حوار مفتوح
المثقف في حوار مفتوح مع ماجد الغرباوي (260): الأخلاق ودوافع التجديد
.jpg)
خاص بالمثقف: الحلقة الستون بعد المئتين، من الحوار المفتوح مع ماجد الغرباوي، حيث يواصل حديثه عن الأخلاق ويجيب على سؤال الأستاذ الحسين بوخرطة:
الأخلاق ودوافع التجديد
س524: الحسين بوخرطة -أديب وكاتب / المغرب: هل تجديد التمظهرات الدينية بخطاباتها ما هو في العمق إلا قراءات وتأويلات لتجسيد طموح الطبقات المسيطرة للحفاظ عربيا وكونيا على ديمومة نماء المصلحة وترعرعها بتفاعل مستمر مع الواقع وعلى حساب تحرره وعقلانيته؟
ج525: ماجد الغرباوي: شكراً للأخ الأديب الناقد والكاتب القدير الأستاذ الحسين بوخرطة. وشكراُ لتفاعلك المستمر مع هذه البحوث. سؤالك، كأسئلتكَ السابقة، جديرة بالاهتمام.
لا أنفي وجود دوافع أيديولوجية وراء تجديد التمظهرات الدينية، قد تكون متوارية، تظهر نتائجها على محك السلطة، وتغليب المصالح الشخصية على الأهداف الدينية. وفي نفس الوقت يتعذر إصدار حكم مطلق، فثمة دوافع نظيفة وراء تجديد الخطاب الديني، هدفها تحرير الوعي، وانتشاله من اللامعقول والخرافي، وتقديم فهمٍ جديدٍ للدين في ظل تطور العلوم الاجتماعية ومناهج البحث العلمي وقفزات الأنترنيت التي خلقت وعياً مختلفاً، أو يتآكل الدين ما لم يتجدد خطابه. الدين مصدر إلهام، وطاقة روحية، وأفق خلاص عندما يجيب على الأسئلة الوجودية الملحّة، وأمل يتجدد في حياة الناس، يبعث الطمأنينة والسلام. ويلبي حاجة الروح لله، للغيب والمطلق، مهما كانت دواعيها. وبالتالي التجديد بذاته أمر مطلوب، وباستمرار، كي يواكب الدين الحياة، ولا يكون سبباً لتخلف الأمة. تجديد الخطاب الديني، تجديد مناهج فهم النص، تجديد كتب الدراسات الدينية. والكلام حول نوايا التجديد وتنوع تمظهراته، ودور الدوافع السياسية والطائفية في تأويل النص وتقديم قراءات تخدم توجهاتهم الأيديولوجية. وبشكل أدق، يكون هدف التجديد تكريس مصالحهم، ولا يتحقق هذا إلا بتهميش الأخلاق، كونها من مقتضيات العقل العملي، ومشاعر إنسانية مطلقة يمكن الاحتكام لها. وبما أنه أمر متعذر، كان الاتجاه الأشعري هو الأقدر على تحقيق هذه المهمة، عندما نفى ذاتية الحُسن والقُبح، ونفى قدرة العقل على اكتشافهما، فيكون النص مصدرهما، فما أمرت به الشريعة فهو حسنٌ وما نهت عنه فهو قبيحٌ. والشريعة لا تقتصر على ما نص الكتاب الكريم من أحكام بل تمتد لمطلق سُنة النبي ومن ثم الصحابة، حتى وصلت أئمة المذاهب، وقد تعدتهم إلى أقوال مطلق الفقهاء أو خصوص فقهاء السلطة. وقد