حوار مفتوح

المثقف في حوار مفتوح مع ماجد الغرباوي (264): الأخلاق والفقه المقاصدي

خاص بالمثقف: الحلقة الرابعة والستون بعد المئتين، من الحوار المفتوح مع ماجد الغرباوي، حيث يواصل حديثه عن الأخلاق:

الأخلاق والفقه المقاصدي

ا. مراد غريبي، باحث وكاتب / الجزائر: تحية وتقدير لأستاذنا المجدد ماجد الغرباوي ومع كل حلقة يفتح وعينا على البؤر السوداء التي تحجب نور القيم في استيعابنا للقيم الكونية المنيرة في وعي روح الدين الحضارية والإنسانية من خلال مقاربة المنظومة الأخلاقية، هناك عدة إشكاليات لابد من طرحها على الأستاذ الغرباوي، حول موضوع شمول الشريعة:

س525: هل شمول الشريعة هو تحديد لآفاق المقاصد عبر اختزال الوحي في الشرع الناتج من اختزالات السُنة عبر التاريخ لدى الفقهاء كما يرى العروي في كتابه السُنة والإصلاح، أم هو ترسيخ للمنطق التقليدي في وعي الدين عبر تسطيح مبحث المقاصد؟

ج525: ماجد الغرباوي: أرحب بالأستاذ الباحث القدير مراد غريبي. سعيد بتفاعلك مع البحث. وأسعد بطرح أسئلة مهمة تدور حول ذات الموضوع.

بدءا أؤكد أن الاتجاه العقلي الأخلاقي في فهم الشريعة ينفي شمولها لجميع وقائع الحياة، واستدل على نفيها بأدلة مرَّ استعراضها، منها: أن الشريعة ليست مصدرا وحيدا لجميع ما ورد في الكتاب الكريم من أحكام كي تكون شاملة لجميع مناحي الحياة، فكما هناك أحكام مصدرها خصوص الشريعة، ثمة أحكام مصدرها أخلاقي، وهي جميع الأحكام الأخلاقية في القرآن، التي هي أحكام إرشادية، ترشد إلى حكم عقلي. إضافة إلى جملة أحكام مهمة مصدرها الحكمة وليست الشريعة. وهي غير الكتاب. وأضيف أن بعض أحكام الشريعة إمضاء لأحكام شرائع سابقة أو عدول عنها: (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ). أو إمضاء لما تعارف عليه العرف، كما بالنسبة لبعض أحكام الحج: (ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ). وطالما أكدت أن فعلية أي حكم تتوقف على فعلية موضوعه. وتكاد تكون المواضيع الثابتة قليلة، بفعل المتغيرات الزمانية والمكانية وتطور الحياة وخبرات الناس ووعيهم ومختلف ظروفهم، وقد أيدت آية (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا)، ضمناً هذا المعنى. أو لا مبرر لتعدد الشرائع والمنهاجات مع ثبات الموضوعات. وبالتالي فإن فعلية أحكام الشريعة تتراجع استجابة للواقع وضروراته. لا أقول جميعها. وليس المهم عددها. المهم صحة هذه المقدمة من خلال الآية المتقدمة وغيرها من آيات يمكن الاستدلال بها، ضمناً أو التزاماً، كقوله: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ). والحرج كما يتولد من الموضوع تفرضه الظروف الاجتماعية. نعم لا خلود للأحكام بل الخلود لقيم الدين، وقيم تشريع الأحكام. والتشريع عملية منهجية تقوم على مبادئ وخطوات، وليست عملية ميتافيزيقية يتعذر اكتشافها كما هو المتداول في أوساط الدراسات الدينية، وكل هذا مرَّ بيانه. فلا دليل على شمول الشريعة قرآنياً، غير أنهم تمسكوا بحجية مطلق سيرة النبي: (ما سنّه وما فعله وما قرره). وأوّلوا بعض الآيات واستدلالوا بروايات واجتهادات شخصية بعد توسعة مفهوم الشريعة ليشمل أقوال الأئمة عند الشيعة والصحابة عند السنة، وبات مفهوم الشريعة اليوم يرادف أقوال الفقهاء. وعليه فهذا الاتجاه  يدّعي أن لكل واقعة في الحياة حكما شرعيا، مصرّح به أو ضمناً عبر الاجتهاد في ضوء نص. لكن الحقيقة أن أغلب الأحكام أو جميعها إلا ما نُصَّ عليه، هي أحكام فقيه مرَّ الكلام حولها مفصّلاً.

