اخترنا لكم

هل انتشر الإسلام بالسيف؟

هل انتشر الإسلام بالسيف؟ هذا سؤال إشكالي، فضلا عن كونه سؤالا محرجا؛ إذ يجد المتأسلمون عنتاً شديدا في مقاربته، لأجل التناقض الحاصل بين افتخارهم القومي أو الديني الكبير بالغزوات التوسعيّة (أو الفتوحات) التي أسّست الإمبراطوريات الإسلامية في القديم.

وبين تأكيدهم المستمر على معقولية الدين الإسلامي، تلك المعقولية التي يفترض أنها تستقطب طوعا، دون عنف من أي نوع، أبناءَ الشعوب المفتوحة إلى الإسلام.

ويبقى، وسيبقى، السؤال حاضرا: هل انتصر الإسلام بالسيف؟

والجواب باختصار: نعم؛ ولا.  

وبالتفصيل أقول: من حيث كون الإسلام فُرِضَ على الناس فردا فردا، هذا لم يحدث كسياسة عامة، بل على العكس، كانت السياسة الأموية تنزعج من دخول الناس في الإسلام، لأن الجزية (أحد مصادر الدخل الرئيسة للدولة) ستسقط عن المسلمين الجدد.

ولهذا اختارت هذه الدولة القومية خيارا غير إسلامي (أي غير شرعي من وجهة النظر الدينية الخالصة)، وهو بقاء الجزية على الداخلين في الإسلام؛ بدعوى أنهم إنما دخلوا في الإسلام للهروب من الجزية تحديدا، وليس رغبة أصيلة في الإسلام.

هذا من حيث الإكراه العيني أو الفردي على دخول الإسلام بالقوة الخشنة. أما من حيث "الإكراه الناعم"، أي أن الإسلام انتشر تحت ظلال السيوف، وعلى إيقاع السيوف، وأنه لولا السيوف وتوابعها، لاختلف تاريخ الإسلام، فنعم، حددت القوة معالم التاريخ والجغرافيا في الإسلام.

لقد كان ثمة "إكراه ناعم"، وربما "غير مقصود بشكل مباشر" على الدخول في الإسلام. وأقصد هنا أن الدخول في الإسلام، في سياق الاستغلال اللإّنساني من قبل الإمبراطوريات الإسلامية الكبرى، الأموية والعباسية والعثمانية، كان أحد مجالات الهروب الجزئي من هذا الاستغلال، وما يُرَافقه من قمع وقهر وإذلال.

تحكي الوقائع الصلبة على امتداد التاريخ الإسلامي أن الإنسان، المسلم وغير المسلم، كان مَسحوقا مقموعا منتهكا إلى أبعد الحدود. ولكن كونه مسلما بدا وكأنه يرفع عن "شيء" من هذا الظلم العام.

وهذا "الشيء الاستثنائي" الذي يعكس تسامحا نِسبيا ومحدودا، هو الذي سيصبح مطمع المُسْتَعْمَرِين من شعوب الأقطار المفتوحة بجيوش المسلمين، وهو ما سيدفعهم إلى الإسلام لإحداث تحوّل إيجابي نسبي في الموقع الاجتماعي.

وهنا يأتي السؤال الآخر: لماذا لا يقرأ الباحثون أو المؤلفون المسلمون تاريخهم على هذا النحو من الصراحة، وعلى هذا المستوى من الحياد العلمي البارد، حتى يفهموا أنفسهم أكثر فأكثر، بفهم تاريخهم على نحو أعمق وأصدق؟ لماذا يتعمدون عند البحث أو الكتابة سياسة التجميل والتبجيل، وكأنهم في محاورة شعرية تفاخرية تجد مشروعيتها في تكييف المُتَخيّل؛ لا في تحليل الوقائع !

في تقديري أن الأسباب كثيرة، ولكن أهمها ثلاثة أسباب:

أولا، ضعف شديد في الرؤية العلمية العامة للعلم في العالمين: العربي والإسلامي، إذ أن مفهوم "العلم" لا يزال غائما، بقدر ما هو مستوعب في التوجهات الخاصة اللاَّعلمية: الدينية والقومية...إلخ دوافع التحيّز ومحدداته التي تحيد بالباحث عن المسار الموضوعي للعلوم.

ثانيا، القداسة الدينية العقائدية التي يُضْفيها المسلمون على أشخاصٍ وقائع وأزْمِنةٍ لا يُمْكِن قراءة التاريخ قراءة موضوعية قبل نزع القداسة عنها. وهنا، ضرورة حَلْحَلَة العقائد المُسْبَقة التي تفرض نتائجها على البحث التاريخي قبل أن يبدأ، فلا يصبح البحث إلا تأكيدا وتأييدا لتلك العقائد، ولو بلي أعناق النصوص، وتقطيع أوصال الوثائق، ونسف قواعد المنطق.  

ثالثا، التوجّه العربي أو الإسلامي يتغيّا البحث عن خلاص لا يبدو أنه يلوح في الأفق أصلا. لهذا، فكل فرد، ومنهم الباحثون والمؤلفون فضلا عن غيرهم من عموم الناس، يبحث عن التماسك في الراهن من خلال مُتَخيّل مصطنع عن الذات، مُتخيّل يجد مشروعيته في مُتَخيّل التاريخ، إذ لا يستطيع البحث عن الخلاص التماسكَ من خلال الانشداد، وَعْياً، إلى معطيات الواقع المتهالك المتداعي.

إن الفرد هنا، ومن ورائه الوعي الجمعي، يتشبّث بالتاريخ بصورة متخيلة أو منتقاة أو مزيفة من التاريخ، لإمكانية تغذية التاريخ المتخيل بالأوهام. بينما الواقع بصلادته، بحدية وقائعه، بمباشريته المحرجة بصراحتها، لا يمكن القفز عليه، ولا التلاعب بإعداداته بسهولة، كما يحدث في واقع منصرم أو غائب لم يبق منه سوى نصوصه القابلة للتزييف وللتحريف وللتأويل الذي ينطق بمراد القارئ، لا بمراد النصوص. 

بهذا يصبح التاريخ هو الحديقة الخلفية لهؤلاء البائسين الذين يلجؤون إليه في كل محاولات الهروب من الواقع، بغية الاستمتاع بلحظات جميلة من لحظات غياب الوعي المتعمّد، حيث تستمتع الذات بأوهامها عن تاريخها، أي عن ذاتها، كيلا تُوَاجه حقائق ذاتها أو واقِعها بمواجهتها لحقائق التاريخ. 

***

محمد المحمود

عن الحرة في: 31 أكتوبر 2022

 

في المثقف اليوم