دأبت الحكومات قبل الأفراد على هذا، منذ بداية عصر الصحابة. وكان التأويل بدوافع أيديولوجية على أشدُه في عصر الدولة الأموية، سواء السلطة أو المعارضة. كلاهما كان مدفوعاً للتأويل تحت ضغط أيديولوجي، سببه الاستبداد والاقصاء وعدم وجود مرجعية لتسوية خلاف السلطة. وأخطرهم الاستبداد السياسي الذي كان بحاجة ماسة لشرعنة سلوكه وتصرفاته المنحرفة واحتكاره للسلطة واستئثاره بثروات الأمة، وارتكابه العنف وإقصاء المعارضة مهما كانت سلمية. حيث جعل معاوية وأعوانه ومن تلاه على سدة الخلافة من "الجبر" عقيدة تبرر سياستهم وتُسقط المسؤولية عن تصرفاتهم مهما كانت لا أخلاقية. فمادام الإنسان مجبراً، لا يؤاخذ يوم القيامة، إنما يؤاخذ الإنسان الحر، ولا حرية للإنسان في خلق أفعاله، متشهدين بعدد من الآيات. فكان أول اتجاه كلامي كرّس تأويل القرآن بدوافع سياسية - سلطوية. في مقابل معارضة الخوارج والشيعة ومن ثم "القدرية" "من القدر بمعنى القدرة لا بمعنى الجبر. أي أن الإنسان حر، قادر على خلق افعاله" التي طرحت مسألة حرية الاختيار، لتحدي الجبر. وهو اتجاه ثالث تحاشى الانزلاق في أيديولوجيا الخوارج التكفيري، والاتجاه الشيعي الإمامي. جميع هذه الاتجاهات ارتكزت إلى تأويل الآيات لتعزيز أدلتها، بدوافع أيديولوجية. لا أنفي الدوافع الدينية الخيّرة عن الجميع. وقد ساعدها مرونة النص القرآني، وقابليته للتأويل، مع وجود آيات تغذي جميع الاتجاهات. فكان التنافس محتدماً بين الفِرق الكلامية. كلٌ يستشهد بآيات الكتاب. في مقابل صراع السلطة الذي شكك بشرعية خلافة المسلمين، فكان التأويل حاضرا لتعزيز الرأسمال الرمزي لكل اتجاه سياسي مع عدم وجود مرجعية، آية أو رواية صريحة لحسم نزاع الخلافة. تأويل الآيات كان بداية المعركة الكلامية، ومازالت آثار هذا الصراع قائمة إلى يومنا هذا، كما في آيات ولاية المؤمنين، التي تراها السلطة مطلقة، شاملة لجميع المؤمنين والخلفاء القدر المتيقن، يخالفهم الشيعة المعارضة الأساسية لسلطة الخلافتين الأموية والعباسية، إذ يحصرون الولاية بالإمام علي دون غيره مستشهدين بروايات عن الرسول الكريم. فقد احتج الجبرية بآيات، كقوله تعالى: (مَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِى وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْخَٰسِرُونَ)، لتبرئة الإنسان عن مسؤولية فعله، قابلهم القدرية بآيات أخرى: (إِنَّا هَدَيْنَٰهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا). يمكن مراجعة البحوث الكلامية لتقصي الأدلة والآيات.
