حوار مفتوح

المثقف في حوار مفتوح مع الأديب ا. د. عدنان الظاهر (10)

  

يقظان الحسيني، شاعر / كندا

الدكتور عدنا ن الظاهر المحترم....تحايا طيبة

أوجه سؤالي اليكم مركزا على مرحلة ما قبل سفركم الى الخارج اي ما قبل عام 1962 بالتحديد، وهو بثلاث شُعب وانت الذاكرة العراقية الشامخة منحك الله الصحة والعافية وأمد ب عمرك وكلها تتعلق بواقع الحلة الأدبي والثقافي والسياسي والديني على اعتبار ان كل ذلك يرتبط بالواقع الأجتماعي وبالتالي  رصد التطور الأجتماعي عبر المقارنة بالعقود التي تلت ذلك سلبا او ايجابا وعبر الذهنية المفتوحة على كل فسيفساء الواقع الأجتماعي كما هو وكما سارت الأحداث شئنا ام ابينا

والسؤال هو ان تصف لنا الآتي رغم انني مررت بمذكراتكم ولكن وكأن السؤال هل من اضافة او هل من خلاصة او اننا نريد ان نمر بذلك بوجه آخر  هنا واذا اردت ان تحيلني الى مذكراتكم فلك الأمر فيما يتعلق ب الآتي:

 

س96: يقظان الحسيني: أن تصف لنا المشهد الأدبي والثقافي في الحلة آنذاك. وهل من مجالس أدبية وثقافية؟ وهل من لقاءات مخصصة للأدب؟ وماهي أبرز الوجوه من الأدباء والنقاد آنذاك؟

ج96: د. عدنان الظاهر: أهلاً بكم عزيزي الشاعر الأستاذ يقظان الحُسيني المدحتي ثم الحلّي ... أهلاً بك ثانيةً وقد سألتني في المرّة الأولى وأجبتُ لكني مسرور بوجودك الآن وفي كل آن .

أجبتُ عن أسئلة مماثلة لهذا السؤال سبق وأنْ وجّهتها لي السيدة سنيّة عبد عون رشّو حتى خُيّلَ إليَّ أنها حلاوية أصيلة ... وبما أنك تساءلتَ: هل من مزيد؟ يُمكن تقسيم المشهد الثقافي في الحلة إلى ثلاث مراحل  .. الأولى هي مرحلة العقد الرابع أي أربعينيات القرن الماضي ومرحلة العقد الخامس أي خمسينيات ذاك القرن ثم ستينياته . تقع هذه المراحل بين الأعوام 1942 ـ 1962 حيث نشأتُ ودرستُ في مدارس الحلة ثم مارست التعليم الثانوي لثلاث سنوات ومن تلاميذي في متوسطة الحلة للبنين الشاعر موفّق محمد أبو خمرة وناجح المعموري وغيرهما الكثير بين ضابط ومدرس وطبيب ومهندس أذكر منهم المهندس لؤي محمود أبو خمرة والطبيب مؤيد مهدي علوش والطبيب العسكري حسن الفلو من أهالي الإبراهيمية (الدبلة) ثم الدكتور عبد الستار الشيخلي وبعضهم من حَمَلة الدكتوراه. أعود للمراحل فأقول: أتذكر فورة الحماس والنشاط السياسي في الحلة خاصة في أوساط الطلبة ولا سيّما الطلبة الذين كانوا محسوبين على اليسار المعروف .. أعني وبالتحديد سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية وانتصار الحلفاء على دول المحور وكان الإتحاد السوفياتي حينذاك عضواً نشطاً في هذا التحالف. كانت الصحف التي تمثل اليسار تباع عَلَناً في مكتبات الحلة أتذكر منها جريدة الأساس والقاعدة وجرائد أخرى كانت أسماؤها صعبة عليَّ وعلى قدراتي العقلية يومذاك . كان الأدب ملازماً لذلك النشاط السياسي كما هو شأنه أبداً إذْ لا من نشاط سياسي إلاّ ومعه رفيقه الأدب وخاصة الشعر والشعراء . إنتشرت في تلك الفترة المقاهي الحديثة بأسمائها وتجهيزاتها فهذه كازينو الخورنق وتلك السدير وفي كازينو الخورنق كانت طاولة بليارد فتصور ... في الحلة بليارد في أربعينيات القرن الماضي . كان الخورنق قصراً على نهر الفرات في وسط الحلة مقابل مديرية شرطة لواء الحلة (محافظة بابل) . كان الطلبة اليساريون والشيوعيون على وجه الخصوص ... كانوا معروفين لأهل الحلة كما كانوا مكشوفين لمخبري وعناصر أمن الشرطة ولكن لم تدم فترة الإنفتاح على حرية ودمقراطية ما بعد النصر على النازية الألمانية والفاشية الإيطالية والعسكرية اليابانية ... لم تدمْ طويلاً فأغلقت الحكومة العراقية تلك الصحف التقدمية واليسارية وفصلت من المدرسة المتوسطة والثانوية عدداً من الطلبة المعروفين بعقائدهم السياسية وأتذكر جيداً كيف كان يدور مدير متوسطة الحلة للبنين من صف إلى صف يدخل حصة الدرس حاملاً بيده ورقة يقرأ فيها بعض الأسماء ويطلب من أصحابها مغادرة المدرسة فوراً لصدور قرارات بفصلهم من المدرسة . ما زلتُ أتذكر أسماء أغلب هؤلاء الطلبة ! كان الطلبة يومذاك يدرسون في المقاهي أو في بعض البساتين وحديقة الجبل حيث كان فلاّح هذه الحديقة رجلاً إسمه (جُرْمُطْ  أو جريمط بالتصغير) ! .. كنا بحجة الدراسة نزور حديقة الجبل فجراً ولكن لنسرق الورد فقط إذْ لم تكن في الحديقة أشجار فاكهة . والويل لمن يضبطه السيد جُرْمُطْ متلبساً بالجُرم المشهود  فالمنجل اللماع في يده لا يفارقها .

