حوار مفتوح
المثقف في حوار مفتوح مع ماجد الغرباوي (227): قداسة الأحكام والأخلاق
خاص بالمثقف: الحلقة السابعة والعشرون بعد المئتين، من الحوار المفتوح مع ماجد الغرباوي، حيث يواصل حديثه عن الأخلاق:
مقارنة بين اتجاهين
ماجد الغرباوي: تقدم أن فرضية "متقضيات الحكمة في التشريع" تنتمي لنسق عقدي مغاير في نظرته للأحكام الشرعية. وتنتسب لفهم جديد للدين: (ليست الأحكام في الشرائع السماوية معطى نهائيا، بل أن تشريعها يجري وفقا لمتطلبات الواقع ومقتضيات الحكمة ومبادئ التشريع التي يمكن للعقل إدراكها، وتحديد فعليتها، وتوظيفها لملء منطقة الفراغ التشريعي، في إطار أخلاقي، بعيدا عن وصايا الفقهاء). وهو مضمون استفزازي، يزعزع ثوابت المدارس الفقهية عبر التاريخ، ويتقاطع مع الرأي السائد. ولا بد أن يكون كذلك من أجل رؤية جديدة للدين والإنسان. إذ طالما ارتهنت النهضة الحضارية إلى نقد النسق العقدي المتداول، وتقديم فهم جديد للدين يأخذ بنظر الاعتبار دور الإنسان في الحياة. ويمكن تلخيص الرأي التراثي والفقهي حول الأحكام الشرعية كما يلي:
أولاً: الأحكام الشرعية وحي ومعطى نهائي من الله، سابقة على نزول النص. (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ). إذ يدل فعل "أنزل" على النزول دفعة واحدة، وهو الأنسب مع نزول التوراة والإنجيل اللتين نزلتا دفعة واحدة، كما ذهب لذلك المفسرون. وهذا يكفي دليلا على سبق التشريع. بينما عبّر بالفعل "نزَّل" لنزول القرآن متفرقا حسب الحوادث والوقائع: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)، (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ). و"التنزُّل" أيضاً يأتي بمعنى النزول التدريجي. وهناك روايات تؤكد نزول القرآن دفعة واحدة في شهر رمضان، ثم نزل منجما: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ، فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ). وظاهرها كما يرى الرأي السائد سبق تشريع الأحكام قبل نزولها. ولا ينفي نزول القرآن منجما نزوله دفعة واحدة. وسبق أن طالبت بتعريف جديد لمفهوم "القرآن"، من خلال آيات الكتاب. لنعرف ما هو القرآن الذي كان محفوظا في اللوح المحفوظ، هل كل ما بين الدفتين من الكتاب الكريم، أم المقصود بالقرآن المحفوظ روحه ومبادئه وخطوطه العريضة؟. وهناك من يؤكد من المفسرين أن نزول القرآن دفعة واحدة، هو نزول روح ومعالم القرآن. أي مبادئه وقيمه، التي في ضوئها تنزل الآيات. وهو ما أكدت وما زال الحديث حوله، أن الأحكام الشرعية تشرع وفق مبادئ الحق والقيم الأخلاقية. فالأحكام كما تذهب الفرضية: "ليست معطى نهائيا"، وليست صياغتها سابقة على نزولها، بل السابق هو مبادؤها. فيبدو التعارض بينهما مستقرا. ولا يخفى ما يترتب على كلا القولين من آثار.
ثانياً: أحكام الشريعة الإسلامية تعبدية، لا تخضع للاجتهاد مادامت نصاً في مؤداها. (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ، لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)، مما يضفي قدسية، ترتفع بها الأحكام فوق التأويل والبحث عن علتها. فتبقى وظيفة شرعية ينبغي الالتزام بها، غير قابلة لمراجعة فعليتها. بل هو متعذر مع خفاء علة الحكم. بينما يمكن مراجعة الأحكام الشرعية بحثا عن تاريخا وفلسفتها ودوافع تشريعها وفقا للفرضية.
