حوار مفتوح
المثقف في حوار مفتوح مع ماجد الغرباوي (259): سيولة الموقف الأخلاقي

خاص بالمثقف: الحلقة التاسعة والخمسون بعد المئتين، من الحوار المفتوح مع ماجد الغرباوي، حيث يواصل حديثه عن الأخلاق، ويجب على سؤال الأستاذ حسن مطر:
523: الأستاذ حسن مطر / البحرين: قد يقول قائل إن الارتهان للوازع الأخلاقي سيواجه حالة من السيولة في الموقف تجاه قضايا الواقع، إذ سيجنح تعقيل الأحكام الى الإفراط، وليس مجرد اكتشاف الملاكات ونزعها من الرؤية الفقهية التقديسية ووضعها في مقاربة أخلاقية للواقع. فالسكر كمِلاك قد يتم تقويض صورته التقليدية ونزع (آثميته) ومفاسده المعهودة وإباحته بالعقل الأخلاقي طالما لم يترتب عليه مفاسد كبيرة قياسا بـ(منافعه). فهل الاتجاه الأخلاقي بات مطلوباً الآن ليحل محل الاتجاه الفقهي الذي يعتبر نفسه أميناً للنص المقدس؟
ج523: ماجد الغرباوي: أشكر حضورك وتفاعلك الأخ الأستاذ حسن مطر. شكرا لتفاعلك وسؤالك، الذي يقع في صميم الموضوع. سأبدأ من نهاية السؤال ثم أعود للرد عليه:
(... هل الاتجاه الأخلاقي بات مطلوباً الآن ليحل محل الاتجاه الفقهي الذي يعتبر نفسه أميناً للنص المقدس؟).
سبق أن ذكرت ثلاثين مبرراً دينياً وعقلياً وأخلاقياً للعدول المرجعي، وتركت الباب مفتوحاً، فثمة اختلاف جوهري بين الاتجاهين، وثمة قناعة تراهن على الاتجاه الأخلاقي لتفادي تداعيات الاتجاه الفقهي وما نتج عنه من فتاوى وأحكام طيلة 1400 سنة، ومازال هذا الاتجاه يقود الناس فقهياً، في ضوء مقولات كلامية تعود للقرون الهجرية الأربعة الأولى، وليدة صراع سياسي محتدم حول السلطة. فكان النص خياره الوحيد. مرجعية تفي بتعهداته الأيديولوجية، وكان تهميش العقل والأخلاق مبررا منهجيا لتفادي أي تعارض محتمل بينهما وبين النص. فاستبعدَ العقل الفاعل واكتفى بالعقل الأداتي، مقتصرا على المستقلات العقلية، والقواعد المنطقية التي تخدم مهمته فيما بعد. وأما الأخلاق فقد ارتهنَ الحُسن والقُبح للشريعة والنص، بعد نفيه لذاتية الحُسن والقُبح، ونفيه لقدرة العقل على إدراكهما، خلافا للاتجاه الأخلاقي الذي أكد ذاتيتهما وقدرة العقل على إدراكهما. فالأخلاق الأصيلة عنده قيم إنسانية مشتركة، ومن مدركات العقل العملي، يمكن الاحتكام لها. ومرّ الكلام مفصلاً عن الموضوع. وعندي أن إنسانية الإنسان معيار حقيقي للمفاضلة بينهما، إضافة إلى العقل والأخلاق، بل أنهما من صميم إنسانية الإنسان فثمة رؤية كونية مختلفة حول دور الدين والإنسان في الحياة. يؤكد الاتجاه الفقهي على أولوية التشريع على الإنسان، ومستعد للتضحية به لصالح التشريع، وأحيانا يكون مصدر التشريع بشرياً لا إلهياً. فالاتجاه الأخلاقي يريد استعادة إنسانية الإنسان، من خلال ثقته بعقله وتمسكه بالقيم والفضائل الحميدة. إنسانيته التي أشارت لها الآية من طرف خفي: (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا). الإنسان بنظر الاتجاه الفقهي مخلوق للعبادة والافتتان