اخترنا لكم

أفكار لها تاريخ «72» كيف تقرأ؟!

قائل هذا السؤال هو المفكر المرموق لويس عوض. قاله إثر اختلافنا حول موقف رفاعه الطهطاوى من التنوير، إذ كان رأيه متسقاً مع الرأى الشائع أن رفاعه من الرواد الأوائل للتنوير، أما أنا فكان رأيى على الضد من ذلك الرأى الشائع، إذ بالرغم من ترجمته لاثنى عشر كتاباً من كتب التنوير الأوروبى إلا أنه حذر القارئ من قراءتها. يقول: إن لهم (أى الفرنساوية) حشوات ضلالية مخالفة لسائر الكتب المقدسة، ويقيمون على ذلك أدلة يعسر على الانسان ردها. وسيأتى لنا كثير من بدعهم وننبه عليها فى مجالها إن شاء الله. ولنقل هنا إن كتب الفلسفة بأسرها محشوة بكثير من هذه البدع. فحينئذ يجب على مَنْ أراد الخوض فى اللغة الفرنساوية المشتملة على شيء من الفلسفة أن يتمكن من الكتاب والسٌنة وإلا ضاع دينه. والسؤال بعد ذلك: ماذا يعنى هذا النص؟ يعنى تحريم الفلسفة بوجه عام وتحريم الفلسفة الفرنسية التنويرية بوجه خاص. أليس هذا هو ما يتسق وفكر الاخوان ؟ وأليس هذا هو ما يتسق مع الشعار الشائع فى العالم الاسلامى من تمنطق تزندق.

والمفارقة هنا أن وزارة الثقافة أعلنت فى عام 1992 أنها تحتفل بمرور مائة عام على مولد التنوير فى مصر برعاية مهرجان القراءة للجميع وباشراف الدكتور سمير سرحان الذى قال إن عصر التنوير المصرى قد نقل العالم العربى كله من عصور الظلام المملوكية والاستعمارية إلى شعوب تعيش عصر العلم والتقدم. فهل كان ذلك كذلك أم أنه لم يكن كذلك، وإذا لم يكن كذلك فماذا كان هذا الذى حدث وقتذاك؟ للجواب عن هذا السؤال أنتقى ثلاثة كتب: فلسفة ابن رشد لفرح أنطون وأحمد أمين من زعماء الإصلاح وضحى الإسلام بتعليق من شوقى ضيف. فماذا حدث للكتاب الأول؟ حدث تغيير لعنوانه الأصلى من ابن رشد وفلسفته إلى فلسفة ابن رشد. ومغزى التغيير حذف مقدمة فرح أنطون التى يدعو فيها إلى فصل الدين عن الدولة مستنداً فى ذلك إلى فلسفة ابن رشد. وحذف الباب الأول الذى يتحدث فيه ابن رشد عن أهم حوادث حياته، وحذف الحوار الذى دار بين فرح أنطون والشيخ محمد عبده حول ما جاء من آراء كل منهما. وبذلك يكون ما حُذف 200 صفحة.

هذا عن الكتاب الأول فماذا عن الكتاب الثانى؟ يتحدث فيه أحمد أمين الذى قيل عنه على غلاف الكتاب إنه من زعماء الإصلاح. فمن هم زعماء الإصلاح فى رأيه؟ العنوان فى الصفحة الأولى من الكتاب هكذا: محمد بن عبد الوهاب زعيم الفرقة السلفية. وهكذا يكون أحمد أمين مدعماً للسلفية وداعياً إليها وذلك كله فى سياق الاحتفال بالتنوير. وفى هذا السياق صدر الكتاب الثالث وفيه يتحدث شوقى ضيف عن أحمد آمين فماذا قال؟ قال ما يفيد أن أحمد أمين كان متحكماً فى الفضاء الثقافى برمته سواء كان أستاذاً فى جامعة القاهرة أو مسئولاً عن مجالات ثقافية. فهو رئيس لجنة التأليف والترجمة والنشر منذ تأسيسها فى عام 1914 حتى وفاته فى عام 1954 وعُين عميداً لكلية الآداب فى عام 1939. وفى أثناء عمادته اختير عضواً فى المجلس الأعلى لدار الكتب وعُين عضواً فى المجمع اللغوى. وفى ذلك العام ذاته صدرت مجلة الثقافة وكان هو مديرها. وفى عام 1945 انتدب وهو أستاذ بكلية الآداب مديراً للإدارة الثقافية بوزارة التربية والتعليم. وكان هو الذى أنشأ الجامعة الشعبية واختير عضواً بالمجلس الأعلى للمعلمين. وفى عام 1946 عين مديراً للإدارة الثقافية بجامعة الدول العربية.

والسؤال اللازم بعد ذلك: من أين جاءته هذه السلطة الثقافية التى جعلته متحكماً فى الفضاء الثقافى المصرى برمته؟ والجواب اللازم من ذلك السؤال يلزمنا بالبحث عنه فى قوة خفية تدفعه فى هدوء وبلا مقاومة لنشر أفكارها؟ وهذه القوة الخفية لن تكون إلا الاخوان الذين تكمن رسالتهم فى الدعوة إلى فكر السلفية. وإليك ثلاثة أدلة: الدليل الأول من حسن البنا عندما دعاه إلى الانضمام إلى الجماعة فى خطاب مفتوح بجريدته وذلك ما ورد فى كتاب حسين أحمد أمين وعنوانه: فى بيت أحمد أمين. والدليل الثانى من زميل له فى قسم اللغة العربية بكلية الآداب وهو الدكتور شكرى عياد الذى قال عنه إن مواقفه متعصبة وكان يقرنها برجعية الفكر وانغلاقه. إذ كان أحد الذين تسببوا فى محنة أحمد محمد خلف الله عندما كتب أطروحته الإشكالية الفن القصصى فى القرآن الكريم, ورفض قبولها للمناقشة لخروجها على المأثور من القواعد المألوفة فى معالجة النصوص القرآنية. وقد تم إلغاء أطروحة خلف الله. والدليل الثالث أنه كان رئيساً لمجمع اللغة العربية وعرضت عليه مذكرة فى جلسته بتاريخ 14/12/1992، أو بالأدق فى إحدى جلسات بداية الاحتفال بالتنوير. ومفاد هذه المذكرة اقتراح بترشيحى خبيراً فى لجنة الفلسفة والاجتماع. والمفاجأة هنا أن رئيس المجمع طلب حذف ذكر اسم الخبير الأستاذ الدكتور مراد وهبه وبدون ابداء الأسباب. وكانت استجابة رئيس اللجنة على النحو الآتى: إن المرشح لديه معجم فلسفى الذى يتميز بدقة ايراد للمصطلح الفرنسى والانجليزى لاصطلحات فلاسفة العرب المسلمين على النحو الذى فهمها به المستشرقون وغير المسلمين وهو ما يهم اللجنة التركيز عليه، وبذلك انتصر رئيس اللجنة على رئيس المجمع وتم تعيينى خبيراً بالمجمع.

ويبقى بعد ذلك سؤال: هل يتكرر السؤال الوارد فى عنوان هذا المقال؟ الجواب متروك لقارئ هذا المقال.

***

د. مراد وهبة

..................

* عن صحيفة الأهرام المصرية: الثلاثاء 14 من ربيع الثاني 1444 هــ 8 نوفمبر 2022 السنة 147 العدد 49645

 

في المثقف اليوم