ثالثاً: الأحكام الشرعية مطلقة أزمانا وأحوالا، بعيدا عن الواقع وضروراته. و"حلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة". وقد استدلوا على إطلاق الآيات بأدلة تبحث عادة في أصول الفقه، كقرينة الحكمة. فعندما يقول أكرم الفقير ولم يخص فقيرا بعينه، فمراده مطلق الفقير، مادام القائل في مقام بيان مراده. ويسقط الواجب بإكرام أي فقير بغض النظر عن خصوصيته. بينما الحكم في الفرضية مرتهن لفعلية وعدم فعلية موضوعه. كما أن مفهوم الإطلاق هو الآخر يستدعي نقده وبيان حدوده وشرعيته، وسنعرف أن الواقع سيكون قرينة على فعليته وعدمها.
رابعاً: لا اجتهاد مقابل النص في الأحكام الشرعية. مادام النص صرحيا في مورده. تقتصر مهمتنا على تطبيقه والالتزام به، وتقتصر مهمة الفقيه على بيان مصاديقه. أو تطبيق كبرى الأحكام على مصاديقها. ولا ريب فيه، غير أن تنصيص الحكم لا يمنع من تدبره، والكشف عن دلالاته، وما هي شروطه التي يحيل فيها الحكم على قرائن ضمنية. ففرق بين الاجتهاد مقابل النص، وفهم النص بمعنى فقه النص وتدبره. والثاني متاح بل واجب الفقيه فقه النص وتدبره.
خامساً: لا طريق لمعرفة علل الأحكام، ما لم يُصرّح بها بقرينة متصلة أو منفصلة. فأحكام الإرث مثلا، تبقى ثابتة مهما تغيرت الأحوال، مادمنا نجهل علة جعل حظ الذكر مثل حظ الأنثيين. وما يقال عن المرأة وأنها مكفولة لا تحتاج للإرث كحاجة الذكر مجرد تخمين، أو حكمة من حِكَم التشريع، وإلا قد تكون العلة أبعد من هذا، فكيف نحكم بعدم فعلية الحكم لمجرد تغير الظروف الزمانية والمكانية. فلعل الشارع يريد تحديد ملكية المرأة وهامش حريتها. أو ليضمن بسقف منخفض من الإرث عدم تمردها وطاعتها لزوجها، خاصة مع وجود منطق ذكوري يحتقرها، ويسعى لتهميشها دائما. وأيضا باقي الأحكام الشرعية. لا فرق بين حكم وآخر. بيد أني بينت مفصلا في كتاب الفقيه والعقل التراثي، إمكانية اكتشاف ملاكات الأحكام. سيما مع تعذرها، واقترحت مقاصد الجعل الشرعي دليلا للكشف عن آثارها.
سادسا: يحرم مخالفة الشريعة. وأحكامها ملزمة لكل من توفرت فيه شروط التكليف: "البلوغ والعقل والقدرة على إتيان الفعل". ولا يجوز الاحتكام لغيرها. سواء كانت أحكاما تكليفية (وجوب، استحباب، حرمة، كراهية، إباحة)، أو أحكاما وضعية، لا فرق في ذلك، مادام الحكم فعليا: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ).
- (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّـهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّـهُ إِلَيْكَ).
- (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّـهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ).
- (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّـهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا).
- (وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ).
- (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ).
- (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).
- (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ).
- (أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إلى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا).
وتترتب على الإلتزام وعدم الالتزام بها أحكام جزائية، ثوابا وعقابا. دنيوية أو أخروية أو كلاهما.
سابعاً: الشريعة الإسلامية (القرآن والسنة) مصدر وحيد لتشريع الأحكام: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)، يجب الالتزام بها. ويستدلون لقولهم هذا بجميع الآيات المذكورة في المقدمة السادسة.
ثامناً: شمول الشريعة لجميع مناحي الحياة: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ)، (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ). لكن تقدم أن أحكام الشريعة محدودة لا تكفي لجميع وقائع الحياة، لذا اضطر المسلمون للاجتهاد، للتوفر على أحكام جديدة ولو بقدر الأصول العملية التي تحدد الموقف الشرعي من الحكم المشكوك. والقياس والاستحسان كلا حسب مبناه. وهي قواعد تم بناؤها لتدارك نقص الأدلة اللفظية التي هي عمدة الأدلة على تشريع الأحكام. لكن فائض الوقائع اضطرهم للأصول والقواعد العملية. ويكفي هذا دليلا على عدم شمول الشريعة، وعدم خضوعها لرغبة الفقيه. وهذا يدعونا لفهم الآيتين المتقدمة لمعرفة ما هو المراد بهما؟. لا ريب أن المراد (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ)، في خصوصه، وضمن اختصاصه، وإلا فجميع الموضوعات باستثناء موضوعات الكتاب لم تذكر فيه. (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ)، وأيضا فإن المراد بالآية تبيان ما يخص الدين من أحكام وعقائد، وليس تبيان كل ما في الحياة. ولم يكن مقصودا، وفيه مصادرة لعقل الإنسان الذي هو رهان كل شيء.
ولازم شمولها وفقا لدعوى الفقهاء، عدم جواز التشريع خارجها. ومن باب أولى عدم شرعية القوانين والأنظمة الوضعية. وهذا الشرط قد أحرج المشرعين في الدول التي اتخذت من الشريعة مصدرا وحيدا للتشريع. فاضطروا كما في إيران استبدال مادة دستورية من: "يجب مطابقة اللوائح والقوانين والأنظمة مع الشريعىة الإسلامية" إلى "عدم تعارض اللوائح والقوانين والأنظمة مع الشريعة الإسلامية". والفارق كبير جدا. وهذا مبرر دعواتنا المستمرة للموضوعية والكف عن الشعارات الرنانة، خاصة شعارات الحركات الإسلامية التي ترفع القرآن هو الحل. أو الإسلام هو الحل لشمولها جميع مناحي الحياة.
مقارنة وبيان
بهذا بات واضحا وفقا للآيات أعلاه التعارض بين فرضية مقتضيات الحكمة في التشريع والرأي المتداول عن الأحكام الشرعية الذي يستدل لرأيه بهذه الآيات وغيرها من أحاديث نبوية. وعلى الفرضية الإجابة على هذه الإشكالات كشرط لصدقها. فكيف يمكن التوفيق بين دعوى الفرضية والرأي المتداول؟. وهنا، ثمة مقدمات يتوقف عليها تحري التعارض بين فرضية "مقتضيات الحكمة في التشريع" ورأي الفقهاء، هي:
المقدمة الأولى: إن فرضية "مقتضيات الحكمة في التشريع" لا تنفي الوحي ولا تشكك في قدسية النص، وتبقى الأحكام الشرعية أحكاما إلهية بغض النظر عن طبيعة الوحي وكيفية تبليغها. ونقطة الخلاف حول فهم منطلقات ومبادئ التشريع. هل الأحكام معطى نهائي نجهل مبادئه وطريقة تشريعه، يقتصر واجبنا على التزامها وتطبيقها دون البحث عن عللها، أم أنها تجري وفق منطق الحق ومبادئ أخلاقية، تسمح بتشريع أحكاما مماثلة لها في منطقة الفراغ التشريعي؟
المقدمة الثانية: إن مفهوم القداسة تعني خصوبة النص وثرائه وعمقه وإمكانية كبيرة للتأويل للبحث في أعماقه، والكشف عن مضمراته، وما يريد قوله أو يستبعده، مادام النص وليس الوحي منتجا ثقافيا، موجها لنا ولعقولنا لمعرفة دلالاته والالتزام بتعاليمه. وأما التعبد المحض فيلغي إرادة الفرد، ويتنافى مع الاختيار الذي هو شرط مسؤولية المكلف عن أعماله. أما معنى القداسة في الرأي المتداول فتعني دوغمائية مطلقة، وجمود على حرفية النص. فالفارق في فهم معنى القداسة هو ذات الفارق بين اتجاه العبودية واتجاه خلافة الإنسان.
المقدمة الثالثة: لا يمكن استبعاد الواقع في فهم النص، ومعرفة مدى فعلية موضوع الحكم الذي ترتهن له فعليته. بل الحكم يخاطب الواقع ويضع حلولا له، لذا جاءت مجموعة كبيرة من الأحكام بعنوان: (ويسألونك ... ويستفتونك). الواقع يسأل والقرآن يجيب، حتى حذرهم القرآن من كثرة السؤال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ). فآيات الأحكام ناظرة للواقع وضروراته عند تشريعها، فكيف لا يؤخذ بنظر الاعتبار. بل ولازمه تغير الحكم بتغيّره أوبتغيّر موضوعه. ومثاله آيات القتال التي تدعو لمطاردة أهل الكتاب، فثمة خطاب سلفي يصّر على فعلية هذه الآيات حتى يوم القيامة. وبالفعل استباحت داعش والحركات الدينية المتطرفة دماء وأعراض وأموال الأقليات الدينية، كما في العراق وسوريا.