والامتحان، يستدعي قصوره الذاتي وجود وصايا دينية وفقهية، تقوده نحو الهداية. بينما الإنسان في نظر الاتجاه الأخلاقي خليفة في الأرض أُنيطت به عمارتها، فكان خلقه رهان الله مع ملائكته. رهان على عقله وحريته وإرادته وقدرته على الإبداع. والفتوحات الحضارية اليوم شاهدة على فائق قدراته على جميع الأصعدة، لذا فالدين إرشادي وليس تكوينياً في نظر هذا الاتجاه. وأحكام الشريعة أمثلة للتشريع، يمكن للخبير الاحتذاء بها وفقا لذات منهج التشريع ومكوناته. لقد تفوق الاتجاه الأخلاقي على الاتجاه الفقهي بفهمه لدور الدين في الحياة، وما هو دور العقل، وكان قد توج تفوقه باكتشاف الجذر الأخلاقي للتشريع، وانتهى إلى نتيجة (ليست الأحكام في الشرائع السماوية معطى نهائيا، بل أن تشريعها يجري وفقا لمتطلبات الواقع ومقتضيات الحكمة ومبادئ التشريع التي يمكن للعقل إدراكها، وتحديد فعليتها، وتوظيفها لملء منطقة الفراغ التشريعي، في إطار أخلاقي، بعيدا عن وصايا الفقهاء). وبالتالي، ليس الاتجاه الأخلاقي في التشريع مجرد مزاج شخصي أو موقف أيديولوجي من الفقه، بل ضرورة عقلية ودينية وأخلاقية.
الفارق النوعي
لا يقتصر الفارق النوعي بين الاتجاهين الأخلاقي والفقهي على رؤيتهما الكونية، ونسقهما العقدي، ودور العقل والأخلاق في التشريع بل يمتد الاختلاف إلى مرجعياتهما الفكرية.
تقدم الكلام أن مرجعيات الاتجاه الأخلاقي هي: "العقل والأخلاق"، "خصوص المصرّح بها قرآنياً من الأحكام"، شريطة فعليتها، و"ما له جذر قرآني من سنُة الرسول بحدود التبليغ والبيان والتفصيل"، شريطة فعليته أيضا، كما بالنسبة للصلاة. فالنص مهما كان مقدساً لا يشكل سوى نسبة من مرجعيات الاتجاه الأخلاقي، بينما يشكل النص ثُقل التكوين المرجعي للاتجاه الفقهي المتداول. وسبق أن أشرت لمرجعيات التفكير الديني التي تشمل باطلاقها مرجعيات الفقيه: (ليست مرجعيات التفكير الديني سوى مصفوفة نصوص تتولى عملية التفكير وإنتاج المعرفة. من خلالها يفسر العقل التراثي ظواهر الأشياء، ويفرز الحق عن الباطل. خاصة الروايات الضعيفة ذات التأثير الأقوى في تزييف الوعي، وتكريس الجهل والأمية والتخلف. ولا يكفي وعي النص ظاهرا في تفكيك تلك المرجعيات وإعادة تشكيل العقل، فهو ليس مجرد نسيج لغوي، بل سلطة تستمد صدقيتها من قبليات المتلقي ومن قوة بيانه، وقدراته البلاغية والتعبيرية، وأسلوبه في توظيف المجازات داخل النسق اللغوي، وحجم الإحالات المرجعية في إيحاءاته ورمزيته وقدرته على استغفال القارئ. لذا تجد النصوص الدينية أثرى وأقدر على مقاومة النقد والتفكيك، حينما تتجدد دلالاتها مع كل مقاربة نقدية. فلا يمكن تسوية الإشكالية ما لم نفهم تقنية أداء النص، وحجم رهاناته على ثقافة الفرد وقبلياته. بهذا يتضح أهمية نقد النص ومضمراته في تسوية إشكاليات مرجعيات التفكير الديني. ولم تعد دراسة النصوص متنا وسندا كافية في زعزعة يقينيات العقل التراثي.. كتاب النص وسؤال الحقيقة، ص8).
