اخترنا لكم

أكرم البني: وجهة نظر حول الإصلاح الديني!

هناك أسئلة صريحة عن المشروعية الدينية وإلى متى يبقى الجهل والاجتهادات المضللة سيدَي الموقف في رسم علاقة الدين بالحياة والسياسة والعلم؟ والأهم، ما أسباب استمرار أزمة التفكير الديني في مجتمعاتنا وتعثر محاولات إصلاحه وتجديده في أغلبها، بما هو تعثر لتحديث المفاهيم الدينية وتطويرها كي نتجاوز حالة التقليد والركود والفوضى الفقهية السائدة؟

لم يجانبوا الصواب مَن وجدوا أن فكرة الإصلاح الديني لاقت اهتماماً كبيراَ لدى كثير من العلماء والفقهاء والمفكرين ممن آمنوا بدور الإسلام في البناء والتغيير الاجتماعي، وحاولوا خلق أدوات ثقافية جديدة تنطلق من الإقرار بنسبية المعارف، وتعيد دراسة الفكر الديني في ضوء التجربة والمنطق وتطور العلوم الإنسانية، لتخليصه مما شوهته اختلافات التاريخ والمصالح، ومن الكثير من الأوهام والمسلمات الخاطئة التي عششت طويلاً في عقول المسلمين، على أمل تحقيق الانسجام بين مقاصد الدين ومصالح المؤمنين وحقوق الناس جميعاً، ولا يغيّر هذه الحقيقة تشتت دعاة الإصلاح وعجزهم عن توحيد خطابهم، وأحياناً انقسامهم إلى قوى واتجاهات وصلت إلى حد التعارض، كما لا يغيّرها ما لعبه الموقف من الأجنبي من دور في إعاقة الإصلاح الديني ومحاصرة دعاته، حين تجرأ هؤلاء على المقارنة بين الحالة التي آلت إليها أوضاع المسلمين وبين التفوق الغربي، ما جعلهم عُرضة للاتهامات بالترويج لقيم الغرب ومفاهيمه على حساب تراثهم ومعتقداتهم الدينية، ولعبت المواجهات السياسية ضد هيمنة غربية لم تخلُ من عنصرية ونظرة استعلائية، دورها في تغذية مشاعر التحفظ على الحداثة ورفض التجديد.

في المقابل، لم يخطئوا مَن ربطوا تعثر الإصلاح الديني بالحرب الشرسة ضد فكرة الإصلاح ودعاة التجديد التي شنتها قوى وجماعات إسلاموية اتفقت على إلغاء دور العقل في وعي الحياة الدينية وتمكينها، وتمسكت بالتقليد ورفض الاعتراف بأن جزءاً من مضامين التفكير الديني الذي تدافع عنه وتضفي عليه شيئاً من القداسة هو تفكير بشري، تجاوزته أحياناً المتغيرات ولم يعد يستجيب لمشكلات المسلمين وحاجاتهم الراهنة، ويتساءل هؤلاء كيف ينجح الإصلاح الديني في مواجهة ساخنة وغير متكافئة مع حركات أصولية متطرفة ترى نفسها الوصية على الدين، ولم تدخر جهداً لعزل الإصلاحيين وسحب الشرعية الدينية منهم، من خلال تأليب الناس ضدهم وإدانة من يتخذ فكرهم مرجعاً، أو التشهير بهم كخصوم وأعداء للإسلام، وصل أحياناً إلى حد تكفير بعض رموزهم وإباحة دمهم.

وأيضاً، لم يخطئوا مَن وجدوا أحد أسباب استمرار جمود الفكر الديني وانغلاقه، القطع التاريخي لمحاولات إصلاحه الذي أحدثه المد التحرري الوطني والقومي في ظل «علمانية صورية» وطابع براغماتي صارخ لقادته، فهُدرت جهود تجديدية كثيرة وضاعت بسبب توظيف «الحكومات الوطنية والقومية» الضيق لها، حين أخذت منها ما قد يفيدها في معاركها السياسية أو في اختياراتها الاجتماعية والاقتصادية وأُهمل تكريسها في حقول التربية والأفكار والقيم.

