اخترنا لكم

القصبةُ المفكرةُ

عندما اكتُشفت العوالم اللامتناهية للكون، وبدا أن الإنسان لم يعد مركزاً للعالم، فيما سمي بالثّورة الكوبرينيكية، أصبح وضعُ الإنسان الوجودي موضع سؤال ومحلَّ قلق: فما قيمة الإنسان في هذا الكون المترامي الأطراف الذي لا يكاد يعد فيه شيئاً ذا قيمة؟

هنا تدخلت الفلسفة مع ديكارت لتجيب عن هذا الإشكال، وتقول إن عظمة الإنسان ليس في شخصه الصغير إزاء هذا الكون العظيم الفسيح، وإنما عظمة الإنسان تكمن في فكره الذي يميزه، فها هنا ينبغي البحث عن جوهر الإنسان، وهذا هو منبع كرامته كما بَلْوَرَ«بيك دولاميراندول» ضمن رسالته «في الكرامة الإنسانية». بل إن العالم نفسه لم يعد له وجود إلا من خلال الذّات المفكرة نفسها، فالوجود متوقف على التفكير، وعندما يتوقف التفكير يتوقّف الوجود، وهو فحوى عبارة ديكارت «أنا أفكر إذن أنا موجود».

وقد وعى باسكال، معاصر ديكارت، هذه المفارقة بين الهشاشة والقوة، وعبر عنها قائلاً: «إن الإنسان ليس سوى قصبة هشّة في الطبيعة، لكنه قصبة مفكرة. ولا ينبغي أن يجتمع الكونُ كله من أجل سحقها، فهبّة بخار ونقطة ماء كافية لقتلها». يعني باسكال بذلك أن الإنسان من حيث كونُه جسداً هو هشٌّ وضعيف قابل لشتى ضروب العطب، لكن من حيث هو كائن مفكر هو قوي عظيم قادر أن يتأمل أسباب هشاشته ويتجاوزها.

إن هذه المعاني التي تردّدت في الأزمنة الحديثة والتي أفضت إلى النّزعة الإنسانية في القرن الثامن عشر، غير بعيدة عن الإرهاصات الكبرى للمنزلة التي احتلها الإنسان في الفلسفة الإسلامية القديمة، فقد اعتبر ابن باجة الإنسان من عجائب الطبيعية، وعلّل ذلك أنه له نسب من جهتين، نسب طيني مادي ونسب روحي فكري، واعتبر في كتابه العظيم «تدبير المتوحد» أن تدبير الإنسان وجوده لا يكون إلا بالفكر، وبه يدرك الإنسان أفضل وجوداته على ظهر هذه البسيطة، وإن كانت الظروف الاجتماعية تعانده.

مديحٌ عالٍ للفكر الإنساني وجد تجسيده في اعتبار الإنسان «العالم الأصغر»، على أساس أن الكون هو العالم الأكبر، وأن هذا العالم الممتد الأطراف، وُجدَتْ له نسخة مصغرة تحوي كل عجائبه، وهي الإنسان، فالإنسان ليس إلا جرم صغير قد انطوى فيه العالم الأكبر، كما قال الشاعر، ومن هنا كلما تأمّل ذاته انفتحت له أبواب العوالم الكبرى والصغرى.

إنها دعوة فلسفية إلى خلوات التأمل الفردي والجماعي، خلوات ليست على غرار خلوة حي بن يقظان في قعر مغارته، رغم أنها قصّة جسّدت أيضاً عظمة النور الطبيعي الفطري الذي وهبه الله للإنسان، بل خلوات في المختبرات العلمية ومراكز البحث العلمي وغيرها من الفضاءات التي تُنقذُ الفكر من غفوته. ومن هنا أهمية الخلوات الفلسفية، في المراكز والنّوادي، التي يتدرب فيها الطالب على التفكير المنهجي ويصاحب فيها الفلاسفة، أفاضل النّاس عند ابن رشد، إذ ليس من سبيل لصنع الإنسان إلا بصنع عظمته الفكرية.

بين الحكمة والشريعة نسب قوي في شحذ الملكات العقلية للإنسان لعمارة الأرض، كما يندب الدين، ولتحقيق الفرد وجوده الخاص كما تذهب الفلسفة. وبين عمارة الأرض وتحقيق الإنسان وجوده الفردي أكثر من فن من فنون الوصال.

***

د. ابراهيم بورشاشن

عن صحيفة الاتحاد الامارتية، ليوم: 24 فبراير 2023 00:48

 

في المثقف اليوم