وبالتالي وهذا ما نريده: الاتجاه الأخلاقي اتجاه عقلي، يتدبر النص، ويدرس تاريخه وفلسفته، وشروط فعليته. ويأخذ الواقع وضروراته والإنسان ومصالحه في نظر الاعتبار، له الأولوية على التشريع. وعلى هذا الأساس لا إطلاق لأي حكم، ما لم يدل الدليل بخصوصه، ولا يكفي عدم وجود القيد ومقدمات الحكمة في إطلاقه كما هو منهج استنباط الأحكام المتبع لدى الاتجاه الفقهي. فعلية الأحكام لدى الاتجاه الأخلاقي مرتهنة لملاكاتها لا لقدسيتها. لا فرق بين تشريع وآخر مادام الجذر الأخلاقي وراء تحديد مستوى الإلزام في الحكم. وليست ثمة خصوصية لأحكام الشريعة سوى سلطة النص ودقة الملاكات، وقد أجبت مفصلاً على هذين الفارقين. فترجيح الاتجاه الأخلاقي على الاتجاه الفقهي لملء الفراغ التشريعي يستمد شرعيته من رؤيته الكونية ومنهجه ومرجعياته.
الاتجاه الفقهي والنص
إن وعي المسلمين مرتهن للمقدّس، لذلك الغموض الساحر، الذي يداعب مشاعرهم، يبعث فيهم رهاب الحرية، والارتياب من العقل، والتوجس من التفكير، والاكتفاء بالانقياد والتسليم. وعي العقل التراثي للمقدس رهان الفقيه في شرعية سلطته، فهو الأمين على النص، والمسؤول عن شرحه وبيانه وفك رموزه وشفراته. وهو الوحيد المعني في استنباط الأحكام الشرعية. فَسَرَتْ قداسة النص إلى الفقه رغم بشريته، وبات الوعي الجمعي يُرادف بين الشريعة والأحكام الفقهية. الفقيه هو الناطق باسم الله. لا يحق لغيره ما يحق له. لا يمكن للعقل مهما بلغ إدراك مقاصد الأحكام وملاكاتها، فيتعبد بها الفقيه بعيدا عن العقل. لكن ما مدى صدقية هذا الكلام؟ هل النصوص المقدسة أي الأحكام الشرعية المنصوص عليها قرآنية هي مرجعية الفقيه في استنباط الأحكام الشرعية أم يتعداها لروايات الأحكام، نبوية كانت أو لا؟. وهل حقاً يستغني الفقيه عن العقل، أم يستغني عن عقله بعقول مقدسة؟.
ينبغي التأكيد أن العدول المرجعي عدول من الفقه إلى الأخلاق، لا عدول من الشريعة. فثمة اختلاف جوهري بينهما. أحكام الشريعة أحكام وحيانية، إلهية حسب الفرض لها سلطتها ودقة تشخيص ملاكاتها. بينما الفقه فهم لها، واجتهاد بشري في ضوئها، قد يُخطئ وقد يُصيب. لا يتعالى على النقد والمراجعة، يشهد لذلك اختلاف الآراء حول المسألة الواحدة في المذهب الواحد فضلا عن اختلاف المذاهب. وسيأتي الكلام عن مكونات المرجعية الفقهية لاحقاً. عملية استنباط الأحكام الشرعية عملية بشرية، مرتهنة لقبليات الفقيه، فتختلف النتائج من فقيه إلى غيره تبعاً لعقيدته، رؤيته للعالم، فهمه لدور الدين في الحياة، ورأيه بـ(حجية السُنة النبوية، العصمة، عدالة الصحابة، المباني الأصولية والفقهية والرجالية وقواعد الجرح والتعديل).