إن لحظة انقطاع الوحي، هي لحظة تحوّل الإسلام من دين سماوي إلى دين سياسي، من النص إلى التأويل. كان وجود الرسول يُغني عن تأويل الآيات، رغم تأثر فهم النص بقبليات المتلقي. لكن سبق أن ميّزت بين قبليات يتوقف عليها نظام فهم اللغة، وقبليات الوعي الأيديولوجي، وكلاهما أنساق مضمرة متوارية، تتطلب تأملاً طويلاً لمراجعتها ونقدها، سيما الثانية التي هي مقولات دوغمائية، تقع ضمن اللامفكر فيه أو الممتنع التفكير فيه، تشمل العقائد على اختلاف توجهاتها، وما يترشح عنها من مقولات ثانوية. فمَن يؤمن بوحيانية القرآن يفهم آياته بشكل مغاير لمن يشكك في مصدره، لذا تقدم هناك اختلاف في حدود التفكير بين القارئ الحر والباحث الإسلامي، كمثال للباحث المؤدلج. الثاني محدود بسقفه الأيديولوجي، لا يتعداه، والأول يتمتع بهامش حرية لا تحده حدود. ينقّب في أعماق النص، ويقرأ ما وراء الخطاب، يتعامل مع الآيات كنص، بعيدا عن قدسيته. فكان فهم الآيات بعد مرحلة الوحي تخضع لقبليات المتلقي التي تختلف من فرد إلى غيره، وإذا كان ثمة اتفاق في فهم النص فمرجعه وحدة البيئة الثقافية وهذا أمر مفهوم بشكل عام. والسؤال: ما هي حدود التأويل في ظل صراع السلطة بين الصحابة؟. ذلك الصراع الذي وصفه الشهرستاني في كتابه الملل والنحل، ص24: (... وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة، إذ ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الإمامة في كل زمان). حيث انقسم المسلمون إلى شيعة يعتقدون أن الإمامة نص وتعيين، وقد نص الله بواسطة رسوله الكريم على أئمة أهل البيت بأسمائهم، ومفهومه عدم شرعية خلافة الخلفاء. فكما النص يشرعن خلافة أهل البيت يسلب شرعية الخلفاء الثلاثة الأوائل. فالنص مصدر شرعية السلطة وليس الشورى أو الشعب، هذا ما يؤمن به الفكر السياسي الشيعي، وعلى أساسه، تم شرعنة ولاية الفقيه راهناً. فهو نائب للإمام بالنيابة العامة، عن الإمام المعصوم صاحب السلطة الشرعية. والإمام هنا الإمام المهدي الغائب المنتظر. في مقابل من يعتقد أن الإمامة شورى بين المسلمين، ولا دليل على تنصيب الرسول للإمام علي. هدأت الأمور بمبايعة علي وبني هاشم للخليفة الأول، غير أن الكلام الذي صدح به علي بن أبي طالب إبان معارضته لخلافة أبي بكر وما طرحه من حجج دليلاً على أحقيته، اختزنتها ذاكرة أهل بيته وأصحابه ومريديه، وراحت تتفاقم مع كل حدث جديد كإقصاء علي من الخلافة بشورى عمر بن الخطاب، ثم مقتله، ومن بعده الحسن، واستشهاد الإمام الحسين، وما تعرّض له الشيعة من إقصاء وملاحقة من قبل السلطة، كل هذا وغيره صار يتحين الفرص ليعلن عن نفسه على شكل ثورات وانتفاضات ورفض وتمرد، استمرت، ومازال الصراع قائماً، لم تنفع معه مشاريع التقريب ومؤتمرات الوحدة الإسلامية سوى إجراءات شكلية، فثمة صلابة عقدية في مواقف الجميع، يعتبر معها التنازل خيانة للمبادئ والقيم التي عاهد الله عليها. فيقتصر موقفه على الدفاع عن مقولاته الكلامية ومتبنياته العقدية مع تسامح شكلي لأجل استتباب الأمن والظهور بمظهر الوحدة. إن الموقف المبدئي هو الموقف الذي يرتكز لمبادئ وقيم إنسانية وأخلاقية أصيلة، وليس المبدأ ما ترسمه المصالح السياسية والطائفية، فنعود ثانية للأخلاق وحاكميتها على الموقف السياسي، عندما تكون أي الأخلاق قيمة إنسانية، من مدركات العقل العملي الذي لا يختلف حوله الناس. وبالتالي كان صراع السلطة صراعا أيديولوجيا، وكان هدف التأويل يسير في نفس الاتجاه.