والحكم وفقا لهذا الاتجاه له وجود مسبق، يتعذر اكتشاف علته، وما يبدو علة، قد يكون مجرد حكمة وليست علة حقيقية لتشريعه. وبالتالي، فأحكام الشريعة مطلقة أزماناً وأحوالاً. لا تتوقف فعليتها على فعلية موضوعاتها. وعندما تكون ملاكات الأحكام مجهولة لنا فلا معنى للاتجاه المقاصدي. بمعنى تشريع الأحكام وفق مقاصد محددة، يمكن أن تكون علة لتشريع مثيلاتها فيكون للعقل دور في التشريع. وهذا النوع من الفهم المقاصدي لا يقصده فقهاء المقاصد كالشاطبي والطاهر ابن عاشور وغيرهما. بل يقصدون أن الأحكام شُرعت وفق مقاصد خمسة، بعيدا عن العقل وأحكامه، فهناك تقاطع بين الاتجاهين في البعد النظري للتشريع، الأول ينفي قدرة الإنسان على اكتشاف ملاكات الأحكام، ويقصر دوره على الطاعة والانقياد للحكم في كل زمان ومكان. والثاني، الفقه المقاصدي، لا ينفي شمول الشريعة، وأغلب فقهائه أشاعرة يعتقدون بالحُسن والقُبح الشرعيان. وقد جاء عن الشاطبي في [الموافقات: 1/31]: (أن الشريعة الإسلامية وضِعت للمحافظة على الضروريات الخمس، هي: الدين والنفس والنسل والمال والعقل، وعلمها عند الأمة كالضروري). وقد استشهدوا لذلك بأدلة، كقوله: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ)، لتأكيد المنحى المقاصدي في الخلق والتشريع. فليس هناك محض تعبد، حتى لو كان للأحكام الشرعية وجود غيبي مسبق، فهي قد شُرعت وفق مقاصد يمكننا استقراءها. وهو نوع من تبرير التشريع ليس أكثر.

لا يُنكر أن الفقه المقاصدي كشف عن بعض مقاصد مهمة تقع ضمن اهتمام الدين. غير أنه  لم يخطُ خطوة حقيقية مادام العقل في منآى عن التشريع. كان ينبغي تطوير هذا المنحى ليأخذ العقل دوره، وتكون الأخلاق مبدأ  للأحكام الشرعية. وهذا ليس تسطيحاً للاتجاه المقاصدي، بل حقيقته، وفقاً للاتجاه الأخلاقي في التشريع، الذي نتبناه. فهذا المنحى الفقهي، لا يقف على حدود الشريعة بل يمنح الأحكام الفقهية جرعة لديمومتها بعد تبرير تشريعها وبيان حكمتها وفقا لتصوره. وأما العقل فمازال محاصراً، وما زال الفقيه يرتابه. فلم يتحقق تقدم على صعيد المنهج، باستثناء جملة كتابات متأخرة تسعى لمنح العقل دورا محدودا في تشريع الأحكام وفقاً لمقاصد الشريعة، لذا اسميه الاتجاه المقاصدي للتمييز بينه وبين الفقه المقاصدي المنسوب للشاطبي. فالفقه المقاصدي فقه تبريري أو تبجيلي، يكشف عن جانب الحكمة في الحكم الشرعي. لا يؤسس لدور العقل في التشريع بل يبرر تشريع الأحكام.

وأما الاتجاه الأخلاقي فيقتصر الحكم الشرعي على ما ورد نصاً في الكتاب الكريم، وما كان له جذر قرآني من السنة النبوية. ويمنح العقل صلاحية ملء الفراغ التشريعي وفقاً لقيم الدين والإنسان والأخلاق. هذه المقدمة كانت ضرورية للفت الأنظار للاتجاه الأخلاقي الذي نؤسس له، والذي له رؤيته الكونية ومبادئه ومنهجه. ويؤكد: (ليست الأحكام في الشرائع السماوية معطى نهائيا، بل أن تشريعها يجري وفقا لمتطلبات الواقع ومقتضيات الحكمة ومبادئ التشريع التي يمكن للعقل إدراكها، وتحديد فعليتها، وتوظيفها لملء منطقة الفراغ التشريعي، في إطار أخلاقي، بعيدا عن وصايا الفقهاء).

وبالتالي يصدق أن (شمول الشريعة هو تحديد لآفاق المقاصد عبر اختزال الوحي في الشرع الناتج من اختزالات السنة عبر التاريخ لدى الفقهاء كما يرى العروي في كتابه السنة والإصلاح). بمعنى أدق، أن الاتجاه المقاصدي يسمح بشمول الشريعة بحدود مقاصدها، فيكون شرطا في شمول الشريعة بمفهومه الفقهي الأعم من مفهومها القرآني. بل يصدق أيضا أن الشمول بهذه السعة التي اضطرت الفقهاء التشبث بكل وسيلة لتوسعة مفهوم الشريعة هي (ترسيخ للمنطق التقليدي في وعي الدين عبر تسطيح مبحث المقاصد). فمادام لكل واقعة حكم فقهي، فلا خيار أمام المكلّف سوى تقليد الفقيه. فهو إقصاء غير مباشر للعقل، وسلب الفرد إرادته وحريته. ليبقى دوره الانقياد والتبعية للفقيه وآرائه الفقية، التي بدورها تفرض نسقها العقدي على المكلّف. إن قمع العقل يجنّب الفقيه المساءلة، وتهميش الأخلاق يكرّس سلطته، ويمنحه قدسية تستوجب طاعته والانقياد لأوامره. لا سبيل لتكريس سلطة الفقيه، ومنحة قداسة وقدسية رفيعة، سوى تهميش العقل، وتكريس التعبد منهجاً في التقليد.

س526: ا. مراد غريبي: كيف يكون شمول الأخلاق ضمن المنظومة الفقهية الأخلاقية أو منتجات الإجتهاد المقاصدي؟

ج526: ماجد الغرباوي: بدءاً أنبّه لبيان حدود المفاهيم، أن "الاتجاه الأخلاقي في التشريع" الذي أسعى لتأصيله نظرياً، يختلف عن الفقه والاتجاه المقاصديين اللذين نوهت عنهما سلفاً. الاجتهاد المقاصدي لا يمنح العقل دورا في التشريع، باستثناء بيان مقاصده وفقاً لاستقراء عقلي. ويبقى النص (القرآن والسُنة) لديهم المصدر الأساس للتشريع، كما أن أحكام الشريعة عندهم مطلقة أزماناً وأحوالاً. حتى من يؤمن بالحُسن والقُبح العقليين، فهو يقتصر عليهما، كحرمة الظلم، على أساس ما حكم به العقل حكم به الشرع. العقل عند هذا الاتجاه عاجز عن اكتشاف علل وملاكات الأحكام. وعاجز عن معرفة أسباب تشريع الحكم المنافي لحكم العقل. فثمة موانع خفية وعلل مستترة وملاكات مجهولة، تقتضى أن تكون الشريعة وليس العقل من يحدد القيمة الأخلاقية. فسبب تهميش العقل قصوره وعجزه عن اكتشاف العلل الخفية، فكيف يكون مصدرا للتشريع؟. وهذا مفاد الاتجاه الأشعري. وقد تمت مناقشته وبيان ضعفه من خلال أدلة كافية فلا نعيد. وكدليل على صدق مفهوم التجديد على الفقه المقاصدي، بل والاتجاه المقاصدي عموماً، تجاهله لمقاصد إنسانية تقع في صميم المقاصد الدينية والإلهية، كالكرامة الإنسانية المنصوص عليها قرآنيا (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ)، وعدم اعتراضه على الفتاوى والأحكام الفقهية التي تهدرها. وكذا حرية الإنسان. وتكريسه، أي الفقه المقاصدي،  لفقه العبيد والإماء، والفقه السلطاني، والفقه المتطرف وغيرها مما يتعارض مع ذات المقاصد التي اعتبروها ضرورات: الدين والنفس والنسل والمال والعقل. كل ما أراد الاتجاه المقاصدي هو ثمة مقاصد وحكمة وراء تشريع الأحكام. ويبقى السؤال: مهما كان نوع الحكم والملاك ألا يمكن إدراكها وإعادة النظر في فعلية جملة من الأحكام الشرعية، كأحكام المرأة والعبيد والموقف الشرعي من الآخر؟.

الاتجاه الأخلاقي في التشريع اتجاه عقلي، يمنح العقل دوراً واسعاً على أساس القيم الأخلاقية التي هي من مدركات العقل العملي. فهو اتجاه معتزلي لا أشعري من هذه الناحية. الحُسن والقُبح عنده عقليان. والعقل قادر على اكتشافهما، بعيدا عن الشريعة وأحكامها. فالظلم قبيح عقلا حكمت أو لم تحكم الشريعة بذلك. وحكم العقل سابق عليها. ويؤمن هذا الاتجاه أن جميع الأحكام الأخلاقية في الكتاب هي أحكام إرشادية لحكم العقل العملي، كشفت عنها الآيات أو أقرتها. كما أن التشريع عنده يجري وفقاً لمقتضيات الحكمة في أفق الواقع وضروراته، وفي إطار القيم الأخلاقية، ومبادئ التشريع التي يرتكز لها العقل في تحديد مستوى الإلزام في الأحكام الشرعية. بهذا الشكل يتأكد أن وراء الأحكام ملاكات ومصالح يجرى تحديد مستوى الإلزام فيها وفق مبادئ أخلاقية في أفق الواقع، فيلعب العقل دورا أساساً بعد اكتشاف الجذر الأخلاقي للأحكام الشرعية. ويمكن إيجاز مهام العقل ضمن الاتجاه الأخلاقي في التشريع، هي:

- للعقل دور في تحديد فعلية الأحكام الشرعية، الأحكام المنصوص عليها قرآنيا حصراً، وفق قاعدة: توقف فعلية الحكم على فعلية موضوعه. أو من خلال ملاكات الجعل.

- للعقل إلى جانب الأخلاق دور في ملء الفراغ التشريعي. فمصدر التشريع في منطقة الفراغ التي بدأت بختم النبوة، هو العقل وفقاً لمقتضيات الحكمة وإرتكازاً لقيم الدين ومبادئ التشريع والقيم الأخلاقية في أفق الواقع وضروراته.

س527: ا. مراد غريبي: هل من مقاصد تجديد النظر في المنظومة الفقهية هو تسريع مخاض ميلاد مدونة قيم أخلاقية كونية تسهم في تطوير حقل مقاصد الأحكام؟ أم ماذا؟

ج527: ماجد الغرباوي: إن مبادئ التشريع التي طالما أكدت عليها واعتبرتها ركناً أساساً في تشريع الحكم الشرعي، عليها تقع مسؤولية تحديد مستوى إلزام الحكم، هي مبادئ إنسانية عقلائية شاملة. بطبيعتها قيم أخلاقية كونية. وقد حددتها بـ(مركزية العدالة وعدم الظلم، السعة والرحمة، المساواة). الأخلاق تنقسم إلى ثلاث فئات:

- قيم أخلاقية أصيلة، مشتركة، نابعة من أعماق الفطرة والروح الإنسانية النقية، كالعدل وعدم الظلم والمساواة والرحمة. وهي قيم ثابتة وشاملة، مطلقة لا نسبية، حاكمة على الأدلة الأولية في عملية استنباط الأحكام، سواء كان التشريع إلهياً أم وضعياً. لذا أكدت مراراً أن عملية ملء الفراغ التشريعي بعيداً عن الفقه، عملية منضبطة جداً في إطار القيم الأخلاقية التي هي قيم حاكمة كما بينت ذلك بعدة أدلة.

- قيم عقلائية مكتسبة. وهي تواطؤات اجتماعية، لا تتعارض مع القيم الأخلاقية الأصيلة، مهمتها تعزيز الروح الإنسانية وضمان الأمن والسلام. يمكن أن تؤخذ بنظر الاعتبار في عملية ملء الفراغ التشريعي، رغم نسبيتها وعدم أصالتها.

- القيم المكتسبة التي تفرضها مصالح أيديولوجية واجتماعية واقتصادية وسياسية، فهي قيم نسبية، تقع خارج عملية التشريع.

وبالتالي فالقيم الأخلاقية العالمية والإنسانية المطلقة موجودة ومعترف بها، وما ينقصنا هو الالتزام بها. كيف نفعّل الالتزام بها؟ وكيف نلزم المشرع بها؟

يأتي في الحلقة القادمة

.................

للاطلاع على حلقات:

حوار مفتوح مع ماجد الغرباوي

للمشاركة في الحوار تُرسل الأسئلة على الإميل أدناه

[email protected]

 

في المثقف اليوم