لقد جاء الفقه لتدارك قلة أحكام الشريعة مع تزايد الوقائع الحياتية التي تستدعي رأيا فقهياً، على أساس شمول الشريعة لجميع مناحي الحياة، فيتوجّب على الفقيه تدارك نقص الأحكام بالفقه من خلال أدلة تُحرز الحكم الشرعي وأخرى تحدد الوظيفة العملية اتجاه الحكم المشكوك. فالفقه كائن حي، بدأ جنيناً ثم تطور، سبقته فترة زمنية، كان الناس يسألون الصحابة، ومن ثم التابعين، والقرّاء، فكانوا يجيبون بآية أو رواية. حتى اقتصرت بعض الرسائل العملية للفقهاء، على متون الروايات، ومثالها كتاب المقنعة للشيخ المفيد، فقيه شيعي، توفي 413 هـ. وكان أبو حنيفة (وفاته 150 هـ) أحد أئمة الفقه، معروفا بآرائه الاجتهادية، وقد اعتمد ستة مصادر في عملية استنباط الأحكام، هي: (القرآن الكريم، السنة النبوية، الإجماع، القياس، الاستحسان، والعُرف والعادة) . كما يُعتبر الشافعي، محمد بن إدريس (وفاته 204 هـ) أول مؤسس لعلم أصول الفقه. وهذا لا يعني نفي مطلق الاجتهاد قبل الأول وعدم وجود من تطرق للقواعد الأصولية قبل الثاني. وهكذا علم أصول الفقه، "علم بالعناصر المشتركة في عملية استنباط الحكم الشرعي". سعى الأصوليون لتحديدها ودراستها، ليكون علم الأصول منطق الفقه. أو بمنزلة المنطق بالنسبة للفكر البشري. فهي قواعد بشرية ليست مقدسة. يمكن نقدها وتفنيدها. فلا وجود لشيء مقدّس.
ورغم بشرية الفقه وعلومه غير أنه في وعي الناس امتداد لأحكام الشريعة، حتى بات الفقه يرادفها. لا فرق بين أحكامه وأحكامها، جميعها صيغة نهائية ملزمة، يحرم مخالفتها. وهي الثغرة التي أتاحت توظيف الدين لأهداف سياسية وطائفية فكانت إسقاطاته الإيديولوجية واضحة على جملة فتاواه، سيما الموقف من الآخر، الند، المعارض. وما كان لهذا الوعي أن يواصل حضوره بهذه القوة لولا تفرّد المنهج الفقهي في تشريع الأحكام الشرعية، وعدم وجود منهج موازٍ. بل جرد الفقه الأخلاق من سلطتها، عندما اعتبر الحُسن والقُبح شرعيين لا عقليين، وحكم بعجز العقل على إدراكهما. وبالتالي لا قيمة للاتجاه الأخلاقي مهما كانت أدلته في نظر الاتجاه الفقهي – التراثي. فلم تظهر مرجعية موازية للمرجعية الفقية كمنهج في استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها، وإذا كانت ثمة اختلافات بين السلفيين وغيرهم فحول مصادر التشريع ومساحة الاجتهاد. وأنا منتبه لهذه النقطة الحساسة وتكلمت عنها مسبقاً، لذا أؤكد أن الاتجاه الأخلاقي يطرح نفسه بديلاً عن الاتجاه الفقهي وفقا لمتبنياته حول: (الحُسن والقُبح، قدرة العقل على إدراكهما، الجذر الأخلاقي للأحكام، دور العقل في التشريع. والأهم أنسنة التشريع بمعنى أخذ الإنسان ومصالحه في عملية التشريع). وجميعاً تم الاستدلال عليها بأدلة كافية. وبالتالي كما للاتجاه الفقهي منهجه ومبرراته أيضا للاتجاه الأخلاقي منهجه ومبرراته في تشريع الأنظمة والقوانين لملء الفراغ التشريعي. الأول يعتقد بشمول الشريعة لجميع وقائع الحياة، وما من واقعة إلا ولله فيها حكم. وهذا لا دليل عليه من القرآن، سوى تأويلات