مع حُمّى السياسة التي ضربت الحلة شاع بين الطلاب خاصةً الشعر السياسي الساخر منه ما نُسب للشاعر محمد صالح بحر العلوم صاحب قصيدة " أين حقّي " ثم قصائد محمد مهدي الجواهري التي قالها في وبعد وثبة كانون الثاني عام 1948 ضد معاهدة بورتسماوث أو معاهدة جَبُرْ ـ بيفين أي رئيس الوزراء البريطاني بيفين ورئيس الوزراء العراقي صالح جَبر . سقط الكثير من الشهداء في مظاهرات صاخبة في تظاهراتهم ضد تلك المعاهدة وكان أحدهم شقيق الجواهري جعفر الجواهري وكان وقتها طالباً في جامعة دمشق لكن كان في تلك الأيام في زيارة لأهله في العراق . رثاه أخوه محمد مهدي في قصيدة " أخي جعفراً " . اُقيمت في الحلة أربعينية إستشهاد جعفر الجواهري حضرها محمد مهدي نفسه وأظن قرأ فيها مرثيته تلك لأخيه . من طريف أشعار تلك المرحلة السياسية الساخرة أبيات شعرية نظمها أحد طلبة المتوسطة أو الثانوية في الحلة إسمه (العزاوي؟) من أهل سدة الهندية .. قال في مطلعها ساخراً من صالح جبر صديق الإنكليز ومنفّذ سياستهم في العراق:

يا قحبةً منزولها في لندنٍ

أمستْ وما قد زارها نيّاكُ

...

