حوار مفتوح
المثقف في حوار مفتوح مع ماجد الغرباوي (235): جدلية الواقع والتشريع في إطار الأخلاق
خاص بالمثقف: الخامسة والثلاثون بعد المئتين، من الحوار المفتوح مع ماجد الغرباوي، حيث يواصل حديثه عن الأخلاق:
جدلية الواقع والتشريع
ماجد الغرباوي: المقصود في الخطاب، حول ختم النبوة والتشريع وإمكانيته وفقا لمقتضيات الحكمة ومبادئ التشريع، هم نخبة الاختصاص، وفي مقدمتهم الفقيه. وأما عامة الناس فيطرح الموضوع كثقافة، في محاولة لزعزعة يقينيات الخطاب التراثي، الذي يغذي رهاب القداسة، والتوجس من العقل وأحكامه، خاصة عندما يوضع في خصومة مع الخالق، فتغدو أحكامه ردة وصلافة وجرأة على الله، ويكفي انطباع هذه الصورة في ذهن الناس لخلق ردة فعل من أحكامه في مقابل أحكام الشرع، التي يعمل الفقيه على توسعة نطاقها أبعد مما هو منصوص عليه قرآنيا، لتشمل أراءه الفقهية ولو إيحاء، وهو يعلم علم اليقين أنها آراء اجتهادية ورؤية بشرية غير مقدسة، وقد تختلف من فقيه إلى غيره. ولا أبالغ، حتى النخب المسكونة بالمقدس تتوجس من أحكام العقل أحيانا، وتسارع لرفض كل تفسير عقلي بحجة قدسيتها. تجد معنى في ذات القداسة لا تجده في التفسيرات العقلية لمبادئ التشريع. وبشكل أدق، إن هيمنة رهاب القداسة يدفع باتجاه التسليم والانقياد بعيدا عن العقل. وهؤلاء لا يعلمون أن رهاب القداسة لا يغير من الحقيقة شيئا. الكتب السماوية تخاطب العقل، وهو اعتراف بقدرته على إدارك حقائق الأمور ولو نسبيا تبعا لتفاوت قدرات الإنسان. بل أن اعتبار الوحي مصدر وحيد للمعرفة أيضاً لا يغير من الحقيقة شيئا، مادام العقل رهان الوحي. فثمة مفاهيم خاطئة وراء رفض أحكام العقل كمفهوم القداسة، الوحي، النص فوق العقل، عجز العقل عن إدراك المصالح والمفاسد في الأحكام الشرعية مطلقا، مفهوم التسليم في الدين، مفهوم العبودية وغيرها. مفاهيم تم التنظير لها مبكرا لترسيخ دولة الخلافة مهما كان الخليفة ظالما مستبدا، فكان نتاج سيادة هذه المفاهيم نكوص العقل، ودخوله في سبات عميق بات لا يعي ذاته إلا من خلاله، حتى فقد حريته، وضحى بإرادته. فدعوى قدرة العقل على التشريع في ضوء مقتضيات الحكمة ومبادئ التشريع في أفق الواقع وضروراته، دعوى مستفزة، بل مهولة، لا يمكن استيعابها من قبل العقل التراثي. الأحكام عندهم تستمد شرعيتها من قدسيتها، فكيف يمكن للعقل إدراك دواعيها وملاكاته؟ وقد مرَّ تفصيل الكلام حولها.
أجد أن تقديم فهم جديد للوحي سيعيد للعقل مكانته الصحيحة، ويساهم في إعادة تشكيل العقل الديني، فثمة ثلاثة أنحاء لتصوره، جميعها ليس نهائيا، قابلا للتطوير، وقد نجد فهما مغايرا يمكن من خلاله تقديم تسويات كافية بين الدين والعقل. أما وفقا لمفاهيمه المتداولة، فالعقل يتصاغر أمام الرأي الأول الذي يعتقد أن القرآن وحي، لفظا ومعنى. وكذلك ولو بشكل أفضل من يعتقد أن القرآن وحي معنى لا لفظا، فيرتهن فهم الوحي للواقع الثقافي، فيكون القرآن منتجا ثقافيا. أو أن يكون الوحي تجربة دينية. لكن لو تطور مفهوم الوحي، ليكون تجربة عقلية في أفق الخيال وفي أعماق النفس البشرية، فستحصل قفزة، في فهم التشريع وإدراك مبادئه وقضايا كثيرة مرتبطة به. ولعل التفصيل يأتي عند تناول المفهوم مستقبلا بإذنه تعالى.
جدلية الواقع والتشريع
تقدم عدم وجود ملازمة بين بعثة الأنبياء ونزول الشرائع. نضرب مثالاَ بعيسى النبي الكريم، حيث بعثه الله نبيا وأنزل معه الإنجيل، وواصل عمله بشريعة موسى: (وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ). بل وخفف من المحرمات السابقة. وهذا ما فعله النبي الكريم من بعده: (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ). والتخفيف دليل على إمكانية الاستغناء عن بعض الأحكام أو استبدال أحدهما بالآخر، وفقا لضرورات الواقع. وهذا لا يضر بمصداقية الدين، لعدم توقف صدقيته على نزول شريعة خاصة به. ليس جميع الأنبياء نزلت معهم كتب سماوية، ولا جميعهم استقل بشريعة دون غيره. الشرائع، عكسا للدين، متغيرة، تستجيب للواقع وحاجاته: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا)، رغم وحدة الأديان كمنظومة عقدية وفكرية: (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ). ويقصد بالدين رؤيته الكونية للوجود والإنسان وما بعد الموت. ومحورها وحدانية الله تعالى. والإسلام بمعنى التسليم لله. ولا خلاف بين الأديان حولها. بينما كان الواقع وراء نزول الشريعة الإسلامية، ولو أن الواقع لم يطرح أسئلته التي هي أسئلة بعضها فرضتها ظروف طارئة، وبعضها يعود للشخصية العربية التي تكثر السؤال حتى نهاهم القرآن عن الإكثار منها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ).
ولتوضيح الفكرة:
- ماذا لو استمرت الدعوة الجديدة في سلميتها ولم تنشب حروب بين المسلمين وخصومهم، هل كان ثمة ما يبرر تشريع أحكام الجهاد والقتال، ولو مجرد إجراء استباقي أو احترازي تحسبا لأي طارئ على هذا الصعيد؟ وهل سيصدق مفهوم الدين والكتاب بدونها؟
- ماذا لو لم يسأل الصحابة النبي ويستفتونه بهذه الكثرة من الأسئلة: (ويسألونك ... ويستفتونك)، هل ستتوسع دائرة التشريع؟.
- ماذا لو خلت الجزيرة العربية من العبودية والعبيد؟ فهل هناك حاجة لتشريعات تخصهم؟.
ولو قيل: مادام تشريع الأحكام يدور مدار ملاكاتها. ومادام هناك ما يبرر تشريعها، فستشرّع من قبل الله، سأل الناس أو لم يسألوا، وقعت حروب أو لم تقع، كان هناك مجتمع عبيد أو لم يكن. فلا علاقة للواقع في تشريعها، ولم تكن ناظرة له دائما، بل ثمة ما هو أبعد من ذلك، يرتبط بالله وإرادته، وهو سرّ قدسيتها.
أقول: نعم، صحيح أن الحكم يدور مدار ملاكاته من مصالح ومفاسد، قد لا يستطيع الإنسان إدراكها، وتقدمت معالجة هذا الإشكال أكثر من مرة. غير أن فعلية الحكم يرتهن للواقع وضروراته. فالكلام لا عن أصل تشريع الحكم بل عن فعليته وإبرازه بصيغة قانونية، وجعله على هذا أو ذاك من الناس أو من المكلفين كما في التعبير الفقهي. تشريع الحكم يمر بمرحلتين مرَّ بيانهما، مرحلة الثبوت التي يشخص فيها المشرع ملاكات الحكم من مصالح ومفاسد، فـ(إذا أدرك وجود مصلحة بدرجة معينة فيه تولدت إرادة لذلك الفعل بدرجة تتناسب مع المصلحة المدركة، وبعد ذلك يصوغ المولى إرادته صياغة جعلية من نوع الاعتبار، فيعتبر الفعل على ذمة المكلف، وهي مرحلة الاثبات). فيقول مثلا ولله على الناس حج البيت. لكن عندما يقول: (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)، فإن فعلية الحكم غدت مشروطة بالاستطاعة. ولا يكون الحج فعليا على هذا أو ذاك ما لم يكن مستطيعا. فالكلام عن فعلية الأحكام. فليس الكلام عن مرحلة الجعل وإنما الحديث عن مرحلة المجعول ونثبوت الحكم من خلاص صيغة قانونية.