لا تصمد أمام النقد العلمي. ولا توجد أحكام كافية تواكب تطور الحياة. مما تسبب في التباس الإلهي بالبشري، بدعوى شمول مفهوم الشريعة لمطلق السُنة النبوية. وهذا مخالف لكتاب الله الذي حدد مهمة الرسول بالتبليغ والبيان، وبعض التفصيلات كما بالنسبة للصلاة. ثم هناك فارق جوهري بين الآية والرواية، ولو صدق أنهما بمستوى واحد من حيث حجيتهما ودرجة إلزامهما، فلماذا لم يتعهد الله بحفظها كما حفظ القرآن؟ ولماذا نهى عن تدوينها كما في جملة روايات، وهو يعلم (حسب الفرض) أنها ستزور، وسيكذب عليه بعد وفاته، كما في بعض الروايات؟. بل وقالوا بتخصيص وتقييد الرواية للآية، وهذا مردود، فربما ملاك الآية في إطلاقها وعمومها، فكيف تقيّدها الرواية أو تخصصها؟. ثم مع عجز الروايات النبوية، ألحقوا سُنة الصحابة لدى أهل السُنة، وسُنة الأئمة من أهل البيت لدى الشيعة بسُنة الرسول من حيث حجيتها وإلزامها. ورغم كل هذا لم تف مصادر التشريع بالمطلوب، فاتخذوا مصادر أخرى كالعقل، لا مطلقاً. لا باعتباره أداة معرفية، بل فيما يعرف عندهم بالمستقلات العقلية، كوجوب الشيء يستلزم وجوب مقدمته. وبالتالي فالفقه قام بتزوير الوعي عندما منح النبي ولاية تشريعية ثم توسعت لتشمل الصحابة والأئمة، علماً أن الولاية التشريعية مقتصرة على الله تعالى، ولم يجعلها لأحد إطلاقاً!!. وهذه أول مؤاخذة يسجلها الاتجاه الأخلاقي على الاتجاه الفقهي.
والنقطة الثانية: اعتبر الاتجاه الفقهي أحكام الشريعة صيغا تشريعية نهائية، مطلقة أزماناً وأحوالاً مهما طرأ على الواقع، يتعذر إدراك ملاكاتها وأسباب تشريعها، وجذرها الأخلاقي، فهي جزء من الغيب المحجوب، ينبغي الإلتزام بها تعبداً، طاعة لله تعالى، كأحكام الجهاد والمرأة والعبيد. وإذا كان هذا صادقاً على أحكام الشريعة، فلا يصدق على غيرها. فتبنى هذا الاتجاه التعبّد بدلاً من التعقّل. وجعل النص فوق العقل، وارتهن شرعية الحكم لقدسيته. بينما ارتهن الاتجاه الأخلاقي الحكم لملاكاته، بعد أن قام بتحليل الحكم واكتشاف آليته وجذره الأخلاقي، ودور العقل في تحديد ملاكاته وفقا لمقتضيات الحكمة وأفق الواقع، وذلك من خلال فرضية تم الاستدلال عليها، تقدمت الإشارة لها. وهذا اختلاف جوهري بين الاتجاهين. الثاني يشترط في فعلية الحكم الشرعي الإحاطة بتاريخه وفلسفته، لتوقف فعليته على فعلية موضوعه الذي تتوقف فعليته على فعلية جميع شروطه وقرائنه.
إن الغالبية المطلقة من أدلة الفقهاء اللفظية هي روايات نبوية، ثم أضيف لها روايات الصحابة بل وحتى التابعين عند السنة، وروايات أئمة أهل البيت عند الشيعة، ثم حصل تطور عندما غدت آراء السلف وأئمة الفقه ومن ثم آراء الفقهاء السابقين مدار البحث والحجية لدى الفقهاء!!. وهذا يؤكد أن الفقيه صار من خلال هذا المنهج يفكر بعقول تاريخية، أضفى عليها طابع القداسة، لتبرير ارتيابه بعقله تحت وطأة الخوف من العقل وأحكامه، وبعد رفضه لحاكمية الأخلاق. الفقيه يتخذ من المقدس وسيلة لتأكيد سلطته وكبح معارضيه ولو على حساب إنسانية الإنسان.
