اخترنا لكم

ما هي الفلسفة؟: أزمة المعرفة والوعي النقدي

 هكذا بدأت لحضة الفلسفة... عندما اخذ الانسان يتسائل ليكتشف ما هو مجهول اوما هو غير مفهوم وليصل الى جواب مناسب.

فمنذ ان بدأ وعي الانسان النقدي، بدأت أزمة المعرفة، ومعها بدأ التفكير بالمفاهيم والمقولات المبهمة. ان محاولات الانسان لمعرفة الكون والوجود وسبر اغوارهما والكشف عن اسرارهما اثارت دهشته، ومع الدهشة بدأ القلق، ومع القلق بدأت الخيبة، ومع الخيبة بدأ التساؤل ومع التساؤل بدأ التفكير الفلسفي، الذي كان أول محركات الوعي والوعي النقدي على وجه الخصوص. ومع الوعي النقدي بدأت أزمة الوجود، وكل الفلسفات تبدأ بدهشة وأزمة وتساؤل.!

والأزمة تعني الشك، والشك هو طريق اليقين.. ومع الشك بدأ الوعي النقدي بالوجود.. عندما بدأ الابناء يشكون في اساطير الأولين وتولاهم الشعور بأن العالم ليس محكما تماما، كما في القصص والاساطير وملاحم الآلهة، وبدأت خيبة الأمل من اللاجواب ودفعت الانسان الى التفلسف، والتفلسف ايقظ العقل وفتح الذهن امام آفاق عديدة من المعرفة، فلم يعد الانسان يقف سلبيا امام الكون والوجود.

فالفلسفة اذن هي البحث المتواصل الذي لا ينتهي ولا يكل عن التساؤل عن اسرار الوجود الذي حركه وعي الانسان النقدي الذي نَور العقل وشحذ الفكر ودفعه لمزيد من التساؤل والنقد للوصول الى الحقيقة وحل الغاز الوجود واسرار الحياة.

والتنوير اصل الفلسفة، وجوهر التنوير هو الحرية والتحرر من أية وصاية، كما يقول كانت، أي خروج الانسان من قصوره الذهني الذي اقترفه بحق نفسه وتجاوز ذلك الى فهم الوجود وتفسيره واعطاءه معنى اخلاقيا، بمعنى تفكيك وتفسير وتحليل ونقد امكانات الانسان وقدراته. واذا كان الوعي النقدي ضروري لتكوين الفكر الفلسفي، فان الفكر الفلسفي ضروري لتكوين العقل النقدي، الذي يشحذ الفكر وينمي قدراته وطاقاته المعرفية فيجد ويجتهد في النظر الى الوجود بتفكير سببي وليس غيبي.

ومنذ سقراط وضع الفلاسفة العالم في سؤال، وتراكمت الاسئلة في اذهانهم من اجل البحث عن يقين جديد، جيد وعادل ومفيد. وهذه المرة ليس بالصورة المجردة، وانما بالمفاهيم والدلالات وليس بالقصص الاساطير وكذلك بالبحث والتقصي المتواصل في اشغال الفكر وتحويل المفاهيم الفلسفية والتأملات العقلية الى أدوات لفهم الواقع وتحليله وتفسيره. ومن الطبيعي ان تنهك الفلسفة نفسها في حب الحكمة وتتجاوز الأسئلة والتحليل والتفسير الى معرفة التناقضات وحل التناقضات غير المتعادلة منها والبحث فيما يعرض، وتركيب ما هو مجزء، وفهم العلاقة الشائكة والملتبسة التي تربط بين الاشياء وبينها وبين الطبيعة. وهذا يعني ان للانسان ارادة اخلاقية حرة تبحث وتفتش وتنبش وتفكك وتفسر لتجيب على التساؤلات المصيرية التي تبقى مدهشة ومحيرة وبدون جواب. فالفلاسفة لا يقفون مكتوفي الأيدي، كما يقول الفيلسوف الالماني توماس اشوير، وانما يبقون صامدين، يعالجون الدهشات والخيبات ويقحمون انفسهم فيما هو شائك وغامض ويمعنون النظر بالمفاهيم والمدلولات التي من الممكن ان تتغير وتتطور، لأن كل جواب يستفز سؤالا آخرا جديدا.. ان قلق الفكر ودهشته وحيرته هي أصل التأمل الفلسفي.

يقول توماس اشوير، ان الفلاسفة لا يتساءلون عن أولى الاسباب ولا عن آخرها، كما عند علماء اللاهوت، وانما يحاولون وضع حجج ويختارون مفاهيم ميتافيزيقية غيرصراعية. ولذلك لا يوجد في قاموس الفلسفة مقولة "صراع ميتافيزيقي"، وانما هناك دعوات متواضعة. فهم يقفون من الحقيقة بافكارهم ونصوصهم الفلسفية وحيدين على الشرفة، لا يثقون بأي عقل متعالي أعمى، وانما يتكلمون عن عطاء الحياة واستفزاز الموت، ولكن بشعور متسامي بالحقيقة غير المتشككة ويحاولون معالجتها افتراضيا وبتحفظ في اغلب الاحيان. وهذا يعني انهم لا يتجاهلون الالتباسات، وانما يحاولون وضع "العالم" على الطاولة و"يشرحونه". لقد اصبحت الفلسفة اليوم اكثر تعقيدا، وذلك بسبب الاشكاليات المستمرة التي جعلت مجالاتها اكثر ضيقا، حيث لم تعد الفلسفة تبحث في كل الاشياء، كما كانت، وانما تعَرف كل الاشياء، وفي ذات الوقت لا تعرف شيئا. ومن هنا ينشأ خلاف الفلاسفة مع علماء الطبيعة وكذلك مع "الرأي العام"، الذي ينظر اليهم بمنظار اسطوري حول كل ما هو اشكالي في الحياة. الفلسفة كانت وما تزال تلك المباديء التي تيَسر للعالم فهم الحياة. وهذا هو محور الخلاف والسجال، وبخاصة حول ابحاث الدماغ والأجنة والجينوم البشري، التي لا تستطيع ان تقدم لنا حججا واضحة وكافية حول ذلك، بالرغم من الاتهامات المجانية التي يطلقها البعض كنهاية الفلسفة وموت الفلسفة وغيرها.

 ومثلما قلنا في مقالنا السابق " ما جدوى الفلسفة؟ "(انظر ايلاف في 27.8.2009)، فالفلسفة هي قبل كل شيء وعي عقلاني تنويري نقدي بدأ مع أزمة العرفة، ولا تنتهي آلا بنهاية المعرفة. وهي، مع ذلك، لا تدعي امتلاك الحقيقة ولا ترفع دعوى الخلاص وهي وسيلة وليست غاية لذاتها وعليها ان تربط بين النظرية والممارسة العملية. أما هدفها فهو تحقيق الحرية والسعادة والأمن الداخلي للانسان، وهنا تكمن أهميتها.

المصدر: ايلاف

2009 السبت 12 سبتمبر

 

في المثقف اليوم