أصابوا كبد الحقيقة مَن مالوا نحو التركيز على غياب المناخ السياسي الضروري لنجاح الإصلاح الديني، فهذا الأخير يتعلق بإعمال العقل والنقد، ولا ينمو وينتعش إلا في مناخ يتسم بالحرية، حرية التعبير والاعتقاد، وحرية البحث، وعند هؤلاء لا يصح الفصل بين الدعوة إلى تجديد الثقافة الدينية وبين تقدم الإصلاح السياسي، بل إن كل خطوة نحو نصرة الديمقراطية هي خطوة نحو توفير أفضل الشروط لإحداث المراجعات الدينية الضرورية.

طبعاً، من دون أن نبخس الإصلاح الديني حقه ودوره، فتقدمه هو عامل مساعد أيضاً وممهد للتغيير السياسي، كما كان دور الإصلاح البروتستانتي والإنغليكاني في أميركا وإنجلترا، فإن النتيجة تقول إن النجاح في تصحيح العلاقة بين الديني والدنيوي لا يتحقق إلا بالاستناد إلى نظام يحضن موضوعياً طرائق المعرفة النسبية، ويبعث روحياً وسياسياً حقوق الإنسان وحرياته في الرأي والتعبير والاجتهاد، ويعرف الجميع أن أزهى فترات الإصلاح الديني في التاريخ العربي تمت في مناخات ليبرالية نسبياً وأن أجواء الحرية الفكرية والسياسية هي التي ضمنت تفتح النقد والإبداع وسمحت للمجتهدين بطرح أجرأ الاجتهادات والتفسيرات الدينية.

لا يمكن لعاقل أن يُنكر أهمية الإصلاح الديني وضرورته في مجتمعات أدمنت الجمود والتقليد وصارت في أمسّ الحاجة إلى نشر العقلانية في طرائق التفكير وتمكين الدين من تقديم إجابات واضحة عن أزمات الواقع وأسئلته الملحة، وفق منطق العصر واحتياجاته، لكن يعد جهداً ضعيفاً وناقصاً الاكتفاءُ بالدعوة إلى تجديد الفكر الديني وغضّ النظر عن تردي الشروط السياسية والاقتصادية، أو اعتبار معالجة الواقع المتخلف والنهوض به تتأتى فقط من انتقاد مسلكيات دينية مريضة، على أهمية ذلك وإلحاحه، أو من قرارات تهدف إلى تصحيح ما يحمله الناس من أفكار خاطئة ومغلوطة عن الدين، فهناك أيضاً ما يجب عمله لتحسين شروط حياتهم وضمان حاجاتهم المادية والروحية وخلق المناخ الحاضن لحرياتهم وحقوقهم وتالياً لتشجيعهم على تطوير أفكارهم وعاداتهم وأنماط حياتهم.

منذ قرن ونيف رأى جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وتلامذتهما من بعدهما، أن الإصلاح الديني ضرورة مصيرية للخروج من حالة الجمود واللحاق بركب التطور والحضارة. ومنذ قرن ونيف اقترح الكواكبي لمواجهة جهل العوام وشطط الفتاوى والاجتهادات «أن يؤلّف فقهاء الأمة كتاباً في العبادات يعتمده المسلمون، ويُذكر فيه الحد الأدنى للفرائض والواجبات، وكتاباً للسنن المستحبة، وكتاباً للسنن الإضافية، ثم كتاباً للمنهيات والمكفرات والكبائر ثم للصغائر والمكروهات، وتوضع كتب للمعاملات حسب أحكامها الاجتماعية أو الاجتهادية أو الاستحسانية كي يسهل على كل مؤمن معرفة ما هو مكلف به في دينه، وكي تظهر سماحة الدين الحنيف». وأيضاً منذ قرن ونيف، لا تزال تتواتر وللأسف، التساؤلات والإشكالات التي تخلّفها فوضى الاجتهادات الدينية والفقهية من دون أن تلقى إجابات جامعة، فكيف وأن تطور الحياة السياسية والاجتماعية في بلداننا وحتمية علاقتها بالعلوم والحضارة العالمية، باتا يطرحان تساؤلات وإشكالات جديدة أكثر حساسية وعمقاً وتعقيداً!

***

أكرم البني - كاتب سوري

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية في يوم: الجمعة - 23 شهر رمضان 1444 هـ - 14 أبريل 2023 مـ رقم العدد [16208]

 

في المثقف اليوم