صدقية الاتجاه الأخلاقي
نعود للسؤال: (قد يقول قائل إن الارتهان للوازع الأخلاقي سيواجه حالة من السيولة في الموقف تجاه قضايا الواقع، إذ سيجنح تعقيل الأحكام الى الإفراط، وليس مجرد اكتشاف الملاكات ونزعها من الرؤية الفقهية التقديسية ووضعها في مقاربة أخلاقية للواقع. فالسكر كمِلاك قد يتم تقويض صورته التقليدية ونزع "آثميته" ومفاسده المعهودة وإباحته بالعقل الأخلاقي طالما لم يترتب عليه مفاسد كبيرة قياسا بـ"منافعه"...)
بدءاً المقصود بالأخلاق في كل مورد ذُكرتْ ضمن الاتجاه الأخلاقي في التشريع يُقصد بها الأخلاق الأصيلة وفق التقسيم الذي اعتمدته للتمييز بين الأخلاق الأصيلة والمكتسبة. الأولى مشترك إنساني، ومن مدركات العقل العملي، والثانية توافقات اجتماعية لتعزيز الأمن والسلام أو للحفاظ على مكتسبات طبقية أو دينية، فهي نسبية، تستجيب لرغبات المجتمع. فعندما يرتهن المشرّع للوازع الأخلاقي، فهو يرتهن لقيم عقلية موضوعية محايدة لا يمكن تطويعها. فالقتل مثلا ظلم من أي جهة صدر، حكمت أو لم تحكم الشريعة بذلك، فكيف يكون حكماً مزاجياً. لا توجد سيولة من هذه الناحية بل صرامة أخلاقية.
أشرت مراراً، للأخلاق ثلاث مهام في عملية التشريع عامة:
1- تحديد فعلية أحكام الشريعة المنصوص عليها قرآنياً، بعد ثبوت جذرها الأخلاقي. مادام مستوى الإلزام لمبادئ أخلاقية.
2- الأخلاق حاكمة على الأحكام الفقيهة، إذ يبقى دور لها كتطبيق كليات الشريعة على مصاديقه، والحكم وفق وحدة المناط والعلة.
3- والثالث وهو الدور الرئيس ملء منطقة الفراغ.
وبالتالي لا علاقة للمزاج في تشريع الأحكام بل وحتى تشخيص موضوعاتها، وطالما أكدت على الموضوعية في مسألة مقتضيات الحكمة التي هي ركن أساس في عملية تشريع الأحكام. ثمة ضمانات لدرء أي نزوع مزاجي أو دواعٍ أيديولوجية، لأن متطلبات التشريع ليست كالسابق، باتت تتطلب مجموعة خبرات، وتعدد المشرعين.
وأما مثال الخمر، فمرتهن لأدلة تحريمه، هل موضوع الحرمة مطلق شرب الخمر، لا فرق بين قليله أو كثيره. فيبقى مرتهناً لملاكات الحرمة. أم اجتناب الخمر مشروط بالإسكار، كما في قوله تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ). فقد يأتي الإشكال، لكن ملاكات التحريم تحددها مبادئ أخلاقية أصيلة، هي مشتركات إنسانية.
من مجموع الآيات ثمة ملاكات ودواعٍ أخلاقية أبعد مما هو ظاهر أو أبعد من الإسكار تدعو لاجتنابها:
(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ). والتفصيل في محله.
يأتي في الحلقة القادمة
.................
للاطلاع على حلقات:
للمشاركة في الحوار تُرسل الأسئلة على الإميل أدناه