اخترنا لكم

الحرية ليست مجرد ضرورة لعمل العقل بل هي مادة وجوده

- لا بد لي اولا من الدعوة الى إعادة النظر في هذا التوصيف واقصد التوصيف القومي للعقل. ليس هناك عقل عربي وآخر فرنسي وثالث روسي والى آخره. هناك عقل انساني يتلون جغرافيا وتاريخيا ولا يتفوق ولا يتراتب بعضه فوق بعض الا بابتكاراته وانجازاته الملموسة والآنية وهذه تتغير وتتطور. كما لا اعتقد ان العقل في العراق او العالم العربي او الإسلامي او أي مكان آخر في محنة في زمننا هذا. لكنه في معركة شرسة مع أعداء العقل لم تحسم نتيجتها بعد بلا شك. لكن المقدمات تشير الى ان عقلنا الواقعي النقدي منتصر فيها عاجلا ام اجلا. ما اراه حاليا هو ان العقل في بلداننا أكثر حيوية وعطاء من أي وقت مضى واكثر حرية أيضا بفضل التداعي المتزايد للحدود الجغرافية والدينية والقومية والقطرية وبفضل التكنولوجيا والاتصالات والمواصلات وانتشار فكرة التسامح والاعتراف بتكاملنا مع الآخر وهذا لا ينفي ان هناك في دولنا روادع عنيفة واعتداءات وقمع وحتى اعمال قتل يتعرض لها المفكر العقلاني الحر بما فيه المفكر الديني عندما يدافع عن العقل.

- من جهة أخرى، لا شك ان هناك في العالم العربيِّ وربما كل ما يسمى العالم الثالث، شعور قوي ومتوارث بِأنَّ العقل فِي محنة. ومَعَ ذلِكَ فإنَّ كَثيرًا مِنَ المُتحاوِرينَ في هَذا المَوْضوعِ لا يَتفقون على ما هو العقل ناهيك عما هو العقل العربي؟ فهذه المفردات وكذلك الثقافة هي من أكثر الكلمات تداولا وأشدها غموضا في نفس الوقت.

- وكذلك الحال بشأن أسباب هذه المحنة المزعومة ومترتباتها او نتائجها، اذ يندر ان يصل باحثان او مفكرانَ إلى تَحدِيدٍ واضِحٍ لِطَبيعةِ المحنةِ المقصودة ومَظاهِرِها ووَسائلِ معالجتها. كما لو انهم لا يتحدثون عن الشيء نفسه.

- وانعدام الاتفاق على المعاني هذا ليس جديدا، وليس طارئا في ثقافتنا المعاصرة. وقد يعتبره البعض سبب كل مُعْضِلاتِ وضعنا الفكري ونزعاته المهيمنة حاليا سواء الأصولية منها باشكالها المختلفة المنادية بالعودة الى الجذور او تلك الداعية الى القطيعة مع الماضي الثقافي بمجمله واستبداله بحداثة وما بعد حداثة غامضة التعريف هي الاخرى. وهناك طبعا من يرى ان هذا الاختلاف في المعاني هو مصدر ارتباك التعامل مع قضايا الأَصَالةِ والمُعاصَرَة والاخفاق في مَشْاريعِ النَّهْضة المختلفة.

- ان احد الجوانب الجوهرية في هذه المعضلة هي عدم الاتفاق على التمييز من جهة بين من يرى ان العقل هو كيان جمعي لا شخصي الامر الذي يطرح مشكلة الفصل بين المقدس والدنيوي لا سيما وان العقل الديني عقل جمعي بالضرورة او بقوة العادة الفكرية، وبين من جهة أخرى حقيقة ان عقلانية مقولات الفهم العقلاني، كالزمان والمكان والعدالة إلخ، وكذلك المفاهيم الضرورية للفكر المنطقي، تتقوم بعقلانيتها النسبية ككيانات فردية وشخصية في واقع الحال. وهنا تنطرح قضية ماهي شروط إمكان المعرفة العقلية، اي امكانية فصل الديني اي المقدس عن الاجتماعي اي الدنيوي. فهذا التمييز حاضر في كل ثقافات العالم الكبرى بما فيها المتنفذة عالميا؛ حيث أن المقدس، هذا الكائن الجمعي واللاشخصي والمفارق، يطرح نفسه كممثل المجتمع نفسه الا انه يتنازل ضمنا عن عدد من اليقائن السابقة نظرا الى ان مبدأ التطور الدارويني موجود دائما ومقبول من المجتمع وبالتالي من الدين حتى اعترف له بانه مصدر الأفكار الأساسية الضرورية لكل فكر عقلاني وحاضنته الاولى.