فُصل هذا الشاب من مدرسته وحرم من مواصلة دراسته ورأيته ذات يوم مساعد (سِكِنْ) لسائق لوري في وضع سيئ وملابس رثّة فأوجعني ما رأيتُ . كما شاعت في أوساط الطلبة يومذاك أبيات سياسية ساخرة نُسبت لمحمد صالح بحر العلوم يتوجه فيها  لربه شاكياً من الفقر والضيق اللذين صاحبا سنوات الحرب العالمية الثانية . قال فيها في جملة ما قال:

إلهي القُندرة انشكّتْ ولم يمضِ لها شهرُ

فدندللي بزمبيلٍ نواطاً كلها خُضرُ

شرح البيتين: تهرّى سريعاً حذاءُ الشاعر لأنَّ صناعته رديئة فطلب من ربّه أنْ يُنزلَ له من السماء زنبيلاً مملوءاً بأوراق نقدية من فئة العشرة دنانير (نوط أخضر) ونوط إنكليزية بالأصل Note

كما كان في ذاك الزمان نوط أحمر قيمته خمسة دنانير لكن الشاعر طمع بالكثير أي بالأخضر بدل الأحمر .

كان في حلّة تلك الحقبة عددٌ من الشعراء الشعبيين وقرّاء تعازي الحسين لكنهم ما كانوا منخرطين عميقاً في السياسة ... كان من أبرزهم صوتاً ومقدرةً وشخصيةً هو الخال السيد صاحب عبيد الحلي ، أبو عدي  وصاحب أغنية (يا عزيز الروح يا بعد عيني) من كلماته وتلحينه ونغمها هو أحد أنغام لطميات الحسين . شاعت هذه الأغنية أواسط أربعينيات القرن الماضي وخاصة بين طلاب المدارس ثم تناولها أصحاب الطرب وفرقهم الجوّالة وشاعت أكثر ما شاعت في مدينة الهندية (طويريج) لأسباب تتعلق ببعض خصوصيات هذه المدينة وحب أهلها للطرب ومنهم الملحن والمطرب الأستاذ محمد جواد أمّوري. كان في الحلة يومذاك شاعرٌ فحلٌ لكنه لم يشارك في نشاطات سياسية هو الأستاذ محمد الرشادي صديق وخدين ونديم صاحب عبيد الحلي . في أواخر أربعينيات القرن الماضي دخل السجن ولفترات طويلة الأستاذان المحامي جواد كاظم ومحمد عبد اللطيف مَطلب الذي كان يومذاك مُعيداً في كلية الهندسة ... والمرحوم الأستاذ عدنان البرّاك الذي قتله البعثيون في إنقلاب شباط 1963. كما فَصل ودخل السجن السيد عامر الصافي وقُتل في سجن بغداد حارس السادة آل الصافي في الحلة الحاج بشير في حادث تمرد داخل السجن وصدام مع شرطة السجن . كذلك فًصل من المدرسة الأخ موسى نادى علي والأديب السيد يحيى مجيد بابان . غادر يحيى العراق فيما بعد وأقام حتى اليوم في العاصمة الجيكية براغ وكان المفروض أنْ نلتقي في بيت المرحوم محمود صبري صيف عام 1981 لكنَّ طارئاً فجائياً حال دون ذلك اللقاء . وكان كذلك أحد الطلبة المفصولين الأديب السيد جليل كمال الدين صديق المرحوم الشاعر السيد علي الحُسيني فيما بعد ... أيام ثورة تموز 1958 . كما فصل الأستاذ عبد الأمير عباس ودخل السجن سنينَ عددا . وفُصل الأخ طالب كاظم  ولا أدري هل دخل السجن أم لا؟ واصل دراسته الخارجية بعد الفصل ودخل دار المعلمين العالية [كلية التربية] ليغدو مدرساً للغة الإنكليزية كما أتذكر . ومن مشاهير مساجين تلكم الحقبة الأخ العزيز والشهيد المرحوم شهيد محمد سعيد الخوجة نعمة الذي قتله إنقلابيو شباط 1963 فهل سأل أحدٌ عنه في الحلة ولاحق قتلته وأثار الموضوع أمام المحاكم أو طالب بدمه؟

وأكثر الملايات من قارئات مقتل الحسين شهرة في الحلة هما السيدتان وزيرة الشلاه والثانية وزيرة تاج الدين . ما كانتا تتورطان في السياسة لكنَّ ملاّية أخرى في المسيب كانت لا تخشى التعريج على مسائل سياسية في قراءاتها المعتادة في البيوت هي السيدة أبو العيس شقيقة الصديق السيد جعفر أبو العيس ففي أوائل خمسينيات القرن الماضي كان شقيقها السيد جعفر نزيل سجن الكوت وكانت تزوره في سجنه بشكل منتظم حسب جداول الزيارات المسموح بها تحمل له النقود والملابس والطعام .