ثم لا توجد أحكام شرعية ابتدائية فجميعها إجابة عن الواقع وحاجاته، أو تقويم لأحكام سابقة أو مقارنة مع ما جاء بالتوراة، باستثناء القيم الأخلاقية الأصيلة، كالأمر بالعدل والاحسان والرحمة: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، وغيرها من آيات. وتأكيدا لما تقدم فإن الشارع لم يشرع لقضايا مستقبلية مع علمه بحاجة الناس لها!!. بل وتركها للمسلمين يتدبرونها ويتخذون ما يلزم بشأنها. وبالفعل أمضى قوانين البيع والشراء في الأسواق، باستثناء مبادئ قليلة جدا، لتوجيه التداول الاقتصادي. وهذا يؤكد دور الواقع في تشريع الأحكام، وأنها تدور مداره نفيا واثباتا.
بهذا نفهم أن الواقع كان موجبا لتشريع الأحكام. خاصة العلاقات العامة على جميع الأصعدة: الاجتماعية والقضائية وبعض أحكام العبادات، وشؤون المرأة والعائلة وأحكام العبيد. وكلامنا عن سبب تصدي الشريعة لتشريعها، لا عن نوعها أو مقارنتها بالأحكام الوضعية. بمعنى أدق، كما أن الواقع كان وراء صدور الأحكام، كأجوبة واستفتاءات لأسئلة الناس تعبيرا عن حاجتهم لها، كذلك يتحكم الواقع بفعليتها وعدم فعليتها. فما كان فعليا آنذاك قد لا يكون كذلك، مع وجود واقع مختلف، وحاجات مغايرة. نحن إنما نفترض افتراضا لنكتشف مركزية الشرائع في الأديان السماوية. فالتشريع ليس من صميم الأديان، ويمكن التخلي عن الحكم بعد انتفاء فعلية موضوعه، تبعا لاختلاف الواقع. ويترك ملء الفراغ حينئذٍ لمقتضيات الحكمة ومبادئ التشريع في أفق الواقع وضروراته، ويستمد التشريع الجديد شرعيته من مبادئه والتزام الناس به، وهكذا يترسخ ويفرض سلطته، فتشرع إلى جانبه قوانين تحفظ هيبته، تعاقب على مخالفته وعدم الالتزام به. فيكون الفارق بين التشريعات السسماوية والتشريعات الوضعية، في نوع العقوبات، وكلاهما يقصد حماية القانون والنظام والتشريعات، سواء كانت سماوية أم وضعية.
بل إن دواعي الواقع تغني عن معرفة علة الحكم أحيانا، مادام في مقام البيان سواء كان الحكم جزئيا أم كليا. وسواء كان الواقع تمام علة تشريعه أو جزء العلة. وهو أيضا مأخوذ بنظر الاعتبار في تلك الحيثية حتى مع وجود حيثية أخرى، كما في آية المحيض التي مرَّ الحديث عنها. أو آية الأهلة: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ)، وغيرهما. فيتغير الحكم بتغير الداعي، مثالها جميع الأحكام المأخوذة على نحو القضية الخارجية، فالخارج أو الواقع هو علية فعليتها، فينتفي بانتفائها.
الشريعة وراهن المسلمين
بهذا تتضح الإجابة على سؤالين يفرضهما الواقع وتطور المجتمعات الحديثة، هما:
السؤال الأول: ماذا يمكن أن تقدم الشريعة للمجتمع الحديث؟
سيكون هذا السؤال مبررا لو كان سؤالا عن الدين باعتباره:
- عقيدة: تجيب على الأسئلة الوجودية الكبرى: الخالق، الموت، ما بعد الموت، اليوم الآخر، الخلاص، وغير ذلك.
- وشريعة: هي مجموع الأحكام الشرعية الصادرة عن الله لتنظيم حياة الإنسان، فردا وجماعة. وهي ملزمة من وجهة نظر إيمانية: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ). وتقتصر على ما ورد في الكتاب من الأحكام، وما كان له جذر قرآني، وضمنا صحته من الروايات النبوية الشارحة والمبينة. بينما تمتد الشريعة لتشمل وفقا للرأي المتداول في الأوساط الدينية سُنة النبي: قولا وفعلا وتقريرا، وامتدت عند المذهب الشيعي إلى سيرة الأئمة الأثني عشر.
- قيم أخلاقية: لضبط الأداء السلوكي وفقا لقيم أخلاقية أصيلة. وهي يقيم إنسانية، يقرها العقل قبل النقل.
- رؤية توحيدية للعالم.
- تعاليم دينية.
- معارف دينية.
فلو كان السؤال عن الدين سيكون مبررا، كأن يأتي بنفس الصيغة: (ماذا يمكن أن يقدم الدين للمجتمع الحديث؟). فحينئذٍ تتعدد الأجوبة بتعدد وجهات النظر حوله. خاصة مع تعالي مفهوم الوحي، وقدسية المعارف الدينية. فثمة من يعتقد أن الدين شامل كامل للحياة، ويعتقد أن الحل لأزمة التخلف في القرآن. وهي شعارات رفعتها حركات إسلامية راحت تبشر بعصر جديد في ظل مرجعية الكتاب المبين.
الشريعة هي جزء من الدين اختصاصها بيان الحكم الشرعي، كالسؤال عن الصلاة مثلا، هل هي واجبة أم محرمة؟ فتأتي الشريعة لتقول: (فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا). أو السؤال عن وجوب الصوم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). وهكذا باقي الموضوعات، في كل مورد يشك الإنسان في حكمه من وجهة نظر الشارع المقدس. لذا عرفوا الحكم الشرعي: (هو التشريع الصادر من الله تعالى لتنظيم حياة الإنسان)، على أساس أحد الأحكام الخمسة عندهم وهي: الوجوب، الحرمة، الاستحباب، الكراهية، والإباحة. فالشريعة لا تقدم رؤية بل تبين الحكم الشرعي في القضايا العبادية وغيرها وفقا لعدالة السماء. وأحيانا تتولى ببيان علة أو فلسفة الحكم. لذا ينشغل الفقهاء بمعالجة المسائل المستحدثة، كمسائل التأمين، البنوك، العقود الجديدة، للتأكد من عدم وجود محظور شرعي. وتخضع لوجهات النظر، وقبلياتهم الفقهية. فلا ننتظر من الشريعة أكثر من هذا. وقد عمد الفقهاء إلى بين الموقف العملي من الحكم المشكوك أو ما يسمى بالأصول العملية وفقا لعقيدتهم بشمول الشريعة.
نخلص أن تعريف الحكم الشرعي: "خطاب الله تعالى، المتعلق بأفعال المكلفين، اقتضاءً أو تخييراً أو وضعاً". أو "هو التشريع الصادر من قبل الله تعالى لتنظيم حياة الإنسان"، تعاريف خاطئة. الدين لا يحل محل العقل، ولا يحرم الإنسان من حريته وإرادته، ولا يتولى تنظيم حياته بدلا عنه. فالحكم الشرعي: "كل حكم تولت الشريعة بيانه وفقا لمقتضيات الحكمة، لضبط سلوك الإنسان". لا مطلق أفعاله ونشاطاته. والشريعة: "خصوص الأحاكم المنصوص عليها قرآنيا، ترتبت أم لم تترتب عليها آثار دنيوية".
الفقه يشكل خطرا عندما يقحم نفسه في قضايا لا علاقة لها بالدين بدعوى شمول الشريعة لجميع مناحي الحياة. المشكلة أن الفقيه يعتقد أن كل فعل إما أن يكون: واجبا أو محرما أو مستحبا أو مكروها أو مباحا. والإباحة هنا حكم شرعي. على أساس كما يذهب الأصوليون: إن (لكل واحد من الأحكام التكليفية الخمسة مبادئ تتفق مع طبيعته، فمبادئ الوجوب هي الإرادة الشديدة، ومن ورائها المصلحة البالغة درجة عالية تأبى عن الترخيص في المخالفة. ومبادئ الحرمة هي المبغوضية الشديدة، ومن ورائها المفسدة البالغة إلى درجة نفسها. والاستحباب والكراهة يتولدان عن مبادئ من نفس النوع، ولكنها أضعف درجة بنحو يسمح المولى معها بترك المستحب وبارتكاب المكروه. وأما الإباحة فهي بمعنيين، أحدهما:
الإباحة بالمعنى الأخص التي تعتبر نوعا خامسا من الأحكام التكليفية، وهي تعبر عن مساواة الفعل والترك في نظر المولى. والآخر:... والإباحة قد تنشأ عن خلو الفعل المباح من أي ملاك يدعو إلى الالزام فعلا أو تركا، وقد تنشأ عن وجود ملاك في أن يكون المكلف مطلق العنان، وملاكها على الأول لا اقتضائي، وعلى الثاني اقتضائي). (ينظر الحلقة الأولى من أصول الفقه، محمد باقر الصدر). وفقاَ لهذه الرؤية الأصولية لا يوجد فعل إلا وفي مقابله حكم شرعي، بما في ذلك منطقة الفراغ، فثمة ملاكات شرعية اقتضت أن يتساوى الفعل والترك. وهذا لا دليل عليه قرآنيا، ولازمه نفي حرية الإنسان التي هي لازم وجودي له. وبمجرد أن يبلغ سن التكليف وفقا لشروطهم يخضع للشريعة في جميع حركاته وسكناته. الفقيه يجرد الفرد من حريته التي هي أصيلة، والشريعة طارئة عليه، مرتهنة في فعليتها لفعلية موضوعاتها وشروطها. لا أتوجس من الأحكام غير أن جوهر الحكم الشرعي يختلف عن الحكم الوضعي. الأول يقوم على الحلال والحرام والثاني يقوم على الصواب والخطأ. فإذا كان المحرك في الأولى هو الله بدعوى وجود حكم صادر منه، فإن المحرك في الثانية تشخيص الصواب والخطأ، وفق رؤية واقعية. الأول يتأثر بالفقيه ورؤيته الاجتهادية فيفقد صفة الثبات. والثاني يقرره الواقع وضروراته مما يمنح الحكم / القانون ثباتا ينأى به عن وجهات النظر.
ينبغي التثقيف على محدودية الأحكام الشرعية، وعدم السماح لتمدد الفتوى أبعد مما جاء في الكتاب الكريم. ونأمل في فقيه شجاع يعلن صراحة أن الأحكام الشرعية حكمان: وجوب أو حرمة، يلحق بهما الاستحباب والكراهة. وجوابه فيما عداهما: "هذا ليس من شأن الشريعة". فلو سئل عن قضية لا داعي لأن يجيب: الأصل هو البراءة وغير ذلك من صيغ فقهية جاهزة، بل عليه أن يكون صريحا ويقول، هذا شأن بشري، لا شأن ديني وليس للشريعة حكم فيه. ولا معنى لوجود إباحة إقتضائية ولا إقتضائية. الأصل حرية الإنسان وحرية اختياره، وقد تدخلت الشريعة جزئيا بحدود ما ورد في الكتاب. بهذا الشكل يمكن تحرير الفرد من رهاب القداسة، وزرع الثقة في نفسه وعقله، ويكف عن التبعية والانقياد تحت عناوين دينية. (أَتقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)، (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ، لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ، فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ)، (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ).
السؤال الثاني: هل ينتهي دور الشريعة بمرور الأيام وتغير الواقع؟
هذا السؤال يوجه لمن يعتقد بشمول الشريعة لجميع مناحي الحياة: و"ما من واقعة إلا ولله فيها حكم". لا فرق بين الحكم الواقعي والظاهري فكلاهما بنظرهم حجة. وسبق التأكيد أن فعلية الأحكام الشرعية مرتهن بفعلية موضوعاتها.
من حيث المبدأ يمكن انتهاء الشريعة، لكن من حيث الواقع ثمة أحكام كالعبادات، لا يمكن للفقيه تقرير فعليتها وعدمها. واذا لم يبق دور للشريعة / الكتاب يبقى دور للحكمة، فيواصل المجتمع تشريع ما يود من أحكامها وفقا لمقتضياتها ومبادئ التشريع في أفق الواقع وضروراته.
يأتي في الحلقة القادمة
........................
للاطلاع على حلقات:
للمشاركة في الحوار تُرسل الأسئلة على الإميل أدناه