدة عشر سنوات. (فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ). وهذه الآية كسابقتها في قوة إيحاءاتها، وآلية تأثيرها، فالبقعة المباركة في وعي موسى بقعة مشحونة بدلالاتها القدسية، وإيحاءاتها الروحية. والآيات هيأته نفسيا، وبعثت فيه الرهبة والخوف، خاصة الخطوات التالية والقصة معروفة.
يأتي في الحلقة القادمة
............................
للاطلاع على حلقات:
للمشاركة في الحوار تُرسل الأسئلة على الإميل أدناه
الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها.