اخترنا لكم

مرض في الحضارة

يتناسي أنه شكل أصولية أخري لا تقل خطورة عن أصولية التزمت إن لم تزد: هي الأصولية المادية الإلحادية الجشعة التي لا تشبع، وهكذا انتقل من النقيض إلي النقيض، ومن تطرف إلي تطرف آخر فبعد أن تحرر من القيم الأخلاقية السابقة ومن الروحانية المسيحية الضابطة وأطلق لغرائزه الشهوانية والاباحية العنان لم يعد يعرف أن يتوقف عند حد، انظر تمجيده للشذوذ الجنسي واعتباره مفخرة ما بعدها مفخرة! بعد أن أصبح إلهه الوحيد هو عجل من ذهب، أي المال وتراكم رأس المال إلي ما لا نهاية، ابتدأت المشاكل، بعد أن أصبحت الأنانية الفردية ديدنه ومعبوده فسدت الأشياء، وكان أن نتج عن ذلك مرضان كبيران ينخران في جسد العالم حاليا، الأول هو مرض الايدز الجنسي الذي يقتل عشرات الملايين سنويا، وهو يثير جواً من الرعب لا يقل خطورة عن ذلك الجو الذي أشاعه مرض السفلس أو الزهري في القرن التاسع عشر. والثاني هو الأزمة المصرفية العالمية التي هزت العالم مؤخراً ولا تزال والتي تهدد بالفقر والجوع مئات الملايين الإضافيين.

 

وبالتالي فليكف الغرب عن اتهام الأصولية الإسلامية واعتبارها المشكلة الوحيدة أو حتي الشر المطلق، وليكنس أمام بيته هو الآخر أيضا، فأصوليته الشهوانية هي الشر الأكبر الذي يعاني منه العالم حالياً، وقد أصبح قادة الغرب يعترفون بذلك بدءاً من الرئيس أوباما الذي يدعو إلي ضبط جماح الرأسمالية وجعلها أخلاقية وانتهاء ببابا روما الذي يدعو إلي الاعتدال في حياة الاستهلاك والامتلاك والشهوات الحسية.

 

السؤال المطروح الآن هو التالي: أين ذهبت كل هذه المليارات التي تبخرت بطرفة عين؟ أحد المسؤولين الكبار يقول لنا إن العرب خسروا ألفين وخمسمائة مليار دولار. الأمير الوليد بن طلال وحده خسر ثمانية مليارات دولار أي ثلث ثروته، الشيخ سعد الحريري في لبنان خسر حوالي الملياري دولار أي أكثر من نصف ثروته، وهلم جرا، في أي بالوعة غرقت أموالهم؟ من سرقها؟

 

أليس لصوص الرأسمالية العالمية الكبار هم المسؤولون عن أكبر عملية سرقة في التاريخ، قيل لنا إنهم ابتدؤوا يحاسبونهم أو يقبضون علي بعضهم هنا أو هناك، وهذا شيء جيد، ولكن المشكلة هي أن النظام في أساسه مريض وتنبغي معالجته من جذوره لكيلا تتكرر الجريمة مرة أخري، ينبغي الاعتراف بأن الحضارة الغربية تعاني هي الأخري أيضا من مرض عضال وليس فقط العالم العربي أو الاسلامي، صحيح أن نوعية المرض مختلفة في كلتا الجهتين ولكن هناك مرض، لا أعتقد أن أحدا حاول تفكيك أمراض العالم العربي أكثر مني وهاجم الأصولية الظلامية والانغلاقات التاريخية والجمود الفكري واللاهوتي أكثر مني، ولهذا السبب فإنه يحق لي أيضا أن أفكك انغلاقات الغرب وأمراضه الحضرية صحيح أنها من نوع مختلف عن مرضنا نحن ولكنها لا تقل خطورة باعتراف المفكرين الأحرار في الغرب ذاته.

 

فمثلا من نتائج الأزمة المصرفية الأخيرة ان أهداف الأمم المتحدة للألفية الثالثة لن تتحقق. ومعلوم أنها تهدف الي تنمية بلدان الجنوب الفقيرة ومساعدتها. ومن بينها تخفيض نسبة الجوع في العالم الي النصف من الآن وحتي عام 2015 . ولكن ذلك لن يتحقق بسبب الأزمة. فعدد الجوعي سيزداد بدلاً من أن ينقص.

 

ويقول لنا بعض المسؤولين المطلعين إن ستين بالمائة من مشاريع التنمية في العالم العربي قد أرجئت أو ألغيت بكل بساطة. وكل هذا بسبب المليارات التي تبخرت من الصناديق والميزانيات والبنوك. وبحسب تقديرات البنك الدولي فإن الأزمة زادت من عدد الفقراء المدقعين أي الذين يعيشون علي أقل من دولارين في اليوم.

 

من المعلوم ان عددهم في العالم كان 860 مليوناً قبل الأزمة. ولكنهم زادوا بعدها بنسبة 130 مليوناً عام 2008 و 53 مليوناً عام 2009 . وكما قلنا فإن خطة الألفية الثالثة لتنمية دول الجنوب قد ضربت ولن تتحقق من الآن وحتي عام 2015 كما كانت تأمل الأمم المتحدة.

 

ويقول لنا مقرر الأمم المتحدة لشؤون التغذية في العالم البروفيسور السويسري الشهير جان زيغلير إن الجوع يسبب الآن أكبر هولوكوست في التاريخ! خمسة وعشرون ألف شخص يموتون يومياً من الجوع.

 

وكل خمس ثوان يموت طفل من الجوع. ومعظمهم في أفريقيا وآسيا والصومال وبنغلاديش الخ. انها مجزرة حقيقية، اكبر محرقة في العالم. ولا احد يتحرك والعالم الغربي الرأسمالي مكتظ بالثروات الفاحشة.

 

 فأين هي الحضارة اذن؟ أين هي القيم الانسانية التي تتبجح بها حضارة الغرب؟ وهل يمكن ان نتحدث عن وجود حضارة وكل هؤلاء البشر يتساقطون من الجوع امام أعيننا يومياً؟

 

 ألم تحصل خيانة للتنوير وفلسفة النزعة الانسانية، فلسفة جان جاك روسو وكانط وبقية الكبار؟ هذا ناهيك عن خيانة تعاليم الإنجيل والقرآن الكريم وكل القيم العليا التي تحض علي الاهتمام بذوي القربي واليتامي والمساكين وابن السبيل وكل المحرومين المهانين في انسانيتهم وفي أعماق أعماقهم.

 

ويقول لنا مقرر الأمم المتحدة إن كل شخص يموت من الجوع في العالم هو شخص مقتول. انها عملية اغتيال اجرامية لا أكثر ولا أقل. فمن المسؤول عن هذه المحرقة الكبري، عن هذا الهلوكوست الأعظم الذي لا يتحدث عنه أحد؟!

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1101  الثلاثاء 07/07/2009)

 

 

في المثقف اليوم