المقدمة الرابعة: نحن أيضا نؤمن أن "المورد لا يخصص الوارد"، غير أننا نرتهن فعلية النص لفعلية موضوعه، والمورد يشخص لنا شروط فعلية الموضوع، وهي نتيجة مهمة، تمثل لنا قاعدة أصولية: (ارتهان فعلية وعدم فعلية الحكم لفعلية وعدم فعلية موضوعه) يمكن بموجبها مراجعة فعلية الأحكام من خلال مراجعة فعلية الموضوعات دائما. وهذا دليل على عدم كونهامعطى نهائيا.
المقدمة الخامسة: التمييز بين القضايا الحقيقية والخارجية في موضوعات الأحكام الشرعية. الثانية تكون ناظرة لقضايا خارجية محدودة، ترتهن لها في فعليتها. ففرق بين قول القائل أكرم الفقراء، وهو يعني مطلق الفقراء، وبين قوله، أكرم هؤلاء الفقراء، فيختص الإكرام بهم دون غيرهم. الحكم الثاني، كما يقول الأصوليون مآخوذ على نحو القضية الخارجية. لا إطلاق للحكم خارجها. فآية السيف وفقا لرأي الفقهاء، ممن لا يشترط الحرابة في فعلية الحكم، مثلاً، تكون فعلية مطلقة في كل زمان ومكان: (فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ). ولازمه إطلاقها، وعدم اختصاصها بمن حارب الله ورسوله من أهل الكتاب في واقعة معينة محددة. بل يشمل جميع أهل الكتاب بلا روية ولا رحمة، وهذا هو موقف الحركات الدينية المتطرفة من الآخر المختلف دينيا. وفي هذا ظلم عظيم، لا يرتضيه الله، ويتنافى مع القيم الدينية والإنسانية، خاصة مع وجود قرائن وأدلة منفصلة على إرادة بعض أهل الكتاب. تقول الآية التي تعارض قول الفقهاء، خصوصا الفقه السلفي: (عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ، لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ). غير أن الخطاب السلفي، الممالئ للسلطة وحروبها وموقفها الصارم من المعارضة، التف على جميع آيات الرحمة والمودة والتسامح بدعوى نسخها بآية السيف. فكانت ضحية النسخ تعطيل أكثر من 60 آية (راجع كتابي: التسامح ومنابع اللاتسامح). بينما يكفي الآية المتقدمة دليلا على إرادة خصوص مجموعة من أهل الكتاب حاربوا الله ورسوله ولم يستجيبوا لنداءات السلم، بل أوغلوا بالعداء والتآمر ضد الرسالة، وهو ما تحدثت عنه الآيات كمبررات لقتالهم، فهي لم تجعل من الحرب استراتيجية وأكدت على السلم، وأمرت بالاستجابة لكل بادرة سلم، ولو كانت محتملة: (وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ). لست بصدد تبرير الحرب، وسأعود للموضوع في الوقت المناسب. غاية الأمر اتخذ من هذه الآيات دليلا على صدقية فرضية "مقتضيات الحكمة في التشريع" أن القداسة لا تعني الجمود على حرفية النص، بل مقتضى القداسة تحرير دلالات النص ومضمراته. فالقرآن يلقي بالنص لنا، وعلينا مسؤولية فهمه وعدم الاكتفاء بتفسيره، وهذا معنى قداسته. وبالتالي وهو المهم، سنكتشف من خلال تحري النص البمادئ الأخلاقية التي على أساسها تم تشريع الحكم.
المقدمة السادسة: الولاية التشريعية منحصرة بالله، ولم يجعلها لغيره بنص صريح، وما يقال عن حجية مطلق السيرة النبوية مجرد وجهات نظر وتأويلات لا تصمد أمام النقد الموضوعي. فلا دليل على حجية ما عدا الأحكام المنصوص عليها، باستثناء الأحاديث النبوية الشارحة والمبينة لها. فتقتصر حجية السنة النبوية على بيان وتفصيل ما له جذر قرآني، شريطة صحة الرواية، وهو ما نصت عليه الآيات حول وظيفة النبي: (وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً).
تأتي باقي المقدمات في الحلقة القادمة
............................
للاطلاع على حلقات:
للمشاركة في الحوار تُرسل الأسئلة على الإميل أدناه