- وهذا ما نجده عند هيغل الدارويني العظم في كل فلسفته، لكن الذي يرى انه لا يمكن فصل "الاجتماعي" عن "الديني" وأيضا وبالحدود التي يعطي فيها الدين فكرة ملموسة عن الله، عن المطلق في علاقة إيجابية مع العقل الجزئي. وهكذا، وبالحدود التي تعبر فيه هذه الفكرة عن الوحدة بين الالهي والانساني، فان الدولة المنبثقة عن هذا الدين هي دولة حرية وحقوق عند هيغل، أي دولة عقلانية: "الحرية الواعية لا يمكن ان توجد إلا حيثما ندرك ان الفرد (الانساني) حاضر بشكل ايجابي في الذات الالهية". في الدولة فقط يمتلك الانسان وجوداً متطابقاً مع العقل". بموجب هذا المبدأ الاساسي في الفلسفة الهيغلية، فان الفكرة التي يكونها عقل شعب خاص عن الله، لا يجب ان تكون مجرد شيء ما يفكر به من قبل الأفراد، انما ان يكون، خصوصاً، واقعاً ملموساً ومدركاً كنظام اخلاقي يعبر عن العلاقة بين الانسان، باعتباره ارادة ذاتية، وبين المطلق باعتباره ارادة موضوعية او عامة. هذه العلاقة هي درجة وعي الحرية عند هذا الشعب. هذا الوعي الذي يصبح مدركاً يطرح نفسه كواقع لهذه الحرية. لـ"انه في الدولة، يعبر المطلق عن نفسه عبر قوانين وعبر تحديات عقلانية وكونية".

المشكلة لدينا اذن هي في غياب دولة عقلانية: دولة الحرية الواعية. وهنا تحديدا تكمن محنة العقل. ومن هنا رفض التفسيرات الأخرى في هذا الشأن. وفي مقدمتها التفسيرات التي تمد جذورها في النزعة الذاتية الغربية وخرافة التفوقية الدينية التوراتية والانجيلية وغيرها. وهذه التفسيرات التي ولدت وتطورت في اوربا الغربية في القرن الثامن عشر، مرتبطة غالبا بصعود النزعة القومية في القارة الأوروبية بعد ان كان الاعتراف بالعبقرية الفلسفية للشرقيين وخاصة المسلمين ثابتا لدى المفكر الغربي. وقد عبر روجيه بيكون عن ذلك بوضوح قاطع عندما قال "ان المعرفة جاءت الى العالم اربع مرات: الاولى والثانية بالعبرية عبر الانبياء وعبر حكمة سليمان والثالثة بالاغريقية عبر ارسطو والرابعة بالعربية عبر ابن سينا..". وواضح هنا ان ارسطو يرمز للعبقرية الفلسفية الاغريقية باعتباره نتاجها الطبيعي، في حين يرمز ابن سينا للعبقرية الفلسفية العربية والاسلامية باعتباره نتاجها.

واختصارا لكل ما تقدم نقول بان الثقافة العربية الحديثة لم تستطع بعد انتاج هؤلاء "الفلاسفة العقلانيين الحقيقيين" وربما لن تنتج منهم لفترة طويلة اخرى طالما ظلت المعايير الحضارية التي تحكم العالم العربي والإسلامي حاليا، سيدة الساحة مستقبلا والتي تتجسد بغياب الحرية بمعناها الشامل وليس فقط السياسي. فمعايير الاستبداد والقسرية والردع من جانب والقدرية والكبت والتقية من جانب آخر، وانها تحكم المعادلة الملموسة والميتافيزيقية للعلاقة بين الواحد منا والآخر وحتى الواحد ونفسه. وهذا الشكل من العلاقة هو الذي يحكم بداهة علاقة الحاكم بالمحكوم وعلاقة الدولة بالمجتمع المدني وعلاقة الجماعة بالفرد، والتي تتميز بهيمنة الاول وتدمير الاخير وتحويل الفرد الى مجرد رقم بين الارقام لا يمتلك من حريته اي من انسانيته سوى طابعها الفولوكلوري. ففي ظل معايير كهذه لا يبقى من الفلسفة إلا طابعها الفولوكلوري هي ايضا لانها تفتقر الى الشرط الموضوعي لتحققها العميق.

وهذا الشرط الموضوعي هو الحرية والحرية بالتحديد. لان الحرية هي ليست مجرد حاجة او ضرورة بالنسبة لعمل العقل، كفعل ابداعي بذاته، انما هي مادة وجوده الاساسية واكاد اقول الوحيدة لان الفلسفة في أسمى تعريفاتها، في تعريفها الاول والاخير كما أكدنا من قبل ليست شيئا آخر غير الحرية. وما دامت هذه مفقودة في العالم العربي والإسلامي والعالم الثالث بمجمله فلا ضمان ان يستطيع فكرنا العقلاني ان يحقق طموحاته اسوة بسواه في أي مكان وزمان.

***

د. حسين الهنداوي

..........................

* نص مداخلتنا في ندوة: "محنة العقل العربي، العقل تحديداً وموضوعاً ووظيفة" بالمشاركة مع المفكر الدكتور عبد الجبار الرفاعي وتقديم ادارة الاستاذ القاضي د. عثمان ياسين، في يوم الاحد الماضي  ضمن البرنامج الثقافي لمعرض اربيل الدولي للكتاب: والتي بدأها:

اطيب الشكر لمؤسسة المدى على اتاحة هذه الفرصة الثمينة للحوار مع هذه النخبة من الوجوه الكريمة المشاركة في  حوار هذه الامسية.

نقلا عن صفحته الشخصية في فيسبوك

 

في المثقف اليوم