أجدها مهمة صعبة أنْ أتذكر أسماء كافة الطلبة الذين فُصلوا من مدارسهم بسبب ميولهم وعقائدهم السياسية وهم كثيرون فأعتذر منهم أو من ورثتهم وأهاليهم ومن يعرفهم من قريب أو بعيد . منهم الصديق جليل مهدي مبارك وشقيق الصديق أستاذ الفيزياء عبد الوهاب عبد الشهيد المسلماني والمرحوم هادي حميد طخّة وطالب آخر لا أذكر اسمه ما كان يخرج من السجن إلاّ ودخلة سريعاً ثانيةً.

لقد إختلط المشهدان في رأسي ... السياسي والأدبي وهما أبداً متلازمان لا ينفصلان سواء في رأسي أو في غير رأسي ! طغى السياسي على الأدبي في أربعينيات القرن الماضي فإيقاعات السياسة أسرع من الإيقاعات الأدبية ولهذه القاعدة شواذ .

 

س97: يقظان الحسيني: أن تمر ب المظاهرات وتنظيمها وما هي أهم المناسبات والأحداث التي دعت الى القيام بذلك فمثلا يروى أن المتصرف آنذاك ولا أعرف تأريخ ذلك أنه جاء الى الى الشيخ عبد الكريم الماشطة وما معناه أنه قال له ألا تعرف أن المظاهرات ممنوعة فرد الشيخ اذا المظاهرات ممنوعة فهل الأعراس ممنوعة ف اعتبرني معرّس....شيئا من هذا القبيل.

ج97: د. عدنان الظاهر: كنتُ شاهد إحدى المظاهرات ضد معاهدة بورتسماوث في كانون الثاني عام 1948 ... مشت في الشارع الذي يبدأ من فلكة بيوت السيد سعيد الأمين حتى باب المشهد لكنها لم تستطع مواصلة المسيرة إذْ تصدت لها الشرطة من راكبي الخيول وحاصرتها فيما بين ثانوية الحلة للبنات ومداخل منطقة الطاق من الجهة اليسرى ومدخل محلة جبران أمام (عكد الجيايل أي عكد عمال الكيل). تفرّقت المظاهرة ولم تعتقل الشرطة أحداً من المتظاهرين ولم يسقط أحدٌ منهم قتيلاً أوجريحاً .

أما قصة متصرف الحلة مع الشيخ عبد الكريم الماشطة فإني أسمع بها لأول مرة منك . بلى .. قصته ودوره في التحريض والإعداد لإنتخابات عام 1954 لمجلس النواب معروفة . كان الرجل ينظّم مجالس حسينية لكنه يقلبها إلى قراءات سياسية يمزج فيها دم الحسين بأحداث الساعة الراهنة فسمعته مرة يقول مخاطباً فلاحي منطقة الفرات الأوسط: من قتل الحُسين؟ إنهم الإقطاعيون ! كان الرجل ناحلاً لا تفارقه مروحة الخوص صيفاً (المهفّة) .

 

س98: يقظان الحسين: اضافة اخرى هنا للمراسيم الحسينية واثرها في التحريض السياسي وهل القوى السياسية كانت تشارك في هذه المراسيم والمواكب الحسينية التي تتشكل في مختلف المناطق

تقبل خالص الأحترام والتقدير

ج98: عدنان الظاهر: كان النظام الملكي شديد الحساسية تجاه أي نشاط جماهيري مُنظّم . وكانت عيون مخبريه وشرطته السرية يقظى لا تنام . كان ذلك مفهوماً لدى النخب الوطنية العراقية لذا كان نشطاء المواكب والمجالس الحسينية في عاشوراء وغير عاشوراء ... كانوا يقظين وحذرين فيما كانوا يقولون من لطميات وردّات وكانوا أذكياء بحيث أنهم كانوا يسرّبون ما يجيشُ في صدورهم تسريبات ذكية يفهمها مّنْ يفهمُ ويدرك مغازيها الملوّع والمجروح والمنكوب بسجن أحد أولاده أو أقاربه . أما محبّو الحسين من الشباب فقد أسسوا الشبيبة الحسينية في الحلة وكان مركزها الأول في منطقة الجامعين وكان من بين أبرز مؤسسيها إبن عمّتي المرحوم الحاج فخري هلال حُمّادي السريراتي الذي قضى نحبه للأسف في ركضة طويريج ـ كربلاء في عام 1965 حيث سحقته الجموع المتدافعة والمتساقطة بعضها فوق بعض فأسلم الروح .

أعتذر عن التقصير فالرجوع للماضي وما جرى فيه من أحداث ليست بالمسألة السهلة يا عزيز الروح يا بعد عيني . كما أني لم أجد الوقت الكافي للعروج مفصّلاً لفترتي خمسينيات ثم أوائل ستينيات القرن الماضي وكانتا حافلتين بالأحداث الجسام من أبرزها جريمة العدوان الثلاثي على مصر خريف عام 1956 ثم ثورة تموز 1958 .

 

س99: سلام كاظم فرج، شاعر / العراق: الدكتور العزيز، اجوبتكم الغنية اسعدتني جدا.. قليلة هي النصوص التي تشرح الصدر. والحلقة السابقة من بين تلك النصوص.

اسعدتني جدا بقولك انك تعرف الدكتور محمد عبد اللطيف مطلب... لقد قرأت له كتيبا صدر منتصف السبعينات عنوانه (فلسفة الفيزياء) ينتمي الى ما نسميه بالاسلوب السهل الممتنع.. المفيد والممتع في آن.. ارجو منك ان تحدثنا.. استاذنا الكريم عن كل ما تعرفه عن هذه الشخصية الفذة، اعني الدكتور محمد عبد اللطيف مطلب..

ج99: د. عدنان الظاهر: مع البروفسور محمد عبد اللطيف مطلب:

قبل ثورة تموز 1958:ة لم أكن أعرفه في مدينتنا الحلة سوى أنه كان سجيناً سياسياً محكوماً لفترة سجن طويلة . هذا ما كان معروفاً وشائعاً عنه زمان الحكم الملكي . لكني كنتُ أعرف أخاه (عزيز) زميلي في ثانوية الحلة للبنين خلال الأعوام الدراسية 1951 ـ 1954 . ثم كان والد الفقيد الصديق الحاج (مِراراً) عبد اللطيف مطلب شخصية محترمة معروفة في مدينة الحلة في أوساط تجّار الحبوب وغيرهم من التجّار كما كان معروفاً في أوساط الطلبة ولا سيّما الطلبة التقدميين والدمقراطيين واليساريين . كان تعاطف واحترام فئات الطلبة هذه له مُبرراً وله قاعدة وجذور . منها أنه كان شخصية وطنية نظيفة ووالداً لسجين سياسي ثم كان سخيّاً كريماً محبّاً للخير ومتبرعاً دائماً لأي نشاط إنساني . كان هذا الرجل يستغل مناسبات الحج والعمرة لإستحصال جواز سفر يحج فيه ويعتمر لكنه بعد كل حج وإعتمار يدلف سرّاً لحضور فعاليات ومؤتمرات السلام والدعوات لنزع السلاح وتحريم الأسلحة الذريّة . كانت لذا علاقته وثقى بالشيخ عبد الكريم الماشطة فهو الآخر كان ينهج هذا النهج ذاته وبالتنسيق السري المحكم بينهما .

 

بعد ثورة تموز 1958

بعد أنْ أمضى الفقيد الراحل الدكتور محمد عبد اللطيف مطلب قرابة عشرة أعوام في السجن أمضى أكثرها في سجن نكرة السلمان الصحراوي المعروف ... وبعد ثورة تموز 1958 أعيد لوظيفته السابقة مُعيداً في كلية الهندسة لكنه سرعان ما حصل على بعثة دراسية إلى جمهورية ألمانيا الدمقراطية لدراسة الدكتوراه . هل كانت تلك زمالة حزبية أو إنها كانت إحدى بعثات وزارة التربية يومذاك؟ لا أدري . غادر العراق خريف عام  1959  على ما أحسب متوجهاً إلى مدينة وجامعة دريسدن في ألمانيا الدمقراطية حيث درس وأكمل دراسته متخصصاً في علوم الفيزياء الذرية وكانت دراسته دراسة نظرية . ثم واصل بحثه النظري وحاز على أعلى درجة علمية حسب الأعراف الجامعية في العالم وهي درجة دكتوراه هابيل التي تقابل شهادة دكتوراه علوم D.Sc.

وهذه الدكتوراه أعلى من شهادة دكتوراه فلسفة الكثيرة الشيوع Ph.D.

1972 ـ 1978 توثّقت علاقتي به خاصة في وبعد عام 1972 حيث كان هو أستاذاً في قسم الفيزياء من كلية علوم جامعة بغداد وكنت يومذاك مُدرّساً في قسم الكيمياء في نفس الكلية . ما كنّا من جيل واحد إذْ أنه أكبر مني بعشرة أعوام في أقل تقدير . أصبحنا في هذه المرحلة قريبين جداً من بعضنا وشدّتنا روابط قوية حميمة حلاّوية ـ علمية ـ سياسية . كان معي في غاية السخاء في تقديم التبرعات الشهرية الضخمة للحزب الشيوعي فقد كان راتبه الشهري ضعف راتبي وربما أكثر . وكان عازباً يسكن لوحده في مشتمل قريب من كلية العلوم في الأعظمية مقابل ساحة عنتر ... وكنتُ أسكن وعائلتي بيتاً في شارع المغرب بجوار مستشفى وليد الخيّال وصيدلية السيد عامر . ما كنا تفترق إما أكون معه في مكتبه في قسم الفيزياء حيث الشاي العادي أو الشاي الحامض أحياناً حسب مزاجه ... وقد اكتشفتُ أنه يقدّم الشاي الحامض للنخبة العزيزة فقط ! وعلى رأس هذه النُخبة العزيزة طالباته ! أما أولاد الخايبة الآخرون من أمثالي فنصيبهم الشاي العادي . نعم ... إما أكون معه في مكتبه أو أنْ يكون معي في مكتبي في قسم الكيمياء . وأحيانا نتناول غداءً بسيطاً في نادي الطلاب حيث كنا نرتاح أنْ نكون بين طلبتنا وأولادنا نقاسمهم المقسوم وكانوا أحيانا يلتحقون بنا ويأمرون بجلب المزيد من الشاي أو باقي المشروبات الغازية . أغلب نقاشاتنا كانت تدور ـ بعد أنْ نتعب من قضايا النواة والذرّة ـ حول أمور سياسية ملتهبة وكنا يومذاك في زمان الجبهة الوطنية أو الجبحة الوطنية كما كان يصفها الفقيد الشهيد الدكتور صباح الدُرّة ! صدر له في تلك الفترة كتيب صغير عن دار حكومية لعلها دار الجماهيرية أو غيرها مقابل مكافأة رمزية مقدارها خمسون ديناراً . بعد قراءتي المتأنيّة لهذا الكتيب وجدتُ فيه معالجة جديدة جريئة ونقداً جارحاً مُبطّنا لبعض مقولات الفلسفة الماركسية وبيّن بذكاء ما فيها من خطل وأخطاء . كنتُ شديداً معه في نقاشاتي تلك وفي إعتراضاتي فكان يلين حيناً ويشتدّ ويُصر على مواقفه ووجهات نظره في أحيان أخرى ، لكنه حين يجدني عنيداً ومناقشاً صلباً بالحق يفهم ما يقول وقد سبر أغوار ذلك الكتيب ... حينذاك ينسحب بلطف وهدوء ولكن بدون إعتراف ولا إعتذار متخذاً موقف التقية المعروف ومردداً [والله ... ما أدري ... هذا هو إجتهادي ... لا علاقة له بدراستي في جمهورية ألمانيا الدمقراطية ولا بأساتذة جامعاتها]. كان السائد يومذاك أنَّ وضع المثقفين وأساتذة الجامعات في ألمانيا الدمقراطية أفضل من نظيره في الإتحاد السوفياتي... لذا ما كان مستغرباً أنْ نسمع عن نقد للماركسية اللينينية وللطريق السوفياتي في بناء الإشتراكية فالشيوعية خارج حدود الإتحاد السوفياتي .

كان واضحاً للجميع أنَ الصديق والزميل الجامعي الدكتور محمد عبد اللطيف مطلب هو رجل عازب لا زوجة ولا أولاد ولكن خاب ظن الجميع ... ففي إحدى رسائله لي ـ بعد مجيئ وعائلتي إلى المانيا ـ أخبرني أنه لم يعد ذاك الرجل الأعزب أبو جاسم إنما هو اليوم أبو فارس. فهمت فيما بعد أن له زوجة ألمانية أنجبت له ولداً اسمه فارس.

كنتُ أيام زمالتنا في كلية العلوم أتندر معه وأسأله متى تتزوج أبا جاسم؟ كان جوابه واحداً لا يتغيّر مثل طابع البريد: الله وإيدك ! أي جدْ لي العروس المناسبة .

لم يتحملنا نظام البعث ـ ونخبة أخرى من أساتذة الجامعات العراقية .. 76 أستاذاَ في القائمة الأولى وكلانا كان فيها ـ فصدر أمر في ربيع عام 1978 من مجلس قيادة الثورة / مكتب أمانة السر بنقل بعضنا إلى دوائر أخرى لا علاقة لها بالبحث والتدريس .... وأحيل بعضنا على التقاعد ثم صدرت قوائم وقوائم لا حصرَ لها  بعد هذه القائمة . كان الراحل من بين المحالين على التقاعد ! غادر كلانا العراق في صيف عام 1978 هو إلى ألمانيا الدمقراطية وأنا إلى بلجيكا وهولندا وباريس وسويسرا ثم فرنسا وأخيراً أخذت وعائلتي طريق البحر متجهين إلى العاصمة الليبية طرابلس .

لم يستطع ممارسة تدريس إختصاصه الدقيق في جامعات ألمانيا الدمقراطية فمارس تدريس الفلسفة الإسلامية في أحد المعاهد المسائية المخصصة لكبار السن ... حسبما كتب لي في إحدى رسائله .

في رسائل أخرى متبادلة بيننا منتصف ثمانينيات القرن الماضي كتب لي واصفاً ما حلَّ بقصرهم المشيّد قريباً من نهر الفرات في الحلة إثر فشل إنتفاضة شعبان 1991 .. وكان بيتهم مقراً لقيادة الإنتفاضة في مدينة الحلة إذ قصفه البعثيون بالمدافع والصواريخ وأحاله إلى ركام ! قال الفقيد إنه غير آسفٍ على ما حلَّ بدارهم في الحلة لكنه حزين وآسف على ما حل بمكتبته العامرة بشتى أنواع الكتب والمصادر إذْ أُحرقت فاستحالت رماداً وركاماً .

توفي الفقيد وضاعت مني أخباره سوى شَذَرات لا تُغني ولا تنفع !

 

يمكن توجيه الاسئلة عبر الاميل الاتي

[email protected]

 

للاطلاع

حوار مفتوح مع الأديب ا. د. عدنان الظاهر

 

 

خاص بالمثقف

 

تابعنا على الفيس بوك  وفي   تويتر

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2289 الخميس 29 / 11 / 2012)

في المثقف اليوم