ولم ينأَ الجانب العلمي والعقدي عن صراع السلطة بل تأثر به، بدءاً بعلم الكلام القديم الذي تأسس دفاعاً عن العقيدة الإسلامية ورد شبهات أهل الكتاب وغيرهم، ثم انشغل بصراع السلطة، انتصاراً للخلافة أو تعزيزاً لموقف المعارضة. وهنا بالذات بدأت مرحلة تأويل النصوص، استجابة للجدل القائم بين الفِرق والمذاهب حول شرعية الخلافة، الذي تطلب استدعاء لحظة الخلافة، لتحري شرعية خلافة الخلافاء من جديد في ظل منهج النقد الكلامي. وأيضاً بمنأى عن الأخلاق الأصيلة، فكانت الأيديولوجيا تفرض سطلتها على التأويل، وما علم الكلام القديم سوى علم أيديولوجي هدفه الانتصار لعقائد الفِرق والمذاهب. وبشكل عام، مهمة علم الكلام القديم مهمة أيديولوجية، غايته إفحام الخصم ونقض حججه. هدفه الأساس الانتصار على خصمه. وهو قياس، يعتمد مسلمات ومشهورات يلتزم بها الخصم، سواء كانت حقا أم باطلا. وظيفته الدفاع عن المقولات الدينية، ورد الشبهات، مما يستدعي تأويل النصوص القرآنية، لتعزيز ثقة الفرد بعقيدته، وتكون حجة على خصمه. فالأيدولوجيا أو المصالح السياسية والطائفية كانت وراء مجموعة من المقولات الكلامية. وبالتالي فالصراع السياسي في بدايته لم يقم على أي دليل، بل تأسست العلوم فيما بعد، سيما علم الكلام القديم عليه، فانقسام العلماء حول المسألة الواحدة تعبير عن تقاطع الاتجاهات السياسية، وقد طال الفقه واللغة وأصول الفقه والكلام والتفسير وحتى الأخلاق. فمع كل تطور علمي أو تجديد ديني بجميع تمظهراتها تجد الأيديولوجيا رائدته.
ربما الحركات الإسلامية أكثر مصداقا لظاهرة توظيف الدين لأهداف سياسية، حيث ترفع شعارات دينية لتبرير نشاطها السياسي، فارتكبت أعمالا إرهابية، زهقت الأرواح، وهدرت الثروات، وأطاحت بقيم الدين. ولو كان هدفها الدين ونشر رسالة الإسلام وقيم السماء، لكان التسامح وعدم الانجرار للعنف استراتيجية لديها. وسبق للمسلمين رفع شعارات دينية لتبرير نشاطهم السياسي، كما فعل التوابون بعد مقتل الإمام الحسين، حيث رفعوا شعار "يا لثارات الحسين"، وكان هدفهم السلطة. وأيضا رفعت الدولة العباسية في بداية نشاطها السياسي شعار "الرضا لآل محمد". ورفع الأخوان المسلمين شعار "الحل في الإسلام"، "الحل في القرآن". ومازال التزوير ينطلي علينا، تسحرنا شعاراته البراقة، لا نفقه من حقيقتها سوى ما يطرب مشاعرنا، ويبعث في نفوسنا الأمل، وأما الواقع فهو سلب إرادة الإنسان ومصادرة حقوقه. لا فرق بين حاكم وآخر، ولا ميزة لجماعة دون غيرها. بما فيهم الإسلاميون.
أعود من حيث بدأت لأقول: لا أنفي وجود دوافع إيديولوجية وراء تجديد التمظهرات الدينية، وفي نفس الوقت يتعذر إصدار أحكام مطلقة، فثمة دوافع نظيفة وراء تجديد الخطاب الديني، هدفها تحرير الوعي الديني، وهناك دوافع أيديولوجية هدفها تكريس السلطة واحتكار الحقيقة. ومازال التستر بالدين ورفع شعارات دينية وسيلة لتكريس السلطة واحتكار الحقيقة. ويبقى دور الأخلاق حاسماً ما لم تهمش أو تكون تابعة لاجتهادات شخصية، تكرّس روح الاستبداد والتبعية والانقياد، بدوافع سلطوية أو طائفية.
يأتي في الحلقة القادمة
.................
للاطلاع على حلقات:
للمشاركة في الحوار تُرسل الأسئلة على الإميل أدناه